رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / علي بن مصطفى الطنطاوي
( من لدغه الثعبان خاف الحبل)
ـ بت الليلة لا أشكو شيئا فلما كان هزيع من الليل, سمع في الحي صوت: (آه) يقتلعها مرسلها من قرارة القلب, ويبعثها مسربلة بالألم, يسمعها الجيران مرة كل دقيقتين, ثم صارت مرتين كل ثلاث دقائق, ثم تسارعت حتى صارت تمشي مع دقة الثواني في الساعة, فكلما قالت الساعة طق, قال هذا الصوت آه. وكان مطلقها هو أنا. وكنت أعرف هذه الآلام من القديم, ما شكوت في عمري غيرها, تقول التي تصاب من النساء بها وهي تعرف آلام الولادة, أن آلامها تشبه آلام الولادة, فهل سمعتم بما تقاسي الوالدة حين الطلق ؟ وما تتحمل حتى يخرج الولد إلى هذه الدنيا ؟ لذلك كان أحط الناس وأخس الناس, وألأم الناس, من يعق أمه, وينسى صنيعها له, ويعاملها بالشر والأذى .
ولي مع هذا المرض تاريخ طويل . طويل, دخلت معه المستشفيات في دمشق, والمستشفى الأمريكي في بيروت ومستشفى الرياض هذه المرة, ودخلت مستشفى قصر العيني في مصر مرة, ودخلت بعد المستشفيات في أوروبا, وما أشكو في ذلك كله إلا هذه الحصاة, وربما حدثت القراء يوما حديثها إن سمحوا بذلك, ووعدوا أن يصبروا عليه .
وسمع صوتي جارنا في غرفته التي بناها خلسة, فنقمت عليه بناءها, ولكنني وجدتها الآن نعمة, وما في الدنيا شر لا خير معه, ولاخير لا شر معه إلا طاعة الله وابتغاء الآخرة, فهذا هو الخير الخالص .وكان جارنا ( صاحب الدار ) يعلم أنه ليس معي من يحتشمه من النساء, ولم يكن أخي ناجي تلك الليلة في الدار, ففتح الباب بالمفتاح وهو معه, ودخل علي, ودخل معه جار آخر سمع من صراخي ما سمع, فأقبل معه لما أقبل, جفوا فراشهما الدافئ في هذا الليل البارد, وجاءا يؤديان حق الجار علي الجار, فجزاهما الله خيرا.
وجعل يسائلني, وما بي طاقة على الجواب, إلا أن أختلس لحظة بين آهتين من آهاتي, وسمعني في هذه اللحظة أذكر اسم الأستاذ محمد الصباغ, والأستاذ سليمان الحافظ, فاتصل بهما ولم يكن في الرياض في تلك الأيام هواتف في البيوت, ما كانت فيه إلا هواتف قليلة تدار باليد, ولكن الحي حي عسكري فسهل عليه أن يتصل بمن يذهب إلى أحد الأستاذين فيخبرهما بما أنا فيه .
ومن مزايا المسلمين أنهم عند الشدة يصيرون كأبناء الأم الواحدة والأب الواحد, وما من ذلك شيء ( إلا شيئا قليلا ) عند الذين نسميهم بأهل الحضارة من أهل أوروبا أو أمريكا, ( وكان أجدادنا يدعون أوروبا أورفي بتشديد الفاء ) ولست أعمم الحكم ولكن أقول عمن رأيت منهم. وعما سمعت عنهم ولم يكن الطب في المملكة في تلك الأيام قد بلغ عشر ما نجده عليه الآن, ولا أقل من العشر ولكن المستشفى المركزي في الرياض كان عامرا ً بالأطباء, وكان مديره شابا ً نبيلا ً, سامي الخلق, حسن العشرة, محبوبا ً لا يرد طالب إسعاف, ولم يكن يعرفه فكيف بهؤلاء الأخوان وفيهم من هو صديقه ورفيقه, وكان في المستشفى جناح أعد لكبار المرضى, من ذوي الأقدار والمنازل فأنزلوني فيه كرماً منهم, وكان فيه ممرضتان تبدوان أنهما ألفتا رؤية المتمارضين من الشباب, ممن كان ينزل عندهما رغبة في لقائهما, كان همهم هذا اللقاء لا التداوي والشفاء .
فما أدري كيف ضربهما العمى فلم تبصرا في رأسي ووجهي الشيب والصلع, وأصابهما الصمم فلم تسمعا صراخي وأظن أنهما حسبتاني مثل أولئك الشباب, ولم تدركا أني إلى حقنة مورفين, وما كان يسكن الآلام في تلك الأيام غيره, أحوج إليها مني إلى معاقرة كؤوس الجمال, ومطارحة أحاديث الغرام فتلفتت إحداهما تقول: حضرة الأستاذ من طنطا, وتكركر ضاحكة ( هيء هيء ) من طنطا بتاعتنا ؟ ( هيء هيء ).
والمرأة إن ضحكت غالبا ً قالت: ( هي هي ), والرجل يقول( ها ها), والولد يقول ( هو هو ), فصببت نقمتي كلها عليها, ووجهت إليها كلاما ً ما سمعته حتى انكمشت وتضاءلت وكفت عما كانت فيه, وجاء مدير المستشفى يزورني يسأل عن حالي مع طائفة من الإخوان الكرام, وعما أمر به, فقلت له: أول ما أطلبه أن تصرف عني هذه الممرضة الحمقاء .
فلما تدفق الإخوان علي, وتكرم بزيارتي الوزيران الصديقان الشيخ محمد عمر توفيق وزير المواصلات, ووزير الحج بالنيابة, والشيخ حسن رحمة الله عليه وزير المعارف ووزير الصحة بالنيابة, زادت عناية القوم بي, واهتمامهم بمرضي .
وتبين أنه لا بد من عملية جراحية, ففضلت أن أعملها في الشام, لا لأنه لم يكن في مستشفى الرياض أطباء يقدرون عليها, بل لأن هناك من أعرفه من قديم, وهناك أهلي وأقربائي, والمريض يأنس بزيارة أهله وأقربائه .
وكان على رأس الأطباء الذين يعنون بي في الشام الدكتور حسني سبح, وقد بلغني أنه توفي من قريب وهو شيخ جاوز التسعين, وهو بقية جماعة كانوا أساتذة أطباء الشام جميعا ً . منهم الدكتور حمدي الخياط, وقد خلف ولدا ً عبقريا ً نابغا ً طبيبا ً عالما ً هو الدكتور هيثم الخياط ومنهم الدكتور عزة مريدن, وكان يومئذ عميد كلية الطب في الشام ومنهم الأخ الطبيب الحبيب, الدكتور مظهر المهايني, الذي أجرى لي في مستشفى كلية الطب من قبل ثلاث عمليات, لم يأخذ عليها لنفسه أجرا ً . فجزاه الله وجزاهم خيرا .
وأخذوني إلى مستشفى المواساة, الذي أقامه جماعة من كرام الشاميين بسعي من الدكتور حسني رحمة الله عليه .[ ذكريات 8 /224]
ـ وكان في غرفة إلى جنب غرفتي رفيق عمري, وشقيق نفسي, أنور العطار, مريضا ً مثلي, لا يقدر أن ينتقل إلي حتى أراه. ولا أستطيع أن أنتقل إليه فأزوره, فكنت معه كما قال المعري في هذا البيت الذي تضمن معنى عجيبا ً وتشبيها ً نفيسا ً غريبا ً حين قال :
كتجاوز العينين لم يتلاقيا وحجاز بينهما رقيق جدار
وكان إخواننا يخافون أن يقع لي ما وقع في المرة الماضية, سنة 1957م, في مستشفى المجتهد, وهو أكبر مستشفيات وزارة الصحة في دمشق في تلك الأيام, حين جاء طبيب داخلي يتدرب فيه, وكان شيوعيا ً خبيثا ً, فأدخل في دمي جرثومة نادرة هي التي تسمى بالعربية ( العصيات الزرقاء ), فكان من أثر ذلك أن بقيت في هذا المستشفى, ثم في مستشفى كلية الطب حين انتقلت إليه أربعة عشر شهرا ً .
ذكر الإخوان ذلك فخافوا أن يقع مثله, فندب نفسه ولدي الأستاذ زهير الشاويش فأبى إلا أن يقف على العملية وجاهد وجالد وسعى حتى سمحوا له أن يلبس ما يلبس الأطباء, وأن يضع مثل القناع الذي يضعونه, وأن يقف معهم يراقب ما يصنعون, وما كنت أخشى الدكتور مظهر فهو أخي وصديقي, ولكن أخشى بعض صغار الأطباء : ومن لدغه الثعبان خاف الحبل . [ ذكريات 8 / 227]
( من لدغه الثعبان خاف الحبل)
ـ بت الليلة لا أشكو شيئا فلما كان هزيع من الليل, سمع في الحي صوت: (آه) يقتلعها مرسلها من قرارة القلب, ويبعثها مسربلة بالألم, يسمعها الجيران مرة كل دقيقتين, ثم صارت مرتين كل ثلاث دقائق, ثم تسارعت حتى صارت تمشي مع دقة الثواني في الساعة, فكلما قالت الساعة طق, قال هذا الصوت آه. وكان مطلقها هو أنا. وكنت أعرف هذه الآلام من القديم, ما شكوت في عمري غيرها, تقول التي تصاب من النساء بها وهي تعرف آلام الولادة, أن آلامها تشبه آلام الولادة, فهل سمعتم بما تقاسي الوالدة حين الطلق ؟ وما تتحمل حتى يخرج الولد إلى هذه الدنيا ؟ لذلك كان أحط الناس وأخس الناس, وألأم الناس, من يعق أمه, وينسى صنيعها له, ويعاملها بالشر والأذى .
ولي مع هذا المرض تاريخ طويل . طويل, دخلت معه المستشفيات في دمشق, والمستشفى الأمريكي في بيروت ومستشفى الرياض هذه المرة, ودخلت مستشفى قصر العيني في مصر مرة, ودخلت بعد المستشفيات في أوروبا, وما أشكو في ذلك كله إلا هذه الحصاة, وربما حدثت القراء يوما حديثها إن سمحوا بذلك, ووعدوا أن يصبروا عليه .
وسمع صوتي جارنا في غرفته التي بناها خلسة, فنقمت عليه بناءها, ولكنني وجدتها الآن نعمة, وما في الدنيا شر لا خير معه, ولاخير لا شر معه إلا طاعة الله وابتغاء الآخرة, فهذا هو الخير الخالص .وكان جارنا ( صاحب الدار ) يعلم أنه ليس معي من يحتشمه من النساء, ولم يكن أخي ناجي تلك الليلة في الدار, ففتح الباب بالمفتاح وهو معه, ودخل علي, ودخل معه جار آخر سمع من صراخي ما سمع, فأقبل معه لما أقبل, جفوا فراشهما الدافئ في هذا الليل البارد, وجاءا يؤديان حق الجار علي الجار, فجزاهما الله خيرا.
وجعل يسائلني, وما بي طاقة على الجواب, إلا أن أختلس لحظة بين آهتين من آهاتي, وسمعني في هذه اللحظة أذكر اسم الأستاذ محمد الصباغ, والأستاذ سليمان الحافظ, فاتصل بهما ولم يكن في الرياض في تلك الأيام هواتف في البيوت, ما كانت فيه إلا هواتف قليلة تدار باليد, ولكن الحي حي عسكري فسهل عليه أن يتصل بمن يذهب إلى أحد الأستاذين فيخبرهما بما أنا فيه .
ومن مزايا المسلمين أنهم عند الشدة يصيرون كأبناء الأم الواحدة والأب الواحد, وما من ذلك شيء ( إلا شيئا قليلا ) عند الذين نسميهم بأهل الحضارة من أهل أوروبا أو أمريكا, ( وكان أجدادنا يدعون أوروبا أورفي بتشديد الفاء ) ولست أعمم الحكم ولكن أقول عمن رأيت منهم. وعما سمعت عنهم ولم يكن الطب في المملكة في تلك الأيام قد بلغ عشر ما نجده عليه الآن, ولا أقل من العشر ولكن المستشفى المركزي في الرياض كان عامرا ً بالأطباء, وكان مديره شابا ً نبيلا ً, سامي الخلق, حسن العشرة, محبوبا ً لا يرد طالب إسعاف, ولم يكن يعرفه فكيف بهؤلاء الأخوان وفيهم من هو صديقه ورفيقه, وكان في المستشفى جناح أعد لكبار المرضى, من ذوي الأقدار والمنازل فأنزلوني فيه كرماً منهم, وكان فيه ممرضتان تبدوان أنهما ألفتا رؤية المتمارضين من الشباب, ممن كان ينزل عندهما رغبة في لقائهما, كان همهم هذا اللقاء لا التداوي والشفاء .
فما أدري كيف ضربهما العمى فلم تبصرا في رأسي ووجهي الشيب والصلع, وأصابهما الصمم فلم تسمعا صراخي وأظن أنهما حسبتاني مثل أولئك الشباب, ولم تدركا أني إلى حقنة مورفين, وما كان يسكن الآلام في تلك الأيام غيره, أحوج إليها مني إلى معاقرة كؤوس الجمال, ومطارحة أحاديث الغرام فتلفتت إحداهما تقول: حضرة الأستاذ من طنطا, وتكركر ضاحكة ( هيء هيء ) من طنطا بتاعتنا ؟ ( هيء هيء ).
والمرأة إن ضحكت غالبا ً قالت: ( هي هي ), والرجل يقول( ها ها), والولد يقول ( هو هو ), فصببت نقمتي كلها عليها, ووجهت إليها كلاما ً ما سمعته حتى انكمشت وتضاءلت وكفت عما كانت فيه, وجاء مدير المستشفى يزورني يسأل عن حالي مع طائفة من الإخوان الكرام, وعما أمر به, فقلت له: أول ما أطلبه أن تصرف عني هذه الممرضة الحمقاء .
فلما تدفق الإخوان علي, وتكرم بزيارتي الوزيران الصديقان الشيخ محمد عمر توفيق وزير المواصلات, ووزير الحج بالنيابة, والشيخ حسن رحمة الله عليه وزير المعارف ووزير الصحة بالنيابة, زادت عناية القوم بي, واهتمامهم بمرضي .
وتبين أنه لا بد من عملية جراحية, ففضلت أن أعملها في الشام, لا لأنه لم يكن في مستشفى الرياض أطباء يقدرون عليها, بل لأن هناك من أعرفه من قديم, وهناك أهلي وأقربائي, والمريض يأنس بزيارة أهله وأقربائه .
وكان على رأس الأطباء الذين يعنون بي في الشام الدكتور حسني سبح, وقد بلغني أنه توفي من قريب وهو شيخ جاوز التسعين, وهو بقية جماعة كانوا أساتذة أطباء الشام جميعا ً . منهم الدكتور حمدي الخياط, وقد خلف ولدا ً عبقريا ً نابغا ً طبيبا ً عالما ً هو الدكتور هيثم الخياط ومنهم الدكتور عزة مريدن, وكان يومئذ عميد كلية الطب في الشام ومنهم الأخ الطبيب الحبيب, الدكتور مظهر المهايني, الذي أجرى لي في مستشفى كلية الطب من قبل ثلاث عمليات, لم يأخذ عليها لنفسه أجرا ً . فجزاه الله وجزاهم خيرا .
وأخذوني إلى مستشفى المواساة, الذي أقامه جماعة من كرام الشاميين بسعي من الدكتور حسني رحمة الله عليه .[ ذكريات 8 /224]
ـ وكان في غرفة إلى جنب غرفتي رفيق عمري, وشقيق نفسي, أنور العطار, مريضا ً مثلي, لا يقدر أن ينتقل إلي حتى أراه. ولا أستطيع أن أنتقل إليه فأزوره, فكنت معه كما قال المعري في هذا البيت الذي تضمن معنى عجيبا ً وتشبيها ً نفيسا ً غريبا ً حين قال :
كتجاوز العينين لم يتلاقيا وحجاز بينهما رقيق جدار
وكان إخواننا يخافون أن يقع لي ما وقع في المرة الماضية, سنة 1957م, في مستشفى المجتهد, وهو أكبر مستشفيات وزارة الصحة في دمشق في تلك الأيام, حين جاء طبيب داخلي يتدرب فيه, وكان شيوعيا ً خبيثا ً, فأدخل في دمي جرثومة نادرة هي التي تسمى بالعربية ( العصيات الزرقاء ), فكان من أثر ذلك أن بقيت في هذا المستشفى, ثم في مستشفى كلية الطب حين انتقلت إليه أربعة عشر شهرا ً .
ذكر الإخوان ذلك فخافوا أن يقع مثله, فندب نفسه ولدي الأستاذ زهير الشاويش فأبى إلا أن يقف على العملية وجاهد وجالد وسعى حتى سمحوا له أن يلبس ما يلبس الأطباء, وأن يضع مثل القناع الذي يضعونه, وأن يقف معهم يراقب ما يصنعون, وما كنت أخشى الدكتور مظهر فهو أخي وصديقي, ولكن أخشى بعض صغار الأطباء : ومن لدغه الثعبان خاف الحبل . [ ذكريات 8 / 227]
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى