مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د. رياض بن محمد المسيميري
مصائد الشيطان
الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا , ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ له.
وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }آل عمران102
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء1
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً , يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً }الأحزاب71
أما بعدُ:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابَ الله, وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمورِ مـُحدثاتُها, وكلَّ محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أما بعد , أيها المسلمون :
فمنذ أخذَ الشيطانُ على نفسهِ العهدَ والميثاق بإغواءِ العبادِ, وتضليلهم, وملايينُ البشرِ يتساقطون كالفراش في مَصْيَدَةِ ذلك اللعين, الذي لم يراع فيهم إلاَّ ولا ذمة, فلم يرحْم صغيراً, ولم يوقر كبيراً, ولم ييأس من تقيٍ, ولم يزهْد في عابد, ومن هنا كان الحزمُ والفطنةُ يقتضيان الحذرَ من كيدِ ذلك اللعين, والتنبهَ لخطو راتِه ووساوسه, امتثالاً لأمره سبحانه {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }فاطر6 . إلا انَّه مَّما قد يغيبُ عن أذهانِ الكثيرين, أنَّ من تمامِ كيدِ ذلكِ الخبيثِ, وحقدهِ أنَّ له مع الصالحين مداخلَ, ووسائلَ خفية, يصلُ من خلالِها إلى تحقيقِ مآربهِ في التضليلِ والإغواء, والتثبيطِ والإرجافِ, فمن مداخل الشيطان لإعاقةِ الصالحينَ عن العمل تخويفُهم من الرياء, فإذا رأى مشمراً إلى الدعوة راغباً في تزكيةِ بعضِ ما عنده من العلمِ والفقه, أسرعَ إليه مثبطاً من أنت أيها المسكين حتى تدعوَ الناسَ و تناصحَهم, أما تخشى على نفسِك من مغبةِ الرياء وسوءِ عاقبته, ألم تعلمْ بأنَّ الرياءَ يحبطُ العمل, ألم تعلمْ بأنَّ رسولَك الذي تدَّعي حبَّه، وتعترفُ بأنَّه يشفقُ عليك وعلى جميعِ الأمة, ألم تعلمْ بأنَّه قد جالسَ صحابتَه يوماً من الأيام, وخاطبَهم قائلاً : أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئلَ عنه فقال : الرياء, أفتكون أنت أيها المسكين أفضلَ من الصحابة وأورعَ منهم ! انتبهْ انتبهْ , إنِّي أحذرك ! إنِّي أحذرك! وهكذا يتلاعبُ الشيطانُ بذلك المسكين, حتى يفرَّ إلى بيتهِ, ويتخلَّى عن دعوته, ويحجمَ عن خوضِ المضمار تورعاً بزعمه، وما علم المسكين أنَّه قد وَقَعَ ضحيةً من ضحايا الشيطان وهو لا يدري, ولو تأملَ صاحبُنا وأعادَ النظر لوَجَدَ أنَّ مجرَّد تركِ العمل خشيةَ الرياء معدودٌ عند العلماءِ من الرياء, ولو تبصَّرَ وتأمَّل أكثر لعلم أنَّ المطلوبَ منه, بذلُ الوُسعِ والطاقةِ في حسنِ العمل والإخلاصِ فيه, وأن يتقيَ الله ما استطاع، مستعيناً به سبحانه من وسوسةِ الشيطانِ, وهوى النفسِ الأمَّارة , مردداً دعائَه عليه السلام : « اللهم إنِّي أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه وأستغفرك لما لا اعلمه .. » ومن مداخلِ الشيطان للإعاقةِ عن العمل , التذكيرُ بقلةِ العلم , وقصرِ الباعِ في التحصيل, من أنتَ أيها المغرور حتى تُقحمَ نفسَك في ميدانٍ اكبَر منك ؟! ما هي حصيلتُك من العلم ؟! وما نصيبُك من الفقه ؟! ألا تُكوِّنُ نفسَك أولاً ؟ ألا تُفقِّهُ نفسَك أولاً ؟! يا لله العجب !! ما أجرئكَ! وما أعجلكَ ! آهٍ من غُربةِ الإسلامِ في هذا الزمان ! فقد أصبحتْ أنتَ وأمثالُك معلمينَ وفقهاء, ما أصدقَ الشاعر، حيث عنَاكَ بقولهِ :
هلاَّ لنفسِك كان ذا التعليمُ
يا أيها الرجُل المعلمُ غيرَه
كيماَ يصحُ بهِ وأنتَ سقيمُ
تصفُ الدواءَ لذيِ السقامِ وذي الضنا
أبداً وأنتَ من الرشادِ عقيمُ
وأراكَ تُصلحُ بالرَشادِ عقولَنا
عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
لا تنهَ عن خُلُقٍ وتأتْي مثلَه
فإذا انتهتْ عنهُ فأنتَ حكيمُ
أبدأ بنفسِك فانهَهَا عن غيِها
وهكذا يتلاعبُ الشيطان بذلك المسكين, حتى يفتَر حماسُه, وتنهزمَ إرادتُه, ويعلنُ استسلاَمه لعدوهِ, وخسارتَه للمعركةِ في جولتِها الأولى, ولو تذكرَ صاحبُنا حديثَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم»: بلِّغوا عنِّي ولو آية «وأن ما لا يدركُ كُلُه لا يتركُ جُلُه لعَلمَ أنَّ إحجامَه, مكيدةٌ من مكائِد الشيطان, وللَعَلمَ أيضاً أنَّ الأمةَ بحاجةٍ إلى كلِّ الجهود الخيِّرة مهما صغُرت وضؤلت, فالفسادُ عريض, والجهلُ مطبق, ومن مداخلِ الشيطان في الإعاقةِ عن العملِ والدعوة, تخويفُه للإنسان, وتركهُ في دوامةٍ مُحيِّرة, من الوهمِ والتوجس, فَيُشعِرُ الإنسان أنَّ أنفاسَه محسوبة, وتحركاتِه مرصودة, ويوهمهُ أنَّ وراءه جيشاً من المتربصينَ به المتأهبينَ للانقضاض عليه, فيشكُ في كلِّ أحد, بل ربَّما شك في أقربِ أصدقائهِ إلى نفسه, وأعزِّ أقاربهِ إلى قلبِه, وإذا رأى ماراً أو عابرَ سبيل ظنَّ به سوءاً, وشك فيه بل ربما شكَّ في الهرةِ التي تمشي أمامَ بيته, فقد استحوذَ عليه الوهم, وملا قلبَه الرعبُ والخوفُ الشديد, وهكذا يفلحُ الشيطان في إعاقةِ ذلك المسكين, عن الدعوةِ إلى الله, ونصرةِ الدين الذي يدَّعي حماسَه له, ونصرتَه إياه.
ورحم اللهُ ابنَ القيمِ حيث يقول :
يا أيها الرجلُ المريـدُ نجاتَـه
اسمعْ مـقالةَ نـاصحٍ مِعْـوانِ
كنْ في أمورِك كلِّها متمسكاً
بالوحيِ لا بزخارفِ الهذيانِ
وانْصر كتابَ اللهِ والسننَ التي
جاءتْ عن المبعوثِ بالفُرقانِ
واضربْ بسيفِ الوحيِ كلَّ معطلٍ
ضربَ المجاهدِ فوقَ كلِّ بنان
واحملْ بغرمِ الصدقِ حملَة مُخلصٍ
متجردٍ للهِ غيرَ جبانِ
واثبتْ بصبركِ تحتَ ألويةِ الهُدى
فإذا أُصِبتَ ففي رضا الرحمنِ
واجْعل كتابَ اللهِ والسُنَنَ التي
ثَبَتَتْ سلاحَك ثُمَّ صِحْ بجنانِ
من ذا يبـارزُ فليقـدِّم نفسـَه
أو من يسابقُ يَبدُ في الميدانِ
واصدعْ بما قاَلَ الرسولُ ولا تخفْ
من قلةِ الأنصارِ والأعوانِ
فاللهُ ناصرُ دينَه وكتابَه
واللهُ كافٍ عبدَه بأمانِ
لا تخشى من كيدِ العدوِ ومكرِهم
فقتالُهم بالكذِب والبُهتانِ
فجنودُ اتباعِ الرسولِ ملائكٌ
وجنودُهم فعساكرُ الشيطانِ
لا تخشى كثرتَهم فهم همجُ الورى
وذبابُهُ أتخافُ من ذبان؟
أيها المسلمون
وقد يخفقُ الشيطان في صدِّ العبدِ عن الدعوةِ , وبذلِ الخيرِ للآخرين, فلا يضعُ الشيطانُ رايتَه, ولا يعلنُ خسارتَه, فيأتيَ خصمَه من مداخلَ أخرى . من أخطرِها: مدخلُ العُجْب, فيخيلُ للإنسان حينَ يخطبُ خطبةً, أو خطبتين, أو يحاضرُ مرةً أو مرتين, انَّه قد اصبحَ وحيدَ عصرِه, وفارسَ زمانِه, فَيُعجبُ بنفسهِ, ويغترِ بإنجازهِ الباهر, ومعجزتِه الخارقة, ويبدأُ في التعاليِ على أقرانِه, ويشتاقُ شوقاً عظيماً لثناءِ الناس ومدحهِم إياه , وينسى المسكين فضلَ اللهِ عليه, وأنَّ نجاحَه في دعوته نعمةٌ من الكريمِ الوهَّاب, وأنه لولا فضلُ اللهِ عليه ورحمتُه لكان نسياً منسياً, كما ينسى أن َّالعُجْبَ والاغترارَ بالعمل بوادرُ حَبوطِه وخسارتِه, ذلك هو الخسران المبين, ومن مداخل الشيطان الخطيرة كذلك, الحسد ذلك الداءُ الوبيل, والمرضُ العُضال الذي أصاب طائفةً من أدعياءِ الدعوة وللأسف الشديد, فحين يبرُز عالمٌ من العلماء, أو داعيةٌ من الدعاة, ويجعلُ اللهُ له القبولَ في الأرض, ويتجمهرُ الناسُ حولَه ويملئون مسجده, ويرخون السمعَ لواسعِ علمه, وبديعِ فوائده, فترقُ قلوبُهم, ويلتهبُ حماسُهم, وتسعُد نفوسُهم بهذا الخيرِ العريض, والفضلِ الكبير, ويقبلونَ على اللهِ بقلوبٍ خاشعة, وعيونٍ دامعة, ونفوسٍ تائبة, وضمائرَ مستيقضة, وتتحققُ مقاصدُ الدعوةِ وأهدافُها على يدِ ذلكَ الناصحِ الأمين, فيزداد الذي في قلبهِ مرض غيضاً وحنقاً, ويحسُد أخاه على ما آتاه اللهُ من فضلِه, وما أنعمَ به من عطائه, فيلتفتُ يمنةً ويسرة علَّه يجدُ من يستمعُ إليه, أو يكملُ حلقةً صغيرة في مجلسِ علمه, فلا يجدُ غيرَ طنينِ أذُنيه, فيتخايلُ له الشيطان, يوغرُ قلبَه على صاحبِه, ويُزينُ له شنَّ حملةٍ مستعرةٍ للنيلِ من عرضِ أخيه, وافتعالِ معاركَ كلامية, ومهاتراتٍ جدلية, ويبدأُ في نفثِ سمومهِ, وتوجيهِ طعناته في ظهرِ ذلك المُبتلى به وبأمثالهِ, وربَّما خاضَ في النوايا, وتصنيفِ الآخرين حَسْبَ مزاجهِ السقيم, وعقلهِ السخيف, فذاك مغرض, وهذا صاحبُ هوى, وزيدٌ يريدُ المنصب, وعمروٌ يهوى الرئاسة, وعبيدٌ يعشقُ التصدر, ويبدأ الحسود باتهامِ المنهجِ والطريقة, والتعريضِ بسلامةِ العقيدةِ وصحةِ الديانة, وبدأ يتلمسُ العثرات, ويتتبعُ الأخطاء, فتسمعُ عباراتٍ هي السمُ الزعاف, لا تغترَ بفلان إنَّه ضعيفٌ في علمِ الحديث فإذا أَبدَعَ في الحديثِ ومصطلحِة, فتَّشن عن حصيلتهِ في الفقهِ وأصولِه, فإذا أُلقمَ حجراً, يَمَّم وجههَ شطرَ التفسيرِ وكتبه, وربَّما عابه لأنَّه لم يقرأْ خزعبلاتِ الجوهريِ, أو حتى خرافةَ الطبرسيِ الرافضي, فإذا وَجَدَ صاحبه قد قرأَ في كلِ فنٍ أصولَه, واستوعبَ من كلِ علمٍ مسائلَه, أَخَذَ يرددُ بصوتٍ خافتٍ مخنوق, العبرةُ بالعمل, العبرة بالعمل, لا اله إلا الله, كم يتلاعبُ الشيطان بنا ونحن نحسبُ أنَّنا نحسنُ صنعاً, لو تعقل أولئك وأخلصوا قلوبَهم للهِ , لأدركوا أنَّ الهدفَ الأساسيَ من دعوةِ الناس هو هدايتُهم وتبصيرُهم, وتخليصُهم من الحيرةِ التي يعانونها, والغفلةِ التي يقاسُونها, وأنَّ الغَرَضَ المهم هو نجاحُ الدعوة, واستيقاظُ الأمة, وأنَّ هذا هو الغايةُ والأمل, أمَّا على يدِ منْ يحققُ ذلك النجاح, ومن هو الذي يستقطبُ قلوبَ الناس, ومن يحظى بثنائهِم وإعجابهِم, فتلك أغراضٌ لا ينبغي أن تكونَ ذاتَ بالٍ في حسَّ الداعيةِ وشعورِه, ولا ينبغي أن تكونَ لها قيمةٌ تذكرْ لَّدى الخُلصَّ من الدعاة. ألا قد آن الأوان لمن كانَ يرجو الله واليوم الآخر أن يتقيَ الله في إخوانِه, ويلقي بالحسد بعيداً بعيداً, ويخشى عاقبة يومٍ تتقلبُ فيه القلوبُ والأبصار, فيكشفُ ما في القلوب, ويُعرِّي ما في النفوس, وتتضحُ الأشياءُ على حقيقتها, وتظهرُ الصور كما هي بلا مخادعةٍ ولا ممارية. بارك الله لي ولكم .
الخطبة الثانية
الحمد لله يعطي, ويمنع ويخفض ويرفع, ويضر وينفع , ألا إلى الله تصير الأمور.
أما بعدُ:
أيها المسلمون : فيقولُ اللهُ تعالى في كتابه الكريم : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ }النور21 في هذه الآيةِ المباركةِ من كتابِ الله , يُحذرُ الرؤوفَ الرحيمُ سبحانه من اتباعِ خطواتِ الشيطان, والاستجابةِ لوساوسهِ وشُبهِه. ألاَ إنَّ للشيطانِ مع ابنِ آدم ستةَ مصا ئد : يحمل جاهداً إيقاعَه فيها
المصيدةُ الأولى : مصيدةُ الكفرِ والشرك: فلشدةِ عدواتِه, وعظيمِ كيدهِ وحسدهِ, فإنَّ الشيطانَ يطمعُ كثيراً في توريطِ ابن آدم في الشركِ أو الكفر, إذ أنَّ المتورطَ فيه قد يئسَ من رحمةِ الله, واستحق الخلودَ في نارِ جهنم أبد الآبدين, وقد أفلَحَ الشيطان في سوقِ السوادِ الأعظمِ من الناسِ, إلى هوةِ الشرك وظلمة الجاهلية, ولم يكْتف بالتلاعبِ باليهودِ والنصارى, وعبدةِ البقرِ, وسدنةِ الوثنية, بل امتدتْ أياديه, وشملَ بكيدِه حتى بعضَ المتسمينَ بأسماءِ الآباءِ والأجداد, والمنتسبينَ للإسلام, ومن شهادة الميلاد, فقادهم إلى العلمنةِ والفجور, والكفرِ والنفاق, وزيَّن لهم التنكرَ لدينهم, والاستخفافَ بعقائدهِم, واصبحوا دمى بين يديه يحركُها كيف يشاء.
وأما المصيدة الثانية من مصائد الشيطان : فهي مصيدة البدعة : والتي من خلالها أفسد على العُبَّاد عباداتهِم, وأوقَع ضحاياه في سلسلةٍ طويلةٍ من المحدثات لا تقفُ عند حدٍ, ولا تنتهي عند أمد, فبدعٌ في الطهارة, وبدعٌ في الصلاة, وبدعٌ في المساجد, وبدعٌ في الحج, وبدع, وبدع, وبدع, يُحسنَّ لهم الشيطانُ أعمالَهم, ويُجملُ لهم أذواقَهم, وينشطُ لهم أفكارَهم, لابتكارِ الجديد, وتطويرِ التليد, وقسَّموا البدع بمرضِ عقولهِم, وهوى نفوسهِم إلى بدعةٍ حسنة, وأخرى سيئة, وهذه مُناسبة, وتلك مُلائمة, فعياذاً بك اللهم من الحورِ بعد الكور, ومن الضلالةِ بعد الهداية.
وأمَّا المصيدة الثالثة من مصائدِ الشيطان : فهي مصيدة كبائرِ الذنوب, وعظائمِ الموبقات, ولا تسلْ عن عددِ الضحايا, فيكفي أن تتذكرَ كم طفحتْ به بلادُ المسلمين فضلاً عن غيرِها من بنوكِ الربا, وحاناتِ الخمور, وشواطئِ العُرِي, ومراتعِ الفجور, وبؤرِ الفساد.
وأمَّا المصيدةُ الرابعة : فهي مصيدةُ الصغائر, ولا صغيرةَ مع إصرار, و أما الضحايا فيعجزُ عنهم الوصف, وينقطعُ دونَهمُ الخيال, وقد أفلَح عدوُ الله في تهوينِ الذنوبِ لدى الناس, وتحقيرِ شأنِها في نفوسهِم, حتى أدرَجوا كبائرَ الذنوبِ بمحضِ أهوائهم ضمنَ قائمةِ الصغائر, فقسَّموا الكذب إلى أبيضَ وأصفر, وأسودَ وأحمر, واعتبروا السخريةَ بالآخرينَ, والتنَدر بأحوالهم نكتاً وطرائف.
وأما المصيدةُ الخامسة من مصائدِ الشيطان: فهي انشغالُ العبدِ بالمباحات التي لا هي له, ولا هي عليه, وذلك لإضاعةِ وقته, وتبديدِ ساعاتهِ, حرماناً له من نيلِ الأجور, وتحصيلِ الثواب.
وأما المصيدةُ الأخيرة من مصائد الشيطان : فهي انشغالُ الصالحين المقبلينَ على الخير بفضائلِ الأعمال دون أفاضلِها, فإذا احبَّ العبدُ أن يركعَ ركعتين, اشغله عدوُ اللهِ بملازمةِ التسبيحِ والتكبير, وإذا رآه مقبلاً على طلبِ العلم زيَّن لـه الانقطاَع للعبادة, ليقلِّل حسناتِه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً, عائذاً بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }النور21
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا
مصائد الشيطان
الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا , ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ له.
وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }آل عمران102
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء1
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً , يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً }الأحزاب71
أما بعدُ:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابَ الله, وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمورِ مـُحدثاتُها, وكلَّ محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أما بعد , أيها المسلمون :
فمنذ أخذَ الشيطانُ على نفسهِ العهدَ والميثاق بإغواءِ العبادِ, وتضليلهم, وملايينُ البشرِ يتساقطون كالفراش في مَصْيَدَةِ ذلك اللعين, الذي لم يراع فيهم إلاَّ ولا ذمة, فلم يرحْم صغيراً, ولم يوقر كبيراً, ولم ييأس من تقيٍ, ولم يزهْد في عابد, ومن هنا كان الحزمُ والفطنةُ يقتضيان الحذرَ من كيدِ ذلك اللعين, والتنبهَ لخطو راتِه ووساوسه, امتثالاً لأمره سبحانه {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }فاطر6 . إلا انَّه مَّما قد يغيبُ عن أذهانِ الكثيرين, أنَّ من تمامِ كيدِ ذلكِ الخبيثِ, وحقدهِ أنَّ له مع الصالحين مداخلَ, ووسائلَ خفية, يصلُ من خلالِها إلى تحقيقِ مآربهِ في التضليلِ والإغواء, والتثبيطِ والإرجافِ, فمن مداخل الشيطان لإعاقةِ الصالحينَ عن العمل تخويفُهم من الرياء, فإذا رأى مشمراً إلى الدعوة راغباً في تزكيةِ بعضِ ما عنده من العلمِ والفقه, أسرعَ إليه مثبطاً من أنت أيها المسكين حتى تدعوَ الناسَ و تناصحَهم, أما تخشى على نفسِك من مغبةِ الرياء وسوءِ عاقبته, ألم تعلمْ بأنَّ الرياءَ يحبطُ العمل, ألم تعلمْ بأنَّ رسولَك الذي تدَّعي حبَّه، وتعترفُ بأنَّه يشفقُ عليك وعلى جميعِ الأمة, ألم تعلمْ بأنَّه قد جالسَ صحابتَه يوماً من الأيام, وخاطبَهم قائلاً : أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئلَ عنه فقال : الرياء, أفتكون أنت أيها المسكين أفضلَ من الصحابة وأورعَ منهم ! انتبهْ انتبهْ , إنِّي أحذرك ! إنِّي أحذرك! وهكذا يتلاعبُ الشيطانُ بذلك المسكين, حتى يفرَّ إلى بيتهِ, ويتخلَّى عن دعوته, ويحجمَ عن خوضِ المضمار تورعاً بزعمه، وما علم المسكين أنَّه قد وَقَعَ ضحيةً من ضحايا الشيطان وهو لا يدري, ولو تأملَ صاحبُنا وأعادَ النظر لوَجَدَ أنَّ مجرَّد تركِ العمل خشيةَ الرياء معدودٌ عند العلماءِ من الرياء, ولو تبصَّرَ وتأمَّل أكثر لعلم أنَّ المطلوبَ منه, بذلُ الوُسعِ والطاقةِ في حسنِ العمل والإخلاصِ فيه, وأن يتقيَ الله ما استطاع، مستعيناً به سبحانه من وسوسةِ الشيطانِ, وهوى النفسِ الأمَّارة , مردداً دعائَه عليه السلام : « اللهم إنِّي أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه وأستغفرك لما لا اعلمه .. » ومن مداخلِ الشيطان للإعاقةِ عن العمل , التذكيرُ بقلةِ العلم , وقصرِ الباعِ في التحصيل, من أنتَ أيها المغرور حتى تُقحمَ نفسَك في ميدانٍ اكبَر منك ؟! ما هي حصيلتُك من العلم ؟! وما نصيبُك من الفقه ؟! ألا تُكوِّنُ نفسَك أولاً ؟ ألا تُفقِّهُ نفسَك أولاً ؟! يا لله العجب !! ما أجرئكَ! وما أعجلكَ ! آهٍ من غُربةِ الإسلامِ في هذا الزمان ! فقد أصبحتْ أنتَ وأمثالُك معلمينَ وفقهاء, ما أصدقَ الشاعر، حيث عنَاكَ بقولهِ :
هلاَّ لنفسِك كان ذا التعليمُ
يا أيها الرجُل المعلمُ غيرَه
كيماَ يصحُ بهِ وأنتَ سقيمُ
تصفُ الدواءَ لذيِ السقامِ وذي الضنا
أبداً وأنتَ من الرشادِ عقيمُ
وأراكَ تُصلحُ بالرَشادِ عقولَنا
عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
لا تنهَ عن خُلُقٍ وتأتْي مثلَه
فإذا انتهتْ عنهُ فأنتَ حكيمُ
أبدأ بنفسِك فانهَهَا عن غيِها
وهكذا يتلاعبُ الشيطان بذلك المسكين, حتى يفتَر حماسُه, وتنهزمَ إرادتُه, ويعلنُ استسلاَمه لعدوهِ, وخسارتَه للمعركةِ في جولتِها الأولى, ولو تذكرَ صاحبُنا حديثَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم»: بلِّغوا عنِّي ولو آية «وأن ما لا يدركُ كُلُه لا يتركُ جُلُه لعَلمَ أنَّ إحجامَه, مكيدةٌ من مكائِد الشيطان, وللَعَلمَ أيضاً أنَّ الأمةَ بحاجةٍ إلى كلِّ الجهود الخيِّرة مهما صغُرت وضؤلت, فالفسادُ عريض, والجهلُ مطبق, ومن مداخلِ الشيطان في الإعاقةِ عن العملِ والدعوة, تخويفُه للإنسان, وتركهُ في دوامةٍ مُحيِّرة, من الوهمِ والتوجس, فَيُشعِرُ الإنسان أنَّ أنفاسَه محسوبة, وتحركاتِه مرصودة, ويوهمهُ أنَّ وراءه جيشاً من المتربصينَ به المتأهبينَ للانقضاض عليه, فيشكُ في كلِّ أحد, بل ربَّما شك في أقربِ أصدقائهِ إلى نفسه, وأعزِّ أقاربهِ إلى قلبِه, وإذا رأى ماراً أو عابرَ سبيل ظنَّ به سوءاً, وشك فيه بل ربما شكَّ في الهرةِ التي تمشي أمامَ بيته, فقد استحوذَ عليه الوهم, وملا قلبَه الرعبُ والخوفُ الشديد, وهكذا يفلحُ الشيطان في إعاقةِ ذلك المسكين, عن الدعوةِ إلى الله, ونصرةِ الدين الذي يدَّعي حماسَه له, ونصرتَه إياه.
ورحم اللهُ ابنَ القيمِ حيث يقول :
يا أيها الرجلُ المريـدُ نجاتَـه
اسمعْ مـقالةَ نـاصحٍ مِعْـوانِ
كنْ في أمورِك كلِّها متمسكاً
بالوحيِ لا بزخارفِ الهذيانِ
وانْصر كتابَ اللهِ والسننَ التي
جاءتْ عن المبعوثِ بالفُرقانِ
واضربْ بسيفِ الوحيِ كلَّ معطلٍ
ضربَ المجاهدِ فوقَ كلِّ بنان
واحملْ بغرمِ الصدقِ حملَة مُخلصٍ
متجردٍ للهِ غيرَ جبانِ
واثبتْ بصبركِ تحتَ ألويةِ الهُدى
فإذا أُصِبتَ ففي رضا الرحمنِ
واجْعل كتابَ اللهِ والسُنَنَ التي
ثَبَتَتْ سلاحَك ثُمَّ صِحْ بجنانِ
من ذا يبـارزُ فليقـدِّم نفسـَه
أو من يسابقُ يَبدُ في الميدانِ
واصدعْ بما قاَلَ الرسولُ ولا تخفْ
من قلةِ الأنصارِ والأعوانِ
فاللهُ ناصرُ دينَه وكتابَه
واللهُ كافٍ عبدَه بأمانِ
لا تخشى من كيدِ العدوِ ومكرِهم
فقتالُهم بالكذِب والبُهتانِ
فجنودُ اتباعِ الرسولِ ملائكٌ
وجنودُهم فعساكرُ الشيطانِ
لا تخشى كثرتَهم فهم همجُ الورى
وذبابُهُ أتخافُ من ذبان؟
أيها المسلمون
وقد يخفقُ الشيطان في صدِّ العبدِ عن الدعوةِ , وبذلِ الخيرِ للآخرين, فلا يضعُ الشيطانُ رايتَه, ولا يعلنُ خسارتَه, فيأتيَ خصمَه من مداخلَ أخرى . من أخطرِها: مدخلُ العُجْب, فيخيلُ للإنسان حينَ يخطبُ خطبةً, أو خطبتين, أو يحاضرُ مرةً أو مرتين, انَّه قد اصبحَ وحيدَ عصرِه, وفارسَ زمانِه, فَيُعجبُ بنفسهِ, ويغترِ بإنجازهِ الباهر, ومعجزتِه الخارقة, ويبدأُ في التعاليِ على أقرانِه, ويشتاقُ شوقاً عظيماً لثناءِ الناس ومدحهِم إياه , وينسى المسكين فضلَ اللهِ عليه, وأنَّ نجاحَه في دعوته نعمةٌ من الكريمِ الوهَّاب, وأنه لولا فضلُ اللهِ عليه ورحمتُه لكان نسياً منسياً, كما ينسى أن َّالعُجْبَ والاغترارَ بالعمل بوادرُ حَبوطِه وخسارتِه, ذلك هو الخسران المبين, ومن مداخل الشيطان الخطيرة كذلك, الحسد ذلك الداءُ الوبيل, والمرضُ العُضال الذي أصاب طائفةً من أدعياءِ الدعوة وللأسف الشديد, فحين يبرُز عالمٌ من العلماء, أو داعيةٌ من الدعاة, ويجعلُ اللهُ له القبولَ في الأرض, ويتجمهرُ الناسُ حولَه ويملئون مسجده, ويرخون السمعَ لواسعِ علمه, وبديعِ فوائده, فترقُ قلوبُهم, ويلتهبُ حماسُهم, وتسعُد نفوسُهم بهذا الخيرِ العريض, والفضلِ الكبير, ويقبلونَ على اللهِ بقلوبٍ خاشعة, وعيونٍ دامعة, ونفوسٍ تائبة, وضمائرَ مستيقضة, وتتحققُ مقاصدُ الدعوةِ وأهدافُها على يدِ ذلكَ الناصحِ الأمين, فيزداد الذي في قلبهِ مرض غيضاً وحنقاً, ويحسُد أخاه على ما آتاه اللهُ من فضلِه, وما أنعمَ به من عطائه, فيلتفتُ يمنةً ويسرة علَّه يجدُ من يستمعُ إليه, أو يكملُ حلقةً صغيرة في مجلسِ علمه, فلا يجدُ غيرَ طنينِ أذُنيه, فيتخايلُ له الشيطان, يوغرُ قلبَه على صاحبِه, ويُزينُ له شنَّ حملةٍ مستعرةٍ للنيلِ من عرضِ أخيه, وافتعالِ معاركَ كلامية, ومهاتراتٍ جدلية, ويبدأُ في نفثِ سمومهِ, وتوجيهِ طعناته في ظهرِ ذلك المُبتلى به وبأمثالهِ, وربَّما خاضَ في النوايا, وتصنيفِ الآخرين حَسْبَ مزاجهِ السقيم, وعقلهِ السخيف, فذاك مغرض, وهذا صاحبُ هوى, وزيدٌ يريدُ المنصب, وعمروٌ يهوى الرئاسة, وعبيدٌ يعشقُ التصدر, ويبدأ الحسود باتهامِ المنهجِ والطريقة, والتعريضِ بسلامةِ العقيدةِ وصحةِ الديانة, وبدأ يتلمسُ العثرات, ويتتبعُ الأخطاء, فتسمعُ عباراتٍ هي السمُ الزعاف, لا تغترَ بفلان إنَّه ضعيفٌ في علمِ الحديث فإذا أَبدَعَ في الحديثِ ومصطلحِة, فتَّشن عن حصيلتهِ في الفقهِ وأصولِه, فإذا أُلقمَ حجراً, يَمَّم وجههَ شطرَ التفسيرِ وكتبه, وربَّما عابه لأنَّه لم يقرأْ خزعبلاتِ الجوهريِ, أو حتى خرافةَ الطبرسيِ الرافضي, فإذا وَجَدَ صاحبه قد قرأَ في كلِ فنٍ أصولَه, واستوعبَ من كلِ علمٍ مسائلَه, أَخَذَ يرددُ بصوتٍ خافتٍ مخنوق, العبرةُ بالعمل, العبرة بالعمل, لا اله إلا الله, كم يتلاعبُ الشيطان بنا ونحن نحسبُ أنَّنا نحسنُ صنعاً, لو تعقل أولئك وأخلصوا قلوبَهم للهِ , لأدركوا أنَّ الهدفَ الأساسيَ من دعوةِ الناس هو هدايتُهم وتبصيرُهم, وتخليصُهم من الحيرةِ التي يعانونها, والغفلةِ التي يقاسُونها, وأنَّ الغَرَضَ المهم هو نجاحُ الدعوة, واستيقاظُ الأمة, وأنَّ هذا هو الغايةُ والأمل, أمَّا على يدِ منْ يحققُ ذلك النجاح, ومن هو الذي يستقطبُ قلوبَ الناس, ومن يحظى بثنائهِم وإعجابهِم, فتلك أغراضٌ لا ينبغي أن تكونَ ذاتَ بالٍ في حسَّ الداعيةِ وشعورِه, ولا ينبغي أن تكونَ لها قيمةٌ تذكرْ لَّدى الخُلصَّ من الدعاة. ألا قد آن الأوان لمن كانَ يرجو الله واليوم الآخر أن يتقيَ الله في إخوانِه, ويلقي بالحسد بعيداً بعيداً, ويخشى عاقبة يومٍ تتقلبُ فيه القلوبُ والأبصار, فيكشفُ ما في القلوب, ويُعرِّي ما في النفوس, وتتضحُ الأشياءُ على حقيقتها, وتظهرُ الصور كما هي بلا مخادعةٍ ولا ممارية. بارك الله لي ولكم .
الخطبة الثانية
الحمد لله يعطي, ويمنع ويخفض ويرفع, ويضر وينفع , ألا إلى الله تصير الأمور.
أما بعدُ:
أيها المسلمون : فيقولُ اللهُ تعالى في كتابه الكريم : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ }النور21 في هذه الآيةِ المباركةِ من كتابِ الله , يُحذرُ الرؤوفَ الرحيمُ سبحانه من اتباعِ خطواتِ الشيطان, والاستجابةِ لوساوسهِ وشُبهِه. ألاَ إنَّ للشيطانِ مع ابنِ آدم ستةَ مصا ئد : يحمل جاهداً إيقاعَه فيها
المصيدةُ الأولى : مصيدةُ الكفرِ والشرك: فلشدةِ عدواتِه, وعظيمِ كيدهِ وحسدهِ, فإنَّ الشيطانَ يطمعُ كثيراً في توريطِ ابن آدم في الشركِ أو الكفر, إذ أنَّ المتورطَ فيه قد يئسَ من رحمةِ الله, واستحق الخلودَ في نارِ جهنم أبد الآبدين, وقد أفلَحَ الشيطان في سوقِ السوادِ الأعظمِ من الناسِ, إلى هوةِ الشرك وظلمة الجاهلية, ولم يكْتف بالتلاعبِ باليهودِ والنصارى, وعبدةِ البقرِ, وسدنةِ الوثنية, بل امتدتْ أياديه, وشملَ بكيدِه حتى بعضَ المتسمينَ بأسماءِ الآباءِ والأجداد, والمنتسبينَ للإسلام, ومن شهادة الميلاد, فقادهم إلى العلمنةِ والفجور, والكفرِ والنفاق, وزيَّن لهم التنكرَ لدينهم, والاستخفافَ بعقائدهِم, واصبحوا دمى بين يديه يحركُها كيف يشاء.
وأما المصيدة الثانية من مصائد الشيطان : فهي مصيدة البدعة : والتي من خلالها أفسد على العُبَّاد عباداتهِم, وأوقَع ضحاياه في سلسلةٍ طويلةٍ من المحدثات لا تقفُ عند حدٍ, ولا تنتهي عند أمد, فبدعٌ في الطهارة, وبدعٌ في الصلاة, وبدعٌ في المساجد, وبدعٌ في الحج, وبدع, وبدع, وبدع, يُحسنَّ لهم الشيطانُ أعمالَهم, ويُجملُ لهم أذواقَهم, وينشطُ لهم أفكارَهم, لابتكارِ الجديد, وتطويرِ التليد, وقسَّموا البدع بمرضِ عقولهِم, وهوى نفوسهِم إلى بدعةٍ حسنة, وأخرى سيئة, وهذه مُناسبة, وتلك مُلائمة, فعياذاً بك اللهم من الحورِ بعد الكور, ومن الضلالةِ بعد الهداية.
وأمَّا المصيدة الثالثة من مصائدِ الشيطان : فهي مصيدة كبائرِ الذنوب, وعظائمِ الموبقات, ولا تسلْ عن عددِ الضحايا, فيكفي أن تتذكرَ كم طفحتْ به بلادُ المسلمين فضلاً عن غيرِها من بنوكِ الربا, وحاناتِ الخمور, وشواطئِ العُرِي, ومراتعِ الفجور, وبؤرِ الفساد.
وأمَّا المصيدةُ الرابعة : فهي مصيدةُ الصغائر, ولا صغيرةَ مع إصرار, و أما الضحايا فيعجزُ عنهم الوصف, وينقطعُ دونَهمُ الخيال, وقد أفلَح عدوُ الله في تهوينِ الذنوبِ لدى الناس, وتحقيرِ شأنِها في نفوسهِم, حتى أدرَجوا كبائرَ الذنوبِ بمحضِ أهوائهم ضمنَ قائمةِ الصغائر, فقسَّموا الكذب إلى أبيضَ وأصفر, وأسودَ وأحمر, واعتبروا السخريةَ بالآخرينَ, والتنَدر بأحوالهم نكتاً وطرائف.
وأما المصيدةُ الخامسة من مصائدِ الشيطان: فهي انشغالُ العبدِ بالمباحات التي لا هي له, ولا هي عليه, وذلك لإضاعةِ وقته, وتبديدِ ساعاتهِ, حرماناً له من نيلِ الأجور, وتحصيلِ الثواب.
وأما المصيدةُ الأخيرة من مصائد الشيطان : فهي انشغالُ الصالحين المقبلينَ على الخير بفضائلِ الأعمال دون أفاضلِها, فإذا احبَّ العبدُ أن يركعَ ركعتين, اشغله عدوُ اللهِ بملازمةِ التسبيحِ والتكبير, وإذا رآه مقبلاً على طلبِ العلم زيَّن لـه الانقطاَع للعبادة, ليقلِّل حسناتِه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً, عائذاً بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }النور21
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى