رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
من أسماء الله الحُسنى الغفور، الغفور كما ورد في الحديث من أسماء الله الحُسنى، والغفور أصله في اللغة من مادة غَفَرَ، وغفر بمعنى ستر، والغَفْرُ هو الستر.
أما معنى اسم الغفور فهو كثير المغفرة للذنوب، من مادة غفر، واسم الفاعل غافر، أما غفور فصيغة مبالغة لاسم الفاعل، يعني كثير المغفرة.
غفر فلان شيئاً أي ستره، والمغفرة: التغطية على الذنوب والعفو عنها، وقد قال بعض العرب: أسألك الغفيرة والناقة الغزيرة، وعزة في العشيرة، فإنها عليك يسيرة.. والغفيرة هي الستر.
والغفران من الله أن يصون العبد من أن يمسه العذاب، ومغفرة الله ستر بينك وبين العذاب، وقد يُقال: غفر له إذا تجاوز عنه في الظاهر، ولم يتجاوز عنه في الباطن، فالسيئة مسجلة ولكن لم يعاقب عليها.
والغفور والغفار والغافر؛ من أسماء الله الحُسنى.
}غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ{ [غافر: 3].
فغافر من أسماء الله الحُسنى، وكذلك الغفار والغفور.
إن هذا الاسم من أقرب أسماء الله الحُسنى إلى المؤمن.. لأن العبد من شأنه أن يذنب، والله من شأنه أن يغفر، وما أمرك أن تستغفره إلا ليغفر لك، وما أمرك أن تستغفره إلا لأنه يعلم ضعفك، وغفلاتك كثيرة، فالمغفرة علاج الضعف البشري أحياناً، أو الغفلة، ولولا أن الله تعالى غفور فما ندري ما يحل بنا؟ وما تجره علينا ذنوبنا، وكيف نواجه ربنا، لكن الله سبحانه وتعالى غفور أي يستر ذنبك عن الخلق، ويعفو عنك، ويحول بينك وبين العقاب.
وبعد فهناك معان جديدة في الغفور.. فأنت لضعفك أحياناً تغفر إذ لا تستطيع أن تنال من فلان، فتسامحه، لكن شأن الله جل جلاله غير هذا الشأن، الغفور هو التام القدرة، يعني الله جل جلاله قدير فالخلق كلهم جميعاً في قبضته كن فيكون، زل فيزول.. ومع تمام قدرته هو غفور.
وبالمناسبة، فهناك فضائل خلقية لا قيمة لها إلا إذا رافقتها القوة، فالعفو مثلاً، دون مقدرة لا قيمة له، لكن أن تملك عدوك ويصبح في قبضتك ويرى نفسه صغيراً، أو كأنه لا وجود له، وثم تعفو عنه فتلك المغفرة.
والنبي عليه الصلاة والسلام حينما دخل مكة فاتحاً، وأهلها هم الذين أخرجوه، ونكلوا بأصحابه، وناصبوه العداء عشرين عاماً، وعذبوه مرات عديدة، ولم يدعوا أسلوباً ينال من رسول الله وأصحابه إلا سلكوه، وقريش الآن كلها في قبضته.. عشرة آلاف سيف متوهج ينتظرون حركة من شفتيه، حياتهم رهن إشارته، فقال لأهلها: "ما تظنون أني فاعل بكم" قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
والعفو دون قدرة لا قيمة له، والحلم يحتاج إلى قدرة، والأمانة لا قيمة لها إلا إذا لم تكن مداناً في الأرض، فإن كان معك مال لإنسان مات فجأة، ولم يعلم أحدٌ بهذا المال، فلست مداناً أمام الناس إطلاقاً، وليس في الأرض كلها جهة تحاسبك عليه، لكنك أتيت الورثة ونقدتهم المبلغ، فهذه هي الأمانة، إنها خُلق ومن لوازمها أن لا تكون مداناً في الأرض، والعفو خلق من خصائصه أن تكون تام القدرة، والمغفرة كذلك، فالعفو والمغفرة والحلم من خصائص الأنبياء، فينبغي لك أن تكون قويا حتى تكون لهذه الخصائص الخلقية قيمة في الميزان الأخلاقي.
الغفور كما قال العلماء هو السيد التام القدرة، وقد يغفر فضلاً وإحساناً منه، قال تعالى:
}إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ [المائدة: 118].
وسياق الآيات السابقة أن تتذيل.. فإنك أنت الغفور الرحيم، بل جاءت الآيات (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وإذا غفرت لهؤلاء فليس في الكون كله من يسأل الله لماذا غفرت لهم، وأنت أحياناً تلتمس العذر من إنسان قوي، فيقول لك أنا بإمكاني أن أعفو عنك ولكن أحاسب إن عفوت عنك، لكن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يغفر لعبد ذنباً فمن يحاسبه؟ ومن يسأله؟ ليس من شأن الإله أن يُسأل عما يفعل، قال تعالى:
}لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ{ [الأنبياء: 23].
فلذلك الغفور هو السيد التام القدرة، وقد يغفر فضلاً وإحساناً منه دون قيد أو شرط.
وأرجو أن أوضح هذه الحقيقة فهي دقيقة دقيقة في علم التوحيد.. فالله سبحانه وتعالى طليق الإرادة لا يقيد إرادته شيء، والإنسان مهما علا في الأرض فهناك قواعد تقيد سلوكه، وشأن الإله أنه لا يُسأل عما يفعل، إذا عفا وإذا غفر وإذا أعطى وإذا منع، لكنه طمأننا، وقال سبحانه:
}إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{ [هود: 56].
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب واحد منكم ما نقص من ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه". [رواه مسلم].
فالله عز وجل، لا يقيد إرادته شيء ، ولذلك يعفو من دون قيد أو شرط، ويعطي ويمنع، ولكن الله سبحانه وتعالى، ألزم نفسه إلزاماً ذاتياً بالاستقامة، وقال: (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
حرم على نفسه الظلم:
}مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ{. [فصلت: 46].
}يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلا{ [الإسراء: 71].
}وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً{ [النساء: 124].
فالله عز وجل إذا ألزم ذاته العلية بالعدل فالإلزام ذاتي، وإذا ألزمها بالعفو فالعفو ذاتي، أما أن يكون هناك قاعدة تقيد إرادة الله عز وجل.. فهو وحده الذي لا تُقيده إرادته قاعدة.
وقيل: إن الغفار هو الذي إن تكررت منك الإساءة وأقبلت عليه فهو غفار لك، وستار لك، والإنسان أحياناً يغلط، فإذا بلغ هذا الغلط إنساناً آخر فضحه بين الناس، لكن الله عز وجل غفور، ويظهر للناس أحسن ما عندك ويخفي عنهم القبيح، وهذا من كمال الله عز وجل فقد جمَّل الإنسان بهذا الجلد، فلو نظرت إلى جسم الإنسان لو أنه كان عضلات فقط، فشيء مخيف، ففي وجهه مئة عضلة، وقد جمَّله بهذا الجلد، وبهذه الثياب، وبستر العيوب، والإنسان كما أشرت من قبل قد يخطئ، وينحرف، ويزل، لكن ربنا عز وجل يغفر ويستر ويبدي للناس أحسن ما عندك.
وقد ورد اسم الغفور في القرآن الكريم في أماكن كثيرة، زادت على تسعين آية تقريباً، قال تعالى:
}لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ{ [البقرة: 225].
ومعنى غفور كثير المغفرة، إذ يقع الإنسان بذنب فيغفر له، ومرة ثانية وثالثة، وقد يقتضي العدل أن يفضحه، أو أن يعاقبه، لكن الغفور كثير المغفرة.
عن عائشة قالت كان رجل أسود يأتي أبا بكر فيدنيه ويقرئه القرآن حتى بعث ساعيا فقال: أرسلني معه فأرسله معه واستوصى به خيرا فلم يعبر منه إلا قليلا حتى جاء قد قطعت يده فلما رآه أبو بكر فاضت عيناه قال ما شأنك؟ قال ما زدت على أنه كان يوليني شيئا من عمله فخنته فريضة واحدة فقطع يدي، فقال أبو بكر تجدون الذي قطع هذا يخون عشرين فريضة؟! إن كنت صادقا لافتدينك منه ثم أدناه فكان الرجل يقوم الليل فيقرأ فإذا سمع أبو بكر صوته قال تالله لرجل قطع هذا لقد اجترأ على الله! فلم يعبر إلا قليلا حتى فقد آل أبي بكر حليا لهم ومتاعا فقام الأقطع فاستقبل القبلة ورفع يده الصحيحة والأخرى التي قطعت فقال: اللهم! أظهر على من سرقهم فما انتصف النهار حتى عثروا على المتاع عنده، فقال أبو بكر: ويلك! إنك لقليل العلم بالله.
ومن رحمة الله عز وجل أنه حليم، فالإنسان إذا غلط، فحينما يألف الغلط، وينقلب إلى قاعدة في سلوكه، ويستشري لديه، فعندئذ يؤدبه، أو يفضحه.
قرأت أن باخرة إفرنسية رست في ميناء إفريقي فتسلل إليها تسعة زنوج من البلدة التي رست فيها خفية، واختبؤوا بين الآلات، والباخرة في عرض البحر، فكشف ربان الباخرة، أن فيها تسعة رجال من هذه البلدة التي كان راسياً في مينائها، فانظروا إلى قسوة الإنسان، فربان الباخرة أصدر أمراً بقتلهم، فاستدرج واحد تلو الآخر وأُطلق عليه النار وتولى بحاران إلقاءهم في البحر، فهذه الجريمة إذا وقعت على تسعة أشخاص وتم إعدامهم وإلقاؤهم في البحر فقد تطوى في مطاوي النسيان، ولكن التاسع استطاع أن يختبئ في مكان لم يعثروا عليه وبعد أن رست في ميناء آخر، استطاع أن يهرب إلى ذلك البلد واتصل بالشرطة وأخبرهم بالأمر، فجرت محاكمة في فرنسا وحكموا على الربان بالسجن المؤبد وعلى البحارة بعشرين سنة، لكن هذا الذي نجا أنجاه الله عز وجل ليكشف الأمر ويعاقب هؤلاء المجرمين.
فالله عز وجل حينما يفضح أحدا يكون لديه إصرار على الذنب وعلاقة هذه القصة بهذا البحث، أن الله عز وجل لا يفضح من أول مرة، فالإنسان عندما يألف الذنب ويثبت عليه، ويصر ويجعله سلوكاً ثابتاً، فعندئذ يفضحه، ويؤدبه ويعاقبه، وكمال ربنا عز وجل إذا غلط إنسان ولجأ إليه مستغفراً، فالله عز وجل يغفر ذنبه، وقد قال تعالى: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رحيم).
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
يغفر ثم يغفر ثم يغفر، أما إذا كان هناك إصرار، واستمرار على المعصية، وعدم مبالاة، فالله يفضحه لا محالة.
وفي آل عمران:
}قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{ [آل عمران: 31].
هناك غفور حليم، وهنا غفور رحيم، أي رحمته بكم دعته إلى مغفرة ذنوبكم، فلنلاحظ الأم وابنها، فمهما أخطأ في حقها فقلبها يتسع لأخطاء الولد كلها.
فالله عز وجل غفور حليم، حلمه يقتضي أن يغفر لكم المرة تلو المرة، أما قوله سبحانه غفور رحيم، فرحمته تقتضي أن يغفر لكم.
وفي سورة المائدة: }إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{ [المائدة: 34].
وهذه الآية إذا قرأها حقوقي فسوف يقشعر جلده، إذ في كل دساتير العالم مادة هي أن القوانين لا يمكن أن تعمل بمفعول رجعي؛ فشيء لم يكن محرماً ولم يكن ممنوعاً، ثم صدر أمر بمنعه، أيمكن أن نعاقب أناساً مارسوه قبل المنع، فهذا منتهى الظلم.
فإذا تابوا بعد أن قدرتم عليهم فتوبتهم كاذبة، لكنهم كانوا أحراراً وتابوا، ثم وقعوا في قبضتكم فليس لكم عليهم من سلطان.. وهذه الآية هي الوحيدة التي تشير إلى أنه لا يجوز أن تُطبق الأحكام بمفعول رجعي (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وفي المائدة أيضاً:
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ{ [المائدة: 101].
هل لاحظتم الأسماء، فاسم الغفور يتناوب بين اسم الرحيم واسم الحليم، فربنا سبحانه وتعالى حلمه يستدعي أن يغفر لكم المرة تلو المرة، ورحمته تقتضي أن يغفر لكم.
}وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{ [الأنعام: 54].
وهناك موضوع أرجو الله سبحانه وتعالى أن يمكنني من توضيحه في معالجة هذا البحث بالذات، فالذي يجذب النظر قوله تعالى:
}نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ{ [الحجر: 49- 50].
}قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِين{ [الزمر: 53- 56].
فما الحكمة؟! إذ كلما ذكر الله أنه عظيم في رحمته، ومغفرته وحلمه ذكر أنه شديد عقابه، فماذا يعني؟ يعني ذلك أن الله غفور إذا عدت إليه، وغفور إذا استغفرته، وغفور إذا تبت من ذنبك، وأصلحت وأخلصت، فهذه الأسماء الحُسنى، والصفات الفضلى في الله عز وجل لا يمكن أن تكون مبتذلة، وهذه الصفات غفور إذا أقبلت عليه وتبت ورجعت إليه، وأقلعت عن الذنب وندمت فهو غفور وإلا فالله سبحانه وتعالى شديد العقاب، وعذابه أليم.
لذلك وردت آيات فيها معنى أن ربك للذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات إن ربك من بعدها لغفور رحيم، إذا من السذاجة وضيق الأفق والجهل أن تُعلق آمالاً على مغفرة الله وأنت مقيم على معصية، فمن الغباء والحمق والجهل أن تقول الله غفور رحيم وأنت لا تفكر في التوبة وإن لم تفكر بها فاقرأ تتمة الآية:
}نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ{.
}وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ{ [الأعراف: 153].
وفي الأنفال:
}يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{ [الأنفال: 70].
وأريد أن أقف قليلاً عند هذا المعنى، فكل إنسان إذا علم الله منه الندم والألم على ما ارتكب، فالله عز وجل غفور رحيم، ولتعلم أن الاستغفار من أسباب سعة الرزق:
}فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً{ [نوح: 10- 12].
فالاستغفار من أسباب سعة الرزق، وكذلك إنجاب الأولاد، ونزول الأمطار، يعني أن عطاءات الدنيا تنهال تترى بالاستغفار.
روي عن الربيع بن صبيح أن رجلا أتى الحسن وشكا إليه الجدب فقال له: استغفر الله تعالى، وأتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال له: استغفر الله تعالى، وأتاه آخر فقال: ادع الله سبحانه أن يرزقني ابنا فقال له: استغفر الله تعالى، وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه، فقال له: استغفر الله تعالى، فقال أتاك رجال يشكون ألوانا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار فقال ما قلت من نفسي شيئا إنما اعتبرت قول الله عز وجل حكاية عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه.
(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا).
أي إن عظمتم ربكم أيها الناس حق التعظيم وحملكم هذا التعظيم على طاعته لأمدكم برزق وخير.
}وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ{ [الأعراف: 96].
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ{ [محمد: 7].
}إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ{ [الحج: 38].
}وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً{ [النساء: 141].
}وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون{ [النور: 55].
وما الذي يمنع إذا قرأنا القرآن أن نستنبط آيات الوعد الإلهي للمؤمنين هل يعقل ألا يفي الله عز وجل بوعده؟ وإذا وعد الله المؤمن بالحياة الطيبة، فهل يُعقل أن تكون حياة المؤمن غير طيبة؟ وإذا وعد الكافر بالمعيشة الضنك فهل يُعقل أن يسعد الكافر بحياته؟! الآية تقول: }وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى{ [طه: 124].
مستحيل.. ولذلك لما أوحى ربنا عز وجل إلى أم موسى (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين)، أمرها بأمرين ونهاها عن شيئين وبشرها ببشارتين (وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون، وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون).
دققوا النظر أيها القراء الكرام في الآية:
}فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ{ [القصص: 13].
(أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) فالله ماذا وعدنا؟! هذا موضوع لطيف جداً، ابحث في كتاب الله عن وعوده، ضعها في قائمة، ثم ابحث عن موجبات هذه الوعود، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: يا شداد بن أوس! إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة فاكنز هؤلاء الكلمات: اللهم! إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب.
ابحث عن موجبات رحمة الله، إن الله خالق الكون، فلن يخلف الله الميعاد.
وإذا قرأ الإنسان القرآن الكريم واستنبط آيات الوعد الإلهي، التي وعدنا من خلالها بالنصر، وبالحفظ، وبالتأييد، وبالتوفيق، وألا يجعل لكافر علينا سلطاناً وقد وعدنا بالاستخلاف والتمكين، والطمأنينة، فلسوف يسأل أين مصداقية هذه الوعود؟ إنها لحق كلها، فالله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، ولكن علينا بطاعة الله تعالى حقا لينجز وعده.
وأخشى ما أخشاه أن تنطبق علينا الآية الكريمة:
}فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً{ [مريم: 59].
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
قد لقينا ذلك الغي، هان أمر الله عليهم فهانوا على الله، أما أن الله غفور رحيم فهو بشرط أن تعود إليه، وأن تتوب إليه، وأن تؤوب، وأن تندم على ذنبك، وأن تقلع عنه، وهذه الآية لها في نفسي أثر كبير:
}وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ{ [الأعراف: 153].
فهذه كلمة غفور رحيم يفهمها بعض الناس فهم الغافلين، إذ يقول المنحرف لصنوه لا تدقق الله غفور رحيم فضع مخالفاتك في رقبتي، وهذا كلام في غاية الجهل، فهو غفور رحيم إذا تبت ورجعت إليه، فالمغفرة والرحمة مقيدة بقيود الإنابة.
}وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم{ [يونس: 107].
دققوا وتأملوا في هذه الآية، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ)، المس مثله، فأنت أحياناً تريد أن تمتحن حرارة المكواة فماذا تفعل؟ تضع اللعاب على أصبعك، وتضع إصبعك بأضيق مساحة وبأقصر زمن، هذا هو المس، فالعذاب يمس الإنسان مساً.
قال: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ)، الخير مراد من الله، أما الضر فغير مراد، فالضر علاج أما الخير فمراد.
ولذا فقد ذكر ربنا عز وجل اسمه الغفور في كتابه تسعين مرة من أجل أن تطمئن القلوب، قلوب العصاة، وتسكن نفوس المجرمين؛ أي بصراحة من لنا غير الله عز وجل؟!.. مهما فعلت من ذنوب فليس لك إلا الله فعد إليه، وفي النهاية نحن إليه، والدعاء الشريف: "أنا بك وإليك"، أنا قائم بك وإليك آيب وتائب وعائد.
}إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ{ [الغاشية: 25- 26].
"عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت".
أعرف رجلاً من عشرين سنة هو طريح الفراش، وأقرب الناس إليه يتمنى أن يخفف الله عنه بالموت العاجل، وأعرف أناساً كثيرين، لا يشعرون بألم ولا يشكون شيئاً، وبثانية واحدة كانوا من أهل القبور، فالمغادرة سريعة، إنني لا أجد أعقل من إنسان يستعد لهذه الساعة، بالتوبة النصوح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبطلب العلم وبتعليمه.
"وإن استقبلتني بملء السماء والأرض خطايا وذنوبا استقبلتك من المغفرة وأغفر لك ولا أبالي" [الطبراني] عن أبي الدرداء.
}يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ{ [يوسف: 87].
والقنوط يعني الكفر، والله عز وجل فتح باب رحمته لكل مخلوقاته قال:
}وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ{ [الأعراف: 156].
فمهما كثرت الذنوب تعلّق باسم الغفور، ولا تجعل الذنب حجابا بينك وبين الله، ولا تيأس، لأن اليأس يعني الكفر. والله عز وجل قال: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ). إن لم تتب، فذو الطول.
الآية الثانية: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى).
ومن ثم لا بد من إدراك أن هناك تفرقة لطيفة لغوية بين اسم الغفور وبين اسم الغفار، الغفور ينبئ عن نوع مبالغة ناشئة بالإضافة إلى مغفرة متكررة، فهذا مرتكب ثلاثمئة ذنب فالله غفور، يغفرها له كلها، وآخر له ذنب كبير، فالله عز وجل غفار، فغفار للنوع وغفور للكم.
يعقوب بن يوسف الكوفي "وكان قد روى الأشعار والأحاديث عن أبيه" قال: حججت ذات سنة فإذا أنا برجل عند البيت وهو يقول: اللهم! اغفر لي وما أراك تفعل. قال فقلت: يا هذا! ما أعجب يأسك من عفو الله، قال إن لي ذنبا عظيما، قال: فقلت: أخبرني! قال: كنت مع يحيى بن محمد بالموصل فأمرنا يوم الجمعة فاعترضنا المسجد، فنرى أنا قتلنا ثلاثين ألفا ثم نادى مناديه من علق سوطه على دار فالدار وما فيها له، فعلقت سوطي على دار ودخلتها فإذا فيها رجل وامرأة وابنان لهما، فقدمت الرجل فقتلته، ثم قلت للمرأة هاتي ما عندك فقالت ما عندي وإلا ألحقت ابنيك به، فجاءتني بسبعة دنانير ومتيع، قال فقلت هاتي ما عندك فقالت ما عندي غيرها، فقدمت أحد ابنيها فقتلته، ثم قلت: هاتي ما عندك! وإلا ألحقت الآخر به فلما رأت الجد مني قال ارفق فإن عندي شيئا كان أودعنيه أبوهما، فجاءتني بدرع مذهبة لم أر مثلها في حسنها فجعلت أقلبها فإذا عليها مكتوب بالذهب:
إذا جار الأمير وحاجباه وقاضي الأرض أسرف في القضاء
فويل ثم ويل ثم ويـل لقاضي الأرض من قاضي السمـاء
فسقط السيف من يدي وارتعدت، وخرجت من وجهي إلى حيث ترى.
الله كبير فلذلك كلمة غفور مهما كثرت الذنوب، وكلمة غفار مهما عظمت، فهي صيغة مبالغة، والمبالغة نوعان: مبالغة كم، ومبالغة نوع.
غافر الذنب، أي إذا كان عليك ذنب واحد وغفره لك فهو غافر، وإن كانت ألف ذنب وغفرها لك فهو غفور، وإن كان ذنباً لا يُحتمل فهو غفار، هذا الفرق بين غافر وغفور وغفار.
وحظ المتخلّق باسم الغفور أن يداوم الاستغفار، والورد الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة"، والأولى للإنسان أن يستغفر صباحاً ومساءً، صباحاً لما جرى في الليل، ومساءً لما جرى في النهار، لكن أخشى أن يفهم بعض المسلمين أن الله غفور رحيم إذاً فالقضية سهلة فليفعل عندئذ ما يشاء، لا.. فهذه مغفرة وقائية، فاستغفر من أجل ألا تقع في الذنب وليس الأمر افعل ما تشاء واستغفر فهذا غير مقبول أبدا، والإنسان حينما يفعل معصية ويعلم أنها معصية ينشأ حجاب بينه وبين الله، فالأمر صعب من بعد أن يوفقه الله ليستغفر، فالله سبحانه وتعالى يقول: }كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ{ [المطففين: 14].
وانظر إلى الناس في هذا الموضوع فهم متفاوتون بين مسامح وحاقد، فهناك شخص حقود وشخص غفور، فإذا غلط الإنسان مع شخص غفور يحس أن القضية سهلة، إذ يقول لك: كأن لم تكن، أما مع إنسان حقود فيقول لك: أنا قلبي أسود لا أنسى خطيئة. جعلنا الله من الذين إذا أُسيء إليهم غفروا.
ولا أعتقد إنساناً أساء كما أساء مسطح إلى سيدنا الصديق حينما اتهم ابنته السيدة عائشة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنا، وكان الصديق يعطيه معونة فقطعها، فقال تعالى:
}وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{ [النور: 22].
يعني اغفر ليغفر الله لك، أتعتقد أن هناك إساءة أبلغ من هذه الإساءة، أن يتحدث عن ابنتك الطاهرة أنها زانية، ومع ذلك أمره الله أن يعفو وأن يصفح وأن يعود إلى ما كان عليه من المعونة، بكى سيدنا الصديق وقال: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي.
المؤمن المتخلّق بهذا الاسم لا يرى عورة إلا سترها، ولا زلّة إلا غفرها، وإن اعتذر إليه أخ قبل منه وعامله بالإحسان، ويقابل جميع إساءته بالغفران، لأن صاحب الخلق حينئذ يصير بين الناس كالشجرة الظليلة، تُرجم بالحجارة وتلقي عليهم الثمار، وهكذا المؤمن.
عن شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رَضِي اللَّه عَنْهما عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّة". [صحيح البخاري].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصَّلاةُ الْمَكْتُوبَةُ إِلَى الصَّلاةِ الَّتِي بَعْدَهَا كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، قَالَ: وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَالشَّهْرُ إِلَى الشَّهْرِ -يَعْنِي رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ- كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا".
[مسند الإمام أحمد]
والإنسان يوم الجمعة كأنه فتح مع الله صفحة جديدة بعد الصلاة، فإذا غلط فكل صلاة تمحو ما قبلها من سيئات، ونحن من شأننا أن نستغفر وما لنا غير الاستغفار، واليأس من رحمة الله كفر، وكل إنسان يقول ذنبي كبير فهو لا يعرف الله عز وجل، فعلينا أن نستغفر، والله ما أمرنا بالاستغفار إلا ليغفر لنا.
قال سيدنا الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: "قل اللهم! إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي من عندك مغفرة، إنك أنت الغفور الرحيم".
[متفق عليه].
وقال الأصمعي: وقف أعرابي أمام الروضة الشريفة، فقال: اللهم هذا حبيبك، وأنا عبدك، والشيطان عدوك، فإن غفرت لي سُر حبيبك وفاز عبدك وغضب عدوك، وإن لم تغفر لي غضب حبيبك، ورضي عدوك وهلك عبدك، وأنت أكرم من أن تغضب حبيبك، وترضي عدوك، وتهلك عبدك.
وكان الخواص يبكي ويقول في مناجاته: قد كبرت وضعف جسمي عن خدمتك فأعتقني وكان بعض الأشياخ يقول: يا رب! إن العرب الكرام إذا مات فيهم سيد أعتقوا على قبره، وقد كبرت فأعتقني.
والله عز وجل إذا غفر يستر، فمع المغفرة ستر، ويظهر للناس أجمل ما عندك ويخفي عنهم السيئات، والماضي لا ينقله الله للآخرين.
وهناك امرأة زنت وأقيم عليها الحد وتابت، وبعد حين جاءها خاطب، وأخوها أحب أن يكون ناصحاً، فاستشار سيدنا عمر، وقال: إن أختي خطبها فلان أفأذكر له ما كان منها، قال: أتعمد إلى ما ستر الله فتبديه والله لئن أخبرت بشأنها أحدا لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار أنكحها نكاح العفيفة المسلمة، أي: أن الله ستر عليها، ثم يأتي أخوها ليفضحها!!
وإذا شيء وقع وانتهى فالسكوت أولى.. فشخص غلط غلطة، فشاعت عنه ثم تمضي السنون إلى عشرين، وقد صار إنساناً فاضلاً، وكلما ذُكر ذكروا غلطته، وهذا لؤم بالإنسان، اعفُ عن الماضي.
والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم روي عنه: "أمرني ربي بتسع: خشية الله في السر والعلانية وكلمة العدل في الغضب والرضى والقصد في الفقر والغنى وأن أصل من قطعني وأعطي من حرمني وأعفو عمن ظلمني وأن يكون صمتي فكرا، ونطقي ذكرا ونظري عبرة، وآمر بالعرف وقيل بالمعروف" رواه رزين.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى