لبيك يا الله



حديث قدسىعن رب العزة جلا وعلاعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أحب عبداً دعا له جبريل، عليه السلام، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً، دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض”.
المواضيع الأخيرة
كل عام وانتم بخيرالجمعة 23 أبريل - 16:08رضا السويسى
كل عام وانتم بخيرالخميس 7 مايو - 22:46رضا السويسى
المسح على رأس اليتيم و العلاج باللمسالأربعاء 22 أغسطس - 14:45البرنس
(16) ما أجمل الغنائمالجمعة 11 أغسطس - 18:51رضا السويسى
مطوية ( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)الأحد 9 أغسطس - 19:02عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)السبت 8 أغسطس - 12:46عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )الأربعاء 5 أغسطس - 18:34عزمي ابراهيم عزيز



اذهب الى الأسفل
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزءالثالث Empty كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزءالثالث {الثلاثاء 24 مايو - 17:20}

فَصْلٌ:مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي

[ ص: 52 ] وَلِلْمَعَاصِي مِنَ
الْآثَارِ الْقَبِيحَةِ الْمَذْمُومَةِ ، الْمُضِرَّةِ بِالْقَلْبِ
وَالْبَدَنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا
اللَّهُ .
فَمِنْهَا : حِرْمَانُ الْعِلْمِ ، فَإِنَّ الْعِلْمَ نُورٌ
يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ ، وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ ذَلِكَ
النُّورَ .
وَلَمَّا جَلَسَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ يَدَيْ
مَالِكٍ وَقَرَأَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ وُفُورِ فِطْنَتِهِ ،
وَتَوَقُّدِ ذَكَائِهِ ، وَكَمَالِ فَهْمِهِ ، فَقَالَ : إِنِّي أَرَى
اللَّهَ قَدْ أَلْقَى عَلَى قَلْبِكَ نُورًا ، فَلَا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ
الْمَعْصِيَةِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ :
شَكَوْتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي *** فَأَرْشَدَنِي إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي
وَقَالَ اعْلَمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ فَضْلٌ *** وَفَضْلُ اللَّهِ لَا يُؤْتَاهُ عَاصِي
وَمِنْهَا
: حِرْمَانُ الرِّزْقِ ، وَفِي الْمُسْنَدِ : إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ
الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَكَمَا أَنَّ تَقْوَى
اللَّهِ مَجْلَبَةٌ لِلرِّزْقِ فَتَرْكُ التَّقْوَى مَجْلَبَةٌ لِلْفَقْرِ
، فَمَا اسْتُجْلِبَ رِزْقُ اللَّهِ بِمِثْلِ تَرْكِ الْمَعَاصِي .
وَمِنْهَا
: وَحْشَةٌ يَجِدُهَا الْعَاصِي فِي قَلْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
لَا تُوَازِنُهَا وَلَا تُقَارِنُهَا لَذَّةٌ أَصْلًا ، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ
لَهُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لَمْ تَفِ بِتِلْكَ الْوَحْشَةِ ،
وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحِسُّ بِهِ إِلَّا مَنْ فِي قَلْبِهِ حَيَاةٌ ، وَمَا
لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامٌ ، فَلَوْ لَمْ تُتْرَكِ الذُّنُوبُ إِلَّا
حَذَرًا مِنْ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ ، لَكَانَ الْعَاقِلُ حَرِيًّا
بِتَرْكِهَا .
وَشَكَا رَجُلٌ إِلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ وَحْشَةً يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ فَقَالَ لَهُ :
إِذَا كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ
وَلَيْسَ عَلَى الْقَلْبِ أَمَرُّ مِنْ وَحْشَةِ الذَّنْبِ عَلَى الذَّنْبِ ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَمِنْهَا
: الْوَحْشَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ ،
وَلَاسِيَّمَا أَهْلُ الْخَيْرِ مِنْهُمْ ، فَإِنَّهُ يَجِدُ وَحْشَةً
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ تِلْكَ الْوَحْشَةُ بَعُدَ
مِنْهُمْ وَمِنْ مُجَالَسَتِهِمْ ، وَحُرِمَ بَرَكَةَ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ
، وَقَرُبَ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ ، بِقَدْرِ مَا بَعُدَ مِنْ حِزْبِ
الرَّحْمَنِ ، وَتَقْوَى هَذِهِ الْوَحْشَةُ حَتَّى تَسْتَحْكِمَ ،
فَتَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَوَلَدِهِ وَأَقَارِبِهِ ،
وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ ، فَتَرَاهُ مُسْتَوْحِشًا مِنْ نَفْسِهِ.
[
ص: 53 ] وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا عَنْ
عَامِرٍ قَالَ : كَتَبَتْ عَائِشَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ : أَمَّا بَعْدُ :
فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ عَدَّ حَامِدَهُ مِنَ
النَّاسِ ذَامًّا .
ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي
الْجَعْدِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : لِيَحْذَرِ امْرُؤٌ أَنْ
تَلْعَنَهُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ ، ثُمَّ قَالَ
: أَتَدْرِي مِمَّ هَذَا ؟ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : إِنَّ الْعَبْدَ
يَخْلُو بِمَعَاصِي اللَّهِ فَيُلْقِي اللَّهُ بُغْضَهُ فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ .
وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِأَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ : أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَهُ الدَّيْنُ اغْتَمَّ لِذَلِكَ ، فَقَالَ
: إِنِّي لَأَعْرِفُ هَذَا الْغَمَّ بِذَنْبٍ أَصَبْتُهُ مُنْذُ
أَرْبَعِينَ سَنَةً .
قَدْ لَا يُؤَثِّرُ الذَّنْبُ فِي الْحَالِ
وَهَاهُنَا
نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ يَغْلَطُ فِيهَا النَّاسُ فِي أَمْرِ الذَّنْبِ ،
وَهِيَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ تَأْثِيرَهُ فِي الْحَالِ ، وَقَدْ
يَتَأَخَّرُ تَأْثِيرُهُ فَيُنْسَى ، وَيَظُنُّ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَا
يُغَبِّرُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ :
إِذَا لَمْ يُغَبِّرْ حَائِطٌ فِي وُقُوعِهِ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ غُبَارُ
وَسُبْحَانَ
اللَّهِ ! مَاذَا أَهْلَكَتْ هَذِهِ النُّكْتَةُ مِنَ الْخَلْقِ ؟ وَكَمْ
أَزَالَتْ غُبَارَ نِعْمَةٍ ؟ وَكَمْ جَلَبَتْ مِنْ نِقْمَةٍ ؟ وَمَا
أَكْثَرَ الْمُغْتَرِّينَ بِهَا الْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ ، فَضْلًا
عَنِ الْجُهَّالِ ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُغْتَرُّ أَنَّ الذَّنْبَ
يَنْقَضُّ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ ، كَمَا يَنْقَضُّ السُّمُّ ، وَكَمَا
يَنْقَضُّ الْجُرْحُ الْمُنْدَمِلُ عَلَى الْغِشِّ وَالدَّغَلِ .
وَقَدْ
ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ : اعْبُدُوا اللَّهَ
كَأَنَّكُمْ تَرَوْنَهُ ، وَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْمَوْتَى ،
وَاعْلَمُوا أَنَّ قَلِيلًا يُغْنِيكُمْ ، خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يُلْهِيكُمْ
، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْبِرَّ لَا يَبْلَى ، وَأَنَّ الْإِثْمَ لَا
يُنْسَى .
وَنَظَرَ بَعْضُ الْعُبَّادِ إِلَى صَبِيٍّ ، فَتَأَمَّلَ
مَحَاسِنَهُ ، فَأُتِيَ فِي مَنَامِهِ وَقِيلَ لَهُ : لَتَجِدَنَّ غِبَّهَا
بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
هَذَا مَعَ أَنَّ لِلذَّنْبِ نَقْدًا
مُعَجَّلًا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ ، قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ :
إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُ الذَّنْبَ فِي السِّرِّ فَيُصْبِحُ وَعَلَيْهِ
مَذَلَّتُهُ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ عَجِبْتُ مِنْ
ذِي عَقْلٍ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ لَا تُشْمِتْ بِيَ
الْأَعْدَاءَ ، ثُمَّ هُوَ يُشْمِتُ بِنَفْسِهِ كُلَّ عَدُوٍّ لَهُ ، قِيلَ
: وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ يَعْصِي اللَّهَ وَيَشْمَتُ بِهِ فِي
الْقِيَامَةِ كُلُّ عَدُوٍّ .
وَقَالَ ذُو النُّونِ : مَنْ خَانَ اللَّهَ فِي السِّرِّ هَتَكَ اللَّهُ سِتْرَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ .
[ ص: 54 ] وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ فَأَرَى ذَلِكَ فِي خُلُقِ دَابَّتِي ، وَامْرَأَتِي .
وَمِنْهَا
: تَعْسِيرُ أُمُورِهِ عَلَيْهِ ، فَلَا يَتَوَجَّهُ لِأَمْرٍ إِلَّا
يَجِدُهُ مُغْلَقًا دُونَهُ أَوْ مُتَعَسِّرًا عَلَيْهِ ، وَهَذَا كَمَا
أَنَّ مَنْ تَلَقَّى اللَّهَ جَعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ، فَمَنْ
عَطَّلَ التَّقْوَى جَعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ عُسْرًا ، وَيَا لَلَّهِ
الْعَجَبُ! كَيْفَ يَجِدُ الْعَبْدُ أَبْوَابَ الْخَيْرِ وَالْمَصَالِحِ
مَسْدُودَةً عَنْهُ وَطُرُقَهَا مُعَسَّرَةً عَلَيْهِ ، وَهُوَ لَا
يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أُتِيَ ؟
وَمِنْهَا : ظُلْمَةٌ يَجِدُهَا فِي
قَلْبِهِ حَقِيقَةً يَحِسُّ بِهَا كَمَا يَحِسُّ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ
الْبَهِيمِ إِذَا ادْلَهَمَّ ، فَتَصِيرُ ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ
لِقَلْبِهِ كَالظُّلْمَةِ الْحِسِّيَّةِ لِبَصَرِهِ ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ
نُورٌ ، وَالْمَعْصِيَةَ ظُلْمَةٌ ، وَكُلَّمَا قَوِيَتِ الظُّلْمَةُ
ازْدَادَتْ حَيْرَتُهُ ، حَتَّى يَقَعَ فِي الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ
وَالْأُمُورِ الْمُهْلِكَةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ، كَأَعْمَى أُخْرِجَ فِي
ظُلْمَةِ اللَّيْلِ يَمْشِي وَحْدَهُ ، وَتَقْوَى هَذِهِ الظُّلْمَةُ
حَتَّى تَظْهَرَ فِي الْعَيْنِ ، ثُمَّ تَقْوَى حَتَّى تَعْلُوَ الْوَجْهَ ،
وَتَصِيرُ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ حَتَّى يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ .
قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّ لِلْحَسَنَةِ ضِيَاءً فِي الْوَجْهِ
، وَنُورًا فِي الْقَلْبِ ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ ، وَقُوَّةً فِي
الْبَدَنِ ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ ، وَإِنَّلِلسَّيِّئَةِ
سَوَادًا فِي الْوَجْهِ ، وَظُلْمَةً فِي الْقَبْرِ وَالْقَلْبِ ،
وَوَهْنًا فِي الْبَدَنِ ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ ، وَبُغْضَةً فِي
قُلُوبِ الْخَلْقِ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُوهِنُ الْقَلْبَ
وَالْبَدَنَ ، أَمَّا وَهْنُهَا لِلْقَلْبِ فَأَمْرٌ ظَاهِرٌ ، بَلْ لَا
تَزَالُ تُوهِنُهُ حَتَّى تُزِيلَ حَيَاتَهُ بِالْكُلِّيَّةِ .
وَأَمَّا
وَهْنُهَا لِلْبَدَنِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ قُوَّتُهُ مِنْ قَلْبِهِ ،
وَكُلَّمَا قَوِيَ قَلْبُهُ قَوِيَ بَدَنُهُ ، وَأَمَّا الْفَاجِرُ
فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ - فَهُوَ أَضْعَفُ شَيْءٍ
عِنْدَ الْحَاجَةِ ، فَتَخُونُهُ قُوَّتُهُ عِنْدَ أَحْوَجِ مَا يَكُونُ
إِلَى نَفْسِهِ فَتَأَمَّلْ قُوَّةَ أَبْدَانِ فَارِسَ وَالرُّومِ ، كَيْفَ
خَانَتْهُمْ ، أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا ، وَقَهَرَهُمْ أَهْلُ
الْإِيمَانِ بِقُوَّةِ أَبْدَانِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ ؟
وَمِنْهَا :
حِرْمَانُ الطَّاعَةِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلذَّنْبِ عُقُوبَةٌ إِلَّا
أَنْ يَصُدَّ عَنْ طَاعَةٍ تَكُونُ بَدَلَهُ ، وَيَقْطَعَ طَرِيقَ طَاعَةٍ
أُخْرَى ، فَيَنْقَطِعَ عَلَيْهِ بِالذَّنْبِ طَرِيقٌ ثَالِثَةٌ ، ثُمَّ
رَابِعَةٌ ، وَهَلُمَّ جَرًّا ، فَيَنْقَطِعُ عَلَيْهِ بِالذَّنْبِ
طَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا
وَمَا عَلَيْهَا ، وَهَذَا كَرَجُلٍ أَكَلَ أَكْلَةً أَوْجَبَتْ لَهُ
مِرْضَةً طَوِيلَةً مَنَعَتْهُ مِنْ عِدَّةِ أَكَلَاتِ أَطْيَبَ مِنْهَا ،
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
طُولُ الْعُمُرِ وَقِصَرُهُ
وَمِنْهَا :
أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُقَصِّرُ الْعُمُرَ وَتَمْحَقُ بَرَكَتَهُ وَلَا بُدَّ
، فَإِنَّ الْبِرَّ كَمَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ ، فَالْفُجُورُ يُقَصِّرُ
الْعُمُرَ .
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .
[
ص: 55 ] فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : نُقْصَانُ عُمُرِ الْعَاصِي هُوَ ذَهَابُ
بَرَكَةِ عُمُرِهِ وَمَحْقُهَا عَلَيْهِ ، وَهَذَا حَقٌّ ، وَهُوَ بَعْضُ
تَأْثِيرِ الْمَعَاصِي .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : بَلْ تُنْقِصُهُ
حَقِيقَةً ، كَمَا تُنْقِصُ الرِّزْقَ ، فَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
لِلْبَرَكَةِ فِي الرِّزْقِ أَسْبَابًا كَثِيرَةً تُكَثِّرُهُ وَتَزِيدُهُ ،
وَلِلْبَرَكَةِ فِي الْعُمُرِ أَسْبَابًا تُكَثِّرُهُ وَتَزِيدُهُ .
قَالُوا
وَلَا تُمْنَعُ زِيَادَةُ الْعُمُرِ بِأَسْبَابٍ كَمَا يُنْقَصُ
بِأَسْبَابٍ ، فَالْأَرْزَاقُ وَالْآجَالُ ، وَالسَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ
، وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرُ ، وَإِنْ كَانَتْ
بِقَضَاءِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ ، فَهُوَ يَقْضِي مَا يَشَاءُ
بِأَسْبَابٍ جَعَلَهَا مُوجِبَةً لِمُسَبَّبَاتِهَا مُقْتَضِيَةً لَهَا .
وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ أُخْرَى : تَأْثِيرُ الْمَعَاصِي فِي مَحْقِ الْعُمُرِ إِنَّمَا
هُوَ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَيَاةِ هِيَ حَيَاةُ الْقَلْبِ ، وَلِهَذَا
جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَافِرَ مَيِّتًا غَيْرَ حَيٍّ ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [ سُورَةُ النَّحْلِ : 21 ] .
فَالْحَيَاةُ
فِي الْحَقِيقَةِ حَيَاةُ الْقَلْبِ ، وَعُمُرُ الْإِنْسَانِ مُدَّةُ
حَيَّاتِهِ فَلَيْسَ عُمُرُهُ إِلَّا أَوْقَاتَ حَيَاتِهِ بِاللَّهِ ،
فَتِلْكَ سَاعَاتُ عُمُرِهِ ، فَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى وَالطَّاعَةُ
تَزِيدُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ عُمُرِهِ ، وَلَا
عُمُرَ لَهُ سِوَاهَا .
وَبِالْجُمْلَةِ ، فَالْعَبْدُ إِذَا أَعْرَضَ
عَنِ اللَّهِ وَاشْتَغَلَ بِالْمَعَاصِي ضَاعَتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ
حَيَاتِهِ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يَجِدُ غِبَّ إِضَاعَتِهَا يَوْمَ
يَقُولُ : يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [ سُورَةُ الْفَجْرِ : 24 ] .
فَلَا
يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ تَطَلُّعٌ إِلَى
مَصَالِحِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ أَوْ لَا ، فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ تَطَلُّعٌ إِلَى ذَلِكَ فَقَدْ ضَاعَ عَلَيْهِ عُمُرُهُ
كُلُّهُ ، وَذَهَبَتْ حَيَاتُهُ بَاطِلًا ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَلُّعٌ
إِلَى ذَلِكَ طَالَتْ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ بِسَبَبِ الْعَوَائِقِ ،
وَتَعَسَّرَتْ عَلَيْهِ أَسْبَابُ الْخَيْرِ بِحَسْبِ اشْتِغَالِهِ
بِأَضْدَادِهَا ، وَذَلِكَ نُقْصَانٌ حَقِيقِيٌّ مِنْ عُمُرِهِ .
وَسِرُّ
الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عُمُرَ الْإِنْسَانِ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ وَلَا
حَيَاةَ لَهُ إِلَّا بِإِقْبَالِهِ عَلَى رَبِّهِ ، وَالتَّنَعُّمِ
بِحُبِّهِ وَذِكْرِهِ ، وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ .
فَصْلٌ: تَوَالُدُ الْمَعَاصِي

وَمِنْهَا
أَنَّ الْمَعَاصِيَ تَزْرَعُ أَمْثَالَهَا ، وَتُولِدُ بَعْضَهَا بَعْضًا ،
حَتَّى يَعِزَّ عَلَى الْعَبْدِ مُفَارَقَتُهَا وَالْخُرُوجُ مِنْهَا ،
كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ
السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا ، وَإِنَّ مِنْ ثَوَابِ [ ص: 56 ] الْحَسَنَةِ
الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا ، فَالْعَبْدُ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً قَالَتْ
أُخْرَى إِلَى جَنْبِهَا : اعْمَلْنِي أَيْضًا ، فَإِذَا عَمِلَهَا ،
قَالَتِ الثَّالِثَةُ كَذَلِكَ وَهَلُمَّ جَرًّا ، فَتَضَاعَفُ الرِّبْحُ ،
وَتَزَايَدَتِ الْحَسَنَاتُ .
وَكَذَلِكَ كَانَتِ السَّيِّئَاتُ
أَيْضًا ، حَتَّى تَصِيرَ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي هَيْئَاتٍ رَاسِخَةً ،
وَصِفَاتٍ لَازِمَةً ، وَمَلَكَاتٍ ثَابِتَةً ، فَلَوْ عَطَّلَ
الْمُحْسِنُ الطَّاعَةَ لَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِ
الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ، وَأَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ كَالْحُوتِ
إِذَا فَارَقَ الْمَاءَ ، حَتَّى يُعَاوِدَهَا ، فَتَسْكُنَ نَفْسُهُ ،
وَتَقَرَّ عَيْنُهُ .
وَلَوْ عَطَّلَ الْمُجْرِمُ الْمَعْصِيَةَ
وَأَقْبَلَ عَلَى الطَّاعَةِ ؛ لَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَضَاقَ
صَدْرُهُ ، وَأَعْيَتْ عَلَيْهِ مَذَاهِبُهُ ، حَتَّى يُعَاوِدَهَا ،
حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُسَّاقِ لَيُوَاقِعُ الْمَعْصِيَةَ مِنْ
غَيْرِ لَذَّةٍ يَجِدُهَا ، وَلَا دَاعِيَةٍ إِلَيْهَا ، إِلَّا بِمَا
يَجِدُ مِنَ الْأَلَمِ بِمُفَارَقَتِهَا .
كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ شَيْخُ الْقَوْمِ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ حَيْثُ يَقُولُ :
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ *** وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
وَقَالَ الْآخَرُ :
فَكَانَتْ دَوَائِي وَهْيَ دَائِي بِعَيْنِهِ *** كَمَا يَتَدَاوَى شَارِبُ الْخَمْرِ بِالْخَمْرِ
وَلَا
يَزَالُ الْعَبْدُ يُعَانِي الطَّاعَةَ وَيَأْلَفُهَا وَيُحِبُّهَا
وَيُؤْثِرُهَا حَتَّى يُرْسِلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
بِرَحْمَتِهِ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ تَؤُزُّهُ إِلَيْهَا أَزًّا ،
وَتُحَرِّضُهُ عَلَيْهَا ، وَتُزْعِجُهُ عَنْ فِرَاشِهِ وَمَجْلِسِهِ
إِلَيْهَا .
وَلَا يَزَالُ يَأْلَفُ الْمَعَاصِيَ وَيُحِبُّهَا
وَيُؤْثِرُهَا ، حَتَّى يُرْسِلَ اللَّهُ إِلَيْهِ الشَّيَاطِينَ ،
فَتَؤُزُّهُ إِلَيْهَا أَزًّا .
فَالْأَوَّلُ قَوِيٌّ جَنَّدَ
الطَّاعَةَ بِالْمَدَدِ ، فَكَانُوا مِنْ أَكْبَرِ أَعْوَانِهِ ، وَهَذَا
قَوِيٌّ جَنَّدَ الْمَعْصِيَةَ بِالْمَدَدِ فَكَانُوا أَعْوَانًا عَلَيْهِ .
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزءالثالث Empty رد: كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزءالثالث {الثلاثاء 24 مايو - 17:21}

فَصْلٌ:الْمَعْصِيَةُ تُضْعِفُ إِرَادَةَ الْخَيْرِ

وَمِنْهَا : -
وَهُوَ مِنْ أَخْوَفِهَا عَلَى الْعَبْدِ - أَنَّهَا تُضْعِفُ الْقَلْبَ
عَنْ إِرَادَتِهِ ، فَتُقَوِّي إِرَادَةَ الْمَعْصِيَةِ ، وَتُضْعِفُ
إِرَادَةَ التَّوْبَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، إِلَى أَنْ تَنْسَلِخَ مِنْ
قَلْبِهِ إِرَادَةُ التَّوْبَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَلَوْ مَاتَ نِصْفُهُ
لَمَا تَابَ إِلَى اللَّهِ ، فَيَأْتِي بِالِاسْتِغْفَارِ وَتَوْبَةِ
الْكَذَّابِينَ بِاللِّسَانِ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ ، وَقَلْبُهُ مَعْقُودٌ
بِالْمَعْصِيَةِ ، مُصِرٌّ عَلَيْهَا ، عَازِمٌ عَلَى مُوَاقَعَتِهَا مَتَى
أَمْكَنَهُ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَمْرَاضِ وَأَقْرَبِهَا إِلَى
الْهَلَاكِ
فَصْلٌ: إِلْفُ الْمَعْصِيَةِ

[ ص: 57 ]
وَمِنْهَا
: أَنَّهُ يَنْسَلِخُ مِنَ الْقَلْبِ اسْتِقْبَاحُهَا ، فَتَصِيرُ لَهُ
عَادَةً ، فَلَا يَسْتَقْبِحُ مِنْ نَفْسِهِ رُؤْيَةَ النَّاسِ لَهُ ،
وَلَا كَلَامَهُمْ فِيهِ .
وَهَذَا عِنْدَ أَرْبَابِ الْفُسُوقِ هُوَ
غَايَةُ التَّهَتُّكِ وَتَمَامُ اللَّذَّةِ ، حَتَّى يَفْتَخِرَ أَحَدُهُمْ
بِالْمَعْصِيَةِ ، وَيُحَدِّثَ بِهَا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ
عَمِلَهَا ، فَيَقُولُ : يَا فُلَانُ ، عَمِلْتُ كَذَا وَكَذَا .
وَهَذَا
الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ لَا يُعَافَوْنَ ، وَتُسَدُّ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ
التَّوْبَةِ ، وَتُغْلَقُ عَنْهُمْ أَبْوَابُهَا فِي الْغَالِبِ ، كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ أُمَّتِي
مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ ، وَإِنَّ مِنَ الْإِجْهَارِ أَنْ
يَسْتُرَ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ ثُمَّ يُصْبِحُ يَفْضَحُ نَفْسَهُ
وَيَقُولُ : يَا فُلَانُ عَمِلْتُ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا ،
فَهَتَكَ نَفْسَهُ ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ .
الْمَعَاصِي مَوَارِيثُ
وَمِنْهَا
أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي فَهِيَ مِيرَاثٌ عَنْ أُمِّةٍ
مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
فَاللُّوطِيَّةُ : مِيرَاثٌ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ .
وَأَخْذُ الْحَقِّ بِالزَّائِدِ وَدَفْعُهُ بِالنَّاقِصِ ، مِيرَاثٌ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ .
وَالْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ، مِيرَاثٌ عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ .
وَالتَّكَبُّرُ وَالتَّجَبُّرُ مِيرَاثٌ عَنْ قَوْمِ هُودٍ .
فَالْعَاصِي لَابِسٌ ثِيَابَ بَعْضِ هَذِهِ الْأُمَمِ ، وَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ .
وَقَدْ
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِأَبِيهِ عَنْ
مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ : أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ
أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ قُلْ لِقَوْمِكَ : لَا يَدْخُلُوا
مَدَاخِلَ أَعْدَائِي ، وَلَا يَلْبَسُوا مَلَابِسَ أَعْدَائِي وَلَا
يَرْكَبُوا مَرَاكِبَ أَعْدَائِي ، وَلَا يَطْعَمُوا مَطَاعِمَ أَعْدَائِي ،
فَيَكُونُوا أَعْدَائِي كَمَا هُمْ أَعْدَائِي .
وَفِي مُسْنَدِ
أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ
يَدَيِ السَّاعَةِ ، حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ،
وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ
عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ .
فَصْلٌ: هَوَانُ الْعَاصِي عَلَى رَبِّهِ

[ ص: 58 ]
وَمِنْهَا : أَنَّ الْمَعْصِيَةَ سَبَبٌ لِهَوَانِ الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِهِ .
قَالَ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : هَانُوا عَلَيْهِ فَعَصَوْهُ ، وَلَوْ عَزُّوا
عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ ، وَإِذَا هَانَ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ لَمْ
يُكْرِمْهُ أَحَدٌ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ
فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [ سُورَةُ الْحَجِّ : 18 ] وَإِنْ عَظَّمَهُمُ
النَّاسُ فِي الظَّاهِرِ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمْ أَوْ خَوْفًا مِنْ
شَرِّهِمْ ، فَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ أَحْقَرُ شَيْءٍ وَأَهْوَنُهُ .
هَوَانُ الْمَعَاصِي عَلَى الْمُصِرِّينَ
وَمِنْهَا
: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ يَرْتَكِبُ الذَّنْبَ حَتَّى يَهُونَ
عَلَيْهِ وَيَصْغُرَ فِي قَلْبِهِ ، وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْهَلَاكِ ،
فَإِنَّ الذَّنَبَ كُلَّمَا صَغُرَ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ عَظُمَ عِنْدَ
اللَّهِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ قَالَ : إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ فِي أَصْلِ
جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ
كَذُبَابٍ وَقَعَ عَلَى أَنْفِهِ ، فَقَالَ بِهِ هَكَذَا فَطَارَ .
فَصْلٌ:شُؤْمُ الذُّنُوب

وَمِنْهَا
: أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ يَعُودُ عَلَيْهِ شُؤْمُ
ذَنْبِهِ ، فَيَحْتَرِقُ هُوَ وَغَيْرُهُ بِشُؤْمِ الذُّنُوبِ وَالظُّلْمِ
.قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : إِنَّ الْحُبَارَى لَتَمُوتَ فِي وَكْرِهَا مِنْ
ظُلْمِ الظَّالِمِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : إِنَّ الْبَهَائِمَ تَلْعَنُ
عُصَاةَ بَنِي آدَمَ إِذَا اشْتَدَّتِ السَّنَةُ ، وَأُمْسِكَ الْمَطَرُ ،
وَتَقُولُ : هَذَا بِشُؤْمِ مَعْصِيَةِ ابْنِ آدَمَ .
وَقَالَ
عِكْرِمَةُ : دَوَابُّ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا حَتَّى الْخَنَافِسُ
وَالْعَقَارِبُ ، يَقُولُونَ : مُنِعْنَا الْقَطْرَ بِذُنُوبِ بَنِي آدَمَ
.فَلَا يَكْفِيهِ عِقَابُ ذَنْبِهِ ، حَتَّى يَلْعَنَهُ مَنْ لَا ذَنْبَ
لَهُ .
فَصْلٌ: الْمَعْصِيَةُ تُورِثُ الذُّلَّ

[ ص: 59 ]
وَمِنْهَا : أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُورِثُ الذُّلَّ وَلَا بُدَّ ؛ فَإِنَّ
الْعِزَّ كُلَّ الْعِزِّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، قَالَ تَعَالَى :
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [ سُورَةُ
فَاطِرٍ : 10 ] أَيْ فَلْيَطْلُبْهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ لَا
يَجِدُهَا إِلَّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ
وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ بَعْضِ السَّلَفِ : اللَّهُمَّ أَعِزَّنِي بِطَاعَتِكَ وَلَا تُذِلَّنِي بِمَعْصِيَتِكَ .
قَالَ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : إِنَّهُمْ وَإِنْ طَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ ،
وَهَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ ، إِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَا
يُفَارِقُ قُلُوبَهُمْ ، أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ :
رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ *** وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ *** وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ *** وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُفْسِدُ الْعَقْلَ

وَمِنْهَا
: أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُفْسِدُ الْعَقْلَ ، فَإِنَّ لِلْعَقْلِ نُورًا ،
وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ نُورَ الْعَقْلِ وَلَا بُدَّ ، وَإِذَا طُفِئَ
نُورُهُ ضَعُفَ وَنَقَصَ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَا عَصَى
اللَّهَ أَحَدٌ حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُهُ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ، فَإِنَّهُ
لَوْ حَضَرَ عَقْلُهُ لَحَجَزَهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ فِي قَبْضَةِ
الرَّبِّ تَعَالَى ، أَوْ تَحْتَ قَهْرِهِ ، وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ ،
وَفِي دَارِهِ عَلَى بِسَاطِهِ وَمَلَائِكَتُهُ شُهُودٌ عَلَيْهِ
نَاظِرُونَ إِلَيْهِ ، وَوَاعِظُ الْقُرْآنِ يَنْهَاهُ ، وَوَاعِظُ
الْمَوْتِ يَنْهَاهُ ، وَوَاعِظُ النَّارِ يَنْهَاهُ ، وَالَّذِي يَفُوتُهُ
بِالْمَعْصِيَةِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَضْعَافُ مَا
يَحْصُلُ لَهُ مِنَ السُّرُورِ وَاللَّذَّةِ بِهَا ، فَهَلْ يُقْدِمُ عَلَى
الِاسْتِهَانَةِ بِذَلِكَ كُلِّهِ ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ ذُو عَقْلٍ
سَلِيمٍ ؟
فَصْلٌ: الذُّنُوبُ تَطْبَعُ عَلَى الْقُلُوبِ

[ ص: 60 ] وَمِنْهَا : أَنَّ الذُّنُوبَ إِذَا تَكَاثَرَتْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِهَا ، فَكَانَ مِنَ الْغَافِلِينَ .
كَمَا
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى
قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ : 14 ] ،
قَالَ : هُوَ الذَّنْبُ بَعْدَ الذَّنْبِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ ، حَتَّى يُعْمِيَ الْقَلْبَ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : لَمَّا كَثُرَتْ ذُنُوبُهُمْ وَمَعَاصِيهِمْ أَحَاطَتْ بِقُلُوبِهِمْ .
وَأَصْلُ
هَذَا أَنَّ الْقَلْبَ يَصْدَأُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ ، فَإِذَا زَادَتْ
غَلَبَ الصَّدَأُ حَتَّى يَصِيرَ رَانًا ، ثُمَّ يَغْلِبُ حَتَّى يَصِيرَ
طَبْعًا وَقُفْلًا وَخَتْمًا ، فَيَصِيرُ الْقَلْبُ فِي غِشَاوَةٍ
وَغِلَافٍ ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْهُدَى وَالْبَصِيرَةِ
انْعَكَسَ فَصَارَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ ، فَحِينَئِذٍ يَتَوَلَّاهُ
عَدُوُّهُ وَيَسُوقُهُ حَيْثُ أَرَادَ .
فَصْلٌ: الذُّنُوبُ تُدْخِلُ الْعَبْدَ تَحْتَ لَعْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَمِنْهَا
: أَنَّ الذُّنُوبَ تُدْخِلُ الْعَبْدَ تَحْتَ لَعْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَعَنَ عَلَى مَعَاصِي
وَالَّتِي غَيْرُهَا أَكْبَرُ مِنْهَا ، فَهِيَ أَوْلَى بِدُخُولِ
فَاعِلِهَا تَحْتَ اللَّعْنَةِ .
فَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ
وَالْمُسْتَوْشِمَةَ ، وَالْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ ،
وَالنَّامِصَةَ وَالْمُتَنَمِّصَةَ ، وَالْوَاشِرَةَ وَالْمُسْتَوْشِرَةَ .
وَلَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَهُ .
وَلَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ .
وَلَعَنَ السَّارِقَ .
وَلَعَنَ
شَارِبَ الْخَمْرِ وَسَاقِيهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا ،
وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيهَا ، وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَحَامِلَهَا
وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ .
وَلَعَنَ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ وَهِيَ أَعْلَامُهَا وَحُدُودُهَا .
وَلَعَنَ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ .
وَلَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا يَرْمِيهِ بِسَهْمٍ .
وَلَعَنَ الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ .
[ ص: 61 ] وَلَعَنَ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ .
وَلَعَنَ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا .
وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ .
وَلَعَنَ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ .
وَلَعَنَ مَنْ سَبَّ أَبَاهُ وَأُمَّهُ .
وَلَعَنَ مَنْ كَمِهَ أَعْمًى عَنِ الطَّرِيقِ .
وَلَعَنَ مَنْ أَتَى بَهِيمَةً .
وَلَعَنَ مَنْ وَسَمَ دَابَّةً فِي وَجْهِهَا .
وَلَعَنَ مَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا أَوْ مَكَرَ بِهِ .
وَلَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ .
وَلَعَنَ مَنْ أَفْسَدَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا ، أَوْ مَمْلُوكًا عَلَى سَيِّدِهِ .
وَلَعَنَ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا .
وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ بَاتَتْ مُهَاجِرَةً لِفِرَاشِ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ .
وَلَعَنَ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ .
وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ .
وَلَعَنَ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ .
مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ
وَقَدْ
لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ وَقَطَعَ رَحِمَهُ ، وَآذَاهُ
وَآذَى رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَلَعَنَ مَنْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى .
وَلَعَنَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ بِالْفَاحِشَةِ .
وَلَعَنَ مَنْ جَعَلَ سَبِيلَ الْكَافِرِ أَهْدَى مِنْ سَبِيلِ الْمُسْلِمِ .
وَلَعَنَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلَ
يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ .
وَلَعَنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي وَالرَّائِشَ ، وَهُوَ : الْوَاسِطَةُ فِي الرِّشْوَةِ .
وَلَعَنَ عَلَى أَشْيَاءَ أُخْرَى غَيْرِ هَذِهِ .
فَلَوْ
لَمْ يَكُنْ فِي فِعْلِ ذَلِكَ إِلَّا رِضَاءُ فَاعِلِهِ بِأَنْ يَكُونَ
مِمَّنْ يَلْعَنُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَلَائِكَتُهُ لَكَانَ فِي
ذَلِكَ مَا يَدْعُو إِلَى تَرْكِهِ .
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزءالثالث Empty رد: كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزءالثالث {الثلاثاء 24 مايو - 17:22}

فَصْلٌ: حِرْمَانُ دَعْوَةِ رَسُولِ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

[
ص: 62 ] وَمِنْهَا : حِرْمَانُ دَعْوَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعْوَةِ الْمَلَائِكَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ ، وَقَالَ تَعَالَى : الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ
وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّشَيْءٍ
رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ
الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ
السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ
وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ سُورَةُ غَافِرٍ : 7 - 9 ] .
فَهَذَا
دُعَاءُ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ التَّائِبِينَ الْمُتَّبِعِينَ
لِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الَّذِينَ لَا سَبِيلَ لَهُمْ غَيْرُهُمَا
، فَلَا يَطْمَعُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ بِإِجَابَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ ، إِذْ
لَمْ يَتَّصِفْ بِصِفَاتِ الْمَدْعُوِّ لَهُ بِهَا ، وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ: مَا رَآهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عُقُوبَاتِ الْعُصَاةِ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ
حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ : هَلْ
رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمُ الْبَارِحَةَ رُؤْيَا ؟ فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ
شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ ، وَأَنَّهُ قَالَ لَنَا ذَاتَ غَدَاةٍ :
إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ ، وَإِنَّهُمَا انْبَعَثَا لِي ،
وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي : انْطَلِقْ وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا ،
وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ
عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ ،
فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَتَدَهْدَهُ الْحَجَرُ هَاهُنَا فَيَقَعُ الْحَجَرُ
، فَيَأْخُذُهُ ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يُصْبِحَ رَأْسُهُ كَمَا
كَانَ ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي
الْمَرَّةِ الْأُولَى ، قَالَ : قُلْتُ لَهُمَا : سُبْحَانَ اللَّهِ مَا
هَذَانِ ؟ قَالَا لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ .
فَانْطَلَقْنَا ،
فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ
عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ
وَجْهِهِ وَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى
قَفَاهُ ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ
الْآخَرِ ، فَيَفْعَلُ بِهِمِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ ،
فَمَا يَفْرَغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يُصْبِحَ ذَلِكَ الْجَانِبُ
كَمَا كَانَ ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي
الْمَرَّةِ الْأُولَى ، قَالَ : قُلْتُ : سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا هَذَانِ ؟
فَقَالَا لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ .
[ ص: 63 ] فَانْطَلَقْنَا
فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ ، وَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ ،
قَالَ : فَاطَّلَعْنَا فِيهِ ، فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ ،
وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ ، فَإِذَا
أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا ، فَقَالَ : قُلْتُ : مَنْ هَؤُلَاءِ
؟ قَالَ : فَقَالَا لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ .
فَانْطَلَقْنَا ،
فَأَتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ ، فَإِذَا فِي النَّهْرِ
رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ رَجُلٌ قَدْ
جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً ، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ
مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْبَحَ ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ
جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا ،
فَيَنْطَلِقُ فَيَسْبَحُ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلَّمَا رَجَعَ
إِلَيْهِ ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا ، قُلْتُ لَهُمَا :
مَا هَذَانِ ؟ قَالَا لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ .
فَانْطَلَقْنَا ،
فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَرِيهِ الْمَرْآةِ ، أَوْ كَأَكْرِهِ مَا أَنْتَ
رَاءٍ رَجُلًا مَرْأًى ، وَإِذَا هُوَ عِنْدَهُ نَارٌ يَحُثُّهَا
وَيَسْعَى حَوْلَهَا ، قَالَ : قُلْتُ لَهُمَا : مَا هَذَا ؟ قَالَ :
قَالَا لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ .
فَانْطَلَقْنَا عَلَى رَوْضَةٍ
مُعَتَمَّةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ نُورِ الرَّبِيعِ ، وَإِذَا بَيْنَ
ظَهَرَانَيِ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ ، لَا أَكَادُ أَرَى
رَأْسَهُطُولًا فِي السَّمَاءِ ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ
وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ ، قَالَ : قُلْتُ : مَا هَذَا ؟ وَمَا
هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : قَالَا لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ .
فَانْطَلَقْنَا
، فَأَتَيْنَا إِلَى دَوْحَةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ أَرَ دَوْحَةً قَطُّ
أَعْظَمَ مِنْهَا ، وَلَا أَحْسَنَ ، قَالَ : قَالَا لِي : ارْقَ فِيهَا ،
فَارْتَقَيْنَا فِيهَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنٍ ذَهَبٍ ،
وَلَبِنٍ فِضَّةٍ ، قَالَ : فَأَتَيْنَا بَابَ الْمَدِينَةِ ،
فَاسْتَفْتَحْنَا ، فَفُتِحَ لَنَا ، فَدَخَلْنَاهَا ، فَتَلَقَّانَا
رِجَالٌ ، شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ ، وَشَطْرٌ
مِنْهُمْ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ ، قَالَ : قَالَا لَهُمْ : اذْهَبُوا
فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهَرِ ، قَالَ : وَإِذَا نَهَرٌ مُعْتَرِضٌ
يَجْرِي كَأَنَّ مَاءَهُ الْمَحْضُ فِي الْبَيَاضِ ، فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا
فِيهِ ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا ، قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ
، قَالَ : قَالَا لِي : هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَا ذَاكَ مَنْزِلُكَ .
قَالَ
: فَسَمَا بَصْرِي صُعُدًا ، فَإِذَا قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ
الْبَيْضَاءِ ، قَالَ : قَالَا لِي : هَذَا مَنْزِلُكَ ، قُلْتُ لَهُمَا :
بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا ، فَذَرَانِي فَأَدْخُلُهُ ، قَالَا : أَمَّا
الْآنَ فَلَا ، وَأَنْتَ دَاخِلُهُ .
قُلْتُ لَهُمَا : فَإِنِّي
رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا ، فَمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ ؟
قَالَ : قَالَا لِي : أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ .
أَمَّا الرَّجُلُ
الْأَوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ ،
فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ ، وَيَنَامُ عَنِ
الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ .
وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ
عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ ، وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ ،
وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو إِلَى بَيْتِهِ
فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ .
[ ص: 64 ] وَأَمَّا
الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ هُمْ فِي مِثْلِ بِنَاءِ
التَّنُّورِ ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي .
وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهْرِ وَيُلْقَمُ الْحِجَارَةَ ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا .
وَأَمَّا
الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَنْظَرِ الَّذِي عِنْدَ النَّارِ يَحُثُّهَا
وَيَسْعَى حَوْلَهَا ، فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ .
وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ ، فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ .
وَأَمَّا
الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ ، فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى
الْفِطْرَةِ - وَفِي رِوَايَةِ الْبَرْقَانِيِّ : وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ
- فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَوْلَادُ
الْمُشْرِكِينَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ .
وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ
كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ ، فَإِنَّهُمْ
قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللَّهُ
عَنْهُمْ .
فَصْلٌ: الذُّنُوبُ تُحْدِثُ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ

وَمِنْ
آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي : أَنَّهَا تُحْدِثُ فِي الْأَرْضِ
أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ فِي الْمِيَاهِ وَالْهَوَاءِ ، وَالزَّرْعِ ،
وَالثِّمَارِ ، وَالْمَسَاكِنِ ، قَالَ تَعَالَى : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ
بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ سُورَةُ الرُّومِ : 41 ]
.
قَالَ مُجَاهِدٌ : إِذَا وَلِيَ الظَّالِمُ سَعَى بِالظُّلْمِ
وَالْفَسَادِ فَيَحْبِسُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْقَطْرَ ، فَيَهْلِكُ
الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ، ثُمَّ قَرَأَ :
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي
النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [
سُورَةُ الرُّومِ : 41 ] .
ثُمَّ قَالَ : أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بَحْرُكُمْ هَذَا ، وَلَكِنْ كُلُّ قَرْيَةٍ عَلَى مَاءٍ جَارٍ فَهُوَ بَحْرٌ ،
وَقَالَ
عِكْرِمَةُ : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، أَمَا إِنِّي
لَا أَقُولُ لَكُمْ : بَحْرُكُمْ هَذَا ، وَلَكِنْ كُلُّ قَرْيَةٍ عَلَى
مَاءٍ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : أَمَّا الْبَرُّ فَأَهْلُ الْعَمُودِ ،
وَأَمَّا الْبَحْرُ فَأَهْلُ الْقُرَى وَالرِّيفِ ، قُلْتُ : وَقَدْ سَمَّى
اللَّهُ تَعَالَى الْمَاءَ الْعَذْبَ بَحْرًا ، فَقَالَ : وَمَا يَسْتَوِي
الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ
أُجَاجٌ [ سُورَةُ فَاطِرٍ : 12 ] .
[ ص: 65 ] وَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ
بَحْرٌ حُلْوٌ وَاقِفٌ ، وَإِنَّمَا هِيَ الْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ ،
وَالْبَحْرُ الْمَالِحُ هُوَ السَّاكِنُ ، فَسَمَّى الْقُرَى الَّتِي
عَلَيْهَا الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ بِاسْمِ تِلْكَ الْمِيَاهِ .
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَالَ : الذُّنُوبُ .
قُلْتُ
: أَرَادَ أَنَّ الذُّنُوبَ سَبَبُ الْفَسَادِ الَّذِي ظَهَرَ ، وَإِنْ
أَرَادَ أَنَّ الْفَسَادَ الَّذِي ظَهَرَ هُوَ الذُّنُوبُ نَفْسُهَا
فَتَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ : لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا
لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالتَّعْلِيلِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْمُرَادُ
بِالْفَسَادِ : النَّقْصُ وَالشَّرُّ وَالْآلَامُ الَّتِي يُحْدِثُهَا
اللَّهُ فِي الْأَرْضِ عِنْدَ مَعَاصِي الْعِبَادِ ، فَكُلَّمَا أَحْدَثُوا
ذَنْبًا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُمْ عُقُوبَةً ، كَمَا قَالَ بَعْضُ
السَّلَفِ : كُلَّمَا أَحْدَثْتُمْ ذَنْبًا أَحْدَثَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ
سُلْطَانِهِ عُقُوبَةً .
وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ
الْفَسَادَ الْمُرَادَ بِهِ الذُّنُوبُ وَمُوجِبَاتُهَا ، وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا
فَهَذَا حَالُنَا ، وَإِنَّمَا أَذَاقَنَا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ
أَعْمَالِنَا ، وَلَوْ أَذَاقَنَا كُلَّ أَعْمَالِنَا لَمَا تَرَكَ عَلَى
ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ.
الْمَعَاصِي سَبَبُ الْخَسْفِ وَالزَّلَازِلِ
وَمِنْ
تَأْثِيرِ مَعَاصِي اللَّهِ فِي الْأَرْضِ مَا يَحِلُّ بِهَا مِنَ
الْخَسْفِ وَالزَّلَازِلِ ، وَيَمْحَقُ بَرَكَتَهَا ، وَقَدْ مَرَّ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى دِيَارِ ثَمُودَ ،
فَمَنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ دِيَارِهِمْ إِلَّا وَهُمْ بَاكُونَ ، وَمِنْ
شُرْبِ مِيَاهِهِمْ ، وَمِنَ الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ آبَارِهِمْ ، حَتَّى
أَمَرَ أَنْ لَا يُعْلَفَ الْعَجِينُ الَّذِي عُجِنَ بِمِيَاهِهِمْ
لِلنَّوَاضِحِ ، لِتَأْثِيرِ شُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمَاءِ ،
وَكَذَلِكَ شُؤْمِ تَأْثِيرِ الذُّنُوبِ فِي نَقْصِ الثِّمَارِ وَمَا تَرَى
بِهِ مِنَ الْآفَاتِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي
مُسْنَدِهِ فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ قَالَ : وُجِدَتْ فِي خَزَائِنَ بَعْضِ
بَنِي أُمَيَّةَ ، حِنْطَةٌ ، الْحَبَّةُ بِقَدْرِ نَوَاةِ التَّمْرَةِ ،
وَهِيَ فِي صُرَّةٍ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا : كَانَ هَذَا يَنْبُتُ فِي زَمَنٍ
مِنَ الْعَدْلِ ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ أَحْدَثَهَا اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَا أَحْدَثَ الْعِبَادُ مِنَ الذُّنُوبِ .
وَأَخْبَرَنِي
جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِ الصَّحْرَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْهَدُونَ
الثِّمَارَ أَكْبَرَ مِمَّا هِيَ الْآنَ ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ
الَّتِي تُصِيبُهَا لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهَا ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ
مِنْ قُرْبٍ .
تَأْثِيرُ الذُّنُوبِ فِي الصُّوَرِ
وَأَمَّا
تَأْثِيرُ الذُّنُوبِ فِي الصُّوَرِ وَالْخَلْقِ ، فَقَدْ رَوَى
التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهُ قَالَ : خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ فِي السَّمَاءِ سِتُّونَ
ذِرَاعًا ، وَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ .
فَإِذَا
أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ الْأَرْضَ مِنَ الظَّلَمَةِ وَالْخَوَنَةِ
وَالْفَجَرَةِ ، يُخْرِجُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ
نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ
قِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا ، وَيَقْتُلُ الْمَسِيحُ الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى ، [ ص: 66 ] وَيُقِيمُ الدِّينَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ
رَسُولَهُ ، وَتُخْرِجَ الْأَرْضُ بَرَكَاتِهَا ، وَتَعُودُ كَمَا كَانَتْ
، حَتَّى إِنَّ الْعِصَابَةَ مِنَ النَّاسِ لَيَأْكُلُونِ الرُّمَّانَةَ
وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا ، وَيَكُونُ الْعُنْقُودُ مِنَ الْعِنَبِ
وَقْرَ بَعِيرٍ ، وَلَبَنُ اللِّقْحَةِ الْوَاحِدَةِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ
مِنَ النَّاسِ ، وَهَذِهِ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَمَّا طَهُرَتْ مِنَ
الْمَعَاصِي ظَهَرَتْ فِيهَا آثَارُ الْبَرَكَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى
الَّتِي مَحَقَتْهَا الذُّنُوبُ وَالْكُفْرُ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ
الْعُقُوبَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الْأَرْضِ بَقِيَتْ
آثَارُهَا سَارِيَةً فِي الْأَرْضِ تَطْلُبُ مَا يُشَاكِلُهَا مِنَ
الذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ آثَارُ تِلْكَ الْجَرَائِمِ الَّتِي عُذِّبَتْ
بِهَا الْأُمَمُ ، فَهَذِهِ الْآثَارُ فِي الْأَرْضِ مِنْ آثَارِ تِلْكَ
الْعُقُوبَاتِ ، كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْمَعَاصِي مِنْ آثَارِ تِلْكَ
الْجَرَائِمِ ، فَتَنَاسَبَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ وَحُكْمَهُ الْكَوْنِيُّ
أَوَّلًا وَآخِرًا ، وَكَانَ الْعَظِيمُ مِنَ الْعُقُوبَةِ لِلْعَظِيمِ
مِنَ الْجِنَايَةِ ، وَالْأَخَفُّ لِلْأَخَفِّ ، وَهَكَذَا يَحْكُمُ
سُبْحَانَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ فِي دَارِالْبَرْزَخِ وَدَارِ الْجَزَاءِ .
وَتَأَمَّلْ
مُقَارَنَةَ الشَّيْطَانِ وَمَحِلَّهُ وَدَارَهُ ، فَإِنَّهُ لَمَّا
قَارَنَ الْعَبْدَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ نُزِعَتِ الْبَرَكَةُ مِنْ
عُمُرِهِ ، وَعَمَلِهِ ، وَقَوْلِهِ ، وَرِزْقِهِ ، وَلَمَّا أَثَّرَتْ
طَاعَتُهُ فِي الْأَرْضِ مَا أَثَّرَتْ ، وَنُزِعَتِ الْبَرَكَةُ مِنْ
كُلِّ مَحِلٍّ ظَهَرَتْ فِيهِ طَاعَتُهُ ، وَكَذَلِكَ مَسَكْنُهُ لَمَّا
كَانَ الْجَحِيمَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنَ الرُّوحِ وَالرَّحْمَةِ
وَالْبَرَكَةِ .
فَصْلٌ: الذُّنُوبُ تُطْفِئُ الْغَيْرَةَ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ : أَنَّهَا تُطْفِئُ مِنَ الْقَلْبِ نَارَ
الْغَيْرَةِ الَّتِي هِيَ لِحَيَاتِهِ وَصَلَاحِهِ كَالْحَرَارَةِ
الْغَرِيزِيَّةِ لِحَيَاةِ جَمِيعِ الْبَدَنِ ، فَالْغَيْرَةُ حَرَارَتُهُ
وَنَارُهُ الَّتِي تُخْرِجُ مَا فِيهِ مِنَ الْخُبْثِ وَالصِّفَاتِ
الْمَذْمُومَةِ ، كَمَا يُخْرِجُ الْكِيرُ خُبْثَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْحَدِيدِ ، وَأَشْرَفُ النَّاسِ وَأَعْلَاهُمْ هِمَّةً أَشَدُّهُمْ
غَيْرَةً عَلَى نَفْسِهِ وَخَاصَّتِهِ وَعُمُومِ النَّاسِ ، وَلِهَذَا
كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَغْيَرَ
الْخَلْقِ عَلَى الْأُمَّةِ ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَشَدُّ غَيْرَةً
مِنْهُ ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ لَأَنَا
أَغْيَرُ مِنْهُ ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي .
وَفِي الصَّحِيحِ
أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةِ الْكُسُوفِ : يَا أُمَّةَ
مُحَمَّدٍ مَا أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ
أَمَتُهُ .
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا
أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ
مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ
الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ
مِنَ اللَّهِ ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ .
[ ص: 67 ]
فَجَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ الْغَيْرَةِ الَّتِي أَصْلُهَا
كَرَاهَةُ الْقَبَائِحِ وَبُغْضُهَا ، وَبَيْنَ مَحَبَّةِ الْعُذْرِ
الَّذِي يُوجِبُ كَمَالَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ ،
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ - مَعَ شِدَّةِ غَيْرَتِهِ - يُحِبُّ أَنْ
يَعْتَذِرَ إِلَيْهِ عَبْدُهُ ، وَيَقْبَلُ عُذْرَ مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ
، وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ عَبِيدَهُ بِارْتِكَابِ مَا يَغَارُ مِنَ
ارْتِكَابِهِ حَتَّى يَعْذُرَ إِلَيْهِمْ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ
رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا ، وَهَذَا غَايَةُ
الْمَجْدِ وَالْإِحْسَانِ ، وَنِهَايَةُ الْكَمَالِ .
فَإِنَّ كَثِيرًا
مِمَّنْ تَشْتَدُّ غَيْرَتُهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ تَحْمِلُهُ شِدَّةُ
الْغَيْرَةِ عَلَى سُرْعَةِ الْإِيقَاعِ وَالْعُقُوبَةِ مِنْ غَيْرِ
إِعْذَارٍ مِنْهُ ، وَمِنْ غَيْرِ قَبُولٍ لِعُذْرِ مَنِ اعْتَذَرَ
إِلَيْهِ ، بَلْ يَكُونُ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عُذْرٌ وَلَا تَدَعُهُ
شِدَّةُ الْغَيْرَةِ أَنْ يَقْبَلَ عُذْرَهُ ، وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَقْبَلُ
الْمَعَاذِيرَ يَحْمِلُهُ عَلَى قَبُولِهَا قِلَّةُ الْغَيْرَةِ حَتَّى
يَتَوَسَّعَ فِي طُرُقِ الْمَعَاذِيرِ ، وَيَرَى عُذْرًا مَا لَيْسَ
بِعُذْرٍ ، حَتَّى يَعْتَذِرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالْقَدَرِ ، وَكُلٌّ
مِنْهُمَا غَيْرُ مَمْدُوحٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ .
وَقَدْ صَحَّ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ
مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّهَا اللَّهُ ، وَمِنْهَا مَا يَبْغَضُهَا
اللَّهُ ، فَالَّتِي يَبْغَضُهَا اللَّهُ الْغَيْرَةُ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ
وَذَكَرَ الْحَدِيثِ .
وَإِنَّمَا الْمَمْدُوحُ اقْتِرَانُ الْغَيْرَةِ
بِالْعُذْرِ ، فَيَغَارُ فِي مَحِلِّ الْغَيْرَةِ ، وَيَعْذُرُ فِي
مَوْضِعِ الْعُذْرِ ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَالْمَمْدُوحُ حَقًّا .
وَلَمَّا
جَمَعَ سُبْحَانَهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ كُلَّهَا كَانَ أَحَقَّ
بِالْمَدْحِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ ، وَلَا يَبْلُغُ أَحَدٌ أَنْ يَمْدَحَهُ
كَمَا يَنْبَغِي لَهُ ، بَلْ هُوَ كَمَا مَدَحَ نَفْسَهُ وَأَثْنَى عَلَى
نَفْسِهِ ، فَالْغَيُورُ قَدْ وَافَقَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ فِي صِفَةٍ مِنْ
صِفَاتِهِ ، وَمَنْ وَافَقَ اللَّهَ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ قَادَتْهُ
تِلْكَ الصِّفَةُ إِلَيْهِ بِزِمَامِهِ ، وَأَدْخَلَتْهُ عَلَى رَبِّهِ ،
وَأَدْنَتْهُ مِنْهُ ، وَقَرَّبَتْهُ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَصَيَّرَتْهُ
مَحْبُوبًا ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ رَحِيمٌ يُحِبُّ الرُّحَمَاءَ ،
كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ ، عَلِيمٌ يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ ، قَوِيٌّ
يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْقَوِيَّ ، وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ
الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، حَتَّى يُحِبَّ أَهْلَ الْحَيَاءِ ، جَمِيلٌ
يُحِبُّ أَهْلَ الْجَمَالِ ، وَتْرٌ يُحِبُّ أَهْلَ الْوَتْرِ .
وَلَوْ
لَمْ يَكُنْ فِي الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي إِلَّا أَنَّهَا تُوجِبُ
لِصَاحِبِهَا ضِدَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَتَمْنَعُهُ مِنَ الِاتِّصَافِ
بِهَا لَكَفَى بِهَا عُقُوبَةً ، فَإِنَّ الْخَطْرَةَ تَنْقَلِبُ
وَسْوَسَةً ، وَالْوَسْوَسَةُ تَصِيرُ إِرَادَةً ، وَالْإِرَادَةُ تَقْوَى
فَتَصِيرُ عَزِيمَةً ، ثُمَّ تَصِيرُ فِعْلًا ، ثُمَّ تَصِيرُ صِفَةً
لَازِمَةً وَهَيْئَةً ثَابِتَةً رَاسِخَةً ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ
الْخُرُوجُ مِنْهُمَا كَمَا يَتَعَذَّرُ الْخُرُوجُ مِنْ صِفَاتِهِ
الْقَائِمَةِ بِهِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ كُلَّمَا اشْتَدَّتْ
مُلَابَسَتُهُ لِلذُّنُوبِ أَخْرَجَتْ مِنْ قَلْبِهِ الْغَيْرَةَ عَلَى
نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَعُمُومِ النَّاسِ ، وَقَدْتَضْعُفُ فِي الْقَلْبِ
جِدًّا حَتَّى لَا يَسْتَقْبِحَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَبِيحَ لَا مِنْ
نَفْسِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ
فَقَدْدَخَلَ فِي بَابِ الْهَلَاكِ .
[ ص: 68 ] وَكَثِيرٌ مِنْ
هَؤُلَاءِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِقْبَاحِ ، بَلْ يُحَسِّنُ
الْفَوَاحِشَ وَالظُّلْمَ لِغَيْرِهِ ، وَيُزَيِّنُهُ لَهُ ، وَيَدْعُوهُ
إِلَيْهِ ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ ، وَيَسْعَى لَهُ فِي تَحْصِيلِهِ ،
وَلِهَذَا كَانَ الدَّيُّوثُ أَخْبَثَ خَلْقِ اللَّهِ ، وَالْجَنَّةُ
حَرَامٌ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ مُحَلِّلُ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ لِغَيْرِهِ
وَمُزَيِّنُهُ لَهُ ، فَانْظُرْ مَا الَّذِي حَمَلَتْ عَلَيْهِ قِلَّةُ
الْغَيْرَةِ .
وَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ
الْغَيْرَةُ ، وَمَنْ لَا غَيْرَةَ لَهُ لَا دِينَ لَهُ ، فَالْغَيْرَةُ
تَحْمِي الْقَلْبَ فَتَحْمِي لَهُ الْجَوَارِحَ، فَتَدْفَعُ السُّوءَ
وَالْفَوَاحِشَ ، وَعَدَمُ الْغَيْرَةِ تُمِيتُ الْقَلْبَ ، فَتَمُوتُ لَهُ
الْجَوَارِحُ ؛ فَلَا يَبْقَى عِنْدَهَا دَفْعٌ الْبَتَّةَ .
وَمَثَلُ
الْغَيْرَةِ فِي الْقَلْبِ مَثَلُ الْقُوَّةِ الَّتِي تَدْفَعُ الْمَرَضَ
وَتُقَاوِمُهُ ، فَإِذَا ذَهَبَتِ الْقُوَّةُ وَجَدَ الدَّاءُ الْمَحِلَّ
قَابِلًا ، وَلَمْ يَجِدْ دَافِعًا ، فَتَمَكَّنَ ، فَكَانَ الْهَلَاكُ ،
وَمِثْلُهَا مِثْلُ صَيَاصِيِّ الْجَامُوسِ الَّتِي تَدْفَعُ بِهَا عَنْ
نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ ، فَإِذَا تَكَسَّرَتْ طَمِعَ فِيهَا عَدُوُّهُ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُذْهِبُ الْحَيَاءَ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : ذَهَابُ الْحَيَاءِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ حَيَاةِ
الْقَلْبِ ، وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ ، وَذَهَابُهُ ذَهَابُ الْخَيْرِ
أَجْمَعِهِ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ .
وَقَالَ
: إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى :
إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ وَفِيهِ تَفْسِيرَانِ :
أَحَدُهُمَا
: أَنَّهُ عَلَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ ، وَالْمَعْنَى مَنْ لَمْ
يَسْتَحِ فَإِنَّهُ يَصْنَعُ مَا شَاءَ مِنَ الْقَبَائِحِ ، إِذِ
الْحَامِلُ عَلَى تَرْكِهَا الْحَيَاءُ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ
حَيَاءٌ يَرْدَعُهُ عَنِ الْقَبَائِحِ ، فَإِنَّهُ يُوَاقِعُهَا ، وَهَذَا
تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا لَمْ
تَسْتَحِ مِنْهُ مِنَ اللَّهِ فَافْعَلْهُ ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَنْبَغِي
تَرْكُهُ هُوَ مَا يُسْتَحَى مِنْهُ مِنَ اللَّهِ ، وَهَذَا تَفْسِيرُ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ .
فَعَلَى الْأَوَّلِ : يَكُونُ تَهْدِيدًا ، كَقَوْلِهِ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [ سُورَةُ فُصِّلَتْ : 40 ] .
وَعَلَى الثَّانِي : يَكُونُ إِذْنًا وَإِبَاحَةً .
فَإِنْ
قِيلَ : فَهَلْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ ؟ [ ص:
69 ] قُلْتُ : لَا ، وَلَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَحْمِلُ الْمُشْتَرَكَ
عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ ، لِمَا بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالتَّهْدِيدِ مِنَ
الْمُنَافَاةِ ، وَلَكِنَّ اعْتِبَارَ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ يُوجِبُ
اعْتِبَارَ الْآخَرِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الذُّنُوبَ تُضْعِفُ
الْحَيَاءَ مِنَ الْعَبْدِ ، حَتَّى رُبَّمَا انْسَلَخَ مِنْهُ
بِالْكُلِّيَّةِ ، حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَتَأَثَّرُ بِعِلْمِ
النَّاسِ بِسُوءِ حَالِهِ وَلَا بِاطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ ، بَلْ كَثِيرٌ
مِنْهُمْ يُخْبِرُ عَنْ حَالِهِ وَقُبْحِ مَا يَفْعَلُ ، وَالْحَامِلُ لَهُ
عَلَى ذَلِكَ انْسِلَاخُهُ مِنَ الْحَيَاءِ ، وَإِذَا وَصَلَ الْعَبْدُ
إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَبْقَ فِي صَلَاحِهِ مَطْمَعٌ
وَإِذَا رَأَى إِبْلِيسُ طَلْعَةَ وَجْهِهِ حَيَّا وَقَالَ : فَدَيْتُ مَنْ لَا يُفْلِحُ
وَالْحَيَاءُ
مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَيَاةِ ، وَالْغَيْثُ يُسَمَّى حَيَا - بِالْقَصْرِ -
لِأَنَّ بِهِ حَيَاةُ الْأَرْضِ وَالنَّبَاتِ وَالدَّوَابِّ ، وَكَذَلِكَ
سُمِّيَتْ بِالْحَيَاءِ حَيَاةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَمَنْ لَا
حَيَاءَ فِيهِ فَهُوَ مَيِّتٌ فِي الدُّنْيَا شَقِيٌّ فِي الْآخِرَةِ ،
وَبَيْنَ الذُّنُوبِ وَبَيْنَ قِلَّةِ الْحَيَاءِ وَعَدَمِ الْغَيْرَةِ
تَلَازُمٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَدْعِي الْآخَرَ
وَيَطْلُبُهُ حَثِيثًا ، وَمَنِ اسْتَحَى مِنَ اللَّهِ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ
، اسْتَحَى اللَّهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ ، وَمَنْ لَمْ
يَسْتَحِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ لَمْ يَسْتَحِ اللَّهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُضْعِفُ فِي الْقَلْبِ تَعْظِيمَ الرَّبِّ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ : أَنَّهَا تُضْعِفُ فِي الْقَلْبِ تَعْظِيمَ
الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَتُضْعِفُ وَقَارَهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ
وَلَا بُدَّ ، شَاءَ أَمْ أَبَى ، وَلَوْ تَمَكَّنَ وَقَارُ اللَّهِ
وَعَظَمَتُهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ لَمَا تَجَرَّأَ عَلَى مَعَاصِيهِ ،
وَرُبَّمَا اغْتَرَّ الْمُغْتَرُّ ، وَقَالَ : إِنَّمَا يَحْمِلُنِي عَلَى
الْمَعَاصِي حُسْنُ الرَّجَاءِ ، وَطَمَعِي فِي عَفْوِهِ ، لَا ضَعْفُ
عَظْمَتِهِ فِي قَلْبِي ، وَهَذَا مِنْ مُغَالَطَةِ النَّفْسِ ؛ فَإِنَّ
عَظَمَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَجَلَالَهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ تَقْتَضِي
تَعْظِيمَ حُرُمَاتِهِ ، وَتَعْظِيمُ حُرُمَاتِهِ يَحُولُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الذُّنُوبِ ، وَالْمُتَجَرِّئُونَ عَلَى مَعَاصِيهِ مَا قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، وَكَيْفَيَقْدِرُهُ حَقَّ قَدْرِهِ ، أَوْ
يُعَظِّمُهُ وَيُكَبِّرُهُ ، وَيَرْجُو وَقَارَهُ وَيُجِلُّهُ ، مَنْ
يَهُونُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ ؟ هَذَا مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالِ ،
وَأَبَيْنِ الْبَاطِلِ ، وَكَفَى بِالْعَاصِي عُقُوبَةً أَنْ يَضْمَحِلَّ
مِنْ قَلْبِهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَتَعْظِيمُ
حُرُمَاتِهِ ، وَيَهُونُ عَلَيْهِ حَقُّهُ .
وَمِنْ بَعْضِ عُقُوبَةِ
هَذَا : أَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَهَابَتَهُ مِنْ قُلُوبِ
الْخَلْقِ ، وَيَهُونُ عَلَيْهِمْ ، وَيَسْتَخِفُّونَ بِهِ ، كَمَا هَانَ
عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَاسْتَخَفَّ بِهِ ، فَعَلَى قَدْرِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ
لِلَّهِ يُحِبُّهُ النَّاسُ ، وَعَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ
يَخَافُهُ الْخَلْقُ ، وَعَلَى قَدْرِ تَعْظِيمِهِ لِلَّهِ وَحُرُمَاتِهِ
يُعَظِّمُهُ النَّاسُ ، وَكَيْفَ يَنْتَهِكُ عَبْدٌ حُرُمَاتِ اللَّهِ ،
وَيَطْمَعُ أَنْ لَا يَنْتَهِكَ النَّاسُ حُرُمَاتِهِ أَمْ كَيْفَ يَهُونُ
عَلَيْهِ حَقُّ اللَّهِ وَلَا يُهَوِّنُهُ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ ؟ أَمْ
كَيْفَ يَسْتَخِفُّ بِمَعَاصِي اللَّهِ وَلَا يَسْتَخِفُّ بِهِ الْخَلْقُ ؟
[
ص: 70 ] وَقَدْ أَشَارَ سُبْحَانَهُ إِلَى هَذَا فِي كِتَابِهِ عِنْدَ
ذِكْرِ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ ، وَأَنَّهُ أَرْكَسَ أَرْبَابَهَا بِمَا
كَسَبُوا ، وَغَطَّى عَلَى قُلُوبِهِمْ ، وَطَبَعَ عَلَيْهَا بِذُنُوبِهِمْ
، وَأَنَّهُ نَسِيَهُمْ كَمَا نَسُوهُ ، وَأَهَانَهُمْ كَمَا أَهَانُوا
دِينَهُ ، وَضَيَّعَهُمْ كَمَا ضَيَّعُوا أَمْرَهُ ، وَلِهَذَا قَالَ
تَعَالَى فِي آيَةِ سُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ لَهُ : وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ
فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [ سُورَةُ الْحَجِّ : 18 ] فَإِنَّهُمْ لَمَّا
هَانَ عَلَيْهِمُ السُّجُودُ لَهُ وَاسْتَخَفُّوا بِهِ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ
أَهَانَهُمُ اللَّهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ مُكْرِمٍ بَعْدَ أَنْ
أَهَانَهُمُ اللَّهُ ، وَمَنْ ذَا يُكْرِمْ مَنْ أَهَانَهُ اللَّهُ ؟ أَوْ
يُهِنْ مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ ؟
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُنْسِي اللَّهَ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تَسْتَدْعِي نِسْيَانَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ ،
وَتَرْكَهُ وَتَخْلِيَتَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَشَيْطَانِهِ ،
وَهُنَالِكَ الْهَلَاكُ الَّذِي لَا يُرْجَى مَعَهُ نَجَاةٌ ، قَالَ
اللَّهُ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ
نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ
فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ سُورَةُ
الْحَشْرِ : 18 - 19 ] .
فَأَمَرَ بِتَقْوَاهُ وَنَهَى أَنْ يَتَشَبَّهَ
عِبَادُهُ الْمُؤْمِنُونَ بِمَنْ نَسِيَهُ بِتَرْكِ تَقْوَاهُ ،
وَأَخْبَرَ أَنَّهُ عَاقَبَ مَنْ تَرَكَ التَّقْوَى بِأَنْ أَنْسَاهُ
نَفْسَهُ ، أَيْ أَنْسَاهُ مَصَالِحَهَا ، وَمَا يُنْجِيهَا مِنْ عَذَابِهِ
، وَمَا يُوجِبُ لَهُ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ ، وَكَمَالَ لَذَّتِهَا
وَسُرُورِهَا وَنَعِيمِهَا ، فَأَنْسَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ جَزَاءً
لِمَا نَسِيَهُ مِنْ عَظَمَتِهِ وَخَوْفِهِ ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ ،
فَتَرَى الْعَاصِيَ مُهْمِلًا لِمَصَالِحِ نَفْسِهِ مُضَيِّعًا لَهَا ،
قَدْ أَغْفَلَ اللَّهُ قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِهِ ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ، قَدِ انْفَرَطَتْ عَلَيْهِ مَصَالِحُ دُنْيَاهُ
وَآخِرَتِهِ ، وَقَدْ فَرَّطَ فِي سَعَادَتِهِ الْأَبَدِيَّةِ ،
وَاسْتَبْدَلَ بِهَا أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ لَذَّةٍ ، إِنَّمَا هِيَ
سَحَابَةُ صَيْفٍ ، أَوْ خَيَالُ طَيْفٍ كَمَا قِيلَ :
أَحْلَامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لَا يُخْدَعُ
وَأَعْظَمُ
الْعُقُوبَاتِ نِسْيَانُ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ ، وَإِهْمَالُهُ لَهَا ،
وَإِضَاعَتُهُ حَظَّهَا وَنَصِيبَهَا مِنَ اللَّهِ ، وَبَيْعُهَا ذَلِكَ
بِالْغَبْنِ وَالْهَوَانِ وَأَبْخَسِ الثَّمَنِ ، فَضَيَّعَ مَنْ لَا غِنَى
لَهُ عَنْهُ ، وَلَا عِوَضَ لَهُ مِنْهُ ، وَاسْتَبْدَلَ بِهِ مَنْ عَنْهُ
كُلُّ الْغِنَى أَوْ مِنْهُكُلُّ الْعِوَضِ :
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ وَمَا مِنَ اللَّهِ إِنْ ضَيَّعْتَ مِنْ عِوَضِ
[
ص: 71 ] فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُعَوِّضُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا سِوَاهُ
وَلَا يُعَوِّضُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَيُغْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا
يُغْنِي عَنْهُ شَيْءٌ ، وَيُجِيرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يُجِيرُ مِنْهُ
شَيْءٌ ، وَيَمْنَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ شَيْءٌ ،
كَيْفَ يَسْتَغْنِي الْعَبْدُ عَنْ طَاعَةِ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ طَرْفَةَ
عَيْنٍ ؟ وَكَيْفَ يَنْسَى ذِكْرَهُ وَيُضَيِّعُ أَمْرَهُ حَتَّى
يُنْسِيَهُ نَفْسَهُ ، فَيَخْسَرُهَا وَيَظْلِمُهَا أَعْظَمَ الظُّلْمِ ؟
فَمَا ظَلَمَ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَلَكِنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ، وَمَا ظَلَمَهُ
رَبُّهُ وَلَكِنْ هُوَ الَّذِي ظَلَمَ نَفْسَهُ .
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزءالثالث Empty رد: كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزءالثالث {الثلاثاء 24 مايو - 17:23}

فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ دَائِرَةِ الْإِحْسَانِ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ دَائِرَةِ الْإِحْسَانِ
وَتَمْنَعُهُ مِنْ ثَوَابِ الْمُحْسِنِينَ ، فَإِنَّ الْإِحْسَانَ إِذَا
بَاشَرَ الْقَلْبَ مَنَعَهُ عَنِ الْمَعَاصِي ، فَإِنَّ مَنْ عَبَدَ
اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ إِلَّا لِاسْتِيلَاءِ
ذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ ، بِحَيْثُ
يَصِيرُ كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ ، وَذَلِكَ سَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
إِرَادَةِ الْمَعْصِيَةِ ، فَضْلًا عَنْ مُوَاقَعَتِهَا ، فَإِذَا خَرَجَ
مِنْ دَائِرَةِ الْإِحْسَانِ ، فَاتَهُ صُحْبَةُ رُفْقَتِهِ الْخَاصَّةِ ،
وَعَيْشُهُمُ الْهَنِيءُ ، وَنَعِيمُهُمُ التَّامُّ ، فَإِنْ أَرَادَ
اللَّهُ بِهِ خَيْرًا أَقَرَّهُ فِي دَائِرَةِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ ،
فَإِنْ عَصَاهُبِالْمَعَاصِي الَّتِي تُخْرِجُهُ مِنْ دَائِرَةِ
الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَشْرَبُ
الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ
حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَمُؤْمِنٌ ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ
يَرْفَعُ إِلَيْهِ فِيهَا النَّاسُ أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ
بَعْدُ .
فَصْلٌ: الْعَاصِي يَفُوتُهُ ثَوَابُ الْمُؤْمِنِينَ

وَمَنْ
فَاتَهُ رُفْقَةُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَحُسْنُ دِفَاعِ اللَّهِ عَنْهُمْ ،
فَإِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَفَاتَهُ كُلُّ
خَيْرٍ رَتَّبَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْإِيمَانِ ، وَهُوَ نَحْوُ
مِائَةِ خَصْلَةٍ ، كُلُّ خَصْلَةٍ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا
فِيهَا .
فَمِنْهَا : الْأَجْرُ الْعَظِيمُ : وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 146 ] .
وَمِنْهَا
: الدَّفْعُ عَنْهُمْ شُرُورَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ : إِنَّ اللَّهَ
يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [ سُورَةُ الْحَجِّ : 38 ] .
[ ص: 72 ]
وَمِنْهَا : اسْتِغْفَارُ حَمَلَةِ الْعَرْشِ لَهُمُ : الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [ سُورَةُ
غَافِرٍ : 7 ] .
وَمِنْهَا : مُوَالَاةُ اللَّهِ لَهُمْ ، وَلَا يَذِلُّ
مَنْ وَالَاهُ اللَّهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : اللَّهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 257 ] .
وَمِنْهَا :
أَمْرُهُ مَلَائِكَتَهُ بِتَثْبِيتِهِمْ : إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى
الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [ سُورَةُ
الْأَنْفَالِ : 12 ] .
وَمِنْهَا : أَنَّ لَهُمُ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَالْمَغْفِرَةَ وَالرِّزْقَ الْكَرِيمَ .
وَمِنْهَا
: الْعِزَّةُ : وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [ سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ : 8 ]
.
وَمِنْهَا : مَعِيَّةُ اللَّهِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ : وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [ سُورَةُ الْأَنْفَالِ : 19 ] .
وَمِنْهَا
: الرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [ سُورَةُ
الْمُجَادَلَةِ : 11 ] .
وَمِنْهَا : إِعْطَاؤُهُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَإِعْطَاؤُهُمْ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ وَمَغْفِرَةُ ذُنُوبِهِمْ .
وَمِنْهَا
: الْوُدُّ الَّذِي يَجْعَلُهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُ
يُحِبُّهُمْ وَيُحَبِّبُهُمْ إِلَى مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ
وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ .
وَمِنْهَا : أَمَانُهُمْ مِنَ الْخَوْفِ
يَوْمَ يَشْتَدُّ الْخَوْفُ : فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 48 ] .
وَمِنْهَا
: أَنَّهُمُ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ
أَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى صِرَاطِهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ سَبْعَ
عَشْرَةَ مَرَّةً .
وَمِنْهَا : أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا هُوَ هُدًى
لَهُمْ وَشِفَاءٌ : [ ص: 73 ] قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى
وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ[ سُورَةُ
فُصِّلَتْ : 44 ] .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِيمَانَ سَبَبٌ جَالِبٌ
لِكُلِّ خَيْرٍ ، وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَسَبَبُهُ
الْإِيمَانُ ، وَكُلُّ شَرٍّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَسَبَبُهُ
عَدَمُ الْإِيمَانِ ، فَكَيْفَ يَهُونُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَرْتَكِبَ
شَيْئًا يُخْرِجُهُ مِنْ دَائِرَةِ الْإِيمَانِ ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ ، وَلَكِنْ لَا يَخْرُجُ مِنْ دَائِرَةِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ
، فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الذُّنُوبِ وَأَصَرَّ عَلَيْهَا خِيفَ عَلَيْهِ
أَنْ يَرِينَ عَلَى قَلْبِهِ ، فَيُخْرِجُهُ عَنِ الْإِسْلَامِ
بِالْكُلِّيَّةِ ، وَمِنْ هَاهُنَا اشْتَدَّ خَوْفُ السَّلَفِ ، كَمَا
قَالَ بَعْضُهُمْ : أَنْتُمْ تَخَافُونَ الذُّنُوبَ ، وَأَنَا أَخَافُ
الْكُفْرَ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُضْعِفُ الْقَلْبَ

وَمِنْ
عُقُوبَتِهَا : أَنَّهَا تُضْعِفُ سَيْرَ الْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ
وَالدَّارِ الْآخِرَةِ ، أَوْ تَعُوقُهُ أَوْ تُوقِفُهُ وَتَقْطَعُهُ عَنِ
السَّيْرِ ، فَلَا تَدَعُهُ يَخْطُو إِلَى اللَّهِ خُطْوَةً ، هَذَا إِنْ
لَمْ تَرُدَّهُ عَنْ وُجْهَتِهِ إِلَى وَرَائِهِ ، فَالذَّنْبُ يَحْجِبُ
الْوَاصِلَ ، وَيَقْطَعُ السَّائِرَ ، وَيُنَكِّسُ الطَّالِبَ ،
وَالْقَلْبُ إِنَّمَا يَسِيرُ إِلَى اللَّهِ بِقُوَّتِهِ ، فَإِذَا
مَرِضَبِالذُّنُوبِ ضَعُفَتْ تِلْكَ الْقُوَّةُ الَّتِي تُسَيِّرُهُ ،
فَإِنْ زَالَتْ بِالْكُلِّيَّةِ انْقَطَعَ عَنِ اللَّهِ انْقِطَاعًا
يَبْعُدُ تَدَارُكُهُ ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَالذَّنْبُ إِمَّا
يُمِيتُ الْقَلْبَ ، أَوْ يُمْرِضُهُ مَرَضًا مُخَوِّفًا ، أَوْ يُضْعِفُ
قُوَّتَهُ وَلَا بُدَّ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضَعْفُهُ إِلَى الْأَشْيَاءِ
الثَّمَانِيَةِ الَّتِي اسْتَعَاذَ مِنْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ : [ الْهَمُّ ، وَالْحَزَنُ ، وَالْعَجْزُ ،
وَالْكَسَلُ ، وَالْجُبْنُ ، وَالْبُخْلُ ، وَضَلَعُ الدَّيْنِ ،
وَغَلَبَةُ الرِّجَالِ ] وَكُلُّ اثْنَيْنِ مِنْهَا قَرِينَانِ .
فَالْهَمُّ
وَالْحَزَنُ قَرِينَانِ : فَإِنَّ الْمَكْرُوهَ الْوَارِدَ عَلَى
الْقَلْبِ إِنْ كَانَ مِنْ أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ يَتَوَقَّعُهُ أَحْدَثَ
الْهَمَّ ، وَإِنْكَانَ مِنْ أَمْرٍ مَاضٍ قَدْ وَقَعَ أَحْدَثَ الْحَزَنَ .
وَالْعَجْزُ
وَالْكَسَلُ قَرِينَانِ : فَإِنْ تَخَلَّفَ الْعَبْدُ عَنْ أَسْبَابِ
الْخَيْرِ وَالْفَلَاحِ ، إِنْ كَانَ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ فَهُوَ الْعَجْزُ
، وَإِنْ كَانَ لِعَدَمِ إِرَادَتِهِ فَهُوَ الْكَسَلُ .
وَالْجُبْنُ
وَالْبُخْلُ قَرِينَانِ : فَإِنَّ عَدَمَ النَّفْعِ مِنْهُ إِنْ كَانَ
بِبَدَنِهِ فَهُوَ الْجُبْنُ ، وَإِنْ كَانَ بِمَالِهِ فَهُوَ الْبُخْلُ .
وَضَلَعُ
الدَّيْنِ وَقَهْرُ الرِّجَالِ قَرِينَانِ : فَإِنَّ اسْتِعْلَاءَ
الْغَيْرِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ بِحَقٍّ فَهُوَ مِنْ ضَلَعِ الدَّيْنِ ،
وَإِنْ كَانَ بِبَاطِلٍ فَهُوَ مِنْ قَهْرِ الرِّجَالِ .
[ ص: 74 ]
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الذُّنُوبَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ
لِهَذِهِ الثَّمَانِيَةِ ، كَمَا أَنَّهَا مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ
الْجَالِبَةِ لِجَهْدِ الْبَلَاءِ ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ ، وَسُوءِ
الْقَضَاءِ ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ ، وَمِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ
الْجَالِبَةِ لِزَوَالِ نِعَمِ اللَّهِ ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِهِ إِلَى
نِقْمَتِهِ وَتَجْلِبُ جَمِيعَ سُخْطِهِ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمَ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ : أَنَّهَا تُزِيلُ النِّعَمَ ، وَتُحِلُّ
النِّقَمَ ، فَمَا زَالَتْ عَنِ الْعَبْدِ نِعْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ ،
وَلَا حَلَّتْ بِهِ نِقْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : مَا نَزَلْ بَلَاءٌ إِلَّا
بِذَنْبٍ ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو
عَنْ كَثِيرٍ [ سُورَةُ الشُّورَى : 30 ] . وَقَالَ تَعَالَى : ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [ سُورَةُ الْأَنْفَالِ : 53 ] .
فَأَخْبَرَ
اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ نِعَمَهُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا
عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُغَيِّرُ مَا بِنَفْسِهِ ،
فَيُغَيِّرُطَاعَةَ اللَّهِ بِمَعْصِيَتِهِ ، وَشُكْرَهُ بِكُفْرِهِ ،
وَأَسْبَابَ رِضَاهُ بِأَسْبَابِ سُخْطِهِ ، فَإِذَا غَيَّرَ غَيَّرَ
عَلَيْهِ ، جَزَاءً وِفَاقًا ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ .
فَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْصِيَةَ بِالطَّاعَةِ ، غَيَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ بِالْعَافِيَةِ ، وَالذُّلَّ بِالْعِزِّ .
وَقَالَ
تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ
لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [ سُورَةُ الرَّعْدِ : 11 ] .
وَفِي
بَعْضِ الْآثَارِ الْإِلَهِيَّةِ ، عَنِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
أَنَّهُ قَالَ : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي ، لَا يَكُونُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي
عَلَى مَا أُحِبُّ ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى مَا أَكْرَهُ ، إِلَّا
انْتَقَلْتُ لَهُ مِمَّا يُحِبُّ إِلَى مَا يَكْرَهُ ، وَلَا يَكُونُ
عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي عَلَى مَا أَكْرَهُ ، فَيَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى مَا
أُحِبُّ ، إِلَّا انْتَقَلْتُ لَهُ مِمَّا يَكْرَهُ إِلَى مَا يُحِبُّ . [
ص: 75 ]
وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ :
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا *** فَإِنَّ الذُّنُوبَ تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ الْعِبَادِ *** فَرَبُّ الْعِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ
وَإِيَّاكَ وَالظُّلْمَ مَهْمَا اسْتَطَعْت *** فَظُلْمُ الْعِبَادِ شَدِيدُ الْوَخَمْ
وَسَافِرْ بِقَلْبِكَ بَيْنَ الْوَرَى *** لِتَبْصُرَ آثَارَ مَنْ قَدْ ظَلَمْ
فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ بَعْدَهُمْ *** شُهُودٌ عَلَيْهِمْ وَلَا تَتَّهِمْ
وَمَا كَانَ شَيْءٌ عَلَيْهِمْ أَضَرَّ *** مِنَ الظُّلْمِ وَهُوَ الَّذِي قَدْ قَصَمْ
فَكَمْ تَرَكُوا مِنْ جِنَانٍ وَمِنْ *** قُصُورٍ وَأُخْرَى عَلَيْهِمْ أُطُمْ
صَلَوْا بِالْجَحِيمِ وَفَاتَ النَّعِيمُ *** وَكَانَ الَّذِي نَالَهُمْ كَالْحُلُمْ
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُلْقِي الرُّعْبَ وَالْخَوْفَ فِي الْقُلُوبِ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا مَا يُلْقِيهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ
الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ فِي قَلْبِ الْعَاصِي ، فَلَا تَرَاهُ إِلَّا
خَائِفًا مَرْعُوبًا .
فَإِنَّ الطَّاعَةَ حِصْنُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ ،
مَنْ دَخَلَهُ كَانَ مِنَ الْآمِنِينَ مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ ، وَمَنْ خَرَجَ عَنْهُ أَحَاطَتْ بِهِ الْمَخَاوِفُ مِنْ
كُلِّ جَانِبٍ ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ انْقَلَبَتِ الْمَخَاوِفُ فِي
حَقِّهِ أَمَانًا ، وَمَنْ عَصَاهُ انْقَلَبَتْ مَآمِنُهُ مَخَاوِفَ ،
فَلَا تَجِدُ الْعَاصِيَ إِلَّا وَقَلْبُهُ كَأَنَّهُ بَيْنَ جَنَاحَيْ
طَائِرٍ ، إِنْ حَرَّكَتِ الرِّيحُ الْبَابَ قَالَ : جَاءَ الطَّلَبُ ،
وَإِنْ سَمِعَ وَقْعَ قَدَمٍ خَافَ أَنْ يَكُونَ نَذِيرًا بِالْعَطَبِ ،
يَحْسَبُ أَنَّ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِ ، وَكُلَّ مَكْرُوهٍ قَاصِدٌ
إِلَيْهِ ، فَمَنْ خَافَ اللَّهَ آمَنَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَمَنْ لَمْ
يَخَفِ اللَّهَ أَخَافَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ :
بِذَا قَضَى اللَّهُ بَيْنَ الْخَلْقِ مُذْ خُلِقُوا أَنَّ الْمَخَاوِفَ وَالْأَجْرَامَ فِي قَرَنِ
************** الْمَعَاصِي تُوقِعُ فِي الْوَحْشَةِ **************
وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا أَنَّهَا تُوقِعُ الْوَحْشَةَ الْعَظِيمَةَ فِي الْقَلْبِ
فَيَجِدُ الْمُذْنِبُ نَفْسَهُ مُسْتَوْحِشًا ، قَدْ وَقَعَتِ الْوَحْشَةُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ، وَبَيْنَ الْخَلْقِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ ،
وَكُلَّمَا كَثُرَتِ الذُّنُوبُ اشْتَدَّتِ الْوَحْشَةُ ، وَأَمَرُّ
الْعَيْشِ عَيْشُ الْمُسْتَوْحِشِينَ الْخَائِفِينَ ، وَأَطْيَبُ الْعَيْشِ
عَيْشُ الْمُسْتَأْنِسِينَ ، فَلَوْ نَظَرَالْعَاقِلُ وَوَازَنَ لَذَّةَ
الْمَعْصِيَةِ وَمَا تُوقِعُهُ مِنَ الْخَوْفِ وَالْوَحْشَةِ ، لَعَلِمَ
سُوءَ حَالِهِ ، وَعَظِيمَ غَبْنِهِ ، إِذْ بَاعَ أُنْسَ الطَّاعَةِ
وَأَمْنَهَا وَحَلَاوَتَهَا بِوَحْشَةِ الْمَعْصِيَةِ وَمَا تُوجِبُهُ مِنَ
الْخَوْفِ وَالضَّرَرِ الدَّاعِي لَهُ .
كَمَا قِيلَ :
فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ *** فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ
[
ص: 76 ] وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الطَّاعَةَ تُوجِبُ الْقُرْبَ مِنَ
الرَّبِّ سُبْحَانَهُ ، فَكُلَّمَا اشْتَدَّ الْقُرْبُ قَوِيَ الْأُنْسُ ،
وَالْمَعْصِيَةُ تُوجِبُ الْبُعْدَ مِنَ الرَّبِّ ، وَكُلَّمَا زَادَ
الْبُعْدُ قَوِيَتِ الْوَحْشَةُ.
وَلِهَذَا يَجِدُ الْعَبْدُ وَحْشَةً
بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ لِلْبُعْدِ الَّذِي بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ
كَانَ مُلَابِسًا لَهُ ، قَرِيبًا مِنْهُ ، وَيَجِدُ أُنْسًا قَوِيًّا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُحِبُّ ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ .
وَالْوَحْشَةُ
سَبَبُهَا الْحِجَابُ ، وَكُلَّمَا غَلُظَ الْحِجَابُ زَادَتِ الْوَحْشَةُ
، فَالْغَفْلَةُ تُوجِبُ الْوَحْشَةَ ، وَأَشَدُّ مِنْهَا وَحْشَةُ
الْمَعْصِيَةِ ، وَأَشَدُّ مِنْهَا وَحْشَةُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ ، وَلَا
تَجِدُ أَحَدًا مُلَابِسًا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا وَيَعْلُوهُ مِنَ
الْوَحْشَةِ بِحَسْبِ مَا لَابَسَهُ مِنْهُ ، فَتَعْلُو الْوَحْشَةُ
وَجْهَهُ وَقَلْبَهُ فَيَسْتَوْحِشُ وَيُسْتَوْحَشُ مِنْهُ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُمْرِضُ الْقُلُوبَ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تَصْرِفُ الْقَلْبَ عَنْ صِحَّتِهِ
وَاسْتِقَامَتِهِ إِلَى مَرَضِهِ وَانْحِرَافِهِ ، فَلَا يَزَالُ مَرِيضًا
مَعْلُولًا لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَغْذِيَةِ الَّتِي بِهَا حَيَاتُهُ
وَصَلَاحُهُ ، فَإِنَّ تَأْثِيرَ الذُّنُوبِ فِي الْقُلُوبِ كَتَأْثِيرِ
الْأَمْرَاضِ فِي الْأَبْدَانِ ، بَلِ الذُّنُوبُ أَمْرَاضُ الْقُلُوبِ
وَدَاؤُهَا ، وَلَا دَوَاءَ لَهَا إِلَّا تَرْكُهَا .
وَقَدْ أَجْمَعَ
السَّائِرُونَ إِلَى اللَّهِ أَنَّ الْقُلُوبَ لَا تُعْطَى مُنَاهَا حَتَّى
تَصِلَ إِلَى مَوْلَاهَا ، وَلَا تَصِلُ إِلَى مَوْلَاهَا حَتَّى تَكُونَ
صَحِيحَةً سَلِيمَةً ، وَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً سَلِيمَةً حَتَّى
يَنْقَلِبَ دَاؤُهَا ، فَيَصِيرَ نَفْسَ دَوَائِهَا ، وَلَا يَصِحُّ لَهَا
ذَلِكَ إِلَّا بِمُخَالَفَةِ هَوَاهَا ، فَهَوَاهَا مَرَضُهَا ،
وَشِفَاؤُهَا مُخَالَفَتُهُ ، فَإِنِ اسْتَحْكَمَ الْمَرَضُ قَتَلَ أَوْ
كَادَ .
وَكَمَا أَنَّ مَنْ نَهَى نَفْسَهُ عَنِ الْهَوَى كَانَتِ
الْجَنَّةُ مَأْوَاهُ ، فَكَذَا يَكُونُ قَلْبُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فِي
جَنَّةٍ عَاجِلَةٍ ، لَا يُشْبِهُ نَعِيمُ أَهْلِهَا نَعِيمًا الْبَتَّةَ ،
بَلِ التَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ النَّعِيمَيْنِ ، كَالتَّفَاوُتِ
الَّذِي بَيْنَ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا
يُصَدِّقُ بِهِ إِلَّا مَنْ بَاشَرَ قَلْبُهُ هَذَا وَهَذَا .
وَلَا
تَحْسَبُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [ سُورَةُ الِانْفِطَارِ : 13 - 14 ]
مَقْصُورٌ عَلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَجَحِيمِهَا فَقَطْ بَلْ فِي
دُورِهِمُ الثَّلَاثَةِ كَذَلِكَ - أَعْنِي دَارَ الدُّنْيَا ، وَدَارَ
الْبَرْزَخِ ، وَدَارَ الْقَرَارِ - فَهَؤُلَاءِ فِي نَعِيمٍ ، وَهَؤُلَاءِ
فِي جَحِيمٍ ، وَهَلِ النَّعِيمُ إِلَّا نَعِيمُ الْقَلْبِ ؟ وَهَلِ
الْعَذَابُ إِلَّا عَذَابُ الْقَلْبِ ؟ وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ
الْخَوْفِ وَالْهَمِّ وَالْحُزْنِ ، وَضِيقِ الصَّدْرِ ، وَإِعْرَاضِهِ
عَنِ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ ، وَتَعَلُّقِهِ بِغَيْرِ اللَّهِ ،
وَانْقِطَاعِهِ عَنِ اللَّهِ ، بِكُلِّ وَادٍ مِنْهُ شُعْبَةٌ ؟ وَكُلُّ
شَيْءٍ تَعَلَّقَ بِهِ وَأَحَبَّهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَسُومُهُ
سُوءَ الْعَذَابِ .
[ ص: 77 ] فَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ
اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، فَهُوَ
يُعَذَّبُ بِهِ قَبْلَ حُصُولِهِ حَتَّى يَحْصُلَ ، فَإِذَا حَصَلَ عُذِّبَ
بِهِ حَالَ حُصُولِهِ بِالْخَوْفِ مِنْ سَلْبِهِ وَفَوَاتِهِ ،
وَالتَّنْغِيصِ وَالتَّنْكِيدِ عَلَيْهِ ، وَأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ فِي
هَذِهِ الْمُعَارَضَاتِ ، فَإِذَا سُلِبَهُ اشْتَدَّ عَلَيْهِ عَذَابُهُ ،
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ فِي هَذِهِ الدَّارِ .
وَأَمَّا
فِي الْبَرْزَخِ : فَعَذَابٌ يُقَارِنُهُ أَلَمُ الْفِرَاقِ الَّذِي لَا
يَرْجُو عَوْدَةً وَأَلَمُ فَوَاتِ مَا فَاتَهُ مِنَ النَّعِيمِ الْعَظِيمِ
بِاشْتِغَالِهِ بِضِدِّهِ ، وَأَلَمُ الْحِجَابِ عَنِ اللَّهِ ، وَأَلَمُ
الْحَسْرَةِ الَّتِي تَقْطَعُ الْأَكْبَادَ ، فَالْهَمُّ وَالْغَمُّ
وَالْحُزْنُ تَعْمَلُ فِي نُفُوسِهِمْ نَظِيرَ مَا يَعْمَلُ الْهَوَامُّ
وَالدِّيدَانُ فِي أَبْدَانِهِمْ ، بَلْ عَمَلُهَا فِي النُّفُوسِ دَائِمٌ
مُسْتَمِرٌّ ، حَتَّى يَرُدَّهَا اللَّهُ إِلَى أَجْسَادِهَا ، فَحِينَئِذٍ
يَنْتَقِلُ الْعَذَابُ إِلَى نَوْعٍ هُوَ أَدْهَى وَأَمَرُّ ، فَأَيْنَ
هَذَا مِنْ نَعِيمِ مَنْ يَرْقُصُ قَلْبُهُ طَرَبًا وَفَرَحًا وَأُنْسًا
بِرَبِّهِ ، وَاشْتِيَاقًا إِلَيْهِ ، وَارْتِيَاحًا بِحُبِّهِ ،
وَطُمَأْنِينَةً بِذِكْرِهِ ؟ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ فِي حَالِ
نَزْعِهِ : وَاطَرَبَاهُ .
وَيَقُولُ الْآخَرُ : مَسَاكِينُ أَهْلُ
الدُّنْيَا ، خَرَجُوا مِنْهَا وَمَا ذَاقُوا لَذِيذَ الْعَيْشِ فِيهَا ،
وَمَا ذَاقُوا أَطْيَبَ مَا فِيهَا .
وَيَقُولُ الْآخَرُ : لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ لَجَالَدُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ .
وَيَقُولُ الْآخَرُ : إِنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةِ .
فَيَا
مَنْ بَاعَ حَظَّهُ الْغَالِي بِأَبْخَسِ الثَّمَنِ ، وَغُبِنَ كُلَّ
الْغَبْنِ فِي هَذَا الْعَقْدِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ غُبِنَ ، إِذَا
لَمْ يَكُنْ لَكَ خِبْرَةٌ بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ فَسَلِ الْمُقَوِّمِينَ ،
فَيَا عَجَبًا مِنْ بِضَاعَةٍ مَعَكَ اللَّهُ مُشْتَرِيهَا وَثَمَنُهَا
جَنَّةُ الْمَأْوَى ، وَالسَّفِيرُ الَّذِي جَرَى عَلَى يَدِهِ عَقْدُ
التَّبَايُعِ وَضَمِنَ الثَّمَنَ عَنِ الْمُشْتَرِي هُوَ الرَّسُولُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَدْ بِعْتَهَا بِغَايَةِ
الْهَوَانِ ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ :
إِذَا كَانَ هَذَا فِعْلُ عَبْدٍ بِنَفْسِهِ فَمَنْ ذَا لَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يُكْرِمُ
وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [ سُورَةُ الْحَجِّ : 18 ]
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى