مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د. رياض بن محمد المسيميري
صُنَّاعُ مأساتنا
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ لـه . وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله . ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون))]آل عمران:102[. ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ))]النساء:1[ .((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ))]الأحزاب:70-71[ .
أما بعدُ : فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ r وشرَّ الأمورِ مـُحدثاتُها, وكلَّ محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعد ، أيها المسلمون :
فإنَّ الجميعَ معترفون بسوءِ الأوضاع , وتردي الأحوال , التي آل إليها المسلمون في هذا الزمان , بيدَ أنَّ الكثيرَ منهم لا يزالون حتى الآن يجهلونَ أولئك الذين صنعوا مأساةَ الأمة , وقادوها إلى واقعهِا الكئيب , التي تعشيه اليوم .
وحريٌّ بالأمة وقد بدأتْ تستعيدُ شيئاً من عافيتها , وتصحو من غفلتِها الطويلة, حريٌ بها أن تتعرف على هوية أولئك الذين تسلطوا على أبناء الأمة , يعبثونَ بعقائِدهم , ويدنسون أخلاقهم , ويُهمشِّون دورَهم في الحياة , حتى صَدَقَ فيهم قولُ نبيهم عليه الصلاة والسلام : (( أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ))[1].
وفي ظنِّنا أنَّ كشفَ القناع عن تلك الوجوه القبيحة , وتعريةَ تلك البؤر الفاسدة, هي إحدى خطوات تصحيح المسار, والأخذ بيد الأمةِ إلى جادة الصواب , لقد تقاسم أولئك المفسدون , الذين نحن بصدد الحديث عنهم , تقاسموا الأدوارَ فيما بينهم, حتى لكأنّهم فريقُ عملٍ موحد , لكلِ واحدٍ منهم دورهُ المرسوم , ووظيفتُه المحددة, وصلاحياتُه الواسعة في التضليلِ والإغواء, ويشرفُ على الجميع, كبيرُ الشياطين إبليس - عليه لعنة الله -فبعضُهم قد تخصصَ في تمييع العقائد, وآخرون تخصصوا في إفساد الأخلاق , وأبدع غيرهم في تدمير الشباب خاصَّة, وتولتْ شراذمُ أُخر, مسؤولية إفسادِ المرأة وتغريبِها, وهذا أوان الشروع في المقصود, نصحاً للأمة , ومعذرةً إلى ربكم ولعلهم يتقون .
ألا إن من أبرز الذين ساهموا في صنع مأساتنا, وتجسيد معاناتنا, وسوقِ أمتنا إلى ما تكابُده اليوم من التخبطاتِ العقدية, والسخافاتِ الوثنية , هم أولئك الفجرة من علماء الضلالة , وأحبارِ السوء , والذين أفلحوا في سلخِ قطاعٍ كبيرٍ من أبناء الأمة, وسوقهم إلى عتباتِ المقابر, حيث تذبحُ القرابين , وتسكبُ العبرات , وتقدسُ أكوام التراب, ويطلبُ المدد , وتفريجُ الكُرَب , من تلك العظام البالية , واللحوم المتقطعة في وثنية صارخة , وهمجية سافلة , حارت بها العقول, وتقطعت من هولها الأكباد
ويحدثُ ذلكَ كلُه تحتَ سمعِ وبصرِ أصحاب العمائمِ البيضاءِ ، والقلوبِ السوداءِ , الذينَ خَدَعُوا الجماهير بعباءتهم المُنمَّقة , وهيئاتهم المصطنعة , ومسابحهم الطويلة , وأوقعوا في شباكِهم عامةَ الناس وخاصَّتهم , فَطَافَ بالأضرحة المهندسونَ والأطباء , والمثقفونَ والوجهاء , فضلاً عن السذَّجِ والمغفلين , والعجائز والمشعوذين , ألا إنَّها ردةٌ ولا أبا بكرَ لها .
كما أفلحَ الصوفيون , في سلخِ جزءٍ آخرَ من الأمة, وسوقهِ إلى زواياهُم الكئيبة , ومجالسهُم المظلمة ، حيث الضحكُ على الذقون , والسخريةُ من العقول , وحيثُ الدجلُ الفاضح , والكذبُ الواضح , ولقد نَجَحَ أولئك الخرافيين في تصويرِ الدينِ لدى أتباعِهم بأنَّه دروشةٌ وسذاجة , وابتهالاتٌ وأناشيد ورقصٌ وطربٌ وغناء , ويكفي لدخول الجنَّة أن تُهللَ ألف مرَّة, ثم لا عليك بعد ذلك أن ترددَ ورائهم :
يا أكرمَ الخلقِ ما لي من ألوذُ بهِ سواكَ عندَ حدوثِ الحادثِ العَمَمِ
فـإنَّ من جودكَ الدنيا وضرَّتها ومـن علومكَ علمُ اللوحِ والقلمِ
وهما بيتان للبوصيري , يجلي فيهما بوضوح تلك الحالةَ المفجعة , التي آل إليها هو وأمثالُه من المتصوفة , من الغلو المُفرَط , بشخصِ رسولِ الله r , حينَ منحوه خصائصَ الربوبية , وأشركوه في مقام الألوهية , وقد انساق وراءَ أولئك المنحرفين , جهلةُ الناسِ ومغفلهم , منخدعينَ بمعسولِ عـباراتهم , وزيفِ دعواهم .
وويلٌ لك أيها السلفي, ثم ويلٌ لك, لو أنكرتَ عليهم صنيعَهم, أو حـذرتَهم مغبَّة غلوهِم , فستكون ساعتها مبغضاً لرسول الله r ، منتقصاً لجنابه الشريف , ويا لله العجب تأرجحت الموازين ! وانقلبت المعايير .
إذا وصَفَ الطائيَ بالبخـل مـادرُ وعيَّر قُسَّاً بالفهامة بـاقلُ
وطاولتْ الأرضُ السماءَ سفاهـةً وناطحتِ السحبَ الحصى والجنادلُ
وقال السُهـا للشـمس أنتِ خفيةٌ وقال الدُجى للصبح لونكَ حائلُ
فيـا موتُ زرْ إن الحـياةَ مـريرةٌ ويا نفسُ جدي إن دهرك هازلُ
كما ساهمَ في صنعِ واقعنا الكئيب كذلك دجاجلةُ العالم , وشذاذُ الآفاق , وشرُّ من وطئ الحصى , من الروافض الفجرة , فقد أفلحوا في سلخِ جزءٍ آخرَ من الأمة , والعبث بعقائِده وأفكاره , وتصوراتِه واهتماماته , من خلالِ أُكذوبة نُصرةِ آل البيت , وعبرَ قنطرةِ الدفاعِ عن حقوقهم في الإمامةِ والخلافة, وصَوَّروا في أذهانِ المخدوعين بأفكارهِم, والمغترين بدعواتهم , صوَّروا صحابةَ رسول الله r بأنَّهم مغتصبوا الخلافة , ومحرفُوا القرآن , وبالغوا في ذمهم ولعنهِم, حتى كفروهم عن آخرهم – إلا بضعةَ نفر من الموالي – وخصَّوا باللعن والتكفير الخليفتين الراشدين , أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – وخاضوا في عرضِ زوجاتِ رسول الله r , في جراءةٍ بالغة , وهمجية سافرة , ولا يزال أولئك المجرمون يعيثون في الأرض فسادا,ً ويروجون لمذهبهم الباطل , ونحلتهم الضالة , وأصبحتْ لهم دولةٌ وصولة , وشوكةٌ وقوة , وذرعوا الدنيا طولاً وعرضاً, وجيئةً وذهاباً , يستغلونَ بساطةَ الناس وسذاجتهم , وفقرَهم وحاجتَهم, ولا يزال الرفضُ آخذاً في الامتدادِ والاتساع , بفعل الجهود الجبَّارة, والحماسةِ البالغة التي يبذلها طواغيتهُ ومجرمُوه , فاللهم إنَّا نشكو إليك جَلَدَ المُنافق, وبلادةَ المؤمن .
كما ساهَمَ في صنعِ واقعنا الكئيب , وسلخِ قطاعٍ آخر من الأمةِ وتضليله , دعاةُ القوميات الجاهلية , الهادفونَ إلى قطعِ أواصرِ الأُلفة والمحبة بين أبناءِ الأمة الواحدة , واستبدالِ رابطةِ الدينِ والعقيدة, بروابطِ اللونِ والجنسِ واللغة , فمن داعٍ إلى القوميةِ العربية , ومن منادٍ بالقومية التركية , ومـن متعصب إلى القومية الفارسية , وقد أَفلَحَ أولئكَ القوميون في استقطابِ بعضِ التافهين المعجبين بأطروحاتهم , المغترينَ بسخافاتِهم . ونادى مناديهم , حيَّ على العروبة , حيَّ على العروبة المُقدسَّة , فعلموا تلاميذهم في المدارس :
أنا عربي, عربي, أحب كُلَّ العرب , فهو يحبُ العربي , وإن كـان رافـضياً, ويحبُّ العربي وإن كان نُصيرياً , ويحبُّ العربي وإن كانَ بعثياً, ويحبُّ العربي وإن كانَ دُرزياً , ويحبُّ العربي وإن كـانَ قبطياً, ويُحبُّ العربي وإن كـان علـمانياً, فـهو عربيٌ , عـربيٌ , يحبُّ كُـلَّ العـربِ , فكلهم عرب تجمعُهم العروبةُ المقدسة .
كما سَاهَمَ في صنعِ واقعنا الكئيب , دعاةُ الوطنية , الذين قدسَّوا أوطَانهم على حسابِ العقيدة , وأنشد شاعر هم :
وطني لـو شغلـت بالخلـدِ عنهُ نـازعتني إليهِ في الخُلـدِ نفسـي
ويقول آخر :
وطـني لـو صوروه لـي وثنـاً لَهمَمـتُ ألثُـمُ ذلـكَ الـوثنـا
إنَّ الأوطانَ أيها الوطنيون , لا تُحَبُ إلاَّ بمقدار حبِّ أهلها لله , وبمقدارِ تمسكهم بشرع الله , وبغيرِ ذلك تصبحُ الأوطانُ مجردَ أتربةٍ وأحـجارٍ , لا قيـمةَ لها .
كما ساهم في صنع واقعنا الكئيب , وسلخ قطاعٍ آخرَ من الأمة , أولئك المتفرنجون من العلمانيين وأشباهِهم , حين صَبَغُوا الأمة بصبغة أجنبيةٍ فاضحة, ورَسَمُوا لها منهجَ حياةِ ملفق , وقادوا البائسين إلى بؤرِ الفساد والفتنة, ومراتعِ الشرِّ والرذيلة , وجَرَّدوا الأمةَ من سرِّ قوتِها , وأساس نهضتِها , ومبعثِ عزتها .
وتنكَّروا لتاريخها , وكفروا بمسلماتها , وسخروا من ثوابتِها , وألبسوا الأمَّة ثياباً من الذلِّ سابغةً , وسَقـوها كـؤؤساً مـن الـهوان مُتـرعة , (( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) ]المنافقون: 4[.
كما أفلح غيرُهم في سلخِ قطاعٍ آخرَ من الأمة , ونجحوا في إلهائِه بالهوايات التافهة , والمسابقاتِ الفارغةِ , والبرامجِ السخيفة , فأضاعوا أعمارَهم وبدَّدوا أوقاتهم , وهم يركضونَ خلفَ السراب , ويدرون في حلقٍ مفرغة , حيارى تائهون , سُكارى يترنحون , يعيشونَ بلا مبدأ , ويحيونَ بلا قضية , هُمِّشت أدوارُهم , وسُكِّرت عقولُهم , فهم في غيِّهم يترددون .
أيها المسلمون :
هؤلاء بعض صنَّاع واقعنا الكئيب , ومد بروا أوضاعنا البائسة , ونكباتِنا المستمرة . فماذا نصنعُ أمامَ هذه الجحافل من المتأخرين ؟! وبماذا نواجه هذا الركامَ الضخمَ من البؤسِ والمعاناة ؟! أترانا نكتفي بالحوقلة والترجع , وندبِ الزمانِ البائسِ المنكود ؟! .
أتُرانا ننهزمُ ونيأس تحتَ ضغطِ الواقعِ الكئيب , ونرفعُ الرايةَ البيضاء إيذاناً بالاستسلام, وإعلاناً للانسحاب ؟! وهل يكون تكالبُ الأحزاب علينا ورميُهم إيانا عن قوسٍ واحدةٍ , مُسوغاً للفرار , ومُبرراً لتركِ الساحة لمكرهم ولكيدهم ؟! وفجورهم وفسقهم ؟! . إنَّ الذي يفكرُ مجردَ التفكير , بوضع رايته , وإعلانِ هزيمته , جاهلٌ أحمق , أنانيٌ بطبعه , غبيٌ في عقله , محدودٌ في أُفقه , لم يقرأ القرآن , ولم يتأملْ السنة , ولم يتصفحِ التاريخ , يعبدُ الله على حرف فإنْ أصابهُ خيرٌ اطمأنَّ به , وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه . لم يقرأ قولـه تعالى : (( وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ))]آل عمران: 20[1 , ولم يقرأ كذلك قوله : (( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْدا ً* فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ))]الطارق:15-17[ , ولم يقرأ قولـه كذلك : ((فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)) ]القلم:44-45[ , ولم يسمع قولَ نبيه عليه الصلاة والسلام وهو يقول : (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خَذَلَهُم حتى يأتَي أمرُ الله ))[2].
ولم يفهم قوله عليه الصلاة والسلام : (( بدأ الإسلامُ غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء)) [3].
وفي رواية للترمذي ((الذين يُصلحون ما أفسَدَ النَّاس من بعدي من سنتي )) [4]. ولم يسمع نبيَّهُ علـيه الصلاة والسلام , وهـو يحدثٌ بلـغة الـواثق : « ليبلغنَّ هذا الأمرُ – أي هذا الدين – ما بَلَغَ الليلُ والنهار ولا يتركُ الله بيتَ وبرٍ ولا مدر , إلا أدخـلهُ اللهُ الإسلام , بعزِّ عزيز , أو بذلِّ ذليل , عزاً يعزُ الله به الإسلامَ وأهلَه , وذلاً يذلُّ اللهُ به الكفرَ وأهله )) [5].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وأيا كم بالذكر الحكيم .واستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله يعطي ويمنع, ويخفض ويرفع, ويضر وينفع, ألا إلى الله تصيرُ الأمور. وأصلي وأسلم على الرحمةِ المهداة, والنعمة المسداة, وعلى آله وأصحابه والتابعين,
أما بعدُ:
أخي المسلم :
فإذا أيقنت أنَّ العاقبة للمتقين , وآمنتَ بكلام ربِّ العالمين , وصَدَّقتَ بحديث نبيِّك العظيم , فحاشاك أن تخضعَ لكيدِ الكائدين , ومكرِ الماكرين , وحاشاك أن ترضخَ لأهوائهم , أو تركعَ لطغيانهم , وحذاري أن تخيفكَ صولةُ الباطل , وانتفاشة الطاووس , وتذكر قولـه تعالى : (( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ))]الأنبياء: 18[ .
ألا إن الغيورين من أبناء أمتنا , مطالبون بالذبِّ عن حرمات الدين بشجاعة , والذود عن عرينه بقوة , ونُصرتِه بالنفسِ, والمال,ِ والجهد .
ألا إن نصرةَ الدين ليست دعاوى ألسنة , إنَّ نصرة الدين جهادٌ وفداء , وبذلٌ وعطاء , ودموعٌ ودماء , وجروحٌ وأشلاء , وتعبٌ ونصب , وعـرقٌ ووصـب , (( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ )) (البقرة:214)
(( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) ]آل عمران:142-144 [ , (( يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) ]آل عمران:200[ .
((الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )) ]العنكبوت:1-3[ .
((وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ * وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))]الصافات:171-182[.
أيها المسلمون :
لقد حُفتِ الجنةُ بالمكاره , وحفتِ النارُ بالشهوات , فلا مفرَّ من التحديات الكثيرة ، والمشاقِّ الكبيرة , وكانَ لزاماً أن نصطدمَ بالعقبات الكؤود , والحواجزِ المتناثرة , وكان بد هياً أن نجدَ الطريقَ محفوفاً بالمخاطر , مليئاً بالأشواك , مزدحماً بالأعداء . ألا فليعدَّ الفارسُ للأمر عدَّته , وللجدِّ أهبتَه , وليهيأ النفسَ لمجابهة الصـائل , فإنه ما دعا إلى الحقِّ داعٍ إلا عودي في ذات الله , وحُورب في جنب الله , وفي هذا يقول الله تعالى : (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً)) ]الفرقان:31[ .
ألا فلينظرْ كلُ واحدٍ منَّا مواضعَ النبوغِ لديه , ومواقعَ الإبداعِ في نفسه , فيزكيها ويرعاها , ويستغلها بذكاء, ويطوَّعها بدهاء , لخدمة الدين , والذبِّ عن الملَّة , فكلٌ ميسرٌ لما خلق لـه , ومجالاتُ الدعوةِ واسعةٌ كثيرةٌ , والأمةُ بحاجةٍ إلى كلِّ الطاقاتِ الخيرةِ , متلهفةٌ لكلِّ الإبداعاتِ المخلصة . ومن جاهدَ بيده فهو مؤمن , ومن جاهدَ بلسانهِ فهو مؤمن , ومن جاهدَ بقلبه فهو مؤمن, وليسَ وراءَ ذلكَ من الإيمانِ حبةُ خردل .
اللهم إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوقُ إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،
اللهم زينا بزينةِ الإيمانِ واجعلنا هداةً مهتدين,لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة عليه إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وعلى أله وصحابته أجمعين .
وأرضي اللهم عن الخلفاء الراشدين أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهم آمنا في الأوطانِ والدور وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
[1] رواه أبو داود ( 4297 ) وأحمد (5/278 ) من حديث ثوبان t .
[2] رواه مسلم (156) من حديث جابر t.
[3] رواه مسلم (145) عن أبي هريرة .
[4] رواه الترمذي (2036) وقال : حسن صحيح .
[5] رواه أحمد (4/103) والطبراني في الكبير (1280) وقال في المجمع (6/14) : (رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح )
صُنَّاعُ مأساتنا
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ لـه . وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله . ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون))]آل عمران:102[. ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ))]النساء:1[ .((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ))]الأحزاب:70-71[ .
أما بعدُ : فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ r وشرَّ الأمورِ مـُحدثاتُها, وكلَّ محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعد ، أيها المسلمون :
فإنَّ الجميعَ معترفون بسوءِ الأوضاع , وتردي الأحوال , التي آل إليها المسلمون في هذا الزمان , بيدَ أنَّ الكثيرَ منهم لا يزالون حتى الآن يجهلونَ أولئك الذين صنعوا مأساةَ الأمة , وقادوها إلى واقعهِا الكئيب , التي تعشيه اليوم .
وحريٌّ بالأمة وقد بدأتْ تستعيدُ شيئاً من عافيتها , وتصحو من غفلتِها الطويلة, حريٌ بها أن تتعرف على هوية أولئك الذين تسلطوا على أبناء الأمة , يعبثونَ بعقائِدهم , ويدنسون أخلاقهم , ويُهمشِّون دورَهم في الحياة , حتى صَدَقَ فيهم قولُ نبيهم عليه الصلاة والسلام : (( أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ))[1].
وفي ظنِّنا أنَّ كشفَ القناع عن تلك الوجوه القبيحة , وتعريةَ تلك البؤر الفاسدة, هي إحدى خطوات تصحيح المسار, والأخذ بيد الأمةِ إلى جادة الصواب , لقد تقاسم أولئك المفسدون , الذين نحن بصدد الحديث عنهم , تقاسموا الأدوارَ فيما بينهم, حتى لكأنّهم فريقُ عملٍ موحد , لكلِ واحدٍ منهم دورهُ المرسوم , ووظيفتُه المحددة, وصلاحياتُه الواسعة في التضليلِ والإغواء, ويشرفُ على الجميع, كبيرُ الشياطين إبليس - عليه لعنة الله -فبعضُهم قد تخصصَ في تمييع العقائد, وآخرون تخصصوا في إفساد الأخلاق , وأبدع غيرهم في تدمير الشباب خاصَّة, وتولتْ شراذمُ أُخر, مسؤولية إفسادِ المرأة وتغريبِها, وهذا أوان الشروع في المقصود, نصحاً للأمة , ومعذرةً إلى ربكم ولعلهم يتقون .
ألا إن من أبرز الذين ساهموا في صنع مأساتنا, وتجسيد معاناتنا, وسوقِ أمتنا إلى ما تكابُده اليوم من التخبطاتِ العقدية, والسخافاتِ الوثنية , هم أولئك الفجرة من علماء الضلالة , وأحبارِ السوء , والذين أفلحوا في سلخِ قطاعٍ كبيرٍ من أبناء الأمة, وسوقهم إلى عتباتِ المقابر, حيث تذبحُ القرابين , وتسكبُ العبرات , وتقدسُ أكوام التراب, ويطلبُ المدد , وتفريجُ الكُرَب , من تلك العظام البالية , واللحوم المتقطعة في وثنية صارخة , وهمجية سافلة , حارت بها العقول, وتقطعت من هولها الأكباد
ويحدثُ ذلكَ كلُه تحتَ سمعِ وبصرِ أصحاب العمائمِ البيضاءِ ، والقلوبِ السوداءِ , الذينَ خَدَعُوا الجماهير بعباءتهم المُنمَّقة , وهيئاتهم المصطنعة , ومسابحهم الطويلة , وأوقعوا في شباكِهم عامةَ الناس وخاصَّتهم , فَطَافَ بالأضرحة المهندسونَ والأطباء , والمثقفونَ والوجهاء , فضلاً عن السذَّجِ والمغفلين , والعجائز والمشعوذين , ألا إنَّها ردةٌ ولا أبا بكرَ لها .
كما أفلحَ الصوفيون , في سلخِ جزءٍ آخرَ من الأمة, وسوقهِ إلى زواياهُم الكئيبة , ومجالسهُم المظلمة ، حيث الضحكُ على الذقون , والسخريةُ من العقول , وحيثُ الدجلُ الفاضح , والكذبُ الواضح , ولقد نَجَحَ أولئك الخرافيين في تصويرِ الدينِ لدى أتباعِهم بأنَّه دروشةٌ وسذاجة , وابتهالاتٌ وأناشيد ورقصٌ وطربٌ وغناء , ويكفي لدخول الجنَّة أن تُهللَ ألف مرَّة, ثم لا عليك بعد ذلك أن ترددَ ورائهم :
يا أكرمَ الخلقِ ما لي من ألوذُ بهِ سواكَ عندَ حدوثِ الحادثِ العَمَمِ
فـإنَّ من جودكَ الدنيا وضرَّتها ومـن علومكَ علمُ اللوحِ والقلمِ
وهما بيتان للبوصيري , يجلي فيهما بوضوح تلك الحالةَ المفجعة , التي آل إليها هو وأمثالُه من المتصوفة , من الغلو المُفرَط , بشخصِ رسولِ الله r , حينَ منحوه خصائصَ الربوبية , وأشركوه في مقام الألوهية , وقد انساق وراءَ أولئك المنحرفين , جهلةُ الناسِ ومغفلهم , منخدعينَ بمعسولِ عـباراتهم , وزيفِ دعواهم .
وويلٌ لك أيها السلفي, ثم ويلٌ لك, لو أنكرتَ عليهم صنيعَهم, أو حـذرتَهم مغبَّة غلوهِم , فستكون ساعتها مبغضاً لرسول الله r ، منتقصاً لجنابه الشريف , ويا لله العجب تأرجحت الموازين ! وانقلبت المعايير .
إذا وصَفَ الطائيَ بالبخـل مـادرُ وعيَّر قُسَّاً بالفهامة بـاقلُ
وطاولتْ الأرضُ السماءَ سفاهـةً وناطحتِ السحبَ الحصى والجنادلُ
وقال السُهـا للشـمس أنتِ خفيةٌ وقال الدُجى للصبح لونكَ حائلُ
فيـا موتُ زرْ إن الحـياةَ مـريرةٌ ويا نفسُ جدي إن دهرك هازلُ
كما ساهمَ في صنعِ واقعنا الكئيب كذلك دجاجلةُ العالم , وشذاذُ الآفاق , وشرُّ من وطئ الحصى , من الروافض الفجرة , فقد أفلحوا في سلخِ جزءٍ آخرَ من الأمة , والعبث بعقائِده وأفكاره , وتصوراتِه واهتماماته , من خلالِ أُكذوبة نُصرةِ آل البيت , وعبرَ قنطرةِ الدفاعِ عن حقوقهم في الإمامةِ والخلافة, وصَوَّروا في أذهانِ المخدوعين بأفكارهِم, والمغترين بدعواتهم , صوَّروا صحابةَ رسول الله r بأنَّهم مغتصبوا الخلافة , ومحرفُوا القرآن , وبالغوا في ذمهم ولعنهِم, حتى كفروهم عن آخرهم – إلا بضعةَ نفر من الموالي – وخصَّوا باللعن والتكفير الخليفتين الراشدين , أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – وخاضوا في عرضِ زوجاتِ رسول الله r , في جراءةٍ بالغة , وهمجية سافرة , ولا يزال أولئك المجرمون يعيثون في الأرض فسادا,ً ويروجون لمذهبهم الباطل , ونحلتهم الضالة , وأصبحتْ لهم دولةٌ وصولة , وشوكةٌ وقوة , وذرعوا الدنيا طولاً وعرضاً, وجيئةً وذهاباً , يستغلونَ بساطةَ الناس وسذاجتهم , وفقرَهم وحاجتَهم, ولا يزال الرفضُ آخذاً في الامتدادِ والاتساع , بفعل الجهود الجبَّارة, والحماسةِ البالغة التي يبذلها طواغيتهُ ومجرمُوه , فاللهم إنَّا نشكو إليك جَلَدَ المُنافق, وبلادةَ المؤمن .
كما ساهَمَ في صنعِ واقعنا الكئيب , وسلخِ قطاعٍ آخر من الأمةِ وتضليله , دعاةُ القوميات الجاهلية , الهادفونَ إلى قطعِ أواصرِ الأُلفة والمحبة بين أبناءِ الأمة الواحدة , واستبدالِ رابطةِ الدينِ والعقيدة, بروابطِ اللونِ والجنسِ واللغة , فمن داعٍ إلى القوميةِ العربية , ومن منادٍ بالقومية التركية , ومـن متعصب إلى القومية الفارسية , وقد أَفلَحَ أولئكَ القوميون في استقطابِ بعضِ التافهين المعجبين بأطروحاتهم , المغترينَ بسخافاتِهم . ونادى مناديهم , حيَّ على العروبة , حيَّ على العروبة المُقدسَّة , فعلموا تلاميذهم في المدارس :
أنا عربي, عربي, أحب كُلَّ العرب , فهو يحبُ العربي , وإن كـان رافـضياً, ويحبُّ العربي وإن كان نُصيرياً , ويحبُّ العربي وإن كانَ بعثياً, ويحبُّ العربي وإن كانَ دُرزياً , ويحبُّ العربي وإن كـانَ قبطياً, ويُحبُّ العربي وإن كـان علـمانياً, فـهو عربيٌ , عـربيٌ , يحبُّ كُـلَّ العـربِ , فكلهم عرب تجمعُهم العروبةُ المقدسة .
كما سَاهَمَ في صنعِ واقعنا الكئيب , دعاةُ الوطنية , الذين قدسَّوا أوطَانهم على حسابِ العقيدة , وأنشد شاعر هم :
وطني لـو شغلـت بالخلـدِ عنهُ نـازعتني إليهِ في الخُلـدِ نفسـي
ويقول آخر :
وطـني لـو صوروه لـي وثنـاً لَهمَمـتُ ألثُـمُ ذلـكَ الـوثنـا
إنَّ الأوطانَ أيها الوطنيون , لا تُحَبُ إلاَّ بمقدار حبِّ أهلها لله , وبمقدارِ تمسكهم بشرع الله , وبغيرِ ذلك تصبحُ الأوطانُ مجردَ أتربةٍ وأحـجارٍ , لا قيـمةَ لها .
كما ساهم في صنع واقعنا الكئيب , وسلخ قطاعٍ آخرَ من الأمة , أولئك المتفرنجون من العلمانيين وأشباهِهم , حين صَبَغُوا الأمة بصبغة أجنبيةٍ فاضحة, ورَسَمُوا لها منهجَ حياةِ ملفق , وقادوا البائسين إلى بؤرِ الفساد والفتنة, ومراتعِ الشرِّ والرذيلة , وجَرَّدوا الأمةَ من سرِّ قوتِها , وأساس نهضتِها , ومبعثِ عزتها .
وتنكَّروا لتاريخها , وكفروا بمسلماتها , وسخروا من ثوابتِها , وألبسوا الأمَّة ثياباً من الذلِّ سابغةً , وسَقـوها كـؤؤساً مـن الـهوان مُتـرعة , (( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) ]المنافقون: 4[.
كما أفلح غيرُهم في سلخِ قطاعٍ آخرَ من الأمة , ونجحوا في إلهائِه بالهوايات التافهة , والمسابقاتِ الفارغةِ , والبرامجِ السخيفة , فأضاعوا أعمارَهم وبدَّدوا أوقاتهم , وهم يركضونَ خلفَ السراب , ويدرون في حلقٍ مفرغة , حيارى تائهون , سُكارى يترنحون , يعيشونَ بلا مبدأ , ويحيونَ بلا قضية , هُمِّشت أدوارُهم , وسُكِّرت عقولُهم , فهم في غيِّهم يترددون .
أيها المسلمون :
هؤلاء بعض صنَّاع واقعنا الكئيب , ومد بروا أوضاعنا البائسة , ونكباتِنا المستمرة . فماذا نصنعُ أمامَ هذه الجحافل من المتأخرين ؟! وبماذا نواجه هذا الركامَ الضخمَ من البؤسِ والمعاناة ؟! أترانا نكتفي بالحوقلة والترجع , وندبِ الزمانِ البائسِ المنكود ؟! .
أتُرانا ننهزمُ ونيأس تحتَ ضغطِ الواقعِ الكئيب , ونرفعُ الرايةَ البيضاء إيذاناً بالاستسلام, وإعلاناً للانسحاب ؟! وهل يكون تكالبُ الأحزاب علينا ورميُهم إيانا عن قوسٍ واحدةٍ , مُسوغاً للفرار , ومُبرراً لتركِ الساحة لمكرهم ولكيدهم ؟! وفجورهم وفسقهم ؟! . إنَّ الذي يفكرُ مجردَ التفكير , بوضع رايته , وإعلانِ هزيمته , جاهلٌ أحمق , أنانيٌ بطبعه , غبيٌ في عقله , محدودٌ في أُفقه , لم يقرأ القرآن , ولم يتأملْ السنة , ولم يتصفحِ التاريخ , يعبدُ الله على حرف فإنْ أصابهُ خيرٌ اطمأنَّ به , وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه . لم يقرأ قولـه تعالى : (( وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ))]آل عمران: 20[1 , ولم يقرأ كذلك قوله : (( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْدا ً* فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ))]الطارق:15-17[ , ولم يقرأ قولـه كذلك : ((فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)) ]القلم:44-45[ , ولم يسمع قولَ نبيه عليه الصلاة والسلام وهو يقول : (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خَذَلَهُم حتى يأتَي أمرُ الله ))[2].
ولم يفهم قوله عليه الصلاة والسلام : (( بدأ الإسلامُ غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء)) [3].
وفي رواية للترمذي ((الذين يُصلحون ما أفسَدَ النَّاس من بعدي من سنتي )) [4]. ولم يسمع نبيَّهُ علـيه الصلاة والسلام , وهـو يحدثٌ بلـغة الـواثق : « ليبلغنَّ هذا الأمرُ – أي هذا الدين – ما بَلَغَ الليلُ والنهار ولا يتركُ الله بيتَ وبرٍ ولا مدر , إلا أدخـلهُ اللهُ الإسلام , بعزِّ عزيز , أو بذلِّ ذليل , عزاً يعزُ الله به الإسلامَ وأهلَه , وذلاً يذلُّ اللهُ به الكفرَ وأهله )) [5].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وأيا كم بالذكر الحكيم .واستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله يعطي ويمنع, ويخفض ويرفع, ويضر وينفع, ألا إلى الله تصيرُ الأمور. وأصلي وأسلم على الرحمةِ المهداة, والنعمة المسداة, وعلى آله وأصحابه والتابعين,
أما بعدُ:
أخي المسلم :
فإذا أيقنت أنَّ العاقبة للمتقين , وآمنتَ بكلام ربِّ العالمين , وصَدَّقتَ بحديث نبيِّك العظيم , فحاشاك أن تخضعَ لكيدِ الكائدين , ومكرِ الماكرين , وحاشاك أن ترضخَ لأهوائهم , أو تركعَ لطغيانهم , وحذاري أن تخيفكَ صولةُ الباطل , وانتفاشة الطاووس , وتذكر قولـه تعالى : (( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ))]الأنبياء: 18[ .
ألا إن الغيورين من أبناء أمتنا , مطالبون بالذبِّ عن حرمات الدين بشجاعة , والذود عن عرينه بقوة , ونُصرتِه بالنفسِ, والمال,ِ والجهد .
ألا إن نصرةَ الدين ليست دعاوى ألسنة , إنَّ نصرة الدين جهادٌ وفداء , وبذلٌ وعطاء , ودموعٌ ودماء , وجروحٌ وأشلاء , وتعبٌ ونصب , وعـرقٌ ووصـب , (( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ )) (البقرة:214)
(( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) ]آل عمران:142-144 [ , (( يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) ]آل عمران:200[ .
((الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )) ]العنكبوت:1-3[ .
((وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ * وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))]الصافات:171-182[.
أيها المسلمون :
لقد حُفتِ الجنةُ بالمكاره , وحفتِ النارُ بالشهوات , فلا مفرَّ من التحديات الكثيرة ، والمشاقِّ الكبيرة , وكانَ لزاماً أن نصطدمَ بالعقبات الكؤود , والحواجزِ المتناثرة , وكان بد هياً أن نجدَ الطريقَ محفوفاً بالمخاطر , مليئاً بالأشواك , مزدحماً بالأعداء . ألا فليعدَّ الفارسُ للأمر عدَّته , وللجدِّ أهبتَه , وليهيأ النفسَ لمجابهة الصـائل , فإنه ما دعا إلى الحقِّ داعٍ إلا عودي في ذات الله , وحُورب في جنب الله , وفي هذا يقول الله تعالى : (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً)) ]الفرقان:31[ .
ألا فلينظرْ كلُ واحدٍ منَّا مواضعَ النبوغِ لديه , ومواقعَ الإبداعِ في نفسه , فيزكيها ويرعاها , ويستغلها بذكاء, ويطوَّعها بدهاء , لخدمة الدين , والذبِّ عن الملَّة , فكلٌ ميسرٌ لما خلق لـه , ومجالاتُ الدعوةِ واسعةٌ كثيرةٌ , والأمةُ بحاجةٍ إلى كلِّ الطاقاتِ الخيرةِ , متلهفةٌ لكلِّ الإبداعاتِ المخلصة . ومن جاهدَ بيده فهو مؤمن , ومن جاهدَ بلسانهِ فهو مؤمن , ومن جاهدَ بقلبه فهو مؤمن, وليسَ وراءَ ذلكَ من الإيمانِ حبةُ خردل .
اللهم إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوقُ إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،
اللهم زينا بزينةِ الإيمانِ واجعلنا هداةً مهتدين,لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة عليه إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وعلى أله وصحابته أجمعين .
وأرضي اللهم عن الخلفاء الراشدين أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهم آمنا في الأوطانِ والدور وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
[1] رواه أبو داود ( 4297 ) وأحمد (5/278 ) من حديث ثوبان t .
[2] رواه مسلم (156) من حديث جابر t.
[3] رواه مسلم (145) عن أبي هريرة .
[4] رواه الترمذي (2036) وقال : حسن صحيح .
[5] رواه أحمد (4/103) والطبراني في الكبير (1280) وقال في المجمع (6/14) : (رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح )
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى