مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ /صالح بن عبد الرحمن الخضيري
تأملات في سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي شرع القدوة بالمهتدين، وجعل في هذه الأمة جموعاً من الأخيار والصالحين، والزهاد والمتعبدين، من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب العالمين، وإله الأولين والآخرين.
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، إمام المتقين وخاتم النبيين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن سلك سبيلهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين،
أما بعد:
أيها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها الفلاح والفوز والنجاة والعز.
ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبدٍ تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجمٌ
أيها الإخوة في الله:
تأريخنا الإسلامي تأريخٌ عظيم، حافلٌ بأخبار المصلحين العظماء، والشجعان النبلاء، والأخيار الفضلاء، والهداة العاملين، الذين غيّروا مجرى التأريخ بأفعالهم وجهادهم، وزهدهم وصلاحهم، فنعم السلف هم: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).
هم الذين صاغوا تاريخ الأمة المسلمة، فصارت تفاخر أمم الأرض بأمجادها وعدلها وفتوحاتها وفضلها.
وانظر - رعاك الله - إلى الأمجاد والمفاخر، والعدل والزهد والوفاء والصدق، والجهاد الحق، منذ سطعت شمس الرسالة، وبُعث الصادق الأمين خاتم النبيين صلى الله عليه وسلّم، ومروراً بصحابته الغر الميامين، إلى التابعين الأكرمين إلى تابعيهم بإحسان. فإنك ستقف على نماذج رائعة وصور حية للالتزام الحقيقي بهذا الدين والعمل له ضمن حياة طيبة، بعيدة عن مظاهر الترف وزخرف الحياة، فكان لهذا المنهج الذي سلكه أولئك العظماء أثره الواضح على صلاح الناس من حولهم، إذ الناس تبعٌ لعظمائهم.
ومن هنا كان النظر في سير الصالحين والاطلاع على أخبارهم مما يزكي النفس، ويوقظ الضمير، ويحفز الهمم، ويبعث على النهوض بمعالي الأمور، لذا آثرت أن يكون حديثي في هذه الجمعة عن إمام من أئمة الهدى رجلٌ جُمُع في أُمّةٍ:
والناس ألفٌ منهم كواحد وواحدٌ كالألف إن أمرٌ عنى
إنّه إمام الهدى الزاهد، والخليفة الراشد: عمر بن عبد العزيز بن مروان القرشي الأموي.
قال عنه إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله: "إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز، ويذكرُ محاسنه وينشرها، فاعلم أن من وراء ذلك خيراً إن شاء الله".
وقال الحافظ ابن حجر في كتابه [فتح الباري شرح صحيح البخاري] عند شرح قوله صلى الله عليه وسلّم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنةٍ من يجدّد لها دينها". قال: "لا يلزم أن جميع خصال الخير كُلِّها في شخص واحد، إلا أن يُدّعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها، ومن ثَمَّ أطلق الإمام أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه". أ. هـ
لقد أطنب العلماء والمؤرخون في الثناء على عمر بن عبد العزيز وذكر محاسنه، فوصفه الحافظ الذهبي، فكان مما قال عنه: "كان ثقةً مأموناً، له فقه وعلم وورع، وروى حديثاً كثيراً، وكان إمام عدل، رحمه الله ورضي عنه". [سير أعلام النبلاء 5/ 114].
كان الخوف من الله مقارناً له في صغره، فقد حفظ وهو غلام صغير، وفي يوم من الأيام بكى فسألته أمه عن سبب بكائه فقال: "ذكرت الموت فبكيت".
كان صادق اللهجة يقول: "ما كذبتُ منذ علمتُ أن الكذب يَضُرُّ أهله".
وقد – رحمه الله - طلب العلم والفقه في الدين حتى صار إماماً، ثم وُلّي إمارة المدينة وهو في ذلك الوقت شابٌ غليظ ممتلئ الجسم، يلبس أحسن الثياب، ويتطيب بأطيب الطيب.
فلما وُلّي الخلافة نحل جسمه وتغيرت حاله، رآه بعضهم يطوف بالكعبة [قبل الخلافة] وإنّ حُجْزة إزاره لغائبة في ثنايا بطنه من السمن. يقول: "ثم رأيته بعد ما استخلف ولو شئت أن أعد أضلاعه من غير أن أمسّها لفعلت". [الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز 1/367].
وذات مرة دخل عليه محمد بن كعب القرظي بعد ما تولى الخلافة يقول: "فجعلت أنظر إليه نظراً لا أكاد أصرف بصري عنه، فقال: ما لك يا ابن كعب؟! فقلت: أعجب من تغير جسمك وتبدّل حالك. فقال: فكيف لو رأيتني يا ابن كعب في قبري بعد ثلاث ليال، حين تقع حدقة عيني على وجنتي، ويسيل منخري وفمي صديداً ودوداً، كنت لي أَشد إنكاراً".
إنه استشعار المسؤولية التي أسندت إليه - رحمة الله عليه - لقد زان الخلافة وما زانته، بل لقد وُلّي وهو للخلافة كاره، فسار بالناس بسيرة جده لأمه الفاروق عمر رضي الله عنه.
ولما دُفِنَ الخليفةُ السابق [سليمان بن عبد الملك] قُرّبت مراكبُ الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال: ما لي ولها، نحّوها عنّي، وقربوا إلي دابتي، فركب دابته، وسار، وسار معه الناس حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس فقال: "أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلفتُ ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك، فلما رأى ذلك: حمد الله وأثنى عليه، وصلىّ على النبي صلى الله عليه وسلّم وقال: أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خلفٌ من كل شيء وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا لأخرتكم، فإنه من عمل لأخرته كفاه الله أمر دنياه، واصلحوا سرائركم يصلح الله علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنّه هادم اللذات، وإن عبداً ليس بينه وبين آدم أبٌ إلا قد مات لمعرقٌ له في الموت.
ألا وإني لستُ بخير من أحدٍ منكم ولكني أثقلكم حملاً". [ سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي 65-66 ]
ثم شرع يردّ المظالم التي كانت قبل ولايته، فبدأ بأقاربه من بني أميه، فأخذ ما استولوا عليه ظلماً، وما أخذوه بغير حق، ففزعوا من هذا التصرّف وأرسلوا إليه أعيان الناس، فلم يفدهم ذلك شيئاً.
قال وهيب بن الورد: "اجتمع بنو مروان على باب عمر بن عبد العزيز، وجاء ابنه ليدخل عليه، فقالوا له: إما أن تستأذن لنا وإما أن تبلِّغ أمير المؤمنين ما جئنا من أجله، فقال لهم قولوا. فقالوا: إن من كان قبله من الخلفاء يعطوننا ويعرفون لنا موضعاً، وإن أباك قد حرمنا ما في يديه. فدخل على أبيه عمر فأخبره بقولهم، فقال له عمر: قل لهم إنَّ أبي يقول لكم: (إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)".
ولقد كان لأقاربه الحظ الأوفر من الوعظ والنصح والتذكير، ولنستمع إلى رسالة بعث بها عمر رحمه الله إلى بعض أهل بيته يقول:
"أما بعد، فإنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك ونهارك بَغَّضَ إليك كل فانٍ، وحَبّب إليك كل باقٍ، والسلام".
لقد غلب على قلب عمر بن عبد العزيز الخوف من الله، فكان إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله، وكان يجمع كُلَّ ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ويبكون.
حدّثت زوجته فاطمة بنت عبد الملك فقالت: "قد يكون من الرجال من هو أكثر صلاة وصياماً منه، ولكني لم أر رجلاً من الناس كان أشد خوفاً من ربه من عمر، كان إذا صلّى العشاء دخل بيته فقد يكون معي في الفراش فيخطر على قلبه الشيء من أمر الله فينتفض كما ينتفض العصفور قد وقع في الماء ثم ينشج ثم يرتفع بكاؤه حتى أقول: لتخرجن روحه التي بين جنبيه وتدركني الرحمة له فأطرح اللحاف عني وعنه وأنا أقول: ما رأيت سروراً منذ كنا في هذه الخلافة يا ليت بيننا وبينها بعد المشرقين. فكان يقول: اللهم إن كنت تعلم أني أخاف يوماً دون يوم القيامة فلا تؤمن خوفي".
فيا أيها المسلمون:
ما ذا نقول عن أحوالنا اليوم، فالله المستعان على تفريطنا وعصياننا.
إنّ أسلافنا جمعوا بين الخوف وحسن العمل ونحن جمعنا بين التفريط والأمن، لقد فارق الخوف من الله قلوباً ففسدت، وما فارق الخوف من الله قلباً إلا خرب.
فبعضنا استحل المال الحرام من الربا والرشوة وشهادة الزور، وأضاع جمعٌ من الناس الصلاة واتبعوا الشهوات، وصارت حياتهم للأفلام والقنوات، والرياضة والمجلات، ولم يستجب كثيرٌ منهم للناصحين، واستحكمت غربة الدين واتُخذ القرآن مهجوراً. ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
أيها المسلمون:
لقد ربّى عمر بن عبد العزيز أهل بيته على التقوى والخوف من الله وقرب الدمعة من خشية الله سبحانه. قرأ عنده رجل قول الله عز وجل عن النار: (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً{12} وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) فبكى عمر حتى غلبه البكاء، وعلا نشيجه، فقام من مجلسه، فدخل بيته وتفرّق الناس.
وذات يوم كان جالساً في البيت فبكى، فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلّت عنهم العبرة قالت فاطمة: "بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟! قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير".
أيها المسلمون:
إننا إذا استشعرنا هذه المواقف كما استشعارها هذا الرجل الصالح لاستقامت أحوالنا، ولتعدّل سلوكنا، ولقمنا بما أوجب الله علينا، ولأدّينا الأمانة كما حملناها.
تقول فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر بن عبد العزيز: "دخلت على عمر، فإذا هو في مصلاه، يده على خده، ودموعه سائلة، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما بك؟! أشيء حدث؟!
قال: يا فاطمة! إني تقلدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير، وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمهم دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت".
وروي أن عمر بن عبد العزيز كان يوماً جالساً في شرفة له في يوم بارد إذ أقبلت امرأة من العراق على حمار لها حتى وقفت عليهم وفيهم عمر فقالت: أريد رحل أمير المؤمنين، فأشرنا لها إلى دار عمر ولو قالت: أريد أمير المؤمنين لأشرنا لها إليه، فمضت فإذا هي بدار مهشمة لا علالي لها ولا أسافل، وعلى بابها شيء من مسوح إلى نصف الباب، وإذا شيخ قاعد فقالت له: يا هذا إني أريد امرأة أمير المؤمنين فاطمة. فقال لها الشيخ: ادخلي عليها يرحمك الله. قالت: وما لها من حاجب؟! قال: لا. قال: فدخلت عليها فإذا هي بفاطمة قاعدة تغزل، وإذا ليس في بيتها شيء إلا حصير، وسرير عليه فراش، ليس في البيت شيء غيره، فاسترجعت المرأة.
فقالت فاطمة: أفزعت مالك يا أمة الله؟! قالت: ضربت مسافة شهر إلى بيت من بيوت الفقراء. فقالت لها: هوّني عليك فإن فقر هذا البيت هو الذي عمّر بيوت المسلمين. قال: فجلست إليها فتحدثتا ملياً، وإنها لتسائلها إذ دخل عمر وعليه قميص غليظ إلى نصف ساقيه ورداء قطواني غليظ، وفي الدار شيء من طين قليل قد بُلَّ لبعض ما تحتاج إليه، فأقبل عمر حتى دنا من البئر فمتح دلواً فصب في ذلك الطين وجعل يكثر الالتفات إلى البيت الذي فيه فاطمة وهي حاسر فقالت لها المرأة: أيتها المرأة المسلمة غطِّي شعرك فإن هذا الطيان يكثر اللحظ إلى ناحيتك. قالت لها فاطمة: يرحمك الله ليس هذا بِطَيَّان هذا أمير المؤمنين الذي جئت في طلبه تضربين إليه من العراق".
ودخل عمر على فاطمة فقال: "يا فاطمة هل غديت ضيفك؟! قالت: لا. قال: سبحان الله هلم لها ما عندك. فأتتها بغداء.
ثم قام عمر إلى قفة معلقة في مضجعه أو مسجده فإذا فيها عناقيد من عنب فجعل ينتقي لها صحاحه ويطعمها، ثم قال: حاجتك يا أمة الله؟! فقالت: يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك عليَّ ثماني بنات كُسُد كُسُل. قال عمر: هلك زوجك وترك ثماني بنات كُسُد كُسُل، وبكى عمر حتى اخضلت لحيته، فلما رأت المرأة رقته جعلت تزيده، وجعل يخور كما يخور الثور. قالت لها فاطمة: يا أمة الله كفى عن الرجل فقد خلعت قلبه. فلما استفاق قال: حاجتك يا أمة الله؟! فقالت: تفرض لهن في الذرية. فقال: أما كلهن فلا، ولكن أثبت لك واحدة، ثم سألها عن اسم الكبرى قالت: فقلت: فلانة. قال: قد أثبتُّها. فقالت: الحمد لله رب العالمين.
فقال سمي التي تليها. فسمتها. فأثبتها. فقالت المرأة الحمد لله رب العالمين. ثم قال: سمي التي تليها. فسمتها. فأثبتها. فقالت الحمد لله رب العالمين. فأثبت لها سبعاً كلما حمدت الله أثبت حتى قالت: جزى الله أمير المؤمنين خيراً. فألقى الكتاب من يده وقال: والله لو كن ألفاً لأثبتُّهن ما أدمت الحمد لله، فمري هؤلاء السبع فليواسين الثامنة، ثم كتب لها بذلك إلى عبد الحميد. ثم أحضر كيساً ففتحه وإذا فيه عشرون ديناراً، وقال: والله ما بقي لعمر ولا لعيال عمر من عطائه في سنته هذه إلا ما ترين، قال: فقاسمها إياه.
قال: فقدمت المرأة العراق فوجدت الناس يتناعون عمر، فجاءت القصر فوجدت عبد الحميد جالساً والناس حوله يعزونه وهو يبكي، فتخطت الناس حتى وصلت إليه، ودفعت الكتاب إليه فأخذه بيده وجعل يقبله، ثم قرأه وقال: والله لئن أنفذت كتابه حياً لأنفذنه ميتاً، ثم دعا بالمال وحسب لها ما لها، ووفاها على التمام". [الكتاب الجامع 1/ 156].
أمَّا عدل عمر بن عبد العزيز ومحاسبته للعمال والولاة فمضرب المثل في إخضاعهم للحق، كتب إلى أحدهم يقول له: "أما بعد فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم فاذكر قدرة الله تعالى عليك... واعلم أنّ من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عَدَّ كلامه من عمله قَلَّ كلامه إلا فيما ينفعه والسلام". [ سير أعلام النبلاء 5/ 133].
وقال ميمون بن مهران: "وَلاّني عمر بن عبد العزيز ولايةً ثم قال لي: إذا جاءك كتابٌ مني على غير الحق فاضرب به الأرض".
وكتب إليه أحد الولاة يقول: "إن عندي رجالاً قد أخذوا أموالاً بغير حق، ولا أستطيع أن أخرجها إلا أن أمسّهم بشيء من عذاب، فإن رأى أمير المؤمنين - أصلحه الله - أن يأذن لي في ذلك أفعل.
فأجابه عمر أما بعد: "فإن العجب كل العجب في استئذانك إياي في عذاب بشر، كأني لك جنة، وكأن رضاي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل، فانظر من قامت عليه البينة، ومن أقرَّ لك بشيء فخذه بما أقرَّ به، ومن أنكر فاستحلفه بالله العظيم وخل سبيله. وأيم الله لأن يلقوا الله عز وجل بخياناتهم أحبُّ إليَّ من ألقى الله عز وجل بدمائهم والسلام". [ سيرة عمر للآجري صفـ 78 ـحة ]
أمورٌ مشرقة من العدل والرحمة والفقه والعقل في حياة هذا الصالح رحمه الله.
اللهم هب لنا قلوباً واعية تسمع الوعظ فتنتفع.
اللهم وفقنا لإصلاح أنفسنا وأهلنا، واجعل نصيبنا من سماع أخبار الصالحين الاقتداء والعمل، والأجر والمثوبة.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً،
أما بعد:
فلقد كان عمر بن عبد العزيز مع علمه وفضله وعدله وورعه خطيباً مؤثراً، فإذا وعظ وخطب أخذ بمجامع القلوب لجزالة لفظه، وحسن حديثه، فيبكي ويُبكي. قال في خطبة له:
"فإن الله عز وجل لم يخلقكم عبثاً، ولم يدع شيئاً من أمركم سُدى، وإنّ لكم معاداً ينزل الله عز وجل فيه للحكم والقضاء بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، فاشترى قليلاً بكثير وفانياً بباق، وخوفاً بأمان.
ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين.
في كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله عز وجل قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتغيبونه في بطن صدع من الأرض غير ممهد ولا موسّد، قد فارق الأحباب وواجه التراب وعاين الحساب، فهو مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير إلى ما قدّم، فاتقوا الله قبل نزول الموت بكم.
والله إني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي، ولكنها سننٌ من الله عادلة أمر فيها بطاعته، ونهى فيها عن معصيته، واستغفر الله".
ووضع كمه على وجهه فبكى وبكى الناس، فكانت آخر خطبة له، رحمه الله.
وحين دنا أجله وقرب موته قيل له: "يا أمير المؤمنين: هؤلاء بنوك - وكانوا اثني عشر - ألا توصي لهم بشيء فإنهم فقراء، فقال: (إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ). والله لا أعطيهم حق أحد، وهم بين رجلين إما صالح فالله ولي الصالحين وإما غير صالح فما كنت لأعينه على معصية الله، ثم دعا بهم فادخلوا عليه، وكان معظمهم صغاراً فنظر إليهم، فذرفت عيناه بالدموع وقال: بنفسي الفتية، أقفرت أفواهكم من هذا المال.
أي بني، إن أباكم نظر بين أمرين: بين أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، أو تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار، انصرفوا عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم.
فلما نزل به الموت قال: أجلسوني فأجلسوه فقال: إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم قال: إني لأرى حضوراً ما هم بأنس ولا جن - وقال لأهله - اخرجوا عني، فخرجوا وجلسوا عند الباب، فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه ثم تلا قول الله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
ثم هدأ الصوت فدخلوا عليه فإذا هو قد مات وقد غمض عينيه، ووجه إلى القبلة، رحمه الله رحمة واسعة، فلقد ليّن من الناس قلوباً قاسية، وردّ الحق إلى نصابه، وأقام العدل مع الدين والزهد والورع، وزرع الله له في القلوب مودة، وأبقى له في الصالحين ذكرا"ً.
وبعد أيها الإخوة:
فلقد سمعنا شيئاً من أخبار هذا العبد الصالح، وما هو إلا بشرٌ مثلكم، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده، فلا ينبغي أن يكون حظنا من ذلك مجرد السماع دون الانتفاع، بل علينا أن نقتدي بأسلافنا في مجاهدة أنفسنا وتربيتها على مراقبة الله سبحانه والخوف منه، والقيام بما حملنا من أمانات ومسئوليات: "فالرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته".
أيها المسلمون، أيها الشباب:
ارجعوا إلى مآثر أسلافكم، وانظروا في أخبار الصالحين، فإنكم ستجدون عزة الإسلام وسوف تتلذذون بحلاوة الإيمان.
وإياكم ثم إياكم أن تغتروا بموجات التغريب، وفتن الشهوات المضلة، والشبهات المردية.
وقانا الله وإياكم وجميع المسلمين مضلات الفتن، وأعاذنا جميعاً من الغفلة،
اللهم مُنّ علينا بطاعتك ورضاك عنا، وارحمنا يا خير الراحمين.
تأملات في سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي شرع القدوة بالمهتدين، وجعل في هذه الأمة جموعاً من الأخيار والصالحين، والزهاد والمتعبدين، من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب العالمين، وإله الأولين والآخرين.
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، إمام المتقين وخاتم النبيين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن سلك سبيلهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين،
أما بعد:
أيها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها الفلاح والفوز والنجاة والعز.
ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبدٍ تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجمٌ
أيها الإخوة في الله:
تأريخنا الإسلامي تأريخٌ عظيم، حافلٌ بأخبار المصلحين العظماء، والشجعان النبلاء، والأخيار الفضلاء، والهداة العاملين، الذين غيّروا مجرى التأريخ بأفعالهم وجهادهم، وزهدهم وصلاحهم، فنعم السلف هم: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).
هم الذين صاغوا تاريخ الأمة المسلمة، فصارت تفاخر أمم الأرض بأمجادها وعدلها وفتوحاتها وفضلها.
وانظر - رعاك الله - إلى الأمجاد والمفاخر، والعدل والزهد والوفاء والصدق، والجهاد الحق، منذ سطعت شمس الرسالة، وبُعث الصادق الأمين خاتم النبيين صلى الله عليه وسلّم، ومروراً بصحابته الغر الميامين، إلى التابعين الأكرمين إلى تابعيهم بإحسان. فإنك ستقف على نماذج رائعة وصور حية للالتزام الحقيقي بهذا الدين والعمل له ضمن حياة طيبة، بعيدة عن مظاهر الترف وزخرف الحياة، فكان لهذا المنهج الذي سلكه أولئك العظماء أثره الواضح على صلاح الناس من حولهم، إذ الناس تبعٌ لعظمائهم.
ومن هنا كان النظر في سير الصالحين والاطلاع على أخبارهم مما يزكي النفس، ويوقظ الضمير، ويحفز الهمم، ويبعث على النهوض بمعالي الأمور، لذا آثرت أن يكون حديثي في هذه الجمعة عن إمام من أئمة الهدى رجلٌ جُمُع في أُمّةٍ:
والناس ألفٌ منهم كواحد وواحدٌ كالألف إن أمرٌ عنى
إنّه إمام الهدى الزاهد، والخليفة الراشد: عمر بن عبد العزيز بن مروان القرشي الأموي.
قال عنه إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله: "إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز، ويذكرُ محاسنه وينشرها، فاعلم أن من وراء ذلك خيراً إن شاء الله".
وقال الحافظ ابن حجر في كتابه [فتح الباري شرح صحيح البخاري] عند شرح قوله صلى الله عليه وسلّم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنةٍ من يجدّد لها دينها". قال: "لا يلزم أن جميع خصال الخير كُلِّها في شخص واحد، إلا أن يُدّعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها، ومن ثَمَّ أطلق الإمام أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه". أ. هـ
لقد أطنب العلماء والمؤرخون في الثناء على عمر بن عبد العزيز وذكر محاسنه، فوصفه الحافظ الذهبي، فكان مما قال عنه: "كان ثقةً مأموناً، له فقه وعلم وورع، وروى حديثاً كثيراً، وكان إمام عدل، رحمه الله ورضي عنه". [سير أعلام النبلاء 5/ 114].
كان الخوف من الله مقارناً له في صغره، فقد حفظ وهو غلام صغير، وفي يوم من الأيام بكى فسألته أمه عن سبب بكائه فقال: "ذكرت الموت فبكيت".
كان صادق اللهجة يقول: "ما كذبتُ منذ علمتُ أن الكذب يَضُرُّ أهله".
وقد – رحمه الله - طلب العلم والفقه في الدين حتى صار إماماً، ثم وُلّي إمارة المدينة وهو في ذلك الوقت شابٌ غليظ ممتلئ الجسم، يلبس أحسن الثياب، ويتطيب بأطيب الطيب.
فلما وُلّي الخلافة نحل جسمه وتغيرت حاله، رآه بعضهم يطوف بالكعبة [قبل الخلافة] وإنّ حُجْزة إزاره لغائبة في ثنايا بطنه من السمن. يقول: "ثم رأيته بعد ما استخلف ولو شئت أن أعد أضلاعه من غير أن أمسّها لفعلت". [الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز 1/367].
وذات مرة دخل عليه محمد بن كعب القرظي بعد ما تولى الخلافة يقول: "فجعلت أنظر إليه نظراً لا أكاد أصرف بصري عنه، فقال: ما لك يا ابن كعب؟! فقلت: أعجب من تغير جسمك وتبدّل حالك. فقال: فكيف لو رأيتني يا ابن كعب في قبري بعد ثلاث ليال، حين تقع حدقة عيني على وجنتي، ويسيل منخري وفمي صديداً ودوداً، كنت لي أَشد إنكاراً".
إنه استشعار المسؤولية التي أسندت إليه - رحمة الله عليه - لقد زان الخلافة وما زانته، بل لقد وُلّي وهو للخلافة كاره، فسار بالناس بسيرة جده لأمه الفاروق عمر رضي الله عنه.
ولما دُفِنَ الخليفةُ السابق [سليمان بن عبد الملك] قُرّبت مراكبُ الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال: ما لي ولها، نحّوها عنّي، وقربوا إلي دابتي، فركب دابته، وسار، وسار معه الناس حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس فقال: "أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلفتُ ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك، فلما رأى ذلك: حمد الله وأثنى عليه، وصلىّ على النبي صلى الله عليه وسلّم وقال: أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خلفٌ من كل شيء وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا لأخرتكم، فإنه من عمل لأخرته كفاه الله أمر دنياه، واصلحوا سرائركم يصلح الله علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنّه هادم اللذات، وإن عبداً ليس بينه وبين آدم أبٌ إلا قد مات لمعرقٌ له في الموت.
ألا وإني لستُ بخير من أحدٍ منكم ولكني أثقلكم حملاً". [ سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي 65-66 ]
ثم شرع يردّ المظالم التي كانت قبل ولايته، فبدأ بأقاربه من بني أميه، فأخذ ما استولوا عليه ظلماً، وما أخذوه بغير حق، ففزعوا من هذا التصرّف وأرسلوا إليه أعيان الناس، فلم يفدهم ذلك شيئاً.
قال وهيب بن الورد: "اجتمع بنو مروان على باب عمر بن عبد العزيز، وجاء ابنه ليدخل عليه، فقالوا له: إما أن تستأذن لنا وإما أن تبلِّغ أمير المؤمنين ما جئنا من أجله، فقال لهم قولوا. فقالوا: إن من كان قبله من الخلفاء يعطوننا ويعرفون لنا موضعاً، وإن أباك قد حرمنا ما في يديه. فدخل على أبيه عمر فأخبره بقولهم، فقال له عمر: قل لهم إنَّ أبي يقول لكم: (إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)".
ولقد كان لأقاربه الحظ الأوفر من الوعظ والنصح والتذكير، ولنستمع إلى رسالة بعث بها عمر رحمه الله إلى بعض أهل بيته يقول:
"أما بعد، فإنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك ونهارك بَغَّضَ إليك كل فانٍ، وحَبّب إليك كل باقٍ، والسلام".
لقد غلب على قلب عمر بن عبد العزيز الخوف من الله، فكان إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله، وكان يجمع كُلَّ ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ويبكون.
حدّثت زوجته فاطمة بنت عبد الملك فقالت: "قد يكون من الرجال من هو أكثر صلاة وصياماً منه، ولكني لم أر رجلاً من الناس كان أشد خوفاً من ربه من عمر، كان إذا صلّى العشاء دخل بيته فقد يكون معي في الفراش فيخطر على قلبه الشيء من أمر الله فينتفض كما ينتفض العصفور قد وقع في الماء ثم ينشج ثم يرتفع بكاؤه حتى أقول: لتخرجن روحه التي بين جنبيه وتدركني الرحمة له فأطرح اللحاف عني وعنه وأنا أقول: ما رأيت سروراً منذ كنا في هذه الخلافة يا ليت بيننا وبينها بعد المشرقين. فكان يقول: اللهم إن كنت تعلم أني أخاف يوماً دون يوم القيامة فلا تؤمن خوفي".
فيا أيها المسلمون:
ما ذا نقول عن أحوالنا اليوم، فالله المستعان على تفريطنا وعصياننا.
إنّ أسلافنا جمعوا بين الخوف وحسن العمل ونحن جمعنا بين التفريط والأمن، لقد فارق الخوف من الله قلوباً ففسدت، وما فارق الخوف من الله قلباً إلا خرب.
فبعضنا استحل المال الحرام من الربا والرشوة وشهادة الزور، وأضاع جمعٌ من الناس الصلاة واتبعوا الشهوات، وصارت حياتهم للأفلام والقنوات، والرياضة والمجلات، ولم يستجب كثيرٌ منهم للناصحين، واستحكمت غربة الدين واتُخذ القرآن مهجوراً. ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
أيها المسلمون:
لقد ربّى عمر بن عبد العزيز أهل بيته على التقوى والخوف من الله وقرب الدمعة من خشية الله سبحانه. قرأ عنده رجل قول الله عز وجل عن النار: (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً{12} وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) فبكى عمر حتى غلبه البكاء، وعلا نشيجه، فقام من مجلسه، فدخل بيته وتفرّق الناس.
وذات يوم كان جالساً في البيت فبكى، فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلّت عنهم العبرة قالت فاطمة: "بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟! قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير".
أيها المسلمون:
إننا إذا استشعرنا هذه المواقف كما استشعارها هذا الرجل الصالح لاستقامت أحوالنا، ولتعدّل سلوكنا، ولقمنا بما أوجب الله علينا، ولأدّينا الأمانة كما حملناها.
تقول فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر بن عبد العزيز: "دخلت على عمر، فإذا هو في مصلاه، يده على خده، ودموعه سائلة، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما بك؟! أشيء حدث؟!
قال: يا فاطمة! إني تقلدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير، وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمهم دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت".
وروي أن عمر بن عبد العزيز كان يوماً جالساً في شرفة له في يوم بارد إذ أقبلت امرأة من العراق على حمار لها حتى وقفت عليهم وفيهم عمر فقالت: أريد رحل أمير المؤمنين، فأشرنا لها إلى دار عمر ولو قالت: أريد أمير المؤمنين لأشرنا لها إليه، فمضت فإذا هي بدار مهشمة لا علالي لها ولا أسافل، وعلى بابها شيء من مسوح إلى نصف الباب، وإذا شيخ قاعد فقالت له: يا هذا إني أريد امرأة أمير المؤمنين فاطمة. فقال لها الشيخ: ادخلي عليها يرحمك الله. قالت: وما لها من حاجب؟! قال: لا. قال: فدخلت عليها فإذا هي بفاطمة قاعدة تغزل، وإذا ليس في بيتها شيء إلا حصير، وسرير عليه فراش، ليس في البيت شيء غيره، فاسترجعت المرأة.
فقالت فاطمة: أفزعت مالك يا أمة الله؟! قالت: ضربت مسافة شهر إلى بيت من بيوت الفقراء. فقالت لها: هوّني عليك فإن فقر هذا البيت هو الذي عمّر بيوت المسلمين. قال: فجلست إليها فتحدثتا ملياً، وإنها لتسائلها إذ دخل عمر وعليه قميص غليظ إلى نصف ساقيه ورداء قطواني غليظ، وفي الدار شيء من طين قليل قد بُلَّ لبعض ما تحتاج إليه، فأقبل عمر حتى دنا من البئر فمتح دلواً فصب في ذلك الطين وجعل يكثر الالتفات إلى البيت الذي فيه فاطمة وهي حاسر فقالت لها المرأة: أيتها المرأة المسلمة غطِّي شعرك فإن هذا الطيان يكثر اللحظ إلى ناحيتك. قالت لها فاطمة: يرحمك الله ليس هذا بِطَيَّان هذا أمير المؤمنين الذي جئت في طلبه تضربين إليه من العراق".
ودخل عمر على فاطمة فقال: "يا فاطمة هل غديت ضيفك؟! قالت: لا. قال: سبحان الله هلم لها ما عندك. فأتتها بغداء.
ثم قام عمر إلى قفة معلقة في مضجعه أو مسجده فإذا فيها عناقيد من عنب فجعل ينتقي لها صحاحه ويطعمها، ثم قال: حاجتك يا أمة الله؟! فقالت: يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك عليَّ ثماني بنات كُسُد كُسُل. قال عمر: هلك زوجك وترك ثماني بنات كُسُد كُسُل، وبكى عمر حتى اخضلت لحيته، فلما رأت المرأة رقته جعلت تزيده، وجعل يخور كما يخور الثور. قالت لها فاطمة: يا أمة الله كفى عن الرجل فقد خلعت قلبه. فلما استفاق قال: حاجتك يا أمة الله؟! فقالت: تفرض لهن في الذرية. فقال: أما كلهن فلا، ولكن أثبت لك واحدة، ثم سألها عن اسم الكبرى قالت: فقلت: فلانة. قال: قد أثبتُّها. فقالت: الحمد لله رب العالمين.
فقال سمي التي تليها. فسمتها. فأثبتها. فقالت المرأة الحمد لله رب العالمين. ثم قال: سمي التي تليها. فسمتها. فأثبتها. فقالت الحمد لله رب العالمين. فأثبت لها سبعاً كلما حمدت الله أثبت حتى قالت: جزى الله أمير المؤمنين خيراً. فألقى الكتاب من يده وقال: والله لو كن ألفاً لأثبتُّهن ما أدمت الحمد لله، فمري هؤلاء السبع فليواسين الثامنة، ثم كتب لها بذلك إلى عبد الحميد. ثم أحضر كيساً ففتحه وإذا فيه عشرون ديناراً، وقال: والله ما بقي لعمر ولا لعيال عمر من عطائه في سنته هذه إلا ما ترين، قال: فقاسمها إياه.
قال: فقدمت المرأة العراق فوجدت الناس يتناعون عمر، فجاءت القصر فوجدت عبد الحميد جالساً والناس حوله يعزونه وهو يبكي، فتخطت الناس حتى وصلت إليه، ودفعت الكتاب إليه فأخذه بيده وجعل يقبله، ثم قرأه وقال: والله لئن أنفذت كتابه حياً لأنفذنه ميتاً، ثم دعا بالمال وحسب لها ما لها، ووفاها على التمام". [الكتاب الجامع 1/ 156].
أمَّا عدل عمر بن عبد العزيز ومحاسبته للعمال والولاة فمضرب المثل في إخضاعهم للحق، كتب إلى أحدهم يقول له: "أما بعد فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم فاذكر قدرة الله تعالى عليك... واعلم أنّ من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عَدَّ كلامه من عمله قَلَّ كلامه إلا فيما ينفعه والسلام". [ سير أعلام النبلاء 5/ 133].
وقال ميمون بن مهران: "وَلاّني عمر بن عبد العزيز ولايةً ثم قال لي: إذا جاءك كتابٌ مني على غير الحق فاضرب به الأرض".
وكتب إليه أحد الولاة يقول: "إن عندي رجالاً قد أخذوا أموالاً بغير حق، ولا أستطيع أن أخرجها إلا أن أمسّهم بشيء من عذاب، فإن رأى أمير المؤمنين - أصلحه الله - أن يأذن لي في ذلك أفعل.
فأجابه عمر أما بعد: "فإن العجب كل العجب في استئذانك إياي في عذاب بشر، كأني لك جنة، وكأن رضاي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل، فانظر من قامت عليه البينة، ومن أقرَّ لك بشيء فخذه بما أقرَّ به، ومن أنكر فاستحلفه بالله العظيم وخل سبيله. وأيم الله لأن يلقوا الله عز وجل بخياناتهم أحبُّ إليَّ من ألقى الله عز وجل بدمائهم والسلام". [ سيرة عمر للآجري صفـ 78 ـحة ]
أمورٌ مشرقة من العدل والرحمة والفقه والعقل في حياة هذا الصالح رحمه الله.
اللهم هب لنا قلوباً واعية تسمع الوعظ فتنتفع.
اللهم وفقنا لإصلاح أنفسنا وأهلنا، واجعل نصيبنا من سماع أخبار الصالحين الاقتداء والعمل، والأجر والمثوبة.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً،
أما بعد:
فلقد كان عمر بن عبد العزيز مع علمه وفضله وعدله وورعه خطيباً مؤثراً، فإذا وعظ وخطب أخذ بمجامع القلوب لجزالة لفظه، وحسن حديثه، فيبكي ويُبكي. قال في خطبة له:
"فإن الله عز وجل لم يخلقكم عبثاً، ولم يدع شيئاً من أمركم سُدى، وإنّ لكم معاداً ينزل الله عز وجل فيه للحكم والقضاء بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، فاشترى قليلاً بكثير وفانياً بباق، وخوفاً بأمان.
ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين.
في كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله عز وجل قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتغيبونه في بطن صدع من الأرض غير ممهد ولا موسّد، قد فارق الأحباب وواجه التراب وعاين الحساب، فهو مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير إلى ما قدّم، فاتقوا الله قبل نزول الموت بكم.
والله إني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي، ولكنها سننٌ من الله عادلة أمر فيها بطاعته، ونهى فيها عن معصيته، واستغفر الله".
ووضع كمه على وجهه فبكى وبكى الناس، فكانت آخر خطبة له، رحمه الله.
وحين دنا أجله وقرب موته قيل له: "يا أمير المؤمنين: هؤلاء بنوك - وكانوا اثني عشر - ألا توصي لهم بشيء فإنهم فقراء، فقال: (إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ). والله لا أعطيهم حق أحد، وهم بين رجلين إما صالح فالله ولي الصالحين وإما غير صالح فما كنت لأعينه على معصية الله، ثم دعا بهم فادخلوا عليه، وكان معظمهم صغاراً فنظر إليهم، فذرفت عيناه بالدموع وقال: بنفسي الفتية، أقفرت أفواهكم من هذا المال.
أي بني، إن أباكم نظر بين أمرين: بين أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، أو تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار، انصرفوا عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم.
فلما نزل به الموت قال: أجلسوني فأجلسوه فقال: إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم قال: إني لأرى حضوراً ما هم بأنس ولا جن - وقال لأهله - اخرجوا عني، فخرجوا وجلسوا عند الباب، فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه ثم تلا قول الله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
ثم هدأ الصوت فدخلوا عليه فإذا هو قد مات وقد غمض عينيه، ووجه إلى القبلة، رحمه الله رحمة واسعة، فلقد ليّن من الناس قلوباً قاسية، وردّ الحق إلى نصابه، وأقام العدل مع الدين والزهد والورع، وزرع الله له في القلوب مودة، وأبقى له في الصالحين ذكرا"ً.
وبعد أيها الإخوة:
فلقد سمعنا شيئاً من أخبار هذا العبد الصالح، وما هو إلا بشرٌ مثلكم، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده، فلا ينبغي أن يكون حظنا من ذلك مجرد السماع دون الانتفاع، بل علينا أن نقتدي بأسلافنا في مجاهدة أنفسنا وتربيتها على مراقبة الله سبحانه والخوف منه، والقيام بما حملنا من أمانات ومسئوليات: "فالرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته".
أيها المسلمون، أيها الشباب:
ارجعوا إلى مآثر أسلافكم، وانظروا في أخبار الصالحين، فإنكم ستجدون عزة الإسلام وسوف تتلذذون بحلاوة الإيمان.
وإياكم ثم إياكم أن تغتروا بموجات التغريب، وفتن الشهوات المضلة، والشبهات المردية.
وقانا الله وإياكم وجميع المسلمين مضلات الفتن، وأعاذنا جميعاً من الغفلة،
اللهم مُنّ علينا بطاعتك ورضاك عنا، وارحمنا يا خير الراحمين.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى