مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د. رياض بن محمد المسيميري
المعوِقون
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ لـه. وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102). (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) (النساء:1). (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) (الأحزاب:70-71).
أما بعدُ : فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ r وشرُّ الأمورِ مـُحدثاتُها, وكل محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار
أيَّها المسلمون :
فعلى الرغمِ من ابتعادِ المسلمين عن دينهم, و سيطرة الشهواتِ على نفوسهم, وفقدانهم الحماسَ و الغيرةَ للإسلام, وعلى الرغمِ من تكالبِ الأعداءِ من كلِّ حدبٍ وصوب, يرمونهم من قوسٍ واحدة, على الرغم من ذلك كلهِ فإنَّهُ لا تزالُ طائفةٌ من أمةِ محمد- صلى الله عليه و سلم- على الحق ظاهرين, لا يضرهم من خالفهم, ولا من خذلهم, فظهرَ الدُعاة والمصلحون, والوعاظُ والمرشدون, يُحاولون إعادةَ الشاردين, ويبثُون الأملَ في النفوسِ بحتميةِ انتصارِ هذا الدين, ويكشفونَ مُخططاتِ الكفارِ وألاعيبهم, و يفضحُون دسائسَ المنافقين و شُبها تُهم, ولقيّ كثيرٌ من أُولئكَ الدُعاةِ والمصلحين ألواناً من الأذى والتنكيل, على أيدي أعدائِهم من الكفار, وخدَّام الكفار, و ليس هذا بغريب, ولا بجديدٍ في طريق الدعوة, فاللهُ جلَّ جلاله يقول: (( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا )) (البقرة: من الآية217) .
و يقول سبحانه : (( آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )) (العنكبوت:3,2,1) .
أقولُ ليسَ هذا بغريبٍ على المسلمِ الذي يقرأُ أمثالَ هذه الآيات, و لكنَّ الغريبَ المؤسف, أن يتصدى لأولئكَ المصلحينَ أُناسٌ يدفعهم الجهل, أو الخبثُ إلى توهينِ العزائم, وإشاعةِ اليأسِ في النفوس, فيقُولُون لمن ينشرُ الدعوةَ إلى الله, و الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر, هل يصلحُ العطَّارُ ما أفسد الدهرُ ؟ لقد اتسع الخرقُ على الراقع, من أنت حتى تُصلح الكون ؟ ومن أنت حتى تواجهُ التيار؟ و تحجبُ الشمس بعباءتك ؟ لقد ذهبَ الإسلامُ مع أبي بكرٍ وعمر إلى غير ذلك ؟ من العباراتِ المرة , والسمِّ الزُعاف, بل إنَّهم قد يستعملون نصوصاً في غيرِ مواضعها, إمعاناً في التيئيسِ و التخذيل, كالاستشهادِ بحديثِ أنسٍ- رضي الله عنه-: ((اصبروا فإنَّهُ لا يأتي زمانٌ إلاَّ والذي بعدهُ شرٌ منه حتى تلقوا ربكم )) [1] ز
سمعتُ هذا من نبيكم r فيقولون : مافائدةُ الدعاةِ إذاً, والنتيجةُ معلومةً معروفة, فلنقتصرُ على بعضِ جوانبِ الإسلامِ في أنفسنا, في هذا الزمانِ البائس, ويحتجُون أيضاً بقولهِ- عليه الصلاة و السلام-: (( بدأ الإسلام غريباً و سيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء )) [2] .
فينسون أو يتناسون آخرَ الحديث, وهو قولهُ- عليه الصلاة السلام- فطُوبى للغرباءِ الذين يُصلحون ما أفسدَ الناس, كما ينسى أولئكَ المغفلون, أنَّهم بهذهِ العقليةِ المتخلفة, وبهذا الفهمِ السقيم, يُشاركُون في تعويقِ مسيرةِ الدعوة, وينصرونَ الهوى والشيطانَ في نفوسِ أولئكَ المُشمرين للدعوة, وليتَ أولئكَ المُعوقون حين تخلفوا عن القيامِ بالواجبِ, وقعدوا في بُيُوتهم, ليتهم كفُّوا شرهم, وألسنتهم عن ذاكَ التعويقِ و التخذيل, و في أمثالِ هؤلاءِ يقول الله تعالى : (( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً)) (الأحزاب:19,18) .
فليتقِ اللهَ أولئكَ المعوقُون المخذولون, و ليحذر أولئكَ أن يكونوا عوناً للكفرةِ و المجرمين, في الصدِّ عن سبيلِ الله, و نقولُ لهم أيضاً أنتم مُخطِئون في تصورِكم هذا, و في يأسِكم من روحِ الله, أتُكذبونَ بوعدِ الله و رسولهِ ؟
(( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) (النور:55) و يقولُ اللهُ سُبحانه : (( فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ )) (هود: من الآية49) .
إذاً فالعاقبةُ للإسلامِ لا محالة, ولو كرهَ المُعوِقُون المثبطُون, ثُمَّ إنَّهُ ليس في حديثِ أنسٍ السالفِ ذكره, ما يدلُ على ما يذهبون إليه, من التيئيسِ والتخذيل, ففي حديثِ أنسٍ يُخاطبُ النبي t أصحابه, أنَّ الجيلَ الذي بعدهم سيكُون شراً منهم, حتى يموتوا- أي الصحابة- و لا يعني هذا حتى قيامَ الساعة, والدليلُ على هذا تلك الفترةِ الذهبيةِ التي عاشها المسلمونَ في عهدِ عُمر بن عبد العزيز- رحمه الله- و أمَّا حديث: ((بدأ الإسلام غريباً و سيعود غريباً كما بدأ )) .
فليس ما يدلُ على أنَّهُ سيستمرُ غريباً إلى الأبد, بل إنَّ فيه ما يدلُ على عزِّ الإسلامِ وانتصاره, في قولـهِ- عليه السلام-: ((و سيعود غريباً كما بدأ)) .
لأنَّ الإسلامَ بدأ غريباً في مكة, فما لبثَ أن سادَ و انتشر, و سيطرَ على الدنيا كلِّها, وسيعودُ غريباً, ثُمَّ تزولُ غربته, فيسودُ وينتشرُ كالمرةِ الأولى, ويدلُ على ذلك بشائرَ عديدة, تُبشرُ بنصرةِ هذا الدين, و تمكنهُ في الأرض, فمن تلك البشائر, قولهُ- عليه الصلاة و السلام-: (( ليبلغن هذا الأمر- أي هذا الدين- ما بلغ الليل و النهار و لا يترك الله بيت و بر و لا مدر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام و ذلاً يذل الله به الكفر)) .
ومن البشائرِ كذلك ما أخبرَ به- عليه السلام- من أنَّ لنا جولةً غالبةً مع رُوما, سُئلَ عبدَ الله بن عمر- رضي الله عنهما- أيُّ المدينتينِ تُفتحُ أولاً ؟ القسطنطينية أو روما ؟ فدعا عبدُ الله بصندوقٍ لهُ حلقةً, فأخرج منه كتاباً وقال : (( بينما نحنُ جلوسٌ حولَ رسولِ الله r نكتبُ إذ سُئلَ- عليه و سلم-, أي المدينتين تفتح أولاً ؟ فقال:- عليه الصلاة و السلام- مدينة هرقل تفتح أولاً )) [3].
و قد فتحها محمدُ الفاتح- رحمه الله- و نحنُ بانتظارِ أن تفتحَ رُوما, و حسبهُ أن يكونَ قريباً, هذه بشائرُ تبشرُ بدولةِ الإسلامِ القادمة, و ملةَ الإسلامِ العالمية, وقد يتوهمُ البعضُ أنَّ ذلك كائنٌ عند نزولِ المسيحِ بن مريم في آخرِ الزمان, وهذا ليسَ بصحيح, لأنَّ في بعضِ الرواياتِ يذكرُ أخذَ الجزيةِ من الكفارِ, ولا جزيةَ عند نزولِ المسيح .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم, واستغفر الله لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة, والنعمةِ المُسداة, وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين,
أمَّا بعدُ:
أيُّها المسلمون:
فقد قسَّمَ- عليه الصلاة والسلام- مراحلَ الحُكمِ الذي تمرُ به الأمةُ الإسلامية, إلى خمسِ مراحل في قولهِ : (( إنَّ فيكم ما شاءَ الله أن تكون ثم يرفعها الله عز و جل, ثم تكونُ خلافةً على منهاجِ النبوة, و تكونُ فيكم ما شاءَ الله أن تكون, ثُمَّ يرفعها الله جلَّ جلاله, ثُمَّ يكون ملكاً عاضاً, فيكون فيكم ما شاءَ الله أن يكون, ثُمَّ يرفعها الله جلَّ جلاله, ثم يكونُ ملكاً جبرية فيكون فيكم ما شاءَ اللهُ أن يكون, ثُمَّ يرفعها الله جلَّ جلاله ثم تكونُ خلافةً على منهاج النبوة )) [4].
تعملُ بسنةِ النبي r, و يُلقي الإسلامِ بجرارهِ في الأرض, يرضى عنها ساكنُ السماءِ و ساكنُ الأرض, لا تدعُ السماءَ من قطرٍ إلاَّ صبتهُ مدراراً, ولا تدعُ الأرضَ من نباتها, و لا من بركاتها شيئاً إلاَّ أخرجته, و سكت- عليه الصلاة و السلام-, و لم يذكر بعد هذهِ المرحلةِ شيء .
والذي يبدو واللهُ أعلمُ أنَّ الملكَ العاض قد انتهى بانتهاءِ الدولةِ العثمانية, وأنَّنا الآنَ في المرحلةِ ما قبلَ الأخيرة, وفي فترةِ المخاضِ السابقة, للمرحلةِ الأخيرة, مرحلةُ عز الإسلامِ و نهضته, و حكمهِ الدُنيا من جديد، ومظهرهُ تلكَ الصحوةِ المباركة, التي يشهدُها المسلمونَ في كلِّ مكان، ومقصودنا من هذا الكلامِ كله, أن نردَّ على أولئكَ المعوقِين المخذِّلين, ونبشرُ بعودةِ الإسلامِ و نهضتهِ, ونثبتُ أنفسنا و السائرين في طريقِ الدعوة, بحتميةِ النصر, طال الزمان أو قصر هذا أمر, والأمر الآخر أن نذكر بأن الواجب هو الدعوةِ إلى اللهِ تعالى, و بذلِ الأنفسِ والأموالِ في سبيلِ هذا الدين, وفي سبيلِ دعوةِ الآخرين, أمَّا أن يهتدي الناسُ, وأمَّا أن يتوبَ الناسُ, وأمَّا أن يستجيبَ الناسُ, فهذا ليسَ في حسابِ الداعية, فالهدايةُ بيدِ اللهِ وحده, يهدي من يشاءُ و هو العزيزُ الحكيم ...
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا, ويقيناً صادقاً, وتوبةً قبلَ الموتِ, وراحةً بعد الموتِ, ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوق إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة, ولا فتنةً مضلة,
اللهمَّ زينا بزينةِ الإيمانِ, واجعلنا هُداةً مهتدين,لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين, يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه, إمام المتقين, وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
وأرض اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهمَّ آمنا في الأوطانِ والدُور, وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
[1] رواه البخاري (7068) .
[2] رواه مسلم (145) من حديث أبي هريرة t .
[3] رواه الإمام أحمد (6607) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص t .
[4] رواه الإمام أحمد (17939) من حديث النعمان بن بشير t .
المعوِقون
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ لـه. وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102). (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) (النساء:1). (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) (الأحزاب:70-71).
أما بعدُ : فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ r وشرُّ الأمورِ مـُحدثاتُها, وكل محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار
أيَّها المسلمون :
فعلى الرغمِ من ابتعادِ المسلمين عن دينهم, و سيطرة الشهواتِ على نفوسهم, وفقدانهم الحماسَ و الغيرةَ للإسلام, وعلى الرغمِ من تكالبِ الأعداءِ من كلِّ حدبٍ وصوب, يرمونهم من قوسٍ واحدة, على الرغم من ذلك كلهِ فإنَّهُ لا تزالُ طائفةٌ من أمةِ محمد- صلى الله عليه و سلم- على الحق ظاهرين, لا يضرهم من خالفهم, ولا من خذلهم, فظهرَ الدُعاة والمصلحون, والوعاظُ والمرشدون, يُحاولون إعادةَ الشاردين, ويبثُون الأملَ في النفوسِ بحتميةِ انتصارِ هذا الدين, ويكشفونَ مُخططاتِ الكفارِ وألاعيبهم, و يفضحُون دسائسَ المنافقين و شُبها تُهم, ولقيّ كثيرٌ من أُولئكَ الدُعاةِ والمصلحين ألواناً من الأذى والتنكيل, على أيدي أعدائِهم من الكفار, وخدَّام الكفار, و ليس هذا بغريب, ولا بجديدٍ في طريق الدعوة, فاللهُ جلَّ جلاله يقول: (( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا )) (البقرة: من الآية217) .
و يقول سبحانه : (( آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )) (العنكبوت:3,2,1) .
أقولُ ليسَ هذا بغريبٍ على المسلمِ الذي يقرأُ أمثالَ هذه الآيات, و لكنَّ الغريبَ المؤسف, أن يتصدى لأولئكَ المصلحينَ أُناسٌ يدفعهم الجهل, أو الخبثُ إلى توهينِ العزائم, وإشاعةِ اليأسِ في النفوس, فيقُولُون لمن ينشرُ الدعوةَ إلى الله, و الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر, هل يصلحُ العطَّارُ ما أفسد الدهرُ ؟ لقد اتسع الخرقُ على الراقع, من أنت حتى تُصلح الكون ؟ ومن أنت حتى تواجهُ التيار؟ و تحجبُ الشمس بعباءتك ؟ لقد ذهبَ الإسلامُ مع أبي بكرٍ وعمر إلى غير ذلك ؟ من العباراتِ المرة , والسمِّ الزُعاف, بل إنَّهم قد يستعملون نصوصاً في غيرِ مواضعها, إمعاناً في التيئيسِ و التخذيل, كالاستشهادِ بحديثِ أنسٍ- رضي الله عنه-: ((اصبروا فإنَّهُ لا يأتي زمانٌ إلاَّ والذي بعدهُ شرٌ منه حتى تلقوا ربكم )) [1] ز
سمعتُ هذا من نبيكم r فيقولون : مافائدةُ الدعاةِ إذاً, والنتيجةُ معلومةً معروفة, فلنقتصرُ على بعضِ جوانبِ الإسلامِ في أنفسنا, في هذا الزمانِ البائس, ويحتجُون أيضاً بقولهِ- عليه الصلاة و السلام-: (( بدأ الإسلام غريباً و سيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء )) [2] .
فينسون أو يتناسون آخرَ الحديث, وهو قولهُ- عليه الصلاة السلام- فطُوبى للغرباءِ الذين يُصلحون ما أفسدَ الناس, كما ينسى أولئكَ المغفلون, أنَّهم بهذهِ العقليةِ المتخلفة, وبهذا الفهمِ السقيم, يُشاركُون في تعويقِ مسيرةِ الدعوة, وينصرونَ الهوى والشيطانَ في نفوسِ أولئكَ المُشمرين للدعوة, وليتَ أولئكَ المُعوقون حين تخلفوا عن القيامِ بالواجبِ, وقعدوا في بُيُوتهم, ليتهم كفُّوا شرهم, وألسنتهم عن ذاكَ التعويقِ و التخذيل, و في أمثالِ هؤلاءِ يقول الله تعالى : (( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً)) (الأحزاب:19,18) .
فليتقِ اللهَ أولئكَ المعوقُون المخذولون, و ليحذر أولئكَ أن يكونوا عوناً للكفرةِ و المجرمين, في الصدِّ عن سبيلِ الله, و نقولُ لهم أيضاً أنتم مُخطِئون في تصورِكم هذا, و في يأسِكم من روحِ الله, أتُكذبونَ بوعدِ الله و رسولهِ ؟
(( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) (النور:55) و يقولُ اللهُ سُبحانه : (( فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ )) (هود: من الآية49) .
إذاً فالعاقبةُ للإسلامِ لا محالة, ولو كرهَ المُعوِقُون المثبطُون, ثُمَّ إنَّهُ ليس في حديثِ أنسٍ السالفِ ذكره, ما يدلُ على ما يذهبون إليه, من التيئيسِ والتخذيل, ففي حديثِ أنسٍ يُخاطبُ النبي t أصحابه, أنَّ الجيلَ الذي بعدهم سيكُون شراً منهم, حتى يموتوا- أي الصحابة- و لا يعني هذا حتى قيامَ الساعة, والدليلُ على هذا تلك الفترةِ الذهبيةِ التي عاشها المسلمونَ في عهدِ عُمر بن عبد العزيز- رحمه الله- و أمَّا حديث: ((بدأ الإسلام غريباً و سيعود غريباً كما بدأ )) .
فليس ما يدلُ على أنَّهُ سيستمرُ غريباً إلى الأبد, بل إنَّ فيه ما يدلُ على عزِّ الإسلامِ وانتصاره, في قولـهِ- عليه السلام-: ((و سيعود غريباً كما بدأ)) .
لأنَّ الإسلامَ بدأ غريباً في مكة, فما لبثَ أن سادَ و انتشر, و سيطرَ على الدنيا كلِّها, وسيعودُ غريباً, ثُمَّ تزولُ غربته, فيسودُ وينتشرُ كالمرةِ الأولى, ويدلُ على ذلك بشائرَ عديدة, تُبشرُ بنصرةِ هذا الدين, و تمكنهُ في الأرض, فمن تلك البشائر, قولهُ- عليه الصلاة و السلام-: (( ليبلغن هذا الأمر- أي هذا الدين- ما بلغ الليل و النهار و لا يترك الله بيت و بر و لا مدر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام و ذلاً يذل الله به الكفر)) .
ومن البشائرِ كذلك ما أخبرَ به- عليه السلام- من أنَّ لنا جولةً غالبةً مع رُوما, سُئلَ عبدَ الله بن عمر- رضي الله عنهما- أيُّ المدينتينِ تُفتحُ أولاً ؟ القسطنطينية أو روما ؟ فدعا عبدُ الله بصندوقٍ لهُ حلقةً, فأخرج منه كتاباً وقال : (( بينما نحنُ جلوسٌ حولَ رسولِ الله r نكتبُ إذ سُئلَ- عليه و سلم-, أي المدينتين تفتح أولاً ؟ فقال:- عليه الصلاة و السلام- مدينة هرقل تفتح أولاً )) [3].
و قد فتحها محمدُ الفاتح- رحمه الله- و نحنُ بانتظارِ أن تفتحَ رُوما, و حسبهُ أن يكونَ قريباً, هذه بشائرُ تبشرُ بدولةِ الإسلامِ القادمة, و ملةَ الإسلامِ العالمية, وقد يتوهمُ البعضُ أنَّ ذلك كائنٌ عند نزولِ المسيحِ بن مريم في آخرِ الزمان, وهذا ليسَ بصحيح, لأنَّ في بعضِ الرواياتِ يذكرُ أخذَ الجزيةِ من الكفارِ, ولا جزيةَ عند نزولِ المسيح .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم, واستغفر الله لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة, والنعمةِ المُسداة, وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين,
أمَّا بعدُ:
أيُّها المسلمون:
فقد قسَّمَ- عليه الصلاة والسلام- مراحلَ الحُكمِ الذي تمرُ به الأمةُ الإسلامية, إلى خمسِ مراحل في قولهِ : (( إنَّ فيكم ما شاءَ الله أن تكون ثم يرفعها الله عز و جل, ثم تكونُ خلافةً على منهاجِ النبوة, و تكونُ فيكم ما شاءَ الله أن تكون, ثُمَّ يرفعها الله جلَّ جلاله, ثُمَّ يكون ملكاً عاضاً, فيكون فيكم ما شاءَ الله أن يكون, ثُمَّ يرفعها الله جلَّ جلاله, ثم يكونُ ملكاً جبرية فيكون فيكم ما شاءَ اللهُ أن يكون, ثُمَّ يرفعها الله جلَّ جلاله ثم تكونُ خلافةً على منهاج النبوة )) [4].
تعملُ بسنةِ النبي r, و يُلقي الإسلامِ بجرارهِ في الأرض, يرضى عنها ساكنُ السماءِ و ساكنُ الأرض, لا تدعُ السماءَ من قطرٍ إلاَّ صبتهُ مدراراً, ولا تدعُ الأرضَ من نباتها, و لا من بركاتها شيئاً إلاَّ أخرجته, و سكت- عليه الصلاة و السلام-, و لم يذكر بعد هذهِ المرحلةِ شيء .
والذي يبدو واللهُ أعلمُ أنَّ الملكَ العاض قد انتهى بانتهاءِ الدولةِ العثمانية, وأنَّنا الآنَ في المرحلةِ ما قبلَ الأخيرة, وفي فترةِ المخاضِ السابقة, للمرحلةِ الأخيرة, مرحلةُ عز الإسلامِ و نهضته, و حكمهِ الدُنيا من جديد، ومظهرهُ تلكَ الصحوةِ المباركة, التي يشهدُها المسلمونَ في كلِّ مكان، ومقصودنا من هذا الكلامِ كله, أن نردَّ على أولئكَ المعوقِين المخذِّلين, ونبشرُ بعودةِ الإسلامِ و نهضتهِ, ونثبتُ أنفسنا و السائرين في طريقِ الدعوة, بحتميةِ النصر, طال الزمان أو قصر هذا أمر, والأمر الآخر أن نذكر بأن الواجب هو الدعوةِ إلى اللهِ تعالى, و بذلِ الأنفسِ والأموالِ في سبيلِ هذا الدين, وفي سبيلِ دعوةِ الآخرين, أمَّا أن يهتدي الناسُ, وأمَّا أن يتوبَ الناسُ, وأمَّا أن يستجيبَ الناسُ, فهذا ليسَ في حسابِ الداعية, فالهدايةُ بيدِ اللهِ وحده, يهدي من يشاءُ و هو العزيزُ الحكيم ...
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا, ويقيناً صادقاً, وتوبةً قبلَ الموتِ, وراحةً بعد الموتِ, ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوق إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة, ولا فتنةً مضلة,
اللهمَّ زينا بزينةِ الإيمانِ, واجعلنا هُداةً مهتدين,لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين, يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه, إمام المتقين, وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
وأرض اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهمَّ آمنا في الأوطانِ والدُور, وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
[1] رواه البخاري (7068) .
[2] رواه مسلم (145) من حديث أبي هريرة t .
[3] رواه الإمام أحمد (6607) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص t .
[4] رواه الإمام أحمد (17939) من حديث النعمان بن بشير t .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى