رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د. رياض بن محمد المسيميري
المنافقون
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ لـه. وأشهدُ أنَّ لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) ]آل عمران:102[. (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) ]النساء:1[. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) ]الأحزاب:70-71[.
أمَّا بعدُ: فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ r وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها, وكلَّ محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعدُ ، أيَّها المسلمون :
فمنذ أن أعلنَ الإسلامُ عن قُدومهِ إلى الحياةِ من جديد, قبلَ أربعة عشرَ قرناً من الزمان, ولا يزالُ أعداءُ الإسلامِ يكيدون له بكلِ خبثٍ ودهاء, ويَسعون للقضاءِ عليه بكل وسيلةٍ ممكنة, بيدَ أنَّه لم يعرف المسلمون في قديمٍ أو حديث، عدواً أشدُ خطراً, وأعظم ضرراً من أولئك المنافقين المختبئين داخلَ الصفوف, المؤججينَ لنارِ الفتنة, الناخرينَ في جسدِ الأمةِ نخرَ السوس, الساعينَ في الأرضِ فساداً واللهُ لا يحبُ المفسدين : (( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ )) [المنافقون:4] .
إذاً فهم يتظاهرون بالإسلام، وينطقون بالشهادتين، وقد يَشهدون الجُمَع والجماعات، ويقرؤون القرآن ، ويطالعون السنَّة المطهرة وربَّما افتتحوا مقالاتُهم بالحمد للهِ, والصلاةِ على النبي الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- وكلُ ذلك إمعاناً في التدليسِ والتضليل, ممَّا يلبسُ هويتَهم, ويَخفي حقيقتَهم على الكثيرين ممَّن حُرمَ حُسنَ الاطلاعِ والفهم لكتاب اللهِ وسنَّة رسولهِ- عليه السلام- واللذان أطنبا في الحديثِ عن أولئك المجرمين, وكشفاَ زيفهم, وفضَحا أساليبهم وطرائقَهم, وبيَّنا ملامحَهم وصفاتُهم, حتى لكأنَّك تعرفهم بسيماهم . (( وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَا كَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَا هُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ )) [محمد:30] .
وفي صحيح مسلمٍ عن حذيفةَ- رضي الله عنه- قال: (( كان الناس يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الخيرِ, وكنتُ أسألُه عن الشرِّ، مخافةَ أن يدركَني فقلت: يا رسول الله إنَّا كنا في جاهليةٍ وشر، فجاءنا اللهُ بهذا الخير فهل بعد هذا الخيرِ شر ؟ قال : نعم ، فقلتُ لـه: هل بعد ذلك الشرِّ من خير قال : نعم وفيه دَخَن قلت : وما دَخنُه ؟ قال:قوم يَستنون بغير سُنتي ويهتَدون بغير هديي, تَعرفُ منهم وتُنكر, فقلت:هل بعد ذلك الخيرِ من شر؟ قال : نعم ، دعاةٌ على أبوابِ جهنم, من أجَابهم إليها قَذفُوه فيها فقلت:يا رسول الله ، صفهم لنا, قال: نعم، هم قوم من جلدتنا, يتكلمون بألسنتنا .. )) [1]. وهؤلاء الذين وصَفهم الرسولُ- صلى الله عليه وسلم- لحذيفة, هم المنافقون, وهم قومٌ من بني جلدتنا, ويتحدثونَ ويكتبونَ بلغتنا , ونقرأُ لهم صباحَ مساء, لكنَّ الأمة المنحدرة لا تزالُ غافلةً عن أهدافِهم, جاهلةً بأوصافِهم، غير مدركةً لأساليبِهم ووسائلِهم, فأنَّى لها أنْ تأمنَ شرَّهم, أو تحذَر كيدَهم, فإلى حديثِ القرآنِ الكريم وهو يُعرِّي تلكَ الوجوهَ القبيحة, ويفضحُ تلكَ الشراذم الكئيبة, نصحاً للأمة أن تقع في شباكِهم, أو تزلَ قدمٌ بعد ثبوتِها, يقول الله تعالى في كتابه الكريم : (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )) [البقرة: 10,9,8] , فالمخادعةٌ ركنٌ رَكين, وأصلٌ أصيل, لا يقومُ النفاقُ بدونه, والمنافقون هم صُناعُ الكيدِ والمكر, وهم رؤوسُ الخيانةِ والغدر, ويظهرُ خداعُهم ومكرُهم, من خلالِ سرعةِ تلونِهم, وفُجاءةِ تَحوُّلهِم, وإمساكهِم للعصا من وسطِها : (( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاء )) (النساء: من الآية143) ، : (( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ )) (البقرة:14) ويتضحُ خداعهم من خلالِ ابتساماتهِمُ الصفراء, وجباهَهُم القاطبة عند ملاقاةِ الوجُوهِ الخيِّرة, وما يعقبون ذلك من عضِّ الأناملِ, وقضمُ الشفاهِ من الغيظِ, والمقتُ الشديد : (( وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )) (آل عمران: من الآية119) .
ويظهر خداعهم كذلك من خلالِ تلاعبهم بالألفاظ, وتحريفِ الكلمِ عن مواضعه, فقاموسَهم مختلطٌ مقلوب, ومعجمُهم فاسدٌ منكوس, فالتفسُّخُ عندهم حضارة, والميوعة لديهم شطارة, والسفورُ تقدمية , والتبرُجُ مدنية, والتمثيلُ فنونٌ راقية, والغناءُ صدقٌ ومعاناة, والموسيقى هدوءٌ للأعصاب, والزنا حرية شخصية, والربا استثمارٌ ومضاربة, والإلحادُ شعرٌ حر إلى آخرِ القائمةِ المستهلكة ِالمعروفة.
ومن مظاهِر خدَاعهم كذلك . (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ )) (البقرة:11, 12) .
فهم قتلةُ الحياءِ والفضيلة, وهم سفراءُ الدياثةِ والرذيلة, وهم دعاةُ الاختلاطِ والسفور, وهم سدنةُ العُهرِ والفجور, وهم زعماءُ الإباحيةِ الهابطة, وهم فرسانُ الدعواتِ الساقطة, فكم من البيوتِ العامرةِ خرَّبوها, وكم من الأُسرِ الفاضلةِ أفسدوها, وكم من الشبابِ الواعدِ أضاعوه, وكم من حياءِ العذارى هتكوه, وكم من رايةٍ للرذيلةِ رفعوها, وكم من صروحٍ للفضيلة وضعوها, قاتلهم الله أنى يؤفكون, ومن ملامح أولئك الشياطين قُبولَهم للحقِ حين يوافقُ أهواءهم, ويُلبي أطماعَهم , لا لأنَّه الحق، ( ولكن لحاجةٍ في نفسِ يعقوب ) فكثيراً ما تسمعهم يستشهدون بآيةٍ, أو حديثٍ ما, ويرددونها صباح مساء, حين تخدمُ مصالحَهم, وتحققُ مطالبَهم, في مقابلِ إعراضٍ تام, وصدودٍ عام، عن كلِّ ما يصادمُ شهواتِ النفوسِ وحظوظها, وشبهاتِ القلوبِ وعللِها .
(( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) (النور:47/50) .
فهذه الصفةُ إذاً تعكسُ مقدارَ الخسةِ والنذالة، التي تنطوي عليها تركيبةُ المنافِق ونفسيتُه, فهو مستعدٌ دائماً لقبولِ كلِّ شئ, ومدَّ يده لكلِّ أحد، ما دام يحققُ له ما يريد, ويُلبي له ما يهوى, بيد أنَّهُ لا يترددُ بتاتاً في رفضِ كلِّ شئ, وبغضِ كلِّ شئ, وحربِ كل أحد ما دام مستعصياً على أهوائِه, متمرداً على أطماعِه, ثم هي كذلك صفةٌ تُجلِّي بوضوح تلك الأرضيةَ المتحركة، التي يستندُ إليها ذلك المأفون, والتي تفتقدُ للمبادئِ الثابتة, والقيمِ الراسخة, فهو عارٍ من النزاهةِ والإنصاف, والتجرد والموضوعية, يعيشُ بلا مبدأ أو قيمة أو خُلُق، سريعُ التلون, بالغُ المكرِ، شديدُ الدهاء, يومٌ في أقصى اليمين ويومٌ في أقصى الشمال, وعدوُ الأمسِ صديقُ اليوم, وصديقُ اليومِ عدو الغدِ القريب : (( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً )) [النساء:141] .
ومن ملامحِ المنافقين وصفاتِهم, خذلانُهم للمؤمنين ساعةَ الكربِ والشدة، منفضينَ عنهم في أحرجِ المواقف، يواجهون الباطلَ بمفردهم, ناهيك عن عباراتِ الشماتةِ والتشفي, ومجالسِ التندرِ والسخرية, وقد يكونُ منهم من يتجلببُ بجلبابِ النُسَّاك والعُبَّاد, أو يرفعُ رايةَ الدعوةِ والإصلاح, فلا تكادُ تستريبُ من صدقِهم, أو تشكُ في إخلاصِهم, لبراعتهمِ في التمثيل, ومهارتِهم في أداءِ الأدوار بكلِّ دقةٍ واقتدار, حتى إذا آن أوانُ الجد وحانتْ ساعةُ المحنة, امتطوا صهوَة الفرارِ والمهرب, على طريقةِ أسلافِهم يومَ أُحد , أو على طريقةِ : (( إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً )) [الأحزاب: من الآية13] .
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم. واستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة, والنعمةَ المسداة, وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين,
أمَّا بعدُ:
أيَّها المسلمون :
فإنَّ للمنافقينَ أساليبَ ووسائل في خلخلةِ الصفوف, وتفريقِ الكلمة وزعزعةِ الثقة, فمن ذلك: ترويجُهم للشائعات التي تثير البلبلة, وتؤججُ الفتنة, وتستدعي اهتمامَ الفضوليين, وهم يهدفون من وراءِ بثِّ الشائعاتِ المُغرضة إلى تحقيقِ غاياتٍ معينة, لعلَّ من أهمِها: إضعافُ الثقةِ في النماذجِ الخيرة, والقممِ الشامخةِ من رجالاتِ الأمةِ وقادتها, حيثُ يدورُ محورُ تلكَ الشائعات على التشكيكِ والإرجاف, واتهامِ النوايا, وهم بذلك يرثون طريقةَ أسلافِهم, أبطالَ حادثةِ الإفكِ المشهورة, يومَ خاضَ المنافقون في عرضِ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واتهموا ابنَةَ الصديق بأبشعِِ تُهمة, وأعظمِ جناية, وما ذلك إلا لزعزعةِ الثقةِ في شخصِ رسولِ الله r , وتفريق الناسِ من حولـه، ليطيبَ لهم المكان, وتخلو لهم الساحة، ليبدأ بعدَها مسلسلَ الدجل وخلطِ الحقِّ بالباطل. فأحذر أخي المسلم أن تُرددَ كلُّ ما يُشاع ويُفتر ى ضد إخوانك المسلمين, لا سيما العلماء المخلصون, والدعاة الصالحون, وتذكر قولـه تعالى : (( لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ )) (النور:12) .
وقوله كذلك : (( وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ )) (النور:16) .
ومن أساليبِ المنافقين وطرائقِهم للوصولِ إلى أهدافهِم ومقاصدهِم, إنفاقُ المالِ في مشروعاتٍ ذات طابعٍ خيري, ظاهرُها الرحمة، وباطنُها من قبلِها العذاب, فقديماً أسس المنافقون على عهدِ رسول الله r مسجدَ الضرار، غطاءً لمؤامراتهِم وحربهِم الخفيةِ للإسلام, وهو في الوقتِ نفسه دِعايةً مكشوفة، توهمُ العامَّة والمغفلين بأنَّهم رسلُ رحمة, ودعاةُ فضيلة, ورافعو معاقلِ الإسلام ، (( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون )) (التوبة: من الآية107) تأمل رحمك الله قولَهم . (( إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى )) ويقسمونَ على ذلك قسماً, فهم يدَّعون حُسنَ النية والمقصد، والرغبة في الخيرِ والإحسان, ولكنَّ الله يفضحُ كذبَ دعواهم, وزيفَ مقاصدِه, ويشهدُ إنَّهم لكذبون, وقِسْ على ذلك باقي أعمالِهم من صلاةٍ وصدقة، وبرٍ وصلة, يراءون الناسَ ولا يذكرون الله إلا قليلاً, وأخيراً وليس آخر فإنَّ من أساليبهم تبني سياسةَ التجويع, ومحاولَة قطعِ إمداداتِ الحياة عن المؤمنين الصادقين, كوسيلةٍ من وسائلِ الضغطِ والإرهاب .
(( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ )) (المنافقون:7) وهم في طريقتهم تلك يسعون لابتزازِ الشُرفاء, ومساومةِ الكرام في قضايا لا تقبلُ نقاشاً أو حواراً , متناسين أنَّ النفوسَ الأبيةَ المؤمنة لن تتخلى عن مواقِفها, ولن تتنازَل عن مبادِئها, ولن تفرطَ بثوابتها, من أجلِ قليلٍ من الفُتات متناثرٌ فوقَ موائدِ اللئام، وهي التي تسمعُ نداءَ ربِها، يُجلجلُ في مسامعها صباحَ مساءَ . (( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ )) (الطلاق:2و من الآية 3 ) وقوله تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ )) (الذريات:58) وقوله كذلك : (( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )) (هود:6) .
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوقُ إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةٍ مضلة،
اللهمَّ زيِّنَا بزينةِ الإيمانِ واجعلنا هُداةً مُهتدين, لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروفِ آمرين, وعن المنكر ناهين يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمامُ المتقين، وقائدُ الغُرِّ المحجلين، وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
وأرضي اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهمَّ آمنَّا في الأوطانِ والدور، وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربِّك ربِّ العزةِ عما يصفون.
1 ـ رواه مسلم (1847).
المنافقون
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ لـه. وأشهدُ أنَّ لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) ]آل عمران:102[. (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) ]النساء:1[. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) ]الأحزاب:70-71[.
أمَّا بعدُ: فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ r وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها, وكلَّ محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعدُ ، أيَّها المسلمون :
فمنذ أن أعلنَ الإسلامُ عن قُدومهِ إلى الحياةِ من جديد, قبلَ أربعة عشرَ قرناً من الزمان, ولا يزالُ أعداءُ الإسلامِ يكيدون له بكلِ خبثٍ ودهاء, ويَسعون للقضاءِ عليه بكل وسيلةٍ ممكنة, بيدَ أنَّه لم يعرف المسلمون في قديمٍ أو حديث، عدواً أشدُ خطراً, وأعظم ضرراً من أولئك المنافقين المختبئين داخلَ الصفوف, المؤججينَ لنارِ الفتنة, الناخرينَ في جسدِ الأمةِ نخرَ السوس, الساعينَ في الأرضِ فساداً واللهُ لا يحبُ المفسدين : (( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ )) [المنافقون:4] .
إذاً فهم يتظاهرون بالإسلام، وينطقون بالشهادتين، وقد يَشهدون الجُمَع والجماعات، ويقرؤون القرآن ، ويطالعون السنَّة المطهرة وربَّما افتتحوا مقالاتُهم بالحمد للهِ, والصلاةِ على النبي الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- وكلُ ذلك إمعاناً في التدليسِ والتضليل, ممَّا يلبسُ هويتَهم, ويَخفي حقيقتَهم على الكثيرين ممَّن حُرمَ حُسنَ الاطلاعِ والفهم لكتاب اللهِ وسنَّة رسولهِ- عليه السلام- واللذان أطنبا في الحديثِ عن أولئك المجرمين, وكشفاَ زيفهم, وفضَحا أساليبهم وطرائقَهم, وبيَّنا ملامحَهم وصفاتُهم, حتى لكأنَّك تعرفهم بسيماهم . (( وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَا كَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَا هُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ )) [محمد:30] .
وفي صحيح مسلمٍ عن حذيفةَ- رضي الله عنه- قال: (( كان الناس يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الخيرِ, وكنتُ أسألُه عن الشرِّ، مخافةَ أن يدركَني فقلت: يا رسول الله إنَّا كنا في جاهليةٍ وشر، فجاءنا اللهُ بهذا الخير فهل بعد هذا الخيرِ شر ؟ قال : نعم ، فقلتُ لـه: هل بعد ذلك الشرِّ من خير قال : نعم وفيه دَخَن قلت : وما دَخنُه ؟ قال:قوم يَستنون بغير سُنتي ويهتَدون بغير هديي, تَعرفُ منهم وتُنكر, فقلت:هل بعد ذلك الخيرِ من شر؟ قال : نعم ، دعاةٌ على أبوابِ جهنم, من أجَابهم إليها قَذفُوه فيها فقلت:يا رسول الله ، صفهم لنا, قال: نعم، هم قوم من جلدتنا, يتكلمون بألسنتنا .. )) [1]. وهؤلاء الذين وصَفهم الرسولُ- صلى الله عليه وسلم- لحذيفة, هم المنافقون, وهم قومٌ من بني جلدتنا, ويتحدثونَ ويكتبونَ بلغتنا , ونقرأُ لهم صباحَ مساء, لكنَّ الأمة المنحدرة لا تزالُ غافلةً عن أهدافِهم, جاهلةً بأوصافِهم، غير مدركةً لأساليبِهم ووسائلِهم, فأنَّى لها أنْ تأمنَ شرَّهم, أو تحذَر كيدَهم, فإلى حديثِ القرآنِ الكريم وهو يُعرِّي تلكَ الوجوهَ القبيحة, ويفضحُ تلكَ الشراذم الكئيبة, نصحاً للأمة أن تقع في شباكِهم, أو تزلَ قدمٌ بعد ثبوتِها, يقول الله تعالى في كتابه الكريم : (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )) [البقرة: 10,9,8] , فالمخادعةٌ ركنٌ رَكين, وأصلٌ أصيل, لا يقومُ النفاقُ بدونه, والمنافقون هم صُناعُ الكيدِ والمكر, وهم رؤوسُ الخيانةِ والغدر, ويظهرُ خداعُهم ومكرُهم, من خلالِ سرعةِ تلونِهم, وفُجاءةِ تَحوُّلهِم, وإمساكهِم للعصا من وسطِها : (( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاء )) (النساء: من الآية143) ، : (( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ )) (البقرة:14) ويتضحُ خداعهم من خلالِ ابتساماتهِمُ الصفراء, وجباهَهُم القاطبة عند ملاقاةِ الوجُوهِ الخيِّرة, وما يعقبون ذلك من عضِّ الأناملِ, وقضمُ الشفاهِ من الغيظِ, والمقتُ الشديد : (( وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )) (آل عمران: من الآية119) .
ويظهر خداعهم كذلك من خلالِ تلاعبهم بالألفاظ, وتحريفِ الكلمِ عن مواضعه, فقاموسَهم مختلطٌ مقلوب, ومعجمُهم فاسدٌ منكوس, فالتفسُّخُ عندهم حضارة, والميوعة لديهم شطارة, والسفورُ تقدمية , والتبرُجُ مدنية, والتمثيلُ فنونٌ راقية, والغناءُ صدقٌ ومعاناة, والموسيقى هدوءٌ للأعصاب, والزنا حرية شخصية, والربا استثمارٌ ومضاربة, والإلحادُ شعرٌ حر إلى آخرِ القائمةِ المستهلكة ِالمعروفة.
ومن مظاهِر خدَاعهم كذلك . (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ )) (البقرة:11, 12) .
فهم قتلةُ الحياءِ والفضيلة, وهم سفراءُ الدياثةِ والرذيلة, وهم دعاةُ الاختلاطِ والسفور, وهم سدنةُ العُهرِ والفجور, وهم زعماءُ الإباحيةِ الهابطة, وهم فرسانُ الدعواتِ الساقطة, فكم من البيوتِ العامرةِ خرَّبوها, وكم من الأُسرِ الفاضلةِ أفسدوها, وكم من الشبابِ الواعدِ أضاعوه, وكم من حياءِ العذارى هتكوه, وكم من رايةٍ للرذيلةِ رفعوها, وكم من صروحٍ للفضيلة وضعوها, قاتلهم الله أنى يؤفكون, ومن ملامح أولئك الشياطين قُبولَهم للحقِ حين يوافقُ أهواءهم, ويُلبي أطماعَهم , لا لأنَّه الحق، ( ولكن لحاجةٍ في نفسِ يعقوب ) فكثيراً ما تسمعهم يستشهدون بآيةٍ, أو حديثٍ ما, ويرددونها صباح مساء, حين تخدمُ مصالحَهم, وتحققُ مطالبَهم, في مقابلِ إعراضٍ تام, وصدودٍ عام، عن كلِّ ما يصادمُ شهواتِ النفوسِ وحظوظها, وشبهاتِ القلوبِ وعللِها .
(( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) (النور:47/50) .
فهذه الصفةُ إذاً تعكسُ مقدارَ الخسةِ والنذالة، التي تنطوي عليها تركيبةُ المنافِق ونفسيتُه, فهو مستعدٌ دائماً لقبولِ كلِّ شئ, ومدَّ يده لكلِّ أحد، ما دام يحققُ له ما يريد, ويُلبي له ما يهوى, بيد أنَّهُ لا يترددُ بتاتاً في رفضِ كلِّ شئ, وبغضِ كلِّ شئ, وحربِ كل أحد ما دام مستعصياً على أهوائِه, متمرداً على أطماعِه, ثم هي كذلك صفةٌ تُجلِّي بوضوح تلك الأرضيةَ المتحركة، التي يستندُ إليها ذلك المأفون, والتي تفتقدُ للمبادئِ الثابتة, والقيمِ الراسخة, فهو عارٍ من النزاهةِ والإنصاف, والتجرد والموضوعية, يعيشُ بلا مبدأ أو قيمة أو خُلُق، سريعُ التلون, بالغُ المكرِ، شديدُ الدهاء, يومٌ في أقصى اليمين ويومٌ في أقصى الشمال, وعدوُ الأمسِ صديقُ اليوم, وصديقُ اليومِ عدو الغدِ القريب : (( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً )) [النساء:141] .
ومن ملامحِ المنافقين وصفاتِهم, خذلانُهم للمؤمنين ساعةَ الكربِ والشدة، منفضينَ عنهم في أحرجِ المواقف، يواجهون الباطلَ بمفردهم, ناهيك عن عباراتِ الشماتةِ والتشفي, ومجالسِ التندرِ والسخرية, وقد يكونُ منهم من يتجلببُ بجلبابِ النُسَّاك والعُبَّاد, أو يرفعُ رايةَ الدعوةِ والإصلاح, فلا تكادُ تستريبُ من صدقِهم, أو تشكُ في إخلاصِهم, لبراعتهمِ في التمثيل, ومهارتِهم في أداءِ الأدوار بكلِّ دقةٍ واقتدار, حتى إذا آن أوانُ الجد وحانتْ ساعةُ المحنة, امتطوا صهوَة الفرارِ والمهرب, على طريقةِ أسلافِهم يومَ أُحد , أو على طريقةِ : (( إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً )) [الأحزاب: من الآية13] .
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم. واستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة, والنعمةَ المسداة, وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين,
أمَّا بعدُ:
أيَّها المسلمون :
فإنَّ للمنافقينَ أساليبَ ووسائل في خلخلةِ الصفوف, وتفريقِ الكلمة وزعزعةِ الثقة, فمن ذلك: ترويجُهم للشائعات التي تثير البلبلة, وتؤججُ الفتنة, وتستدعي اهتمامَ الفضوليين, وهم يهدفون من وراءِ بثِّ الشائعاتِ المُغرضة إلى تحقيقِ غاياتٍ معينة, لعلَّ من أهمِها: إضعافُ الثقةِ في النماذجِ الخيرة, والقممِ الشامخةِ من رجالاتِ الأمةِ وقادتها, حيثُ يدورُ محورُ تلكَ الشائعات على التشكيكِ والإرجاف, واتهامِ النوايا, وهم بذلك يرثون طريقةَ أسلافِهم, أبطالَ حادثةِ الإفكِ المشهورة, يومَ خاضَ المنافقون في عرضِ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واتهموا ابنَةَ الصديق بأبشعِِ تُهمة, وأعظمِ جناية, وما ذلك إلا لزعزعةِ الثقةِ في شخصِ رسولِ الله r , وتفريق الناسِ من حولـه، ليطيبَ لهم المكان, وتخلو لهم الساحة، ليبدأ بعدَها مسلسلَ الدجل وخلطِ الحقِّ بالباطل. فأحذر أخي المسلم أن تُرددَ كلُّ ما يُشاع ويُفتر ى ضد إخوانك المسلمين, لا سيما العلماء المخلصون, والدعاة الصالحون, وتذكر قولـه تعالى : (( لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ )) (النور:12) .
وقوله كذلك : (( وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ )) (النور:16) .
ومن أساليبِ المنافقين وطرائقِهم للوصولِ إلى أهدافهِم ومقاصدهِم, إنفاقُ المالِ في مشروعاتٍ ذات طابعٍ خيري, ظاهرُها الرحمة، وباطنُها من قبلِها العذاب, فقديماً أسس المنافقون على عهدِ رسول الله r مسجدَ الضرار، غطاءً لمؤامراتهِم وحربهِم الخفيةِ للإسلام, وهو في الوقتِ نفسه دِعايةً مكشوفة، توهمُ العامَّة والمغفلين بأنَّهم رسلُ رحمة, ودعاةُ فضيلة, ورافعو معاقلِ الإسلام ، (( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون )) (التوبة: من الآية107) تأمل رحمك الله قولَهم . (( إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى )) ويقسمونَ على ذلك قسماً, فهم يدَّعون حُسنَ النية والمقصد، والرغبة في الخيرِ والإحسان, ولكنَّ الله يفضحُ كذبَ دعواهم, وزيفَ مقاصدِه, ويشهدُ إنَّهم لكذبون, وقِسْ على ذلك باقي أعمالِهم من صلاةٍ وصدقة، وبرٍ وصلة, يراءون الناسَ ولا يذكرون الله إلا قليلاً, وأخيراً وليس آخر فإنَّ من أساليبهم تبني سياسةَ التجويع, ومحاولَة قطعِ إمداداتِ الحياة عن المؤمنين الصادقين, كوسيلةٍ من وسائلِ الضغطِ والإرهاب .
(( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ )) (المنافقون:7) وهم في طريقتهم تلك يسعون لابتزازِ الشُرفاء, ومساومةِ الكرام في قضايا لا تقبلُ نقاشاً أو حواراً , متناسين أنَّ النفوسَ الأبيةَ المؤمنة لن تتخلى عن مواقِفها, ولن تتنازَل عن مبادِئها, ولن تفرطَ بثوابتها, من أجلِ قليلٍ من الفُتات متناثرٌ فوقَ موائدِ اللئام، وهي التي تسمعُ نداءَ ربِها، يُجلجلُ في مسامعها صباحَ مساءَ . (( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ )) (الطلاق:2و من الآية 3 ) وقوله تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ )) (الذريات:58) وقوله كذلك : (( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )) (هود:6) .
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوقُ إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةٍ مضلة،
اللهمَّ زيِّنَا بزينةِ الإيمانِ واجعلنا هُداةً مُهتدين, لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروفِ آمرين, وعن المنكر ناهين يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمامُ المتقين، وقائدُ الغُرِّ المحجلين، وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
وأرضي اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهمَّ آمنَّا في الأوطانِ والدور، وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربِّك ربِّ العزةِ عما يصفون.
1 ـ رواه مسلم (1847).
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى