رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الأحاديث في العمامة
بقلم : الشيخ / محمد ناصر الدين الألباني
قرأت فى العدد الثامن ، من المجلد السادس ، من هذه المجلة الزاهرة ما كتبه فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الحامد تحت عنوان " العمامة في الإسلام " تعقيباً على ما جاء في مقال الأستاذ الطنطاوي " صناعة المشيخة " ، فرأيت في التعقيب ما يجب أن أبين رأي في بعض ما جاء فيه ، فإن أصبت فمن الله ، وان أخطأت فمن نفسي ، وأرجو من فضيلة الشيخ وغيره أن يدلني على الخطأ .
1- (السؤال بوجه الله):
قال فضيلة الشيخ (أي الحامد) : " والسؤال بالله تعالى لا يجوز وقد بوب الإمام النووي لهذا : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة " رواه أبو داود) . ا.هـ.
أقول : وفي الاستدلال بهذا الحديث على عدم الجواز نظر من وجهين:
الأول : أنه ضعيف لا يصح إسناده ، فإن فيه سليمان بن قرم بن معاذ ، وقد تفرد به كما قال ابن عدي في " الكامل " (ق 155/1) ثم الذهبي ، وهو ضعيف لسوء حفظه فلا يحتج به ، ولذلك لما أورد السيوطي هذا الحديث من رواية أبي داود ، والضياء في " المختارة " وتعقبه المحقق عبد الرؤوف المناوي ، بقوله : " قال في ( المهذب) : فيه سليمان بن معاذ ، قال ابن معين : ليس بشيء وقال عبد الحق وابن القطان : ضعيف ".
قلت : وقال الحافظ في " التقريب " : " سيء الحفظ ".
ثانياً : لو صح الحديث لم يدل على ما ذهب إليه فضيلة الشيخ ، لأن المتبادر منه النهي عن السؤال به تعالى شيئاً من حطام الدنيا ، أما أن يسأل به الهداية إلى الحق الذي يوصل به إلى الجنة ، -وهو ما صنعه الأستاذ الطنطاوي - فلا يبدو لي أن الحديث يتناوله بالنهي؟ ويؤيدني في هذا ما قاله الحافظ العراقي " وذكر الجنة إنما هو للتنبيه به على الأمور العظام لا للتخصيص ، فلا يسأل الله بوجهه في الأمور الدنيئة ، بخلاف الأمور العظام ، تحصيلاً أو دفعاً كما يشير إليه استعاذة النبي -صلى الله عليه وسلم- به " نقله المناوي وأقره .
ثالثاً : إنما بوب النووي للحديث بالكراهة ، لا بعدم الجواز ، فقال : " باب كراهة أن يسأل الإنسان بوجه الله غير الجنة " و الكراهة عند الشافعية للتنزيه ، فهل عدم الجواز يرادف هذه الكراهة ؟ هذا ما لا أعلمه ، وفضيلة الشيخ أعلم به مني ، والمتبادر عندي من قوله " لا يجوز " التحريم أو الكراهة التحريمية ، وحينئذ فنسبة ذلك إلى النووي لا يخفى بعده .
2- (الأحاديث في العمامة):
ثم قال فضيلة الشيخ (أي الحامد) : " وأما العمامة فإنها وإن لم تكن كالعمامة المعروفة في بلاد الشام ، لكنها في أصلها سنة عربية قررها الإسلام ، وارتضاها في أحاديث كثيرة ، وهي وإن كانت بمفرداتها ضعيفة لكنها لتعددها شكلت دليلاً للقول بسنيتها " .
ثم ساق الشيخ ثمانية أحاديث في فضل العمامة ،وهي كلها ضعيفة كما ذكر الشيخ ، ولكنها ضعيفة جداً تدور جميعها على متروكين وكذابين ، وبمثلهم لا ينهض دليل ، فقد ذكر النووي في " التقريب " ، والسيوطي في شرحه وغيرهما من المحدثين أن الحديث الضعيف إنما يقوى بكثرة الطرق ، إذا خلت من متروك أو متهم ، وهذه الأحاديث ليست كذلك ، وإليك البيان :
الحديث الأول : " اعتموا تزدادوا حلماً " رواه الطبراني عن أسامة بن عمير .
قلت : فيه عند الطبراني (ج 1 / 26 / 2) وغيره ( عبيد الله بن أبي حميد ) وهو ضعيف جداً ، قال النسائي : ليس بثقة ، وقال أحمد : ترك الناس حديثه ، وقال البخاري : منكر الحديث ، وقال في موضع آخر : يروي عن أبي المليح عجائب ، قلت : وهذا من روايته عن أبي المليح ! ولهذا قال الحافظ في ترجمته من التقريب " متروك الحديث " .
وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق ابن أبي حميد هذا وقال : إنه متروك ، وتعقبه السيوطي في " اللآلي " (2 / 295 - 296) بأن له عند الطبراني طريقاً أخرى عن ابن عباس ، وسكت عليه فلم يحسن ، لأن في سنده عنده في " المعجم الكبير " (ج 3 / 183 / 1) شيخه محمد بن صالح بن الوليد النرسي ، ولم أجد له ترجمة فيما لدي من كتب الرجال ، وفيه عمران بن تمام وهو آفته ، فقد قال ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (3 / 1 / 295) : " سألت أبي عنه فقال : كان عندي مستوراً إلى أن حدث عن أبي جمرة عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بحديث منكر أنه قال : " من إكفاء الدين تفصح النبط ، واتخاذ القصور في الأمصار " " يعني فافتضح هذا المستور برواية مثل هذا الحديث المنكر ، كما قال الحافظ في " اللسان " وحديث العمائم هذا من روايته عن أبي جمرة أيضاً عن ابن عباس ! وفيه ما يشهد عليه عندي ببطلانه ، ذلك لأن الحلم بالتحلم كما يقول -صلى الله عليه وسلم- ، فما علاقة العمامة بالحلم وكيف تزد صاحبها حلماً ؟! نعم لو قال : تزدادوا وقاراً ، كان معقولاً .
الحديث الثاني : مثل الأول بزيادة " والعمائم تيجان العرب " رواه ابن عدي ، والبيهقي ، عن أسامة أيضاًً .
قلت : هو الحديث الأول عينه بلفظه وسنده إلا أن فيه الزيادة المذكورة وهذا لا يسوغ جعله حديثاً ثانياً ما دام أن الطريق واحدة ، وعند ابن عدي في الكامل (ق 274 / 2) من طريق ابن أبي حميد المذكور وكذلك هو عند البيهقي كما في " الفيض " للمناوي .
الحديث الثالث : " العمامة على القلنسوة فصل ما بيننا وبين المشركين ، يعطى يوم القيامة بكل كورة يدورها على رأسه نوراً " رواه الباوردي عن ركانة .
قلت : وهذا ضعيف جداً ، وشطره الأول رواه غير الباوردي كما سيأتي في الحديث السابع ، وأما بهذا التمام فقد رواه الباوردي وحده ، بسند واه كما في " الدعامة " للشيخ الكتاني (ص 7) ويعني بذلك أنه ضعيف جداً كما في الصفحة (34) منه ، وصرح بذلك الفقيه ابن حجر الهيتمي فقال في كتابه " أحكام اللباس " (ق 9/ 2) :
" ولولا شدة ضعف هذا الحديث لكان حجة في تكبير العمائم " .
ولذلك فإني أعتقد أن الحديث باطل لأن تكثير كورات العمامة وتضخيمها خلاف السنة التي كان عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح ، بل إن العمامة الضخمة بدعة أعجمية ، وزي محدث ، لا نزال نراه على رؤوس بعض المشايخ ، وأئمة المساجد من الأعاجم وغيرهم ، ممن تأثر بهم وتزيى بزيهم ، وجهل أو تجاهل هدي نبيه -صلى الله عليه وسلم- ، فترى أحدهم تكاد عمامتهم من فخامتها تملأ المحراب إذا أم الناس ! ولم لا يضخمها وهو يرى هذا الحديث يقول : إن له بكل كورة نوراً ، وفي حديث آخر باطل كهذا " . . . بكل كورة حسنة " ؟! فليكثر إذن نوره وحسناته بتكثير كورات عمامته ! وقد يعلم بعضهم بضعف هذا الحديث ، ولا يمنعه ذلك من العمل به محتجاً بما شاع عند كثير من المشايخ حتى ظنوه قاعدة علمية " يعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال " ولم يعلموا أنها غير متفق عليها خلافاً لما ذكره النووي -رحمه الله- في مقدمة " الأربعين " له ، وعلى فرض التسليم بها فهي مقيدة بشروط ذكرها العلماء المحققون ، منهم الحافظ ابن حجر في رسالة " تبيين العجب " منها : أن لا يشتد ضعفه ، وهذا الحديث ليس كذلك كما عرفت .
ولقد كان للأحاديث الضعيفة -لا سيما مع تبني القاعدة المزعومة دون مراعاة لشروطها- الأثر السيء في الأمة ، وهذا الحديث من أمثلة ذلك ، مما حملني على نشر مقالات متتابعة في مجلة التمدن الإسلامي بعنوان : " الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة " نصحاً لها وتحذيراً من التقول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقل فألفت نظر القراء إليها .
الحديت الرابع : " العمائم تيجان العرب ، فإذا وضعوا العمائم وضعوا عزهم ". وفي رواية " وضع الله عزهم " رواه الديلمي عن ابن عباس.
قلت : وسنده ضعيف جداً.
قال المناوي : " فيه عتاب بن حرب ، قال الذهبي : قال العلاثي : ضعيف جداً ، ومن ثم جزم السخاوي بضعف سنده ، ورواه عنه ابن السني ، قال الزين العراقي : وفيه عبيد الله ابن ( أبي حميد ) وهو ضعيف " . ونحوه في " الدعامة " (ص 6) . وقد قال ابن حبان في ( عتاب ) هذا : " كان ممن ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات على قلته ، فلا يحتج به " .
قلت : وهو عندي باطل كالأول ، فانه يحمل في طواياه ما يشهد عليه بالبطلان ، وذلك لأن العمامة أحسن ما قيل فيها : إنها سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها ، وليست بواجب قطعاً ، وحينئذ فكيف يعقل أن يكون جزاء المسلمين إذا وضعوها وتركوها أن يضع الله عنهم عزهم وأن يذلهم ؟!
إن الله تبارك وتعالى حكم عدل فهو لا يذل المسلمين إلا إذا عصوه وارتكبوا ما حرمه عليهم ، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم- : " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ". وبما أن العمامة ليست من الفرائض التي يعاقب على تركها فلا يستحق المسلمون على وضعها أن يذلوا ، فثبت بذلك بطلان الحديث ولعله من وضع بعض المتحمسين للعمامة الغالين فيها !
الحديث الخامس : " العمائم تيجان العرب ، والاحتباء حيطانها ، وجلوس المؤمن في المسجد رباطه " . رواه القضاعي والديلمي عن علي رضي الله عنه .
قلت : وهو ضعيف جداً أيضاً ، فقد أخرجه القضاعي في " مسند الشهاب " (ق 8 / 1) عن موسى بن إبراهيم المروزي قال : حدثنا موسى بن جعفر عن أبيه عن جده عن أبيه عن علي مرفوعاً .
وكتب بعض المحدثين وأظنه ابن المحب على هامش النسخة تعليقاً على الحديث " ساقط ".
قلت : وآفته ( موسى بن إبراهيم المروزي ) كذبه يحى بن معين ، وقال الدارقطني وغيره: متروك ، وذكر له الذهبي حديثاً غير هذا وقال إنه من بلاياه !
هذا هو علة الحديث ، وأعله المناوي بعلة أخرى فقال :
" قال العامري غريب ، وقال السخاوي ، سنده ضعيف أي وذلك لأن فيه حنظلة السدوسي ، قال الذهبي : تركه القطان ، وضعفه النسائي ، ورواه أيضاً أبو نعيم وعنه تلقاه الديلمي فلو عزاه المصنف للأصل كان أولى " .
قلت : حنظلة هذا ليس في طريق القضاعي كما رأيت فلعله في طريق الديلمي ، فإن كان كذلك فكان على المناوي أن يبين ذلك ويفرق بين الطريقين ، وينص على علة الطريق الأخرى أيضاً .
ثم إن ما ذكره من رواية أبي نعيم للحديث وتلقي الديلمي إياه عنه ، قد ذكر مثله السخاوي في " المقاصد الحسنة " (ص 291) في حديث ابن عباس الذي قبله لا في حديث علي هذا ، فلا أدري أوهم المناوي في النقل عن السخاوي أم أن الأمر كما ذكرا كلاها ؟ وغالب الظن أنه وهم.
ثم إن مما يوهن الحديث أن البيهقي أخرجه من قول الزهري كما في " المقاصد " ، والحديث به أشبه .
الحديث السادس: " العمائم وقار المؤمن وعز العرب ، فإذا وضعت العرب عمائمها فقد خلعت عزها " رواه الديلمي .
قلت : رواه من حديث عمران بن حصين ، وهو ضعيف جداً لأن في سنده عتاب بن حرب وقد عرفت حاله من الحديث الرابع .
الحديث السابع : " فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس " رواه أبو داود والترمذي عن ركانة .
قلت : وهذا الحديث هو الشطر الأول من الحديث الثالث -كما تقدم- وذكرت هناك أنه ضعيف جداً ، وقد ضعفه الترمذي نفسه ، فقال بعد تخريجه (1/ 330) :
" هذا حديث غريب ، وإسناده ليس بالقائم ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني ولا ابن ركانة يعني اللذين في إسناده ، وقال الذهبي في ترجمة أبي جعفر هذا : " لا يعرف ، تفرد عنه أبو الحسن العسقلاني فمن أبو الحسن ؟! " ، وقال في ترجمة أبي الحسن هذا : " تفرد عنه محمد بن ربيعة الكلابي في إسناد حديث موضوع ( يعني هذا ) " قال الخطيب : كان غير ثقة .
وقال الكتاني بعد أن حكى تضعيف الترمذي إياه (34) : " وقال السخاوي : هو واه ، أي : شديد الضعف " .
الحديث الثامن : " عمم النبي -صلى الله عليه وسلم- علياً . . . وقال : هذه تيجان الملائكة " . ذكره المناوي .
قلت : ولم أعثر على سنده في شيء من كتب السنة التي وقفت عليها ولا أورده صاحب الدعامة .
وجملة القول : إن هذه الأحاديث كلها ضعيفة جداً ليس فيها ما يمكن أن يتقوى بالطرق الأخرى لوهائها وشدة ضعفها .
ثم إنني حين أقطع بضعف تلك الأحاديث لا أنسى أن أذكر أن لبسه -صلى الله عليه وسلم- للعمامة كعادة عربية معروفة قبله -صلى الله عليه وسلم- أمر ثابت في الأحاديث الصحيحة لا يمكن لأحد إنكاره ، فإذا انضم إلى ما ذكره فضيلة الشيخ الحامد من أن الإسلام يحب تكوين أهله تكويناً خاصاً يصونهم عن أن يختلطوا بغيرهم في الهيئات الظاهرة . . . إلى آخر كلامه الطيب الذي فصل القول فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاقتضاء " فإني في النتيجة ألتقي مع فضيلته في الحض على العمامة ، ولكني لا أراها أمراً لازماً لزوم اللحية التي ثبت الأمر بها في الأحاديث الصحيحة معللاً بقوله : " خالفوا المجوس " رواه مسلم وغيره ، ولذلك فإني لا أرى الإلحاح في العمامة كثيراً بخلاف اللحية ، وأنكر أشد الإنكار اهتمام بعض المدارس الشرعية بالعمامة أكثر من اللحية بحيث يأمرون الطلاب بالأول دون الأخرى أو أكثر منها ، ويسكتون عن الطلاب الذين يحلقون لحاهم دون الذين يضعون عمائمهم ! فإن في ذلك قلباً للحكم الشرعي كما لا يخفى .
وختاماً أسأل الله تبارك بأسمائه الحسنى أن يوفقنا للعمل بما علمنا ، وسلامي إلى فضيلة الشيخ الحامد ورحمة الله وبركاته .
محمد ناصر الدين الألباني
دمشق
في 26 / 2 / 1379 هـ
المصدر : مجلة المسلمون (6 / 906 – 913).
بقلم : الشيخ / محمد ناصر الدين الألباني
قرأت فى العدد الثامن ، من المجلد السادس ، من هذه المجلة الزاهرة ما كتبه فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الحامد تحت عنوان " العمامة في الإسلام " تعقيباً على ما جاء في مقال الأستاذ الطنطاوي " صناعة المشيخة " ، فرأيت في التعقيب ما يجب أن أبين رأي في بعض ما جاء فيه ، فإن أصبت فمن الله ، وان أخطأت فمن نفسي ، وأرجو من فضيلة الشيخ وغيره أن يدلني على الخطأ .
1- (السؤال بوجه الله):
قال فضيلة الشيخ (أي الحامد) : " والسؤال بالله تعالى لا يجوز وقد بوب الإمام النووي لهذا : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة " رواه أبو داود) . ا.هـ.
أقول : وفي الاستدلال بهذا الحديث على عدم الجواز نظر من وجهين:
الأول : أنه ضعيف لا يصح إسناده ، فإن فيه سليمان بن قرم بن معاذ ، وقد تفرد به كما قال ابن عدي في " الكامل " (ق 155/1) ثم الذهبي ، وهو ضعيف لسوء حفظه فلا يحتج به ، ولذلك لما أورد السيوطي هذا الحديث من رواية أبي داود ، والضياء في " المختارة " وتعقبه المحقق عبد الرؤوف المناوي ، بقوله : " قال في ( المهذب) : فيه سليمان بن معاذ ، قال ابن معين : ليس بشيء وقال عبد الحق وابن القطان : ضعيف ".
قلت : وقال الحافظ في " التقريب " : " سيء الحفظ ".
ثانياً : لو صح الحديث لم يدل على ما ذهب إليه فضيلة الشيخ ، لأن المتبادر منه النهي عن السؤال به تعالى شيئاً من حطام الدنيا ، أما أن يسأل به الهداية إلى الحق الذي يوصل به إلى الجنة ، -وهو ما صنعه الأستاذ الطنطاوي - فلا يبدو لي أن الحديث يتناوله بالنهي؟ ويؤيدني في هذا ما قاله الحافظ العراقي " وذكر الجنة إنما هو للتنبيه به على الأمور العظام لا للتخصيص ، فلا يسأل الله بوجهه في الأمور الدنيئة ، بخلاف الأمور العظام ، تحصيلاً أو دفعاً كما يشير إليه استعاذة النبي -صلى الله عليه وسلم- به " نقله المناوي وأقره .
ثالثاً : إنما بوب النووي للحديث بالكراهة ، لا بعدم الجواز ، فقال : " باب كراهة أن يسأل الإنسان بوجه الله غير الجنة " و الكراهة عند الشافعية للتنزيه ، فهل عدم الجواز يرادف هذه الكراهة ؟ هذا ما لا أعلمه ، وفضيلة الشيخ أعلم به مني ، والمتبادر عندي من قوله " لا يجوز " التحريم أو الكراهة التحريمية ، وحينئذ فنسبة ذلك إلى النووي لا يخفى بعده .
2- (الأحاديث في العمامة):
ثم قال فضيلة الشيخ (أي الحامد) : " وأما العمامة فإنها وإن لم تكن كالعمامة المعروفة في بلاد الشام ، لكنها في أصلها سنة عربية قررها الإسلام ، وارتضاها في أحاديث كثيرة ، وهي وإن كانت بمفرداتها ضعيفة لكنها لتعددها شكلت دليلاً للقول بسنيتها " .
ثم ساق الشيخ ثمانية أحاديث في فضل العمامة ،وهي كلها ضعيفة كما ذكر الشيخ ، ولكنها ضعيفة جداً تدور جميعها على متروكين وكذابين ، وبمثلهم لا ينهض دليل ، فقد ذكر النووي في " التقريب " ، والسيوطي في شرحه وغيرهما من المحدثين أن الحديث الضعيف إنما يقوى بكثرة الطرق ، إذا خلت من متروك أو متهم ، وهذه الأحاديث ليست كذلك ، وإليك البيان :
الحديث الأول : " اعتموا تزدادوا حلماً " رواه الطبراني عن أسامة بن عمير .
قلت : فيه عند الطبراني (ج 1 / 26 / 2) وغيره ( عبيد الله بن أبي حميد ) وهو ضعيف جداً ، قال النسائي : ليس بثقة ، وقال أحمد : ترك الناس حديثه ، وقال البخاري : منكر الحديث ، وقال في موضع آخر : يروي عن أبي المليح عجائب ، قلت : وهذا من روايته عن أبي المليح ! ولهذا قال الحافظ في ترجمته من التقريب " متروك الحديث " .
وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق ابن أبي حميد هذا وقال : إنه متروك ، وتعقبه السيوطي في " اللآلي " (2 / 295 - 296) بأن له عند الطبراني طريقاً أخرى عن ابن عباس ، وسكت عليه فلم يحسن ، لأن في سنده عنده في " المعجم الكبير " (ج 3 / 183 / 1) شيخه محمد بن صالح بن الوليد النرسي ، ولم أجد له ترجمة فيما لدي من كتب الرجال ، وفيه عمران بن تمام وهو آفته ، فقد قال ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (3 / 1 / 295) : " سألت أبي عنه فقال : كان عندي مستوراً إلى أن حدث عن أبي جمرة عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بحديث منكر أنه قال : " من إكفاء الدين تفصح النبط ، واتخاذ القصور في الأمصار " " يعني فافتضح هذا المستور برواية مثل هذا الحديث المنكر ، كما قال الحافظ في " اللسان " وحديث العمائم هذا من روايته عن أبي جمرة أيضاً عن ابن عباس ! وفيه ما يشهد عليه عندي ببطلانه ، ذلك لأن الحلم بالتحلم كما يقول -صلى الله عليه وسلم- ، فما علاقة العمامة بالحلم وكيف تزد صاحبها حلماً ؟! نعم لو قال : تزدادوا وقاراً ، كان معقولاً .
الحديث الثاني : مثل الأول بزيادة " والعمائم تيجان العرب " رواه ابن عدي ، والبيهقي ، عن أسامة أيضاًً .
قلت : هو الحديث الأول عينه بلفظه وسنده إلا أن فيه الزيادة المذكورة وهذا لا يسوغ جعله حديثاً ثانياً ما دام أن الطريق واحدة ، وعند ابن عدي في الكامل (ق 274 / 2) من طريق ابن أبي حميد المذكور وكذلك هو عند البيهقي كما في " الفيض " للمناوي .
الحديث الثالث : " العمامة على القلنسوة فصل ما بيننا وبين المشركين ، يعطى يوم القيامة بكل كورة يدورها على رأسه نوراً " رواه الباوردي عن ركانة .
قلت : وهذا ضعيف جداً ، وشطره الأول رواه غير الباوردي كما سيأتي في الحديث السابع ، وأما بهذا التمام فقد رواه الباوردي وحده ، بسند واه كما في " الدعامة " للشيخ الكتاني (ص 7) ويعني بذلك أنه ضعيف جداً كما في الصفحة (34) منه ، وصرح بذلك الفقيه ابن حجر الهيتمي فقال في كتابه " أحكام اللباس " (ق 9/ 2) :
" ولولا شدة ضعف هذا الحديث لكان حجة في تكبير العمائم " .
ولذلك فإني أعتقد أن الحديث باطل لأن تكثير كورات العمامة وتضخيمها خلاف السنة التي كان عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح ، بل إن العمامة الضخمة بدعة أعجمية ، وزي محدث ، لا نزال نراه على رؤوس بعض المشايخ ، وأئمة المساجد من الأعاجم وغيرهم ، ممن تأثر بهم وتزيى بزيهم ، وجهل أو تجاهل هدي نبيه -صلى الله عليه وسلم- ، فترى أحدهم تكاد عمامتهم من فخامتها تملأ المحراب إذا أم الناس ! ولم لا يضخمها وهو يرى هذا الحديث يقول : إن له بكل كورة نوراً ، وفي حديث آخر باطل كهذا " . . . بكل كورة حسنة " ؟! فليكثر إذن نوره وحسناته بتكثير كورات عمامته ! وقد يعلم بعضهم بضعف هذا الحديث ، ولا يمنعه ذلك من العمل به محتجاً بما شاع عند كثير من المشايخ حتى ظنوه قاعدة علمية " يعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال " ولم يعلموا أنها غير متفق عليها خلافاً لما ذكره النووي -رحمه الله- في مقدمة " الأربعين " له ، وعلى فرض التسليم بها فهي مقيدة بشروط ذكرها العلماء المحققون ، منهم الحافظ ابن حجر في رسالة " تبيين العجب " منها : أن لا يشتد ضعفه ، وهذا الحديث ليس كذلك كما عرفت .
ولقد كان للأحاديث الضعيفة -لا سيما مع تبني القاعدة المزعومة دون مراعاة لشروطها- الأثر السيء في الأمة ، وهذا الحديث من أمثلة ذلك ، مما حملني على نشر مقالات متتابعة في مجلة التمدن الإسلامي بعنوان : " الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة " نصحاً لها وتحذيراً من التقول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقل فألفت نظر القراء إليها .
الحديت الرابع : " العمائم تيجان العرب ، فإذا وضعوا العمائم وضعوا عزهم ". وفي رواية " وضع الله عزهم " رواه الديلمي عن ابن عباس.
قلت : وسنده ضعيف جداً.
قال المناوي : " فيه عتاب بن حرب ، قال الذهبي : قال العلاثي : ضعيف جداً ، ومن ثم جزم السخاوي بضعف سنده ، ورواه عنه ابن السني ، قال الزين العراقي : وفيه عبيد الله ابن ( أبي حميد ) وهو ضعيف " . ونحوه في " الدعامة " (ص 6) . وقد قال ابن حبان في ( عتاب ) هذا : " كان ممن ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات على قلته ، فلا يحتج به " .
قلت : وهو عندي باطل كالأول ، فانه يحمل في طواياه ما يشهد عليه بالبطلان ، وذلك لأن العمامة أحسن ما قيل فيها : إنها سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها ، وليست بواجب قطعاً ، وحينئذ فكيف يعقل أن يكون جزاء المسلمين إذا وضعوها وتركوها أن يضع الله عنهم عزهم وأن يذلهم ؟!
إن الله تبارك وتعالى حكم عدل فهو لا يذل المسلمين إلا إذا عصوه وارتكبوا ما حرمه عليهم ، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم- : " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ". وبما أن العمامة ليست من الفرائض التي يعاقب على تركها فلا يستحق المسلمون على وضعها أن يذلوا ، فثبت بذلك بطلان الحديث ولعله من وضع بعض المتحمسين للعمامة الغالين فيها !
الحديث الخامس : " العمائم تيجان العرب ، والاحتباء حيطانها ، وجلوس المؤمن في المسجد رباطه " . رواه القضاعي والديلمي عن علي رضي الله عنه .
قلت : وهو ضعيف جداً أيضاً ، فقد أخرجه القضاعي في " مسند الشهاب " (ق 8 / 1) عن موسى بن إبراهيم المروزي قال : حدثنا موسى بن جعفر عن أبيه عن جده عن أبيه عن علي مرفوعاً .
وكتب بعض المحدثين وأظنه ابن المحب على هامش النسخة تعليقاً على الحديث " ساقط ".
قلت : وآفته ( موسى بن إبراهيم المروزي ) كذبه يحى بن معين ، وقال الدارقطني وغيره: متروك ، وذكر له الذهبي حديثاً غير هذا وقال إنه من بلاياه !
هذا هو علة الحديث ، وأعله المناوي بعلة أخرى فقال :
" قال العامري غريب ، وقال السخاوي ، سنده ضعيف أي وذلك لأن فيه حنظلة السدوسي ، قال الذهبي : تركه القطان ، وضعفه النسائي ، ورواه أيضاً أبو نعيم وعنه تلقاه الديلمي فلو عزاه المصنف للأصل كان أولى " .
قلت : حنظلة هذا ليس في طريق القضاعي كما رأيت فلعله في طريق الديلمي ، فإن كان كذلك فكان على المناوي أن يبين ذلك ويفرق بين الطريقين ، وينص على علة الطريق الأخرى أيضاً .
ثم إن ما ذكره من رواية أبي نعيم للحديث وتلقي الديلمي إياه عنه ، قد ذكر مثله السخاوي في " المقاصد الحسنة " (ص 291) في حديث ابن عباس الذي قبله لا في حديث علي هذا ، فلا أدري أوهم المناوي في النقل عن السخاوي أم أن الأمر كما ذكرا كلاها ؟ وغالب الظن أنه وهم.
ثم إن مما يوهن الحديث أن البيهقي أخرجه من قول الزهري كما في " المقاصد " ، والحديث به أشبه .
الحديث السادس: " العمائم وقار المؤمن وعز العرب ، فإذا وضعت العرب عمائمها فقد خلعت عزها " رواه الديلمي .
قلت : رواه من حديث عمران بن حصين ، وهو ضعيف جداً لأن في سنده عتاب بن حرب وقد عرفت حاله من الحديث الرابع .
الحديث السابع : " فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس " رواه أبو داود والترمذي عن ركانة .
قلت : وهذا الحديث هو الشطر الأول من الحديث الثالث -كما تقدم- وذكرت هناك أنه ضعيف جداً ، وقد ضعفه الترمذي نفسه ، فقال بعد تخريجه (1/ 330) :
" هذا حديث غريب ، وإسناده ليس بالقائم ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني ولا ابن ركانة يعني اللذين في إسناده ، وقال الذهبي في ترجمة أبي جعفر هذا : " لا يعرف ، تفرد عنه أبو الحسن العسقلاني فمن أبو الحسن ؟! " ، وقال في ترجمة أبي الحسن هذا : " تفرد عنه محمد بن ربيعة الكلابي في إسناد حديث موضوع ( يعني هذا ) " قال الخطيب : كان غير ثقة .
وقال الكتاني بعد أن حكى تضعيف الترمذي إياه (34) : " وقال السخاوي : هو واه ، أي : شديد الضعف " .
الحديث الثامن : " عمم النبي -صلى الله عليه وسلم- علياً . . . وقال : هذه تيجان الملائكة " . ذكره المناوي .
قلت : ولم أعثر على سنده في شيء من كتب السنة التي وقفت عليها ولا أورده صاحب الدعامة .
وجملة القول : إن هذه الأحاديث كلها ضعيفة جداً ليس فيها ما يمكن أن يتقوى بالطرق الأخرى لوهائها وشدة ضعفها .
ثم إنني حين أقطع بضعف تلك الأحاديث لا أنسى أن أذكر أن لبسه -صلى الله عليه وسلم- للعمامة كعادة عربية معروفة قبله -صلى الله عليه وسلم- أمر ثابت في الأحاديث الصحيحة لا يمكن لأحد إنكاره ، فإذا انضم إلى ما ذكره فضيلة الشيخ الحامد من أن الإسلام يحب تكوين أهله تكويناً خاصاً يصونهم عن أن يختلطوا بغيرهم في الهيئات الظاهرة . . . إلى آخر كلامه الطيب الذي فصل القول فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاقتضاء " فإني في النتيجة ألتقي مع فضيلته في الحض على العمامة ، ولكني لا أراها أمراً لازماً لزوم اللحية التي ثبت الأمر بها في الأحاديث الصحيحة معللاً بقوله : " خالفوا المجوس " رواه مسلم وغيره ، ولذلك فإني لا أرى الإلحاح في العمامة كثيراً بخلاف اللحية ، وأنكر أشد الإنكار اهتمام بعض المدارس الشرعية بالعمامة أكثر من اللحية بحيث يأمرون الطلاب بالأول دون الأخرى أو أكثر منها ، ويسكتون عن الطلاب الذين يحلقون لحاهم دون الذين يضعون عمائمهم ! فإن في ذلك قلباً للحكم الشرعي كما لا يخفى .
وختاماً أسأل الله تبارك بأسمائه الحسنى أن يوفقنا للعمل بما علمنا ، وسلامي إلى فضيلة الشيخ الحامد ورحمة الله وبركاته .
محمد ناصر الدين الألباني
دمشق
في 26 / 2 / 1379 هـ
المصدر : مجلة المسلمون (6 / 906 – 913).
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى