رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
أ . رياض بن سليمان السلطان
الخاتمة
الحمدُ لله الذي جلل عبادهُ بالضعف، أمرَ بالبر والتقوى ، وجعلَ جزاءَ الإحسانِ بالإحسان ، عَرف في الشدةِ واحتدامِ الكربِ من عرفهُ في الرخاء وخفضِ الحال ، يُعطي الكثيرَ على القليل، ويُؤمنَ الخائفَ الهارب إليه ، غنيٌّ عمن تناساه ، سريعُ الحساب.
أحمدهُ سُبحانه وأشكرهُ ، وأتوبُ إليهِ واستغفره ، وأشهدُ أن لاإلهَ إلاَّ الله، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102) .
أمَّا بعد : فسُبحان من تفردَ بالبقاءِ حيٌّ لا يموت _ سُبحانهُ وتعالى _ واجبَ الوجودِ منزهٌ عن وعكِ السكرات قبل الممات، وعن مُعاناةِ ومُكابدة النهايات، تفنى الخلائقُ جمعاءَ بعد أن تستنفدَ ما كتب اللهُ لها ، وتتلقى الأقدارُ التي كتبها الديانُ برحمتهِ وحكمته، ثُمَّ تنتقلُ إلى حيثُ الحياةِ المُكتوبة، والمصيرِ المضروب، الكلُّ ماضٍ إلى ما قُدر له، إمَّا إلى جنةٍ أو نار، ( الملكُ والمملوك، الرئيسُ والمرؤوس، من كان معروفاً بفقرهِ إلى عفو الله، ومن كان فقيراً يومَ أن استغنى عن رحمةِ الله ) الكلُّ راحلٌ مُغادر، والله _ سُبحانه وتعالى _ معروفٌ موصوفٌ بما قال عن نفسهِ ، قرآناً أملاهُ الوحي على محمدٍ _ صلى الله عليه وسلم _ (( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ*وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ)) (الرحمن: 27,26) .
ولكن قبلَ أن تبردَ الأعضاءَ، وينتقلُ الجسمُ من الحركةِ إلى السكون، وحملهِ من شاهقِ القصورِ إلى ظُلمات القبور، وقبل أن يغمضَ العبدُ عينيهُ على آخر نظرةٍ له إلى هذه الحياة ، قبل أن يُشارَ إلى الإبنِ أنَّهُ يتيم، فقد أباه، وإلى الزوجةِ ثكلى قد رحلَ عنها زوجُها، وانقضت روحهُ إلى الله، وقبل أن يُعانق الأب، وتضم الأم، ويُقال : أحسن اللهُ العزاءَ، وجبرَ اللهُ المُصاب قبلَ أن تُزايلَ الحياةُ الأجساد، أي وربي، عباد الله : قبل أن يظفرَ هادمُ اللذاتِ بالروح منك.
يوم لا يُقرعُ باباً ، ولا يُهابُ حجاباً ، ولا يُقبلُ بديلاً ، ولا يُأخذُ كفيلاً ، ولا يُرحمُ صغيراً ، ولا يُوقرُ كبيراً، يظفرُ بالروحِ منك أنت أيَّها الإنسان .
إنَّها خاتمةُ المطاف، وملخصُ الحياةِ السالفة، النهايةُ المُنتظرةِ، ( كربٌ بيدِ سواكَ لا تدري متى يَغشاك ) .
إنَّها الخاتمةُ يا أُمة الإسلام :
التي طالما تسابقت دموعُ العارفين خوفاً منها، وضُمت الركبُ في المحاريب بين يدي الله تحسباً لها، الخاتمةُ كربٌ أشدُّ من ضربِ السيوف، ونشرٍ بالمناشير ؛ فالروحُ تنجذبُ ؛ لكلِّ عضوٍ سكرةٍ بعد سكرة ، وكربةٍ بعد كربة، فتنقطعُ الأنظارُ عن الدنيا، ويُغلقُ دونَ العبدِ باب الإجابةِ، وتحيطُ به الحسرةُ والندامة .
فما أهول تلك اللحظات، فما أهولَ تلك اللحظات .
أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة _ رضي الله عنها _ : (( أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان بينَ يديهِ ركوةٌ فيها ماء، فجعل يُدخلُ يدهُ المباركةِ فيها ، ويمسحُ بها وجههُ ويقول : ( لاإله إلا الله ، إنَّ للموتِ لسكرات ، ثُمَّ نصب يدهُ - صلى الله عليه وسلم - وجعلَ يقولُ : في الرفيقِِ الأعلى، حتى قُبض ، ومالت يده )) صلى الله عليه وسلم .
فاعتبر أخا الإيمان ؛ بحقائقٍ أدلى الناطقون بها في ذلك المقام، ومُشاهداتٌ وصفها المتألمونَ المتوجعونَ من سكرات الموت، وتشخيصاً يكسرُ القلوبُ طلباٌ لرحمةِ الله ، طلباً لمغفرة الله .
رُوي عن عُمر بن العاص _ رضي الله عنه _ لما حضرتهُ الوفاة، قال لهُ ابنهُ عبد الله ؛ يا أبتاه: إنَّك لتقول: ليتني ألقى رجلاً عاقلاً لبيباً عند نزولِ الموت ، حتى يصفُ لي ما يجدُ ، وأنت ذلك الرجل ؛ فصف لي الموت؟ فقال : يابني: والله كأنَّ جبيني في تخت، وكأني أتنفسُ من ثُقبِ إبرة، وكأنَّ غُصنَ شوكٍ يُجذبُ من قدمي إلى هامةِ رأسي .
فكيفَ بك يا مغرور وقد حلَّت بك السكرات، ونزل بك الأنين، والروحُ كالشوكةِ تُسحبُ من أسفلِ قدمكَ إلى مفرقِ رأسك، تسمعُ عويلَ الحاضرين، وتلقينَ الناصحين الشهادة لك، ثقل اللسان، وبارت القوى، وارتخت اليدان، وغارت العينان، تسمعُ نداءَ بنتكَ الصغيرةِ تبكي كالأسيرة ؛ تقول : أبي لا تفارقني، وأنت تسمعُ الكلام، ولا تَقدر على الجواب، ما أضعفك واهونك في تلك اللحظات؛!! إن تخلى اللهُ عنك، وعبثَ بك الشيطان، لن تستطيعَ الجواب ؛ فعزرائيل -عليه السلام - يُنادي الروحَ أن تخرج ؛ فمثِّل نفسك أيَّها الناسي،!! وتذكر أيُّها السادرُ المغرور.
أمةَ الإسلام : اسمعوا الخبرَ اليقين، والحديثَ الجلي، الذي يُغني عن التنبيهات، والمواعظِ المُبكيات، خبراً صحيحاً عن النبي الكريم ، عن محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنَّهُ قال : (( فإنَّ العبدَ إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا ، وإقبالٍ على الآخرةِ، نزل إليه ملائكةٌ من السماءِ بيضُ الوجوه ، كأنَّ وجُوههم الشمس، معهم كفنٌ من أكفانِ الجنة، وحنوطٍ من حنوطها، حتى يجلسوا منهُ مُدَّ البصر ، ثم يجئُ ملكُ الموتِ حتى يجلس عند رأسه ؛ فيقولُ : أيَّتُها النفسُ المطمئنةِ ، أُخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان، قال : فتخرج ؛ فتسيلُ كما تسيلُ القطرةِ من في السقاء ؛ فيأخذُها فإذا أخذها لم يَدعوها في يدهِ طرفةَ عين ، حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفنِ، وفي ذلك الحنوطِ ، وتخرجُ منها كأطيبِ نفحةِ مسكٍ وُجدت على وجهِ الأرض ؛ فيصعدون بها، فلا يمرُون بها على ملأٍ من الملائكة إلاَّ قالوا : ما هذه الريحُ الطيبة، فيقولون : فلانُ بن فلان، بأحسنِ أسمائهِ التي كانوا يُسمُونَهُ بها في الدنيا ؛ حتى السماءَ السابعة ؛ فيقولُ الله _ عز وجل _ اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوهُ إلى الأرض ؛ فانِّي منها خلقتهم وفيها أُعيدهم ، ومنها أُخرجهم تارةً أُخرى ؛ فتُعادُ رُوحه .
وانَّ العبدَ إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا ، وإقبالٍ إلى الآخرة . نزلَ إليه من السماءِ ملائكةٌ سودَ الوجوهِ معهم المسوح ؛ فيجلسون منهُ مدَّ البصر، ثُمَّ يجئُ ملكُ الموت حتى يجلسَ عند رأسه، فيقولُ : أيَّتها النفسُ الخبيثةِ ؛ اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، قال : فتتفرقُ في جسده ؛ فينتزعُها كما يُنتزعُ السفودُ من الصوفِ المبلول ؛ فيأخذُها ؛ فإذا أخذها لم يدعُوها في يدهِ طرفةَ عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرجُ منها كأنتنِ ريحِ جيفةٍ وُجدت على الأرض؛ فيصعدون ؛ فلا يمرون على ملأٍ من الملائكة إلاَّ قالوا : ما هذه الروحُ الخبيثة ؟ فيقولون : فلانُ ابن فلان بأقبحِ أسمائهِ التي كان يُسمى بها في الدنيا- نسألُ الله العافيةَ من هذا - حتى ينتهي بها إلى السماءِ السابعة ؛ فيستفتحُ ؛ فلا يُفتحُ له ثُمَّ قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ )) (لأعراف: من الآية40) .
فيقول الله - عز وجل - : اكتبوا كتابهُ في سجِّين في الأرضِ السفلى، فتطرح روحهُ طرحاً، ثُمَّ قرأ : (( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)) (الحج: من الآية31) رواه أحمد ، وأبو داود، والحاكم عن البراء بن عازب ،وصححهُ الألباني على شرطِ الشيخين .
قال سلمان الفارسي _ رضي الله عنه _ : ( أضحكني ثلاث : مؤملُ الدنيا والموتُ يطلبُه ، وغافلٌ ليس بمغفولٍ عنه ، وضاحكٍ بملءُ فيهِ وهو لا يدري أرضيَ اللهُ عليه أم سخط ؟ وأبكاني ثلاث : فراقُ الأحبةِ محمد _ صلى الله عليه وسلم _ وحزبه ، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله تعالى ) .
تزود من الدنيا ؛ فانَّكَ لا تدري
إذا جنَ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجر ؟
فكم من عروسٍ زينوها لزوجها،
وقد أخذت أرواحهم ليلةََ القدرِ
وكم من صغارٍ يُرتجى طولَ عمرهم
وقد أُدخلت أرواحهم ظلمةَ القبرِ
وكم من سليمٍ مات من غيرِ علةٍ
وكم من سقيمٍ عاشَ حيناً من الدهرِ
وكم من فتى يُمسي ويُصبحُ لاهياً
وقد نُسجت أكفانهُ وهو لا يدري
وكم من ساكنٍ عند الصباحِ بقصرهِ
وعند المسا قد كان من ساكني القبرِ
فداوم على تقوى الإلهِ فإنَّها
أمانٌ من الأهوالِ في موقفِ الحشرِ
أُمةَ الإسلام :
كيف يستمرئُ العُصاةُ لذاتهم المنقضية، تأتلفُ نفوسهم كلفاً بها ، يبحُرون في لُجةِ كلِّ معصية، طلباً للذةِ الساقطةِ، والسعادةِ المزورة، التي تبرقعت بالسراب ، كيف يتكلفون المُحرمات ؟ ومِن خلفهم مقاريضَ الخاتمة ، وأوجاعٍ نسجوها هُم بأيديهم وما قُدمت ليومِ رحيلهم .
كيف يستمرئُ العُصاةُ ذلك ، وقد زلَّ عن منهجِ النجاةِ من رُؤي عليهم بهاء الطاعة ، ونضارةَ القُربِ من الله _ سُبحانه وتعالى _ ( فالحيُّ لا تَؤمن فتنتهُ ).
كان محمدُ بن الحسن ممن اشتدَّ كلفهُ، وعشقهُ لغلامٍ أمرد؛ ففارقهُ الصبرُ منذُ أن عشقهُ، وفشت أشعارهُ فيه ، وجرت على الألسنةِ، وأنُشدت في المحافل، وكان يتبعُ الأمردَ الذي عشقهُ عندما يجلسُ على عتبةِ بابه ؛ فاعتزل الأمردُ مجلسه ذلك؛ ففقدَهُ ابن الحسن ؛ فأنهكهُ المرض ، وأضجعهُ الهم ؛ فنصحهُ المُقربون عندهُ بمعاودةِ الأطباء ؛ فرفضَ وقال : الدواءُ والعلاج ( نظرةٌ من أسلم ) وأسلم : هو ذلك الغلامُ الأمرد ؛ فذهبَ أحدُ أصدقاءِ محمد بن الحسن إلى الأمرد، يراوِدهُ بمعاودته ، وأن يتصدقَ عليه بنظرةٍ تُذهبُ بما فيه ، ( وهيهات هيهات ؛ فمن أسرفَ في محبةِ زينةٍ من الدنيا ، عذبهُ اللهُ بحبهِ ذاك ) فرضيَ أسلم ذلك الأمرد للذهابِ إلى ابن الحسن وهو على فراشه، لكي ينظرَ إليه ، ويريحَ قلبهُ من فقدهِ فسارا جميعاً ، ثُمَّ في وسط الطريقِ تردد أسلم ، ورفضَ إكمال المسيرِ إلى ابن الحسن ، قال له الرجل : لابُدَّ أن تفي بوعدك، وتُكمل سيرك، ولكنهُ رفض ورجع يوم أن رجع إليه عقله، فلحقهُ الرجل ، وتعلق بردائه حتى تمزق، ولكنهُ رفض، فرجعَ الرجلُ لابن الحسن ؛ فسألهُ عن الغلام ؛ فقصَّ عليه ما حصل ، وأنَّهُ رفضَ المجيءُ إليك لتراه .
فقال ابن الحسن ( وليتهُ ما قال ، وليتهُ ما قال ) ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ؛ قال لصاحبهِ احفظ عني هذه الأبيات:
أسلم - يقصدُ بذلك الغلامُ الأمرد الذي عشقه -
يا راحة العليل *** رفقاً على الهائمِ النحيل
ووصلك أشهى إلى فؤادي *** من رحمةِ الخالقِ الجليل
قال له صاحبه :
_ اتق الله، ما هذه العظيمة ! فقال :
_ قد كان، قدكان.
يقولُ صاحب ابن الحسن :
_ واللهِ ما توسطتُ الطريقَ حتى سمعتُ الصراخَ عليه ، وقد فارقَ الدنيا ؛ نعوذُ باللهِ من سُوءِ الخاتمة .
اللهمَّ ارزقنا حُبك ، وحبُّ من يحبك ، وحبُّ كلُّ عملٍ يُقربنا منك.
تلك هي النهاياتُ التي تنشقُ عن المتأملِ فيها، حقارةُ الحياةِ الفانية، وأنَّ الحياةَ الحقة لذلك القلب ؛ الذي يملكُ وثبةً واصلةً في أعمالِ الخير ، وذلاً يُحصِّنهُ من النهاياتِ المُرة، ألاَّ إنَّها دعوةٌ للعودةِ الصادقةِ للهِ الواحد القهار، لمحةٍ بارقةٍ تسترشدُ أخي الكريم بنورها طريق النجاة .
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم : (( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)) (الأنعام: من الآية93) .
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاةُ والسلامُ على عبادهِ الذين اصطفى، وسلم تسليماً كثيراً، أمَّا بعد :
فهنيئاً لأهلِ الطاعةِ والعرفان، الذين طوَعُوا أنفسهم لأوامرِ الله تعالى ونواهيه، معترفينَ بحقِّ العُبوديةِ والأُلوهيةِ لله - سبحانه وتعالى - الذين انتزعوا كلَّ حائلٍ بينهم وبين رضى اللهِ - جل وعلا - وامتلكوا كلَّ عنوانَ تضحيةٍ، يثبون به إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، وكانوا ألويةً رفيعةً لجحافل المتقين العاملين.
فأبشر يا باغي الهدى!! يامن تغشيتَ حلقَ العلمِ يومَ أن زهدَ فيها كثيرٌ من شبابِ الإسلامِ في هذا الزمن، وعكفت الركبُ عند العلماء !! فانظر إلى نجمةٍ واحدةٍ من تلك النجومِ الكثيرةِ السيارة على مرِّ العصور، وطويل الأزمان، إلى عالمٍ خُطت نهايتهُ على الكفوف ! .
العالمُ الهُمام، علامةُ الزمان، شيخُ الإسلام ( ابن تيمية ) - رحمه الله - ، المجاهدُ المُناضلُ بما أملاهُ اللهُ عليه من فضلهِ،
يقولُ الذي يقيمُ على زنزانتهِ في السجن :
_ قبلَ أن يلفظَ الشيخُ أنفاسهُ ، ويُغادرُ الدنيا ، في آخرِ لحظةٍ يَعيشُها من عمره ، قبلَ أن ينتقلَ من الحياةِ إلى الممات، قرأ قول الله تعالى : (( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)) (القمر:,54,55) ثم قضى ومات - رحمه الله - .
لماذا أيَّها الأحبة :
نفتحُ صفحاتٍ من التاريخِ صفراء، ونرجعُ إلى الوراءِ كثيراً ، ونحسرُ أعيننا عن الواقعِ المُشرفِ الذي عطرهُ شُبانٌ أتقياء، نبلاء ، رجال أيُّ رجال ، عطَّروا مسامعنا بنهايتهم التي تُجددُ الحياة في القلب ، وتؤكدهُ بمغفرةِ اللهِ ورحمتهِ أكثر وأكثر !
دعاةً ، هداة، نصبوا أيَّامهم أمام الآخرةِ ، يشدُّون أمامَ جدارَ الليلِ أحلى أنواعَ العبادةِ لله وحدهُ لاشريك له .
كان هُناك شابٌ تعلق قلبهُ بالأذان، تتراقصُ الدمعاتُ من عينيهِ وهو يُنادي الناس، ( حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح ) رافعاً بها صوتهُ ، يمُدُّها ، ويُرسلُها حانيةً باردةً إلى آذنِ القاصي والداني، وبعد أيامٍ معدودة، جاءَهُ الابتلاءُ من الرحيم الرحمن - سبحانه وتعالى - فأصيبت مقلتاهُ وعيناهُ بالعمى ، وصار يحتاجُ إلى رعاية، والى أحدٍ يقومُ بشُؤونه ، ويكفلُ له متطلباته، فأمرهُ عمَّهُ وصنوأبيه ، أن يسكنَ عندهم في بيته ؛ فحصلَ مالا يُريدُهُ الشاب ؛ فسيصبحُ بعيداً عن الآذان وبُيوتَ الرحمن ، فرفضَ ألحَّ عليه عمَّهُ رأفةً عليه وشفقة، فقبلَ بعد ذلكَ ولكن بشرطٍ واحد، قال عمَّهُ وما ذاك ؟ قال : تأتونا بي قبلَ صلاة الفجر إلى مسجدي هذا ، ثُمَّ بعد شروق الشمس تأخذوني ، وتأتونا بي قبلَ صلاة الظُهر ، وتتركوني للأذان والإقامة والصلاة والدعاء بينهما ، حتى صلاةَ العشاء أُؤدي السُنة بعدها ، ثُمَّ أرجعُ إلى بيتكم ، استحسنَ العمُّ الطلبَ على كُلفتهِ وصعوبته ، وبعد زمنٍ ليس باليسير، والشابُ يَدفنُ سبابتاهُ في أذنيه، ويُنادي المسلمين للصلاة، ( الله أكبر، أشهدُ أن لااله إلا الله، حيَّ على الصلاة ) ؛ فإذا بروحهِ تخرج، ويموتُ ساعتها وهو يُؤذنُ. نسألُ الكريمَ من فضله .
وبعدُ عباد الله :
(( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ )) (الحديد: من الآية16)
يارب إن عظُمت ذنوبي كثرةً *** فلقد علمتُ بأنَّ عفوكَ أعظمُ
إن كان لا يرجُوكَ إلاَّ مُحسنٌ *** فمن الذي يدعو إليه المجرم
أدعوك ربِّ كما أُمرتُ تضرعاً *** فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحمُ
مالي إليكَ وسيلةً إلاَّ الرجا *** وجميلُ ظني ثُمَّ أنَّي مسلمُ
عباد الله : إنِّي داعٍ فأمنوا :
اللهمَّ يامن لا يَحِفُيك سائل، ولا ينقُصُك نائل ، يامن خزائنهُ ملأ
لا تغيضها النفقة، يامن وسعت رحمتهُ غضبه ، يا من يُعطي الكثيرَ على القليل، ويغفرُ الذنبَ العظيم ، ويقبلُ توبةَ العاصي .
اللهمَّ اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادةُ أنَّ لا إلهَ إلاَّ الله.
اللهمَّ ارزقنا توبةً قبل الموت ، وراحةً بعد الموت ، ولذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريم.
اللهمَّ أصلح لنا نياتنا ، وذُرياتنا ، واجعلنا هُداة مهديين، غير ضالين ولا مُضلين .
اللهمَّ اغفر لأمهاتنا، واغفر اللهمَّ لآبائنا ، اللهمَّ اجزهم عنَّا خيرَ ماجزيتَ محسناً على إحسانه ، اللهمَّ من كان منهم حياً فمتعهُ بسمعهِ وبصره وقوته، ومن كان منهم ميتاً فاجعل مثواهُ جناتكَ جنات النعيم ، اللهمَّ وسِّع لهُ في قبره ، واجعلهُ روضةً من رياضِ الجنة ، ولا تجعلهُ حُفرةً من حُفرِ النارِ يا رب العالمين .
اللهمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا ،وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادُنا ، وارزقنا من كلِّ خير، واكتب لنا السلامةَ من كلِّ شرٍ برحمتك يا أرحمَ الراحمين .
اللهمَّ يامن ردَّ البصر على يعقوب ، وشفا من المرضِ أيوب، وألانَ الحديدَ لداً وود، وجعل النارَ برداً وسلاماً على إبراهيم ،
اللهمَّ ياحيُّ ياقيوم، اللهمَّ ياحيُّ ياقيوم!! اللهمَّ اشف مريضنا!، اللهمَّ اشف مريضنا،! اللهمَّ اشف مريضنا،! واقبل تائبنا،! ويسِّر أُمورنا، وانصر مظلُومنا ، وأطعم جائعنا ، واكسِ عارينا ، واقضِ الدين عن المدينين ياذا الجلال والإكرام .
اللهمَّ انصر الإسلام و المسلمين في كلِّ مكان ، اللهمَّ انصرهم في فلسطين والشيشان ، وكشمير وأفغانسنتان، وفي كلِّ أرضٍ تُعبدُ فيها يا ربَّ العالمين .
اللهمَّ إنَّ ليلَ المجرمين قد طال، وقد أينعت رؤوسُ المجرمين الكافرين، اللهم قيِّض لهم من الحقِّ يداً حاصدة .
اللهمَّ لا ترفع لهم راية ، و لا تبلغهم غاية ، و اجعلهم لمن خلفهم آية ، اللهمَّ أرسل عليهمُ القوارع المُدمرة ،و الأعاصيرُ الفتاكة ، والريحُ المُهلكة، والأمراضُ المتنوعة ، اللهمَّ أشغلهم بأنفسهم عن الإسلام ، اللهمَّ أرنا فيهم يوماً أسوداً ، اللهمَّ اجعلهم يتمنونَ الموت و لايجدونهُ يارب العالمين .
اللهمَّ أنت اللهُ لا إله إلاَّ أنت ، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ و لا تجعلنا من القانطين، اللهم أغيثاً غيثياً مغيثاً هنيئاً مريئا ، سحاً غدقاً ، نافعاً غير ضار، تثسقي به العباد ، تَنشرُ رحمتك على العباد ، اللهمَّ أغثنا ، واغث قلوبنا بالإيمان ، وبلادنا بالقطر يا رحمن، اللهمَّ صلي على محمدٍ عدد ما تعاقب الليل والنهار
الخاتمة
الحمدُ لله الذي جلل عبادهُ بالضعف، أمرَ بالبر والتقوى ، وجعلَ جزاءَ الإحسانِ بالإحسان ، عَرف في الشدةِ واحتدامِ الكربِ من عرفهُ في الرخاء وخفضِ الحال ، يُعطي الكثيرَ على القليل، ويُؤمنَ الخائفَ الهارب إليه ، غنيٌّ عمن تناساه ، سريعُ الحساب.
أحمدهُ سُبحانه وأشكرهُ ، وأتوبُ إليهِ واستغفره ، وأشهدُ أن لاإلهَ إلاَّ الله، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102) .
أمَّا بعد : فسُبحان من تفردَ بالبقاءِ حيٌّ لا يموت _ سُبحانهُ وتعالى _ واجبَ الوجودِ منزهٌ عن وعكِ السكرات قبل الممات، وعن مُعاناةِ ومُكابدة النهايات، تفنى الخلائقُ جمعاءَ بعد أن تستنفدَ ما كتب اللهُ لها ، وتتلقى الأقدارُ التي كتبها الديانُ برحمتهِ وحكمته، ثُمَّ تنتقلُ إلى حيثُ الحياةِ المُكتوبة، والمصيرِ المضروب، الكلُّ ماضٍ إلى ما قُدر له، إمَّا إلى جنةٍ أو نار، ( الملكُ والمملوك، الرئيسُ والمرؤوس، من كان معروفاً بفقرهِ إلى عفو الله، ومن كان فقيراً يومَ أن استغنى عن رحمةِ الله ) الكلُّ راحلٌ مُغادر، والله _ سُبحانه وتعالى _ معروفٌ موصوفٌ بما قال عن نفسهِ ، قرآناً أملاهُ الوحي على محمدٍ _ صلى الله عليه وسلم _ (( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ*وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ)) (الرحمن: 27,26) .
ولكن قبلَ أن تبردَ الأعضاءَ، وينتقلُ الجسمُ من الحركةِ إلى السكون، وحملهِ من شاهقِ القصورِ إلى ظُلمات القبور، وقبل أن يغمضَ العبدُ عينيهُ على آخر نظرةٍ له إلى هذه الحياة ، قبل أن يُشارَ إلى الإبنِ أنَّهُ يتيم، فقد أباه، وإلى الزوجةِ ثكلى قد رحلَ عنها زوجُها، وانقضت روحهُ إلى الله، وقبل أن يُعانق الأب، وتضم الأم، ويُقال : أحسن اللهُ العزاءَ، وجبرَ اللهُ المُصاب قبلَ أن تُزايلَ الحياةُ الأجساد، أي وربي، عباد الله : قبل أن يظفرَ هادمُ اللذاتِ بالروح منك.
يوم لا يُقرعُ باباً ، ولا يُهابُ حجاباً ، ولا يُقبلُ بديلاً ، ولا يُأخذُ كفيلاً ، ولا يُرحمُ صغيراً ، ولا يُوقرُ كبيراً، يظفرُ بالروحِ منك أنت أيَّها الإنسان .
إنَّها خاتمةُ المطاف، وملخصُ الحياةِ السالفة، النهايةُ المُنتظرةِ، ( كربٌ بيدِ سواكَ لا تدري متى يَغشاك ) .
إنَّها الخاتمةُ يا أُمة الإسلام :
التي طالما تسابقت دموعُ العارفين خوفاً منها، وضُمت الركبُ في المحاريب بين يدي الله تحسباً لها، الخاتمةُ كربٌ أشدُّ من ضربِ السيوف، ونشرٍ بالمناشير ؛ فالروحُ تنجذبُ ؛ لكلِّ عضوٍ سكرةٍ بعد سكرة ، وكربةٍ بعد كربة، فتنقطعُ الأنظارُ عن الدنيا، ويُغلقُ دونَ العبدِ باب الإجابةِ، وتحيطُ به الحسرةُ والندامة .
فما أهول تلك اللحظات، فما أهولَ تلك اللحظات .
أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة _ رضي الله عنها _ : (( أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان بينَ يديهِ ركوةٌ فيها ماء، فجعل يُدخلُ يدهُ المباركةِ فيها ، ويمسحُ بها وجههُ ويقول : ( لاإله إلا الله ، إنَّ للموتِ لسكرات ، ثُمَّ نصب يدهُ - صلى الله عليه وسلم - وجعلَ يقولُ : في الرفيقِِ الأعلى، حتى قُبض ، ومالت يده )) صلى الله عليه وسلم .
فاعتبر أخا الإيمان ؛ بحقائقٍ أدلى الناطقون بها في ذلك المقام، ومُشاهداتٌ وصفها المتألمونَ المتوجعونَ من سكرات الموت، وتشخيصاً يكسرُ القلوبُ طلباٌ لرحمةِ الله ، طلباً لمغفرة الله .
رُوي عن عُمر بن العاص _ رضي الله عنه _ لما حضرتهُ الوفاة، قال لهُ ابنهُ عبد الله ؛ يا أبتاه: إنَّك لتقول: ليتني ألقى رجلاً عاقلاً لبيباً عند نزولِ الموت ، حتى يصفُ لي ما يجدُ ، وأنت ذلك الرجل ؛ فصف لي الموت؟ فقال : يابني: والله كأنَّ جبيني في تخت، وكأني أتنفسُ من ثُقبِ إبرة، وكأنَّ غُصنَ شوكٍ يُجذبُ من قدمي إلى هامةِ رأسي .
فكيفَ بك يا مغرور وقد حلَّت بك السكرات، ونزل بك الأنين، والروحُ كالشوكةِ تُسحبُ من أسفلِ قدمكَ إلى مفرقِ رأسك، تسمعُ عويلَ الحاضرين، وتلقينَ الناصحين الشهادة لك، ثقل اللسان، وبارت القوى، وارتخت اليدان، وغارت العينان، تسمعُ نداءَ بنتكَ الصغيرةِ تبكي كالأسيرة ؛ تقول : أبي لا تفارقني، وأنت تسمعُ الكلام، ولا تَقدر على الجواب، ما أضعفك واهونك في تلك اللحظات؛!! إن تخلى اللهُ عنك، وعبثَ بك الشيطان، لن تستطيعَ الجواب ؛ فعزرائيل -عليه السلام - يُنادي الروحَ أن تخرج ؛ فمثِّل نفسك أيَّها الناسي،!! وتذكر أيُّها السادرُ المغرور.
أمةَ الإسلام : اسمعوا الخبرَ اليقين، والحديثَ الجلي، الذي يُغني عن التنبيهات، والمواعظِ المُبكيات، خبراً صحيحاً عن النبي الكريم ، عن محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنَّهُ قال : (( فإنَّ العبدَ إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا ، وإقبالٍ على الآخرةِ، نزل إليه ملائكةٌ من السماءِ بيضُ الوجوه ، كأنَّ وجُوههم الشمس، معهم كفنٌ من أكفانِ الجنة، وحنوطٍ من حنوطها، حتى يجلسوا منهُ مُدَّ البصر ، ثم يجئُ ملكُ الموتِ حتى يجلس عند رأسه ؛ فيقولُ : أيَّتُها النفسُ المطمئنةِ ، أُخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان، قال : فتخرج ؛ فتسيلُ كما تسيلُ القطرةِ من في السقاء ؛ فيأخذُها فإذا أخذها لم يَدعوها في يدهِ طرفةَ عين ، حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفنِ، وفي ذلك الحنوطِ ، وتخرجُ منها كأطيبِ نفحةِ مسكٍ وُجدت على وجهِ الأرض ؛ فيصعدون بها، فلا يمرُون بها على ملأٍ من الملائكة إلاَّ قالوا : ما هذه الريحُ الطيبة، فيقولون : فلانُ بن فلان، بأحسنِ أسمائهِ التي كانوا يُسمُونَهُ بها في الدنيا ؛ حتى السماءَ السابعة ؛ فيقولُ الله _ عز وجل _ اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوهُ إلى الأرض ؛ فانِّي منها خلقتهم وفيها أُعيدهم ، ومنها أُخرجهم تارةً أُخرى ؛ فتُعادُ رُوحه .
وانَّ العبدَ إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا ، وإقبالٍ إلى الآخرة . نزلَ إليه من السماءِ ملائكةٌ سودَ الوجوهِ معهم المسوح ؛ فيجلسون منهُ مدَّ البصر، ثُمَّ يجئُ ملكُ الموت حتى يجلسَ عند رأسه، فيقولُ : أيَّتها النفسُ الخبيثةِ ؛ اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، قال : فتتفرقُ في جسده ؛ فينتزعُها كما يُنتزعُ السفودُ من الصوفِ المبلول ؛ فيأخذُها ؛ فإذا أخذها لم يدعُوها في يدهِ طرفةَ عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرجُ منها كأنتنِ ريحِ جيفةٍ وُجدت على الأرض؛ فيصعدون ؛ فلا يمرون على ملأٍ من الملائكة إلاَّ قالوا : ما هذه الروحُ الخبيثة ؟ فيقولون : فلانُ ابن فلان بأقبحِ أسمائهِ التي كان يُسمى بها في الدنيا- نسألُ الله العافيةَ من هذا - حتى ينتهي بها إلى السماءِ السابعة ؛ فيستفتحُ ؛ فلا يُفتحُ له ثُمَّ قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ )) (لأعراف: من الآية40) .
فيقول الله - عز وجل - : اكتبوا كتابهُ في سجِّين في الأرضِ السفلى، فتطرح روحهُ طرحاً، ثُمَّ قرأ : (( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)) (الحج: من الآية31) رواه أحمد ، وأبو داود، والحاكم عن البراء بن عازب ،وصححهُ الألباني على شرطِ الشيخين .
قال سلمان الفارسي _ رضي الله عنه _ : ( أضحكني ثلاث : مؤملُ الدنيا والموتُ يطلبُه ، وغافلٌ ليس بمغفولٍ عنه ، وضاحكٍ بملءُ فيهِ وهو لا يدري أرضيَ اللهُ عليه أم سخط ؟ وأبكاني ثلاث : فراقُ الأحبةِ محمد _ صلى الله عليه وسلم _ وحزبه ، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله تعالى ) .
تزود من الدنيا ؛ فانَّكَ لا تدري
إذا جنَ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجر ؟
فكم من عروسٍ زينوها لزوجها،
وقد أخذت أرواحهم ليلةََ القدرِ
وكم من صغارٍ يُرتجى طولَ عمرهم
وقد أُدخلت أرواحهم ظلمةَ القبرِ
وكم من سليمٍ مات من غيرِ علةٍ
وكم من سقيمٍ عاشَ حيناً من الدهرِ
وكم من فتى يُمسي ويُصبحُ لاهياً
وقد نُسجت أكفانهُ وهو لا يدري
وكم من ساكنٍ عند الصباحِ بقصرهِ
وعند المسا قد كان من ساكني القبرِ
فداوم على تقوى الإلهِ فإنَّها
أمانٌ من الأهوالِ في موقفِ الحشرِ
أُمةَ الإسلام :
كيف يستمرئُ العُصاةُ لذاتهم المنقضية، تأتلفُ نفوسهم كلفاً بها ، يبحُرون في لُجةِ كلِّ معصية، طلباً للذةِ الساقطةِ، والسعادةِ المزورة، التي تبرقعت بالسراب ، كيف يتكلفون المُحرمات ؟ ومِن خلفهم مقاريضَ الخاتمة ، وأوجاعٍ نسجوها هُم بأيديهم وما قُدمت ليومِ رحيلهم .
كيف يستمرئُ العُصاةُ ذلك ، وقد زلَّ عن منهجِ النجاةِ من رُؤي عليهم بهاء الطاعة ، ونضارةَ القُربِ من الله _ سُبحانه وتعالى _ ( فالحيُّ لا تَؤمن فتنتهُ ).
كان محمدُ بن الحسن ممن اشتدَّ كلفهُ، وعشقهُ لغلامٍ أمرد؛ ففارقهُ الصبرُ منذُ أن عشقهُ، وفشت أشعارهُ فيه ، وجرت على الألسنةِ، وأنُشدت في المحافل، وكان يتبعُ الأمردَ الذي عشقهُ عندما يجلسُ على عتبةِ بابه ؛ فاعتزل الأمردُ مجلسه ذلك؛ ففقدَهُ ابن الحسن ؛ فأنهكهُ المرض ، وأضجعهُ الهم ؛ فنصحهُ المُقربون عندهُ بمعاودةِ الأطباء ؛ فرفضَ وقال : الدواءُ والعلاج ( نظرةٌ من أسلم ) وأسلم : هو ذلك الغلامُ الأمرد ؛ فذهبَ أحدُ أصدقاءِ محمد بن الحسن إلى الأمرد، يراوِدهُ بمعاودته ، وأن يتصدقَ عليه بنظرةٍ تُذهبُ بما فيه ، ( وهيهات هيهات ؛ فمن أسرفَ في محبةِ زينةٍ من الدنيا ، عذبهُ اللهُ بحبهِ ذاك ) فرضيَ أسلم ذلك الأمرد للذهابِ إلى ابن الحسن وهو على فراشه، لكي ينظرَ إليه ، ويريحَ قلبهُ من فقدهِ فسارا جميعاً ، ثُمَّ في وسط الطريقِ تردد أسلم ، ورفضَ إكمال المسيرِ إلى ابن الحسن ، قال له الرجل : لابُدَّ أن تفي بوعدك، وتُكمل سيرك، ولكنهُ رفض ورجع يوم أن رجع إليه عقله، فلحقهُ الرجل ، وتعلق بردائه حتى تمزق، ولكنهُ رفض، فرجعَ الرجلُ لابن الحسن ؛ فسألهُ عن الغلام ؛ فقصَّ عليه ما حصل ، وأنَّهُ رفضَ المجيءُ إليك لتراه .
فقال ابن الحسن ( وليتهُ ما قال ، وليتهُ ما قال ) ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ؛ قال لصاحبهِ احفظ عني هذه الأبيات:
أسلم - يقصدُ بذلك الغلامُ الأمرد الذي عشقه -
يا راحة العليل *** رفقاً على الهائمِ النحيل
ووصلك أشهى إلى فؤادي *** من رحمةِ الخالقِ الجليل
قال له صاحبه :
_ اتق الله، ما هذه العظيمة ! فقال :
_ قد كان، قدكان.
يقولُ صاحب ابن الحسن :
_ واللهِ ما توسطتُ الطريقَ حتى سمعتُ الصراخَ عليه ، وقد فارقَ الدنيا ؛ نعوذُ باللهِ من سُوءِ الخاتمة .
اللهمَّ ارزقنا حُبك ، وحبُّ من يحبك ، وحبُّ كلُّ عملٍ يُقربنا منك.
تلك هي النهاياتُ التي تنشقُ عن المتأملِ فيها، حقارةُ الحياةِ الفانية، وأنَّ الحياةَ الحقة لذلك القلب ؛ الذي يملكُ وثبةً واصلةً في أعمالِ الخير ، وذلاً يُحصِّنهُ من النهاياتِ المُرة، ألاَّ إنَّها دعوةٌ للعودةِ الصادقةِ للهِ الواحد القهار، لمحةٍ بارقةٍ تسترشدُ أخي الكريم بنورها طريق النجاة .
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم : (( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)) (الأنعام: من الآية93) .
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاةُ والسلامُ على عبادهِ الذين اصطفى، وسلم تسليماً كثيراً، أمَّا بعد :
فهنيئاً لأهلِ الطاعةِ والعرفان، الذين طوَعُوا أنفسهم لأوامرِ الله تعالى ونواهيه، معترفينَ بحقِّ العُبوديةِ والأُلوهيةِ لله - سبحانه وتعالى - الذين انتزعوا كلَّ حائلٍ بينهم وبين رضى اللهِ - جل وعلا - وامتلكوا كلَّ عنوانَ تضحيةٍ، يثبون به إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، وكانوا ألويةً رفيعةً لجحافل المتقين العاملين.
فأبشر يا باغي الهدى!! يامن تغشيتَ حلقَ العلمِ يومَ أن زهدَ فيها كثيرٌ من شبابِ الإسلامِ في هذا الزمن، وعكفت الركبُ عند العلماء !! فانظر إلى نجمةٍ واحدةٍ من تلك النجومِ الكثيرةِ السيارة على مرِّ العصور، وطويل الأزمان، إلى عالمٍ خُطت نهايتهُ على الكفوف ! .
العالمُ الهُمام، علامةُ الزمان، شيخُ الإسلام ( ابن تيمية ) - رحمه الله - ، المجاهدُ المُناضلُ بما أملاهُ اللهُ عليه من فضلهِ،
يقولُ الذي يقيمُ على زنزانتهِ في السجن :
_ قبلَ أن يلفظَ الشيخُ أنفاسهُ ، ويُغادرُ الدنيا ، في آخرِ لحظةٍ يَعيشُها من عمره ، قبلَ أن ينتقلَ من الحياةِ إلى الممات، قرأ قول الله تعالى : (( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)) (القمر:,54,55) ثم قضى ومات - رحمه الله - .
لماذا أيَّها الأحبة :
نفتحُ صفحاتٍ من التاريخِ صفراء، ونرجعُ إلى الوراءِ كثيراً ، ونحسرُ أعيننا عن الواقعِ المُشرفِ الذي عطرهُ شُبانٌ أتقياء، نبلاء ، رجال أيُّ رجال ، عطَّروا مسامعنا بنهايتهم التي تُجددُ الحياة في القلب ، وتؤكدهُ بمغفرةِ اللهِ ورحمتهِ أكثر وأكثر !
دعاةً ، هداة، نصبوا أيَّامهم أمام الآخرةِ ، يشدُّون أمامَ جدارَ الليلِ أحلى أنواعَ العبادةِ لله وحدهُ لاشريك له .
كان هُناك شابٌ تعلق قلبهُ بالأذان، تتراقصُ الدمعاتُ من عينيهِ وهو يُنادي الناس، ( حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح ) رافعاً بها صوتهُ ، يمُدُّها ، ويُرسلُها حانيةً باردةً إلى آذنِ القاصي والداني، وبعد أيامٍ معدودة، جاءَهُ الابتلاءُ من الرحيم الرحمن - سبحانه وتعالى - فأصيبت مقلتاهُ وعيناهُ بالعمى ، وصار يحتاجُ إلى رعاية، والى أحدٍ يقومُ بشُؤونه ، ويكفلُ له متطلباته، فأمرهُ عمَّهُ وصنوأبيه ، أن يسكنَ عندهم في بيته ؛ فحصلَ مالا يُريدُهُ الشاب ؛ فسيصبحُ بعيداً عن الآذان وبُيوتَ الرحمن ، فرفضَ ألحَّ عليه عمَّهُ رأفةً عليه وشفقة، فقبلَ بعد ذلكَ ولكن بشرطٍ واحد، قال عمَّهُ وما ذاك ؟ قال : تأتونا بي قبلَ صلاة الفجر إلى مسجدي هذا ، ثُمَّ بعد شروق الشمس تأخذوني ، وتأتونا بي قبلَ صلاة الظُهر ، وتتركوني للأذان والإقامة والصلاة والدعاء بينهما ، حتى صلاةَ العشاء أُؤدي السُنة بعدها ، ثُمَّ أرجعُ إلى بيتكم ، استحسنَ العمُّ الطلبَ على كُلفتهِ وصعوبته ، وبعد زمنٍ ليس باليسير، والشابُ يَدفنُ سبابتاهُ في أذنيه، ويُنادي المسلمين للصلاة، ( الله أكبر، أشهدُ أن لااله إلا الله، حيَّ على الصلاة ) ؛ فإذا بروحهِ تخرج، ويموتُ ساعتها وهو يُؤذنُ. نسألُ الكريمَ من فضله .
وبعدُ عباد الله :
(( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ )) (الحديد: من الآية16)
يارب إن عظُمت ذنوبي كثرةً *** فلقد علمتُ بأنَّ عفوكَ أعظمُ
إن كان لا يرجُوكَ إلاَّ مُحسنٌ *** فمن الذي يدعو إليه المجرم
أدعوك ربِّ كما أُمرتُ تضرعاً *** فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحمُ
مالي إليكَ وسيلةً إلاَّ الرجا *** وجميلُ ظني ثُمَّ أنَّي مسلمُ
عباد الله : إنِّي داعٍ فأمنوا :
اللهمَّ يامن لا يَحِفُيك سائل، ولا ينقُصُك نائل ، يامن خزائنهُ ملأ
لا تغيضها النفقة، يامن وسعت رحمتهُ غضبه ، يا من يُعطي الكثيرَ على القليل، ويغفرُ الذنبَ العظيم ، ويقبلُ توبةَ العاصي .
اللهمَّ اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادةُ أنَّ لا إلهَ إلاَّ الله.
اللهمَّ ارزقنا توبةً قبل الموت ، وراحةً بعد الموت ، ولذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريم.
اللهمَّ أصلح لنا نياتنا ، وذُرياتنا ، واجعلنا هُداة مهديين، غير ضالين ولا مُضلين .
اللهمَّ اغفر لأمهاتنا، واغفر اللهمَّ لآبائنا ، اللهمَّ اجزهم عنَّا خيرَ ماجزيتَ محسناً على إحسانه ، اللهمَّ من كان منهم حياً فمتعهُ بسمعهِ وبصره وقوته، ومن كان منهم ميتاً فاجعل مثواهُ جناتكَ جنات النعيم ، اللهمَّ وسِّع لهُ في قبره ، واجعلهُ روضةً من رياضِ الجنة ، ولا تجعلهُ حُفرةً من حُفرِ النارِ يا رب العالمين .
اللهمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا ،وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادُنا ، وارزقنا من كلِّ خير، واكتب لنا السلامةَ من كلِّ شرٍ برحمتك يا أرحمَ الراحمين .
اللهمَّ يامن ردَّ البصر على يعقوب ، وشفا من المرضِ أيوب، وألانَ الحديدَ لداً وود، وجعل النارَ برداً وسلاماً على إبراهيم ،
اللهمَّ ياحيُّ ياقيوم، اللهمَّ ياحيُّ ياقيوم!! اللهمَّ اشف مريضنا!، اللهمَّ اشف مريضنا،! اللهمَّ اشف مريضنا،! واقبل تائبنا،! ويسِّر أُمورنا، وانصر مظلُومنا ، وأطعم جائعنا ، واكسِ عارينا ، واقضِ الدين عن المدينين ياذا الجلال والإكرام .
اللهمَّ انصر الإسلام و المسلمين في كلِّ مكان ، اللهمَّ انصرهم في فلسطين والشيشان ، وكشمير وأفغانسنتان، وفي كلِّ أرضٍ تُعبدُ فيها يا ربَّ العالمين .
اللهمَّ إنَّ ليلَ المجرمين قد طال، وقد أينعت رؤوسُ المجرمين الكافرين، اللهم قيِّض لهم من الحقِّ يداً حاصدة .
اللهمَّ لا ترفع لهم راية ، و لا تبلغهم غاية ، و اجعلهم لمن خلفهم آية ، اللهمَّ أرسل عليهمُ القوارع المُدمرة ،و الأعاصيرُ الفتاكة ، والريحُ المُهلكة، والأمراضُ المتنوعة ، اللهمَّ أشغلهم بأنفسهم عن الإسلام ، اللهمَّ أرنا فيهم يوماً أسوداً ، اللهمَّ اجعلهم يتمنونَ الموت و لايجدونهُ يارب العالمين .
اللهمَّ أنت اللهُ لا إله إلاَّ أنت ، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ و لا تجعلنا من القانطين، اللهم أغيثاً غيثياً مغيثاً هنيئاً مريئا ، سحاً غدقاً ، نافعاً غير ضار، تثسقي به العباد ، تَنشرُ رحمتك على العباد ، اللهمَّ أغثنا ، واغث قلوبنا بالإيمان ، وبلادنا بالقطر يا رحمن، اللهمَّ صلي على محمدٍ عدد ما تعاقب الليل والنهار
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى