ابو ذياد
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
التاريخ الهجري 241 هـ
قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة
من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزينوا له القول بخلق القرآن
ونفي الصفات عن الله عز وجل.
قال البيهقي: ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا
على مذهب السلف ومنهاجهم، فلما ولي هو الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على
ذلك وزينوا له، واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد
إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن،
واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين.
فلما وصل الكتاب كما ذكرنا استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك
فامتنعوا، فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على
الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح الجنديسابوري، فحملا
على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك، وهما مقيدان متعادلان في محمل
على بعير واحد، فلما كانا ببلاد الرحبة جاءهما رجل من الأعراب من عبادهم
يقال له: جابر بن عامر، فسلم على الإمام أحمد وقال له: يا هذا ! إنك
وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى
ما يدعونك إليه فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله
فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل، وإنك إن لم
تقتل تمت، وإن عشت عشت حميداً. (ج/ص: 10/366)
قال أحمد: وكان كلامه مما قوَّى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك
الذي يدعونني إليه.
فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه
بطرف ثوبه ويقول: يعزُّ عليَّ أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفاً لم
يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم
تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف.
قال: فجثى الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال: سيدي
غرَّ حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أولياءك بالضرب والقتل، اللهم فإن لم
يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته.
قال: فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل.
قال أحمد: ففرحنا، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة، وقد انضم
إليه أحمد بن أبي دؤاد، وأن الأمر شديد، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض
الأسارى، ونالني منهم أذىً كثير.
وكان في رجليه القيود، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد،
فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان، فأودع في السجن نحواً من ثمانية
وعشرين شهراً، وقيل: نيفاً وثلاثين شهراً، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي
المعتصم.
وقد كان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه.
ذكر ضربه رضي الله عنه بين يدي المعتصم
لما أحضره المعتصم من السجن زاد في قيوده، قال أحمد: فلم أستطع أن أمشي
بها فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاؤني بدابة فحملت عليها فكدت أن
أسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا دار
المعتصم، فأدخلت في بيت وأغلق عليَّ وليس عندي سراج، فأردت الوضوء فمددت
يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه، ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذ
أنا على القبلة و لله الحمد.
ثم دعيت فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إلي وعنده ابن أبي دؤاد قال: أليس
قد زعمتم أنه حدث السن وهذا شيخ مكهل ؟
فلما دنوت منه وسلمت قال لي: ادنه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم
قال: اجلس ! فجلست وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعة ثم قلت: يا أمير
المؤمنين إلى م دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله.
قال: ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس ثم قلت: فهذا الذي دعا
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ج/ص: 10/367)
قال: ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه، وذلك أني لم أتفقه كلامه، ثم
قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من قبلي لم أتعرض إليك.
ثم قال: يا عبد الرحمن ! ألم آمرك أن ترفع المحنة ؟
قال أحمد: فقلت: الله أكبر، هذا فرج المسلمين.
ثم قال ناظره: يا عبد الرحمن، كلمه.
فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ فلم أجبه.
فقال المعتصم: أجبه.
فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكت.
فقلت: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله.
فسكت.
فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين ! كفَّرك وكفَّرنا. فلم يلتفت
إلى ذلك.
فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن.
فقلت: كان الله ولا علم؟ فسكت.
فجعلوا يتكلمون من ههنا وههنا، فقلت: يا أمير المؤمنين ! أعطوني شيئاً
من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به.
فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا ؟
فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما.
وجرت مناظرات طويلة، واحتجوا عليه بقوله: ( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ
مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) [الأنبياء: 2].
وبقوله: ) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) [الرعد: 16].
وأجاب بما حاصله أنه عام مخصوص بقوله: ( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ
بِأَمْرِ رَبِّهَا ) [الأحقاف: 25].
فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضالٌ مضلٌ مبتدعٌ، وهنا
قضاتك والفقهاء فسلهم.
فقال لهم: ما تقولون ؟
فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد، ثم أحضروه في اليوم الثاني وناظروه
أيضاً، ثم في اليوم الثالث، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم، وتغلب حجته
حججهم.
قال: فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد، وكان من أجهلهم بالعلم
والكلام، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ولا علم لهم بالنقل، فجعلوا
ينكرون الآثار ويردون الاحتجاج بها، وسمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحداً
يقولها، وقد تكلم معي ابن غوث بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا
فائدة فيه، فقلت: لا أدري ما تقول، إلا أني أعلم أن الله أحد صمد، وليس
كمثله شيء، فسكت عني.
وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة، فحاولوا أن يضعفوا إسناده
ويلفقوا عن بعض المحدثين كلاماً يتسلقون به إلى الطعن فيه، وهيهات، وأنى
لهم التناوش من مكان بعيد ؟
وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة ويقول: يا أحمد ! أجبني إلى هذا حتى
أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي.
فأقول: يا أمير المؤمنين ! يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها.
واحتج أحمد عليهم حين أنكروا الآثار بقوله تعالى: ( يَا أَبَتِ لِمَ
تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
) [مريم: 42].
وبقوله: ( وكلم الله موسى تكليماً ) [النساء: 164].
وبقوله: ) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدْنِي ) [طه: 14].
وبقوله: ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) [النحل: 40].
ونحو ذلك من الآيات. فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه
الخليفة، فقالوا: يا أمير المؤمنين ! هذا كافر ضال مضل.
(ج/ص: 10/368)
وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين ! ليس من تدبير
الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين.
فعند ذلك حمي واشتد غضبه، وكان ألينهم عريكة، وهو يظن أنهم على شيء.
قال أحمد: فعند ذلك قال لي: لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم
تجبني.
ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه.
قال أحمد: فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعاقبين والسياط وأنا أنظر، وكان معي
شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مصرورة في ثوبي، فجردوني منه وصرت
بين العقابين.
فقلت: يا أمير المؤمنين ! الله الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى
ثلاث)). وتلوت الحديث.
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم)):
فبم تستحل دمي، ولم آت شيئاً من هذا؟ يا أمير المؤمنين ! اذكر وقوفك
بين الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك.
ثم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين ! إنه ضال مضل كافر.
فأمر بي فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه، وأمرني بعضهم أن آخذ
بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم، فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل
أحدهم يضربني سوطين ويقول له - يعني المعتصم -: شد قطع الله يديك.
ويجيء الآخر فيضربني سوطين، ثم الآخر كذلك فضربني أسواطاً فأغمي عليَّ وذهب
عقلي مراراً، فإذا سكن الضرب يعود عليَّ عقلي، وقام المعتصم إلي يدعوني
إلى قولهم فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك! الخليفة على رأسك، فلم أقبل
وأعادوا الضرب ثم عاد إلي فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء إلي الثالثة،
فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس
بالضرب وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من
بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من
رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان
جملة ما ضرب نيفاً وثلاثين سوطاً، وقيل: ثمانين سوطاً، لكن كان ضرباً
مبرحاً شديداً جداً.
وقد كان الإمام أحمد رجلاً رقيقاً أسمر اللون، كثير التواضع، رحمه الله.
ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم، أتوه بسويق
ليفطر من الضعف فامتنع من ذلك وأتم صومه، وحين حضرت صلاة الظهر صلى معهم
فقال له ابن سماعة القاضي: وصليت في دمك !
فقال له أحمد: قد صلى عمر وجرحه يثعب دماً، فسكت.
(ج/ص: 10/369)
ويروى أنه لما أقيم ليضرب انقطعت تكة سراويله فخشي أن يسقط سراويله فتكشف
عورته فحرك شفتيه فدعا لله فعاد سراويله كما كان.
ويروى أنه قال: يا غياث المستغيثين، يا إله العالمين، إن كنت تعلم أني
قائم لك بحق فلا تهتك لي عورة.
ولما رجع إلى منزله جاءه الجرايحي فقطع لحماً ميتاً من جسده وجعل يداويه
والنائب في كل وقت يسأل عنه، وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد
ندماً كثيراً، وجعل يسأل النائب عنه والنائب يستعلم خبره، فلما عوفي فرح
المعتصم والمسلمون بذلك، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما
البرد، وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله
تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22] الآية.
ويقول: ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك؟ وقد قال تعالى: (
فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ) [الشورى:
40].
وينادي المنادي يوم القيامة: ((ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا
من عفا))، وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ((ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله
عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله)).
وكان الذين ثبتوا على الفتنة فلم يجيبوا بالكلية أربعة: أحمد بن حنبل وهو
رئيسهم، ومحمد بن نوح بن ميمون الجنديسابوري ومات في الطريق، ونعيم بن
حماد الخزاعي، وقد مات في السجن، وأبو يعقوب البويطي، وقد مات في سجن
الواثق على القول بخلق القرآن، وكان مثقلاً بالحديد، وأحمد بن نصر الخزاعي
وقد ذكرنا كيفية مقتله.
ثناء الأئمة على الإمام أحمد بن حنبل
قال البخاري: لما ضرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة فسمعت أبا الوليد
الطيالسي يقول: لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان أحدوثة.
وقال إسماعيل بن الخليل: لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان نبياً.
وقال المزني: أحمد بن حنبل يوم المحنة، وأبو بكر يوم الردة، وعمر يوم
السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعلي يوم الجمل وصفين.
وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: خرجت من العراق فما تركت رجلاً أفضل
ولا أعلم ولا أورع ولا أتقى من أحمد بن حنبل.
وقال شيخ أحمد يحيى بن سعيد القطان: ما قدم على بغداد أحد أحب إلي من
أحمد بن حنبل.
وقال قتيبة: مات سفيان الثوري ومات الورع، ومات الشافعي وماتت السنن،
ويموت أحمد بن حنبل وتظهر البدع.
وقال: إن أحمد بن حنبل قام في الأمة مقام النبوة.
(ج/ص: 10/370)
قال البيهقي: - يعني في صبره على ما أصابه من الأذى في ذات الله -.
- وقال أبو عمر بن النحاس - وذكر أحمد يوماً - فقال: رحمه الله في الدين
ما كان أبصره، وعن الدنيا ما كان أصبره، وفي الزهد ما كان أخبره،
وبالصالحين ما كان ألحقه، وبالماضين ما كان أشبهه، عرضت عليه الدنيا
فأباها، والبدع فنفاها.
وقال بشر الحافي بعد ما ضرب أحمد بن حنبل: أدخل أحمد الكير فخرج ذهباً
أحمر.
وقال الميموني: قال لي علي بن المديني بعد ما امتحن أحمد، وقيل: قبل أن
يمتحن: يا ميمون ما قام أحد في الإسلام ما قام أحمد بن حنبل.
فعجبت من هذا عجباً شديداً وذهبت إلى أبي عبيد القاسم بن سلام فحكيت له
مقالة علي بن المديني فقال: صدق ! إن أبا بكر وجد يوم الردة أنصاراً
وأعواناً، وإن أحمد بن حنبل لم يكن له أنصار ولا أعوان.
ثم أخذ أبو عبيد يطري أحمد ويقول: لست أعلم في الإسلام مثله.
وقال إسحاق بن راهويه: أحمد حجة بين الله وبين عبيده في أرضه.
وقال علي بن المديني: إذا ابتليت بشيء فأفتاني أحمد بن حنبل لم أبال إذا
لقيت ربي كيف كان.
وقال أيضاً: إني اتخذت أحمد حجة فيما بيني وبين الله عز وجل، ثم قال:
ومن يقوى على ما يقوى عليه أبو عبد الله ؟
وقال يحيى بن معين: كان في أحمد بن حنبل خصال ما رأيتها في عالم قط:
كان محدثاً، وكان حافظاً، وكان عالماً، وكان ورعاً، وكان زاهداً، وكان
عاقلاً.
وقال يحيى بن معين أيضاً: أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل،
والله ما نقوى أن نكون مثله، ولا نطيق سلوك طريقه.
وقال الذهلي: اتخذت أحمد حجة فيما بيني وبين الله.
وقال هلال بن المعلى الرقي: منَّ الله على هذه الأمة بأربعة:
بالشافعي فهم الأحاديث وفسرها، وبين مجملها من مفصلها، والخاص والعام،
والناسخ والمنسوخ. وبأبي عبيد بين غريبها. وبيحيى بن معين نفى الكذب عن
الأحاديث. وبأحمد بن حنبل ثبت في المحنة، لولا هؤلاء الأربعة لهلك
الناس.
وقال أبو بكر بن أبي داود: أحمد بن حنبل مقدم على كل من يحمل بيده قلماً
ومحبرة - يعني: في عصره -.
وقال أبو بكر محمد بن محمد بن رجاء: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، ولا رأيت
من رأى مثله.
وقال أبو زرعة الرازي: ما أعرف في أصحابنا أسود الرأس أفقه منه.
وروى البيهقي، عن الحاكم، عن يحيى بن محمد العنبري قال: أنشدنا أبو عبد
الله البوسندي في أحمد بن حنبل رحمه الله:
إن ابن حنبل إن سألت إمامنا
وبه الأئمة في الأنام تمسكوا
خلف النبي محمداً بعد الألى
خلفوا الخلائف بعده واستهلكوا
حذو الشراك على الشراك وإنما
يحذو المثال مثاله المستمسك
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا
تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى
يأتي أمر الله وهم على ذلك)).
(ج/ص: 10/371)
وروى البيهقي، عن أبي سعيد الماليني، عن ابن عدي، عن أبي القاسم البغوي، عن
أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد، عن بقية بن الوليد، عن معاذ بن
رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري. ح. قال البغوي: وحدثني زياد
بن أيوب، حدثنا مبشر، عن معاذ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري. ح.
قال البغوي: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحمل هذا
العلم من كل خلف عدو له ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل
الجاهلين)).
وهذا الحديث مرسل، وإسناده فيه ضعف، والعجب أن ابن عبد البر صححه، واحتج به
على عدالة كل من حمل
قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة
من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزينوا له القول بخلق القرآن
ونفي الصفات عن الله عز وجل.
قال البيهقي: ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا
على مذهب السلف ومنهاجهم، فلما ولي هو الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على
ذلك وزينوا له، واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد
إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن،
واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين.
فلما وصل الكتاب كما ذكرنا استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك
فامتنعوا، فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على
الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح الجنديسابوري، فحملا
على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك، وهما مقيدان متعادلان في محمل
على بعير واحد، فلما كانا ببلاد الرحبة جاءهما رجل من الأعراب من عبادهم
يقال له: جابر بن عامر، فسلم على الإمام أحمد وقال له: يا هذا ! إنك
وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى
ما يدعونك إليه فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله
فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل، وإنك إن لم
تقتل تمت، وإن عشت عشت حميداً. (ج/ص: 10/366)
قال أحمد: وكان كلامه مما قوَّى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك
الذي يدعونني إليه.
فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه
بطرف ثوبه ويقول: يعزُّ عليَّ أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفاً لم
يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم
تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف.
قال: فجثى الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال: سيدي
غرَّ حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أولياءك بالضرب والقتل، اللهم فإن لم
يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته.
قال: فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل.
قال أحمد: ففرحنا، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة، وقد انضم
إليه أحمد بن أبي دؤاد، وأن الأمر شديد، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض
الأسارى، ونالني منهم أذىً كثير.
وكان في رجليه القيود، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد،
فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان، فأودع في السجن نحواً من ثمانية
وعشرين شهراً، وقيل: نيفاً وثلاثين شهراً، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي
المعتصم.
وقد كان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه.
ذكر ضربه رضي الله عنه بين يدي المعتصم
لما أحضره المعتصم من السجن زاد في قيوده، قال أحمد: فلم أستطع أن أمشي
بها فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاؤني بدابة فحملت عليها فكدت أن
أسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا دار
المعتصم، فأدخلت في بيت وأغلق عليَّ وليس عندي سراج، فأردت الوضوء فمددت
يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه، ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذ
أنا على القبلة و لله الحمد.
ثم دعيت فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إلي وعنده ابن أبي دؤاد قال: أليس
قد زعمتم أنه حدث السن وهذا شيخ مكهل ؟
فلما دنوت منه وسلمت قال لي: ادنه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم
قال: اجلس ! فجلست وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعة ثم قلت: يا أمير
المؤمنين إلى م دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله.
قال: ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس ثم قلت: فهذا الذي دعا
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ج/ص: 10/367)
قال: ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه، وذلك أني لم أتفقه كلامه، ثم
قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من قبلي لم أتعرض إليك.
ثم قال: يا عبد الرحمن ! ألم آمرك أن ترفع المحنة ؟
قال أحمد: فقلت: الله أكبر، هذا فرج المسلمين.
ثم قال ناظره: يا عبد الرحمن، كلمه.
فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ فلم أجبه.
فقال المعتصم: أجبه.
فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكت.
فقلت: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله.
فسكت.
فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين ! كفَّرك وكفَّرنا. فلم يلتفت
إلى ذلك.
فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن.
فقلت: كان الله ولا علم؟ فسكت.
فجعلوا يتكلمون من ههنا وههنا، فقلت: يا أمير المؤمنين ! أعطوني شيئاً
من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به.
فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا ؟
فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما.
وجرت مناظرات طويلة، واحتجوا عليه بقوله: ( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ
مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) [الأنبياء: 2].
وبقوله: ) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) [الرعد: 16].
وأجاب بما حاصله أنه عام مخصوص بقوله: ( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ
بِأَمْرِ رَبِّهَا ) [الأحقاف: 25].
فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضالٌ مضلٌ مبتدعٌ، وهنا
قضاتك والفقهاء فسلهم.
فقال لهم: ما تقولون ؟
فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد، ثم أحضروه في اليوم الثاني وناظروه
أيضاً، ثم في اليوم الثالث، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم، وتغلب حجته
حججهم.
قال: فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد، وكان من أجهلهم بالعلم
والكلام، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ولا علم لهم بالنقل، فجعلوا
ينكرون الآثار ويردون الاحتجاج بها، وسمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحداً
يقولها، وقد تكلم معي ابن غوث بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا
فائدة فيه، فقلت: لا أدري ما تقول، إلا أني أعلم أن الله أحد صمد، وليس
كمثله شيء، فسكت عني.
وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة، فحاولوا أن يضعفوا إسناده
ويلفقوا عن بعض المحدثين كلاماً يتسلقون به إلى الطعن فيه، وهيهات، وأنى
لهم التناوش من مكان بعيد ؟
وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة ويقول: يا أحمد ! أجبني إلى هذا حتى
أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي.
فأقول: يا أمير المؤمنين ! يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها.
واحتج أحمد عليهم حين أنكروا الآثار بقوله تعالى: ( يَا أَبَتِ لِمَ
تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
) [مريم: 42].
وبقوله: ( وكلم الله موسى تكليماً ) [النساء: 164].
وبقوله: ) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدْنِي ) [طه: 14].
وبقوله: ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) [النحل: 40].
ونحو ذلك من الآيات. فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه
الخليفة، فقالوا: يا أمير المؤمنين ! هذا كافر ضال مضل.
(ج/ص: 10/368)
وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين ! ليس من تدبير
الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين.
فعند ذلك حمي واشتد غضبه، وكان ألينهم عريكة، وهو يظن أنهم على شيء.
قال أحمد: فعند ذلك قال لي: لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم
تجبني.
ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه.
قال أحمد: فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعاقبين والسياط وأنا أنظر، وكان معي
شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مصرورة في ثوبي، فجردوني منه وصرت
بين العقابين.
فقلت: يا أمير المؤمنين ! الله الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى
ثلاث)). وتلوت الحديث.
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم)):
فبم تستحل دمي، ولم آت شيئاً من هذا؟ يا أمير المؤمنين ! اذكر وقوفك
بين الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك.
ثم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين ! إنه ضال مضل كافر.
فأمر بي فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه، وأمرني بعضهم أن آخذ
بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم، فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل
أحدهم يضربني سوطين ويقول له - يعني المعتصم -: شد قطع الله يديك.
ويجيء الآخر فيضربني سوطين، ثم الآخر كذلك فضربني أسواطاً فأغمي عليَّ وذهب
عقلي مراراً، فإذا سكن الضرب يعود عليَّ عقلي، وقام المعتصم إلي يدعوني
إلى قولهم فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك! الخليفة على رأسك، فلم أقبل
وأعادوا الضرب ثم عاد إلي فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء إلي الثالثة،
فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس
بالضرب وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من
بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من
رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان
جملة ما ضرب نيفاً وثلاثين سوطاً، وقيل: ثمانين سوطاً، لكن كان ضرباً
مبرحاً شديداً جداً.
وقد كان الإمام أحمد رجلاً رقيقاً أسمر اللون، كثير التواضع، رحمه الله.
ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم، أتوه بسويق
ليفطر من الضعف فامتنع من ذلك وأتم صومه، وحين حضرت صلاة الظهر صلى معهم
فقال له ابن سماعة القاضي: وصليت في دمك !
فقال له أحمد: قد صلى عمر وجرحه يثعب دماً، فسكت.
(ج/ص: 10/369)
ويروى أنه لما أقيم ليضرب انقطعت تكة سراويله فخشي أن يسقط سراويله فتكشف
عورته فحرك شفتيه فدعا لله فعاد سراويله كما كان.
ويروى أنه قال: يا غياث المستغيثين، يا إله العالمين، إن كنت تعلم أني
قائم لك بحق فلا تهتك لي عورة.
ولما رجع إلى منزله جاءه الجرايحي فقطع لحماً ميتاً من جسده وجعل يداويه
والنائب في كل وقت يسأل عنه، وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد
ندماً كثيراً، وجعل يسأل النائب عنه والنائب يستعلم خبره، فلما عوفي فرح
المعتصم والمسلمون بذلك، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما
البرد، وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله
تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22] الآية.
ويقول: ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك؟ وقد قال تعالى: (
فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ) [الشورى:
40].
وينادي المنادي يوم القيامة: ((ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا
من عفا))، وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ((ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله
عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله)).
وكان الذين ثبتوا على الفتنة فلم يجيبوا بالكلية أربعة: أحمد بن حنبل وهو
رئيسهم، ومحمد بن نوح بن ميمون الجنديسابوري ومات في الطريق، ونعيم بن
حماد الخزاعي، وقد مات في السجن، وأبو يعقوب البويطي، وقد مات في سجن
الواثق على القول بخلق القرآن، وكان مثقلاً بالحديد، وأحمد بن نصر الخزاعي
وقد ذكرنا كيفية مقتله.
ثناء الأئمة على الإمام أحمد بن حنبل
قال البخاري: لما ضرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة فسمعت أبا الوليد
الطيالسي يقول: لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان أحدوثة.
وقال إسماعيل بن الخليل: لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان نبياً.
وقال المزني: أحمد بن حنبل يوم المحنة، وأبو بكر يوم الردة، وعمر يوم
السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعلي يوم الجمل وصفين.
وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: خرجت من العراق فما تركت رجلاً أفضل
ولا أعلم ولا أورع ولا أتقى من أحمد بن حنبل.
وقال شيخ أحمد يحيى بن سعيد القطان: ما قدم على بغداد أحد أحب إلي من
أحمد بن حنبل.
وقال قتيبة: مات سفيان الثوري ومات الورع، ومات الشافعي وماتت السنن،
ويموت أحمد بن حنبل وتظهر البدع.
وقال: إن أحمد بن حنبل قام في الأمة مقام النبوة.
(ج/ص: 10/370)
قال البيهقي: - يعني في صبره على ما أصابه من الأذى في ذات الله -.
- وقال أبو عمر بن النحاس - وذكر أحمد يوماً - فقال: رحمه الله في الدين
ما كان أبصره، وعن الدنيا ما كان أصبره، وفي الزهد ما كان أخبره،
وبالصالحين ما كان ألحقه، وبالماضين ما كان أشبهه، عرضت عليه الدنيا
فأباها، والبدع فنفاها.
وقال بشر الحافي بعد ما ضرب أحمد بن حنبل: أدخل أحمد الكير فخرج ذهباً
أحمر.
وقال الميموني: قال لي علي بن المديني بعد ما امتحن أحمد، وقيل: قبل أن
يمتحن: يا ميمون ما قام أحد في الإسلام ما قام أحمد بن حنبل.
فعجبت من هذا عجباً شديداً وذهبت إلى أبي عبيد القاسم بن سلام فحكيت له
مقالة علي بن المديني فقال: صدق ! إن أبا بكر وجد يوم الردة أنصاراً
وأعواناً، وإن أحمد بن حنبل لم يكن له أنصار ولا أعوان.
ثم أخذ أبو عبيد يطري أحمد ويقول: لست أعلم في الإسلام مثله.
وقال إسحاق بن راهويه: أحمد حجة بين الله وبين عبيده في أرضه.
وقال علي بن المديني: إذا ابتليت بشيء فأفتاني أحمد بن حنبل لم أبال إذا
لقيت ربي كيف كان.
وقال أيضاً: إني اتخذت أحمد حجة فيما بيني وبين الله عز وجل، ثم قال:
ومن يقوى على ما يقوى عليه أبو عبد الله ؟
وقال يحيى بن معين: كان في أحمد بن حنبل خصال ما رأيتها في عالم قط:
كان محدثاً، وكان حافظاً، وكان عالماً، وكان ورعاً، وكان زاهداً، وكان
عاقلاً.
وقال يحيى بن معين أيضاً: أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل،
والله ما نقوى أن نكون مثله، ولا نطيق سلوك طريقه.
وقال الذهلي: اتخذت أحمد حجة فيما بيني وبين الله.
وقال هلال بن المعلى الرقي: منَّ الله على هذه الأمة بأربعة:
بالشافعي فهم الأحاديث وفسرها، وبين مجملها من مفصلها، والخاص والعام،
والناسخ والمنسوخ. وبأبي عبيد بين غريبها. وبيحيى بن معين نفى الكذب عن
الأحاديث. وبأحمد بن حنبل ثبت في المحنة، لولا هؤلاء الأربعة لهلك
الناس.
وقال أبو بكر بن أبي داود: أحمد بن حنبل مقدم على كل من يحمل بيده قلماً
ومحبرة - يعني: في عصره -.
وقال أبو بكر محمد بن محمد بن رجاء: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، ولا رأيت
من رأى مثله.
وقال أبو زرعة الرازي: ما أعرف في أصحابنا أسود الرأس أفقه منه.
وروى البيهقي، عن الحاكم، عن يحيى بن محمد العنبري قال: أنشدنا أبو عبد
الله البوسندي في أحمد بن حنبل رحمه الله:
إن ابن حنبل إن سألت إمامنا
وبه الأئمة في الأنام تمسكوا
خلف النبي محمداً بعد الألى
خلفوا الخلائف بعده واستهلكوا
حذو الشراك على الشراك وإنما
يحذو المثال مثاله المستمسك
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا
تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى
يأتي أمر الله وهم على ذلك)).
(ج/ص: 10/371)
وروى البيهقي، عن أبي سعيد الماليني، عن ابن عدي، عن أبي القاسم البغوي، عن
أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد، عن بقية بن الوليد، عن معاذ بن
رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري. ح. قال البغوي: وحدثني زياد
بن أيوب، حدثنا مبشر، عن معاذ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري. ح.
قال البغوي: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحمل هذا
العلم من كل خلف عدو له ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل
الجاهلين)).
وهذا الحديث مرسل، وإسناده فيه ضعف، والعجب أن ابن عبد البر صححه، واحتج به
على عدالة كل من حمل
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى