ابو ذياد
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
التاريخ الهجري 8 هـ
قال ابن القيم: هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه
ورسوله وجنده وحزبه الأمـين، واستنقذ به بلــده وبيته الذي جعله هدي
للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر بـه أهـل
السمـاء، وضـربت أطناب عِزِّه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به فــي ديــن
الله أفواجـاً، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً ا. هـ.
سبب الغزوة
قدمنا في وقعة الحديبية أن بنداً من بنود هذه المعاهدة يفيد أن من أحب أن
يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في
عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر
جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدواناً
على ذلك الفريق.
وحسب هذا البند دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت
بنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخري، وقد كانت
بين القبيلتين عداوة وتوترات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه
الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر ـ اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من
خزاعة الثأر القديم، فخرج نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي في جماعة من بني بكر
في شهر شعبان سنة 8 هـ، فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له:
[الوَتِير] فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني
بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى حازوا خزاعة
إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا
الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا
ثأركم. فلعمري إنكم لتَسرِقُون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟
ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي، وإلى دار
مولي لهم يقال له: رافع.
وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه
وسلم المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نصرت يا عمرو بن سالم)، ثم عرضت
له سحابة من السماء، فقال: (إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب).
ثم خرج بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خُزَاعَة، حتى قدموا على
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة
قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة.
أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح
ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدراً محضاً ونقضاً صريحاً للميثاق،
لم يكن له أي مبرر، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبه
الوخيمة، فعقدت مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً
لها ليقوم بتجديد الصلح.
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بما ستفعله قريش إزاء
غدرتهم. قال: (كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقْدَ، ويزيد في
المدة).
وخرج أبو سفيان ـ حسب ما قررته قريش ـ فلقي بديل بن ورقاء بعُسْفَان ـ وهو
راجع من المدينة إلى مكة ـ فقال: من أين أقبلت يا بديل؟ ـ وظن أنه أتي
النبي صلى الله عليه وسلم ـ فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن
هذا الوادي. قال: أو ما جئت محمداً؟ قال: لا.
فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها
النوي، فأتي مبرك راحلته، فأخذ من بعرها، ففته، فرأي فيها النوي، فقال:
أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً.
وقدم أبو سفيان المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش
رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية، أرغبت بي عن هذا
الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأنت رجل مشرك نجس. فقال: والله لقد أصابك بعدي شر.
ثم خرج حتى أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً،
ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
ما أنا بفاعل. ثم أتي عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم
به، ثم جاء فدخل على على بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن، غلام يدب بين
يديهما، فقال: يا علي، إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة، فلا
أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد
عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.
فالتفت إلى فاطمة، فقال: هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون
سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين
الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحيئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلى بن أبي طالب في هلع
وانزعاج ويأس وقنوط: يا أبا الحسن، إني أري الأمور قد اشتدت علي،
فانصحني، قال: والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك. ولكنك سيد بني كنانة،
فقم فأجر بين الناس، ثم الْحَقْ بأرضك. قال: أو تري ذلك مغنياً عني
شيئاً؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك. فقام أبو
سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب
بعيره، وانطلق.
ولما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته، فوالله
ما رد على شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت عمر بن
الخطاب، فوجدته أدني العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار على
بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا؟ قالوا: وبم
أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك
محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك. قال:
لا والله ما وجدت غير ذلك.
التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء
يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عائشة ـ قبل
أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام ـ أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل
عليها أبو بكر، فقال: يابنية، ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما أدري.
فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله؟
قالت: والله لا علم لي، وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في
أربعين راكباً، وارتجز: يا رب إني ناشد محمداً... الأبيات. فعلم
الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل، ثم أبو سفيان، وتأكد عند الناس
الخبر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى
مكة، وقال: (اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في
بلادها).
وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قوامها
ثمانية رجال، تحت قيادة أبي قتادة بن رِبْعِي، إلى بطن إضَم، فيما بين ذي
خَشَب وذي المروة، على ثلاثة بُرُد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8 هـ ؛
ليظن الظان أنه صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك
الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته.
وكتب حاطب بن أبي بَلْتَعَة إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله صلى
الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جُعْلاً على أن تبلغه
قريشاً، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتي رسول الله صلى الله عليه
وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والمقداد والزبير بن العوام
وأبا مَرْثَد الغَنَوِي فقال: (انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَ خَاخ، فإن
بها ظعينة معها كتاب إلى قريش)، فانطلقوا تعادي بهم خيلهم حتى وجدوا
المرأة بذلك المكان، فاستنـزلوها، وقالوا: معك كتاب؟ فقالت: ما معي
كتاب، ففتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً. فقال لها علي: أحلف بالله، ما كذب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو
لنجردنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها،
فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهم، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإذا فيه: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش) يخبرهم بمسير رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً،
فقال: (ما هذا يا حطب؟) فقال: لا تَعْجَلْ على يا رسول الله.
والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ
مُلْصَقـًا في قريش ؛ لست من أنْفَسِهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي
فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك له قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك
أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب: دعني يا
رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك يا عمر لعل الله قد
اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فذَرَفَتْ عينا
عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين
وتهيئهم للزحف والقتال.
الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة
ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك 8 هـ، غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة متجهاً إلى مكــة، في عشرة ألاف من الصحابة رضي الله عنهم،
واستخـلف على المدينة أبا رُهْم الغفاري.
ولما كان بالجُحْفَة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان
قد خرج بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، ثم لما كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن الحارث وابن عمته عبد الله بن
أبي أمية، فأعرض عنهما، لما كان يلقاه منهما من شدة الأذي والهجو، فقالت له
أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقي الناس بك. وقال على لأبي
سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له
ما قال إخوة يوسف ليوسف: ( قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ
عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) [يوسف:91]، فإنه لا يرضي أن
يكون أحد أحسن منه قولاً. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ) قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ
اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) [يوسف:92]، فأنشده
أبو سفيان أبياتاً منها:
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: (أنتَ طَرَّدْتَنِي كل
مُطَرَّد؟).
الجيش الإسلامي ينزل بمَرِّ الظَّهْرَان
وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ
الكُدَيْد ـ وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد ـ فأفطر، وأفطر الناس معه. ثم
واصل سيره حتى نزل بمر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله عشاء، فأمر الجيش،
فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أبو سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول الله صلى الله
عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس، لعله يجد بعض الحَطَّابة أو أحداً يخبر
قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها.
وكان الله قد عمي الأخبار عن قريش، فهم على وَجَلٍ وترقب، وكان أبو سفيان
يخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون
الأخبار.
قال العباس: والله إني لأسير عليها ـ أي على بغلة رسول الله صلى الله
عليه وسلم ـ إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو
سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً. قال: يقول
بديل: هذه والله خزاعة، حَمَشَتْها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل
وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: أبا حَنْظَلَة؟ فعرف صوتي، فقال:
أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال: مالك؟ فداك أبي وأمي. قلت: هذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله.
قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك،
فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه.
قال: فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا: من
هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا:
عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته. حتى مررت بنار عمر بن الخطاب
فقال: من هذا؟ وقام إلى، فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة قال:
أبو سفيان، عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج
يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضتُ البغلة فسبقت، فاقتحمت عن
البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال:
يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله،
إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه،
فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت:
مهلاً يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا،
قال: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك كان أحب إلى من إسلام الخطاب، لو
أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم من إسلام الخطاب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا
أصبحت فأتني به)، فذهبت، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فلما رآه قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا
إله إلا الله؟) قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد
ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغني عني شيئاً بعد.
قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟)،
قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك: أما هذه فإن في النفس حتى
الآن منها شيء. فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله،
وأن محمداً رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق.
قال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً.
قال: (نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو
آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن).
الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة
وفي هذا الصباح ـ صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 هـ ـ
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة، وأمر العباس أن
يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خَطْمِ الجبل، حتى تمر به جنود الله
فيراها، ففعل، فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال: يا
عباس، من هذه؟ فيقول ـ مثلا ـ سليم، فيقول: مإلى ولِسُلَيْم؟ ثم تمر
به القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فيقول: مُزَيْنَة، فيقول: ما
لي ولمزينة؟ حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها،
فإذا أخبره قال: مالي ولبني فلان؟ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه
وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يري منهم إلا الحَدَق
من الحديد، قال: سبحان الله! يا عباس، من هؤلاء؟ قال: هذا رسول
الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء
قِبَلٌ ولا طاقة. ثم قال: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلْكُ ابن
أخيك اليوم عظيماً. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال:
فنعم إذن.
وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له: اليوم
يوم الملحمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة، اليـوم أذل الله قـريشاً.
فلما حـاذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال: يا رسول الله،
ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: (وما قال؟) فقال: قال كذا وكذا.
فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، ما نأمن أن يكون له في
قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل اليوم يوم تُعَظَّم
فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً) ثم أرسل إلى سعد فنزع منه
اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأي أن اللواء لم يخرج عن سعد. وقيل: بل
دفعه إلى الزبير.
قريش تباغت زحف الجيش الإسلامي
ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان ومضي قال له العباس:
النجاء إلى قومك. فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته: يا
معشر قريش، هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به. فمن دخل دار أبي
سفيان فهو آمن. فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت:
اقتلوا الحَمِيت الدسم الأخمش الساقين، قُبِّحَ من طَلِيعَة قوم.
قال أبو سفيان: ويلكم، لاتغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قبل
لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني
عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، ووبشوا أوباشاً لهم، وقالوا: نقدم
هؤلاء، فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا. فتجمع
سفهاء قريش وأخِفَّاؤها مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن
عمرو بالخَنْدَمَة ليقاتلوا المسلمين. وكان فيهم رجل من بني بكر ـ حِمَاس
بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك سلاحاً، فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أري؟
قال: لمحمد وأصحابه. قالت: والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شيء.
قال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال:
إن يقبلوا اليوم فمالي عِلَّه ** هــذا ســلاح كامــل وألَّه
وذو غِرَارَيْن سريع السَّلَّة **
فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا في الخندمة.
الجيش الإسلامي بذي طُوَى
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضي حتى انتهي إلى ذي طوي ـ وكان يضع
رأسه تواضعاً لله حين رأي ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن شعر لحيته
ليكاد يمس واسطة الرحل ـ وهناك وزع جيشه، وكان خالد بن الوليد على
المُجَنَّبَةِ اليمني ـ وفيها أسْلَمُ وسُلَيْم وغِفَار ومُزَيْنَة
وجُهَيْنَة وقبائل من قبائل العرب ـ فأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقال:
( إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً، حتى توافوني على الصفا ).
وكان الزبير بن العوام على المُجَنَّبَةِ اليسري، وكان معه راية رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يدخل مكة من أعلاها ـ من كَدَاء ـ وأن يغرز
رايته بالحَجُون، ولا يبرح حتى يأتيه.
وكان أبو عبيدة على الرجالة والحُسَّر ـ وهم الذيم لاسلاح معهم ـ فأمره أن
يأخذ بطن الوادي حتى ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجيش الإسلامي يدخل مكة
وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها.
فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه. وقتل من أصحابه
من المسلمين كُرْز بن جابر الفِهْرِي وخُنَيْس بن خالد بن ربيعة. كانا
قد شذا عن الجيش، فسلكا طريقاً غير طريقه فقتلا جميعاً، وأما سفهاء قريش
فلقيهم خالد وأصحابه بالخَنْدَمَة فناوشوهم شيئا من قتال، فأصابوا من
المشركين اثني عشر رجلاً، فانهزم المشركون، وانهزم حِمَاس بن قيس ـ الذي
كان يعد السلاح لقتال المسلمين ـ حتى دخل بيته، فقال لامرأته: أغلقي على
بابي.
فقالت: وأين ما كنت تقول؟ فقال:
وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا.
وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحَجُون
عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل المسجد الحرام ويطهره من الأصنام
ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه
وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت،
وفي يده قوس، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس،
ويقول: ) جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ
زَهُوقًا ) [الإسراء:81]، ( قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ
الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ) [سبأ:49] والأصنام تتساقط على
وجوهها.
وكان طوافه على راحلته، ولم يكن محرماً يومئذ، فاقتصر على الطواف، فلما
أكمله دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت فدخلها،
فرأي فيها الصور، ورأي فيها صورة إبراهيم، وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ
يستقسمان بالأزلام، فقال: (قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط).
ورأي في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت.
الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في الكعبة ثم يخطب أمام قريش
ثم أغلق عليه الباب، وعلى أسامة وبلال، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب
حتى إذا كان بينه وبينه ثلاثة أذرع وقف، وجعل عمودين عن يساره، وعموداً عن
يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه ـ وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ـ ثم صلي
هناك. ثم دار في البيت، وكبر في نواحيه، ووحد الله، ثم فتح الباب، وقريش
قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع؟ فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته،
فقال:
(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب
وحده، ألا كل مأثُرَة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سِدَانَة البيت
وسِقاية الحاج، ألاوقتيل الخطأ شبه العمد ـ السوط والعصا ـ ففيه الدية
مغلظة، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولاد.
يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس
من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية: ) يا أيها الناس إنا خلقناكم
من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن
الله عليم خبير ).
لا تثريب عليكم اليوم
ثم قال: (يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟) قالوا: خيرًا، أخ
كريم وابن أخ كريم، قال: (فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: (
لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ) اذهبوا فأنتم الطلقاء).
مفتاح البيت إلى أهله
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقام إليه علي رضي الله عنه
ومفتاح الكعبة في يده فقال: اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك
ـ وفي رواية أن الذي قال ذلك هو العباس ـ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (أين عثمان بن طلحة؟). فدعي له، فقال له: (هاك مفتاحك
يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء)، وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال له
حين دفع المفتاح إليه: (خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم،
يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت
بالمعروف).
بلال يؤذن على الكعبة
وحانت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يصعد فيؤذن على
الكعبة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء
الكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما
يغيظه. فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته. فقال أبو
سفيان: أما والله لا أقول شيئًا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء.
فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (لقد علمت الذي قلتم)
ثم ذكر ذلك لهم.
فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان
معنا فنقول أخبرك.
صلاة الفتح أو صلاة الشكر
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دار أم هانئ بنت أبي طالب، فاغتسل
وصلى ثماني ركعات في بيتها ـ وكان ضحى ـ فظنها من ظنها صلاة الضحى، وإنما
هذه صلاة الفتح، وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب
أراد أن يقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتها، وسألت النبي صلى الله عليه
وسلم فقال لها ذلك.
إهدار دم رجال من أكابر المجرمين
وأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر
المجرمين، وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم عبد العزى بن خطل،
وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن نفيل بن وهب،
ومقيس بن صبابة، وهبار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن الأخطل، كانت تغنيان
بهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وهي التي
وجد معها كتاب حاطب.
فأما ابن أبي سرح فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشفع فيه،
فحقن دمه، وقبل إسلامه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة
فيقتله، وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر، ثم ارتد ورجع إلى مكة.
وأما عكرمة بن أبي جهل، ففر إلى اليمن، فاستأمنت له امرأته، فأمنه النبي
صلى الله عليه وسلم فتبعته، فرجع معها وأسلم وحسن إسلامه.
وأما ابن خطل فكان متعلقًا بأستار الكعبة، فجاء رجل إلى النبي صلى الله
عليه وسلم وأخبره، فقال: (اقتله) فقتله.
وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبدالله، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك، ثم
عدا على رجل من الأنصار فقتله، ثم ارتد ولحق بالمشركين.
وأما الحارث فكان شديد الأذى لرسول الله بمكة، فقتله علي.
وأما هبار بن الأسود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين هاجرت، فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ففر هبار
يوم مكة ثم أسلم وحسن إسلامه.
وأما القينتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للأخرى فأسلمت، كما استؤمن لسارة
وأسلمت.
قال ابن حجر: وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي، قتله
على. وذكر الحاكم أيضاً ممن أهدر دمه كعب بن زهير، وقصته مشهورة، وقد
جاء بعد ذلك وأسلم ومدح، ووحشي بن حرب، وهند بنت عتبة امرأه أبي سفيان، وقد
أسلمت، وأرنب مولاه ابن خطل أيضاً قتلت، وأم سعد قتلت، فيما ذكر ابن
إسحاق، فكملت العدة ثامنية رجال وست نسوة، ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد
القينتان، أختلف في اسمهما أو باعتبار الكنية واللقب.
إسلام صفوان بن أمية، وفضالة بن عمير
لم يكن صفوان ممن أهدر دمه، لكنه بصفته زعيماً كبيراً من زعماء قريش خاف
على نفسه وفر، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأمنه، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة، فلحقة عمير وهو يريد أن يركب
البحر من جدة إلى اليمن فرده، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
اجعلني بالخيار شهرين. قال (أنت بالخيار أربعة أشهر) ثم أسلم صفوان،
وقد كانت امرأته أسلمت قبله، فأقرهما على النكاح الأول.
وكان فضالة رجلاً جريئا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في
الطواف؛ ليقتله، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما في نفسه فأسلم.
خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم الثاني من الفتح:
ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس
خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بما هو أهله، ثم قال: (أيها
الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى
يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، أو
يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقولوا: إن الله أذن لرسولة ولم يأذن لكم، وإنما حلت لي ساعة من نهار،
وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب).
وفي رواية: (لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده ولا تلتقط ساقطته إلا من
عرفها، ولا يختلى خلاه)، فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر، فإنه
لقينهم وبيوتهم، فقال: (إلا الإذخر).
وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجلا من بنى ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم بهذا الصدد: (يا معشر خزاعة، ارفعو أيديكم عن
القتل، فلقد كثر القتل إن نفع، ولقد قتلتم قتيالا لأدينه، فمن قتل بعد
مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله).
وفي رواية: فقام رجل من أهل اليمن يقال له: شاه فقال: اكتب لي يا
رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اكتبو لأبي شاه).
تخوف الأنصار من بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة
ولما تم فتح مكة على الرسول صلى الله عليه وسلم - وهي بلده ووطنه ومولده -
قال الأنصار فيما بينهم: أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله
عليه أرضه وبلده أن يقيم بها - وهو يدعو على الصفا رافعاً يديه - فلما فرغ
من دعائة قال: (ماذا قلتم؟) قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم
يزل بهم حتى أخبروه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (معاذ الله،
المحيا محياكم، والممات مماتكم).
أخذ البيعة
وحين فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، تبين لأهل
مكة الحق، وعلموا أن لا سبيل إلى النجاح إلا الإسلام، فأذعنوا له، واجتمعوا
للبيعة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا يبايع الناس، وعمر
بن الخطاب أسفل منه، يأخذ على الناس فبايعوه على السمع والطاعة فيما
استطاعوا.
وفي المدارك: روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال
أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر قاعد أسفل منه، يبايعهن بأمره،
ويبلغهن عنه، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة، خوفاً من رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها؛ لما صنعت بحمزة، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم (أبايعكن على ألا تشركن بالله شيئا)، فبايع عمر النساء
على ألا يشركن بالله شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا
تسرقن) فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، فإن أنا أصبت من ماله
هنات؟ فقال أبو سفيان: وما أصبت فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله
عليه وسلم وعرفها، فقال: (وإنك لهند؟) قالت: نعم، فاعف عما سلف
يا نبي الله، عفا الله عنك.
فقال: (ولا يزنين). فقالت: أو تزني الحرة؟
فقال: (ولا يقتلن أولادهن). فقالت: ربيناهم صغارا، وقتلناهم
كبارا، فأنتم وهم أعلم ـ وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدرـ
فضحك عمر حتى استلقى فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (ولا يأتين ببهتان) فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح وما
تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق.
فقال: (ولا يعصينك في معروف) فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي
أنفسنا أن نعصيك.
ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول: كنا منك في غرور.
وفي الصحيح: جاءت هند بنت عتبة فقالت: يا رسول الله ما كان على ظهر
الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على
ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يغزوا من أهل خبائك. قال: (وأيضا،
والذي نفسي بيده) قالت: يا رسول ال،له إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي
حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ قال: (لا أره إلا بالمعروف).
إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة وعمله فيها
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يومًا يجدد معالم
الإسلام، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى، وخلال هذه الآيام أمر أبا أسيد
الخزاعي، فجدد أنصاب الحرم، وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام، ولكسر الأوثان
التي كانت حول مكة، فكسرت كلها، ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله
واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره.
قال ابن القيم: هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه
ورسوله وجنده وحزبه الأمـين، واستنقذ به بلــده وبيته الذي جعله هدي
للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر بـه أهـل
السمـاء، وضـربت أطناب عِزِّه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به فــي ديــن
الله أفواجـاً، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً ا. هـ.
سبب الغزوة
قدمنا في وقعة الحديبية أن بنداً من بنود هذه المعاهدة يفيد أن من أحب أن
يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في
عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر
جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدواناً
على ذلك الفريق.
وحسب هذا البند دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت
بنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخري، وقد كانت
بين القبيلتين عداوة وتوترات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه
الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر ـ اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من
خزاعة الثأر القديم، فخرج نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي في جماعة من بني بكر
في شهر شعبان سنة 8 هـ، فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له:
[الوَتِير] فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني
بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى حازوا خزاعة
إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا
الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا
ثأركم. فلعمري إنكم لتَسرِقُون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟
ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي، وإلى دار
مولي لهم يقال له: رافع.
وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه
وسلم المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نصرت يا عمرو بن سالم)، ثم عرضت
له سحابة من السماء، فقال: (إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب).
ثم خرج بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خُزَاعَة، حتى قدموا على
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة
قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة.
أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح
ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدراً محضاً ونقضاً صريحاً للميثاق،
لم يكن له أي مبرر، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبه
الوخيمة، فعقدت مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً
لها ليقوم بتجديد الصلح.
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بما ستفعله قريش إزاء
غدرتهم. قال: (كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقْدَ، ويزيد في
المدة).
وخرج أبو سفيان ـ حسب ما قررته قريش ـ فلقي بديل بن ورقاء بعُسْفَان ـ وهو
راجع من المدينة إلى مكة ـ فقال: من أين أقبلت يا بديل؟ ـ وظن أنه أتي
النبي صلى الله عليه وسلم ـ فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن
هذا الوادي. قال: أو ما جئت محمداً؟ قال: لا.
فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها
النوي، فأتي مبرك راحلته، فأخذ من بعرها، ففته، فرأي فيها النوي، فقال:
أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً.
وقدم أبو سفيان المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش
رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية، أرغبت بي عن هذا
الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأنت رجل مشرك نجس. فقال: والله لقد أصابك بعدي شر.
ثم خرج حتى أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً،
ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
ما أنا بفاعل. ثم أتي عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم
به، ثم جاء فدخل على على بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن، غلام يدب بين
يديهما، فقال: يا علي، إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة، فلا
أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد
عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.
فالتفت إلى فاطمة، فقال: هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون
سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين
الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحيئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلى بن أبي طالب في هلع
وانزعاج ويأس وقنوط: يا أبا الحسن، إني أري الأمور قد اشتدت علي،
فانصحني، قال: والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك. ولكنك سيد بني كنانة،
فقم فأجر بين الناس، ثم الْحَقْ بأرضك. قال: أو تري ذلك مغنياً عني
شيئاً؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك. فقام أبو
سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب
بعيره، وانطلق.
ولما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته، فوالله
ما رد على شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت عمر بن
الخطاب، فوجدته أدني العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار على
بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا؟ قالوا: وبم
أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك
محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك. قال:
لا والله ما وجدت غير ذلك.
التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء
يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عائشة ـ قبل
أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام ـ أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل
عليها أبو بكر، فقال: يابنية، ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما أدري.
فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله؟
قالت: والله لا علم لي، وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في
أربعين راكباً، وارتجز: يا رب إني ناشد محمداً... الأبيات. فعلم
الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل، ثم أبو سفيان، وتأكد عند الناس
الخبر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى
مكة، وقال: (اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في
بلادها).
وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قوامها
ثمانية رجال، تحت قيادة أبي قتادة بن رِبْعِي، إلى بطن إضَم، فيما بين ذي
خَشَب وذي المروة، على ثلاثة بُرُد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8 هـ ؛
ليظن الظان أنه صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك
الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته.
وكتب حاطب بن أبي بَلْتَعَة إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله صلى
الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جُعْلاً على أن تبلغه
قريشاً، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتي رسول الله صلى الله عليه
وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والمقداد والزبير بن العوام
وأبا مَرْثَد الغَنَوِي فقال: (انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَ خَاخ، فإن
بها ظعينة معها كتاب إلى قريش)، فانطلقوا تعادي بهم خيلهم حتى وجدوا
المرأة بذلك المكان، فاستنـزلوها، وقالوا: معك كتاب؟ فقالت: ما معي
كتاب، ففتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً. فقال لها علي: أحلف بالله، ما كذب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو
لنجردنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها،
فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهم، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإذا فيه: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش) يخبرهم بمسير رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً،
فقال: (ما هذا يا حطب؟) فقال: لا تَعْجَلْ على يا رسول الله.
والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ
مُلْصَقـًا في قريش ؛ لست من أنْفَسِهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي
فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك له قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك
أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب: دعني يا
رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك يا عمر لعل الله قد
اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فذَرَفَتْ عينا
عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين
وتهيئهم للزحف والقتال.
الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة
ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك 8 هـ، غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة متجهاً إلى مكــة، في عشرة ألاف من الصحابة رضي الله عنهم،
واستخـلف على المدينة أبا رُهْم الغفاري.
ولما كان بالجُحْفَة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان
قد خرج بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، ثم لما كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن الحارث وابن عمته عبد الله بن
أبي أمية، فأعرض عنهما، لما كان يلقاه منهما من شدة الأذي والهجو، فقالت له
أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقي الناس بك. وقال على لأبي
سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له
ما قال إخوة يوسف ليوسف: ( قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ
عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) [يوسف:91]، فإنه لا يرضي أن
يكون أحد أحسن منه قولاً. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ) قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ
اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) [يوسف:92]، فأنشده
أبو سفيان أبياتاً منها:
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: (أنتَ طَرَّدْتَنِي كل
مُطَرَّد؟).
الجيش الإسلامي ينزل بمَرِّ الظَّهْرَان
وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ
الكُدَيْد ـ وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد ـ فأفطر، وأفطر الناس معه. ثم
واصل سيره حتى نزل بمر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله عشاء، فأمر الجيش،
فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أبو سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول الله صلى الله
عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس، لعله يجد بعض الحَطَّابة أو أحداً يخبر
قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها.
وكان الله قد عمي الأخبار عن قريش، فهم على وَجَلٍ وترقب، وكان أبو سفيان
يخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون
الأخبار.
قال العباس: والله إني لأسير عليها ـ أي على بغلة رسول الله صلى الله
عليه وسلم ـ إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو
سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً. قال: يقول
بديل: هذه والله خزاعة، حَمَشَتْها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل
وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: أبا حَنْظَلَة؟ فعرف صوتي، فقال:
أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال: مالك؟ فداك أبي وأمي. قلت: هذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله.
قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك،
فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه.
قال: فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا: من
هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا:
عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته. حتى مررت بنار عمر بن الخطاب
فقال: من هذا؟ وقام إلى، فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة قال:
أبو سفيان، عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج
يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضتُ البغلة فسبقت، فاقتحمت عن
البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال:
يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله،
إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه،
فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت:
مهلاً يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا،
قال: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك كان أحب إلى من إسلام الخطاب، لو
أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم من إسلام الخطاب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا
أصبحت فأتني به)، فذهبت، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فلما رآه قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا
إله إلا الله؟) قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد
ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغني عني شيئاً بعد.
قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟)،
قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك: أما هذه فإن في النفس حتى
الآن منها شيء. فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله،
وأن محمداً رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق.
قال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً.
قال: (نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو
آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن).
الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة
وفي هذا الصباح ـ صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 هـ ـ
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة، وأمر العباس أن
يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خَطْمِ الجبل، حتى تمر به جنود الله
فيراها، ففعل، فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال: يا
عباس، من هذه؟ فيقول ـ مثلا ـ سليم، فيقول: مإلى ولِسُلَيْم؟ ثم تمر
به القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فيقول: مُزَيْنَة، فيقول: ما
لي ولمزينة؟ حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها،
فإذا أخبره قال: مالي ولبني فلان؟ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه
وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يري منهم إلا الحَدَق
من الحديد، قال: سبحان الله! يا عباس، من هؤلاء؟ قال: هذا رسول
الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء
قِبَلٌ ولا طاقة. ثم قال: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلْكُ ابن
أخيك اليوم عظيماً. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال:
فنعم إذن.
وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له: اليوم
يوم الملحمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة، اليـوم أذل الله قـريشاً.
فلما حـاذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال: يا رسول الله،
ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: (وما قال؟) فقال: قال كذا وكذا.
فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، ما نأمن أن يكون له في
قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل اليوم يوم تُعَظَّم
فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً) ثم أرسل إلى سعد فنزع منه
اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأي أن اللواء لم يخرج عن سعد. وقيل: بل
دفعه إلى الزبير.
قريش تباغت زحف الجيش الإسلامي
ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان ومضي قال له العباس:
النجاء إلى قومك. فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته: يا
معشر قريش، هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به. فمن دخل دار أبي
سفيان فهو آمن. فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت:
اقتلوا الحَمِيت الدسم الأخمش الساقين، قُبِّحَ من طَلِيعَة قوم.
قال أبو سفيان: ويلكم، لاتغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قبل
لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني
عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، ووبشوا أوباشاً لهم، وقالوا: نقدم
هؤلاء، فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا. فتجمع
سفهاء قريش وأخِفَّاؤها مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن
عمرو بالخَنْدَمَة ليقاتلوا المسلمين. وكان فيهم رجل من بني بكر ـ حِمَاس
بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك سلاحاً، فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أري؟
قال: لمحمد وأصحابه. قالت: والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شيء.
قال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال:
إن يقبلوا اليوم فمالي عِلَّه ** هــذا ســلاح كامــل وألَّه
وذو غِرَارَيْن سريع السَّلَّة **
فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا في الخندمة.
الجيش الإسلامي بذي طُوَى
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضي حتى انتهي إلى ذي طوي ـ وكان يضع
رأسه تواضعاً لله حين رأي ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن شعر لحيته
ليكاد يمس واسطة الرحل ـ وهناك وزع جيشه، وكان خالد بن الوليد على
المُجَنَّبَةِ اليمني ـ وفيها أسْلَمُ وسُلَيْم وغِفَار ومُزَيْنَة
وجُهَيْنَة وقبائل من قبائل العرب ـ فأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقال:
( إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً، حتى توافوني على الصفا ).
وكان الزبير بن العوام على المُجَنَّبَةِ اليسري، وكان معه راية رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يدخل مكة من أعلاها ـ من كَدَاء ـ وأن يغرز
رايته بالحَجُون، ولا يبرح حتى يأتيه.
وكان أبو عبيدة على الرجالة والحُسَّر ـ وهم الذيم لاسلاح معهم ـ فأمره أن
يأخذ بطن الوادي حتى ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجيش الإسلامي يدخل مكة
وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها.
فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه. وقتل من أصحابه
من المسلمين كُرْز بن جابر الفِهْرِي وخُنَيْس بن خالد بن ربيعة. كانا
قد شذا عن الجيش، فسلكا طريقاً غير طريقه فقتلا جميعاً، وأما سفهاء قريش
فلقيهم خالد وأصحابه بالخَنْدَمَة فناوشوهم شيئا من قتال، فأصابوا من
المشركين اثني عشر رجلاً، فانهزم المشركون، وانهزم حِمَاس بن قيس ـ الذي
كان يعد السلاح لقتال المسلمين ـ حتى دخل بيته، فقال لامرأته: أغلقي على
بابي.
فقالت: وأين ما كنت تقول؟ فقال:
وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا.
وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحَجُون
عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل المسجد الحرام ويطهره من الأصنام
ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه
وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت،
وفي يده قوس، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس،
ويقول: ) جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ
زَهُوقًا ) [الإسراء:81]، ( قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ
الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ) [سبأ:49] والأصنام تتساقط على
وجوهها.
وكان طوافه على راحلته، ولم يكن محرماً يومئذ، فاقتصر على الطواف، فلما
أكمله دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت فدخلها،
فرأي فيها الصور، ورأي فيها صورة إبراهيم، وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ
يستقسمان بالأزلام، فقال: (قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط).
ورأي في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت.
الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في الكعبة ثم يخطب أمام قريش
ثم أغلق عليه الباب، وعلى أسامة وبلال، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب
حتى إذا كان بينه وبينه ثلاثة أذرع وقف، وجعل عمودين عن يساره، وعموداً عن
يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه ـ وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ـ ثم صلي
هناك. ثم دار في البيت، وكبر في نواحيه، ووحد الله، ثم فتح الباب، وقريش
قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع؟ فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته،
فقال:
(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب
وحده، ألا كل مأثُرَة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سِدَانَة البيت
وسِقاية الحاج، ألاوقتيل الخطأ شبه العمد ـ السوط والعصا ـ ففيه الدية
مغلظة، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولاد.
يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس
من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية: ) يا أيها الناس إنا خلقناكم
من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن
الله عليم خبير ).
لا تثريب عليكم اليوم
ثم قال: (يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟) قالوا: خيرًا، أخ
كريم وابن أخ كريم، قال: (فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: (
لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ) اذهبوا فأنتم الطلقاء).
مفتاح البيت إلى أهله
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقام إليه علي رضي الله عنه
ومفتاح الكعبة في يده فقال: اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك
ـ وفي رواية أن الذي قال ذلك هو العباس ـ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (أين عثمان بن طلحة؟). فدعي له، فقال له: (هاك مفتاحك
يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء)، وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال له
حين دفع المفتاح إليه: (خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم،
يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت
بالمعروف).
بلال يؤذن على الكعبة
وحانت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يصعد فيؤذن على
الكعبة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء
الكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما
يغيظه. فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته. فقال أبو
سفيان: أما والله لا أقول شيئًا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء.
فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (لقد علمت الذي قلتم)
ثم ذكر ذلك لهم.
فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان
معنا فنقول أخبرك.
صلاة الفتح أو صلاة الشكر
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دار أم هانئ بنت أبي طالب، فاغتسل
وصلى ثماني ركعات في بيتها ـ وكان ضحى ـ فظنها من ظنها صلاة الضحى، وإنما
هذه صلاة الفتح، وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب
أراد أن يقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتها، وسألت النبي صلى الله عليه
وسلم فقال لها ذلك.
إهدار دم رجال من أكابر المجرمين
وأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر
المجرمين، وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم عبد العزى بن خطل،
وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن نفيل بن وهب،
ومقيس بن صبابة، وهبار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن الأخطل، كانت تغنيان
بهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وهي التي
وجد معها كتاب حاطب.
فأما ابن أبي سرح فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشفع فيه،
فحقن دمه، وقبل إسلامه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة
فيقتله، وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر، ثم ارتد ورجع إلى مكة.
وأما عكرمة بن أبي جهل، ففر إلى اليمن، فاستأمنت له امرأته، فأمنه النبي
صلى الله عليه وسلم فتبعته، فرجع معها وأسلم وحسن إسلامه.
وأما ابن خطل فكان متعلقًا بأستار الكعبة، فجاء رجل إلى النبي صلى الله
عليه وسلم وأخبره، فقال: (اقتله) فقتله.
وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبدالله، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك، ثم
عدا على رجل من الأنصار فقتله، ثم ارتد ولحق بالمشركين.
وأما الحارث فكان شديد الأذى لرسول الله بمكة، فقتله علي.
وأما هبار بن الأسود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين هاجرت، فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ففر هبار
يوم مكة ثم أسلم وحسن إسلامه.
وأما القينتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للأخرى فأسلمت، كما استؤمن لسارة
وأسلمت.
قال ابن حجر: وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي، قتله
على. وذكر الحاكم أيضاً ممن أهدر دمه كعب بن زهير، وقصته مشهورة، وقد
جاء بعد ذلك وأسلم ومدح، ووحشي بن حرب، وهند بنت عتبة امرأه أبي سفيان، وقد
أسلمت، وأرنب مولاه ابن خطل أيضاً قتلت، وأم سعد قتلت، فيما ذكر ابن
إسحاق، فكملت العدة ثامنية رجال وست نسوة، ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد
القينتان، أختلف في اسمهما أو باعتبار الكنية واللقب.
إسلام صفوان بن أمية، وفضالة بن عمير
لم يكن صفوان ممن أهدر دمه، لكنه بصفته زعيماً كبيراً من زعماء قريش خاف
على نفسه وفر، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأمنه، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة، فلحقة عمير وهو يريد أن يركب
البحر من جدة إلى اليمن فرده، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
اجعلني بالخيار شهرين. قال (أنت بالخيار أربعة أشهر) ثم أسلم صفوان،
وقد كانت امرأته أسلمت قبله، فأقرهما على النكاح الأول.
وكان فضالة رجلاً جريئا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في
الطواف؛ ليقتله، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما في نفسه فأسلم.
خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم الثاني من الفتح:
ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس
خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بما هو أهله، ثم قال: (أيها
الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى
يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، أو
يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقولوا: إن الله أذن لرسولة ولم يأذن لكم، وإنما حلت لي ساعة من نهار،
وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب).
وفي رواية: (لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده ولا تلتقط ساقطته إلا من
عرفها، ولا يختلى خلاه)، فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر، فإنه
لقينهم وبيوتهم، فقال: (إلا الإذخر).
وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجلا من بنى ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم بهذا الصدد: (يا معشر خزاعة، ارفعو أيديكم عن
القتل، فلقد كثر القتل إن نفع، ولقد قتلتم قتيالا لأدينه، فمن قتل بعد
مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله).
وفي رواية: فقام رجل من أهل اليمن يقال له: شاه فقال: اكتب لي يا
رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اكتبو لأبي شاه).
تخوف الأنصار من بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة
ولما تم فتح مكة على الرسول صلى الله عليه وسلم - وهي بلده ووطنه ومولده -
قال الأنصار فيما بينهم: أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله
عليه أرضه وبلده أن يقيم بها - وهو يدعو على الصفا رافعاً يديه - فلما فرغ
من دعائة قال: (ماذا قلتم؟) قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم
يزل بهم حتى أخبروه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (معاذ الله،
المحيا محياكم، والممات مماتكم).
أخذ البيعة
وحين فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، تبين لأهل
مكة الحق، وعلموا أن لا سبيل إلى النجاح إلا الإسلام، فأذعنوا له، واجتمعوا
للبيعة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا يبايع الناس، وعمر
بن الخطاب أسفل منه، يأخذ على الناس فبايعوه على السمع والطاعة فيما
استطاعوا.
وفي المدارك: روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال
أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر قاعد أسفل منه، يبايعهن بأمره،
ويبلغهن عنه، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة، خوفاً من رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها؛ لما صنعت بحمزة، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم (أبايعكن على ألا تشركن بالله شيئا)، فبايع عمر النساء
على ألا يشركن بالله شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا
تسرقن) فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، فإن أنا أصبت من ماله
هنات؟ فقال أبو سفيان: وما أصبت فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله
عليه وسلم وعرفها، فقال: (وإنك لهند؟) قالت: نعم، فاعف عما سلف
يا نبي الله، عفا الله عنك.
فقال: (ولا يزنين). فقالت: أو تزني الحرة؟
فقال: (ولا يقتلن أولادهن). فقالت: ربيناهم صغارا، وقتلناهم
كبارا، فأنتم وهم أعلم ـ وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدرـ
فضحك عمر حتى استلقى فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (ولا يأتين ببهتان) فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح وما
تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق.
فقال: (ولا يعصينك في معروف) فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي
أنفسنا أن نعصيك.
ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول: كنا منك في غرور.
وفي الصحيح: جاءت هند بنت عتبة فقالت: يا رسول الله ما كان على ظهر
الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على
ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يغزوا من أهل خبائك. قال: (وأيضا،
والذي نفسي بيده) قالت: يا رسول ال،له إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي
حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ قال: (لا أره إلا بالمعروف).
إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة وعمله فيها
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يومًا يجدد معالم
الإسلام، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى، وخلال هذه الآيام أمر أبا أسيد
الخزاعي، فجدد أنصاب الحرم، وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام، ولكسر الأوثان
التي كانت حول مكة، فكسرت كلها، ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله
واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى