لبيك يا الله



حديث قدسىعن رب العزة جلا وعلاعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أحب عبداً دعا له جبريل، عليه السلام، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً، دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض”.
المواضيع الأخيرة
كل عام وانتم بخيرالجمعة 23 أبريل - 16:08رضا السويسى
كل عام وانتم بخيرالخميس 7 مايو - 22:46رضا السويسى
المسح على رأس اليتيم و العلاج باللمسالأربعاء 22 أغسطس - 14:45البرنس
(16) ما أجمل الغنائمالجمعة 11 أغسطس - 18:51رضا السويسى
مطوية ( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)الأحد 9 أغسطس - 19:02عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)السبت 8 أغسطس - 12:46عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )الأربعاء 5 أغسطس - 18:34عزمي ابراهيم عزيز



اذهب الى الأسفل
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

مدرسة الحج  Empty مدرسة الحج {الأحد 27 نوفمبر - 10:44}

د. رياض بن محمد المسيميري
مدرسة الحج


إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ لـه. وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102). (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) (النساء:1). ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) (الأحزاب:70-71).

أما بعدُ : فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ ص وشرُّ الأمورِ مـُحدثاتُها, وكل محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار .

أما بعدُ أيها المسلمون:

فقد انقضى موسمُ الحجِ ومضت أيامُه المباركات, مضت شاهدةً لما أودعها أقوامٌ من صالحِ العمل وعظيمِ القُربة, فصلَّوا وصامُوا, وحجُوا واعتمروا, وتنافسوا في الطاعات, وتسابقوا إلى الجنات : (( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ )) (الأنبياء: 90) .

وأمَّا الآخرون وما أدراك ما الآخرين ؟فيا حسرةً على العباد، فقد ضاعتِ الفرصةَ من بين أيديهم، فلم يرفعوا بها رأساً, ولم يعرفوا لها قدراً, فاتخذوها هزواً ولعاً, وغرتهم الحياةُ الدنيا, وظنوا أنهم إلى ربهم لا يرجعون! مضت عشرُ ذي الحجة, ومضى يومُ عرفة ويومُ النحر, وأيامُ التشريق, كما مضت قبل ذلك دهورٌ وأعوام, وانصرمت سنونٌ وآجال, مضت خلفةً لمن أراد أن يذكرَ أو أرد شكوراً, وعاد الحجاج إلى بلادهم وأوطانهم, فهل تغيرَ شيءٌ ما في واقعِهم وحياتهم؟!هل من أثرٍ لهذه المواسمِ العظيمة, والأيامِ الجليلة على سلوكِهم وتصرفاتِهم؟! أيُّ إيجابيةٍ تحققت على نطاق الفردِ والجماعةِ, وعلى مستوى الأمةِ الوسط التي اختارها الله لتكونَ شاهدةً على الناس, يوم يقومُ الناسُ لبِ العالمين !

أيها المسلمون : إن من أبرزِ عواملِ انحطاطِ الأمةِ وتخلفِها, وضياعِها وشتاتِها, أنها أمةٌ لا تُحسنُ الاستفادةَ من شعائرِ ربها العظيم, أمةٌ تغفلُ بكلِ برود عن الأسرارِ المذهلة, والحكمِ العظيمة, والفوائدِ الكبرى لفرائض الإسلام, وشعائر الإسلام, وقبسا تِ النورِ التي جاء بها الإسلام, إنها أمةٌ تتعاملُ مع شعائرِ دينها، وفرائض شرعها بصورةٍ رتيبةٍ مُملة, ينتابها البرود, ويغشاها الجمود, ويغلفها الذهولُ والشرود, وإلاّ فما معنى أن يتحولَ الحجُّ في أذهانِ الكثيرين, وفي أحاسيسهم وتصوراتِهم, إلى مجردِ ساحةٍ متراميةِ الأطراف, تُسمىَّ المشاعرُ المقدسة, يزدحم فيها أناسٌ كثيرون, يؤدون المناسك بكلِ اندفاعٍ وعجلةٍ, دون أن يستشعروا معنىً لما يصنعون, ولو تأملتَ أحاديث َ الناسِ في مجالسِهم أثناءَ الحجِّ وبعدَه, لوجدتَّها لا تكادُ تخرجُ في الجملةٍ عن أعدادِ الحجيجِ وكثرتِهم, وعن الزحام وكثافتِه, وعن الحرِّ وشدَّته, أما أن يتحدثوا عن الحج وآثارِه, عن الحج ودروسِه, عن الحج وعبره, عن الحج وفوائدِهِ, ومواعظهِ وكنوزه, فذلك عزيز المنال, وقد نُسيَ ذكرُهُ, وأُهملَ شأنُه ولعمركَ إنَّ ذلك لهو الحرمانُ المبين.

أيها المسلمون : هذه بضاعةٌ مزجاةٍ, وجَهد المقل, نتذاكرُ من خلالِها شيئاً من دروسِ الحجِ وآثارِه, والتي من دونها يصبحُ الحجُ عديمُ الفائدةِِ، مبدداً للجهد, مبعثراً للوقتِ والمال, و واللهِ إن هذه الدروس لهي المقياسُ الحقيقي الذي يُحكمُ من خلاله بنجاح موسمِ الحجِ من عدمه, وإنها لهي بعضُ المنافع التي أشار إليها القرآنُ الكريمُ بقولِ البارئ جل جلاله : (( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ )) (الحج: 28) .

وفي يقيننا أن تسليطَ الأضواء, وتوجيهَ الاهتمام نحو مقاصدِ الحجِ وغاياتهِ, ودروسهِ وآياته, كفيلٌ بتحقيقِ إنجازاتٍ لا يُستهانُ بها, ونتائجَ لا يُهوَّّنُ من شأنها, تقطعانِ بالأمةِ شوطاً إلى الأمام, وتحجزانِ لها مقعداً في مقدمةِ الصفوف, وتقفزانِ بها إلى مراتبَ علياء, وقمم شماء, فأرخِ السمعَ يا رعاك الله, واستحضر القلبَ يرحمُك الله, وهاك دروساً من مدرسةٍ فرضها الرحمن ، وبينها القرآن, ووضحَ معالمَها سيدُ ولد عدنان.

أما الدرسُ الأول من هذه المدرسةِ الكبرى : فهو الإعلانُ الصارخ, والبناءُ العظيم، بتجريدِ التوحيدِ لله ربِّ العالمين, إنه إعلانٌ للتوحيد منذُ اللحظةِ الأولى التي يتلبسُ فيها الحاجُ بالنسك, وحتى اللحظةِ الأخيرة التي يفرغُ فيها من تبلبيته توحيد, وطوافهُ توحيد, وسعيهُ توحيد, ووقُوفهُ يومَ عرفةَ توحيد, ومبيتهُ عند المشعرِ الحرامِ توحيد, ورميُه الجمارُ توحيد, وحلقُه ونحرهُ توحيد, وإفاضتُهُ توحيد, ووداعُهُ توحيد :

(( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )) (الأنعام: 162، 163) .

فلا خيرَ في الدنيـا بـلا توحيد, ولا نصيبَ في الآخرةِ بلا توحيد, فمــن أجلـهِ أُسسـت الملة, ومن أجلهِ شُـرعـت القبلة, ومن أجله خُلقت السماواتُ والأرضون, ومن أجلهِ خُلقت الأنسُ والملائكةُ أجمعون, والعبدُ الموحد هو من أقرَّ للهِ بالربوبية المطلقة, والألوهيةِ الخالصة, وأثبتَ لربهِ أسمائهِ الحُسنى, وصفاتهِ العُلى, فهو موصوفٌ بالجمالِ, منعوتٌ بالكمال, والعبدُ الموحدُ يعلنُ بكلِ قوةٍ, ورجولة, أني لا أعبدُ إلى الله , ولا أخضع لأحدٍ سواه, ولا أدعوه إلا هو, ولا أذبحُ إلا لـه, ولا أقسم إلا به , ولا أتوكلُ إلا عليه , ولا أخافُ إلا منه, وأن مقاليد السماوات والأرض بيده, وأن مفاتحَ الغيبِ والكبرياءِ والجبروت له وحده, فالحكمُ حكمهُ, والأمرُ أمره, والشرعُ شرعهُ, أحقُ من عُبد, وأجودُ من أعطى سبحانه وبحمده .

ومتى تغلغل هذا الشعورُ في حسِّ المسلمِ وأعماقِ ضميره , اتضحت لـه معالمُ الطريق, وتجلت أمامهُ طرائقُ الحياة, وعرفَ من هو ومن يكون, وإلى أينَ النهاية, وما هو المصير ؟!

وعرفتَ لمن يُسلمُ قِيادَه ؟ولمن يُخضعُ رقبتَه, ولمن يصرفُ ولاءَه, وبمن يصول وبمن يجول, وبمن يُخاصم, ولمن يُحاكم ؟! كما أن العبدَ المسبحَ بحمدِ خالقه سيلحظُ إن كانَ ذا فطنةٍ وذكاء, أن كثرَة أعمالِ الحجِ وتداخلَها وارتباطَها بكيفياتٍ وأزمنةٍ محددة, سيلحظُ أن هناك مُشَرعاً واحداً هو الله, له المشيئةُ المطلقةُ والإرادةُ النافذة في تشريعِ ما يشاء, وفرضِ ما يريد, فيستسلمُ لشرعه, ويخضَعُ لحكمه, ويعلمُ يقيناً أن كلَ شرعِ خالفَ شرعَ اللهِ فهو باطل, وكلَ أمرٍ خالفَ سُنةَ نبيهِ فهو رد. قال الله تعالى : (( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ )) (الشورى: من الآية21).

وقال أيضاً : (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً )) (النساء:65) .

وأما الدرسُ الثاني من دروسِ الحجِ الكبرى فهو : تجريدُ المتابعةِ في أداءِ العباداتِ عموماً, وفي الحجِ خصوصاً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم فهو القائل : ((خذوا عني مناسككم )) [1].

فلا يُلبى بالحجِ إلا بتلبيته, ولا تُشهدُ المشاعرُ إلا كشهوده, ولا ترمى الجمارُ إلا كرميه, ولا تُنحرُ الهدايا إلا كنحرِه, ولا يُفاضُ بالبيت إلا كإفاضته, ولا يُعزمُ بشيءٍ من أنساكِ الحج إلا بعزيمته, ولا يُرخصُ في شيءٍ منها إلا برخصتِه, ولا مشروعَ إلا ما شرعه, ولا محظورَ إلا ما حظره

(( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )) (الحشر: 7) . (( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً )) (النساء:80) .

إذاً فليسَ لأحدٍ حقُّ القوامةِ على هذا الدين, وليسَ لأحدٍ أن يُشرِّعَ ما يشاء, أو يُفتي بما يُريد, أو يتقدمَ بين يدي اللهِ ورسوله, فالعصمةُ التامةُ لرسولِ الله, والطاعةُ المطلقةُ لرسول الله, والفتوى المُلزمة هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أمرَ فلا أمرَ إلا أمرُه, وإذا نهى فلا نهيَ إلا نهيُه, وإذا رأى فلا رأيَ إلا رأيه, والمحرومُ من حُرمَ بركةَ الاتباع، والمفتونُ من فُتنَ بحبِ المخالفةِ والابتداع.ألا فليتقِ اللهَ من أعجبتهُ نفسُه وغرَّه هواه, وظلَّ يُشاققُ الرسول، ويتبعُ غيرَ سبيلِ المؤمنين وزادُه آثار ةٌ من علم, وصبابةٌ من سوء فهم.

ألا أخرس الله أصواتاً لا تعرفُ للرسولِ مقداراً, ولا لجنابهِ وقاراً .

وأما ثالثُ دروسِ الحج : فيتضحُ من خلالِ مشهدِ الحجيجِ المجتمعين في صعيدٍ واحد, على اختلافِ أجناسِهم وألوانِهم, وتعددِ ألسنتِهم ولغاتِِهم, يرتدونَ لباساً واحداً, ويعبدونَ إلهاً واحداً, يقتسمونَ شربةَ الماءِ ولُقمةَ العيشِ, يتجاورُونَ في السُكنِ والمبيت, والإقامةِ والرحال.

في تلكَ المشاعر ِالمقدسةِ يُعانقُ المسلمُ العربي أخاهُ المسلمَ الأفريقي, ويحتضنُ المسلمُ الأسيوي أخاه المسلمَ الأوربي, وقد تناسى الجميعُ كافةَ الوثائق الرسمية, والهوياتِ الشخصية, والانتماءاتِ الوطنية, وانصهرتْ كلُّ العلائقِ في بوتقةِ الإسلامِ العظيمة. في هذه المظاهرِ كلِّها إعلانٌ لسقوطِ كلِّ الدعواتِ الأرضية, والعصبياتِ الجاهلية, والشعاراتِ القومية, والتي ما انفك يدعوا إليها سفهاءُ العالم, وشُذَّا ذ ُ الآفاق الذين ملئُوا الدنيا ضجيجاً، بدعواتِهم المتهالكة, وأطروحاتِهم الفارغة, متناسينَ بسفهٍ وغرور، أن قيمةَ الإنسانِ ووزنَه, ورفعتَه ومجدَه, إنما هو بمقدارِ تمسكهِ بالإسلام, وانتمائهِ للإسلام, واعتزازهِ بالقيمِ التي جاء بها الإسلام : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )) (الحجرات:13).

لا فضلَ لعربيَّ على أعجميَّ, ولا لأحمرَ على أسود إلا بالتقوى, إنه المعيارُ الأصلي, والمقياسُ الدقيق لتفاضلِ الناسِ وتمايزِهم, و وهو ذاتُ المعيار الذي رفعَ بلا لاً وعماراً وابنَ مسعود, ووضعَ أبا جهلٍ ومُسيلمةَ وأمثالهم , قاتلهم الله أنى يؤفكون.

وما فقدَ المسلمون عزتهم, ولا غابتْ هيبَتَهم, ولا استأسدَ عدوُهم، إلا يومَ تأرجحَ ميزانُ العدلِ في حياتِهم, وسادتْ الحزبيةُ في أوساطِهم, وارتفعتْ أسهمُ الطبقيةِ في مجتمعاتِهم.

وأما رابعُ دروسٍ الحجُ وفوائدَهُ الجليلة : فهو الإعلانُ الواضحُ أنَّ الطريقَ الوحيد لوُحدةِ الأمةِ وتماسكِها: إنما ينطلقُ من شِعابِ مكةَ وأرضِ عرفات. تلك الوحدةُ التي تقومُ على أساسِ العقيدةِ الواحدةِ, والإسلام الوسط, حيثُ الإلهُ الحق والنبيُّ المعصوم .

فهي وحدةٌ لا تُفَرَقُ بالحدودِ الجُغروفيةِ, ولا بالقيودِ القانونية, ولا تبني جسورَها على أساسِ المصلحةِ, أو الحزبيةِ الجاهلية, ولا ريبَ أنَّ أيَّ محاملةٍ وحدوية لا تقومُ على أساسِ العقيدةِ الصحيحة, فهي وحدةٌ آيلةٌ للتفككِ والانهيار, طالَ الزمانُ أو قصر.

والمتأملونَ في سيرةِ النبي صلى الله عليه وسلم يدركونَ جيداً كيفَ تمكنَ عليه الصلاة والسلام من بناءِ الوحدة, وصُنعَ التلاحمِ الوثيقِ بينَ أناسٍ كانوا إلى عهدٍ قريب, مضربَ المثلٍ في الشتاتِ والفرقة, والتشردِ والاختلاف, تسودُهم الحروبُ الدموية, وتسيطر عليهم العصبيات القبلية.

فإذا بعقيدةِ الإيمانِ تذيبُ كلَّ تلك العقباتِ الكؤود, وتختصرُ كلَّ المسافاتِ البعيدة, لتصنعَ ملحمةَ التوحيدِ الكبرى, وتقيمَ جدارَ الإيمانِ الصلب في زمنٍ أقربُ للخيال, وبجهدٍ أشبهُ بالمعجزات.

والمسلمون اليوم قادرونَ على إعادةِ المحاولةِ, وتكرارِ التجربةِ متى صدقتْ عزائمهم, وحسُنتْ نواياهم, وخلتْ نفوسُهم من الغشِ والخديعة, والمكرِ والاحتيال. وهم محتاجونَ للوحدة لاستعادةِ هيبتهم, وبناءِ أمجادهم, ودفعِ مسيرتِهم, نحو السيادةِ والريادة, فإنْ تعذرَ ذلك فلا أقلَّ من الوحدةِ لدفعِ الضالِ عن ديارهم, والذبِ عن حرماتهم, ووقوفِ النزيفِ فوقَ أرضِهم الذي أراقهُ شراذمُ يهود, وعلوج النصارى, يوم غابتْ الوحدةُ الجادة, واختفى مفهومُ الجسدِ الواحد.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم، واستغفر الله لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم .



الخطبة الثانية

الحمد لله يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة, والنعمةِ المُسداة, وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين .

أما بعد أيها المسلمون :

فإن للحجِ دروساً لا تُحصى, ومآثرَ لا تُنسى, وما لا يُدركُ كلُه لا يتركُ جلُه والمسلمونَ اليومَ أحوجُ ما يكونونَ إلى العودةِ إلى أصلِ دينِهم, وفضائلِ شريعتِهم, حيثُ مصدرُ العزة, وأساسُ النهضة, ,ومبعثُ القوة.

وهم بحاجةٍ إلى استخراجِ الكنوزِ, واستنباطِ الدروس, وتأملِ العبرِ التي تفضلَ بها الشرعُ الحكيم, فحرامٌ أن يمرَّ الحجُ بعدَ الحج, ورمضانُ بعد رمضان, والفرصةُ بعد الأخرى, دونَ أنْ يتقدمَ المسلمون ولو خطوةً واحدةً إلى الأمام, حرامٌ أن يظلَّ المسلمون في ذيلِ القائمة ومؤخرةِ القافلة, وهم ينتسبون إلى أعظمِ ملةٍ, ويحتضنونَ أكملَ شريعةٍ.

لقد آن الأوانُ أنْ يستيقظَ النائمون, وينتبهَ الغافلون, ويتقدمَ المتراجعون, فيرفعونَ رايةَ الشجاعةِ, ويحملونَ الدينَ بقوة, وينطلقون به إلى الآفاق يبلغونَ رسالاتِ اللهِ ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله, ما أعظمَها واللهِ من جناية, وما أفدحَه من خطأ, يومَ زهدَ المسلمون في دينِهم, واستخفوا بشرعِهم, فحرموا أنفسَهم وحرموا البشريةِ من بركاتِ أعظمِ الأديان, وأشرفِ الرسالات. فإذا بالعالمِ يتخبطُ في دياجيرِ الظلام, ويغرقُ في مستنقعاتِ الرذيلة, كلُّ ذلك يومَ تخلفَ الإسلامُ عن القيادة, وتخلى المسلمون عن الريادة ورضيتْ خيرُ أمةٍ أخرجتْ للناس بالتبعيةِ والدون.

ألا إنها دعوةٌ إلى إحياءِ شعائرِ الدينِ في النفوس, وتصحيح العقائدِ في القلوب, ومراجعةِ الواقعِ بصدقٍ وتصويبِ الخطأ بإنصاف, ألا إنها دعوةٌ لتوظيفِ الحجِ لمصلحةِ الإسلام, وبناءِ الأمةِ وإيقاظِ الغافلين بدءً من تحقيق التوحيد، ومروراً بإحياءِ سُنةَ الإتباع، وانتهاءً بنهضَةِ الأمةِ ووحدتِها وسيادتِها وريادتِها, وما ذلك على الله بعزيز .

اللهم إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوقُ إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،

اللهم زينا بزينةِ الإيمانِ واجعلنا هداةً مهتدين, لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين يا ربَّ العالمين,

[1] المسند المستخرج على صحيح مسلم (2559) ورواه البيهقي في السنن الكبرى ( 9307) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه .
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى