مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ /صالح بن عبد الرحمن الخضيري
تأملات في سورة الكهف
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا* قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً* مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً* وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً* مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً )) (الكهف:1-5)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، بعثه الله شاهداً ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً . اللهم صَلِ وسَلِّم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان .
أمَّا بعدُ :
فيا أيها الناس : أوصيكم ونفسي بتقوى الله وذلك بفعل ما به أمر وترك ما عنه حَذّر ، وعليكم بتبر كتاب ربكم ففيه أحكامُ شرعكم ، ومكارمُ أخلاقكم ومحاسنُ أعمالكم وفيه موعظتكم ، وشرفكُم وعزكم . قال الله سبحانه : (( لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ )) (الانبياء:10) وقال : ((وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)) (الزخرف:44).
وحينما أعرض المسلمون عن هذا الكتاب الكريم ، والشرف العظيم ، أصيبوا بالذل والتشرُّد ، والفرقة والتمزق ، لقد نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم إلا من رحم الله ، فالقرآن يشكوا من هجر تلاوته وتدبره ، ومعرفة أحكامه والعمل به ((وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)) (الفرقان:30).
هنا وقفاتُ تأملٍ في هذا الكتاب العزيز ومع سورةٍ عظيمةٍ من سُوره ، هي من أوئل السور نزولاً ، تلاها رجلٌ من الصحابة فنزلت الملائكة من أجل ذلك ، سورةٌ أنفردت بعدد من القصص العجيبة ، حوت من الفِكَر ، وعظيم الخبر ما فيه عبرةٌ لمن اعتبر ، هذه السورةُ يقرأُها المسلمون في كل جمعة تلكم هي سورة الكهف التي تميّزت بأمور منها :
أنها من أوائلِ ما نزل بمكة قبلَ الهجرة . قال ابن مسعود رضي الله عنه : (( سورة الإسراء والكهف ومريمَ إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي )) يريد رضي الله عنه : أنها من السور التي نزلت بمكة وأنها من أول ما تعلمه من القرآن .
ومن خصائص هذه السورة أنه يستحب أن تقرأ في يوم الجمعة لما أخرجه الحاكم والبيهقي عنه r : (( من قرأ سورة الكهف يومَ الجمعة سطع له نورٌ من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء به يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين )) [ قال المعلق على زاد المعاد 1/377 حديث صحيح ] .
وعشر آيات من أولها أو آخرها تعصم من فتنة المسيح الدجال ففي صحيح مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من الدجال )) .
وفي رواية أخرى عند مسلم : (( من قرأ الأواخر من سورة الكهف عُصم من فتنة الدجال )) .
قال أهل العلم : [ النووي رحمه الله ]
سبب العصمة ما في أولها من العجائب والآيات فمن تدبرها لم يَفْتتن بالدجال ، وكذا في آخرها قوله تعالى : ((أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً )) ( الكهف : 102) .
أيها الإخوة : في سورة الكهف دعوةٌ إلى توحيد الله عز وجل ، وبيانُ صدقِ رسول الله r في دعوته ، ووجوب الإيمان برسالته وأنه بَشَرٌ يُبَشّرُ ويُنْذِرُ .
وفي السورة كذلك دعوةٌ إلى الإيمان باليوم الآخر ، وعرض لمواقف الحساب ، وفيها أضواءٌ كاشفةٌ على كل أسباب الفتن .
ففي قصة أصحاب الكهف ذُكِرَتْ فتنةُ الولاية والسلطة ، وفي قصة صاحب الجنتين عرضٌ لفتنة المال والرجال ، وفي قصة موسى والخضر عرضٌ لفتنة العلم ، وفي قضية ذي القرنين عرض لفتنة الأسباب المادية .
فسورة الكهف ، كالكهف الحصين من جميع الفتن فمن تدبرها وعمل بها حفظه الله وستره فلا تضره فتنة ولو كانت كقطع الليل المظلم .
وسورة الكهف هي : إحدى خمسِ سُور كُلُّها تبدأ بحمد الله والثناء عليه وتمجيده عز وجل .
فله الحمد على نعمه الظاهرة والباطنة ، وأجل نعمة على الإطلاق إنزاله القرآن العظيم على نبيه الكريم .
ثم وصف هذا الكتاب بوصفين يدلان على كماله من جميع الوجوه وهما نفي العوج عنه وإثبات أنه مقيم مستقيم .
والغرض إنذار الكفار والمخالفين عقاب الله الأليم وتبشيرُ المؤمنين بالأجر العظيم .
قال تعالى : (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا* قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً* مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً)) (الكهف:1-3) . وتمضي الآيات مسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان حريصاً على هداية الخلق يُسرُّ بإيمان المؤمنين ، ويأسف على المكذبين فأمره الله بأن لا تذهب نفسه عليهم حسرات فقال : ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ)) (الكهف:6) .
أي مهلكها غماً وأسفاً عليهم فلا تفعل فأجرك على الله ، وهؤلاء المنحرفين لو علم الله فيهم خيراً لهداهم .
وفي هذا دليل لكل داعٍ إلى الخير أن عليه التذكير وبذلُ السبب فإن اهتدوا فبها ونعمت وإلا فلا يحزن ولا يأسف فإن ذلك يضعف النفس ويهدم القوى بلا فائدة ترجى ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)) (الغاشية:21-22) .
ثم أخبر الله عز وجل بأنه جعل جميع ما على وجه الأرض من مآكل ومشارب وأشجار وأنهار وزروع وثمار زينة لهذه الدار فتنة واختباراً وأنَّ جميعَ ما على الأرض مضمحلٌ زائل ، وستعود الأرض صعيداً جُرُزاً ((إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً* وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً)) (الكهف:7-8) .
ثم تجئ قصةُ أصحاب الكهف وهو الغار الواسعُ في الجبل .
والرقيم : لوح ٌمن حجارة كُتبت فيه قصتهم وأسماؤهم .
وأصحاب الكهف : فتيةٌ مؤمنون خرجوا من بلادهم فراراً بدينهم ، وخوفاً على عقيدتهم ، فلجئوا إلى غارٍ واسع في الجبل بعدما قوّى الله عزائمهم فقاموا على رؤوس الملأ وقالوا : ((رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً)) (الكهف:14) .
وحينما دخلوا الغار ضرب الله على آذانهم أي أنامهم ثلاث مئةٍ وتسع سنين بدون طعام ولا شراب وهم بقدرة الله يقلبون من جنب إلى جنب ، فإذا طلعت الشمس مالت عن كهفهم ذات اليمن، وإذا غربت تتركهم فلا تصيبهم ذات الشمال ((ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ)) (الكهف:17).
ثم إن الله بعثهم من رقدتهم الطويلة وأطلع الناس على خبرهم ليستفيدوا من ذلك دروساً وعبراً ، وليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها .
وفي قصة أصحاب الكهف أعظم دليل على أن من فرَّ بدينه من الفتن سَلّمه الله منها ، وأن من حّرِصَ على العافية عافاه الله ، ومن أوى إلى الله آواه الله وجعله هداية لغيره ، ومن تحمل في سبيله وابتغاء مرضاته كان آخرَ أمره وعاقبته العزُ العظيمُ من حيث لا يحتسب ، وما عند الله خير للأبرار .
أيها المسلمون : وفي السورة يأمر الله نبيه محمداً r وغيره أسوته في الأوامر والنواهي أن يصبر نفسه مع المؤمنين المنيبين ((الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)) (الكهف:28).
وحذره من زهرة الدنيا والركون إلى المترفين الذين غفلوا عن ذكر الله ((وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)) (الكهف:28) .
فقد ضيّعوا مصالح دينهم ودنياهم وأعرضوا عن دين الله واتبعوا أهوائهم وضيّعوا أمر الله فويلٌ لهم من عذاب أليم ونارٍ وجحيم تحيط بهم من كل جانب فلا يستطيعون الخروج منها ((إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً)) (الكهف:29) إنها ساءت مستقراً ومقاما .
أمَّا أهل الإيمان الذين أجابوا داعي الله ، وآمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات والواجبات والمستحبات فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ((أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ)) (الكهف:31) .
وهي السرر المجملة بالثياب الفاخرة (( نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)) (الكهف:31) .
وبعد هذا تأتي قصةُ صاحب الجنتين وكيف اغتر بماله وجاهه ((وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً)) (الكهف:35) .
فزعم أن ما هو فيه من نعيم دنيوي لن يزول ولن يحول ، ثم ترقى به الأمر وبلغ به الكفر إلى إنكار البعث وقيام الساعة ((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً )) (الكهف:36) .
ولم يستمع إلى نصح الناصحين وتذكير الصالحين فما هي إلا لحظات حتى((وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ)) (الكهف:42) .
فدُمِّرَ بستانه وذهب ما كان يعتزُّ به وأصيب بالحسرة والندامة على ما فرّط وأجرم ، فسبحان الله ما أضعف الإنسان وما أعظم جحوده وطغيانه (( كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)) (العلق:6-7).
كيف يغْفلُ المرء عن الحياة وسرعةِ زوالها ، وتَغَيّرها وتبدل أحوالها ، فالمغرور حقاً من اغتر بها واطمأن إليها .
ثم تَعْرضُ السورة الكريمة لعداوة إبليس لآدم وذريته وأن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم إكراماً وامتثالاً لأمر الله ((فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا)) (الكهف:50) .
ولقد استحوذ الشيطان وذريته على كثير من الناس فلم ينتفعوا بتحذير الله لهم من كيد الشيطان بل وقعوا في مكائده وحبائله مع أنه يتبرأ منه يوم القيامه ويقول : ((إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ)) (إبراهيم:22) .
أعاذنا الله جميعاً من الشيطان الرجيم ونفعنا بمواعظ القرآن العظيم وهدانا صراطه المستقيم إنه جوادٌ كريم .
أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أنزل على رسوله من أخبار السابقين ، وقصص الغابرين ما يثبت به قلوب المؤمنين ويكون عبرةً للمعتبرين . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . قال وهو أصدق القائلين : ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)) (يوسف:3).
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وخاتم النبيين صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من سلك طريقهم إلى يوم الدين .
أما بعد :
ففي أواخر سورة الكهف يخبر الله تعالى عن نبيه موسى عليه السلام وشدة رغبته في الخير وطلب العلم حيث قال لفتاه أي خادمه (( لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ)) (الكهف:60) .
أي لا أزال مسافراً وإن طالت علي الشقة ولحقتني المشقة حتى أصل إلى مجمع البحرين وهو المكان الذي أُحي إلى موسى أنه سيجدُ فيه الخضرَ عليه السلام .
وسبب ذلك : ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : حدثني أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسُئلَ : أيُّ الناس أعلم ؟ فقال : أنا فعتب الله عليه إذ لم يردَّ العلمَ إليه فقال له : بلى ، لي عبدٌ بمجمع البحرين هو أعلم منك . قال : أي رب ومن لي به ؟ قال : تأخذ حوتاً فتجعلُهُ في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمَّ . فأخذ موسى عليه السلام حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق هو وفتاه يوشعُ بن نونٍ حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فرقد موسى واضطرب الحوتُ فخرج فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا ، فأمسك الله عن الحوت جريه الماء فصار مثل الطاق فلما استيقظا نسي صاحبُهُ أن يخبره بالحوت فانطلقا بقيةَ يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال : ولم يجد موسى النصب حتى جاوزا المكان الذي أمر الله به ، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيتُ الحوتَ وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً . قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجباً فقال موسى : ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصاً ، قال : رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل قد استلقا على قفاه قد غطى وجهه بثوب وهو الخضر وإنما سمي الخضر لأنه جلس على أرض بيضا فإذا هي تهتزُّ تحته خضراءَ معشبة
فلما رآه موسى سلّم عليه فكشف الثوب عن وجهه وقال وعليكم السلام ، هل بأرضي من سلام مَنْ أنت ؟ قال : أنا موسى . فقال الخضر : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم أتيتُك لتعلمني مما علمت رشدا قال : إنك لن تستطيع معي صبراً يا موسى إني على علم من الله علمنيه لا تعلَمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه فقال موسى : ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً فقال له الخضرُ : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتى أحدث لك منه ذكراً ، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمّرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير أجرة ، فلما ركبا في السفينة لم يَفَجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم فقال له موسى : قومٌ حملونا بغير أجرة عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا .
قال رسول الله r : كانت الأولى من موسى نسياناً قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر : ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثلُ ما نقص هذا العصفور من هذا البحر)) .
إلى آخر الحديث وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يرحم الله موسى وددنا أنه كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما)) (فتح الباري 6/499) .
وفي هذه القصة من الحكم والفوائد ما يضيق المقام عن ذكره .
وبعد هذا يأتي نبأُ مفيدٌ وخطابٌ عجيب عما سُئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبر ذي القرنين الذي بلغ المشرق والمغرب قال تعالى : ((وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً )) (الكهف:83)
وذو القرنين مَلِكٌ [ قال ابن تيمية قصة أحسن قصص الملوك ] مؤمنٌ صالح عادل مكن الله له في الأرض فطاف المشارق والمغارب وأقام العدل والخير والإصلاح وبنى ذلك السدَّ المكين ليحمي الناسَ من شر يأجوج ومأجوج وهما أمتان من سلالة آدم عليه السلام يخرجون على الناس فيفسدون في الأرض وخروجوهم من علامات الساعة الكبرى ، قال تعلى : ((حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ.. )) (الانبياء:96) .
فبنى ذو القرنين سداً عظيماً ليمنع غارات يأجوج ومأجوج عل من حولهم (( ولا يزال السدُ بأمر الله موجوداً وهو كتلٌ هائلة من الحديد المخلوط بالنحاس موجود في جبال القوقاز في جمهمورية جورجيا السوفيتية [ انظر كتاب ذو القرنين محمد خير رمضان يوسف ط " الكلم 200 صفحة ] وهذه إحدى معجزات دين الإسلام ونبوة سيد الأنام فمن أداراه بهذا السد الذي لم يكتشف إلا بعد وفاته بقرون .
وحينما انتهى ذو القرنين من بناء السد أضاف النعمة إلى موليها وقال : (( قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي)) (الكهف:98) .
أي من فضله وإحسانه عليَّ وفي هذا أعظم دليل على صلاحه وفلاحه وبُعدِهِ عن التكبر والعلو ((فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي)) (الكهف:98) .
أي لخروجَ يأجوج ومأجوج ((جَعَلَهُ)) (الكهف:98) .
أي ذلك السدَّ المحكم المتقن ((دَكَّاء)) (الكهف:98) أي دكه فانهدم واستوى مع الأرض ((وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً)) (الكهف:98) .
وبعد أيها الإخوة فكل ما جاء في سورة الكهف من أخبارٍ عجيبة إنما وردت بقصدِ العظات والعبر والتذكير بعظمة الله وسعة علمه وعظيم سلطانه وقدرته ( لا إله غيره ولا رب سواه ) .
وثم تُختمُ السورة بالإخلاص والنهي عن الشرك كما بدأت بذكر الوحي والتوحيد فافتتحت بذكر الألوهية واختتمت بذكر الربوبية . ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)) (الكهف:110)
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يعلمنا ما جهلنا,,,
تأملات في سورة الكهف
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا* قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً* مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً* وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً* مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً )) (الكهف:1-5)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، بعثه الله شاهداً ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً . اللهم صَلِ وسَلِّم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان .
أمَّا بعدُ :
فيا أيها الناس : أوصيكم ونفسي بتقوى الله وذلك بفعل ما به أمر وترك ما عنه حَذّر ، وعليكم بتبر كتاب ربكم ففيه أحكامُ شرعكم ، ومكارمُ أخلاقكم ومحاسنُ أعمالكم وفيه موعظتكم ، وشرفكُم وعزكم . قال الله سبحانه : (( لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ )) (الانبياء:10) وقال : ((وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)) (الزخرف:44).
وحينما أعرض المسلمون عن هذا الكتاب الكريم ، والشرف العظيم ، أصيبوا بالذل والتشرُّد ، والفرقة والتمزق ، لقد نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم إلا من رحم الله ، فالقرآن يشكوا من هجر تلاوته وتدبره ، ومعرفة أحكامه والعمل به ((وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)) (الفرقان:30).
هنا وقفاتُ تأملٍ في هذا الكتاب العزيز ومع سورةٍ عظيمةٍ من سُوره ، هي من أوئل السور نزولاً ، تلاها رجلٌ من الصحابة فنزلت الملائكة من أجل ذلك ، سورةٌ أنفردت بعدد من القصص العجيبة ، حوت من الفِكَر ، وعظيم الخبر ما فيه عبرةٌ لمن اعتبر ، هذه السورةُ يقرأُها المسلمون في كل جمعة تلكم هي سورة الكهف التي تميّزت بأمور منها :
أنها من أوائلِ ما نزل بمكة قبلَ الهجرة . قال ابن مسعود رضي الله عنه : (( سورة الإسراء والكهف ومريمَ إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي )) يريد رضي الله عنه : أنها من السور التي نزلت بمكة وأنها من أول ما تعلمه من القرآن .
ومن خصائص هذه السورة أنه يستحب أن تقرأ في يوم الجمعة لما أخرجه الحاكم والبيهقي عنه r : (( من قرأ سورة الكهف يومَ الجمعة سطع له نورٌ من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء به يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين )) [ قال المعلق على زاد المعاد 1/377 حديث صحيح ] .
وعشر آيات من أولها أو آخرها تعصم من فتنة المسيح الدجال ففي صحيح مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من الدجال )) .
وفي رواية أخرى عند مسلم : (( من قرأ الأواخر من سورة الكهف عُصم من فتنة الدجال )) .
قال أهل العلم : [ النووي رحمه الله ]
سبب العصمة ما في أولها من العجائب والآيات فمن تدبرها لم يَفْتتن بالدجال ، وكذا في آخرها قوله تعالى : ((أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً )) ( الكهف : 102) .
أيها الإخوة : في سورة الكهف دعوةٌ إلى توحيد الله عز وجل ، وبيانُ صدقِ رسول الله r في دعوته ، ووجوب الإيمان برسالته وأنه بَشَرٌ يُبَشّرُ ويُنْذِرُ .
وفي السورة كذلك دعوةٌ إلى الإيمان باليوم الآخر ، وعرض لمواقف الحساب ، وفيها أضواءٌ كاشفةٌ على كل أسباب الفتن .
ففي قصة أصحاب الكهف ذُكِرَتْ فتنةُ الولاية والسلطة ، وفي قصة صاحب الجنتين عرضٌ لفتنة المال والرجال ، وفي قصة موسى والخضر عرضٌ لفتنة العلم ، وفي قضية ذي القرنين عرض لفتنة الأسباب المادية .
فسورة الكهف ، كالكهف الحصين من جميع الفتن فمن تدبرها وعمل بها حفظه الله وستره فلا تضره فتنة ولو كانت كقطع الليل المظلم .
وسورة الكهف هي : إحدى خمسِ سُور كُلُّها تبدأ بحمد الله والثناء عليه وتمجيده عز وجل .
فله الحمد على نعمه الظاهرة والباطنة ، وأجل نعمة على الإطلاق إنزاله القرآن العظيم على نبيه الكريم .
ثم وصف هذا الكتاب بوصفين يدلان على كماله من جميع الوجوه وهما نفي العوج عنه وإثبات أنه مقيم مستقيم .
والغرض إنذار الكفار والمخالفين عقاب الله الأليم وتبشيرُ المؤمنين بالأجر العظيم .
قال تعالى : (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا* قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً* مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً)) (الكهف:1-3) . وتمضي الآيات مسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان حريصاً على هداية الخلق يُسرُّ بإيمان المؤمنين ، ويأسف على المكذبين فأمره الله بأن لا تذهب نفسه عليهم حسرات فقال : ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ)) (الكهف:6) .
أي مهلكها غماً وأسفاً عليهم فلا تفعل فأجرك على الله ، وهؤلاء المنحرفين لو علم الله فيهم خيراً لهداهم .
وفي هذا دليل لكل داعٍ إلى الخير أن عليه التذكير وبذلُ السبب فإن اهتدوا فبها ونعمت وإلا فلا يحزن ولا يأسف فإن ذلك يضعف النفس ويهدم القوى بلا فائدة ترجى ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)) (الغاشية:21-22) .
ثم أخبر الله عز وجل بأنه جعل جميع ما على وجه الأرض من مآكل ومشارب وأشجار وأنهار وزروع وثمار زينة لهذه الدار فتنة واختباراً وأنَّ جميعَ ما على الأرض مضمحلٌ زائل ، وستعود الأرض صعيداً جُرُزاً ((إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً* وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً)) (الكهف:7-8) .
ثم تجئ قصةُ أصحاب الكهف وهو الغار الواسعُ في الجبل .
والرقيم : لوح ٌمن حجارة كُتبت فيه قصتهم وأسماؤهم .
وأصحاب الكهف : فتيةٌ مؤمنون خرجوا من بلادهم فراراً بدينهم ، وخوفاً على عقيدتهم ، فلجئوا إلى غارٍ واسع في الجبل بعدما قوّى الله عزائمهم فقاموا على رؤوس الملأ وقالوا : ((رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً)) (الكهف:14) .
وحينما دخلوا الغار ضرب الله على آذانهم أي أنامهم ثلاث مئةٍ وتسع سنين بدون طعام ولا شراب وهم بقدرة الله يقلبون من جنب إلى جنب ، فإذا طلعت الشمس مالت عن كهفهم ذات اليمن، وإذا غربت تتركهم فلا تصيبهم ذات الشمال ((ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ)) (الكهف:17).
ثم إن الله بعثهم من رقدتهم الطويلة وأطلع الناس على خبرهم ليستفيدوا من ذلك دروساً وعبراً ، وليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها .
وفي قصة أصحاب الكهف أعظم دليل على أن من فرَّ بدينه من الفتن سَلّمه الله منها ، وأن من حّرِصَ على العافية عافاه الله ، ومن أوى إلى الله آواه الله وجعله هداية لغيره ، ومن تحمل في سبيله وابتغاء مرضاته كان آخرَ أمره وعاقبته العزُ العظيمُ من حيث لا يحتسب ، وما عند الله خير للأبرار .
أيها المسلمون : وفي السورة يأمر الله نبيه محمداً r وغيره أسوته في الأوامر والنواهي أن يصبر نفسه مع المؤمنين المنيبين ((الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)) (الكهف:28).
وحذره من زهرة الدنيا والركون إلى المترفين الذين غفلوا عن ذكر الله ((وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)) (الكهف:28) .
فقد ضيّعوا مصالح دينهم ودنياهم وأعرضوا عن دين الله واتبعوا أهوائهم وضيّعوا أمر الله فويلٌ لهم من عذاب أليم ونارٍ وجحيم تحيط بهم من كل جانب فلا يستطيعون الخروج منها ((إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً)) (الكهف:29) إنها ساءت مستقراً ومقاما .
أمَّا أهل الإيمان الذين أجابوا داعي الله ، وآمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات والواجبات والمستحبات فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ((أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ)) (الكهف:31) .
وهي السرر المجملة بالثياب الفاخرة (( نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)) (الكهف:31) .
وبعد هذا تأتي قصةُ صاحب الجنتين وكيف اغتر بماله وجاهه ((وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً)) (الكهف:35) .
فزعم أن ما هو فيه من نعيم دنيوي لن يزول ولن يحول ، ثم ترقى به الأمر وبلغ به الكفر إلى إنكار البعث وقيام الساعة ((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً )) (الكهف:36) .
ولم يستمع إلى نصح الناصحين وتذكير الصالحين فما هي إلا لحظات حتى((وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ)) (الكهف:42) .
فدُمِّرَ بستانه وذهب ما كان يعتزُّ به وأصيب بالحسرة والندامة على ما فرّط وأجرم ، فسبحان الله ما أضعف الإنسان وما أعظم جحوده وطغيانه (( كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)) (العلق:6-7).
كيف يغْفلُ المرء عن الحياة وسرعةِ زوالها ، وتَغَيّرها وتبدل أحوالها ، فالمغرور حقاً من اغتر بها واطمأن إليها .
ثم تَعْرضُ السورة الكريمة لعداوة إبليس لآدم وذريته وأن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم إكراماً وامتثالاً لأمر الله ((فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا)) (الكهف:50) .
ولقد استحوذ الشيطان وذريته على كثير من الناس فلم ينتفعوا بتحذير الله لهم من كيد الشيطان بل وقعوا في مكائده وحبائله مع أنه يتبرأ منه يوم القيامه ويقول : ((إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ)) (إبراهيم:22) .
أعاذنا الله جميعاً من الشيطان الرجيم ونفعنا بمواعظ القرآن العظيم وهدانا صراطه المستقيم إنه جوادٌ كريم .
أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أنزل على رسوله من أخبار السابقين ، وقصص الغابرين ما يثبت به قلوب المؤمنين ويكون عبرةً للمعتبرين . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . قال وهو أصدق القائلين : ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)) (يوسف:3).
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وخاتم النبيين صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من سلك طريقهم إلى يوم الدين .
أما بعد :
ففي أواخر سورة الكهف يخبر الله تعالى عن نبيه موسى عليه السلام وشدة رغبته في الخير وطلب العلم حيث قال لفتاه أي خادمه (( لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ)) (الكهف:60) .
أي لا أزال مسافراً وإن طالت علي الشقة ولحقتني المشقة حتى أصل إلى مجمع البحرين وهو المكان الذي أُحي إلى موسى أنه سيجدُ فيه الخضرَ عليه السلام .
وسبب ذلك : ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : حدثني أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسُئلَ : أيُّ الناس أعلم ؟ فقال : أنا فعتب الله عليه إذ لم يردَّ العلمَ إليه فقال له : بلى ، لي عبدٌ بمجمع البحرين هو أعلم منك . قال : أي رب ومن لي به ؟ قال : تأخذ حوتاً فتجعلُهُ في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمَّ . فأخذ موسى عليه السلام حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق هو وفتاه يوشعُ بن نونٍ حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فرقد موسى واضطرب الحوتُ فخرج فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا ، فأمسك الله عن الحوت جريه الماء فصار مثل الطاق فلما استيقظا نسي صاحبُهُ أن يخبره بالحوت فانطلقا بقيةَ يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال : ولم يجد موسى النصب حتى جاوزا المكان الذي أمر الله به ، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيتُ الحوتَ وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً . قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجباً فقال موسى : ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصاً ، قال : رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل قد استلقا على قفاه قد غطى وجهه بثوب وهو الخضر وإنما سمي الخضر لأنه جلس على أرض بيضا فإذا هي تهتزُّ تحته خضراءَ معشبة
فلما رآه موسى سلّم عليه فكشف الثوب عن وجهه وقال وعليكم السلام ، هل بأرضي من سلام مَنْ أنت ؟ قال : أنا موسى . فقال الخضر : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم أتيتُك لتعلمني مما علمت رشدا قال : إنك لن تستطيع معي صبراً يا موسى إني على علم من الله علمنيه لا تعلَمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه فقال موسى : ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً فقال له الخضرُ : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتى أحدث لك منه ذكراً ، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمّرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير أجرة ، فلما ركبا في السفينة لم يَفَجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم فقال له موسى : قومٌ حملونا بغير أجرة عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا .
قال رسول الله r : كانت الأولى من موسى نسياناً قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر : ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثلُ ما نقص هذا العصفور من هذا البحر)) .
إلى آخر الحديث وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يرحم الله موسى وددنا أنه كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما)) (فتح الباري 6/499) .
وفي هذه القصة من الحكم والفوائد ما يضيق المقام عن ذكره .
وبعد هذا يأتي نبأُ مفيدٌ وخطابٌ عجيب عما سُئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبر ذي القرنين الذي بلغ المشرق والمغرب قال تعالى : ((وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً )) (الكهف:83)
وذو القرنين مَلِكٌ [ قال ابن تيمية قصة أحسن قصص الملوك ] مؤمنٌ صالح عادل مكن الله له في الأرض فطاف المشارق والمغارب وأقام العدل والخير والإصلاح وبنى ذلك السدَّ المكين ليحمي الناسَ من شر يأجوج ومأجوج وهما أمتان من سلالة آدم عليه السلام يخرجون على الناس فيفسدون في الأرض وخروجوهم من علامات الساعة الكبرى ، قال تعلى : ((حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ.. )) (الانبياء:96) .
فبنى ذو القرنين سداً عظيماً ليمنع غارات يأجوج ومأجوج عل من حولهم (( ولا يزال السدُ بأمر الله موجوداً وهو كتلٌ هائلة من الحديد المخلوط بالنحاس موجود في جبال القوقاز في جمهمورية جورجيا السوفيتية [ انظر كتاب ذو القرنين محمد خير رمضان يوسف ط " الكلم 200 صفحة ] وهذه إحدى معجزات دين الإسلام ونبوة سيد الأنام فمن أداراه بهذا السد الذي لم يكتشف إلا بعد وفاته بقرون .
وحينما انتهى ذو القرنين من بناء السد أضاف النعمة إلى موليها وقال : (( قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي)) (الكهف:98) .
أي من فضله وإحسانه عليَّ وفي هذا أعظم دليل على صلاحه وفلاحه وبُعدِهِ عن التكبر والعلو ((فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي)) (الكهف:98) .
أي لخروجَ يأجوج ومأجوج ((جَعَلَهُ)) (الكهف:98) .
أي ذلك السدَّ المحكم المتقن ((دَكَّاء)) (الكهف:98) أي دكه فانهدم واستوى مع الأرض ((وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً)) (الكهف:98) .
وبعد أيها الإخوة فكل ما جاء في سورة الكهف من أخبارٍ عجيبة إنما وردت بقصدِ العظات والعبر والتذكير بعظمة الله وسعة علمه وعظيم سلطانه وقدرته ( لا إله غيره ولا رب سواه ) .
وثم تُختمُ السورة بالإخلاص والنهي عن الشرك كما بدأت بذكر الوحي والتوحيد فافتتحت بذكر الألوهية واختتمت بذكر الربوبية . ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)) (الكهف:110)
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يعلمنا ما جهلنا,,,
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى