رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
محمود بن توفيق بن حسين
السُّلم والثعبان
ثَمَّة لعبةٌ بسيطة يلعبُها الأطفال اسمُها (السلَّم والثُّعبان): تَرمي النَّردَ، وتنتقِل على اللَّوحة الكرْتونيَّة ذات المربَّعات المائة، نقلاتٍ بِحسب الرَّقم الذي استقرَّ عليه النَّرد كل مرَّة، إنِ استقرَّ على الرقم (ثلاثة) انتقلت للأمام ثلاثةَ مربَّعات، وهكذا تتحرَّك قُدُمًا باتِّجاه المربَّع الأخير رقم (مائة)، حيثُ النهاية الرابحة للُّعبة.
وعلى هذا، فالأمر ليس بتلك السهولة والبساطة المملَّة؛ فهناك سلالمُ متباينة الطُّول في الطريق، ترتكِز في بعض المربَّعات، إذا انتقلتَ إلى مربَّعاتِها التي ارتكزتْ فيها، فإنَّك تنتقِل فورًا إلى صفوف علويَّة ومربَّعات متقدِّمة، حيث يستقرُّ أعلى السلم، هذا شيءٌ جيِّد.
لكن في انتظارِك مفاجآتٌ غير سارَّة أيضًا: ثعابين متباينة الطُّول أيضًا تعمَلُ في الاتِّجاه المضادِّ للسلالم، إذا انتقلتَ إلى حيثُ يكمن ذيلُها هَوَيْت إلى مهوى الرَّأس، في مربَّع بصفٍّ مُتراجع.
في اتِّجاه آخر، ليس مسلِّيًا وليس بسيطًا ولا لعبة، يتمتَّع الكاتب الإسلامي والدَّاعية بفُرصة جيِّدة للقبول والذُّيوع، لا تتوفَّر لغيرِه من كتَّابٍ ورموزٍ داخل العالم الإسلامي، من أهل اليمين أو أهل اليسار، أو من المتنقِّلين أو من غير المصنَّفين، وتتَّسع دائرة نفوذِه الثقافي والجماهيري بطريقة تضاعُفيَّة، إنَّها أوسع كثيرًا من النقلة الناتِجة عن رمية النَّرد - إذا جاز التشبيه - باعتبارِها هنا ترمُز للنَّقلة الطبيعيَّة المساوية للجهْد، وللتوقُّعات، وللمناخ المعرفي والثقافي السَّائد في العالم الإسلامي، سلالم كثيرةٌ تدفع به دفعًا في اتِّجاه الخانة الذهبيَّة خانة (المائة)، إنَّها سلالم الحبِّ في الله، والقبول لدى الجمهور الواسع المتديِّن، إنَّه الدين وأثرُه العميق، فمن يقدر على المسابقة؟!
ولا تسألْ في هذه الحالة عن المشاعِر السلبيَّة لِمن يكتُبون ممَّن هم خارج التصنيف، وهم يشاهدون أشجارَ غيرهم تنمو بطريقةٍ عجيبة، وتُثْمِر بمعدلات مدْهِشة، بينما شتلاتُهم التي نكتوها في الأرض، ورَعَوْها وأفنَوْا فيها أعمارَهم، تلعب بها الريح، وستُقتلع بموتِهم، كأنَّهم ما مرُّوا من هنا، باستِثْناء قلَّة منهم تعدُّ على أصابع اليديْن من فئة نُجوم الجماهير.
قارن بين حجْمِ جُمهور قد يتجمَّع ليستَمِع إلى بضعة كُتَّاب حداثيِّين قد أتوا صفَّا، وجلسوا على المنصَّة بعد أن استعدُّوا للنَّدوة منذُ مدَّة طويلة، بعد أن قرؤوا وذاكَروا وراجعوا ليكتُبوا لها، وبعد أن بلَّغوا مَن يعرفون ومَن لا يعرفون، فتجد حصيلةً من الممكن احتواؤها في صالة شَقَّتي.
قارنْ بين هذا الجمهور، أو بالأدقِّ: هذا العدد المعدود، وبين جُمهور عالمٍ شهير من علماء الدِّين، أعدَّ كلِمَته في الطَّائرة المتَّجِهة به لمقرِّ الندوة، هنا بابٌ مفتوح حتَّى آخِر الندوة لجُمهور لم يأتِ ولن يأتي أبدًا، وهنا حرسٌ ومنظِّمون لمنع التزاحُم، وبشر يتخطَّفون المقاعد، ثم بشرٌ يتخطَّفون مواطئَ الأقدام، وقد تمنَّوا لو يَسْمعون ويَرَوْنَ وهم وقوفٌ، هنا كلِماتٌ راحتْ كصرخةٍ في البرِّيَّة، لم يردِّدْها إلا الصدى، وهنا كلِمات سجِّلت على الأشرطة، ونقلتْها المنتديات، وباركها المبارِكون، وذكرها الذاكرون، تخيَّل وقارنْ لتعرِفَ طول السلالم.
لكنَّ الأمور لا تسيرُ على هذا النَّحو بدون أيَّة مخاطر جدِّية، تنتَظِر العالِم والدَّاعية الإسلامي؛ فثمَّة ثعابينُ من نوع (الكوبرا) على الطَّريق، لا تسألْ عن طُولها، وأخطرُها وأطولُها ذرْعًا ما يكمُن في عشُبِ المراحل النهائيَّة، التي يلتقِط فيها العالمُ أنفاسَه، ويغفل قلبُه غفلةَ قلْب المحبوب بين محبِّيه وجَماعته، ويأمن؛ لكوْنِه لَم يعُدْ هناك طولُ طريق ولا وحْشة سفر، كما كان يشعُر في البدْء قبل أن يُعرَف ويستويَ على عوده، علمًا وفضلاً وعطاءً، ويتحلَّق حولَه جُمهور واسع.
شيخَنا، انتبِهْ، ثَمَّة (كوبرا) في انتظارك، هنا، أو هناك، قد تَرْمي بك إلى المربَّع الأوَّل، بل وقدْ تُلْقي بك خارجًا، وتضطرُّك إلى تغْيير رقم جوَّالك، من كثرة ما سيَرِدُك من الشَّتائم واللَّعائن، وربَّما تضطرُّ للانتِقال إلى سكنٍ آخَر، وركوب سيَّارة مظلَّلة.
قد يكون هذا بسببِ رأْيٍ قد قلتَه يَحتمل الصواب أو الخطأ في قضيَّة تحتمل الاجتِهاد، أو لعلَّها هفوة عالم، أو لعلَّك ابتُليتَ بصحفي يبحثُ عن (خبطة)، فالخبطة سلَّم الصحفي، ومصائب قومٍ عند قوم سلالمُ، فنَشَرَ الأبعدُ ما قُلْتَه بعد شيء من التَّحريف و (التتبيل)، ووضَعَ هذا تَحت عنوانٍ صادم، أو لعلَّك أُخِذتَ على غِرَّة من وجيهٍ من وُجَهاء المجتمَع، أو اقتِصادي ممَّن اعتادوا على أن يصوِّبوا على أي هدف متحرِّك يظهر أمامَهم، حتَّى ولو كان عالمًا، فاستغلَّك بطريقة دعائيَّة سَمْجة، فبدا من الصُّورة التي تأذَّى منها جُمهورُك أنَّك تُشترى.
هذا هو، وبطبيعة الحال فيمكن توقُّع أنَّ بعض العاملين في مَجال الدعوة، أمسَوا يفكِّرون ألف مرَّة قبل أن ينطقوا، بل ألف مرَّة قبل أن يفكِّروا، ويفكِّرون ألف مرَّة قبل أن يلبُّوا الدعوات الوجيهة، وألف مرَّة قبل أن يقدِّموا لكتابٍ، ويكتُبوا تقريظًا له وتشجيعًا لكاتِبِه المبتدئ؛ خوفًا من أن يَحملوا وحدهم - وبناءً على سطريْن من التقريظ - وِزْرَ سقطةٍ سقَطها الكاتب مخفيَّة في ثنايا كتابه، الذي سيُباع بسبب تقديم وتقْريظ العالم المعروف، وليْس بسبب المحتوى، السلَّم للمبتدئ وللعالِم الحنَش، إنَّهم يتحسَّسون لمواضع أقدامِهم كثيرًا؛ خوفًا من وطْءِ ذيْل ثعبان من الثَّعابين.
هؤلاء الذين عليْهم أن يقودوا وعْيَ الجماهير، ويصحِّحوا مفاهيمهم وينوِّروهم، حتَّى ولو بالصَّدمة أحيانًا، يُمكنُك أن تتوقَّع أنَّهم أمسَوا وبعضُهم يَخشى الجمهور -الجمهورَ الغرائزيَّ - في حبه وكرهه، وإقباله وإدباره، وفي الرضا والسخط؛ خشيةً قد تُعيق هذا البعضَ من أن يُجيبَ عن أسئِلة ملحَّة، أو يحقِّق قيمة مضافةً على ما تحقَّق.
في جوٍّ كهذا، سيتلخَّص الذَّكاء والفطنة وحسن التدبير في اتِّقاء الثعابين، ربَّما أكثر من النُّصح للأمَّة، ودرْء الأذى مقدَّم على ركوب السَّلالم.
في جوٍّ كهذا، لن تعدم مَن ينأى بنفسِه عن كلمةٍ يراها حقًّا؛ خوفًا من أن يُغتال معنويًّا على يد فريقٍ من جُمهوره، سينقلبوا عليه إذا ما ذهب إلى ما يكرهون في قضية هامة ، فيشمتَ به الأعداءُ الجالسون في الظَّلام، الذين كانوا يَحسُدونه على دائرة الضَّوء، فتراهُم يبتسِمون ابتسامَتَهم المقزّزة بأسنانِهم المتَّسِخة من التَّبغ والقهوة، لقد أُسقِط عالم من عُلماء الإسلام!
وابحث ساعتَها في هذا المناخ الابتزازي العظيم، والإعْلامي واللاعلمي، عمَّن سيصرُّ على رأْيِه في هذه الأجواء العصابية .
وترى الأسود الذين كانوا يذبُّون عن عِرْض العلماء، إذا ما نال منهم العلمانيُّون والمأجورون والمحنَّطون في متاحف الشيوعيَّة، تراهُم وقد غفلوا عن سُمِّيَّة لحوم العُلماء، التي كانوا يحذِّرون منها، وشرعوا يتعازمون عليْها، ويزْدَردونَها في لفائفَ ورقيَّة شتائميَّة، هزيلة المحتوى، وفي صفحات مطوَّلة وناريَّة على الشَّبَكة، وتقاسم كلُّ مَن حضر القسمة، فمن يعرف الكتابة كتبَ ودبَّج، ومَن لم يعرف نقَل وأشْهَرَ، ومَن لا يعرفُ النقل خاصم ودعا.
ولم يترُكِ التَّلامذة حمْلَ الرَّدّ على العالم الداعية، وتوجيهِه على عاتِقِ أكْفائِه من العلماء العاملين المُخْلصين، ولم يسكُتِ الطلبة ويتمهَّلوا قليلاً ليوفِّروا جوًّا ودِّيًّا للمفاهمة والاستيعاب؛ بل وجدوا مَن وجدوا وقد بلّل إلى كاحليه في شِبْر من الماء، فأبَوْا إلا أن يسحبوه عميقًا ويُغْرِقوه، هذا بافتراض أنَّه أخطا فعلاً.
وتسمعُ اتِّهامات بالخرف والجهْل تسفَعُ وجوهًا كريمة، انكبَّت على القِرْطاس والمحْبرة طيلة عمرها للتعليم والدَّعوة، تسمعها تُلقَى من ألسِنة كانت تلحَن وتُتأْتِئُ، وتخلط وتوهم منذ عهد قريبٍ، في مجالس ومعاهد العلم، حتى نضجت أوَّل نضجها، وأمستْ تُحسن تأليفَ مطويَّة؛ وتَسمع لمُزايداتٍ عنتريَّة، واتِّهامات بالجُبْنِ والخضوع والركوع، يُلْقيها بشرٌ عابرون.
ولا أريد أن يُفهَم من مقالتي أنَّني من المغالين في العُلماء، والباحثين عن حصانةٍ لهم ضدَّ النقْد والتناوُل العلمي والمساءلة، فقد قُلْنا كجمهورٍ وقالوا كعلماء: إنَّه لا أحدَ إلا ويؤخذ منْه ويرَدُّ عليه؛ إلا الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم. ولكن أسأل سؤالين بريئين لا غرض فيهما: من له الحق ؟ ومتى يكون له الحق في أن يأخذ بلحية عالم ورأسه ؟
محمود بن توفيق بن حسين
السُّلم والثعبان
ثَمَّة لعبةٌ بسيطة يلعبُها الأطفال اسمُها (السلَّم والثُّعبان): تَرمي النَّردَ، وتنتقِل على اللَّوحة الكرْتونيَّة ذات المربَّعات المائة، نقلاتٍ بِحسب الرَّقم الذي استقرَّ عليه النَّرد كل مرَّة، إنِ استقرَّ على الرقم (ثلاثة) انتقلت للأمام ثلاثةَ مربَّعات، وهكذا تتحرَّك قُدُمًا باتِّجاه المربَّع الأخير رقم (مائة)، حيثُ النهاية الرابحة للُّعبة.
وعلى هذا، فالأمر ليس بتلك السهولة والبساطة المملَّة؛ فهناك سلالمُ متباينة الطُّول في الطريق، ترتكِز في بعض المربَّعات، إذا انتقلتَ إلى مربَّعاتِها التي ارتكزتْ فيها، فإنَّك تنتقِل فورًا إلى صفوف علويَّة ومربَّعات متقدِّمة، حيث يستقرُّ أعلى السلم، هذا شيءٌ جيِّد.
لكن في انتظارِك مفاجآتٌ غير سارَّة أيضًا: ثعابين متباينة الطُّول أيضًا تعمَلُ في الاتِّجاه المضادِّ للسلالم، إذا انتقلتَ إلى حيثُ يكمن ذيلُها هَوَيْت إلى مهوى الرَّأس، في مربَّع بصفٍّ مُتراجع.
في اتِّجاه آخر، ليس مسلِّيًا وليس بسيطًا ولا لعبة، يتمتَّع الكاتب الإسلامي والدَّاعية بفُرصة جيِّدة للقبول والذُّيوع، لا تتوفَّر لغيرِه من كتَّابٍ ورموزٍ داخل العالم الإسلامي، من أهل اليمين أو أهل اليسار، أو من المتنقِّلين أو من غير المصنَّفين، وتتَّسع دائرة نفوذِه الثقافي والجماهيري بطريقة تضاعُفيَّة، إنَّها أوسع كثيرًا من النقلة الناتِجة عن رمية النَّرد - إذا جاز التشبيه - باعتبارِها هنا ترمُز للنَّقلة الطبيعيَّة المساوية للجهْد، وللتوقُّعات، وللمناخ المعرفي والثقافي السَّائد في العالم الإسلامي، سلالم كثيرةٌ تدفع به دفعًا في اتِّجاه الخانة الذهبيَّة خانة (المائة)، إنَّها سلالم الحبِّ في الله، والقبول لدى الجمهور الواسع المتديِّن، إنَّه الدين وأثرُه العميق، فمن يقدر على المسابقة؟!
ولا تسألْ في هذه الحالة عن المشاعِر السلبيَّة لِمن يكتُبون ممَّن هم خارج التصنيف، وهم يشاهدون أشجارَ غيرهم تنمو بطريقةٍ عجيبة، وتُثْمِر بمعدلات مدْهِشة، بينما شتلاتُهم التي نكتوها في الأرض، ورَعَوْها وأفنَوْا فيها أعمارَهم، تلعب بها الريح، وستُقتلع بموتِهم، كأنَّهم ما مرُّوا من هنا، باستِثْناء قلَّة منهم تعدُّ على أصابع اليديْن من فئة نُجوم الجماهير.
قارن بين حجْمِ جُمهور قد يتجمَّع ليستَمِع إلى بضعة كُتَّاب حداثيِّين قد أتوا صفَّا، وجلسوا على المنصَّة بعد أن استعدُّوا للنَّدوة منذُ مدَّة طويلة، بعد أن قرؤوا وذاكَروا وراجعوا ليكتُبوا لها، وبعد أن بلَّغوا مَن يعرفون ومَن لا يعرفون، فتجد حصيلةً من الممكن احتواؤها في صالة شَقَّتي.
قارنْ بين هذا الجمهور، أو بالأدقِّ: هذا العدد المعدود، وبين جُمهور عالمٍ شهير من علماء الدِّين، أعدَّ كلِمَته في الطَّائرة المتَّجِهة به لمقرِّ الندوة، هنا بابٌ مفتوح حتَّى آخِر الندوة لجُمهور لم يأتِ ولن يأتي أبدًا، وهنا حرسٌ ومنظِّمون لمنع التزاحُم، وبشر يتخطَّفون المقاعد، ثم بشرٌ يتخطَّفون مواطئَ الأقدام، وقد تمنَّوا لو يَسْمعون ويَرَوْنَ وهم وقوفٌ، هنا كلِماتٌ راحتْ كصرخةٍ في البرِّيَّة، لم يردِّدْها إلا الصدى، وهنا كلِمات سجِّلت على الأشرطة، ونقلتْها المنتديات، وباركها المبارِكون، وذكرها الذاكرون، تخيَّل وقارنْ لتعرِفَ طول السلالم.
لكنَّ الأمور لا تسيرُ على هذا النَّحو بدون أيَّة مخاطر جدِّية، تنتَظِر العالِم والدَّاعية الإسلامي؛ فثمَّة ثعابينُ من نوع (الكوبرا) على الطَّريق، لا تسألْ عن طُولها، وأخطرُها وأطولُها ذرْعًا ما يكمُن في عشُبِ المراحل النهائيَّة، التي يلتقِط فيها العالمُ أنفاسَه، ويغفل قلبُه غفلةَ قلْب المحبوب بين محبِّيه وجَماعته، ويأمن؛ لكوْنِه لَم يعُدْ هناك طولُ طريق ولا وحْشة سفر، كما كان يشعُر في البدْء قبل أن يُعرَف ويستويَ على عوده، علمًا وفضلاً وعطاءً، ويتحلَّق حولَه جُمهور واسع.
شيخَنا، انتبِهْ، ثَمَّة (كوبرا) في انتظارك، هنا، أو هناك، قد تَرْمي بك إلى المربَّع الأوَّل، بل وقدْ تُلْقي بك خارجًا، وتضطرُّك إلى تغْيير رقم جوَّالك، من كثرة ما سيَرِدُك من الشَّتائم واللَّعائن، وربَّما تضطرُّ للانتِقال إلى سكنٍ آخَر، وركوب سيَّارة مظلَّلة.
قد يكون هذا بسببِ رأْيٍ قد قلتَه يَحتمل الصواب أو الخطأ في قضيَّة تحتمل الاجتِهاد، أو لعلَّها هفوة عالم، أو لعلَّك ابتُليتَ بصحفي يبحثُ عن (خبطة)، فالخبطة سلَّم الصحفي، ومصائب قومٍ عند قوم سلالمُ، فنَشَرَ الأبعدُ ما قُلْتَه بعد شيء من التَّحريف و (التتبيل)، ووضَعَ هذا تَحت عنوانٍ صادم، أو لعلَّك أُخِذتَ على غِرَّة من وجيهٍ من وُجَهاء المجتمَع، أو اقتِصادي ممَّن اعتادوا على أن يصوِّبوا على أي هدف متحرِّك يظهر أمامَهم، حتَّى ولو كان عالمًا، فاستغلَّك بطريقة دعائيَّة سَمْجة، فبدا من الصُّورة التي تأذَّى منها جُمهورُك أنَّك تُشترى.
هذا هو، وبطبيعة الحال فيمكن توقُّع أنَّ بعض العاملين في مَجال الدعوة، أمسَوا يفكِّرون ألف مرَّة قبل أن ينطقوا، بل ألف مرَّة قبل أن يفكِّروا، ويفكِّرون ألف مرَّة قبل أن يلبُّوا الدعوات الوجيهة، وألف مرَّة قبل أن يقدِّموا لكتابٍ، ويكتُبوا تقريظًا له وتشجيعًا لكاتِبِه المبتدئ؛ خوفًا من أن يَحملوا وحدهم - وبناءً على سطريْن من التقريظ - وِزْرَ سقطةٍ سقَطها الكاتب مخفيَّة في ثنايا كتابه، الذي سيُباع بسبب تقديم وتقْريظ العالم المعروف، وليْس بسبب المحتوى، السلَّم للمبتدئ وللعالِم الحنَش، إنَّهم يتحسَّسون لمواضع أقدامِهم كثيرًا؛ خوفًا من وطْءِ ذيْل ثعبان من الثَّعابين.
هؤلاء الذين عليْهم أن يقودوا وعْيَ الجماهير، ويصحِّحوا مفاهيمهم وينوِّروهم، حتَّى ولو بالصَّدمة أحيانًا، يُمكنُك أن تتوقَّع أنَّهم أمسَوا وبعضُهم يَخشى الجمهور -الجمهورَ الغرائزيَّ - في حبه وكرهه، وإقباله وإدباره، وفي الرضا والسخط؛ خشيةً قد تُعيق هذا البعضَ من أن يُجيبَ عن أسئِلة ملحَّة، أو يحقِّق قيمة مضافةً على ما تحقَّق.
في جوٍّ كهذا، سيتلخَّص الذَّكاء والفطنة وحسن التدبير في اتِّقاء الثعابين، ربَّما أكثر من النُّصح للأمَّة، ودرْء الأذى مقدَّم على ركوب السَّلالم.
في جوٍّ كهذا، لن تعدم مَن ينأى بنفسِه عن كلمةٍ يراها حقًّا؛ خوفًا من أن يُغتال معنويًّا على يد فريقٍ من جُمهوره، سينقلبوا عليه إذا ما ذهب إلى ما يكرهون في قضية هامة ، فيشمتَ به الأعداءُ الجالسون في الظَّلام، الذين كانوا يَحسُدونه على دائرة الضَّوء، فتراهُم يبتسِمون ابتسامَتَهم المقزّزة بأسنانِهم المتَّسِخة من التَّبغ والقهوة، لقد أُسقِط عالم من عُلماء الإسلام!
وابحث ساعتَها في هذا المناخ الابتزازي العظيم، والإعْلامي واللاعلمي، عمَّن سيصرُّ على رأْيِه في هذه الأجواء العصابية .
وترى الأسود الذين كانوا يذبُّون عن عِرْض العلماء، إذا ما نال منهم العلمانيُّون والمأجورون والمحنَّطون في متاحف الشيوعيَّة، تراهُم وقد غفلوا عن سُمِّيَّة لحوم العُلماء، التي كانوا يحذِّرون منها، وشرعوا يتعازمون عليْها، ويزْدَردونَها في لفائفَ ورقيَّة شتائميَّة، هزيلة المحتوى، وفي صفحات مطوَّلة وناريَّة على الشَّبَكة، وتقاسم كلُّ مَن حضر القسمة، فمن يعرف الكتابة كتبَ ودبَّج، ومَن لم يعرف نقَل وأشْهَرَ، ومَن لا يعرفُ النقل خاصم ودعا.
ولم يترُكِ التَّلامذة حمْلَ الرَّدّ على العالم الداعية، وتوجيهِه على عاتِقِ أكْفائِه من العلماء العاملين المُخْلصين، ولم يسكُتِ الطلبة ويتمهَّلوا قليلاً ليوفِّروا جوًّا ودِّيًّا للمفاهمة والاستيعاب؛ بل وجدوا مَن وجدوا وقد بلّل إلى كاحليه في شِبْر من الماء، فأبَوْا إلا أن يسحبوه عميقًا ويُغْرِقوه، هذا بافتراض أنَّه أخطا فعلاً.
وتسمعُ اتِّهامات بالخرف والجهْل تسفَعُ وجوهًا كريمة، انكبَّت على القِرْطاس والمحْبرة طيلة عمرها للتعليم والدَّعوة، تسمعها تُلقَى من ألسِنة كانت تلحَن وتُتأْتِئُ، وتخلط وتوهم منذ عهد قريبٍ، في مجالس ومعاهد العلم، حتى نضجت أوَّل نضجها، وأمستْ تُحسن تأليفَ مطويَّة؛ وتَسمع لمُزايداتٍ عنتريَّة، واتِّهامات بالجُبْنِ والخضوع والركوع، يُلْقيها بشرٌ عابرون.
ولا أريد أن يُفهَم من مقالتي أنَّني من المغالين في العُلماء، والباحثين عن حصانةٍ لهم ضدَّ النقْد والتناوُل العلمي والمساءلة، فقد قُلْنا كجمهورٍ وقالوا كعلماء: إنَّه لا أحدَ إلا ويؤخذ منْه ويرَدُّ عليه؛ إلا الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم. ولكن أسأل سؤالين بريئين لا غرض فيهما: من له الحق ؟ ومتى يكون له الحق في أن يأخذ بلحية عالم ورأسه ؟
السُّلم والثعبان
ثَمَّة لعبةٌ بسيطة يلعبُها الأطفال اسمُها (السلَّم والثُّعبان): تَرمي النَّردَ، وتنتقِل على اللَّوحة الكرْتونيَّة ذات المربَّعات المائة، نقلاتٍ بِحسب الرَّقم الذي استقرَّ عليه النَّرد كل مرَّة، إنِ استقرَّ على الرقم (ثلاثة) انتقلت للأمام ثلاثةَ مربَّعات، وهكذا تتحرَّك قُدُمًا باتِّجاه المربَّع الأخير رقم (مائة)، حيثُ النهاية الرابحة للُّعبة.
وعلى هذا، فالأمر ليس بتلك السهولة والبساطة المملَّة؛ فهناك سلالمُ متباينة الطُّول في الطريق، ترتكِز في بعض المربَّعات، إذا انتقلتَ إلى مربَّعاتِها التي ارتكزتْ فيها، فإنَّك تنتقِل فورًا إلى صفوف علويَّة ومربَّعات متقدِّمة، حيث يستقرُّ أعلى السلم، هذا شيءٌ جيِّد.
لكن في انتظارِك مفاجآتٌ غير سارَّة أيضًا: ثعابين متباينة الطُّول أيضًا تعمَلُ في الاتِّجاه المضادِّ للسلالم، إذا انتقلتَ إلى حيثُ يكمن ذيلُها هَوَيْت إلى مهوى الرَّأس، في مربَّع بصفٍّ مُتراجع.
في اتِّجاه آخر، ليس مسلِّيًا وليس بسيطًا ولا لعبة، يتمتَّع الكاتب الإسلامي والدَّاعية بفُرصة جيِّدة للقبول والذُّيوع، لا تتوفَّر لغيرِه من كتَّابٍ ورموزٍ داخل العالم الإسلامي، من أهل اليمين أو أهل اليسار، أو من المتنقِّلين أو من غير المصنَّفين، وتتَّسع دائرة نفوذِه الثقافي والجماهيري بطريقة تضاعُفيَّة، إنَّها أوسع كثيرًا من النقلة الناتِجة عن رمية النَّرد - إذا جاز التشبيه - باعتبارِها هنا ترمُز للنَّقلة الطبيعيَّة المساوية للجهْد، وللتوقُّعات، وللمناخ المعرفي والثقافي السَّائد في العالم الإسلامي، سلالم كثيرةٌ تدفع به دفعًا في اتِّجاه الخانة الذهبيَّة خانة (المائة)، إنَّها سلالم الحبِّ في الله، والقبول لدى الجمهور الواسع المتديِّن، إنَّه الدين وأثرُه العميق، فمن يقدر على المسابقة؟!
ولا تسألْ في هذه الحالة عن المشاعِر السلبيَّة لِمن يكتُبون ممَّن هم خارج التصنيف، وهم يشاهدون أشجارَ غيرهم تنمو بطريقةٍ عجيبة، وتُثْمِر بمعدلات مدْهِشة، بينما شتلاتُهم التي نكتوها في الأرض، ورَعَوْها وأفنَوْا فيها أعمارَهم، تلعب بها الريح، وستُقتلع بموتِهم، كأنَّهم ما مرُّوا من هنا، باستِثْناء قلَّة منهم تعدُّ على أصابع اليديْن من فئة نُجوم الجماهير.
قارن بين حجْمِ جُمهور قد يتجمَّع ليستَمِع إلى بضعة كُتَّاب حداثيِّين قد أتوا صفَّا، وجلسوا على المنصَّة بعد أن استعدُّوا للنَّدوة منذُ مدَّة طويلة، بعد أن قرؤوا وذاكَروا وراجعوا ليكتُبوا لها، وبعد أن بلَّغوا مَن يعرفون ومَن لا يعرفون، فتجد حصيلةً من الممكن احتواؤها في صالة شَقَّتي.
قارنْ بين هذا الجمهور، أو بالأدقِّ: هذا العدد المعدود، وبين جُمهور عالمٍ شهير من علماء الدِّين، أعدَّ كلِمَته في الطَّائرة المتَّجِهة به لمقرِّ الندوة، هنا بابٌ مفتوح حتَّى آخِر الندوة لجُمهور لم يأتِ ولن يأتي أبدًا، وهنا حرسٌ ومنظِّمون لمنع التزاحُم، وبشر يتخطَّفون المقاعد، ثم بشرٌ يتخطَّفون مواطئَ الأقدام، وقد تمنَّوا لو يَسْمعون ويَرَوْنَ وهم وقوفٌ، هنا كلِماتٌ راحتْ كصرخةٍ في البرِّيَّة، لم يردِّدْها إلا الصدى، وهنا كلِمات سجِّلت على الأشرطة، ونقلتْها المنتديات، وباركها المبارِكون، وذكرها الذاكرون، تخيَّل وقارنْ لتعرِفَ طول السلالم.
لكنَّ الأمور لا تسيرُ على هذا النَّحو بدون أيَّة مخاطر جدِّية، تنتَظِر العالِم والدَّاعية الإسلامي؛ فثمَّة ثعابينُ من نوع (الكوبرا) على الطَّريق، لا تسألْ عن طُولها، وأخطرُها وأطولُها ذرْعًا ما يكمُن في عشُبِ المراحل النهائيَّة، التي يلتقِط فيها العالمُ أنفاسَه، ويغفل قلبُه غفلةَ قلْب المحبوب بين محبِّيه وجَماعته، ويأمن؛ لكوْنِه لَم يعُدْ هناك طولُ طريق ولا وحْشة سفر، كما كان يشعُر في البدْء قبل أن يُعرَف ويستويَ على عوده، علمًا وفضلاً وعطاءً، ويتحلَّق حولَه جُمهور واسع.
شيخَنا، انتبِهْ، ثَمَّة (كوبرا) في انتظارك، هنا، أو هناك، قد تَرْمي بك إلى المربَّع الأوَّل، بل وقدْ تُلْقي بك خارجًا، وتضطرُّك إلى تغْيير رقم جوَّالك، من كثرة ما سيَرِدُك من الشَّتائم واللَّعائن، وربَّما تضطرُّ للانتِقال إلى سكنٍ آخَر، وركوب سيَّارة مظلَّلة.
قد يكون هذا بسببِ رأْيٍ قد قلتَه يَحتمل الصواب أو الخطأ في قضيَّة تحتمل الاجتِهاد، أو لعلَّها هفوة عالم، أو لعلَّك ابتُليتَ بصحفي يبحثُ عن (خبطة)، فالخبطة سلَّم الصحفي، ومصائب قومٍ عند قوم سلالمُ، فنَشَرَ الأبعدُ ما قُلْتَه بعد شيء من التَّحريف و (التتبيل)، ووضَعَ هذا تَحت عنوانٍ صادم، أو لعلَّك أُخِذتَ على غِرَّة من وجيهٍ من وُجَهاء المجتمَع، أو اقتِصادي ممَّن اعتادوا على أن يصوِّبوا على أي هدف متحرِّك يظهر أمامَهم، حتَّى ولو كان عالمًا، فاستغلَّك بطريقة دعائيَّة سَمْجة، فبدا من الصُّورة التي تأذَّى منها جُمهورُك أنَّك تُشترى.
هذا هو، وبطبيعة الحال فيمكن توقُّع أنَّ بعض العاملين في مَجال الدعوة، أمسَوا يفكِّرون ألف مرَّة قبل أن ينطقوا، بل ألف مرَّة قبل أن يفكِّروا، ويفكِّرون ألف مرَّة قبل أن يلبُّوا الدعوات الوجيهة، وألف مرَّة قبل أن يقدِّموا لكتابٍ، ويكتُبوا تقريظًا له وتشجيعًا لكاتِبِه المبتدئ؛ خوفًا من أن يَحملوا وحدهم - وبناءً على سطريْن من التقريظ - وِزْرَ سقطةٍ سقَطها الكاتب مخفيَّة في ثنايا كتابه، الذي سيُباع بسبب تقديم وتقْريظ العالم المعروف، وليْس بسبب المحتوى، السلَّم للمبتدئ وللعالِم الحنَش، إنَّهم يتحسَّسون لمواضع أقدامِهم كثيرًا؛ خوفًا من وطْءِ ذيْل ثعبان من الثَّعابين.
هؤلاء الذين عليْهم أن يقودوا وعْيَ الجماهير، ويصحِّحوا مفاهيمهم وينوِّروهم، حتَّى ولو بالصَّدمة أحيانًا، يُمكنُك أن تتوقَّع أنَّهم أمسَوا وبعضُهم يَخشى الجمهور -الجمهورَ الغرائزيَّ - في حبه وكرهه، وإقباله وإدباره، وفي الرضا والسخط؛ خشيةً قد تُعيق هذا البعضَ من أن يُجيبَ عن أسئِلة ملحَّة، أو يحقِّق قيمة مضافةً على ما تحقَّق.
في جوٍّ كهذا، سيتلخَّص الذَّكاء والفطنة وحسن التدبير في اتِّقاء الثعابين، ربَّما أكثر من النُّصح للأمَّة، ودرْء الأذى مقدَّم على ركوب السَّلالم.
في جوٍّ كهذا، لن تعدم مَن ينأى بنفسِه عن كلمةٍ يراها حقًّا؛ خوفًا من أن يُغتال معنويًّا على يد فريقٍ من جُمهوره، سينقلبوا عليه إذا ما ذهب إلى ما يكرهون في قضية هامة ، فيشمتَ به الأعداءُ الجالسون في الظَّلام، الذين كانوا يَحسُدونه على دائرة الضَّوء، فتراهُم يبتسِمون ابتسامَتَهم المقزّزة بأسنانِهم المتَّسِخة من التَّبغ والقهوة، لقد أُسقِط عالم من عُلماء الإسلام!
وابحث ساعتَها في هذا المناخ الابتزازي العظيم، والإعْلامي واللاعلمي، عمَّن سيصرُّ على رأْيِه في هذه الأجواء العصابية .
وترى الأسود الذين كانوا يذبُّون عن عِرْض العلماء، إذا ما نال منهم العلمانيُّون والمأجورون والمحنَّطون في متاحف الشيوعيَّة، تراهُم وقد غفلوا عن سُمِّيَّة لحوم العُلماء، التي كانوا يحذِّرون منها، وشرعوا يتعازمون عليْها، ويزْدَردونَها في لفائفَ ورقيَّة شتائميَّة، هزيلة المحتوى، وفي صفحات مطوَّلة وناريَّة على الشَّبَكة، وتقاسم كلُّ مَن حضر القسمة، فمن يعرف الكتابة كتبَ ودبَّج، ومَن لم يعرف نقَل وأشْهَرَ، ومَن لا يعرفُ النقل خاصم ودعا.
ولم يترُكِ التَّلامذة حمْلَ الرَّدّ على العالم الداعية، وتوجيهِه على عاتِقِ أكْفائِه من العلماء العاملين المُخْلصين، ولم يسكُتِ الطلبة ويتمهَّلوا قليلاً ليوفِّروا جوًّا ودِّيًّا للمفاهمة والاستيعاب؛ بل وجدوا مَن وجدوا وقد بلّل إلى كاحليه في شِبْر من الماء، فأبَوْا إلا أن يسحبوه عميقًا ويُغْرِقوه، هذا بافتراض أنَّه أخطا فعلاً.
وتسمعُ اتِّهامات بالخرف والجهْل تسفَعُ وجوهًا كريمة، انكبَّت على القِرْطاس والمحْبرة طيلة عمرها للتعليم والدَّعوة، تسمعها تُلقَى من ألسِنة كانت تلحَن وتُتأْتِئُ، وتخلط وتوهم منذ عهد قريبٍ، في مجالس ومعاهد العلم، حتى نضجت أوَّل نضجها، وأمستْ تُحسن تأليفَ مطويَّة؛ وتَسمع لمُزايداتٍ عنتريَّة، واتِّهامات بالجُبْنِ والخضوع والركوع، يُلْقيها بشرٌ عابرون.
ولا أريد أن يُفهَم من مقالتي أنَّني من المغالين في العُلماء، والباحثين عن حصانةٍ لهم ضدَّ النقْد والتناوُل العلمي والمساءلة، فقد قُلْنا كجمهورٍ وقالوا كعلماء: إنَّه لا أحدَ إلا ويؤخذ منْه ويرَدُّ عليه؛ إلا الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم. ولكن أسأل سؤالين بريئين لا غرض فيهما: من له الحق ؟ ومتى يكون له الحق في أن يأخذ بلحية عالم ورأسه ؟
محمود بن توفيق بن حسين
السُّلم والثعبان
ثَمَّة لعبةٌ بسيطة يلعبُها الأطفال اسمُها (السلَّم والثُّعبان): تَرمي النَّردَ، وتنتقِل على اللَّوحة الكرْتونيَّة ذات المربَّعات المائة، نقلاتٍ بِحسب الرَّقم الذي استقرَّ عليه النَّرد كل مرَّة، إنِ استقرَّ على الرقم (ثلاثة) انتقلت للأمام ثلاثةَ مربَّعات، وهكذا تتحرَّك قُدُمًا باتِّجاه المربَّع الأخير رقم (مائة)، حيثُ النهاية الرابحة للُّعبة.
وعلى هذا، فالأمر ليس بتلك السهولة والبساطة المملَّة؛ فهناك سلالمُ متباينة الطُّول في الطريق، ترتكِز في بعض المربَّعات، إذا انتقلتَ إلى مربَّعاتِها التي ارتكزتْ فيها، فإنَّك تنتقِل فورًا إلى صفوف علويَّة ومربَّعات متقدِّمة، حيث يستقرُّ أعلى السلم، هذا شيءٌ جيِّد.
لكن في انتظارِك مفاجآتٌ غير سارَّة أيضًا: ثعابين متباينة الطُّول أيضًا تعمَلُ في الاتِّجاه المضادِّ للسلالم، إذا انتقلتَ إلى حيثُ يكمن ذيلُها هَوَيْت إلى مهوى الرَّأس، في مربَّع بصفٍّ مُتراجع.
في اتِّجاه آخر، ليس مسلِّيًا وليس بسيطًا ولا لعبة، يتمتَّع الكاتب الإسلامي والدَّاعية بفُرصة جيِّدة للقبول والذُّيوع، لا تتوفَّر لغيرِه من كتَّابٍ ورموزٍ داخل العالم الإسلامي، من أهل اليمين أو أهل اليسار، أو من المتنقِّلين أو من غير المصنَّفين، وتتَّسع دائرة نفوذِه الثقافي والجماهيري بطريقة تضاعُفيَّة، إنَّها أوسع كثيرًا من النقلة الناتِجة عن رمية النَّرد - إذا جاز التشبيه - باعتبارِها هنا ترمُز للنَّقلة الطبيعيَّة المساوية للجهْد، وللتوقُّعات، وللمناخ المعرفي والثقافي السَّائد في العالم الإسلامي، سلالم كثيرةٌ تدفع به دفعًا في اتِّجاه الخانة الذهبيَّة خانة (المائة)، إنَّها سلالم الحبِّ في الله، والقبول لدى الجمهور الواسع المتديِّن، إنَّه الدين وأثرُه العميق، فمن يقدر على المسابقة؟!
ولا تسألْ في هذه الحالة عن المشاعِر السلبيَّة لِمن يكتُبون ممَّن هم خارج التصنيف، وهم يشاهدون أشجارَ غيرهم تنمو بطريقةٍ عجيبة، وتُثْمِر بمعدلات مدْهِشة، بينما شتلاتُهم التي نكتوها في الأرض، ورَعَوْها وأفنَوْا فيها أعمارَهم، تلعب بها الريح، وستُقتلع بموتِهم، كأنَّهم ما مرُّوا من هنا، باستِثْناء قلَّة منهم تعدُّ على أصابع اليديْن من فئة نُجوم الجماهير.
قارن بين حجْمِ جُمهور قد يتجمَّع ليستَمِع إلى بضعة كُتَّاب حداثيِّين قد أتوا صفَّا، وجلسوا على المنصَّة بعد أن استعدُّوا للنَّدوة منذُ مدَّة طويلة، بعد أن قرؤوا وذاكَروا وراجعوا ليكتُبوا لها، وبعد أن بلَّغوا مَن يعرفون ومَن لا يعرفون، فتجد حصيلةً من الممكن احتواؤها في صالة شَقَّتي.
قارنْ بين هذا الجمهور، أو بالأدقِّ: هذا العدد المعدود، وبين جُمهور عالمٍ شهير من علماء الدِّين، أعدَّ كلِمَته في الطَّائرة المتَّجِهة به لمقرِّ الندوة، هنا بابٌ مفتوح حتَّى آخِر الندوة لجُمهور لم يأتِ ولن يأتي أبدًا، وهنا حرسٌ ومنظِّمون لمنع التزاحُم، وبشر يتخطَّفون المقاعد، ثم بشرٌ يتخطَّفون مواطئَ الأقدام، وقد تمنَّوا لو يَسْمعون ويَرَوْنَ وهم وقوفٌ، هنا كلِماتٌ راحتْ كصرخةٍ في البرِّيَّة، لم يردِّدْها إلا الصدى، وهنا كلِمات سجِّلت على الأشرطة، ونقلتْها المنتديات، وباركها المبارِكون، وذكرها الذاكرون، تخيَّل وقارنْ لتعرِفَ طول السلالم.
لكنَّ الأمور لا تسيرُ على هذا النَّحو بدون أيَّة مخاطر جدِّية، تنتَظِر العالِم والدَّاعية الإسلامي؛ فثمَّة ثعابينُ من نوع (الكوبرا) على الطَّريق، لا تسألْ عن طُولها، وأخطرُها وأطولُها ذرْعًا ما يكمُن في عشُبِ المراحل النهائيَّة، التي يلتقِط فيها العالمُ أنفاسَه، ويغفل قلبُه غفلةَ قلْب المحبوب بين محبِّيه وجَماعته، ويأمن؛ لكوْنِه لَم يعُدْ هناك طولُ طريق ولا وحْشة سفر، كما كان يشعُر في البدْء قبل أن يُعرَف ويستويَ على عوده، علمًا وفضلاً وعطاءً، ويتحلَّق حولَه جُمهور واسع.
شيخَنا، انتبِهْ، ثَمَّة (كوبرا) في انتظارك، هنا، أو هناك، قد تَرْمي بك إلى المربَّع الأوَّل، بل وقدْ تُلْقي بك خارجًا، وتضطرُّك إلى تغْيير رقم جوَّالك، من كثرة ما سيَرِدُك من الشَّتائم واللَّعائن، وربَّما تضطرُّ للانتِقال إلى سكنٍ آخَر، وركوب سيَّارة مظلَّلة.
قد يكون هذا بسببِ رأْيٍ قد قلتَه يَحتمل الصواب أو الخطأ في قضيَّة تحتمل الاجتِهاد، أو لعلَّها هفوة عالم، أو لعلَّك ابتُليتَ بصحفي يبحثُ عن (خبطة)، فالخبطة سلَّم الصحفي، ومصائب قومٍ عند قوم سلالمُ، فنَشَرَ الأبعدُ ما قُلْتَه بعد شيء من التَّحريف و (التتبيل)، ووضَعَ هذا تَحت عنوانٍ صادم، أو لعلَّك أُخِذتَ على غِرَّة من وجيهٍ من وُجَهاء المجتمَع، أو اقتِصادي ممَّن اعتادوا على أن يصوِّبوا على أي هدف متحرِّك يظهر أمامَهم، حتَّى ولو كان عالمًا، فاستغلَّك بطريقة دعائيَّة سَمْجة، فبدا من الصُّورة التي تأذَّى منها جُمهورُك أنَّك تُشترى.
هذا هو، وبطبيعة الحال فيمكن توقُّع أنَّ بعض العاملين في مَجال الدعوة، أمسَوا يفكِّرون ألف مرَّة قبل أن ينطقوا، بل ألف مرَّة قبل أن يفكِّروا، ويفكِّرون ألف مرَّة قبل أن يلبُّوا الدعوات الوجيهة، وألف مرَّة قبل أن يقدِّموا لكتابٍ، ويكتُبوا تقريظًا له وتشجيعًا لكاتِبِه المبتدئ؛ خوفًا من أن يَحملوا وحدهم - وبناءً على سطريْن من التقريظ - وِزْرَ سقطةٍ سقَطها الكاتب مخفيَّة في ثنايا كتابه، الذي سيُباع بسبب تقديم وتقْريظ العالم المعروف، وليْس بسبب المحتوى، السلَّم للمبتدئ وللعالِم الحنَش، إنَّهم يتحسَّسون لمواضع أقدامِهم كثيرًا؛ خوفًا من وطْءِ ذيْل ثعبان من الثَّعابين.
هؤلاء الذين عليْهم أن يقودوا وعْيَ الجماهير، ويصحِّحوا مفاهيمهم وينوِّروهم، حتَّى ولو بالصَّدمة أحيانًا، يُمكنُك أن تتوقَّع أنَّهم أمسَوا وبعضُهم يَخشى الجمهور -الجمهورَ الغرائزيَّ - في حبه وكرهه، وإقباله وإدباره، وفي الرضا والسخط؛ خشيةً قد تُعيق هذا البعضَ من أن يُجيبَ عن أسئِلة ملحَّة، أو يحقِّق قيمة مضافةً على ما تحقَّق.
في جوٍّ كهذا، سيتلخَّص الذَّكاء والفطنة وحسن التدبير في اتِّقاء الثعابين، ربَّما أكثر من النُّصح للأمَّة، ودرْء الأذى مقدَّم على ركوب السَّلالم.
في جوٍّ كهذا، لن تعدم مَن ينأى بنفسِه عن كلمةٍ يراها حقًّا؛ خوفًا من أن يُغتال معنويًّا على يد فريقٍ من جُمهوره، سينقلبوا عليه إذا ما ذهب إلى ما يكرهون في قضية هامة ، فيشمتَ به الأعداءُ الجالسون في الظَّلام، الذين كانوا يَحسُدونه على دائرة الضَّوء، فتراهُم يبتسِمون ابتسامَتَهم المقزّزة بأسنانِهم المتَّسِخة من التَّبغ والقهوة، لقد أُسقِط عالم من عُلماء الإسلام!
وابحث ساعتَها في هذا المناخ الابتزازي العظيم، والإعْلامي واللاعلمي، عمَّن سيصرُّ على رأْيِه في هذه الأجواء العصابية .
وترى الأسود الذين كانوا يذبُّون عن عِرْض العلماء، إذا ما نال منهم العلمانيُّون والمأجورون والمحنَّطون في متاحف الشيوعيَّة، تراهُم وقد غفلوا عن سُمِّيَّة لحوم العُلماء، التي كانوا يحذِّرون منها، وشرعوا يتعازمون عليْها، ويزْدَردونَها في لفائفَ ورقيَّة شتائميَّة، هزيلة المحتوى، وفي صفحات مطوَّلة وناريَّة على الشَّبَكة، وتقاسم كلُّ مَن حضر القسمة، فمن يعرف الكتابة كتبَ ودبَّج، ومَن لم يعرف نقَل وأشْهَرَ، ومَن لا يعرفُ النقل خاصم ودعا.
ولم يترُكِ التَّلامذة حمْلَ الرَّدّ على العالم الداعية، وتوجيهِه على عاتِقِ أكْفائِه من العلماء العاملين المُخْلصين، ولم يسكُتِ الطلبة ويتمهَّلوا قليلاً ليوفِّروا جوًّا ودِّيًّا للمفاهمة والاستيعاب؛ بل وجدوا مَن وجدوا وقد بلّل إلى كاحليه في شِبْر من الماء، فأبَوْا إلا أن يسحبوه عميقًا ويُغْرِقوه، هذا بافتراض أنَّه أخطا فعلاً.
وتسمعُ اتِّهامات بالخرف والجهْل تسفَعُ وجوهًا كريمة، انكبَّت على القِرْطاس والمحْبرة طيلة عمرها للتعليم والدَّعوة، تسمعها تُلقَى من ألسِنة كانت تلحَن وتُتأْتِئُ، وتخلط وتوهم منذ عهد قريبٍ، في مجالس ومعاهد العلم، حتى نضجت أوَّل نضجها، وأمستْ تُحسن تأليفَ مطويَّة؛ وتَسمع لمُزايداتٍ عنتريَّة، واتِّهامات بالجُبْنِ والخضوع والركوع، يُلْقيها بشرٌ عابرون.
ولا أريد أن يُفهَم من مقالتي أنَّني من المغالين في العُلماء، والباحثين عن حصانةٍ لهم ضدَّ النقْد والتناوُل العلمي والمساءلة، فقد قُلْنا كجمهورٍ وقالوا كعلماء: إنَّه لا أحدَ إلا ويؤخذ منْه ويرَدُّ عليه؛ إلا الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم. ولكن أسأل سؤالين بريئين لا غرض فيهما: من له الحق ؟ ومتى يكون له الحق في أن يأخذ بلحية عالم ورأسه ؟
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى