لبيك يا الله



حديث قدسىعن رب العزة جلا وعلاعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أحب عبداً دعا له جبريل، عليه السلام، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً، دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض”.
المواضيع الأخيرة
كل عام وانتم بخيرالجمعة 23 أبريل - 16:08رضا السويسى
كل عام وانتم بخيرالخميس 7 مايو - 22:46رضا السويسى
المسح على رأس اليتيم و العلاج باللمسالأربعاء 22 أغسطس - 14:45البرنس
(16) ما أجمل الغنائمالجمعة 11 أغسطس - 18:51رضا السويسى
مطوية ( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)الأحد 9 أغسطس - 19:02عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)السبت 8 أغسطس - 12:46عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )الأربعاء 5 أغسطس - 18:34عزمي ابراهيم عزيز



اذهب الى الأسفل
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزء الثانى Empty كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزء الثانى {الثلاثاء 24 مايو - 17:23}

فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ دَائِرَةِ الْإِحْسَانِ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ دَائِرَةِ الْإِحْسَانِ
وَتَمْنَعُهُ مِنْ ثَوَابِ الْمُحْسِنِينَ ، فَإِنَّ الْإِحْسَانَ إِذَا
بَاشَرَ الْقَلْبَ مَنَعَهُ عَنِ الْمَعَاصِي ، فَإِنَّ مَنْ عَبَدَ
اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ إِلَّا لِاسْتِيلَاءِ
ذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ ، بِحَيْثُ
يَصِيرُ كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ ، وَذَلِكَ سَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
إِرَادَةِ الْمَعْصِيَةِ ، فَضْلًا عَنْ مُوَاقَعَتِهَا ، فَإِذَا خَرَجَ
مِنْ دَائِرَةِ الْإِحْسَانِ ، فَاتَهُ صُحْبَةُ رُفْقَتِهِ الْخَاصَّةِ ،
وَعَيْشُهُمُ الْهَنِيءُ ، وَنَعِيمُهُمُ التَّامُّ ، فَإِنْ أَرَادَ
اللَّهُ بِهِ خَيْرًا أَقَرَّهُ فِي دَائِرَةِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ ،
فَإِنْ عَصَاهُبِالْمَعَاصِي الَّتِي تُخْرِجُهُ مِنْ دَائِرَةِ
الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَشْرَبُ
الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ
حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَمُؤْمِنٌ ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ
يَرْفَعُ إِلَيْهِ فِيهَا النَّاسُ أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ
بَعْدُ .
فَصْلٌ: الْعَاصِي يَفُوتُهُ ثَوَابُ الْمُؤْمِنِينَ

وَمَنْ
فَاتَهُ رُفْقَةُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَحُسْنُ دِفَاعِ اللَّهِ عَنْهُمْ ،
فَإِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَفَاتَهُ كُلُّ
خَيْرٍ رَتَّبَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْإِيمَانِ ، وَهُوَ نَحْوُ
مِائَةِ خَصْلَةٍ ، كُلُّ خَصْلَةٍ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا
فِيهَا .
فَمِنْهَا : الْأَجْرُ الْعَظِيمُ : وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 146 ] .
وَمِنْهَا
: الدَّفْعُ عَنْهُمْ شُرُورَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ : إِنَّ اللَّهَ
يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [ سُورَةُ الْحَجِّ : 38 ] .
[ ص: 72 ]
وَمِنْهَا : اسْتِغْفَارُ حَمَلَةِ الْعَرْشِ لَهُمُ : الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [ سُورَةُ
غَافِرٍ : 7 ] .
وَمِنْهَا : مُوَالَاةُ اللَّهِ لَهُمْ ، وَلَا يَذِلُّ
مَنْ وَالَاهُ اللَّهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : اللَّهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 257 ] .
وَمِنْهَا :
أَمْرُهُ مَلَائِكَتَهُ بِتَثْبِيتِهِمْ : إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى
الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [ سُورَةُ
الْأَنْفَالِ : 12 ] .
وَمِنْهَا : أَنَّ لَهُمُ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَالْمَغْفِرَةَ وَالرِّزْقَ الْكَرِيمَ .
وَمِنْهَا
: الْعِزَّةُ : وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [ سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ : 8 ]
.
وَمِنْهَا : مَعِيَّةُ اللَّهِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ : وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [ سُورَةُ الْأَنْفَالِ : 19 ] .
وَمِنْهَا
: الرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [ سُورَةُ
الْمُجَادَلَةِ : 11 ] .
وَمِنْهَا : إِعْطَاؤُهُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَإِعْطَاؤُهُمْ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ وَمَغْفِرَةُ ذُنُوبِهِمْ .
وَمِنْهَا
: الْوُدُّ الَّذِي يَجْعَلُهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُ
يُحِبُّهُمْ وَيُحَبِّبُهُمْ إِلَى مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ
وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ .
وَمِنْهَا : أَمَانُهُمْ مِنَ الْخَوْفِ
يَوْمَ يَشْتَدُّ الْخَوْفُ : فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 48 ] .
وَمِنْهَا
: أَنَّهُمُ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ
أَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى صِرَاطِهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ سَبْعَ
عَشْرَةَ مَرَّةً .
وَمِنْهَا : أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا هُوَ هُدًى
لَهُمْ وَشِفَاءٌ : [ ص: 73 ] قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى
وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ[ سُورَةُ
فُصِّلَتْ : 44 ] .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِيمَانَ سَبَبٌ جَالِبٌ
لِكُلِّ خَيْرٍ ، وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَسَبَبُهُ
الْإِيمَانُ ، وَكُلُّ شَرٍّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَسَبَبُهُ
عَدَمُ الْإِيمَانِ ، فَكَيْفَ يَهُونُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَرْتَكِبَ
شَيْئًا يُخْرِجُهُ مِنْ دَائِرَةِ الْإِيمَانِ ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ ، وَلَكِنْ لَا يَخْرُجُ مِنْ دَائِرَةِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ
، فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الذُّنُوبِ وَأَصَرَّ عَلَيْهَا خِيفَ عَلَيْهِ
أَنْ يَرِينَ عَلَى قَلْبِهِ ، فَيُخْرِجُهُ عَنِ الْإِسْلَامِ
بِالْكُلِّيَّةِ ، وَمِنْ هَاهُنَا اشْتَدَّ خَوْفُ السَّلَفِ ، كَمَا
قَالَ بَعْضُهُمْ : أَنْتُمْ تَخَافُونَ الذُّنُوبَ ، وَأَنَا أَخَافُ
الْكُفْرَ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُضْعِفُ الْقَلْبَ

وَمِنْ
عُقُوبَتِهَا : أَنَّهَا تُضْعِفُ سَيْرَ الْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ
وَالدَّارِ الْآخِرَةِ ، أَوْ تَعُوقُهُ أَوْ تُوقِفُهُ وَتَقْطَعُهُ عَنِ
السَّيْرِ ، فَلَا تَدَعُهُ يَخْطُو إِلَى اللَّهِ خُطْوَةً ، هَذَا إِنْ
لَمْ تَرُدَّهُ عَنْ وُجْهَتِهِ إِلَى وَرَائِهِ ، فَالذَّنْبُ يَحْجِبُ
الْوَاصِلَ ، وَيَقْطَعُ السَّائِرَ ، وَيُنَكِّسُ الطَّالِبَ ،
وَالْقَلْبُ إِنَّمَا يَسِيرُ إِلَى اللَّهِ بِقُوَّتِهِ ، فَإِذَا
مَرِضَبِالذُّنُوبِ ضَعُفَتْ تِلْكَ الْقُوَّةُ الَّتِي تُسَيِّرُهُ ،
فَإِنْ زَالَتْ بِالْكُلِّيَّةِ انْقَطَعَ عَنِ اللَّهِ انْقِطَاعًا
يَبْعُدُ تَدَارُكُهُ ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَالذَّنْبُ إِمَّا
يُمِيتُ الْقَلْبَ ، أَوْ يُمْرِضُهُ مَرَضًا مُخَوِّفًا ، أَوْ يُضْعِفُ
قُوَّتَهُ وَلَا بُدَّ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضَعْفُهُ إِلَى الْأَشْيَاءِ
الثَّمَانِيَةِ الَّتِي اسْتَعَاذَ مِنْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ : [ الْهَمُّ ، وَالْحَزَنُ ، وَالْعَجْزُ ،
وَالْكَسَلُ ، وَالْجُبْنُ ، وَالْبُخْلُ ، وَضَلَعُ الدَّيْنِ ،
وَغَلَبَةُ الرِّجَالِ ] وَكُلُّ اثْنَيْنِ مِنْهَا قَرِينَانِ .
فَالْهَمُّ
وَالْحَزَنُ قَرِينَانِ : فَإِنَّ الْمَكْرُوهَ الْوَارِدَ عَلَى
الْقَلْبِ إِنْ كَانَ مِنْ أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ يَتَوَقَّعُهُ أَحْدَثَ
الْهَمَّ ، وَإِنْكَانَ مِنْ أَمْرٍ مَاضٍ قَدْ وَقَعَ أَحْدَثَ الْحَزَنَ .
وَالْعَجْزُ
وَالْكَسَلُ قَرِينَانِ : فَإِنْ تَخَلَّفَ الْعَبْدُ عَنْ أَسْبَابِ
الْخَيْرِ وَالْفَلَاحِ ، إِنْ كَانَ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ فَهُوَ الْعَجْزُ
، وَإِنْ كَانَ لِعَدَمِ إِرَادَتِهِ فَهُوَ الْكَسَلُ .
وَالْجُبْنُ
وَالْبُخْلُ قَرِينَانِ : فَإِنَّ عَدَمَ النَّفْعِ مِنْهُ إِنْ كَانَ
بِبَدَنِهِ فَهُوَ الْجُبْنُ ، وَإِنْ كَانَ بِمَالِهِ فَهُوَ الْبُخْلُ .
وَضَلَعُ
الدَّيْنِ وَقَهْرُ الرِّجَالِ قَرِينَانِ : فَإِنَّ اسْتِعْلَاءَ
الْغَيْرِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ بِحَقٍّ فَهُوَ مِنْ ضَلَعِ الدَّيْنِ ،
وَإِنْ كَانَ بِبَاطِلٍ فَهُوَ مِنْ قَهْرِ الرِّجَالِ .
[ ص: 74 ]
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الذُّنُوبَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ
لِهَذِهِ الثَّمَانِيَةِ ، كَمَا أَنَّهَا مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ
الْجَالِبَةِ لِجَهْدِ الْبَلَاءِ ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ ، وَسُوءِ
الْقَضَاءِ ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ ، وَمِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ
الْجَالِبَةِ لِزَوَالِ نِعَمِ اللَّهِ ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِهِ إِلَى
نِقْمَتِهِ وَتَجْلِبُ جَمِيعَ سُخْطِهِ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمَ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ : أَنَّهَا تُزِيلُ النِّعَمَ ، وَتُحِلُّ
النِّقَمَ ، فَمَا زَالَتْ عَنِ الْعَبْدِ نِعْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ ،
وَلَا حَلَّتْ بِهِ نِقْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : مَا نَزَلْ بَلَاءٌ إِلَّا
بِذَنْبٍ ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو
عَنْ كَثِيرٍ [ سُورَةُ الشُّورَى : 30 ] . وَقَالَ تَعَالَى : ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [ سُورَةُ الْأَنْفَالِ : 53 ] .
فَأَخْبَرَ
اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ نِعَمَهُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا
عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُغَيِّرُ مَا بِنَفْسِهِ ،
فَيُغَيِّرُطَاعَةَ اللَّهِ بِمَعْصِيَتِهِ ، وَشُكْرَهُ بِكُفْرِهِ ،
وَأَسْبَابَ رِضَاهُ بِأَسْبَابِ سُخْطِهِ ، فَإِذَا غَيَّرَ غَيَّرَ
عَلَيْهِ ، جَزَاءً وِفَاقًا ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ .
فَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْصِيَةَ بِالطَّاعَةِ ، غَيَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ بِالْعَافِيَةِ ، وَالذُّلَّ بِالْعِزِّ .
وَقَالَ
تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ
لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [ سُورَةُ الرَّعْدِ : 11 ] .
وَفِي
بَعْضِ الْآثَارِ الْإِلَهِيَّةِ ، عَنِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
أَنَّهُ قَالَ : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي ، لَا يَكُونُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي
عَلَى مَا أُحِبُّ ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى مَا أَكْرَهُ ، إِلَّا
انْتَقَلْتُ لَهُ مِمَّا يُحِبُّ إِلَى مَا يَكْرَهُ ، وَلَا يَكُونُ
عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي عَلَى مَا أَكْرَهُ ، فَيَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى مَا
أُحِبُّ ، إِلَّا انْتَقَلْتُ لَهُ مِمَّا يَكْرَهُ إِلَى مَا يُحِبُّ . [
ص: 75 ]
وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ :
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا *** فَإِنَّ الذُّنُوبَ تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ الْعِبَادِ *** فَرَبُّ الْعِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ
وَإِيَّاكَ وَالظُّلْمَ مَهْمَا اسْتَطَعْت *** فَظُلْمُ الْعِبَادِ شَدِيدُ الْوَخَمْ
وَسَافِرْ بِقَلْبِكَ بَيْنَ الْوَرَى *** لِتَبْصُرَ آثَارَ مَنْ قَدْ ظَلَمْ
فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ بَعْدَهُمْ *** شُهُودٌ عَلَيْهِمْ وَلَا تَتَّهِمْ
وَمَا كَانَ شَيْءٌ عَلَيْهِمْ أَضَرَّ *** مِنَ الظُّلْمِ وَهُوَ الَّذِي قَدْ قَصَمْ
فَكَمْ تَرَكُوا مِنْ جِنَانٍ وَمِنْ *** قُصُورٍ وَأُخْرَى عَلَيْهِمْ أُطُمْ
صَلَوْا بِالْجَحِيمِ وَفَاتَ النَّعِيمُ *** وَكَانَ الَّذِي نَالَهُمْ كَالْحُلُمْ
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُلْقِي الرُّعْبَ وَالْخَوْفَ فِي الْقُلُوبِ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا مَا يُلْقِيهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ
الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ فِي قَلْبِ الْعَاصِي ، فَلَا تَرَاهُ إِلَّا
خَائِفًا مَرْعُوبًا .
فَإِنَّ الطَّاعَةَ حِصْنُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ ،
مَنْ دَخَلَهُ كَانَ مِنَ الْآمِنِينَ مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ ، وَمَنْ خَرَجَ عَنْهُ أَحَاطَتْ بِهِ الْمَخَاوِفُ مِنْ
كُلِّ جَانِبٍ ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ انْقَلَبَتِ الْمَخَاوِفُ فِي
حَقِّهِ أَمَانًا ، وَمَنْ عَصَاهُ انْقَلَبَتْ مَآمِنُهُ مَخَاوِفَ ،
فَلَا تَجِدُ الْعَاصِيَ إِلَّا وَقَلْبُهُ كَأَنَّهُ بَيْنَ جَنَاحَيْ
طَائِرٍ ، إِنْ حَرَّكَتِ الرِّيحُ الْبَابَ قَالَ : جَاءَ الطَّلَبُ ،
وَإِنْ سَمِعَ وَقْعَ قَدَمٍ خَافَ أَنْ يَكُونَ نَذِيرًا بِالْعَطَبِ ،
يَحْسَبُ أَنَّ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِ ، وَكُلَّ مَكْرُوهٍ قَاصِدٌ
إِلَيْهِ ، فَمَنْ خَافَ اللَّهَ آمَنَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَمَنْ لَمْ
يَخَفِ اللَّهَ أَخَافَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ :
بِذَا قَضَى اللَّهُ بَيْنَ الْخَلْقِ مُذْ خُلِقُوا أَنَّ الْمَخَاوِفَ وَالْأَجْرَامَ فِي قَرَنِ
************** الْمَعَاصِي تُوقِعُ فِي الْوَحْشَةِ **************
وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا أَنَّهَا تُوقِعُ الْوَحْشَةَ الْعَظِيمَةَ فِي الْقَلْبِ
فَيَجِدُ الْمُذْنِبُ نَفْسَهُ مُسْتَوْحِشًا ، قَدْ وَقَعَتِ الْوَحْشَةُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ، وَبَيْنَ الْخَلْقِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ ،
وَكُلَّمَا كَثُرَتِ الذُّنُوبُ اشْتَدَّتِ الْوَحْشَةُ ، وَأَمَرُّ
الْعَيْشِ عَيْشُ الْمُسْتَوْحِشِينَ الْخَائِفِينَ ، وَأَطْيَبُ الْعَيْشِ
عَيْشُ الْمُسْتَأْنِسِينَ ، فَلَوْ نَظَرَالْعَاقِلُ وَوَازَنَ لَذَّةَ
الْمَعْصِيَةِ وَمَا تُوقِعُهُ مِنَ الْخَوْفِ وَالْوَحْشَةِ ، لَعَلِمَ
سُوءَ حَالِهِ ، وَعَظِيمَ غَبْنِهِ ، إِذْ بَاعَ أُنْسَ الطَّاعَةِ
وَأَمْنَهَا وَحَلَاوَتَهَا بِوَحْشَةِ الْمَعْصِيَةِ وَمَا تُوجِبُهُ مِنَ
الْخَوْفِ وَالضَّرَرِ الدَّاعِي لَهُ .
كَمَا قِيلَ :
فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ *** فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ
[
ص: 76 ] وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الطَّاعَةَ تُوجِبُ الْقُرْبَ مِنَ
الرَّبِّ سُبْحَانَهُ ، فَكُلَّمَا اشْتَدَّ الْقُرْبُ قَوِيَ الْأُنْسُ ،
وَالْمَعْصِيَةُ تُوجِبُ الْبُعْدَ مِنَ الرَّبِّ ، وَكُلَّمَا زَادَ
الْبُعْدُ قَوِيَتِ الْوَحْشَةُ.
وَلِهَذَا يَجِدُ الْعَبْدُ وَحْشَةً
بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ لِلْبُعْدِ الَّذِي بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ
كَانَ مُلَابِسًا لَهُ ، قَرِيبًا مِنْهُ ، وَيَجِدُ أُنْسًا قَوِيًّا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُحِبُّ ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ .
وَالْوَحْشَةُ
سَبَبُهَا الْحِجَابُ ، وَكُلَّمَا غَلُظَ الْحِجَابُ زَادَتِ الْوَحْشَةُ
، فَالْغَفْلَةُ تُوجِبُ الْوَحْشَةَ ، وَأَشَدُّ مِنْهَا وَحْشَةُ
الْمَعْصِيَةِ ، وَأَشَدُّ مِنْهَا وَحْشَةُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ ، وَلَا
تَجِدُ أَحَدًا مُلَابِسًا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا وَيَعْلُوهُ مِنَ
الْوَحْشَةِ بِحَسْبِ مَا لَابَسَهُ مِنْهُ ، فَتَعْلُو الْوَحْشَةُ
وَجْهَهُ وَقَلْبَهُ فَيَسْتَوْحِشُ وَيُسْتَوْحَشُ مِنْهُ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُمْرِضُ الْقُلُوبَ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تَصْرِفُ الْقَلْبَ عَنْ صِحَّتِهِ
وَاسْتِقَامَتِهِ إِلَى مَرَضِهِ وَانْحِرَافِهِ ، فَلَا يَزَالُ مَرِيضًا
مَعْلُولًا لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَغْذِيَةِ الَّتِي بِهَا حَيَاتُهُ
وَصَلَاحُهُ ، فَإِنَّ تَأْثِيرَ الذُّنُوبِ فِي الْقُلُوبِ كَتَأْثِيرِ
الْأَمْرَاضِ فِي الْأَبْدَانِ ، بَلِ الذُّنُوبُ أَمْرَاضُ الْقُلُوبِ
وَدَاؤُهَا ، وَلَا دَوَاءَ لَهَا إِلَّا تَرْكُهَا .
وَقَدْ أَجْمَعَ
السَّائِرُونَ إِلَى اللَّهِ أَنَّ الْقُلُوبَ لَا تُعْطَى مُنَاهَا حَتَّى
تَصِلَ إِلَى مَوْلَاهَا ، وَلَا تَصِلُ إِلَى مَوْلَاهَا حَتَّى تَكُونَ
صَحِيحَةً سَلِيمَةً ، وَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً سَلِيمَةً حَتَّى
يَنْقَلِبَ دَاؤُهَا ، فَيَصِيرَ نَفْسَ دَوَائِهَا ، وَلَا يَصِحُّ لَهَا
ذَلِكَ إِلَّا بِمُخَالَفَةِ هَوَاهَا ، فَهَوَاهَا مَرَضُهَا ،
وَشِفَاؤُهَا مُخَالَفَتُهُ ، فَإِنِ اسْتَحْكَمَ الْمَرَضُ قَتَلَ أَوْ
كَادَ .
وَكَمَا أَنَّ مَنْ نَهَى نَفْسَهُ عَنِ الْهَوَى كَانَتِ
الْجَنَّةُ مَأْوَاهُ ، فَكَذَا يَكُونُ قَلْبُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فِي
جَنَّةٍ عَاجِلَةٍ ، لَا يُشْبِهُ نَعِيمُ أَهْلِهَا نَعِيمًا الْبَتَّةَ ،
بَلِ التَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ النَّعِيمَيْنِ ، كَالتَّفَاوُتِ
الَّذِي بَيْنَ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا
يُصَدِّقُ بِهِ إِلَّا مَنْ بَاشَرَ قَلْبُهُ هَذَا وَهَذَا .
وَلَا
تَحْسَبُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [ سُورَةُ الِانْفِطَارِ : 13 - 14 ]
مَقْصُورٌ عَلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَجَحِيمِهَا فَقَطْ بَلْ فِي
دُورِهِمُ الثَّلَاثَةِ كَذَلِكَ - أَعْنِي دَارَ الدُّنْيَا ، وَدَارَ
الْبَرْزَخِ ، وَدَارَ الْقَرَارِ - فَهَؤُلَاءِ فِي نَعِيمٍ ، وَهَؤُلَاءِ
فِي جَحِيمٍ ، وَهَلِ النَّعِيمُ إِلَّا نَعِيمُ الْقَلْبِ ؟ وَهَلِ
الْعَذَابُ إِلَّا عَذَابُ الْقَلْبِ ؟ وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ
الْخَوْفِ وَالْهَمِّ وَالْحُزْنِ ، وَضِيقِ الصَّدْرِ ، وَإِعْرَاضِهِ
عَنِ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ ، وَتَعَلُّقِهِ بِغَيْرِ اللَّهِ ،
وَانْقِطَاعِهِ عَنِ اللَّهِ ، بِكُلِّ وَادٍ مِنْهُ شُعْبَةٌ ؟ وَكُلُّ
شَيْءٍ تَعَلَّقَ بِهِ وَأَحَبَّهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَسُومُهُ
سُوءَ الْعَذَابِ .
[ ص: 77 ] فَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ
اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، فَهُوَ
يُعَذَّبُ بِهِ قَبْلَ حُصُولِهِ حَتَّى يَحْصُلَ ، فَإِذَا حَصَلَ عُذِّبَ
بِهِ حَالَ حُصُولِهِ بِالْخَوْفِ مِنْ سَلْبِهِ وَفَوَاتِهِ ،
وَالتَّنْغِيصِ وَالتَّنْكِيدِ عَلَيْهِ ، وَأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ فِي
هَذِهِ الْمُعَارَضَاتِ ، فَإِذَا سُلِبَهُ اشْتَدَّ عَلَيْهِ عَذَابُهُ ،
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ فِي هَذِهِ الدَّارِ .
وَأَمَّا
فِي الْبَرْزَخِ : فَعَذَابٌ يُقَارِنُهُ أَلَمُ الْفِرَاقِ الَّذِي لَا
يَرْجُو عَوْدَةً وَأَلَمُ فَوَاتِ مَا فَاتَهُ مِنَ النَّعِيمِ الْعَظِيمِ
بِاشْتِغَالِهِ بِضِدِّهِ ، وَأَلَمُ الْحِجَابِ عَنِ اللَّهِ ، وَأَلَمُ
الْحَسْرَةِ الَّتِي تَقْطَعُ الْأَكْبَادَ ، فَالْهَمُّ وَالْغَمُّ
وَالْحُزْنُ تَعْمَلُ فِي نُفُوسِهِمْ نَظِيرَ مَا يَعْمَلُ الْهَوَامُّ
وَالدِّيدَانُ فِي أَبْدَانِهِمْ ، بَلْ عَمَلُهَا فِي النُّفُوسِ دَائِمٌ
مُسْتَمِرٌّ ، حَتَّى يَرُدَّهَا اللَّهُ إِلَى أَجْسَادِهَا ، فَحِينَئِذٍ
يَنْتَقِلُ الْعَذَابُ إِلَى نَوْعٍ هُوَ أَدْهَى وَأَمَرُّ ، فَأَيْنَ
هَذَا مِنْ نَعِيمِ مَنْ يَرْقُصُ قَلْبُهُ طَرَبًا وَفَرَحًا وَأُنْسًا
بِرَبِّهِ ، وَاشْتِيَاقًا إِلَيْهِ ، وَارْتِيَاحًا بِحُبِّهِ ،
وَطُمَأْنِينَةً بِذِكْرِهِ ؟ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ فِي حَالِ
نَزْعِهِ : وَاطَرَبَاهُ .
وَيَقُولُ الْآخَرُ : مَسَاكِينُ أَهْلُ
الدُّنْيَا ، خَرَجُوا مِنْهَا وَمَا ذَاقُوا لَذِيذَ الْعَيْشِ فِيهَا ،
وَمَا ذَاقُوا أَطْيَبَ مَا فِيهَا .
وَيَقُولُ الْآخَرُ : لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ لَجَالَدُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ .
وَيَقُولُ الْآخَرُ : إِنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةِ .
فَيَا
مَنْ بَاعَ حَظَّهُ الْغَالِي بِأَبْخَسِ الثَّمَنِ ، وَغُبِنَ كُلَّ
الْغَبْنِ فِي هَذَا الْعَقْدِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ غُبِنَ ، إِذَا
لَمْ يَكُنْ لَكَ خِبْرَةٌ بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ فَسَلِ الْمُقَوِّمِينَ ،
فَيَا عَجَبًا مِنْ بِضَاعَةٍ مَعَكَ اللَّهُ مُشْتَرِيهَا وَثَمَنُهَا
جَنَّةُ الْمَأْوَى ، وَالسَّفِيرُ الَّذِي جَرَى عَلَى يَدِهِ عَقْدُ
التَّبَايُعِ وَضَمِنَ الثَّمَنَ عَنِ الْمُشْتَرِي هُوَ الرَّسُولُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَدْ بِعْتَهَا بِغَايَةِ
الْهَوَانِ ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ :
إِذَا كَانَ هَذَا فِعْلُ عَبْدٍ بِنَفْسِهِ فَمَنْ ذَا لَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يُكْرِمُ
وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [ سُورَةُ الْحَجِّ : 18 ]
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزء الثانى Empty رد: كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزء الثانى {الثلاثاء 24 مايو - 17:24}

فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُعْمِي الْبَصِيرَةَ

وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا :
أَنَّهَا تُعْمِي بَصِيرَةَ الْقَلْبِ ، وَتَطْمِسُ نُورَهُ ، وَتَسُدُّ
طُرُقَ الْعِلْمِ ، وَتَحْجُبُ مَوَادَّ الْهِدَايَةِ .
[ ص: 78 ]
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ لِلشَّافِعِيِّ لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ وَرَأَى تِلْكَ
الْمَخَايِلَ : إِنِّي أَرَى اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَلْقَى عَلَى
قَلْبِكَ نُورًا ، فَلَا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ الْمَعْصِيَةِ .
وَلَا
يَزَالُ هَذَا النُّورُ يَضْعُفُ وَيَضْمَحِلُّ ، وَظَلَامُ الْمَعْصِيَةِ
يَقْوَى حَتَّى يَصِيرَ الْقَلْبُ فِي مِثْلِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ ،
فَكَمْ مِنْ مُهْلَكٍ يَسْقُطُ فِيهِ وَلَا يُبْصِرُ ، كَأَعْمَى خَرَجَ
بِاللَّيْلِ فِي طَرِيقٍ ذَاتِ مَهَالِكَ وَمَعَاطِبَ ، فَيَا عِزَّةَ
السَّلَامَةِ وَيَا سُرْعَةَ الْعَطَبِ ، ثُمَّ تَقْوَى تِلْكَ
الظُّلُمَاتُ ، وَتَفِيضُ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى الْجَوَارِحِ ، فَيَغْشَى
الْوَجْهَ مِنْهَا سَوَادٌ ، بِحَسَبِ قُوَّتِهَا وَتَزَايُدِهَا ، فَإِذَا
كَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ ظَهَرَتْ فِي الْبَرْزَخِ ، فَامْتَلَأَ الْقَبْرُ
ظُلْمَةً ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مُمْتَلِئَةٌ عَلَى أَهْلِهَا ظُلْمَةً ، وَإِنَّ
اللَّهَ يُنَوِّرُهَا بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ .
فَإِذَا كَانَ يَوْمُ
الْمَعَادِ ، وَحُشِرَ الْعِبَادُ ، عَلَتِ الظُّلْمَةُ الْوُجُوهَ
عُلُوًّا ظَاهِرًا يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ ، حَتَّى يَصِيرَ الْوَجْهُ
أَسْوَدَ مِثْلَ الْحُمَمَةِ ، فَيَالَهَا مِنْ عُقُوبَةٍ لَا تُوَازَنُ
لَذَّاتِ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا ،
فَكَيْفَ بِقِسْطِ الْعَبْدِ الْمُنَغَّصِ الْمُنَكَّدِ الْمُتْعَبِ فِي
زَمَنٍ إِنَّمَا هُوَ سَاعَةٌ مِنْ حُلْمٍ ؟ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُصَغِّرُ النَّفْسَ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تُصَغِّرُ النَّفْسَ ، وَتَقْمَعُهَا ،
وَتُدَسِّيهَا ، وَتَحْقِرُهَا ، حَتَّى تَكُونَ أَصْغَرَ كُلِّ شَيْءٍ
وَأَحْقَرَهُ ، كَمَا أَنَّ الطَّاعَةَ تُنَمِّيهَا وَتُزَكِّيهَا
وَتُكَبِّرُهَا ، قَالَ تَعَالَى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ
خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ سُورَةُ الشَّمْسِ : 9 - 10 ] ، وَالْمَعْنَى قَدْ
أَفْلَحَ مَنْ كَبَّرَهَا وَأَعْلَاهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَأَظْهَرَهَا ،
وَقَدْ خَسِرَ مَنْ أَخْفَاهَا وَحَقَّرَهَا وَصَغَّرَهَا بِمَعْصِيَةِ
اللَّهِ .
وَأَصْلُ التَّدْسِيَةِ : الْإِخْفَاءُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [ سُورَةُ النَّحْلِ : 59 ] .
فَالْعَاصِي
يَدُسُّ نَفْسَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ ، وَيُخْفِي مَكَانَهَا ، يَتَوَارَى
مِنَ الْخَلْقِ مِنْ سُوءِ مَا يَأْتِي بِهِ ، وَقَدِ انْقَمَعَ عِنْدَ
نَفْسِهِ ، وَانْقَمَعَ عِنْدَ اللَّهِ ، وَانْقَمَعَ عِنْدَ الْخَلْقِ ،
فَالطَّاعَةُ وَالْبِرُّ تُكَبِّرُ النَّفْسَ وَتُعِزُّهَا وَتُعْلِيهَا ،
حَتَّى تَصِيرَ أَشْرَفَ شَيْءٍ وَأَكْبَرَهُ ، وَأَزْكَاهُ وَأَعْلَاهُ ،
وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ أَذَلُّ شَيْءٍ وَأَحْقَرُهُ وَأَصْغَرُهُ لِلَّهِ
تَعَالَى ، وَبِهَذَا الذُّلِّ حَصَلَ لَهَا هَذَا الْعِزُّ وَالشَّرَفُ
وَالنُّمُوُّ ، فَمَا أَصْغَرَ النُّفُوسَ مِثْلُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ ،
وَمَا كَبَّرَهَا وَشَرَّفَهَا وَرَفَعَهَا مِثْلُ طَاعَةِ اللَّهِ.
[ ص: 79 ]
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي فِي سِجْنِ الشَّيْطَانِ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّ الْعَاصِيَ دَائِمًا فِي أَسْرِ شَيْطَانِهِ ،
وَسِجْنِ شَهَوَاتِهِ ، وَقُيُودِ هَوَاهُ ، فَهُوَ أَسِيرٌ مَسْجُونٌ
مُقَيَّدٌ ، وَلَا أَسِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ أَسِيرٍ أَسَرَهُ أَعْدَى
عَدُوٍّ لَهُ ، وَلَا سِجْنَ أَضْيَقُ مِنْ سِجْنِ الْهَوَى ، وَلَا قَيْدَ
أَصْعَبُ مِنْ قَيْدِ الشَّهْوَةِ ، فَكَيْفَ يَسِيرُ إِلَى اللَّهِ
وَالدَّارِ الْآخِرَةِ قَلْبٌ مَأْسُورٌ مَسْجُونٌ مُقَيَّدٌ ؟ وَكَيْفَ
يَخْطُو خُطْوَةً وَاحِدَةً ؟
وَإِذَا قُيِّدَ الْقَلْبُ طَرَقَتْهُ
الْآفَاتُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِحَسَبِ قُيُودِهِ ، وَمَثَلُ الْقَلْبِ
مَثَلُ الطَّائِرِ ، كُلَّمَا عَلَا بَعُدَ عَنِ الْآفَاتِ ، وَكُلَّمَا
نَزَلَ اسْتَوْحَشَتْهُ الْآفَاتُ .
وَفِي الْحَدِيثِ : الشَّيْطَانُ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ .
وَكَمَا
أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي لَا حَافِظَ لَهَا وَهِيَ بَيْنَ الذِّئَابِ
سَرِيعَةُ الْعَطَبِ ، فَكَذَا الْعَبْدُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ
حَافِظٌ مِنَ اللَّهِفَذِئْبُهُ مُفْتَرِسُهُ وَلَا بُدَّ ، وَإِنَّمَا
يَكُونُ عَلَيْهِ حَافِظٌ مِنَ اللَّهِ بِالتَّقْوَى ، فَهِيَ وِقَايَةٌ
وَجُنَّةٌ ، حَصِينَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذِئْبِهِ ، كَمَا هِيَ وِقَايَةٌ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَكُلَّمَا كَانَتِ
الشَّاةُ أَقْرَبَ مِنَ الرَّاعِي كَانَتْ أَسْلَمَ مِنَ الذِّئْبِ ،
وَكُلَّمَا بَعُدَتْ عَنِ الرَّاعِي كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى الْهَلَاكِ ،
فَأَسْلَمُ مَا تَكُونُ الشَّاةُ إِذَا قَرُبَتْ مِنَ الرَّاعِي ،
وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ مِنَ الْغَنَمِ ، وَهِيَ
أَبْعَدُ مِنَ الرَّاعِي .
وَأَصْلُ هَذَا كُلِّهِ : أَنَّ الْقَلْبَ
كُلَّمَا كَانَ أَبْعَدَ مِنَ اللَّهِ كَانَتِ الْآفَاتُ إِلَيْهِ أَسْرَعَ
، وَكُلَّمَا قَرُبَ مِنَ اللَّهِ بَعُدَتْ عَنْهُالْآفَاتُ .
وَالْبُعْدُ
مِنَ اللَّهِ مَرَاتِبٌ ، بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ ، فَالْغَفْلَةُ
تُبْعِدُ الْقَلْبَ عَنِ اللَّهِ ، وَبُعْدُ الْمَعْصِيَةِ أَعْظَمُ مِنْ
بُعْدِ الْغَفْلَةِ ، وَبُعْدُ الْبِدْعَةِ أَعْظَمُ مِنْ بُعْدِ
الْمَعْصِيَةِ ، وَبُعْدُ النِّفَاقِ وَالشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ
كُلِّهِ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُسْقِطُ الْكَرَامَةَ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : سُقُوطُ الْجَاهِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالْكَرَامَةِ عِنْدَ
اللَّهِ وَعِنْدَ خَلْقِهِ ، فَإِنَّ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاهُمْ ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَطْوَعُهُمْ لَهُ ،
وَعَلَى قَدْرِ طَاعَةِ الْعَبْدِ تَكُونُ لَهُ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ ،
فَإِذَا عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ سَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ ، فَأَسْقَطَهُ
مِنْ قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ جَاهٌ عِنْدَ
الْخَلْقِوَهَانَ عَلَيْهِمْ عَامَلُوهُ عَلَى حَسْبِ ذَلِكَ ، فَعَاشَ
بَيْنَهُمْ أَسْوَأَ عَيْشٍ خَامِلَ الذِّكْرِ ، [ ص: 80 ] سَاقِطَ
الْقَدْرِ ، زَرِيَّ الْحَالِ ، لَا حُرْمَةَ لَهُ وَلَا فَرَحَ لَهُ وَلَا
سُرُورَ ، فَإِنَّ خُمُولَ الذِّكْرِ وَسُقُوطَ الْقَدْرِ وَالْجَاهِ
مَعَهُ كُلُّ غَمٍّ وَهَمٍّ وَحَزَنٍ ، وَلَا سُرُورَ مَعَهُ وَلَا فَرَحَ ،
وَأَيْنَ هَذَا الْأَلَمُ مِنْ لَذَّةِ الْمَعْصِيَةِ لَوْلَا سُكْرُ
الشَّهْوَةِ ؟
وَمِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ : أَنْ
يَرْفَعَ لَهُ بَيْنَ الْعَالَمِينَ ذِكْرَهُ ، وَيُعْلِي قَدْرَهُ ،
وَلِهَذَا خَصَّ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا لَيْسَ
لِغَيْرِهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا
أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ سُورَةُ ص 45 : - 46 ] .
أَيْ
: خَصَصْنَاهُمْ بِخِصِّيصَةٍ ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْجَمِيلُ الَّذِي
يُذْكَرُونَ بِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، وَهُوَ لِسَانُ الصِّدْقِ الَّذِي
سَأَلَهُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ
قَالَ : وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [ سُورَةُ
الشُّعَرَاءِ : 84 ] .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهُ وَعَنْ
بَنِيهِ : وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ
صِدْقٍ عَلِيًّا [ سُورَةُ مَرْيَمَ : 50 ] .
وَقَالَ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [ سُورَةُ الشَّرْحِ : 4 ] .
فَأَتْبَاعُ
الرُّسُلِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمْ مِنْ
طَاعَتِهِمْ وَمُتَابَعَتِهِمْ ، وَكُلُّ مَنْ خَالَفَهُمْ فَإِنَّهُ
بَعِيدٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مُخَالَفَتِهِمْ وَمَعْصِيَتِهِمْ
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزء الثانى Empty رد: كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزء الثانى {الثلاثاء 24 مايو - 17:25}

فَصْلٌ: الْمَعْصِيَةُ مَجْلَبَةٌ لِلذَّمِّ

وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا :
أَنَّهَا تَسْلُبُ صَاحِبَهَا أَسْمَاءَ الْمَدْحِ وَالشَّرَفِ ،
وَتَكْسُوهُ أَسْمَاءَ الذَّمِّ وَالصَّغَارِ ، فَتَسْلُبُهُ اسْمَ
الْمُؤْمِنِ ، وَالْبَرِّ ، وَالْمُحْسِنِ ، وَالْمُتَّقِي ، وَالْمُطِيعِ ،
وَالْمُنِيبِ ، وَالْوَلِيِّ ، وَالْوَرِعِ ، وَالصَّالِحِ ، وَالْعَابِدِ
، وَالْخَائِفِ ، وَالْأَوَّابِ ، وَالطَّيِّبِ ، وَالْمَرَضِيِّ
وَنَحْوِهَا .
وَتَكْسُوهُ اسْمَ الْفَاجِرِ ، وَالْعَاصِي ،
وَالْمُخَالِفِ ، وَالْمُسِيءِ ، وَالْمُفْسِدِ ، وَالْخَبِيثِ ،
وَالْمَسْخُوطِ ، وَالزَّانِي ، وَالسَّارِقِ ، وَالْقَاتِلِ ،
وَالْكَاذِبِ ، وَالْخَائِنِ ، وَاللُّوطِيِّ ، وَقَاطِعِ الرَّحِمِ ،
وَالْغَادِرِ وَأَمْثَالِهَا .
[ ص: 81 ] فَهَذِهِ أَسْمَاءُ الْفُسُوقِ
وَ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [ سُورَةُ الْحُجُرَاتِ
: 11 ] الَّذِي يُوجِبُ غَضَبَ الدَّيَّانِ ، وَدُخُولَ النِّيرَانِ ،
وَعَيْشَ الْخِزْيِ وَالْهَوَانِ .
وَتِلْكَ أَسْمَاءٌ تُوجِبُ رِضَاءَ
الرَّحْمَنِ ، وَدُخُولَ الْجِنَانِ ، وَتُوجِبُ شَرَفَ الْمُسَمَّى بِهَا
عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِنْسَانِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي عُقُوبَةِ
الْمَعْصِيَةِ إِلَّا اسْتِحْقَاقُ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَمُوجِبَاتِهَا
لَكَانَ فِي الْعَقْلِ نَاهٍ عَنْهَا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ثَوَابِ
الطَّاعَةِ إِلَّا الْفَوْزُ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَمُوجِبَاتِهَا
لَكَانَ فِي الْعَقْلِ آمِرٌ بِهَا ، وَلَكِنْ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى
اللَّهُ ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدَ ،
وَلَا مُبْعِدَ لِمَنْ قَرَّبَ ، وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ
مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [ سُورَةُ الْحَجِّ : 18 ]
فَصْلٌ: الْمَعْصِيَةُ تُؤَثِّرُ فِي الْعَقْلِ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تُؤَثِّرُ بِالْخَاصَّةِ فِي نُقْصَانِ
الْعَقْلِ ، فَلَا تَجِدُ عَاقِلَيْنِ أَحَدُهُمَا مُطِيعٌ لِلَّهِ
وَالْآخَرُ عَاصٍ ، إِلَّا وَعَقْلُ الْمُطِيعِ مِنْهُمَا أَوْفَرُ
وَأَكْمَلُ ، وَفِكْرُهُ أَصَحُّ ، وَرَأْيُهُ أَسَدُّ ، وَالصَّوَابُ
قَرِينُهُ .
وَلِهَذَا تَجِدُ خِطَابَ الْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ مَعَ
أُولِي الْعُقُولِ وَالْأَلْبَابِ ، كَقَوْلِهِ : وَاتَّقُونِ يَاأُولِي
الْأَلْبَابِ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 197 ] ، وَقَوْلِهِ : فَاتَّقُوا
اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ سُورَةُ
الْمَائِدَةِ : 100 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو
الْأَلْبَابِ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 269 ] ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ
كَثِيرَةٌ .
وَكَيْفَ يَكُونُ عَاقِلًا وَافِرَ الْعَقْلِ مَنْ يَعْصِي
مَنْ هُوَ فِي قَبْضَتِهِ وَفِي دَارِهِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَرَاهُ
وَيُشَاهِدُهُ فَيَعْصِيهِ وَهُوَ بِعَيْنِهِ غَيْرُ مُتَوَارٍ عَنْهُ ،
وَيَسْتَعِينُ بِنِعَمِهِ عَلَى مَسَاخِطِهِ ، وَيَسْتَدْعِي كُلَّ وَقْتٍ
غَضَبَهُ عَلَيْهِ ، وَلَعْنَتَهُ لَهُ ، وَإِبْعَادَهُ مِنْ قُرْبِهِ ،
وَطَرْدَهُ عَنْ بَابِهِ ، وَإِعْرَاضَهُ عَنْهُ ، وَخِذْلَانَهُ لَهُ ،
وَالتَّخْلِيَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَعَدُوِّهِ ، وَسُقُوطَهُ
مِنْ عَيْنِهِ ، وَحِرْمَانَهُ رُوحَ رِضَاهُ [ ص: 82 ] وَحُبَّهُ ،
وَقُرَّةَ الْعَيْنِ بِقُرْبِهِ ، وَالْفَوْزَ بِجِوَارِهِ ، وَالنَّظَرَ
إِلَى وَجْهِهِ فِي زُمُرَةِ أَوْلِيَائِهِ ، إِلَى أَضْعَافِ أَضْعَافِ
ذَلِكَ مِنْ كَرَامَتِهِ أَهْلَ الطَّاعَةِ ، وَأَضْعَافِ أَضْعَافِ ذَلِكَ
مِنْ عُقُوبَةِ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ .
فَأَيُّ عَقْلٍ لِمَنْ آثَرَ
لَذَّةَ سَاعَةٍ أَوْ يَوْمٍ أَوْ دَهْرٍ ، ثُمَّ تَنْقَضِي كَأَنَّهَا
حُلْمٌ لَمْ يَكُنْ ، عَلَى هَذَا النَّعِيمِ الْمُقِيمِ ، وَالْفَوْزِ
الْعَظِيمِ ؟ بَلْ هُوَ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَلَوْلَا
الْعَقْلُ الَّذِي تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ
الْمَجَانِينِ ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْمَجَانِينُ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُ
وَأَسْلَمَ عَاقِبَةً ، فَهَذَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَأَمَّا
تَأْثِيرُهَا فِي نُقْصَانِ الْعَقْلِ الْمَعِيشِ ، فَلَوْلَا
الِاشْتِرَاكُ فِي هَذَا النُّقْصَانِ ، لَظَهَرَ لِمُطِيعِنَا نُقْصَانُ
عَقْلِ عَاصِينَا ، وَلَكِنَّ الْجَائِحَةَ عَامَّةٌ ، وَالْجُنُونَ
فُنُونٌ .
وَيَا عَجَبًا لَوْ صَحَّتِ الْعُقُولُ لَعَلِمَتْ أَنَّ
طَرِيقَ تَحْصِيلِ اللَّذَّةِ وَالْفَرْحَةِ وَالسُّرُورِ وَطِيبِ
الْعَيْشِ ، إِنَّمَا هُوَ فِي رِضَاءِ مَنِ النَّعِيمُ كُلُّهُ فِي
رِضَاهُ ، وَالْأَلَمُ وَالْعَذَابُ كُلُّهُ فِي سُخْطِهِ وَغَضَبِهِ ،
فَفِي رِضَاهُ قُرَّةُ الْعُيُونِ ، وَسُرُورُ النُّفُوسِ ،
وَحَيَاةُالْقُلُوبِ ، وَلَذَّةُ الْأَرْوَاحِ ، وَطِيبُ الْحَيَاةِ ،
وَلَذَّةُ الْعَيْشِ ، وَأَطْيَبُ النَّعِيمِ ، وَمِمَّا لَوْ وُزِنَ
مِنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ بِنَعِيمِالدُّنْيَا لَمْ يَفِ بِهِ ، بَلْ إِذَا
حَصَلَ لِلْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ أَيْسَرُ نَصِيبٍ لَمْ يَرْضَ بِالدُّنْيَا
وَمَا فِيهَا عِوَضًا مِنْهُ ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ يَتَنَعَّمُ
بِنَصِيبِهِ مِنَ الدُّنْيَا أَعْظَمَ مِنْ تَنَعُّمِ الْمُتْرَفِينَ
فِيهَا ، وَلَا يَشُوبُ تَنَعُّمَهُ بِذَلِكَ الْحَظِّ الْيَسِيرِ مَا
يَشُوبُ تَنَعُّمَ الْمُتْرَفِينَ مِنَ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ
وَالْأَحْزَانِ الْمُعَارِضَاتِ ، بَلْ قَدْ حَصَلَ لَهُ عَلَى
النَّعِيمَيْنِ وَهُوَ يَنْتَظِرُ نَعِيمَيْنِ آخَرَيْنِ أَعْظَمَ
مِنْهُمَا ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الْآلَامِ ،
فَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ
فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا
لَا يَرْجُونَ [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 104 ] .
فَلَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ مَا أَنْقَصَ عَقْلَ مَنْ بَاعَ الدُّرَّ بِالْبَعْرِ ،
وَالْمِسْكَ بِالرَّجِيعِ ، وَمُرَافَقَةَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْمِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ ، بِمُرَافَقَةِ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُوجِبُ الْقَطِيعَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ

وَمِنْ
أَعْظَمِ عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تُوجِبُ الْقَطِيعَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ
وَبَيْنَ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَإِذَا وَقَعَتِ الْقَطِيعَةُ
انْقَطَعَتْعَنْهُ أَسْبَابُ الْخَيْرِ وَاتَّصَلَتْ بِهِ أَسْبَابُ
الشَّرِّ ، فَأَيُّ فَلَاحٍ ، وَأَيُّ رَجَاءٍ ، وَأَيُّ عَيْشٍ لِمَنِ
انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَسْبَابُ الْخَيْرِ ، وَقَطَعَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
وَلِيِّهِ وَمَوْلَاهُ الَّذِي لَا غِنَى عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وَلَا
بَدَلَ لَهُ مِنْهُ ، وَلَا عِوَضَ لَهُ عَنْهُ ، وَاتَّصَلَتْ بِهِ
أَسْبَابُ الشَّرِّ ، وَوَصَلَ مَا بَيْنَهُ [ ص: 83 ] وَبَيْنَ أَعْدَى
عَدُوٍّ لَهُ : فَتَوَلَّاهُ عَدُوُّهُ وَتَخَلَّى عَنْهُ وَلِيُّهُ ؟
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا فِي هَذَا الِانْقِطَاعِ وَالِاتِّصَالِ مِنْ
أَنْوَاعِ الْآلَامِ وَأَنْوَاعِ الْعَذَابِ .
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ :
رَأَيْتُ الْعَبْدَ مُلْقًى بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ
الشَّيْطَانِ ، فَإِنْ أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَلَّاهُ الشَّيْطَانُ ،
وَإِنْ تَوَلَّاهُ اللَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ ، وَقَدْ
قَالَ تَعَالَى : وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُأَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ
لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [ سُورَةُ الْكَهْفِ : 50 ] .
يَقُولُ
سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ : أَنَا أَكْرَمْتُ أَبَاكُمْ ، وَرَفَعْتُ
قَدْرَهُ ، وَفَضَّلْتُهُ عَلَى غَيْرِهِ ، فَأَمَرْتُ مَلَائِكَتِي
كُلَّهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ ، تَكْرِيمًا لَهُ وَتَشْرِيفًا ،
فَأَطَاعُونِي ، وَأَبَى عَدُوِّي وَعَدُوُّهُ ، فَعَصَى أَمْرِي ،
وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِي ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ بِكُمْ بَعْدَ هَذَا أَنْ
تَتَّخِذُوهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ، فَتُطِيعُونَهُ فِي
مَعْصِيَتِي ، وَتُوَالُونَهُ فِي خِلَافِ مَرْضَاتِي وَهُمْ أَعْدَى
عَدُوٍّلَكُمْ ؟ فَوَالَيْتُمْ عَدُوِّي وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ
بِمُعَادَاتِهِ ، وَمَنْ وَالَى أَعْدَاءَ الْمَلِكِ ، كَانَ هُوَ
وَأَعْدَاؤُهُ عِنْدَهُ سَوَاءً ، فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ وَالطَّاعَةَ لَا
تَتِمُّ إِلَّا بِمُعَادَاةِ أَعْدَاءِ الْمُطَاعِ وَمُوَالَاةِ
أَوْلِيَائِهِ ، وَأَمَّا أَنْ تُوَالِيَ أَعْدَاءَ الْمَلِكِ ثُمَّ
تَدَّعِي أَنَّكَ مُوَالٍ لَهُ ، فَهَذَا مُحَالٌ .
هَذَا لَوْ لَمْ
يَكُنْ عَدُوُّ الْمَلِكِ عَدُوًّا لَكُمْ ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ
عَدُوَّكُمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَالْعَدَاوَةُ الَّتِي بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُ أَعْظَمُ مِنَ الْعَدَاوَةِ الَّتِي بَيْنَ الشَّاةِ وَبَيْنَ
الذِّئْبِ ؟ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يُوَالِيَ عَدُوَّهُ
عَدُوَّ وَلِيِّهِ وَمَوْلَاهُ الَّذِي لَا مَوْلَى لَهُ سِوَاهُ ،
وَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى قُبْحِ هَذِهِ الْمُوَالَاةِ بِقَوْلِهِ :
وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [ سُورَةُ الْكَهْفِ : 50 ] ، كَمَا نَبَّهَ عَلَى
قُبْحِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [ سُورَةُ
الْكَهْفِ : 50 ] ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَدَاوَتَهُ لِرَبِّهِ وَعَدَاوَتَهُ
لَنَا ، كُلٌّ مِنْهُمَا سَبَبٌ يَدْعُو إِلَى مُعَادَاتِهِ ، فَمَا
هَذِهِ الْمُوَالَاةُ ؟ وَمَا هَذَا الِاسْتِبْدَالُ ؟ بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا .
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ هَذَا
الْخِطَابِ نَوْعٌ مِنَ الْعِتَابِ لَطِيفٌ عَجِيبٌ وَهُوَ أَنِّي
عَادَيْتُ إِبْلِيسَ إِذْ لَمْ يَسْجُدْ لِأَبِيكُمْ آدَمَ مَعَ
مَلَائِكَتِي فَكَانَتْ مُعَادَاتُهُ لِأَجْلِكُمْ ، ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةُ
هَذِهِ الْمُعَادَاةِ أَنْ عَقَدْتُمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ عَقْدَ
الْمُصَالَحَةِ
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تَمْحَقُ الْبَرَكَةَ

[ ص: 84 ]
وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تَمْحَقُ بَرَكَةَ الْعُمُرِ ، وَبَرَكَةَ
الرِّزْقِ ، وَبَرَكَةَ الْعِلْمِ ، وَبَرَكَةَ الْعَمَلِ ، وَبَرَكَةَ
الطَّاعَةِ .
وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّهَا تَمْحَقُ بَرَكَةَ الدِّينِ
وَالدُّنْيَا ، فَلَا تَجِدُ أَقَلَّ بَرَكَةٍ فِي عُمُرِهِ وَدِينِهِ
وَدُنْيَاهُ مِمَّنْ عَصَى اللَّهَ ، وَمَا مُحِقَتِ الْبَرَكَةُ مِنَ
الْأَرْضِ إِلَّا بِمَعَاصِي الْخَلْقِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [ الْأَعْرَافِ : 96 ] .
وَقَالَ
تَعَالَى : وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [ الْجِنِّ : 16 -
17 ] .
وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ .
وَفِي
الْحَدِيثِ : إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَنْ
تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، فَإِنَّهُ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَ اللَّهِ
إِلَّا بِطَاعَتِهِ ، وَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي
الرِّضَى وَالْيَقِينِ ، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ
وَالسُّخْطِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْأَثَرُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَدُ
فِي كِتَابِ الزُّهْدِ : أَنَا اللَّهُ ، إِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ ،
وَلَيْسَ لِبَرَكَتِي مُنْتَهًى ، وَإِذَا غَضِبْتُ لَعَنْتُ ، وَلَعْنَتِي
تُدْرِكُ السَّابِعَ مِنَ الْوَلَدِ .
وَلَيْسَتْ سَعَةُ الرِّزْقِ
وَالْعَمَلِ بِكَثْرَتِهِ ، وَلَا طُولُ الْعُمُرِ بِكَثْرَةِ الشُّهُورِ
وَالْأَعْوَامِ ، وَلَكِنَّ سَعَةَ الرِّزْقِ وَطُولَ الْعُمُرِ
بِالْبَرَكَةِ فِيهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُمْرَ الْعَبْدِ هُوَ
مُدَّةُ حَيَاتِهِ ، وَلَا حَيَاةَ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ
وَاشْتَغَلَ بِغَيْرِهِ ، بَلْ حَيَاةُ الْبَهَائِمِ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ
، فَإِنَّ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ بِحَيَاةِ قَلْبِهِ وَرُوحِهِ ، وَلَا
حَيَاةَ لِقَلْبِهِ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ فَاطِرِهِ ، وَمَحَبَّتِهِ ،
وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ ، وَالطُّمَأْنِينَةِ
بِذِكْرِهِ ، وَالْأُنْسِ بِقُرْبِهِ ، وَمَنْ فَقَدَ هَذِهِ الْحَيَاةَ
فَقَدَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَوْ تَعَرَّضَ عَنْهَا بِمَا تَعَوَّضَ
مِمَّا فِي الدُّنْيَا ، بَلْ لَيْسَتِ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا عِوَضًا
عَنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ ، فَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَفُوتُ الْعَبْدَ عِوَضٌ ،
وَإِذَا فَاتَهُ اللَّهُ لَمْ يُعَوِّضْ عَنْهُ شَيْءٌ الْبَتَّةَ .
وَكَيْفَ
يُعَوَّضُ الْفَقِيرُ بِالذَّاتِ عَنِ الْغَنِيِّ بِالذَّاتِ ،
وَالْعَاجِزُ بِالذَّاتِ عَنِ الْقَادِرِ بِالذَّاتِ ، وَالْمَيِّتُ عَنِ
الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ، وَالْمَخْلُوقُ عَنِ الْخَالِقِ ، وَمَنْ
لَا وُجُودَ لَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ [ ص: 85 ] ذَاتِهِ الْبَتَّةَ
عَمَّنْ غِنَاهُ وَحَيَاتُهُ وَكَمَالُهُ وَوُجُودُهُ وَرَحْمَتُهُ مِنْ
لَوَازِمِ ذَاتِهِ ؟ وَكَيْفَ يُعَوَّضُ مَنْ لَا يَمْلِكُ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ عَمَّنْ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .
وَإِنَّمَا
كَانَتْ مَعْصِيَةُ اللَّهِ سَبَبًا لِمَحْقِ بَرَكَةِ الرِّزْقِ
وَالْأَجَلِ ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ مُوَكَّلٌ بِهَا وَبِأَصْحَابِهَا ،
فَسُلْطَانُهُ عَلَيْهِمْ ، وَحَوَالَتُهُ عَلَى هَذَا الدِّيوَانِ
وَأَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَتَّصِلُ بِهِ الشَّيْطَانُ
وَيُقَارِنُهُ ، فَبَرَكَتُهُ مَمْحُوقَةٌ ، وَلِهَذَا شُرِعَ ذِكْرُ اسْمِ
اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ
وَالْجِمَاعِ لِمَا فِي مُقَارَنَةِ اسْمِ اللَّهِ مِنَ الْبَرَكَةِ ،
وَذِكْرُ اسْمِهِ يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ فَتَحْصُلُ الْبَرَكَةُ وَلَا
مُعَارِضَ لَهُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ لَا يَكُونُ لِلَّهِ فَبَرَكَتُهُ
مَنْزُوعَةٌ ، فَإِنَّ الرَّبَّ هُوَ الَّذِي يُبَارِكُ وَحْدَهُ ،
وَالْبَرَكَةُ كُلُّهَا مِنْهُ ، وَكُلُّ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ مُبَارَكٌ ،
فَكَلَامُهُ مُبَارَكٌ ، وَرَسُولُهُ مُبَارَكٌ ، وَعَبْدُهُ الْمُؤْمِنُ
النَّافِعُ لِخَلْقِهِ مُبَارَكٌ ، وَبَيْتُهُ الْحَرَامُ مُبَارَكٌ ،
وَكِنَانَتُهُ مِنْ أَرْضِهِ ، وَهِيَ الشَّامُ أَرْضُ الْبَرَكَةِ ،
وَصَفَهَا بِالْبَرَكَةِ فِي سِتِّ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ، فَلَا
مُبَارِكَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ ، وَلَا مُبَارَكَ إِلَّا مَا نُسِبَ
إِلَيْهِ ، أَعْنِي إِلَى أُلُوهِيَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ ،
وَإِلَّا فَالْكَوْنُ كُلُّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَخَلْقِهِ ،
وَكُلُّ مَا بَاعَدَهُ مِنْ نَفْسِهِ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَقْوَالِ
وَالْأَعْمَالِ فَلَا بَرَكَةَ فِيهِ ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ ، وَكُلُّ مَا
كَانَ مِنْهُ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ مِنَ الْبَرَكَةِ عَلَى حَسَبِ
قُرْبِهِ مِنْهُ .
وَضِدُّ الْبَرَكَةِ اللَّعْنَةُ ؛ فَأَرْضٌ
لَعَنَهَا اللَّهُ أَوْ شَخْصٌ لَعَنَهُ اللَّهُ أَوْ عَمَلٌ لَعَنَهُ
اللَّهُ أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ ، وَكُلَّمَا
اتَّصَلَ بِذَلِكَ وَارْتَبَطَ بِهِ وَكَانَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ فَلَا
بَرَكَةَ فِيهِ الْبَتَّةَ .
وَقَدْ لَعَنَ عَدُوَّهُ إِبْلِيسَ
وَجَعَلَهُ أَبْعَدَ خَلْقِهِ مِنْهُ ، فَكُلُّ مَا كَانَ جِهَتَهُ فَلَهُ
مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ بِقَدْرِ قُرْبِهِ وَاتِّصَالِهِ بِهِ ، فَمِنْ
هَاهُنَا كَانَ لِلْمَعَاصِي أَعْظَمُ تَأْثِيرٍ فِي مَحْقِ بَرَكَةِ
الْعُمُرِ وَالرِّزْقِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ ، وَكُلُّ وَقْتٍ عَصَيْتَ
اللَّهَفِيهِ ، أَوْ مَالٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ ، أَوْ بَدَنٍ أَوْ جَاهٍ
أَوْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ فَهُوَ عَلَى صَاحِبِهِ لَيْسَ لَهُ ، فَلَيْسَ
لَهُ مِنْ عُمُرِهِ وَمَالِهِ وَقُوَّتِهِ وَجَاهِهِ وَعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ
إِلَّا مَا أَطَاعَ اللَّهَ بِهِ .
وَلِهَذَا مِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعِيشُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ نَحْوَهَا ، وَيَكُونُ
عُمُرُهُ لَا يَبْلُغُ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا ، كَمَا أَنَّ
مِنْهُمْ مَنْ يَمْلِكُ الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةَ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَيَكُونُ مَالُهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَبْلُغُ أَلْفَ
دِرْهَمٍ أَوْ نَحْوَهَا ، وَهَكَذَا الْجَاهُ وَالْعِلْمُ .
وَفِي
التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدُّنْيَا
مَلْعُونَةٌ ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا ، إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا
وَالَاهُ ، أَوْ عَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ .
وَفِي أَثَرٍ آخَرَ :
الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ
فَهَذَا هُوَ الَّذِي فِيهِ الْبَرَكَةُ خَاصَّةً ، وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ: الْمَعْصِيَةُ تَجْعَلُ صَاحِبَهَا مِنَ السَّفَلَةِ

[ ص: 86 ]
وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تَجْعَلُ صَاحِبَهَا مِنَ السَّفَلَةِ بَعْدَ
أَنْ كَانَ مُهَيَّئًا لِأَنْ يَكُونَ مِنَ الْعِلْيَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ
خَلَقَ خَلْقَهُ قِسْمَيْنِ : عِلْيَةً ، وَسَفَلَةً ، وَجَعَلَ
عِلِّيِّينَ مُسْتَقَرَّ الْعِلْيَةِ ، وَأَسْفَلَ سَافِلِينَ مُسْتَقَرَّ
السَّفَلَةِ ، وَجَعَلَ أَهْلَ طَاعَتِهِالْأَعْلَيْنَ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ ، وَأَهْلَ مَعْصِيَتِهِ الْأَسْفَلِينَ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ ، كَمَا جَعَلَ أَهْلَ طَاعَتِهِ أَكْرَمَ خَلْقِهِعَلَيْهِ ،
وَأَهْلَ مَعْصِيَتِهِ أَهْوَنَ خَلْقِهِ عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ الْعِزَّةَ
لِهَؤُلَاءِ ، وَالذِّلَّةَ وَالصَّغَارَ لِهَؤُلَاءِ ، كَمَا فِي مُسْنَدِ
أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ
بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ،
وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي
فَكُلَّمَا
عَمِلَ الْعَبْدُ مَعْصِيَةً نَزَلَ إِلَى أَسْفَلَ ، دَرَجَةً ، وَلَا
يَزَالُ فِي نُزُولٍ حَتَّى يَكُونَ مِنَ الْأَسْفَلِينَ ، وَكُلَّمَا
عَمِلَ طَاعَةً ارْتَفَعَ بِهَا دَرَجَةً ، وَلَا يَزَالُ فِي ارْتِفَاعٍ
حَتَّى يَكُونَ مِنَ الْأَعْلَيْنَ .
وَقَدْ يَجْتَمِعُ لِلْعَبْدِ فِي
أَيَّامِ حَيَاتِهِ الصُّعُودُ مِنْ وَجْهٍ ، وَالنُّزُولُ مِنْ وَجْهٍ ،
وَأَيُّهُمَا كَانَ أَغْلَبَ عَلَيْهِ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ ، فَلَيْسَ مَنْ
صَعِدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ وَنَزَلَ دَرَجَةً وَاحِدَةً ، كَمَنْ كَانَ
بِالْعَكْسِ .
وَلَكِنْ يَعْرِضُ هَاهُنَا لِلنُّفُوسِ غَلَطٌ عَظِيمٌ ،
وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَنْزِلُ نُزُولًا بَعِيدًا أَبْعَدَ مِمَّا
بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَمِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ ، فَلَا يَفِي صُعُودُهُ أَلْفَ دَرَجَةٍ بِهَذَا النُّزُولِ
الْوَاحِدِ ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ الْعَبْدَ لِيَتَكَلَّمُ
بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي
النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ .
فَأَيُّ
صُعُودٍ يُوَازِنُ هَذِهِ النَّزْلَةَ ؟ وَالنُّزُولُ أَمْرٌ لَازِمٌ
لِلْإِنْسَانِ ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ نُزُولُهُ إِلَى
غَفْلَةٍ ، فَهَذَا مَتَى اسْتَيْقَظَ مِنْ غَفْلَتِهِ عَادَ إِلَى
دَرَجَتِهِ ، أَوْ إِلَى أَرْفَعَ مِنْهَا بِحَسْبَ يَقَظَتِهِ .
وَمِنْهُمْ
مَنْ يَكُونُ نُزُولُهُ إِلَى مُبَاحٍ لَا يَنْوِي بِهِ الِاسْتِعَانَةَ
عَلَى الطَّاعَةِ ، فَهَذَا مَتَى رَجَعَ إِلَى الطَّاعَةِ فَقَدْ يَعُودُ
إِلَى دَرَجَتِهِ ، وَقَدْ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا ، وَقَدْ يَرْتَفِعُ
عَنْهَا ، فَإِنَّهُ قَدْ يَعُودُ أَعْلَى هِمَّةً مِمَّا كَانَ ، وَقَدْ
يَكُونُ أَضْعَفَ هِمَّةً ، وَقَدْ تَعُودُ هِمَّتُهُ كَمَا كَانَتْ .
وَمِنْهُمْ
مَنْ يَكُونُ نُزُولُهُ إِلَى مَعْصِيَةٍ ، إِمَّا صَغِيرَةٍ أَوْ
كَبِيرَةٍ ، فَهَذَا يَحْتَاجُ فِي عَوْدِهِ إِلَى دَرَجَتِهِ إِلَى
تَوْبَةٍ نَصُوحٍ ، وَإِنَابَةٍ صَادِقَةٍ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ
يَعُودُ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِلَى دَرَجَتِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا ،
بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ [ ص: 87 ] تَمْحُو أَثَرَ الذَّنْبِ ،
وَتَجْعَلُ وَجُودَهُ كَعَدَمِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ، أَوْ لَا
يَعُودُ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تَأْثِيرُهَا فِي
إِسْقَاطِالْعُقُوبَةِ ، وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الَّتِي فَاتَتْهُ فَإِنَّهُ
لَا يَصِلُ إِلَيْهَا .
قَالُوا : وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ : أَنَّهُ كَانَ
مُسْتَعِدًّا بِاشْتِغَالِهِ بِالطَّاعَةِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي عَصَى
فِيهِ لِصُعُودٍ آخَرَ وَارْتِقَاءٍ تَحْمِلُهُ أَعْمَالُهُ السَّالِفَةُ ،
بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ الرَّجُلِ كُلَّ يَوْمٍ بِجُمْلَةِ مَالِهِ الَّذِي
يَمْلِكُهُ ، وَكُلَّمَا تَضَّاعَفَ الْمَالُ تَضَّاعَفَ الرِّبْحُ ،
فَقَدْ رَاحَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ الْمَعْصِيَةِ ارْتِفَاعٌ وَرِبْحٌ
تَحْمِلُهُ أَعْمَالُهُ ، فَإِذَا اسْتَأْنَفَ الْعَمَلَ اسْتَأْنَفَ
صُعُودًا مِنْ نُزُولٍ ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ صَاعِدًا مِنْ أَسْفَلَ
إِلَى أَعْلَى ، وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ عَظِيمٌ .
قَالُوا : وَمَثَلُ
ذَلِكَ رَجُلَانِ يَرْتَقِيَانِ فِي سُلَّمَيْنِ لَا نِهَايَةَ لَهُمَا ،
وَهُمَا سَوَاءٌ ، فَنَزَلَ أَحَدُهُمَا إِلَى أَسْفَلَ ، وَلَوْ دَرَجَةٍ
وَاحِدَةٍ ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الصُّعُودَ ، فَإِنَّ الَّذِي لَمْ يَنْزِلْ
يَعْلُو عَلَيْهِ وَلَا بُدَّ .
وَحَكَمَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ حُكْمًا مَقْبُولًا فَقَالَ :
التَّحْقِيقُ
أَنَّ مِنَ التَّائِبِينَ مَنْ يَعُودُ إِلَى أَرْفَعَ مِنْ دَرَجَتِهِ ،
وَمِنْهُمْ مِنْ يَعُودُ إِلَى مِثْلِ دَرَجَتِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا
يَصِلُ إِلَى دَرَجَتِهِ .
قُلْتُ : وَهَذَا بِحَسْبِ قُوَّةِ
التَّوْبَةِ وَكَمَالِهَا ، وَمَا أَحْدَثَتْهُ الْمَعْصِيَةُ لِلْعَبْدِ
مِنَ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالْإِنَابَةِ ، وَالْحَذَرِوَالْخَوْفِ مِنَ
اللَّهِ ، وَالْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، فَقَدْ تَقْوَى هَذِهِ
الْأُمُورُ ، حَتَّى يَعُودَ التَّائِبُ إِلَى أَرْفَعَ مِنْ دَرَجَتِهِ ،
وَيَصِيرَ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ ،
فَهَذَا قَدْ تَكُونُ الْخَطِيئَةُ فِي حَقِّهِ رَحْمَةً ، فَإِنَّهَا
نَفَتْ عَنْهُ دَاءَ الْعُجْبِ، وَخَلَّصَتْهُ مِنْ ثِقَتِهِ بِنَفْسِهِ
وَإِدْلَالِهِ بِأَعْمَالِهِ ، وَوَضَعَتْ خَدَّ ضَرَاعَتِهِ وَذُلَّهُ
وَانْكِسَارَهُ عَلَى عَتَبَةِ بَابِ سَيِّدِهِ وَمَوْلَاهُ ،
وَعَرَّفَتْهُ قَدْرَهُ ، وَأَشْهَدَتْهُ فَقْرَهُ وَضَرُورَتَهُ إِلَى
حِفْظِ مَوْلَاهُ لَهُ ، وَإِلَى عَفْوِهِ عَنْهُ وَمَغْفِرَتِهِ لَهُ ،
وَأَخْرَجَتْ مِنْ قَلْبِهِ صَوْلَةَ الطَّاعَةِ ، وَكَسَرَتْ أَنْفَهُ
مِنْ أَنْ يَشْمَخَ بِهَا أَوْ يَتَكَبَّرَ بِهَا ، أَوْ يَرَى نَفْسَهُ
بِهَا خَيْرًا مِنْ غَيْرِهِ ، وَأَوْقَفَتْهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ
مَوْقِفَ الْخَطَّائِينَ الْمُذْنِبِينَ ، نَاكِسَ الرَّأْسِ بَيْنَ يَدَيْ
رَبِّهِ ، مُسْتَحِيًا خَائِفًا مِنْهُ وَجِلًا ، مُحْتَقِرًا لِطَاعَتِهِ
مُسْتَعْظِمًا لِمَعْصِيَتِهِ ، عَرَفَ نَفْسَهُ بِالنَّقْصِ وَالذَّمِّ .
وَرَبُّهُ مُتَفَرِّدٌ بِالْكَمَالِ وَالْحَمْدِ وَالْوَفَاءِ كَمَا قِيلَ
:
اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ وَبِالْحَمْدِ *** وَوَلَّى الْمَلَامَةَ الرَّجُلَا
فَأَيُّ
نِعْمَةٍ وَصَلَتْ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ اسْتَكْثَرَهَا عَلَى نَفْسِهِ
وَرَأَى نَفْسَهُ دُونَهَا وَلَمْ يَرَهَا أَهْلًا ، وَأَيُّ نِقْمَةٍ أَوْ
بَلِيَّةٍوَصَلَتْ إِلَيْهِ رَأَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِمَا هُوَ أَكْبَرُ
مِنْهَا ، وَرَأَى مَوْلَاهُ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ ، إِذْ لَمْ
يُعَاقِبْهُ عَلَى قَدْرِ جُرْمِهِ وَلَا شَطْرِهِ ، وَلَا أَدْنَى جُزْءٍ
مِنْهُ .
[ ص: 88 ] فَإِنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ لَا
تَحْمِلُهُ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ ، فَضْلًا عَنْ هَذَا الْعَبْدِ
الضَّعِيفِ الْعَاجِزِ ، فَإِنَّ الذَّنْبَ وَإِنْ صَغُرَ ، فَإِنَّ
مُقَابَلَةَ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ ، الْكَبِيرِ
الَّذِي لَا شَيْءَ أَكْبَرُ مِنْهُ ، الْجَلِيلِ الَّذِي لَا أَجَلَّ
مِنْهُ وَلَا أَجْمَلَ ، الْمُنْعِمِ بِجَمِيعِ أَصْنَافِ النِّعَمِ
دَقِيقِهَا وَجُلِّهَا - مِنْ أَقْبَحِ الْأُمُورِ وَأَفْظَعِهَا
وَأَشْنَعِهَا ، فَإِنَّ مُقَابَلَةَ الْعُظَمَاءِ وَالْأَجِلَّاءِ
وَسَادَاتِ النَّاسِ بِمِثْلِ ذَلِكَ يَسْتَقْبِحُهُ كُلُّ أَحَدٍ مُؤْمِنٌ
وَكَافِرٌ . وَأَرْذَلُ النَّاسِ وَأَسْقَطُهُمْ مُرُوءَةً مَنْ
قَابَلَهُمْ بِالرَّذَائِلِ ، فَكَيْفَ بِعَظِيمِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ ، وَمَلِكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَإِلَهِ أَهْلِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ؟ وَلَوْلَا أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ
، وَمَغْفِرَتَهُ سَبَقَتْ عُقُوبَتَهُ ، وَإِلَّا لَتَدَكْدَكَتِ
الْأَرْضُ بِمَنْ قَابَلَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ مُقَابَلَتُهُ بِهِ ،
وَلَوْلَا حِلْمُهُ وَمَغْفِرَتُهُ لَزُلْزِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
مِنْ مَعَاصِي الْعِبَادِ ، قَالَ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ
أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [
سُورَةُ فَاطِرٍ : 41 ] .
فَتَأَمَّلْ خَتْمَ هَذِهِ الْآيَةِ
بِاسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ ، وَهُمَا : " الْحَلِيمُ ، وَالْغَفُورُ "
كَيْفَ تَجِدُ تَحْتَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْلَا حِلْمُهُ عَنِالْجُنَاةِ
وَمَغْفِرَتُهُ لِلْعُصَاةِ لَمَا اسْتَقَرَّتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ؟
وَقَدْ
أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ كُفْرِ بَعْضِ عِبَادِهِ أَنَّهُ : تَكَادُ
السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ
الْجِبَالُ هَدًّا [ سُورَةُ مَرْيَمَ : 90 ]
وَقَدْ أَخْرَجَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ارْتَكَبَاهُ
وَخَالَفَا فِيهِ نَهْيَهُ ، وَلَعَنَ إِبْلِيسَ وَطَرَدَهُ وَأَخْرَجَهُ
مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ارْتَكَبَهُ
وَخَالَفَ فِيهِ أَمْرَهُ ، وَنَحْنُ مَعَاشِرُ الْحَمْقَى كَمَا قِيلَ :
نَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وَنَرْتَجِي *** دَرَجَ الْجِنَانِ لِذِي النَّعِيمِ الْخَالِدِ
وَلَقَدْ عَلِمْنَا أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنْ *** مَلَكُوتِهِ الْأَعْلَى بِذَنْبٍ وَاحِدِ
وَالْمَقْصُودُ
أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ
قَبْلَ الْخَطِيئَةِ وَأَرْفَعَ دَرَجَةً ، وَقَدْ تُضْعِفُ الْخَطِيئَةُ
هِمَّتَهُ وَتُوهِنُ عَزْمَهُ ، وَتُمْرِضُ قَلْبَهُ ، فَلَا يَقْوَى
دَوَاءُ التَّوْبَةِ عَلَى إِعَادَتِهِ إِلَى الصِّحَّةِ الْأَوْلَى ،
فَلَا يَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ ، وَقَدْ يَزُولُ الْمَرَضُ بِحَيْثُ
تَعُودُ الصِّحَّةُ كَمَا كَانَتْ وَيَعُودُ إِلَى مِثْلِ عَمَلِهِ ،
فَيَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ .
هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ نُزُولُهُ
إِلَى مَعْصِيَةٍ ، فَإِنْ كَانَ نُزُولُهُ إِلَى أَمْرٍ يَقْدَحُ فِي
أَصْلِ إِيمَانِهِ ، مِثْلِ الشُّكُوكِ وَالرِّيَبِ وَالنِّفَاقِ ، فَذَاكَ
نُزُولٌ لَا يُرْجَى لِصَاحِبِهِ صُعُودٌ إِلَّا بِتَجْدِيدِ إِسْلَامِهِ .
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزء الثانى Empty رد: كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزء الثانى {الثلاثاء 24 مايو - 17:25}

فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُجَرِّئُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْدَاءَهُ

[
ص: 89 ] وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تُجَرِّئُ عَلَى الْعَبْدِ مَا
لَمْ يَكُنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ مِنْ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ ،
فَتَجْتَرِئُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينَ بِالْأَذَى وَالْإِغْوَاءِ
وَالْوَسْوَسَةِ وَالتَّخْوِيفِ وَالتَّحْزِينِ ، وَإِنْسَائِهِ مَا بِهِ
مَصْلَحَتُهُ فِي ذِكْرِهِ ، وَمَضَرَّتُهُ فِي نِسْيَانِهِ ، فَتَجْتَرِئُ
عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ حَتَّى تَؤُزَّهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ أَزًّا .
وَتَجْتَرِئُ
عَلَيْهِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ بِمَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَذَى فِي
غَيْبَتِهِ وَحُضُورِهِ ، وَيَجْتَرِئُ عَلَيْهِ أَهْلُهُ وَخَدَمُهُ
وَأَوْلَادُهُ وَجِيرَانُهُ حَتَّى الْحَيَوَانُ الْبَهِيمُ .
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ فَأَعْرِفُ ذَلِكَ فِي خُلُقِ امْرَأَتِي وَدَابَّتِي .
وَكَذَلِكَ
يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءُ الْأَمْرِ بِالْعُقُوبَةِ الَّتِي إِنْ
عَدَلُوا فِيهَا أَقَامُوا عَلَيْهِ حُدُودَ اللَّهِ ، وَتَجْتَرِئُ
عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَتَتَأَسَّدُ عَلَيْهِ وَتَصْعُبُ عَلَيْهِ ، فَلَوْ
أَرَادَهَا لِخَيْرٍ لَمْ تُطَاوِعْهُ وَلَمْ تَنْقَدْ لَهُ ، وَتَسُوقُهُ
إِلَى مَا فِيهِ هَلَاكُهُ ، شَاءَ أَمْ أَبِي .
وَذَلِكَ لِأَنَّ
الطَّاعَةَ حِصْنُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ
كَانَ مِنَ الْآمِنِينَ ، فَإِذَا فَارَقَ الْحِصْنَ اجْتَرَأَ عَلَيْهِ
قُطَّاعُ الطَّرِيقِ وَغَيْرُهُمْ ، وَعَلَى حَسَبِ اجْتِرَائِهِ عَلَى
مَعَاصِي اللَّهِ يَكُونُ اجْتِرَاءُ هَذِهِ الْآفَاتِ وَالنُّفُوسِ
عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ يَرُدُّ عَنْهُ . فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ
وَطَاعَتَهُ وَالصَّدَقَةَ وَإِرْشَادَ الْجَاهِلِ ، وَالْأَمْرَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ - وِقَايَةٌ تَرُدُّ عَنِ
الْعَبْدِ ، بِمَنْزِلَةِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَرُدُّ الْمَرَضَ
وَتُقَاوِمُهُ ، فَإِذَا سَقَطَتِ الْقُوَّةُ غَلَبَ وَارِدُ الْمَرَضِ
فَكَانَ الْهَلَاكُ ، فَلَابُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ شَيْءٍ يَرُدُّ عَنْهُ ،
فَإِنَّ مُوجِبَ السَّيِّئَاتِ وَالْحَسَنَاتِ تَتَدَافَعُ وَيَكُونُ
الْحُكْمُ لِلْغَالِبِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَكُلَّمَا قَوِيَ جَانِبُ
الْحَسَنَاتِ كَانَ الرَّدُّ أَقْوَى كَمَا تَقَدَّمَ ، فَإِنَّ اللَّهَ
يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَالْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ،
فَبِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ يَكُونُ الدَّفْعُ ، وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُضْعِفُ الْعَبْدَ أَمَامَ نَفْسِهِ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تَخُونُ الْعَبْدَ أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إِلَى
نَفْسِهِ ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا
يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ ، وَأَعْلَمُ
النَّاسِ أَعْرَفُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ ، وَأَقْوَاهُمْ
وَأَكْيَسُهُمْ مَنْ قَوِيَ عَلَى نَفْسِهِ وَإِرَادَتِهِ ،
فَاسْتَعْمَلَهَا فِيمَا يَنْفَعُهُ وَكَفَّهَا عَمَّا يَضُرُّهُ ، [ ص: 90
] وَفِي ذَلِكَ تَتَفَاوَتُ مَعَارِفُ النَّاسِ وَهِمَمُهُمْ
وَمَنَازِلُهُمْ ، فَأَعْرَفُهُمْ مَنْ كَانَ عَارِفًا بِأَسْبَابِ
السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ ، وَأَرْشَدُهُمْ مَنْ آثَرَ هَذِهِ عَلَى
هَذِهِ ، كَمَا أَنَّ أَسْفَهَهُمْ مَنْ عَكَسَ الْأَمْرَ .
وَالْمَعَاصِي
تَخُونُ الْعَبْدَ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَى نَفْسِهِ فِي تَحْصِيلِ هَذَا
الْعِلْمِ ، وَإِيثَارِ الْحَظِّ الْأَشْرَفِ الْعَالِي الدَّائِمِ عَلَى
الْحَظِّ الْخَسِيسِ الْأَدْنَى الْمُنْقَطِعِ ، فَتَحْجُبُهُ الذُّنُوبُ
عَنْ كَمَالِ هَذَا الْعِلْمِ ، وَعَنْ الِاشْتِغَالِ بِمَا هُوَ أَوْلَى
بِهِ ، وَأَنْفَعُ لَهُ فِي الدَّارَيْنِ .
فَإِذَا وَقَعَ مَكْرُوهٌ
وَاحْتَاجَ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ ، خَانَهُ قَلْبُهُ وَنَفْسُهُ
وَجَوَارِحُهُ ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ مَعَهُ سَيْفٌ قَدْ غَشِيَهُ
الصَّدَأُ وَلَزِمَ قِرَابَهُ ، بِحَيْثُ لَا يَنْجَذِبُ مَعَ صَاحِبِهِ
إِذَا جَذَبَهُ ، فَعَرَضَ لَهُ عَدُوٌّ يُرِيدُ قَتْلَهُ ، فَوَضَعَ
يَدِهِ عَلَى قَائِمِسَيْفِهِ وَاجْتَهَدَ لِيُخْرِجَهُ ، فَلَمْ يَخْرُجْ
مَعَهُ ، فَدَهَمَهُ الْعَدُوُّ وَظَفِرَ بِهِ .
كَذَلِكَ الْقَلْبُ
يَصْدَأُ بِالذُّنُوبِ وَيَصِيرُ مُثْخَنًا بِالْمَرَضِ ، فَإِذَا احْتَاجَ
إِلَى مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ لَمْ يَجِدْ مَعَهُ مِنْهُ شَيْئًا ،
وَالْعَبْدُ إِنَّمَا يُحَارِبُ وَيُصَاوِلُ وَيُقْدِمُ بِقَلْبِهِ ،
وَالْجَوَارِحُ تَبَعٌ لِلْقَلْبِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ مَلِكِهَا
قُوَّةٌ يَدْفَعُ بِهَا ، فَمَا الظَّنُّ بِهَا ؟
وَكَذَلِكَ النَّفْسُ
فَإِنَّهَا تَخْبُثُ بِالشَّهَوَاتِ وَالْمَعَاصِي وَتَضْعُفُ ، أَعْنِي
النَّفْسَ الْمُطْمَئِنَّةَ ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَمَّارَةُ تَقْوَى
وَتَتَأَسَّدُ ، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ هَذِهِ ضَعُفَتْ تِلْكَ ، فَيَبْقَى
الْحُكْمُ وَالتَّصَرُّفُ لِلْأَمَّارَةِ .
وَرُبَّمَا مَاتَتْ نَفْسُهُ
الْمُطْمَئِنَّةُ مَوْتًا لَا يُرْتَجَى مَعَهُ حَيَاةٌ يَنْتَفِعُ بِهَا ،
بَلْ حَيَاتُهُ حَيَاةٌ يُدْرِكُ بِهَا الْأَلَمَ فَقَطْ .
وَالْمَقْصُودُ
أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَقَعَ فِي شِدَّةٍ أَوْ كُرْبَةٍ أَوْ بَلِيَّةٍ
خَانَهُ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ وَجَوَارِحُهُ عَمَّا هُوَ أَنْفَعُ شَيْءٍ
لَهُ، فَلَا يَنْجَذِبُ قَلْبُهُ لِلتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ وَالْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ وَالتَّضَرُّعِ
وَالتَّذَلُّلِ وَالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلَا يُطَاوِعُهُ
لِسَانُهُ لِذِكْرِهِ ، وَإِنْ ذَكَرَهُ بِلِسَانِهِ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ
قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ ، فَيَنْحَبِسُ الْقَلْبُ عَلَى اللِّسَانِ بِحَيْثُ
يُؤَثِّرُ الذِّكْرُ ، وَلَا يَنْحَبِسُ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ عَلَى
الذِّكْرِ ، بَلْ إِنْ ذَكَرَ أَوْ دَعَا ذَكَرَ بِقَلْبٍ لَاهٍ سَاهٍ
غَافِلٍ ، وَلَوْ أَرَادَ مِنْ جَوَارِحِهِ أَنْ تُعِينَهُ بِطَاعَةٍ
تَدْفَعُ عَنْهُ لَمْ تَنْقَدْ لَهُ وَلَمْ تُطَاوِعْهُ .
وَهَذَا
كُلُّهُ أَثَرُ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي كَمَنْ لَهُ جُنْدٌ يَدْفَعُ
عَنْهُ الْأَعْدَاءَ ، فَأَهْمَلَ جُنْدَهُ ، وَضَيَّعَهُمْ ،
وَأَضْعَفَهُمْ ، وَقَطَعَ أَخْبَارَهُمْ ، ثُمَّ أَرَادَ مِنْهُمْ عِنْدَ
هُجُومِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَفْرِغُوا وُسْعَهُمْ فِي الدَّفْعِ
عَنْهُ بِغَيْرِ قُوَّةٍ .
هَذَا ، وَثَمَّ أَمْرٌ أَخْوَفُ مِنْ
ذَلِكَ وَأَدْهَى مِنْهُ وَأَمَرُّ ، وَهُوَ أَنْ يَخُونَهُ قَلْبُهُ
وَلِسَانُهُ عِنْدَ [ ص: 91 ] الِاحْتِضَارِ وَالِانْتِقَالِ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى ، فَرُبَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ النُّطْقُ بِالشَّهَادَةِ ،
كَمَا شَاهَدَ النَّاسُ كَثِيرًا مِنَ الْمُحْتَضَرِينَ أَصَابَهُمْ ذَلِكَ
، حَتَّى قِيلَ لِبَعْضِهِمْ : قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَقَالَ :
آهْ آهْ ، لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَهَا .
وَقِيلَ لِآخَرَ : قُلْ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَقَالَ : شَاهْ رُخْ ، غَلَبْتُكَ . ثُمَّ قَضَى .
وَقِيلَ لِآخَرَ : قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَقَالَ :
يَا رُبَّ قَائِلَةٍ يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَتْ *** أَيْنَ الطَّرِيقُ إِلَى حَمَّامِ مِنْجَابِ
ثُمَّ قَضَى .
وَقِيلَ لِآخَرَ : قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَجَعَلَ يَهْذِي بِالْغِنَاءِ وَيَقُولُ : تَاتِنَا تِنِنْتَا . حَتَّى قَضَى
وَقِيلَ
لِآخَرَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : وَمَا يَنْفَعُنِي مَا تَقُولُ وَلَمْ أَدَعْ
مَعْصِيَةً إِلَّا رَكِبْتُهَا ؟ ثُمَّ قَضَى وَلَمْ يَقُلْهَا .
وَقِيلَ
لِآخَرَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : وَمَا يُغْنِي عَنِّي ، وَمَا أَعْرِفُ أَنِّي
صَلَّيْتُ لِلَّهِ صَلَاةً ؟ ثُمَّ قَضَى وَلَمْ يَقُلْهَا .
وَقِيلَ لِآخَرَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : هُوَ كَافِرٌ بِمَا تَقُولُ . وَقَضَى .
وَقِيلَ لِآخَرَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَهَا لِسَانِي يُمْسِكُ عَنْهَا .
وَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَ بَعْضَ الشَّحَّاذِينَ عِنْدَ مَوْتِهِ ، فَجَعَلَ يَقُولُ : لِلَّهِ ، فِلْسٌ لِلَّهِ . حَتَّى قَضَى .
وَأَخْبَرَنِي
بَعْضُ التُّجَّارِ عَنْ قَرَابَةٍ لَهُ أَنَّهُ احْتُضِرَ وَهُوَ
عِنْدَهُ ، وَجَعَلُوا يُلَقِّنُونَهُ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ،
وَهُوَ يَقُولُ : هَذِهِ الْقِطْعَةُ رَخِيصَةٌ ، هَذَا مُشْتَرٍ جَيِّدٌ ،
هَذِهِ كَذَا . حَتَّى قَضَى .
وَسُبْحَانَ اللَّهِ ! كَمْ شَاهَدَ
النَّاسُ مِنْ هَذَا عِبَرًا ؟ وَالَّذِي يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِنْ
أَحْوَالِ الْمُحْتَضِرِينَ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ .
فَإِذَا كَانَ
الْعَبْدُ فِي حَالِ حُضُورِ ذِهْنِهِ وَقُوَّتِهِ وَكَمَالِ إِدْرَاكِهِ
قَدْ تَمَكَّنَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ ، وَاسْتَعْمَلَهُ فِيمَا يُرِيدُهُ
مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ ، وَقَدْ أَغْفَلَ قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ
تَعَالَى ، وَعَطَّلَ لِسَانَهُ عَنْ ذِكْرِهِ وَجَوَارِحَهُ عَنْ
طَاعَتِهِ ، فَكَيْفَ الظَّنُّ بِهِ عِنْدَ سُقُوطِ قُوَاهُ وَاشْتِغَالِ
قَلْبِهِ وَنَفَسِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ أَلَمِ النَّزْعِ ؟
وَجَمَعَ
الشَّيْطَانُ لَهُ كُلَّ قُوَّتِهِ وَهِمَّتِهِ ، وَحَشَدَ عَلَيْهِ
بِجَمِيعِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِيَنَالَ مِنْهُ فُرْصَتَهُ ، فَإِنَّ
ذَلِكَ آخِرُ الْعَمَلِ ، فَأَقْوَى مَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ
ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَأَضْعَفُ مَا يَكُونُ هُوَ فِي تِلْكَ [ ص: 92 ]
الْحَالِ ، فَمَنْ تُرَى يَسْلَمُ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَهُنَاكَ يُثَبِّتُ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ
اللَّهُ مَا يَشَاءُ [ سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ : 27 ] .
فَكَيْفَ
يُوَفَّقُ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ مَنْ أَغْفَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِهِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا .
فَبَعِيدٌ مَنْ قَلْبُهُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، غَافِلٌ عَنْهُ
مُتَعَبِّدٌ لِهَوَاهُ أَسِيرٌ لِشَهَوَاتِهِ ، وَلِسَانُهُ يَابِسٌ مِنْ
ذِكْرِهِ ، وَجَوَارِحُهُ مُعَطَّلَةٌ مِنْ طَاعَتِهِ مُشْتَغِلَةٌ
بِمَعْصِيَتِهِ - أَنْ يُوَفَّقَ لِلْخَاتِمَةِ بِالْحُسْنَى .
وَلَقَدْ
قَطَعَ خَوْفُ الْخَاتِمَةِ ظُهُورَ الْمُتَّقِينَ ، وَكَأَنَّ
الْمُسِيئِينَ الظَّالِمِينَ قَدْ أَخَذُوا تَوْقِيعًا بِالْأَمَانِ أَمْ
لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ
لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ [ سُورَةُ
الْقَلَمِ : 39 - 40 ]
كَمَا قِيلَ :
يَا آمِنًا مِنْ قَبِيحِ الْفِعْلِ مِنْهُ أَهَلْ *** أَتَاكَ تَوْقِيعُ أَمْنٍ أَنْتَ تَمْلِكُهُ
جَمَعْتَ شَيْئَيْنِ أَمْنًا وَاتِّبَاعَ هَوًى *** هَذَا وَإِحْدَاهُمَا فِي الْمَرْءِ تُهْلِكُهُ
وَالْمُحْسِنُونَ عَلَى دَرْبِ الْمَخَاوِفِ قَدْ *** سَارُوا وَذَلِكَ دَرْبٌ لَسْتَ تَسْلُكُهُ
فَرَّطْتَ فِي الزَّرْعِ وَقْتَ الْبَذْرِ مِنْ سَفَهٍ *** فَكَيْفَ عِنْدَ حَصَادِ النَّاسِ تُدْرِكُهُ
هَذَا وَأَعْجَبُ شَيْءٍ مِنْكَ زُهْدُكَ فِي *** دَارِ الْبَقَاءِ بِعَيْشٍ سَوْفَ تَتْرُكُهُ
مَنِ السَّفِيهُ إِذًا بِاللَّهِ أَنْتَ أَمِ الْ *** مَغْبُونُ فِي الْبَيْعِ غَبْنًا سَوْفَ يُدْرِكُهُ
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُعْمِي الْقَلْبَ

وَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا أَنَّهَا تُعْمِي الْقَلْبَ ، فَإِنْ لَمْ تُعْمِهِ
أَضْعَفَتْ بَصِيرَتَهُ وَلَابُدَّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّهَا
تُضْعِفُهُ وَلَابُدَّ ، فَإِذَا عَمِيَ الْقَلْبُ وَضَعُفَ ، فَاتَهُ مِنْ
مَعْرِفَةِ الْهُدَى وَقُوَّتِهِ عَلَى تَنْفِيذِهِ فِي نَفْسِهِ وَفِي
غَيْرِهِ ، بِحَسَبِ ضَعْفِ بَصِيرَتِهِوَقُوَّتِهِ .
فَإِنَّ الْكَمَالَ الْإِنْسَانِيَّ مَدَارُهُ عَلَى أَصْلَيْنِ : مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ ، وَإِيثَارِهِ عَلَيْهِ .
وَمَا
تَفَاوَتَتْ مَنَازِلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ إِلَّا بِقَدْرِ تَفَاوُتِ مَنَازِلِهِمْ فِي هَذَيْنِ [ ص:
93 ] الْأَمْرَيْنِ ، وَهُمَا اللَّذَانِ أَثْنَى اللَّهُ بِهِمَا
سُبْحَانَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي
الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [ سُورَةُ ص : 45 ] .
فَالْأَيْدِي :
الْقُوَّةُ فِي تَنْفِيذِ الْحَقِّ ، وَالْأَبْصَارُ : الْبَصَائِرُ فِي
الدِّينِ ، فَوَصَفَهُمْ بِكَمَالِ إِدْرَاكِ الْحَقِّ وَكَمَالِ
تَنْفِيذِهِ ، وَانْقَسَمَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَرْبَعَةَ
أَقْسَامٍ ، فَهَؤُلَاءِ أَشْرَفُ الْأَقْسَامِ مِنَ الْخَلْقِ
وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى .
الْقِسْمُ الثَّانِي : عَكْسُ
هَؤُلَاءِ ، مَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي الدِّينِ ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى
تَنْفِيذِ الْحَقِّ ، وَهُمْ أَكْثَرُ هَذَا الْخَلْقِ ، وَهُمُ الَّذِينَ
رُؤْيَتُهُمْ قَذَى الْعُيُونِ وَحُمَّى الْأَرْوَاحِ وَسَقَمُ الْقُلُوبِ ،
يُضَيِّقُونَ الدِّيَارَ وَيُغْلُونَ الْأَسْعَارَ ، وَلَا يُسْتَفَادُ
مِنْ صُحْبَتِهِمْ إِلَّا الْعَارُ وَالشَّنَارُ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ
: مَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ بِالْحَقِّ وَمَعْرِفَةٌ بِهِ ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ
لَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى تَنْفِيذِهِ وَلَا الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ ، وَهَذَا
حَالُ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، وَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ
إِلَى اللَّهِ مِنْهُ .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَنْ لَهُ قُوَّةٌ
وَهِمَّةٌ وَعَزِيمَةٌ ، لَكِنَّهُ ضَعِيفُ الْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ ،
لَا يَكَادُ يُمَيِّزُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ
الشَّيْطَانِ ، بَلْ يَحْسَبُ كُلَّ سَوْدَاءَ تَمْرَةً وَكُلَّ بَيْضَاءَ
شَحْمَةً ، يَحْسَبُ الْوَرَمَ شَحْمًا وَالدَّوَاءَ النَّافِعَ سُمًّا .
وَلَيْسَ
فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ ، وَلَا هُوَ
مَوْضِعٌ لَهَا سِوَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا
وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [ سُورَةُ السَّجْدَةِ : 24 ] .
فَأَخْبَرَ
سُبْحَانَهُ أَنَّ بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ نَالُوا الْإِمَامَةَ فِي
الدِّينِ ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
مِنْ جُمْلَةِ الْخَاسِرِينَ ، وَأَقْسَمَ بِالْعَصْرِ - الَّذِي هُوَ
زَمَنُ سَعْيِ الْخَاسِرِينَ وَالرَّابِحِينَ - عَلَى أَنَّ مَنْ عَدَاهُمْ
فَهُوَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، فَقَالَ تَعَالَى وَالْعَصْرِ إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [
الْعَصْرِ : 1 - 3 ] .
وَلَمْ يَكْتَفِ مِنْهُمْ بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ
وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ ، حَتَّى يُوصِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهِ
وَيُرْشِدَهُ إِلَيْهِ وَيَحُضَّهُ عَلَيْهِ .
وَإِذَا كَانَ مَنْ عَدَا
هَؤُلَاءِ فَهُوَ خَاسِرٌ ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَعَاصِيَ وَالذُّنُوبَ
تُعْمِي بَصِيرَةَ الْقَلْبِ فَلَا يُدْرِكُ الْحَقَّ كَمَا يَنْبَغِي ،
وَتَضْعُفُ قُوَّتُهُ وَعَزِيمَتُهُ فَلَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ ، بَلْ قَدْ
يَتَوَارَدُ عَلَى الْقَلْبِ حَتَّى [ ص: 94 ] يَنْعَكِسَ إِدْرَاكُهُ
كَمَا يَنْعَكِسُ سَيْرُهُ ، فَيُدْرِكُ الْبَاطِلَ حَقًّا وَالْحَقَّ
بَاطِلًا ، وَالْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا ،
فَيَنْتَكِسُ فِي سَيْرِهِ وَيَرْجِعُ عَنْ سَفَرِهِ إِلَى اللَّهِ
وَالدَّارِ الْآخِرَةِ ، إِلَى سَفَرِهِ إِلَى مُسْتَقَرِّ النُّفُوسِ
الْمُبْطِلَةِ الَّتِي رَضِيَتْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَاطْمَأَنَّتْ
بِهَا ، وَغَفَلَتْ عَنِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ ، وَتَرَكَتْ الِاسْتِعْدَادَ
لِلِقَائِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي عُقُوبَةِ الذُّنُوبِ إِلَّا هَذِهِ
وَحْدَهَا لَكَانَتْ دَاعِيَةً إِلَى تَرْكِهَا وَالْبُعْدِ مِنْهَا ،
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَهَذَا كَمَا أَنَّ الطَّاعَةَ تُنَوِّرُ
الْقَلْبَ وَتَجْلُوهُ وَتَصْقُلُهُ ، وَتُقَوِّيهِ وَتُثَبِّتُهُ حَتَّى
يَصِيرَ كَالْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ فِي جَلَائِهَا وَصَفَائِهَا
فَيَمْتَلِئَ نُورًا ، فَإِذَا دَنَا الشَّيْطَانُ مِنْهُ أَصَابَهُ مِنْ
نُورِهِ مَا يُصِيبُ مُسْتَرِقَ السَّمْعِ مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ ،
فَالشَّيْطَانُ يَفْرَقُ مِنْ هَذَا الْقَلْبِ أَشَدَّ مِنْ فَرَقِ
الذِّئْبِ مِنَالْأَسَدِ ، حَتَّى إِنَّ صَاحِبَهُ لَيَصْرَعُ الشَّيْطَانَ
فَيَخِرُّ صَرِيعًا ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ ، فَيَقُولُ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : مَا شَأْنُهُ ؟ فَيُقَالُ : أَصَابَهُ إِنْسِيٌّ ،
وَبِهِ نَظْرَةٌ مِنَ الْإِنْسِ :
فَيَا نَظْرَةً مِنْ قَلْبِ حُرٍّ مُنَوَّرٍ يَكَادُ لَهَا الشَّيْطَانُ بِالنُّورِ يُحْرَقُ
أَفَيَسْتَوِي
هَذَا الْقَلْبُ وَقَلْبٌ مُظْلِمٌ أَرْجَاؤُهُ ، مُخْتَلِفَةٌ
أَهْوَاؤُهُ ، قَدِ اتَّخَذَهُ الشَّيْطَانُ وَطَنَهُ وَأَعَدَّهُ
مَسْكَنَهُ ، إِذَا تَصَبَّحَ بِطَلْعَتِهِ حَيَّاهُ ، وَقَالَ : فَدَيْتُ
مَنْ لَا يُفْلِحُ فِي دُنْيَاهُ وَلَا فِي أُخْرَاهُ ؟
قَرِينُكَ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْحَشْرِ بَعْدَهَا *** فَأَنْتَ قَرِينٌ لِي بِكُلِّ مَكَانِ
فَإِنْ كُنْتَ فِي دَارِ الشَّقَاءِ فَإِنَّنِي *** وَأَنْتَ جَمِيعًا فِي شَقَا وَهَوَانِ
قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ
شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا
قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ
الْقَرِينُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي
الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [ سُورَةُ الزُّخْرُفِ : 36 - 39 ] .
فَأَخْبَرَ
سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ عَشِيَ عَنْ ذِكْرِهِ ، وَهُوَ كِتَابُهُ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، وَعَمِيَ عَنْهُ ،
وَعَشَتْ بَصِيرَتُهُ عَنْ فَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَمَعْرِفَةِ مُرَادِ
اللَّهِ مِنْهُ - قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ شَيْطَانًا عُقُوبَةً لَهُ
بِإِعْرَاضِهِ عَنْ كِتَابِهِ ، فَهُوَ قَرِينُهُ الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ
فِي الْإِقَامَةِ وَلَا فِي الْمَسِيرِ ، وَمَوْلَاهُ وَعَشِيرُهُ الَّذِي
هُوَ بِئْسَ الْمَوْلَى وَبِئْسَ الْعَشِيرُ .
رَضِيعَا لِبَانِ ثَدْيِ أُمٍّ تَقَاسَمَا *** بِأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لَا نَتَفَرَّقُ
ثُمَّ
أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَصُدُّ قَرِينَهُ وَوَلِيَّهُ
عَنْ سَبِيلِهِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ ، وَيَحْسَبُ
هَذَا الضَّالُّ الْمَصْدُودُ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ هُدًى ، حَتَّى إِذَا
جَاءَ الْقَرِينَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ :
يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ
كُنْتَ لِي فِي الدُّنْيَا ، أَضْلَلْتَنِي [ ص: 95 ] عَنِ الْهُدَى بَعْدَ
إِذْ جَاءَنِي ، وَصَدَدْتَنِي عَنِ الْحَقِّ وَأَغْوَيْتَنِي حَتَّى
هَلَكْتُ ، وَبِئْسَ الْقَرِينُ أَنْتَ لِي الْيَوْمَ .
وَلَمَّا كَانَ
الْمُصَابُ إِذَا شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِي مُصِيبَةٍ ، حَصَلَ لَهُ
بِالتَّأَسِّي نَوْعُ تَخْفِيفٍ وَتَسْلِيَةٍ ، أَخْبَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ وَغَيْرُ حَاصِلٍ فِي حَقِّ
الْمُشْتَرِكِينَ فِي الْعَذَابِ ، وَأَنَّ الْقَرِينَ لَا يَجِدُ رَاحَةً
وَلَا أَدْنَى فَرَحٍ بِعَذَابِ قَرِينِهِ مَعَهُ ، وَإِنْ كَانَتِ
الْمَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا إِذَا عَمَّتْ صَارَتْ مَسْلَاةً ، كَمَا
قَالَتِ الْخَنْسَاءُ فِي أَخِيهَا صَخْرٍ :
وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي *** عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ *** أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي
فَمَنَعَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الرَّاحَةِ عَلَى أَهْلِ
النَّارِ فَقَالَ : وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ
أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [ سُورَةُ الزُّخْرُفِ : 39 ]
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزء الثانى Empty رد: كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي الجزء الثانى {الثلاثاء 24 مايو - 17:26}

فَصْلٌ: الْمَعَاصِي عَدُوٌّ لَدُودٌ

وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا :
أَنَّهَا مَدَدٌ مِنَ الْإِنْسَانِ يَمُدُّ بِهِ عَدُوَّهُ عَلَيْهِ ،
وَجَيْشٌ يُقَوِّيهِ بِهِ عَلَى حَرْبِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ ابْتَلَى هَذَا الْإِنْسَانَ بِعَدُوٍّ لَا يُفَارِقُهُ
طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وَلَا يَنَامُ مِنْهُ وَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ ، يَرَاهُ
هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ ، يَبْذُلُ جَهْدَهُ فِي
مُعَادَاتِهِ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَلَا يَدَعُ أَمْرًا يَكِيدُهُ بِهِ
يَقْدِرُ عَلَى إِيصَالِهِ إِلَيْهِ إِلَّا أَوْصَلَهُ إِلَيْهِ ،
وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِبَنِي جِنْسِهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ ،
وَغَيْرِهِمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ ، فَقَدْ نَصَبَ لَهُ الْحَبَائِلَ
، وَبَغَى لَهُ الْغَوَائِلَ ، وَمَدَّ حَوْلَهُ الْأَشْرَاكَ ، وَنَصَبَ
لَهُ الْفِخَاخَ وَالشِّبَاكَ ، وَقَالَ لِأَعْوَانِهِ : دُونَكُمْ
عَدُوَّكُمْ وَعَدُوَّ أَبِيكُمْ لَا يَفُوتُكُمْ وَلَا يَكُونُ حَظُّهُ
الْجَنَّةَ وَحَظُّكُمُ النَّارَ ، وَنَصِيبُهُ الرَّحْمَةَ وَنَصِيبُكُمُ
اللَّعْنَةَ ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مَا جَرَى عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ
مِنَ الْخِزْيِ وَالْإِبْعَادِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِسَبَبِهِ وَمِنْ
أَجْلِهِ، فَابْذُلُوا جَهْدَكُمْ أَنْ يَكُونُوا شُرَكَاءَنَا فِي هَذِهِ
الْبَلِيَّةِ ، إِذْ قَدْ فَاتَنَا شَرِكَةَ صَالِحِيهِمْ فِي الْجَنَّةِ .
وَقَدْ أَعْلَمَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ عَدُوِّنَا
وَأَمَرَنَا أَنْ نَأْخُذَ لَهُ أُهْبَتَهُ وَنُعِدَّ لَهُ عُدَّتَهُ .
وَلَمَّا
عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ آدَمَ وَبَنِيهِ قَدْ بُلُوا بِهَذَا الْعَدُوِّ
وَأَنَّهُ قَدْ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ أَمَدَهُمْ بِعَسَاكِرَ وَجُنْدٍ
يَلْقَوْنَهُمْ بِهَا ، وَأَمَدَّ عَدُوَّهُمْ أَيْضًا بِجُنْدٍ
وَعَسَاكِرَ يَلْقَاهُمْ بِهَا ، وَأَقَامَ سُوقَ الْجِهَادِ فِي هَذِهِ
الدَّارِ فِي مُدَّةِ الْعُمُرِ الَّتِي هِيَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى
الْآخِرَةِ كَنَفَسٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْفَاسِهَا ، وَاشْتَرَى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ،
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ،
وَأَخْبَرَ أَنَّ [ ص: 96 ] ذَلِكَ وَعْدٌ مُؤَكَّدٌ عَلَيْهِ فِي أَشْرَفِ
كُتُبِهِ ، وَهِيَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ ، وَأَخْبَرَ
أَنَّهُ لَا أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ
أَنْ يَسْتَبْشِرُوا بِهَذِهِ الصَّفْقَةِ الَّتِي مَنْ أَرَادَ أَنْ
يَعْرِفَ قَدْرَهَا فَلْيَنْظُرْ إِلَى الْمُشْتَرِي مَنْ هُوَ ؟ وَإِلَى
الثَّمَنِ الْمَبْذُولِ فِي هَذِهِ السِّلْعَةِ ، وَإِلَى مَنْ جَرَى عَلَى
يَدَيْهِ هَذَا الْعَقْدُ ، فَأَيُّ فَوْزٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا ؟ وَأَيُّ
تِجَارَةٍ أَرْبَحُ مِنْهُ ؟
ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ هَذَا
الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ
عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [ سُورَةُ الصَّفِّ : 10 - 13 ] .
وَلَمْ
يُسَلِّطْ سُبْحَانَهُ هَذَا الْعَدُوَّ عَلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ
الَّذِي هُوَ أَحَبُّ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَيْهِ ، إِلَّا لِأَنَّ
الْجِهَادَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ ، وَأَهْلَهُ أَرْفَعُ الْخَلْقِ
عِنْدَهُ دَرَجَاتٍ ، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ وَسِيلَةً ، فَعَقَدَ
سُبْحَانَهُ لِوَاءَ هَذِهِ الْحَرْبِ لِخُلَاصَةِ مَخْلُوقَاتِهِ ، وَهُوَ
الْقَلْبُ الَّذِي مَحَلُّ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ ، وَعُبُودِيَّتِهِ
وَالْإِخْلَاصِ لَهُ ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ ،
فَوَلَّاهُ أَمْرَ هَذِهِ الْحَرْبِ ، وَأَيَّدَهُ بِجُنْدٍ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ لَا يُفَارِقُونَهُ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [ سُورَةُ الرَّعْدِ :
11 ] .
يَعْقُبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، كُلَّمَا ذَهَبَ بَدَلٌ جَاءَ
بَدَلٌ آخَرُ يُثَبِّتُونَهُ وَيَأْمُرُونَهُ بِالْخَيْرِ وَيَحُضُّونَهُ
عَلَيْهِ ، وَيَعِدُونَهُ بِكَرَامَةِ اللَّهِ وَيُصَبِّرُونَهُ ،
وَيَقُولُونَ : إِنَّمَا هُوَ صَبْرُ سَاعَةٍ وَقَدِ اسْتَرَحْتَ رَاحَةَ
الْأَبَدِ .
ثُمَّ أَمَدَّهُ سُبْحَانَهُ بِجُنْدٍ آخَرَ مِنْ وَحْيِهِ
وَكَلَامِهِ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ كِتَابَهُ ، فَازْدَادَ قُوَّةً إِلَى
قُوتِهِ ، وَمَدَدًا إِلَى مَدَدِهِ ، وَعُدَّةً إِلَى عُدَّتِهِ ،
وَأَمَدَّهُ مَعَ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ وَزِيرًا لَهُ وَمُدَبِّرًا ،
وَبِالْمَعْرِفَةِ مُشِيرَةً عَلَيْهِ نَاصِحَةً لَهُ ، وَبِالْإِيمَانِ
مُثَبِّتًا لَهُ وَمُؤَيِّدًا وَنَاصِرًا ، وَبِالْيَقِينِ كَاشِفًا لَهُ
عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ ، حَتَّى كَأَنَّهُ يُعَايِنُ مَا وَعَدَ اللَّهُ
تَعَالَى أَوْلِيَاءَهُ وَحِزْبَهُ عَلَى جِهَادِ أَعْدَائِهِ ،
فَالْعَقْلُ يُدَبِّرُ أَمْرَ جَيْشِهِ ، وَالْمَعْرِفَةُ تَصْنَعُ لَهُ
أُمُورَ الْحَرْبِ وَأَسْبَابَهَا وَمَوَاضِعَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا ،
وَالْإِيمَانُ يُثَبِّتُهُ وَيُقَوِّيهِ وَيُصَبِّرُهُ ، وَالْيَقِينُ
يُقْدِمُ بِهِ وَيَحْمِلُ بِهِ الْحَمَلَاتِ الصَّادِقَةَ .
ثُمَّ
أَمَدَّ سُبْحَانَهُ الْقَائِمَ بِهَذِهِ الْحَرْبِ بِالْقُوَى
الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ ، فَجَعَلَ الْعَيْنَ طَلِيعَتَهُ ،
وَالْأُذُنَ صَاحِبَ خَبَرِهِ ، وَاللِّسَانَ تُرْجُمَانَهُ ،
وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَعْوَانَهُ ، وَأَقَامَ مَلَائِكَتَهُ
وَحَمَلَةَ عَرْشِهِ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَيَسْأَلُونَ لَهُأَنْ يَقِيَهُ
السَّيِّئَاتِ وَيُدْخِلَهُ الْجَنَّاتِ ، وَتَوَلَّى سُبْحَانَهُ
الدَّفْعَ [ ص: 97 ] وَالدِّفَاعَ عَنْهُ بِنَفْسِهِ وَقَالَ : هَؤُلَاءِ
حِزْبِي ، وَحِزْبُ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
[ الْمُجَادَلَةِ : 22 ] .
وَهَؤُلَاءِ جُنْدِي وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [ سُورَةُ الصَّافَّاتِ : 173 ] .
وَعَلَّمَ
عِبَادَهُ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الْحَرْبِ وَالْجِهَادِ ، فَجَمَعَهَا
لَهُمْ فِي أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ [ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 200 ] .
وَلَا يَتِمُّ أَمْرُ
هَذَا الْجِهَادِ إِلَّا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ ، فَلَا
يَتِمُّ الصَّبْرُ إِلَّا بِمُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ ، وَهُوَ مُقَاوَمَتُهُ
وَمُنَازَلَتُهُ ، فَإِذَا صَابَرَ عَدُوَّهُ احْتَاجَ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ
وَهِيَ الْمُرَابَطَةُ ، وَهِيَ لُزُومُ ثَغْرِ الْقَلْبِ وَحِرَاسَتُهُ
لِئَلَّا يَدْخُلَ مِنْهُ الْعَدُوُّ ، وَلُزُومُ ثَغْرِ الْعَيْنِ
وَالْأُذُنِ وَاللِّسَانِ وَالْبَطْنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ ، فَهَذِهِ
الثُّغُورُ يَدْخُلُ مِنْهَا الْعَدُوُّ فَيَجُوسُ خِلَالَ الدِّيَارِ
وَيُفْسِدُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ ، فَالْمُرَابَطَةُ لُزُومُ هَذِهِ
الثُّغُورِ ، وَلَا يُخَلِّي مَكَانَهَا فَيُصَادِفَ الْعَدُوُّ الثَّغْرَ
خَالِيًا فَيَدْخُلَ مِنْهُ .
فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ
النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ ، وَأَعْظَمُهُمْ حِمَايَةً وَحِرَاسَةً
مِنَ الشَّيْطَانِ ، وَقَدْ أَخْلَوُا الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرُوا
بِلُزُومِهِ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَدَخَلَ مِنْهُ الْعَدُوُّ ، فَكَانَ مَا
كَانَ .
وَجِمَاعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَعَمُودُهَا الَّذِي تَقُومُ
بِهِ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يَنْفَعُ الصَّبْرُ وَلَا
الْمُصَابَرَةُ وَلَا الْمُرَابَطَةُ إِلَّا بِالتَّقْوَى ، وَلَا تَقُومُ
التَّقْوَى إِلَّا عَلَى سَاقِ الصَّبْرِ .
الْتِقَاءُ الْجَيْشَيْنِ
فَانْظُرِ الْآنَ فِيكَ إِلَى الْتِقَاءِ الْجَيْشَيْنِ ، وَاصْطِدَامِ
الْعَسْكَرَيْنِ وَكَيْفَ تُدَالُ مَرَّةً ، وَيُدَالُ عَلَيْكَ أُخْرَى ؟
أَقْبَلَ مَلِكُ الْكَفَرَةِ بِجُنُودِهِ وَعَسَاكِرِهِ ، فَوَجَدَ
الْقَلْبَ فِي حِصْنِهِ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيِّ مَمْلَكَتِهِ ، أَمْرُهُ
نَافِذٌ فِي أَعْوَانِهِ ، وَجُنْدُهُ قَدْ حَفُّوا بِهِ ، يُقَاتِلُونَ
عَنْهُ وَيُدَافِعُونَ عَنْ حَوْزَتِهِ ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْهُجُومُ
عَلَيْهِ إِلَّا بِمُخَامَرَةِ بَعْضِ أُمَرَائِهِ وَجُنْدِهِ عَلَيْهِ ،
فَسَأَلَ عَنْ أَخَصِّ الْجُنْدِ بِهِ وَأَقْرَبِهِمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً ،
فَقِيلَ لَهُ : هِيَ النَّفْسُ ، فَقَالَ لِأَعْوَانِهِ : ادْخُلُوا
عَلَيْهَا مِنْ مُرَادِهَا ، وَانْظُرُوا مَوَاقِعَ مَحَبَّتِهَا وَمَا
هُوَ مَحْبُوبُهَا فَعِدُوهَا بِهِ وَمَنُّوهَا إِيَّاهُ وَانْقُشُوا
صُورَةَ الْمَحْبُوبِ فِيهَا فِي يَقَظَتِهَا وَمَنَامِهَا ، فَإِذَا
اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ وَسَكَنَتْ عِنْدَهُ فَاطْرَحُوا عَلَيْهَا
كَلَالِيبَ الشَّهْوَةِ وَخَطَاطِيفَهَا ، ثُمَّ جُرُّوهَا بِهَا
إِلَيْكُمْ ، فَإِذَا خَامَرَتْ عَلَى الْقَلْبِ وَصَارَتْ مَعَكُمْ
عَلَيْهِ مَلَكْتُمْ ثَغْرَ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ [ ص: 98 ] وَاللِّسَانِ
وَالْفَمِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ ، فَرَابِطُوا عَلَى هَذَا الثُّغُورِ
كُلَّ الْمُرَابَطَةِ ، فَمَتَى دَخَلْتُمْ مِنْهَا إِلَى الْقَلْبِ فَهُوَ
قَتِيلٌ أَوْ أَسِيرٌ ، أَوْ جَرِيحٌ مُثْخَنٌ بِالْجِرَاحَاتِ ، وَلَا
تُخْلُوا هَذِهِ الثُّغُورَ ، وَلَا تُمَكِّنُوا سَرِيَّةً تَدْخُلُ فِيهَا
إِلَى الْقَلْبِ فَتُخْرِجَكُمْ مِنْهَا ، وَإِنْ غُلِبْتُمْ
فَاجْتَهِدُوا فِي إِضْعَافِ السَّرِيَّةِ وَوَهَنِهَا ، حَتَّى لَا تَصِلَ
إِلَى الْقَلْبِ ، فَإِنْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ وَصَلَتْ ضَعِيفَةً لَا
تُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا .
ثَغْرُ الْعَيْنِ فَإِذَا اسْتَوْلَيْتُمْ
عَلَى هَذِهِ الثُّغُورِ فَامْنَعُوا ثَغْرَ الْعَيْنِ أَنْ يَكُونَ
نَظَرُهُ اعْتِبَارًا ، بَلِ اجْعَلُوا نَظَرَهُ تَفَرُّجًا
وَاسْتِحْسَانًا وَتَلَهِّيًا ، فَإِنِ اسْتَرَقَ نَظَرُهُ عِبْرَةً
فَأَفْسِدُوهَا عَلَيْهِبِنَظَرِ الْغَفْلَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ
وَالشَّهْوَةِ ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَأَعْلَقُ بِنَفْسِهِ
وَأَخَفُّ عَلَيْهِ ، وَدُونَكُمْ ثَغْرَ الْعَيْنِ ، فَإِنَّ مِنْهُ
تَنَالُونَ بُغْيَتَكُمْ ، فَإِنِّي مَا أَفْسَدْتُ بَنِي آدَمَ بِشَيْءٍ
مِثْلِ النَّظَرِ ، فَإِنِّي أَبْذُرُ بِهِ فِي الْقَلْبِ بَذْرَ
الشَّهْوَةِ ، ثُمَّ أَسْقِيهِ بِمَاءِ الْأُمْنِيَّةِ ، ثُمَّ لَا أَزَالُ
أَعِدُهُ وَأُمَنِّيهِ حَتَّى أُقَوِّيَ عَزِيمَتَهُ وَأَقُودَهُ
بِزِمَامِ الشَّهْوَةِ إِلَى الِانْخِلَاعِ مِنَ الْعِصْمَةِ ، فَلَا
تُهْمِلُوا أَمْرَ هَذَا الثَّغْرِ وَأَفْسِدُوهُ بِحَسَبِ
اسْتِطَاعَتِكُمْ ، وَهَوِّنُوا عَلَيْهِ أَمْرَهُ ، وَقُولُوا لَهُ :
مِقْدَارُ نَظْرَةٍ تَدْعُوكَ إِلَى تَسْبِيحِ الْخَالِقِ وَالتَّأَمُّلِ
لِبَدِيعِ صَنِيعِهِ ، وَحُسْنِ هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي إِنَّمَا
خُلِقَتْ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا النَّاظِرُ عَلَيْهِ ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ
لَكَ الْعَيْنَيْنِ سُدًى ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ الصُّورَةَ
لِيَحْجُبَهَا عَنِ النَّظَرِ ، وَإِنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ قَلِيلَ الْعِلْمِ
فَاسِدَ الْعَقْلِ ، فَقُولُوا لَهُ : هَذِهِ الصُّورَةُ مَظْهَرٌ مِنْ
مَظَاهِرِ الْحَقِّ وَمَجْلًى مِنْ مَجَالِيهِ ، فَادْعُوهُ إِلَى
الْقَوْلِ بِالِاتِّحَادِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَالْقَوْلُ بِالْحُلُولِ
الْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ ، وَلَا تَقْنَعُوا مِنْهُ بِدُونِ ذَلِكَ ،
فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مِنْ إِخْوَانِ النَّصَارَى ، فَمُرُوهُ حِينَئِذٍ
بِالْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا ،
وَاصْطَادُوا عَلَيْهِ وَبِهِ الْجُهَّالَ ، فَهَذَا مِنْ أَقْرَبِ
خُلَفَائِي وَأَكْبَرِ جُنْدِي ، بَلْ أَنَا مِنْ جُنْدِهِ وَأَعْوَانِهِ .
فَصْلٌ: ثَغْرُ الْأُذُنِ

ثُمَّ
امْنَعُوا ثَغْرَ الْأُذُنِ أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِ مَا يُفْسِدُ
عَلَيْكُمُ الْأَمْرَ ، فَاجْتَهِدُوا أَنْ لَا تُدْخِلُوا مِنْهُ إِلَّا
الْبَاطِلَ ، فَإِنَّهُ خَفِيفٌ عَلَى النَّفْسِ تَسْتَحْلِيهِ
وَتَسْتَحْسِنُهُ ، تَخَيَّرُوا لَهُ أَعْذَبَ الْأَلْفَاظِ وَأَسْحَرَهَا
لِلْأَلْبَابِ ، وَامْزِجُوهُ بِمَا تَهْوَى النَّفْسُ مَزْجًا .
وَأَلْقُوا
الْكَلِمَةَ فَإِنْ رَأَيْتُمْ مِنْهُ إِصْغَاءً إِلَيْهَا فَزُجُّوهُ
بِأَخَوَاتِهَا ، وَكُلَّمَا صَادَفْتُمْ مِنْهُ اسْتِحْسَانَ شَيْءٍ
فَالْهَجُوا لَهُ بِذِكْرِهِ ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ هَذَا
الثَّغْرِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ كَلَامِ رَسُولِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ كَلَامِ النُّصَحَاءِ ، فَإِنْ
غُلِبْتُمْ عَلَى ذَلِكَ وَدَخَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ، فَحُولُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ فَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ وَالْعِظَةِ بِهِ ،
إِمَّا بِإِدْخَالِ ضِدِّهِ عَلَيْهِ ، وَإِمَّا بِتَهْوِيلِ ذَلِكَ [ ص:
99 ] وَتَعْظِيمِهِ وَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ قَدْ حِيلَ بَيْنَ النُّفُوسِ
وَبَيْنَهُ فَلَا سَبِيلَ لَهَا إِلَيْهِ ، وَهُوَ حِمْلٌ يَثْقُلُ
عَلَيْهَا لَا تَسْتَقِلُّ بِهِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِمَّا
بِإِرْخَاصِهِ عَلَى النُّفُوسِ ، وَأَنَّ الِاشْتِغَالَ يَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ بِمَا هُوَ أَعْلَى عِنْدَ النَّاسِ ، وَأَعَزُّ عَلَيْهِمْ ،
وَأَغْرَبُ عِنْدَهُمْ ، وَزُبُونُهُ الْقَابِلُونَ لَهُ أَكْثَرُ ،
وَأَمَّا الْحَقُّ فَهُوَ مَهْجُورٌ ، وَقَائِلُهُ مُعَرِّضٌ نَفْسَهُ
لِلْعَدَاوَةِ ، وَالرَّابِحُ بَيْنَ النَّاسِ أَوْلَى بِالْإِيثَارِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَتُدْخِلُونَ الْبَاطِلَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ قَالَبٍ
يَقْبَلُهُ وَيَخِفُّ عَلَيْهِ ، وَتُخْرِجُونَ لَهُ الْحَقَّ فِي كُلِّ
قَالَبٍ يَكْرَهُهُ وَيَثْقُلُ عَلَيْهِ .
وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَعْرِفَ
ذَلِكَ فَانْظُرْ إِلَى إِخْوَانِهِمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ ، كَيْفَ
يُخْرِجُونَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي
قَالَبِ كَثْرَةِ الْفُضُولِ ، وَتَتَبُّعِ عَثَرَاتِ النَّاسِ ،
وَالتَّعَرُّضِ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ ، وَإِلْقَاءِ الْفِتَنِ
بَيْنَ النَّاسِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَيُخْرِجُونَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ
وَوَصْفَ الرَّبِّ تَعَالَى بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ
رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَالَبِ التَّجْسِيمِ
وَالتَّشْبِيهِ وَالتَّكْيِيفِ ، وَيُسَمُّونَ عُلُوَّ اللَّهِ عَلَى
خَلْقِهِ وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ وَمُبَايَنَتَهُ لِمَخْلُوقَاتِهِ ،
تَحَيُّزًا ، وَيُسَمُّونَ نُزُولَهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ،
وَقَوْلَهُ : مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ، تَحَرُّكًا وَانْتِقَالًا ،
وَيُسَمُّونَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْيَدِ وَالْوَجْهِ أَعْضَاءَ
وَجَوَارِحَ ، وَيُسَمُّونَ مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ أَفْعَالِهِ حَوَادِثَ ،
وَمَا يَقُومُ مِنْ صِفَاتِهِ أَعْرَاضًا ، ثُمَّ يَتَوَصَّلُونَ إِلَى
نَفْيِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ ، وَيُوهِمُونَ
الْأَغْمَارَ وَضُعَفَاءَ الْبَصَائِرِ ، أَنَّ إِثْبَاتَ الصِّفَاتِ
الَّتِي نَطَقَ بِهَا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْتَلْزِمُ هَذِهِ الْأُمُورَ ،
وَيُخْرِجُونَ هَذَا التَّعْطِيلَ فِي قَالَبِ التَّنْزِيهِ وَالتَّعْظِيمِ
، وَأَكْثَرُ النَّاسِ ضُعَفَاءُ الْعُقُولِ يَقْبَلُونَ الشَّيْءَ
بِلَفْظٍ وَيَرُدُّونَهُ بِعَيْنِهِ بِلَفْظٍ آخَرَ ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ
الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ
غُرُورًا [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 112 ] فَسَمَّاهُ زُخْرُفًا ، وَهُوَ
بَاطِلٌ ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُزَخْرِفُهُ وَيُزَيِّنُهُ مَا اسْتَطَاعَ ،
وَيُلْقِيهِ إِلَى سَمْعِ الْمَغْرُورِ فَيَغْتَرُّ بِهِ .
وَالْمَقْصُودُ
: أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ لَزِمَ ثَغْرَ الْأُذُنِ ، أَنْ يُدْخِلَ
فِيهَا مَا يَضُرُّ الْعَبْدَ وَلَا يَنْفَعُهُ ، وَيَمْنَعَ أَنْ يَدْخُلَ
إِلَيْهَا مَا يَنْفَعُهُ ، وَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ
أَفْسَدَهُ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ: ثَغْرُ اللِّسَانِ

ثُمَّ
يَقُولُ : قُومُوا عَلَى ثَغْرِ اللِّسَانِ ، فَإِنَّهُ الثَّغْرُ
الْأَعْظَمُ ، وَهُوَ قُبَالَةُ الْمَلِكِ ، فَأَجْرُوا عَلَيْهِ مِنَ
الْكَلَامِ مَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ ، وَامْنَعُوهُ أَنْ يَجْرِيَ
عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَنْفَعُهُ : مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [ ص: 100 ]
تَعَالَى وَاسْتِغْفَارِهِ ، وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ ، وَنَصِيحَةِ
عِبَادِهِ ، وَالتَّكَلُّمِ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ ، وَيَكُونُ لَكُمْ فِي
هَذَا الثَّغْرِ أَمْرَانِ عَظِيمَانِ ، لَا تُبَالُونَ بِأَيِّهِمَا
ظَفِرْتُمْ :
أَحَدُهُمَا : التَّكَلُّمُ بِالْبَاطِلِ ، فَإِنَّمَا
الْمُتَكَلِّمُ بِالْبَاطِلِ أَخٌ مِنْ إِخْوَانِكُمْ ، وَمِنْ أَكْبَرِ
جُنْدِكِمْ وَأَعْوَانِكِمْ .
الثَّانِي : السُّكُوتُ عَنِ الْحَقِّ ،
فَإِنَّ السَّاكِتَ عَنِ الْحَقِّ أَخٌ لَكُمْ أَخْرَسُ ، كَمَا أَنَّ
الْأَوَّلَ أَخٌ نَاطِقٌ ، وَرُبَّمَا كَانَ الْأَخُ الثَّانِي أَنْفَعَ
أَخَوَيْكُمْ لَكُمْ ، أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ النَّاصِحِ :
الْمُتَكَلِّمُ بِالْبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ ، وَالسَّاكِتُ عَنِ
الْحَقِّ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ ؟
فَالرِّبَاطَ الرِّبَاطَ عَلَى هَذَا
الثَّغْرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِحَقٍّ أَوْ يُمْسِكَ عَنْ بَاطِلٍ ،
وَزَيِّنُوا لَهُ التَّكَلُّمَ بِالْبَاطِلِ بِكُلِّ طَرِيقٍ ،
وَخَوِّفُوهُ مِنَ التَّكَلُّمِ بِالْحَقِّ بِكُلِّ طَرِيقٍ .
وَاعْلَمُوا
يَا بَنِيَّ أَنَّ ثَغْرَ اللِّسَانِ هُوَ الَّذِي أُهْلِكُ مِنْهُ بَنِي
آدَمَ ، وَأَكُبُّهُمْ مِنْهُ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ ، فَكَمْ
لِي مِنْقَتِيلٍ وَأَسِيرٍ وَجَرِيحٍ أَخَذْتُهُ مِنْ هَذَا الثَّغْرِ ؟
وَأُوصِيكُمْ
بِوَصِيَّةٍ فَاحْفَظُوهَا : لِيَنْطِقْ أَحَدُكُمْ عَلَى لِسَانِ أَخِيهِ
مِنَ الْإِنْسِ بِالْكَلِمَةِ ، وَيَكُونُ الْآخَرُ عَلَى لِسَانِ
السَّامِعِ فَيَنْطِقُ بِاسْتِحْسَانِهَا وَتَعْظِيمِهَا وَالتَّعَجُّبِ
مِنْهَا وَيَطْلُبُ مِنْ أَخِيهِ إِعَادَتَهَا ، وَكُونُوا أَعْوَانًا
عَلَى الْإِنْسِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَادْخُلُوا عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ
، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ، أَمَا سَمِعْتُمْ قَسَمِي الَّذِي
أَقْسَمْتُ بِهِ لِرَبِّهِمْ حَيْثُ قُلْتُ : فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ
شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [ سُورَةُ
الْأَعْرَافِ 16 - 17 ] .
أَوَمَا تَرَوْنِي قَدْ قَعَدْتُ لِابْنِ
آدَمَ بِطُرُقِهِ كُلِّهَا ، فَلَا يَفُوتُنِي مِنْ طَرِيقٍ إِلَّا
قَعَدْتُ لَهُ بِطَرِيقٍ غَيْرِهِ ، حَتَّى أُصِيبَ مِنْهُحَاجَتِي أَوْ
بَعْضَهَا ؟ وَقَدْ حَذَّرَهُمْ ذَلِكَ رَسُولُهُمْ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لَهُمْ : إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ قَعَدَ
لِابْنِ آدَمَ بِطُرُقِهِ كُلِّهَا ، وَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ
، فَقَالَ لَهُ : أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ ؟
فَخَالَفَهُ وَأَسْلَمَ ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ ، فَقَالَ :
أَتُهَاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ ؟ فَخَالَفَهُ وَهَاجَرَ ،
فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ ، فَقَالَ : أَتُجَاهِدُ فَتُقْتَلَ
فَيُقَسَّمَ الْمَالُ وَتُنْكَحَ الزَّوْجَةُ ؟
فَكَهَذَا فَاقْعُدُوا
لَهُمْ بِكُلِّ طُرُقِ الْخَيْرِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ
يَتَصَدَّقَ فَاقْعُدُوا لَهُ عَلَى طَرِيقِ الصَّدَقَةِ ، وَقُولُوا لَهُ
فِي نَفْسِهِ : أَتُخْرِجُ الْمَالَ فَتَبْقَى مِثْلَ هَذَا السَّائِلِ
وَتَصِيرَ بِمَنْزِلَتِهِ أَنْتَ وَهُوَ سَوَاءٌ ؟ أَوَمَا سَمِعْتُمْ مَا
أَلْقَيْتُ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ سَأَلَهُ آخَرُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ
، قَالَ : هِيَ أَمْوَالُنَا إِذَا أَعْطَيْنَاكُمُوهَا صِرْنَا
مِثْلَكُمْ .
[ ص: 101 ] وَاقْعُدُوا لَهُ بِطَرِيقِ الْحَجِّ ،
فَقُولُوا : طَرِيقُهُ مَخُوفَةٌ مُشِقَّةٌ ، يَتَعَرَّضُ سَالِكُهَا
لِتَلَفِ النَّفْسِ وَالْمَالِ ، وَهَكَذَا فَاقْعُدُوا لَهُ عَلَى سَائِرِ
طُرُقٍ الْخَيْرِ بِالتَّنْفِيرِ عَنْهَا وَذِكْرِ صُعُوبَتِهَا
وَآفَاتِهَا ، ثُمَّ اقْعُدُوا لَهُمْ عَلَى طُرُقِ الْمَعَاصِي
فَحَسِّنُوهَا فِي أَعْيُنِ بَنِي آدَمَ ، وَزَيِّنُوهَا فِي قُلُوبِهِمْ ،
وَاجْعَلُوا أَكْثَرَ أَعْوَانِكِمْ عَلَى ذَلِكَ النِّسَاءَ ، فَمِنْ
أَبْوَابِهِنَّ فَادْخُلُوا عَلَيْهِمْ، فَنِعْمَ الْعَوْنُ هُنَّ لَكُمْ .
ثُمَّ الْزَمُوا ثَغْرَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ، فَامْنَعُوهَا أَنْ تَبْطِشَ بِمَا يَضُرُّكُمْ وَتَمْشِي فِيهِ .
النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ
وَاعْلَمُوا
أَنَّ أَكْبَرَ أَعْوَانِكُمْ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ الثُّغُورِ
مُصَالَحَةُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ ، فَأَعْيُوهَا وَاسْتَعِينُوا بِهَا ،
وَأَمِدُّوهَا وَاسْتَمِدُّوا مِنْهَا ، وَكُونُوا مَعَهَا عَلَى حَرْبِ
النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ ، فَاجْتَهِدُوا فِي كَسْرِهَا وَإِبْطَالِ
قُوَاهَا ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِقَطْعِ مَوَادِّهَا
عَنْهَا ، فَإِذَا انْقَطَعَتْ مَوَادُّهَا وَقَوِيَتْ مَوَادُّ النَّفْسِ
الْأَمَّارَةِ ، وَانْطَاعَتْ لَكُمْ أَعْوَانُهَا ، فَاسْتَنْزِلُوا
الْقَلْبَ مِنْ حِصْنِهِ ، وَاعْزِلُوهُ عَنْ مَمْلَكَتِهِ ، وَوَلُّوا
مَكَانَهُ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ ، فَإِنَّهَا لَا تَأْمُرُ إِلَّا بِمَا
تَهْوَوْنَهُ وَتُحِبُّونَهُ ، وَلَا تَجِيئُكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَهُ
أَلْبَتَّةَ ، مَعَ أَنَّهَا لَا تُخَالِفُكُمْ فِي شَيْءٍ تُشِيرُونَ بِهِ
عَلَيْهَا ، بَلْ إِذَا أَشَرْتُمْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ بَادَرَتْ إِلَى
فِعْلِهِ ، فَإِنْ أَحْسَسْتُمْ مِنَ الْقَلْبِ مُنَازَعَةً إِلَى
مَمْلَكَتِهِ ، وَأَرَدْتُمُ الْأَمْنَ مِنْ ذَلِكَ ، فَاعْقِدُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ النَّفْسِ عَقْدَ النِّكَاحِ ، فَزَيِّنُوهَا وَجَمِّلُوهَا ،
وَأَرُوهَا إِيَّاهُفِي أَحْسَنِ صُورَةِ عَرُوسٍ تُوجَدُ ، وَقُولُوا لَهُ
ذُقْ طَعْمَ هَذَا الْوِصَالِ وَالتَّمَتُّعِ بِهَذِهِ الْعَرُوسِ كَمَا
ذُقْتَ طَعْمَ الْحَرْبِ ، وَبَاشَرْتَ مَرَارَةَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ ،
ثُمَّ وَازِنْ بَيْنَ لَذَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَمَرَارَةِ تِلْكَ
الْمُحَارَبَةِ ، فَدَعِ الْحَرْبَ تَضَعُ أَوْزَارَهَا ، فَلَيْسَتْ
بِيَوْمٍ وَتَنْقَضِي ، وَإِنَّمَا هُوَ حَرْبٌ مُتَّصِلٌ بِالْمَوْتِ ،
وَقُوَاكَ تَضْعُفُ عَنْ حَرْبٍ دَائِمٍ .
وَاسْتَعِينُوا يَا بَنِيَّ بِجُنْدَيْنِ عَظِيمَيْنِ لَنْ تُغْلَبُوا مَعَهُمَا :
أَحَدُهُمَا
: جُنْدُ الْغَفْلَةِ ، فَأَغْفِلُوا قُلُوبَ بَنِي آدَمَ عَنِ اللَّهِ
تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ بِكُلِّ طَرِيقٍ ، فَلَيْسَ لَكُمْ شَيْءٌ
أَبْلَغَ فِي تَحْصِيلِ غَرَضِكِمْ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا
غَفَلَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى تَمَكَّنْتُمْ مِنْهُ وَمِنْ إِغْوَائِهِ .
الثَّانِي
: جُنْدُ الشَّهَوَاتِ ، فَزَيِّنُوهَا فِي قُلُوبِهِمْ ، وَحَسِّنُوهَا
فِي أَعْيُنِهِمْ ، وَصُولُوا عَلَيْهِمْ بِهَذَيْنِ الْعَسْكَرَيْنِ ،
فَلَيْسَ لَكُمْ فِي بَنِي آدَمَ أَبْلَغُ مِنْهُمَا ، وَاسْتَعِينُوا
عَلَى الْغَفْلَةِ بِالشَّهَوَاتِ ، وَعَلَى الشَّهَوَاتِ بِالْغَفْلَةِ ،
وَاقْرِنُوا بَيْنَ الْغَافِلِينَ ، ثُمَّ اسْتَعِينُوا بِهِمَا عَلَى
الذَّاكِرِ ، وَلَا يَغْلِبُ وَاحِدٌ خَمْسَةً ، فَإِنَّ مَعَ
الْغَافِلَيْنِ شَيْطَانَيْنِ صَارُوا أَرْبَعَةً ، وَشَيْطَانُ الذَّاكِرِ
مَعَهُمْ ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ جَمَاعَةً مُجْتَمِعِينَ عَلَى مَا
يَضُرُّكُمْ - مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمُذَاكَرَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ
وَدِينِهِ ، وَلَمْ تَقْدِرُوا عَلَى تَفْرِيقِهِمْ - فَاسْتَعِينُوا
عَلَيْهِمْ بِبَنِي جِنْسِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ الْبَطَّالِينَ ،
فَقَرِّبُوهُمْ مِنْهُمْ ، وَشَوِّشُوا عَلَيْهِمْ بِهِمْ ، [ ص: 102 ]
وَبِالْجُمْلَةِ فَأَعِدُّوا لِلْأُمُورِ أَقْرَانَهَا ، وَادْخُلُوا عَلَى
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ بَابِ إِرَادَتِهِ وَشَهْوَتِهِ ،
فَسَاعِدُوهُ عَلَيْهَا ، وَكُونُوا لَهُ أَعْوَانًا عَلَى تَحْصِيلِهَا ،
وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَصْبِرُوا لَكُمْ
وَيُصَابِرُوكُمْ وَيُرَابِطُوا عَلَيْكُمُ الثُّغُورَ ، فَاصْبِرُوا
أَنْتُمْ وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا عَلَيْهِمْ بِالثُّغُورِ ، وَانْتَهِزُوا
فُرَصَكُمْ فِيهِمْ عِنْدَ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ ، فَلَا تَصْطَادُوا
بَنِي آدَمَ فِي أَعْظَمَ مِنْ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ .
وَاعْلَمُوا
أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ سُلْطَانُ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِ أَغْلَبَ
وَسُلْطَانُ غَضَبِهِ ضَعِيفٌ مَقْهُورٌ ، فَخُذُوا عَلَيْهِ طَرِيقَ
الشَّهْوَةِ ، وَدَعُوا طَرِيقَ الْغَضَبِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ
سُلْطَانُ الْغَضَبِ عَلَيْهِ أَغْلَبَ ، فَلَا تُخْلُوا طَرِيقَ
الشَّهْوَةِ قَلْبَهُ ، وَلَا تُعَطِّلُوا ثَغْرَهَا ، فَإِنْ لَمْ
يَمْلِكْ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ ، فَإِنَّهُ الْحَرِيُّ أَنْ لَا
يَمْلِكَ نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّهْوَةِ ، فَزَوِّجُوا بَيْنَ غَضَبِهِ
وَشَهْوَتِهِ ، وَامْزِجُوا أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ ، وَادْعُوهُ إِلَى
الشَّهْوَةِ مِنْ بَابِ الْغَضَبِ ، وَإِلَى الْغَضَبِ مِنْ طَرِيقِ
الشَّهْوَةِ .
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ فِي بَنِي آدَمَ
سِلَاحٌ أَبْلَغُ مِنْ هَذَيْنِ السِّلَاحَيْنِ ، وَإِنَّمَا أَخْرَجْتُ
أَبَوَيْهِمْ مِنَ الْجَنَّةِ بِالشَّهْوَةِ ، وَإِنَّمَا أَلْقَيْتُ
الْعَدَاوَةَ بَيْنَ أَوْلَادِهِمْ بِالْغَضَبِ ، فَبِهِ قَطَّعْتُ
أَرْحَامَهُمْ ، وَسَفَكْتُ دِمَاءَهُمْ ، وَبِهِ قَتَلَ أَحَدُ ابْنَيْ
آدَمَ أَخَاهُ .
وَاعْلَمُوا أَنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ
آدَمَ ، وَالشَّهْوَةَ تَثُورُ مِنْ قَلْبِهِ ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ
النَّارُ بِالْمَاءِ وَالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّكْبِيرِ ،
فَإِيَّاكُمْ أَنْ تُمَكِّنُوا ابْنَ آدَمَ عِنْدَ غَضَبِهِ وَشَهْوَتِهِ
مِنْ قُرْبَانِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُطْفِئُ
عَنْهُمْ نَارَ الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ ، وَقَدْ أَمَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ
بِذَلِكَ فَقَالَ : إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ ،
أَمَا رَأَيْتُمْ مِنِ احْمِرَارِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ ،
فَمَنْ أَحَسَّ بِذَلِكَ فَلْيَتَوَضَّأْ .
وَقَالَ لَهُمْ : إِنَّمَا
تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ ، وَقَدْ أَوْصَاهُمُ اللَّهُ أَنْ
يَسْتَعِينُوا عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ، فَحُولُوا بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ ذَلِكَ ، وَأَنْسُوهُمْ إِيَّاهُ ، وَاسْتَعِينُوا عَلَيْهِمْ
بِالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ ، وَأَبْلَغُ أَسْلِحَتِكِمْ فِيهِمْ
وَأَنْكَاهَا : الْغَفْلَةُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى . وَأَعْظَمُ
أَسْلِحَتِهِمْ فِيكُمْ وَأَمْنَعُ حُصُونِهِمْ ذِكْرُ اللَّهِ
وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَمُخَالِفًا
لِهَوَاهُ فَاهْرَبُوا مِنْ ظِلِّهِ وَلَا تَدْنُوا مِنْهُ .
وَالْمَقْصُودُ
أَنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ سِلَاحٌ وَمَدَدٌ يَمُدُّ بِهَا
الْعَبْدُ أَعْدَاءَهُ وَيُعِينُهُمْ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ ،
فَيُقَاتِلُونَ بِسِلَاحِهِ ، وَيَكُونُ مَعَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ ، وَهَذَا
غَايَةُ الْجَهْلِ .
مَا يَبْلُغُ الْأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ مَا يَبْلُغُ الْجَاهِلُ مِنْ نَفْسِهِ
وَمِنَ
الْعَجَائِبِ أَنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى بِجُهْدِهِ فِي هَوَانِ نَفْسِهِ ،
وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَهَا مُكْرِمٌ [ ص: 103 ] وَيَجْتَهِدُ فِي
حِرْمَانِهَا أَعْلَى حُظُوظِهَا وَأَشْرَفَهَا وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ
يَسْعَى فِي حَظِّهَا ، وَيَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي تَحْقِيرِهَا
وَتَصْغِيرِهَا وَتَدْنِيسِهَا ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُعْلِيهَا
وَيَرْفَعُهَا وَيُكْبِرُهَا .
وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ فِي
خُطْبَتِهِ : أَلَا رُبَّ مُهِينٍ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ
لَهَا مُكْرِمٌ ، وَمُذِلٌّ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَهَا
مُعِزٌّ ، وَمُصَغِّرٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَهَا مُكَبِّرٌ
، وَمُضِيعٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُرَاعٍ لِحِفْظِهَا ،
وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ يَكُونَ مَعَ عَدُوِّهِ عَلَى نَفْسِهِ ،
يَبْلُغُ مِنْهَا بِفِعْلِهِ مَا لَا يَبْلُغُهُ عَدُوُّهُ ، وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ .
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى