ام الشهيد
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
من
أسبوعين ابتليت من أولادي ببلية ، هي أني كلما دخلت الدار تعلقوا بي
طالبين تمثال العبد الأسود ذي الطربوش الأحمر . و أنا لا أدري ما هذا
التمثال ، و لا أعرف من أين آتيهم به ، وهم يلحُّون لا يشغلهم عنه شيء من
غالي اللعب ، ونادر الطرف ، حتى كرّهوا إليَّ البقاء في البيت ...
وكنت
مرة خارجاً إلى عملي مستعجلاً ، فوجدت بائعاً يحمل هذه التماثيل ، ينادي "
الواحد بقرش" ففرحت به فرح الضالّ في البادية يرى معالم الطريق ، واشتريت
تمثالين و حملتهما معتزّاً بهما كأني أحمل كنزاً ، وعدت بهما حتى إذا دنوت
من الدار وجدتُ ولدين صغيرين قاعدين في ظل جدار ، فلما أبصرا التمثالين
برقت عيناهما ، ودنا رأسهما في همس ، وارتفعت يداهما في إشارة خفية متهيبة ،
وشخص بصراهما كما يفعل شابان غريران طلعت عليهما من الطريق فتاة فتّانة
... وقاما فتبعاني وعيونهما معلقة بالتماثيل ، فلما رأيت ذلك منهما فكرت أن
أدفعهما إليهما . ولكني خشيت أن أرجع فلا أرى البائع و تخيَّلتُ رغبة
أولادي فيها ، فلم تطب نفسي أن أحرمهم هذه المتعة ، ولم أستطع الإعراض عن
الولدين الفقيرين فدعوتهما فدفعت إليهما قرشين ، وقلت لهما :- هو ذا البائع
، فألحقاه فاشتريا مثلهما . الواحد بقرش !
فأخذا
القرشين وعهدي بمثلهما أن القرش الصاغ ثروة له ، لا يناله إلاَّ بشق النفس
، فما حفلا بهما و لا هشا لهما ، ولبثا شاخصين في التمثالين كأنهما لم
يريا القرشين ، ولم يسمعا الكلام ، أو كأن عقلهما فارقهما فاستقر على ما في
يدي ، فلم يفهما كلامي ، وحاولت نسيانهما وسرت ، فتبعاني كأنهما كلبان
وكنت أحس بحرّ نظراتهما على ظهري ، وبثقلها على روحي ، فأهم أن أمد يدي
باللعب إليهما ، ثم تدركني محبة الولد فأكف ، حتى وصلتُ الدار وصورتهما
أمام عيني ، تمنع عنهما رؤية فرحة أولادي باللعب وتواثبهم إليها .
ولمّا
خرجت وجدت الولدين لا يزالان في الطريق ، يفتشان عن البائع يعدوان هنا
وهناك ، كأم أضاعت طفلها و لا تدري أية سبيل سلك . فدعوتهما فأفرخت روعهما ،
وسألتهما عن اسميهما فمشيا معي فما درت مع الطريق دورة حتى لقيت البائع
أمامي ، فاشتريتُ لهما تمثالين وتركت لهما القرشين ، ووجدتُ حول البائع
أولاداً مثلهما فقلت له :
-
أعط كل ولد تمثالاً.وكانوا تسعة فدفعت إليه تسعة قروش .هل تصدقون أو أحلف
لكم ؟! أني لما نظرتُ في وجوه الأولاد وقد بدا فيها بهاء الفرح – وما عرفتْ
هذه الوجوه الفرح قطّ – ولاحت عليها سمات الطفولة الراضية الشاكرة – وما
كان يلوح عليها إلا الألم والحقد المرير- و أشرق عليها نور إلهي سطع من
وراء ما حملت من الأوساخ و الأقذار . ولما رأيت عيون الأمهات الواقفات تدمع
، وألسنة الرجال الواقفين تدعو ، أحسستُ في قلبي بفرحة لا تعدلها فرحة
الجائع بالمائدة المملوكية المترعة ، و لا الضَّجِرُ بالقصة العبقرية
الممتعة ، ولا المحب المدنف بلقاء الحبيب بعد طول الهجران.
لا
والله ، فتلك أفراح أرضية ، وهذه فرحة سماوية ، قد تعيش آلاف البشر وتموت ،
ولا تحس مثلها . و شعرتُ كأنِّي كبرت في عين نفسي ، وأني صرت أقوى وأقدر ،
وأني نلتُ الأماني ومُتِّعت بالخلود.
إننا
ننفق كثيراً من المال ، نشتري به يسير المتع ، وهذه متعة ما يكاد يجد
الإنسان مثلها ، نلتها بتسعة قروش ، وما تسعة قروش بالنسبة لي ؟ إنها شيء
كالعدم ؛ شيء لا يغنيني وجوده ، ولا يفقرني فقده ، فهل تحبُّون أن تشتروا
مثل هذه المتعة ؟ هل تحبُّون أن تعرفوا ما هي لذة الروح ، وما هي راحة
القلب ؟ هل تريدون أن تذوقوا نعيم الجنة وأنتم في الدنيا ؟
لا
تحسبوا أني أصف كلاماً ، وأرصف ألفاظاً ، إني والله أسوق لكم حقائق ، فإن
أردتم معرفتها ففتشوا حولكم عن هذه الطفولة المحرومة وهذه النفوس المعذبة
ومن ثم أولوها الإحسان .وليست قيمة الإحسان بكثرة المال ، إن المال ينفع
الفقير ولكنه لا ينزع من قلبه النقمة على الحياة ، ولا يستلُّ منها بغض
الأغنياء ، ولا يملؤها بالحب . إن الذي يفعل هذا كله هو العطف ، وأن تشعر
الفقير بأنه مثلك ، وأن تعيد إليه كرامته وعزة نفسه . ورب تحية صادقة
تلقيها على سائل أحب إليه من درهم ، ودرهم تعطيه فقيراً وأنت تصافحه يكون
آثره عنده من دينار تدفعه إليه متكبراً مترفعاً ، يدك تمتد إليه ، ووجهك
يجرعه كأس الإذلال .
إن
كل غني يستطيع أن يتصدق بالكثير . ولكن غني القلب بالإنسانية والنبل والحب
، هو الذي يستطيع أن يتصدق مع المال ، بالعاطفة المنعشة ... فلا تضنوا على
الفقراء بإنسانيتكم ، و لا تبخلوا عليهم بعطاء قلوبكم ، وذكروهم أنهم لا
يزالون معدودين من البشر ، وأنهم مثلكم لأب واحد ولأم واحدة ، لآدم وحواء ،
وأنهم لم ينحدروا إلى دركة الدواب والبهائم .
ذكروهم
بهذه الحقيقة التي طالما نسيتموها أنتم ، ونسوها هم أنفسهم . ولم لا
ينسونها وهم يعيشون كما تعيش البهائم ، ينامون مثلها على الأقذار ، في
الأكواخ والحقول ، وفي الأزقة المعتمة ، وفي الخرائب المهجورة ، ويأكلون
مثلها من فضلات الناس ، ويشربون مثلها من البرك الآسنة ، والأنهار العكرة ،
ولم ينالوا تعليماً يرفعهم عنها و لا مدينة تميزهم منها ؛ يسهرون في عصر
الكهرباء على السرج والقناديل ، ويركبون في عهد الطيران على العربات التي
تجرها الحمير ، ويسكنون في الأكواخ على التراب في زمان ناطحات السحاب ومن
تشبه منهم بالناس المتحضرين لم يكد يصل إلى مثل حضارة الإنسانية الأولى ،
يحلق مثل (الناس) ، ولكنه يقعد على الأرض ، على رصيف الشارع ، وبيده مرآة
مكسورة يرى فيها وجهه ، والصابون القذر يغطيه ، وموسى الحلاق المفلولة تجري
فيه ، والدم ينبثق من نواحيه ، ثم تمر على هذا الوجه البشري ممسحة لا
ترضونها أنتم – والله – لمسح أحذيتكم . ويركبون مثلما يركب الناس ، ولكن
على (عربات الكارو) ، العشرة على متر مربع من الخشب ، محمولين على دولابين
من الحديد يسحبه حيوان هزيل ، والعربة ترتج بهم ، فترقص معدهم ، وتزلزل
أمعائهم ، ثم لا تصل بهم إلى نهاية الميل الواحدة إلا بعد ساعة . ولهم
قهوات ، ولكن قهواتهم اصطبلات فيها ركائز تسمى مناضد أمامها عيدان تدعى
كراسي . ولهم مطاعم ، ولكن مطاعمهم يقدم فيها المرض في طباق قذرة ...
فتداركوهم
قبل أن يكفروا بالإنسان ، فينقلبوا حرباً عليه ، حرباً ليس معها أمان .
أشعروهم أنه لا يزال في الدنيا فضل وعدل ونبل . ليجد كل واحد منكم على من
هو دونه ، لا بالمال وحده ، بل العاطفة والتواضع والإنسانية ... والرئيس
على المرؤوس ، والوزير على الوكيل ، والوكيل على المدير ، والضابط على
العريف ، والعريف على الجندي ، فإن كل واحد من هؤلاء هو اليوم عبد لمن هو
أعلى منه ، وفرعون على من هو دونه ، يتكبر عليه من هو فوقه ،ويتكبر هو على
من تحته ، حتى إن الشرطي ليطغى على البائع المتجول ، والبائع يطغى على
امرأته ، و المرأة تطغى على ولدها والولد على القطة يضربها بالعصا أو الكلب
يرميه بحجر ، كل يحاول أن يظلم كما ظُلم ، والمجرم الأكبر هو الظالم الأول
. إنهم كالحيوانات ، الجرادة تأكل البعوض ، والعصفور يأكل الجرادة ،
والحية تقتل العصفور ، والقنفذ يقتل الحية ، والثعلب يسطو على القنفذ ،
والذئب يسطو على الثعلب ، والأسد يفترس الذئب ، والإنسان يقتل الأسد ،
والبعوضة تقتل الإنسان فتغلق الحلقة على عدوان بعد عدوان .
كم
تلقون كل يوم ممن هم دونكم فلا تتفضلون بالالتفات إليهم ، ولا تفكرون فيهم
، ولا تشعرون بوجودهم ، ثم تتألمون إذا أعرض عنكم من هو فوقكم ، وتجاهل
مكانكم ، وترون ذلك جرحاً لشعوركم وكسراً لقلوبكم ، فلماذا تطلبون ممن
فوقكم ما لا تعطونه من هو دونكم ؟ أليس هؤلاء نفوس تحس ، وقلوب تتألم ؟
مررت
أمس بسائلة على شاطئ النيل الصغير ، في الروضة ، وأمامها بنت لها تحبو ،
وصلت إلى كومة أوساخ فنشبت فيها حتى وجدت بقية لعبة فحملتها فرحة بها وعادت
إلى أمها مستبشرة ، فأخذتها منها أمها ومسحتها وحاولت أن تصلحها وتعيد
الحياة إليها وقد فارقتها الحياة منذ أزمان .
فلويتُ
وجهي ألماً من منظر هذه القذارة ، ثم عدتُ ألوم نفسي وأسائلها ، ما ذنب
هذه الأم إذا أحبت بنتها وأرادت إسعادها ؟ وما ذنب هذه البنت إذا طالبت بحق
الطفولة الطبيعي باللعب ؟
لماذا
أشتري لبناتي كل أسبوع لعبة ولم يخطر على بالي أبداً أن في البلد أطفالاً
لا يجدون لعباً ؟ نحسب أننا إذا أطعمنا أطفال الفقراء الخبز ، فقد أدينا حق
الله وحق المروءة و الإنسانية علينا ، ولكن الطفل لا يكفيه الخبز ولا
يرضيه ، وهو يرى أطفال الناس يمرون به كل ساعة ، وعليهم أبهى الثياب ،
ومعهم أغلى اللعب ، إنه بين أمرين : إما أن يتبلد حسه ، وتموت نفسه ، فلا
يطمع أن يجاري هؤلاء ، ولا يأمل أن يكون مثلهم أبداً ، فينشأ ضعيف الهمة ،
ذليلاً مهيناً ، فيكون من أسباب ضعف هذه الأمة وهوانه على الأمم ... وإما
أن يثور ويغضب ويمتلئ قلبه الصغير حقداً ، ثم يكبر ويكبر الحقد معه حتى
يكون عدواً للمجتمع ونقمة على الناس ، يظلمهم كما ظلموه ، يسرق من يستطيع
سرقة ماله ، ويزهق روح من يتمكن من إزهاق روحه ، وينشر الفساد في الأرض ...
فماذا
نجعل من هؤلاء الأطفال أعداء لنا ؟ لماذا لا نحبهم فنعلمهم الحب ؟ أليسوا
أزهاراً في روض الحياة ؟ أليست كل زهرة حلوة ولو علاها الغبار ؟ أليس كل
صغير جميلاً ولو كان قطاً أو كلباً ؟ أفنحب القطة الصغيرة ونمسحها ونضعها
على الأحضان ونكره هؤلاء الأطفال ؟ وما لهم ؟ أ لأنهم قُذْر الوجوه والثياب
؟ إن القذارة لا تحب ، ولكن هذا ذنب أمهاتهم ، لا يغسلن وجوههم وهن على
النيل ! لا ، بل هو ذنبي وذنب كل واحد ، وذنب الكتاب وأولي الأمر ، إنهم لم
يعلموا هؤلاء الأمهات النظافة ، ولم يقل لهن أحد أن النظافة لازمة
والوساخة مؤذية . ومن يقول لهن ، وهن (شحادات) على الطرقات ، لا يكلمهن أحد
أبداً؟!
وما
يدريني أن ابنتي أو ابنة أحدكم لا سمح الله ، ستلقى مثل هذا المصير ؟ من
منا أخذ على الدهر عهداً أن لا يزيل عنه نعمة ؟ هل أمنا المرض والفقر ؟ هل
أوقفنا حركة الفلك ؟
وهل
نسينا أن في الوجود إلهاً ، وأن بعد الدنيا آخرة ؟ فكيف سوَّغنا لأنفسنا
مع هذا كله إهمال هذه (الإنسانية ) الصغيرة المبرأة الطاهرة ؟ لقد كان فينا
مقلدون متحذلقون ألفوا جمعيات للرفق بالحيوان ... ولكن لم ينشأ فينا إلى
اليوم من يؤلف جمعية للرفق بالإنسان ؟ لقد بلغ الخزي من نفوسنا أن وجد فينا
أناس يطعمون الكلاب المدللة اللحم السمين ، والشوكولاتة الغالية ، وحولهم
بشر لا يأكلون اللحم مرة في الشهر ، ولا يتذوقون الشوكولاته أبداً .
***إذا شئتم أن تذوقوا أجمل لذائذ الدنيا ، وأحلى أفراح القلوب ، فجودوا بالحب وبالعواطف كما تجودون بالمال .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى