رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د.محمد بن عبد الله الهبدان
الآثار الجاهلية
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ , ونستغفرهُ , ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا , منْ يُهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ , ومنْ يضلل فلا هاديَ له وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله.
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (آل عمران:102) .
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) ) النساء:(.
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) ]الأحزاب:70-71[.
أما بعد : فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ , وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ r وشرَّ الأمورِ مـُحدثاتُها , وكلَّ محدثةٍ بدعة , وكلَّ بدعةٍ ضلالة , وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أما بعدُ ، أيها المسلمون :
أعلنَ أحدُ أثرياءِ أمريكا وهوَ (رُوكفِلَر) عن تبرُّعِه بمبلغِ عشرةِ ملايينِ دولارَ لإنشاءِ متحفٍ للآثارِ الفرعونيةِ ، يُلحقَ بهِ معهدٌ لتخريجِ المتخصصينَ في هذا الفنِّ !!
عشرةُ ملايينَ دولارَ يُنفقُها هذا الرجلُ الغربيُّ على إحياءِ الآثارِ الفرعونيةِ في بلادِ الإسلامِ ـ في مصرَ ـ فما السِّرُّ في ذلك ؟ ما السِّرُ في الاهتمامِ الشديدِ من قِبلِ الغَرب بإحياءِ التراثِ القديمِ ـ وخاصةً منها ما كانَ قبلَ الإسلامِ ـ!؟
ما السِّرُّ في إثارةِ مثلِ هذهِ الأمورِ بينَ شعوبِ العالمِ الإسلاميِّ , وإعطاءِ تلكَ الأشياءِ الهالةَ العظيمةَ ! والصورةَ الضخمةَ !؟
هلْ كانَ ذلكَ نابعاً عن عفويةٍ و حسنِ نيَّةِ ؟ أمْ كانَ نابِعاً عن محبَّةٍ لما ينفعُ الأُمَّةَ ويغيِّرُ مسارَها لِما ينفعُها !؟
بالطبعِ لا ! كيفَ يكونُ عن حسنِ نيةٍ واللهُ يقولُ : (( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ )) [البقرة :120]
كيفَ يكونُ عن عفويَّةٍ واللهُ يقولُ : (( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ )) [التوبة :8]
كيفَ يكونُ عن محبةٍ واللهُ يقولُ : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ )) [آل عمران :118]
إن إثارتهُم لمثلِ هذه الاهتماماتِ بينَ شُعوبِ العالمِ الإسلاميِّ كانَ الهدفُ منهُ إقصاءَ الإسلامِ من واقعِ الناسِ ..صَرْفَ الناسِ عن موروثِهِمْ الحقيقي وتاريِخهمُ المجيدِ ..تفريغَ القُلوبِ من موروثِ الأنبياءِ : (( والأنبياءُ لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً إنمَّا ورَّثوا هذا الدينَ )) . (1)
إنَّهم يريدونَ إشغالَ الأمَّةِ عن دِينها الذي خُلِقت من أجلهِ ، ووُجدتْ لتقومَ به ،إنهم يُريدونَ سلبَ الأمةِ شرَفَها المجيدَ الذي شرَّفها اللهُ به حسَداً من عندِ أنفسِهم (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ )) [البقرة :143] .
إنهم يُريدونَ تفريغَ القضيةِ - أيِّ قضيةٍ بوجهٍ عامٍّ- مِن المحتوى الإسلاميِّ ، و إحلالَ أفكارٍ أُخرى وعقيدةٍ أُخرى محلَّ عقيدتِهِ ، إنهمْ يريدونَ من الأمةِ أن تقطَعَ صِلتَها بدِينها ؛ وتَنتَسبَ إلى هذهِ الآثارِ ، فالمصريُّ ينتسِبُ إلى الفَراعِنةِ ، والتُّركيُّ يتيهُ إعجاباً بتركيَّتِه ويُحاولُ أن يَصِلَ نَسبَهُ بِهولاكُو وجِنكِيزَ ..وهكذا !
إنَّ الدُّولَ الغَربيَّة شجَّعتْ على ظُهورِ مثلِ هذا الاهتمامِ ..لتحقيقِ مطامِعها في الشرقِ الإسلاميِّ هاهوَ أحدهُم يقولُ : ( .. مِنْ أهمِّ مظاهِر فرنَجةِ العالمِ الإسلاميِّ: تنميةُ الاهتمامِ ببعثِ الحضاراتِ القديمةِ التيَّ ازدَهرت في البلادِ المختلفةِ التي يَشغلُها المُسلمونَ الآنَ ، فمثلُ هذا الاهتمامِ موجودٌ في تركيا ومصرَ و أندنيسيا والعِراقِ وفارسَ ، وقدْ تكونُ أهمِّيتُهُ محصورةً الآنَ في تقويةِ شعُورِ العَداءِ لأوربا ، ولكنْ من المُمكنِ أن يلعبَ في المستقبلِ دوراً مُهماً في تقويةِ الوطنيَّةِ الشعوبيَّةِ وتدعيمِ مُقوماتهِا ) (2) .
ويا حَسرةً على العبادِ ،هاهم أبناءُ جلدَتِنا, ومِمَّن يتكلَّمونَ بألسنتِنا, من العلمانيينَ والحداثيينَ ومَرضَى القُلوبِ جعَلوا أكبرَ همَِّهم التعلُّقَ بموروثاتِ الآباءِ و الأجدادِ ..ومورُوثاتُ الأجْدادِ هل هيِ الأعمالُ المجيدَةُ ؟ كلاَّ ! هل هيَ الأخلاقُ الحَميدةُ ؟ كلا ! هل هو جِهادُهم الصَّالِح قولاً وعملاً ، ودعوةً وصبراً ؟ كلاَّ !
بل إنَّ موروثَ الأجدادِ الذي يعنونُه ويقصدونهُ هو مَوروثُ الجاهليةِ الأولى ، فتراهم يُحيُون أسواقَ الجاهليةِ..وشعراءَ الجاهليةِ وأشخاصَ الجاهليةِ وهئياتِ الجاهليةِ ومعارِكَ الجاهليةِ ، فقدْ أصبحت على ألسنةِ الحَداثيينَ أمثالُ هذه الجاهليات هي الموروثاتُ الشعبيةُ القيِّمةُ ! وجعلوا مِنَ الموروثاتِ الشعبيةِ ما ورثناهُ قريبا عن أجدادِنا وآبائِنا الذي هو من قَبيلِ العاداتِ ، وتعلقوا بالأشياءِ كما يحدثُ الآنَ من الاهتمامِ بالمَوروثِ الشعبي ،حتى صارَ عيداً سنوياً يُضاهي العيدَ الشَّرعيَّ أو يكادُ يكونُ !
فبمَ يحتفلونَ ؟ وما المناسبةُ ؟ومَنْ شرَعَهُ ؟
وحتى تَعلمَ أخي المُباركُ أنَّنا لا نتكلمُ من فَراغٍ ، بلْ من واقعٍ ملموسٍ فهذا الشَّاعرُ أحمدُ شوقي ـ الذي يحوى ديوانُهُ عدداً من القصائدِ الإسلاميَّةِ ـ قالَ قصيدةً يُمجِّدُ فيها الفَراعنةَ وقد أهدى هذهِ القصيدةَ إلى المُستشرِق مرجو ليوث ـ أستاذ اللغةِ العربيةِ- ، وقالَ شوقي في مَقدمةِ الإهداءِ لهُ : ( نظَمتها تغنِّياً بمحاسِنِ الماضي ، وتقييداً لآثارِ الأباء ، وقضاءً لحقِّ النِّيلِ الأسعدِ الأمْجدِ ، ونَسبتُها إليكَ عِرفاناً لفضلِكَ على لُغةِ العَربِ ، وما أنْفقتَ من شبابٍ وكُهولةٍ في إحياءِ علُومها ونَشرِ آدابهِا ) وهذا آخرُ يُطالبُ في جريدةِ الندوةِ ويقولُ : ( هذهِ المدينةُ المقدسةُ بها آثارٌ كثيرةٌ تستحقُّ الذِّكرى ، ونحن العربَ لمْ نهتمَّ بهذهِ الآثارِ بّينما نُشاهدُ مَعالمَ باريسَ ، ولندنَ بها مِنَ الآثارِ ما يَجعلُ شُعوبَها تُخلِّدُ هذه الذِّكرى ، فمالنا نحنُ المُسلمينَ العَربَ لا نهتمُّ بآثارِ العُصورِ الماضيةِ ..) (3) .
يُريدونَ أن نُقدِّسَ كلَّ شيءٍ عن الآباءِ والأجدادِ إلاَّ السُّنَّةَ والشرعَ القَويمَ !
يريدونَ أن نُقدِّسَ كُلَّ شيءٍ عن الآباءِ والأجدادِ إلا الدِّينَ المستقيم !
يُردونَ أن نُقدِّسَ كلِّ شيءٍ عن الآباءِ والأجدادِ إلا الجَهادَ والخيرَ والفَضيلةَ !
قال العلاَّمةُ ابنُ بازٍ- رحمه الله- : ( إنَّ تعظيمَ الآثارِ لا يكونُ بالأبنيةِ والكتاباتِ والتَّأسي بالكَفرةِ ، وإنَّما تعظيمُ الآثارِ يكونُ باتباعِ أهلهِا في أعمالهِمُ المجيدةِ ، وأخلاقِهمُ الحَميدةِ ، وجَهادِهم قولاً وعملاً ، ودعوةً وصبراً ، هكذا كان السَّلفُ الصَّالحُ يُعظِّمونَ آثارَ سلفِهمُ الصَّالحينَ ، وأما تعظيمُ الآثارِ والأبنيةِ والزخارفِ والكِتابةِ ونحوِ ذلكَ فهوَ خلافُ هَديِ السَّلفِ الصَّالحِ ، وإنَّما ذلكَ سُنَّةُ اليهودِ والنَّصارى ومَنْ تشبَّهَ بهم ، وهُوَ من أعظمِ وسائلِ الشِّركِ ، وِعبادةِ الأنبياءِ والأولياءِ , كما يشهدُ بهِ الواقِعُ ..) (4) .
وقَال الشيخُ صالحُ الفوزانِ - حفظه الله- : ( ومِنْ دسائسِ هذه المُنظَّماتِ الكفريَّةِ دعوتُها إلى إحياءِ الآثارِ القديمةِ والفُنونِ الشعبيَّةِ المُندثَرةِ حتى يشغلُوا المسلمينَ عنِ العملِ المثمرِ بإحياءِ الحَضاراتِ القديمةِ والعودةِ إلى الوَراءِ وتجاهلِ حضارةِ الإسلامِ ،
وإلاَّ فما فائدةُ المُسلمينَ من البحثِ عن أطلالِ الدِّيارِ البائدةِ ! والرُّسومِ الباليةِ الدارسةِ ! وما فائدةُ المسلمينَ من إحياءِ عاداتٍ وتقاليدَ أو ألعابٍ قد فَنِيتْ وبادتْ ! في وقتٍ هم في أمسِّ الحاجةِ إلى العَملِ الجادِّ المثُمرِ ، وقدْ أحاطَ بهم أعداؤهم مِن كُلِّ جانبٍ ,واحتلَّوا كثيرا ًمن بلادِهم, وبعضِ مقدساتهِم ! إنَّهم في مثلِ هذهِ الظُروفِ بحاجةٍ إلى العودةِ إلى دينهم, و إحياءِ سنَّةِ نبيِّهم, والاقتداءِ بسلفِهمُ الصَّالح, حتىَّ يعودَ لهمْ عزُّهم وسُلطانهُم،وحتى يستطيعُوا الوُقوفَ على أقدامهم لردِّ أعدائهم ، وأن يعتزوا برصِيدهمُ العِلميُّ من الكتابِ والسُّنَّةِ والفِقهِ ، ويستمدُّوا من ذلكَ خطَّةَ سيرِهم في الحَياةِ ، ويقرؤوا تاريخَ أسْلافِهمْ ؛لأخذِ القدوَةِ الصَّالحةِ من سِيَرِهم ، أمَّا أن ينشغلوا بالبحثِ عن آثارِ الدِّيارِ ، وإحياءِ الفُنونِ الشَّعبيةِ بالأغانيِ والأسمارِ ، وإقامةِ مشاهدَ تحُاكي العَاداتِ القديمةَ ، فكلُّ ذلك ممَّا لا جَدوى فيهِ ، وإنَّما هو استهلاكٌ للوقتِ والمالِ في غيرِ طائلٍ ، بل ربمَّا يعودُ بهم إلى الوَثنيةِ ، والعَوائدِ الجاهليَّةِ) .
فاتَّقوا اللهَ أيُّها المسلمونَ واعملُوا ما فيهِ صلاحٌ لكم ولأُمتكم تُفلحوا دُنيا وأُخرى (( وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )) [التوبة :105]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .
الخطبة الثانية
أيها الأخوةُ : إنَّ إبليسَ ـ لعنه الله ـ استطاع بمكرِه وكيدِه أن يقلبَ مفاهيمَ البشر ، من ذلك تعظيمُ الآباءِ والأجدادِ, إذْ النَّاسُ بِفِطْرَتِهم يُقدِّرونَ آباءَهم وأجدادَهم ويحَترمونهمْ ، فهذه النَّزعةُ صارتْ وسيلةً لتقديسِ الأشخاصِ والأشياءِ ، ومنَها تدرَّجَ بهمُ الشَّيطانُ إلى الشِّركِ .. وقد بيَّنَ اللهُ Y تخبُّطَ أهلِ الجاهليةِ في هذه المَكيدةِ الإبليسِّية فقالَ تعالى مُبيناً احتِجاجَ قومِ نوحٍ r بهذهِ الشُّبهةِ : (( فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ )) وهذا نبيُّ اللهِ صالحٌ يُواجههُ قومهُ بهذه الحُجَّة الداحِضةِ ، ويتَّهمونه في عقلهِ ، ويردُّون عليهِ دعوتَهُ ويقولونَ لهُ (( قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ )) [هود:62 ]
أرأيتَ أيُّها الأخُ المُباركُ كيفَ استغلَّ دُعاةُ الضَّلالةِ هذهِ المَكيدةَ الإبليسيَّةَ بالإفسادِ في الأرضِ, والكُفرِ باللهِ Y , والتَّلاعبِ بالأديانِ وتَغييرهَا على حَسَبِ أهوائِهم واستحسَاناتهِم وأغراضِهم المتنوِّعةِ،
ولهذا قالَ إمامُ دارِ الهِجرةِ في زمانِهِ ـ الإمامُ مالكُ ابنُ أنس رحمه الله ـ كلمةً عَظيمةَ : ( لنْ يصلُحَ آخرُ هذه الأمَّةِ إلاَّ بِما أصلحَ أوَّلها ) لقدَ صلُحَ حالُ أولئكَ عندما تركوا ما كانَ عليهِ آباؤُهم وأجدادُهم وراءَهمْ ظِهرياً ، وانشغلوا بما يَنفعهمْ من ميراثِ محمَّدٍ r ،
و ستَعودُ للأمَّةِ – بإذن الله تعالى - عزَّتُها المَسلوبةُ،ويرجعُ إليها مجدُها الأثيلُ ، ونصرُها على الأعداءِ ، إن تمسَّكنا بمِاَ تمسَّكوا بهِ واعتصَمنا بمَا اعتصمُوا به قالَ اللهُ تعالى : (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ )) [النور :55]
ألا إنَّها دعوةٌ لأهل الإسلامِ جَميعاً إلى أن يتمسَّكوا بميراثِهمُ الحقيقيِّ كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ r , ألا إنَّها دعوةٌ إلى التَّكاتُف على تحقيقِهما في جَميعِ المجَالاتِ التَّشريعيةِ والاقتصاديَّةِ والسِّياسَّيةِ والاجتماعيَّةِ و جَميعِ جَوانبِ الحَياةِ ..
آلا إنَّها دعوةٌ للحذَرِ من كلَّ ما يُخالفُ ذلك أو يُفضي إلى التباسِهِ أو التَّشكيكِ فيهِ..
آلا إنَّها دعوةٌ لتصحيحِ المَفاهيمِ فالميراثُ الحقيقيُّ الذي يجبُ الاعتناءُ بهِ وإحياؤُه وتكريسُ الجُهودِ من أجلِهِ هو: ميراثُ محمدٍ r ، باتَّباع منهاجهِ والسيَّرِ على طريقِهِ الذي لا سَعادةَ للبشريةِ إلا به , ولا عِزَّةَ إلا بالتَّمسُّكِ بجَانبه ..
هذا وصَلُّوا وسلِّموا رَحِمكمُ الله النَّبيِّ العَظيمِ والمُرشِدِ الكَريمِ r .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه أبو داود ( 3641 ) والترمذي ( 2682 ) وابن حبان والحاكم وصححه , قال الحافظ : وله شواهد يتقوى بها . ( فتح الباري : 1 / 160 ).
2- انظر أساليب الغزو الفكري ص (78) .
3- جريدة الندوة في عددها الصادر في 24/6/1380هـ والقائل هو مصطفى أمين . وانظر في عددها الصادر في 24/5/1387هـ بقلم صالح محمد جمال .
4- الرد على مصطفى أمين ص(548) من المجموع المفيد .
الآثار الجاهلية
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ , ونستغفرهُ , ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا , منْ يُهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ , ومنْ يضلل فلا هاديَ له وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله.
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (آل عمران:102) .
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) ) النساء:(.
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) ]الأحزاب:70-71[.
أما بعد : فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ , وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ r وشرَّ الأمورِ مـُحدثاتُها , وكلَّ محدثةٍ بدعة , وكلَّ بدعةٍ ضلالة , وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أما بعدُ ، أيها المسلمون :
أعلنَ أحدُ أثرياءِ أمريكا وهوَ (رُوكفِلَر) عن تبرُّعِه بمبلغِ عشرةِ ملايينِ دولارَ لإنشاءِ متحفٍ للآثارِ الفرعونيةِ ، يُلحقَ بهِ معهدٌ لتخريجِ المتخصصينَ في هذا الفنِّ !!
عشرةُ ملايينَ دولارَ يُنفقُها هذا الرجلُ الغربيُّ على إحياءِ الآثارِ الفرعونيةِ في بلادِ الإسلامِ ـ في مصرَ ـ فما السِّرُّ في ذلك ؟ ما السِّرُ في الاهتمامِ الشديدِ من قِبلِ الغَرب بإحياءِ التراثِ القديمِ ـ وخاصةً منها ما كانَ قبلَ الإسلامِ ـ!؟
ما السِّرُّ في إثارةِ مثلِ هذهِ الأمورِ بينَ شعوبِ العالمِ الإسلاميِّ , وإعطاءِ تلكَ الأشياءِ الهالةَ العظيمةَ ! والصورةَ الضخمةَ !؟
هلْ كانَ ذلكَ نابعاً عن عفويةٍ و حسنِ نيَّةِ ؟ أمْ كانَ نابِعاً عن محبَّةٍ لما ينفعُ الأُمَّةَ ويغيِّرُ مسارَها لِما ينفعُها !؟
بالطبعِ لا ! كيفَ يكونُ عن حسنِ نيةٍ واللهُ يقولُ : (( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ )) [البقرة :120]
كيفَ يكونُ عن عفويَّةٍ واللهُ يقولُ : (( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ )) [التوبة :8]
كيفَ يكونُ عن محبةٍ واللهُ يقولُ : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ )) [آل عمران :118]
إن إثارتهُم لمثلِ هذه الاهتماماتِ بينَ شُعوبِ العالمِ الإسلاميِّ كانَ الهدفُ منهُ إقصاءَ الإسلامِ من واقعِ الناسِ ..صَرْفَ الناسِ عن موروثِهِمْ الحقيقي وتاريِخهمُ المجيدِ ..تفريغَ القُلوبِ من موروثِ الأنبياءِ : (( والأنبياءُ لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً إنمَّا ورَّثوا هذا الدينَ )) . (1)
إنَّهم يريدونَ إشغالَ الأمَّةِ عن دِينها الذي خُلِقت من أجلهِ ، ووُجدتْ لتقومَ به ،إنهم يُريدونَ سلبَ الأمةِ شرَفَها المجيدَ الذي شرَّفها اللهُ به حسَداً من عندِ أنفسِهم (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ )) [البقرة :143] .
إنهم يُريدونَ تفريغَ القضيةِ - أيِّ قضيةٍ بوجهٍ عامٍّ- مِن المحتوى الإسلاميِّ ، و إحلالَ أفكارٍ أُخرى وعقيدةٍ أُخرى محلَّ عقيدتِهِ ، إنهمْ يريدونَ من الأمةِ أن تقطَعَ صِلتَها بدِينها ؛ وتَنتَسبَ إلى هذهِ الآثارِ ، فالمصريُّ ينتسِبُ إلى الفَراعِنةِ ، والتُّركيُّ يتيهُ إعجاباً بتركيَّتِه ويُحاولُ أن يَصِلَ نَسبَهُ بِهولاكُو وجِنكِيزَ ..وهكذا !
إنَّ الدُّولَ الغَربيَّة شجَّعتْ على ظُهورِ مثلِ هذا الاهتمامِ ..لتحقيقِ مطامِعها في الشرقِ الإسلاميِّ هاهوَ أحدهُم يقولُ : ( .. مِنْ أهمِّ مظاهِر فرنَجةِ العالمِ الإسلاميِّ: تنميةُ الاهتمامِ ببعثِ الحضاراتِ القديمةِ التيَّ ازدَهرت في البلادِ المختلفةِ التي يَشغلُها المُسلمونَ الآنَ ، فمثلُ هذا الاهتمامِ موجودٌ في تركيا ومصرَ و أندنيسيا والعِراقِ وفارسَ ، وقدْ تكونُ أهمِّيتُهُ محصورةً الآنَ في تقويةِ شعُورِ العَداءِ لأوربا ، ولكنْ من المُمكنِ أن يلعبَ في المستقبلِ دوراً مُهماً في تقويةِ الوطنيَّةِ الشعوبيَّةِ وتدعيمِ مُقوماتهِا ) (2) .
ويا حَسرةً على العبادِ ،هاهم أبناءُ جلدَتِنا, ومِمَّن يتكلَّمونَ بألسنتِنا, من العلمانيينَ والحداثيينَ ومَرضَى القُلوبِ جعَلوا أكبرَ همَِّهم التعلُّقَ بموروثاتِ الآباءِ و الأجدادِ ..ومورُوثاتُ الأجْدادِ هل هيِ الأعمالُ المجيدَةُ ؟ كلاَّ ! هل هيَ الأخلاقُ الحَميدةُ ؟ كلا ! هل هو جِهادُهم الصَّالِح قولاً وعملاً ، ودعوةً وصبراً ؟ كلاَّ !
بل إنَّ موروثَ الأجدادِ الذي يعنونُه ويقصدونهُ هو مَوروثُ الجاهليةِ الأولى ، فتراهم يُحيُون أسواقَ الجاهليةِ..وشعراءَ الجاهليةِ وأشخاصَ الجاهليةِ وهئياتِ الجاهليةِ ومعارِكَ الجاهليةِ ، فقدْ أصبحت على ألسنةِ الحَداثيينَ أمثالُ هذه الجاهليات هي الموروثاتُ الشعبيةُ القيِّمةُ ! وجعلوا مِنَ الموروثاتِ الشعبيةِ ما ورثناهُ قريبا عن أجدادِنا وآبائِنا الذي هو من قَبيلِ العاداتِ ، وتعلقوا بالأشياءِ كما يحدثُ الآنَ من الاهتمامِ بالمَوروثِ الشعبي ،حتى صارَ عيداً سنوياً يُضاهي العيدَ الشَّرعيَّ أو يكادُ يكونُ !
فبمَ يحتفلونَ ؟ وما المناسبةُ ؟ومَنْ شرَعَهُ ؟
وحتى تَعلمَ أخي المُباركُ أنَّنا لا نتكلمُ من فَراغٍ ، بلْ من واقعٍ ملموسٍ فهذا الشَّاعرُ أحمدُ شوقي ـ الذي يحوى ديوانُهُ عدداً من القصائدِ الإسلاميَّةِ ـ قالَ قصيدةً يُمجِّدُ فيها الفَراعنةَ وقد أهدى هذهِ القصيدةَ إلى المُستشرِق مرجو ليوث ـ أستاذ اللغةِ العربيةِ- ، وقالَ شوقي في مَقدمةِ الإهداءِ لهُ : ( نظَمتها تغنِّياً بمحاسِنِ الماضي ، وتقييداً لآثارِ الأباء ، وقضاءً لحقِّ النِّيلِ الأسعدِ الأمْجدِ ، ونَسبتُها إليكَ عِرفاناً لفضلِكَ على لُغةِ العَربِ ، وما أنْفقتَ من شبابٍ وكُهولةٍ في إحياءِ علُومها ونَشرِ آدابهِا ) وهذا آخرُ يُطالبُ في جريدةِ الندوةِ ويقولُ : ( هذهِ المدينةُ المقدسةُ بها آثارٌ كثيرةٌ تستحقُّ الذِّكرى ، ونحن العربَ لمْ نهتمَّ بهذهِ الآثارِ بّينما نُشاهدُ مَعالمَ باريسَ ، ولندنَ بها مِنَ الآثارِ ما يَجعلُ شُعوبَها تُخلِّدُ هذه الذِّكرى ، فمالنا نحنُ المُسلمينَ العَربَ لا نهتمُّ بآثارِ العُصورِ الماضيةِ ..) (3) .
يُريدونَ أن نُقدِّسَ كلَّ شيءٍ عن الآباءِ والأجدادِ إلاَّ السُّنَّةَ والشرعَ القَويمَ !
يريدونَ أن نُقدِّسَ كُلَّ شيءٍ عن الآباءِ والأجدادِ إلا الدِّينَ المستقيم !
يُردونَ أن نُقدِّسَ كلِّ شيءٍ عن الآباءِ والأجدادِ إلا الجَهادَ والخيرَ والفَضيلةَ !
قال العلاَّمةُ ابنُ بازٍ- رحمه الله- : ( إنَّ تعظيمَ الآثارِ لا يكونُ بالأبنيةِ والكتاباتِ والتَّأسي بالكَفرةِ ، وإنَّما تعظيمُ الآثارِ يكونُ باتباعِ أهلهِا في أعمالهِمُ المجيدةِ ، وأخلاقِهمُ الحَميدةِ ، وجَهادِهم قولاً وعملاً ، ودعوةً وصبراً ، هكذا كان السَّلفُ الصَّالحُ يُعظِّمونَ آثارَ سلفِهمُ الصَّالحينَ ، وأما تعظيمُ الآثارِ والأبنيةِ والزخارفِ والكِتابةِ ونحوِ ذلكَ فهوَ خلافُ هَديِ السَّلفِ الصَّالحِ ، وإنَّما ذلكَ سُنَّةُ اليهودِ والنَّصارى ومَنْ تشبَّهَ بهم ، وهُوَ من أعظمِ وسائلِ الشِّركِ ، وِعبادةِ الأنبياءِ والأولياءِ , كما يشهدُ بهِ الواقِعُ ..) (4) .
وقَال الشيخُ صالحُ الفوزانِ - حفظه الله- : ( ومِنْ دسائسِ هذه المُنظَّماتِ الكفريَّةِ دعوتُها إلى إحياءِ الآثارِ القديمةِ والفُنونِ الشعبيَّةِ المُندثَرةِ حتى يشغلُوا المسلمينَ عنِ العملِ المثمرِ بإحياءِ الحَضاراتِ القديمةِ والعودةِ إلى الوَراءِ وتجاهلِ حضارةِ الإسلامِ ،
وإلاَّ فما فائدةُ المُسلمينَ من البحثِ عن أطلالِ الدِّيارِ البائدةِ ! والرُّسومِ الباليةِ الدارسةِ ! وما فائدةُ المسلمينَ من إحياءِ عاداتٍ وتقاليدَ أو ألعابٍ قد فَنِيتْ وبادتْ ! في وقتٍ هم في أمسِّ الحاجةِ إلى العَملِ الجادِّ المثُمرِ ، وقدْ أحاطَ بهم أعداؤهم مِن كُلِّ جانبٍ ,واحتلَّوا كثيرا ًمن بلادِهم, وبعضِ مقدساتهِم ! إنَّهم في مثلِ هذهِ الظُروفِ بحاجةٍ إلى العودةِ إلى دينهم, و إحياءِ سنَّةِ نبيِّهم, والاقتداءِ بسلفِهمُ الصَّالح, حتىَّ يعودَ لهمْ عزُّهم وسُلطانهُم،وحتى يستطيعُوا الوُقوفَ على أقدامهم لردِّ أعدائهم ، وأن يعتزوا برصِيدهمُ العِلميُّ من الكتابِ والسُّنَّةِ والفِقهِ ، ويستمدُّوا من ذلكَ خطَّةَ سيرِهم في الحَياةِ ، ويقرؤوا تاريخَ أسْلافِهمْ ؛لأخذِ القدوَةِ الصَّالحةِ من سِيَرِهم ، أمَّا أن ينشغلوا بالبحثِ عن آثارِ الدِّيارِ ، وإحياءِ الفُنونِ الشَّعبيةِ بالأغانيِ والأسمارِ ، وإقامةِ مشاهدَ تحُاكي العَاداتِ القديمةَ ، فكلُّ ذلك ممَّا لا جَدوى فيهِ ، وإنَّما هو استهلاكٌ للوقتِ والمالِ في غيرِ طائلٍ ، بل ربمَّا يعودُ بهم إلى الوَثنيةِ ، والعَوائدِ الجاهليَّةِ) .
فاتَّقوا اللهَ أيُّها المسلمونَ واعملُوا ما فيهِ صلاحٌ لكم ولأُمتكم تُفلحوا دُنيا وأُخرى (( وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )) [التوبة :105]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .
الخطبة الثانية
أيها الأخوةُ : إنَّ إبليسَ ـ لعنه الله ـ استطاع بمكرِه وكيدِه أن يقلبَ مفاهيمَ البشر ، من ذلك تعظيمُ الآباءِ والأجدادِ, إذْ النَّاسُ بِفِطْرَتِهم يُقدِّرونَ آباءَهم وأجدادَهم ويحَترمونهمْ ، فهذه النَّزعةُ صارتْ وسيلةً لتقديسِ الأشخاصِ والأشياءِ ، ومنَها تدرَّجَ بهمُ الشَّيطانُ إلى الشِّركِ .. وقد بيَّنَ اللهُ Y تخبُّطَ أهلِ الجاهليةِ في هذه المَكيدةِ الإبليسِّية فقالَ تعالى مُبيناً احتِجاجَ قومِ نوحٍ r بهذهِ الشُّبهةِ : (( فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ )) وهذا نبيُّ اللهِ صالحٌ يُواجههُ قومهُ بهذه الحُجَّة الداحِضةِ ، ويتَّهمونه في عقلهِ ، ويردُّون عليهِ دعوتَهُ ويقولونَ لهُ (( قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ )) [هود:62 ]
أرأيتَ أيُّها الأخُ المُباركُ كيفَ استغلَّ دُعاةُ الضَّلالةِ هذهِ المَكيدةَ الإبليسيَّةَ بالإفسادِ في الأرضِ, والكُفرِ باللهِ Y , والتَّلاعبِ بالأديانِ وتَغييرهَا على حَسَبِ أهوائِهم واستحسَاناتهِم وأغراضِهم المتنوِّعةِ،
ولهذا قالَ إمامُ دارِ الهِجرةِ في زمانِهِ ـ الإمامُ مالكُ ابنُ أنس رحمه الله ـ كلمةً عَظيمةَ : ( لنْ يصلُحَ آخرُ هذه الأمَّةِ إلاَّ بِما أصلحَ أوَّلها ) لقدَ صلُحَ حالُ أولئكَ عندما تركوا ما كانَ عليهِ آباؤُهم وأجدادُهم وراءَهمْ ظِهرياً ، وانشغلوا بما يَنفعهمْ من ميراثِ محمَّدٍ r ،
و ستَعودُ للأمَّةِ – بإذن الله تعالى - عزَّتُها المَسلوبةُ،ويرجعُ إليها مجدُها الأثيلُ ، ونصرُها على الأعداءِ ، إن تمسَّكنا بمِاَ تمسَّكوا بهِ واعتصَمنا بمَا اعتصمُوا به قالَ اللهُ تعالى : (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ )) [النور :55]
ألا إنَّها دعوةٌ لأهل الإسلامِ جَميعاً إلى أن يتمسَّكوا بميراثِهمُ الحقيقيِّ كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ r , ألا إنَّها دعوةٌ إلى التَّكاتُف على تحقيقِهما في جَميعِ المجَالاتِ التَّشريعيةِ والاقتصاديَّةِ والسِّياسَّيةِ والاجتماعيَّةِ و جَميعِ جَوانبِ الحَياةِ ..
آلا إنَّها دعوةٌ للحذَرِ من كلَّ ما يُخالفُ ذلك أو يُفضي إلى التباسِهِ أو التَّشكيكِ فيهِ..
آلا إنَّها دعوةٌ لتصحيحِ المَفاهيمِ فالميراثُ الحقيقيُّ الذي يجبُ الاعتناءُ بهِ وإحياؤُه وتكريسُ الجُهودِ من أجلِهِ هو: ميراثُ محمدٍ r ، باتَّباع منهاجهِ والسيَّرِ على طريقِهِ الذي لا سَعادةَ للبشريةِ إلا به , ولا عِزَّةَ إلا بالتَّمسُّكِ بجَانبه ..
هذا وصَلُّوا وسلِّموا رَحِمكمُ الله النَّبيِّ العَظيمِ والمُرشِدِ الكَريمِ r .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه أبو داود ( 3641 ) والترمذي ( 2682 ) وابن حبان والحاكم وصححه , قال الحافظ : وله شواهد يتقوى بها . ( فتح الباري : 1 / 160 ).
2- انظر أساليب الغزو الفكري ص (78) .
3- جريدة الندوة في عددها الصادر في 24/6/1380هـ والقائل هو مصطفى أمين . وانظر في عددها الصادر في 24/5/1387هـ بقلم صالح محمد جمال .
4- الرد على مصطفى أمين ص(548) من المجموع المفيد .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى