رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د. رياض بن محمد المسيميري
مفاخر المسلمين وتراثهم الحضاري
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ لـه. وأشهدُ أنَّ لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) ]آل عمران:102[. (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) ]النساء:1[. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) ]الأحزاب:70-71[.
أمَّا بعدُ: فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ r وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها, وكلَّ محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعدُ ، أيَّها المسلمون :
فيقولُ اللهُ تعالى في كتابه الكريم : (( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ )) (الزخرف:44,43).
وصح عنه- عليه الصلاة و السلام- أنه قال : (( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتابُ الله وسنتي، عضوا عليها بالنواجذ، و إيَّاكم ومحدثات الأمور)) (1) .
وأخبرَ في الحديثِ الصحيح : (( أن الأنبياء لم يورثوا ديناراً و لا درهماً و إنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر )) (2) .
و يتضحُ من خلالِ هذه النصوصِ الشريفة, مدى حاجةِ الأمةِ إلى التمسكِ بميراث النبوةِ العظيم, مبعث عزتها و قوتها, وأساسَ نهضتها و حضارتها, وبمقدار تمسكها به تكون مكانتها ومنزلتها بين الأمم, فهو الموروثُ الحقيقي الذي ينبغي أن تفخرَ به وتعتز, كما أنَّهُ الإرثُ المبارك, الذي ينبغي أن تربي الأجيالُ و تنشأ على حبهِ والتمسك به, و نتذكرُ هُنا مقولةَ الفاروق t : (( نحنُ قومٌ أعزنا اللهُ بالإسلام و مهما ابتغينا العزةَ في غيره أذلنا الله )) .
وصدق t ونصح, فلقد كان العربُ في الجاهليةِ مضربُ المثلِ في التخلف والبدائية, وغلبت عليهم الوحشيةُ و القسوة, حتى وأدوا البنات, وأكلوا الميتة, واشتعلت بينهم الحروب القبلية المدمرة .
فهم أمَّةُ داحسٍ والغبراء, وفرسان حربِ البسوس , التي أضرمت نيرانها أربعين عاماً, فلا تسل عن أنهارِ الدماء, وبراكينَ الأحقادِ الملتهبة, ولا تسل عن جموعِ الثكالى, والأرامل واليتامى, من ضحايا العنادِ والبغي والعدوان.
كما انتشرت في المجتمعِ آنذاك, الأمراضُ الاجتماعيةِ المزمنة, والأخلاقُ الجاهلية الفاسدة , فكان شربُ الخمرِ واسعُ النطاق, شديدُ الرسوخِ، يتغنى بمجالسها الشعراءُ والأدباء , فهم القائلون:
ألا هبي بصحنك فأصبحينا ولا تبقى خمور الأندرينا
مشعشعةً كأن الحص فيها إذا ما الماءُ لا قاها سخينا
وأمَّا القمارُ, فمفخرةٌ من مفاخرهم, والعزوفُ عنه عارٌ ومسبة, كما انتشر الربا بأشكالهِ وألوانه, ولم يجدوا في تعاطيهِ إثماً و لا حرجاً, وأمَّا الزنا فكان للبغايا راياتٌ حمر يُعرفن بها- عياذاً بالله - وبالجملةِ كان العربُ آنذاك أضعفَ الشعوب, وأحقرها, لا قائد لهم ولا راعي , فهم أشبهُ بقطيعِ غنمٍ في ليلةٍ مطيرة .
هذه بعضُ مظاهرِ الذلةِ والمهانة, التي كان القومُ يعيشونها, حتى أشرقت شمسُ الرسالة, وسطعت أنوارُ النبوةِ, فبُعث نبينا- عليه الصلاة السلام- والحالُ كما ذكر فجاهد- عليه الصلاة والسلام- تلك الأوضاع البائسة, والأحوالِ المتخلفة, ونذرُ حياتهُ للدعوةِ والإصلاح, فأسهرَ ليلهُ وأظمأَ نهارهُ, وهو يبذلُ قصارى جُهده, وغايةَ وسعهَ مستميتاً في استصلاحِ القلوب القاسية, واستنقاذَ النفوسِ المريضةِ التي ألفت المنكر, واعتاد تهُ، ولم تعد تملكُ منه فكاكاً, حتى فتحَ اللهُ على يديهِ الشريفتين , فحدثت المعجزةُ العظيمة, والانقلابَ المدهش, فتحول المجتمعُ الجاهلي إلى عجائب الدهر, وسو انح التاريخ, حتى وجد فيهم القائدُ المسلم ، الذي يجلسُ مع اليهودي أمام القاضي, ينظرُ في أمرهما بكلِّ عدالةٍ و إنصاف, وحتى وُجد فيهم القائدُ المسلم الذي يخرجُ من البلد التي فتحها, لأنَّهُ أخلَّ بشرطٍ من شروط الفتح, وتحققت في أسلافنا نبوءتهِ - عليه الصلاة والسلام- حيث يقول: (( إنَّ اللهَ زوى لي الأرض فرأيت مشارقها و مغاربها, وإن أمتي سيبلغُ ملكها ما زوى لي منها )) (3) أخرجه مسلم .
عن ثوبان t ففتحتُ بلاد الروم و فارس, و أنفقتُ كنوزها في سبيلِ الله, ووصلت جحافلُ التوحيد أقاصي الدنيا شرقاً وغرباً .
وطالت أيامُ المسلمين, و دامت أمجادهم, وخلَّفوا مآثرَ لا تُنسى, ونشطَ العلماءُ فصنفوا وألفوا, وورثوا تركةً ضخمةً من نفائسِ المخطوطات , ومدائنَ العلم, و نبغَ في الإسلام علماءَ في الجبرِ والهندسة, وعلماءَ في الفلكِ والكيمياءِ والصيدلة, وعلوم البحار.
وألَّفَ أبو القاسم الزهراوي, عشرين مجلداً في الطبِّ والجراحة, وأطباءُ الإسلام, هم أولُ من فتت الحصى في المثانة , وكتبوا في الجذامِ والحصبة والطاعون, والمسلمون هم أولَّ من كشفَ عن الدورة الدموية , واستعملوا البنج في العمليات الجراحية, وظلت كُتبُ المسلمين في الطبِّ مراجعَ معتمدةٍ في جامعات الغرب ستةَ قرونٍ من الزمان, هذه بعضُ مآثرِ المسلمين, ولو استطردنا لضاقَ بنا المقام, وعجز البيان, وكلَّ البنان .
ومقصو دُنا أن هذه المآثرُ والمفاخر, ما كانت لتحدثَ لولا أن القومَ ارتشفوا من معين القرآن, ونهلوا من نبعِ السُنة العذبِ الزلال , الوحيين الشريفين , والمصدرين العظيمين, بالقرآنِ لسعادةِ الدنيا ونعيم الآخرة .
فالإسلامُ أيَّها الناس: هو مورُثنا الحقيقي, لن تصلحَ أحوالنا, و لن تستقيمَ أوضاعنا, إلا بأحيائهِ في النفوسِ , وترجمتهِ في الواقعِ المحسوس, وتحكيمهِ في عظائمِ الأمور وصغائرها.
ولقد حاولَ أعداءُ الإسلام منذُ زمنٍ طويل, تشكيكُ الأمةِ في ميراثها الحقيقي, وثقافتها الأصيلة, ومنجزاتِها الباهرة, فتوالت سهامُهم في الحرب والمكيدة, وتتابعت أبواقُهم في التضليلِ والإغواء, و استمالَ بعضُ المتنكرين للإسلام و أهلهِ استمالت ذلك البعضِ النشاز, والمسخِ البغيض في محاولةٍ لصُنعِ ثقافةٍ جديدة للأمة, نسجت خاماتها, وفصلت أكمامها, في بلاد الكُفر والإلحاد, وكان لتلك الثقافةِ الغريبة الوافدة على أيدي أولئكَ المفتونين مقدمات, وأصولٍ تنضحُ بالكفرِ والنفاق, فمن مقدماتها المُخزية, إعلانُ البراءةِ من ميراثِ الأمةِ الحقيقي- كتابُ الله وسنةَ رسوله- عليه الصلاة والسلام- والكفرُ بهما, والسخريةُ من أهلهما, ومن مُقدمات تلك الثقافةِ الكافرة: قطعُ الصلةِ بالماضي, وإعلانُ الحربِ عليه, واعتبارهِ مرحلةً غير صالحةٍ للفخار, فضلاً عن محاولةِ التكرار,
ويعقبُ تلك المقدماتِ الإلحادية, أصولٍ كُفرية, و أفكارٍ جهنمية, تتلخصُ أوزارها في إعلانِ التبعية للغربِ الكافر, حذَّو القُذة بالقذة, حتى لو دخلوا حُجر ضبٍ لدخلوهُ، ناهيكَ عن محاولةِ استجلابِ الثقافةِ الغربيةِ بكلِّ سُمومها وشُرورها,وإصباغُ الأُمة بصبغتها, كبديلٍ لثقافةِ الإسلامِ التي كفروا بها.
واسمع لبعضِ أقوالهم, وناقلُ الكُفرِ ليس بكافر, يقولُ أحدُ شياطينهم: الحضارةُ الأوربيةِ حضارةٌ مطلقةٌ بمعنى - أنَّها قابلةً للتطبيقِ في كلِّ زمانٍ ومكان- بينما الحضاراتُ السابقة, تاريخيةً و نسبية, ويقولُ شيطانُ آخر: من المستحيلِ أن نُقبلَ على تقنياتِ الغرب وعلمه, و نرفضُ في الوقتِ نفسهِ فلسفاته وثقافته, ويقولُ آخر: لا يُمكنُ أن نتحررَ من الغرب, إلا إذا تحررنا من تراثنا ذاته.
هذه بعضُ مقولاتِ الكفرةِ المجرمين, سُودت بها مؤلفاتُهم, و شهدت بها ندواتهم واجتماعاتهم, وذلك إفكهم وما كانوا يفترون, وصدق اللهَ إذ يقول : (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَر ْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ )) (الأنعام:112)
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم. واستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة, والنعمةَ المسداة, وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين,
أمَّا بعدُ:
أيَّها المسلمون: فخلاصةُ ما نُريدُ الوصولُ إليه ما يلي :
أولاً : الإيمانُ الجازمُ بأنَّ ميراثَ الأمة الحقيقي: هو القرآنُ و السنة, فيهما العصمةُ والنجاة, وفيهما سعادةُ الدنيا ونعيمُ الآخرة, وفيهما الحلُّ لجميعِ قضايانا ومعضلاتنا .
ثانياً : أنَّ الأمجادَ التي حققها أسلافُنا من الفتوحاتِ العظيمة, و الانتصارات الباهرة, و المؤلفات,والمصنفات, والصناعات, و الحضارات ما كانت لتحدث لو لا تمسك المسلمين بالإسلام دين الحق, و دين النور, و دين الجهاد, و دين العلم , و دين الحضارة, و دين المجد و القوة .
ثالثاً : إنه لا سبيلَ لاستعادةِ تلك الأمجاد, و تكرارُ تلك المفاخرِ إلاَّ بالعودةِ إلى الإسلام عقيدةً و شريعة, و منهج حياة .
رابعاً : إدراكُ خطورةِ الهجمةِ التي يشُنُّها أعداءُ الإسلام من المنافقين، للنيلِ من دينِ الأُمة وثوابتها, و أخلاقِها, و تارِيخِها .
خامساً : ضرورةَ إسكاتِ تلكَ الأصواتِ النشاز, و تطهيرُ المُجتمعاتِ من وبائها الفتَّاك وسُمِّها الزعاف .
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوقُ إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةٍ مضلة،
اللهمَّ زيِّنَا بزينةِ الإيمانِ واجعلنا هُداةً مُهتدين, لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروفِ آمرين, وعن المنكر ناهين يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمامُ المتقين، وقائدُ الغُرِّ المحجلين، وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
وأرضي اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهمَّ آمنَّا في الأوطانِ والدور، وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربِّك ربِّ العزةِ عما يصفون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رواه أبو داود (4607) من حديث العرباض بن سارية t .
2- رواه الترمذي (2682) من حديث أبي الدر داء t .
3- رواه مسلم (2889) .
مفاخر المسلمين وتراثهم الحضاري
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ لـه. وأشهدُ أنَّ لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) ]آل عمران:102[. (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) ]النساء:1[. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) ]الأحزاب:70-71[.
أمَّا بعدُ: فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ r وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها, وكلَّ محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعدُ ، أيَّها المسلمون :
فيقولُ اللهُ تعالى في كتابه الكريم : (( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ )) (الزخرف:44,43).
وصح عنه- عليه الصلاة و السلام- أنه قال : (( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتابُ الله وسنتي، عضوا عليها بالنواجذ، و إيَّاكم ومحدثات الأمور)) (1) .
وأخبرَ في الحديثِ الصحيح : (( أن الأنبياء لم يورثوا ديناراً و لا درهماً و إنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر )) (2) .
و يتضحُ من خلالِ هذه النصوصِ الشريفة, مدى حاجةِ الأمةِ إلى التمسكِ بميراث النبوةِ العظيم, مبعث عزتها و قوتها, وأساسَ نهضتها و حضارتها, وبمقدار تمسكها به تكون مكانتها ومنزلتها بين الأمم, فهو الموروثُ الحقيقي الذي ينبغي أن تفخرَ به وتعتز, كما أنَّهُ الإرثُ المبارك, الذي ينبغي أن تربي الأجيالُ و تنشأ على حبهِ والتمسك به, و نتذكرُ هُنا مقولةَ الفاروق t : (( نحنُ قومٌ أعزنا اللهُ بالإسلام و مهما ابتغينا العزةَ في غيره أذلنا الله )) .
وصدق t ونصح, فلقد كان العربُ في الجاهليةِ مضربُ المثلِ في التخلف والبدائية, وغلبت عليهم الوحشيةُ و القسوة, حتى وأدوا البنات, وأكلوا الميتة, واشتعلت بينهم الحروب القبلية المدمرة .
فهم أمَّةُ داحسٍ والغبراء, وفرسان حربِ البسوس , التي أضرمت نيرانها أربعين عاماً, فلا تسل عن أنهارِ الدماء, وبراكينَ الأحقادِ الملتهبة, ولا تسل عن جموعِ الثكالى, والأرامل واليتامى, من ضحايا العنادِ والبغي والعدوان.
كما انتشرت في المجتمعِ آنذاك, الأمراضُ الاجتماعيةِ المزمنة, والأخلاقُ الجاهلية الفاسدة , فكان شربُ الخمرِ واسعُ النطاق, شديدُ الرسوخِ، يتغنى بمجالسها الشعراءُ والأدباء , فهم القائلون:
ألا هبي بصحنك فأصبحينا ولا تبقى خمور الأندرينا
مشعشعةً كأن الحص فيها إذا ما الماءُ لا قاها سخينا
وأمَّا القمارُ, فمفخرةٌ من مفاخرهم, والعزوفُ عنه عارٌ ومسبة, كما انتشر الربا بأشكالهِ وألوانه, ولم يجدوا في تعاطيهِ إثماً و لا حرجاً, وأمَّا الزنا فكان للبغايا راياتٌ حمر يُعرفن بها- عياذاً بالله - وبالجملةِ كان العربُ آنذاك أضعفَ الشعوب, وأحقرها, لا قائد لهم ولا راعي , فهم أشبهُ بقطيعِ غنمٍ في ليلةٍ مطيرة .
هذه بعضُ مظاهرِ الذلةِ والمهانة, التي كان القومُ يعيشونها, حتى أشرقت شمسُ الرسالة, وسطعت أنوارُ النبوةِ, فبُعث نبينا- عليه الصلاة السلام- والحالُ كما ذكر فجاهد- عليه الصلاة والسلام- تلك الأوضاع البائسة, والأحوالِ المتخلفة, ونذرُ حياتهُ للدعوةِ والإصلاح, فأسهرَ ليلهُ وأظمأَ نهارهُ, وهو يبذلُ قصارى جُهده, وغايةَ وسعهَ مستميتاً في استصلاحِ القلوب القاسية, واستنقاذَ النفوسِ المريضةِ التي ألفت المنكر, واعتاد تهُ، ولم تعد تملكُ منه فكاكاً, حتى فتحَ اللهُ على يديهِ الشريفتين , فحدثت المعجزةُ العظيمة, والانقلابَ المدهش, فتحول المجتمعُ الجاهلي إلى عجائب الدهر, وسو انح التاريخ, حتى وجد فيهم القائدُ المسلم ، الذي يجلسُ مع اليهودي أمام القاضي, ينظرُ في أمرهما بكلِّ عدالةٍ و إنصاف, وحتى وُجد فيهم القائدُ المسلم الذي يخرجُ من البلد التي فتحها, لأنَّهُ أخلَّ بشرطٍ من شروط الفتح, وتحققت في أسلافنا نبوءتهِ - عليه الصلاة والسلام- حيث يقول: (( إنَّ اللهَ زوى لي الأرض فرأيت مشارقها و مغاربها, وإن أمتي سيبلغُ ملكها ما زوى لي منها )) (3) أخرجه مسلم .
عن ثوبان t ففتحتُ بلاد الروم و فارس, و أنفقتُ كنوزها في سبيلِ الله, ووصلت جحافلُ التوحيد أقاصي الدنيا شرقاً وغرباً .
وطالت أيامُ المسلمين, و دامت أمجادهم, وخلَّفوا مآثرَ لا تُنسى, ونشطَ العلماءُ فصنفوا وألفوا, وورثوا تركةً ضخمةً من نفائسِ المخطوطات , ومدائنَ العلم, و نبغَ في الإسلام علماءَ في الجبرِ والهندسة, وعلماءَ في الفلكِ والكيمياءِ والصيدلة, وعلوم البحار.
وألَّفَ أبو القاسم الزهراوي, عشرين مجلداً في الطبِّ والجراحة, وأطباءُ الإسلام, هم أولُ من فتت الحصى في المثانة , وكتبوا في الجذامِ والحصبة والطاعون, والمسلمون هم أولَّ من كشفَ عن الدورة الدموية , واستعملوا البنج في العمليات الجراحية, وظلت كُتبُ المسلمين في الطبِّ مراجعَ معتمدةٍ في جامعات الغرب ستةَ قرونٍ من الزمان, هذه بعضُ مآثرِ المسلمين, ولو استطردنا لضاقَ بنا المقام, وعجز البيان, وكلَّ البنان .
ومقصو دُنا أن هذه المآثرُ والمفاخر, ما كانت لتحدثَ لولا أن القومَ ارتشفوا من معين القرآن, ونهلوا من نبعِ السُنة العذبِ الزلال , الوحيين الشريفين , والمصدرين العظيمين, بالقرآنِ لسعادةِ الدنيا ونعيم الآخرة .
فالإسلامُ أيَّها الناس: هو مورُثنا الحقيقي, لن تصلحَ أحوالنا, و لن تستقيمَ أوضاعنا, إلا بأحيائهِ في النفوسِ , وترجمتهِ في الواقعِ المحسوس, وتحكيمهِ في عظائمِ الأمور وصغائرها.
ولقد حاولَ أعداءُ الإسلام منذُ زمنٍ طويل, تشكيكُ الأمةِ في ميراثها الحقيقي, وثقافتها الأصيلة, ومنجزاتِها الباهرة, فتوالت سهامُهم في الحرب والمكيدة, وتتابعت أبواقُهم في التضليلِ والإغواء, و استمالَ بعضُ المتنكرين للإسلام و أهلهِ استمالت ذلك البعضِ النشاز, والمسخِ البغيض في محاولةٍ لصُنعِ ثقافةٍ جديدة للأمة, نسجت خاماتها, وفصلت أكمامها, في بلاد الكُفر والإلحاد, وكان لتلك الثقافةِ الغريبة الوافدة على أيدي أولئكَ المفتونين مقدمات, وأصولٍ تنضحُ بالكفرِ والنفاق, فمن مقدماتها المُخزية, إعلانُ البراءةِ من ميراثِ الأمةِ الحقيقي- كتابُ الله وسنةَ رسوله- عليه الصلاة والسلام- والكفرُ بهما, والسخريةُ من أهلهما, ومن مُقدمات تلك الثقافةِ الكافرة: قطعُ الصلةِ بالماضي, وإعلانُ الحربِ عليه, واعتبارهِ مرحلةً غير صالحةٍ للفخار, فضلاً عن محاولةِ التكرار,
ويعقبُ تلك المقدماتِ الإلحادية, أصولٍ كُفرية, و أفكارٍ جهنمية, تتلخصُ أوزارها في إعلانِ التبعية للغربِ الكافر, حذَّو القُذة بالقذة, حتى لو دخلوا حُجر ضبٍ لدخلوهُ، ناهيكَ عن محاولةِ استجلابِ الثقافةِ الغربيةِ بكلِّ سُمومها وشُرورها,وإصباغُ الأُمة بصبغتها, كبديلٍ لثقافةِ الإسلامِ التي كفروا بها.
واسمع لبعضِ أقوالهم, وناقلُ الكُفرِ ليس بكافر, يقولُ أحدُ شياطينهم: الحضارةُ الأوربيةِ حضارةٌ مطلقةٌ بمعنى - أنَّها قابلةً للتطبيقِ في كلِّ زمانٍ ومكان- بينما الحضاراتُ السابقة, تاريخيةً و نسبية, ويقولُ شيطانُ آخر: من المستحيلِ أن نُقبلَ على تقنياتِ الغرب وعلمه, و نرفضُ في الوقتِ نفسهِ فلسفاته وثقافته, ويقولُ آخر: لا يُمكنُ أن نتحررَ من الغرب, إلا إذا تحررنا من تراثنا ذاته.
هذه بعضُ مقولاتِ الكفرةِ المجرمين, سُودت بها مؤلفاتُهم, و شهدت بها ندواتهم واجتماعاتهم, وذلك إفكهم وما كانوا يفترون, وصدق اللهَ إذ يقول : (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَر ْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ )) (الأنعام:112)
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم. واستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة, والنعمةَ المسداة, وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين,
أمَّا بعدُ:
أيَّها المسلمون: فخلاصةُ ما نُريدُ الوصولُ إليه ما يلي :
أولاً : الإيمانُ الجازمُ بأنَّ ميراثَ الأمة الحقيقي: هو القرآنُ و السنة, فيهما العصمةُ والنجاة, وفيهما سعادةُ الدنيا ونعيمُ الآخرة, وفيهما الحلُّ لجميعِ قضايانا ومعضلاتنا .
ثانياً : أنَّ الأمجادَ التي حققها أسلافُنا من الفتوحاتِ العظيمة, و الانتصارات الباهرة, و المؤلفات,والمصنفات, والصناعات, و الحضارات ما كانت لتحدث لو لا تمسك المسلمين بالإسلام دين الحق, و دين النور, و دين الجهاد, و دين العلم , و دين الحضارة, و دين المجد و القوة .
ثالثاً : إنه لا سبيلَ لاستعادةِ تلك الأمجاد, و تكرارُ تلك المفاخرِ إلاَّ بالعودةِ إلى الإسلام عقيدةً و شريعة, و منهج حياة .
رابعاً : إدراكُ خطورةِ الهجمةِ التي يشُنُّها أعداءُ الإسلام من المنافقين، للنيلِ من دينِ الأُمة وثوابتها, و أخلاقِها, و تارِيخِها .
خامساً : ضرورةَ إسكاتِ تلكَ الأصواتِ النشاز, و تطهيرُ المُجتمعاتِ من وبائها الفتَّاك وسُمِّها الزعاف .
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوقُ إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةٍ مضلة،
اللهمَّ زيِّنَا بزينةِ الإيمانِ واجعلنا هُداةً مُهتدين, لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروفِ آمرين, وعن المنكر ناهين يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمامُ المتقين، وقائدُ الغُرِّ المحجلين، وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
وأرضي اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهمَّ آمنَّا في الأوطانِ والدور، وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربِّك ربِّ العزةِ عما يصفون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رواه أبو داود (4607) من حديث العرباض بن سارية t .
2- رواه الترمذي (2682) من حديث أبي الدر داء t .
3- رواه مسلم (2889) .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى