رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
بسم الله الرحمن الرحيم
زاد المهاجر إلى ربه
التأريخ:14/10/1428هـ
المكان: جامع الإمام مالك بن أنس / بالدمام
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
. أما بعد
:فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد ص وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله:
إن للإيمان فرحة وحلاوة ولذاذة في القلب فمن لم يجدها فهو فاقد الإيمان أو ناقصه،ولا تحصل هذه اللذاذا إلا بهجرة القلب إلى الله تعالى وإلى رسوله ص وهي هجرة تتضمن من و إلى فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته ومن عبودية غيره إلى عبوديته،ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له وهذا بعينه معنى الفرار إليه قال تعالى ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الذاريات:50] والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه الفرار إلى الله والفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية ولوازمها فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وأما الفرار منه إليه فهو متضمن لتوحيد الربوبية واثبات القدر وان كل ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفر منه العبد فإنما أوجبته مشيئة الله وحده فانه ما شاء كان ووجب وجوده بمشيئته وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده لعدم مشيئته فادا فر العبد إلى الله فإنما يفر من شيء إلى شيء وجد بمشيئة الله وقدره فهو في الحقيقة فار من الله إليه ومن تصور هذا حق تصوره فهم معنى قوله ^: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» وقوله: «لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك» فانه ليس في الوجود شيء يفر منه ويستعاذ منه ويلتجأ منه إلا هو من الله خلقا وإبداعاً.
فالفار والمستعيذ: فار مما أوجده قدر الله ومشيئته وخلقه إلى ما تقتضيه رحمته وبره ولطفه وإحسانه ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه ومستعيذ بالله منه وتصور هذين الأمرين يوجب للعبد انقطاع عَلَقِ قَلْبِهِ من غير الله بالكلية خوفا ورجاء ومحبة فانه إذا علم أن الذي يفر منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده فتضمن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء ولو كان فراره مما لم يكن بمشيئة الله ولا قدرته لكان ذلك موجها لخوفه منه مثل من يفر من مخلوق آخر اقدر منه فانه في حال فراره من الأول خائف منه حذرا أن لا يكون الثاني يعيذه منه، بخلاف ما إذا كان الذي يفر إليه هو الذي قضي وقدر وشاء ما يفر منه فانه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره.
فتفطن إلى هذا السر العجيب في قوله: «أعوذ بك منك و لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك» وتأمل كيف عاد الأمر كله إلى الفرار من الله إليه وهو معنى الهجرة إلى الله تعالى ولهذا قال النبي ^ «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» ولهذا يقرن الله سبحانه بين الإيمان والهجرة في غير موضع لتلازمهما واقتضاء احدهما للآخر والمقصود: أن الهجرة إلى الله تتضمن هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه واصلها الحب والبغض فان المهاجر من شيء إلى شيء لابد أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه فيؤثر أحب الأمرين إليه على الآخر وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه.
وهذه الهجرة تقوي وتضعف بحسب قوة داعي المحبة في قلب العبد فان كان الداعي أقوى كانت هذه الهجرة أقوى وأتم وأكمل وإذا ضَعُفَ الداعي ضعفتِ الهجرة حتى لا يكاد يشعر بها علما ولا يتحرك بها إرادة.
وأما الهجرة إلى رسول الله ^ فعلم لم يبق منه سوى اسمه ومنهج لم تترك بنيات الطريق سوى اسمه ومَحَجَّةٌ سفت عليها السوافي فطمست رسومها وغارت عليها الأعادي فغوَّرت مناهلها وعيونها فسالكها غريب بين العباد فريد بين كل حي وناد بعيد على قرب المكان وحيد على كثرة الجيران مستوحش مما به يستأنسون مستأنس مما به يستوحشون مقيم إذا ظعنوا ظاعن إذا قطَنُوا منفرد في طريق طلبة لا يقر قراره حتى يظفر به فهو الكائن معهم بجسده البائن منهم بمقصده نامت في طلب الهدى أعينهم وما ليل مطيته بنائم وقعدوا عن الهجرة النبوية وهو في طلبها مشمر قائم يعيبونه بمخالفة أرائهم ويزرون عليه إزراءه على جهالاتهم وأهوائهم قد رجموا فيه الظنون وأحدقوا فيه العيون وتربصوا به ريب المنون فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ، قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ.
والمقصود أن هذه الهجرة النبوية شانها شديد وطريقها على غير المعتاد بعيد،
بعيدٌ على كسلان أو ذي ملالةٍ أما على المشتاقِ فهو قريبُ
ولعمر الله ما هي إلا نور يتلألأ ولكن أنت ظلامه وبدر أضاء مشارق الأرض ومغاربها ولكن أنت غيمه وقتامه ومنهل عذب صاف وأنت كدره ومبتدأ لخير عظيم ولكن ليس عندك خبره.
فاسمع الآن شأن هذه الهجرة والدلالة عليها وحاسب ما بينك وبين الله هل أنت من الهاجرين لها أو المهاجرين إليها.
فحد هذه الهجرة: سفر النفس في كل مسالة من مسائل الإيمان ونازلة من نوازل القلوب وحادثة من حوادث الأحكام إلى معدن الهدى ومنبع النور الملتقى من فم الصادق المصدوق الذي وما ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات وكل شاهد عدَّله هذا المزكِّي الصادق وإلا فعُدَّهُ من أهل الريب والتهمات فهذا حد هذه الهجرة.
والمقصود: أن هذه الهجرة فرض على كل مسلم وهي مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله ^ كما أن الهجرة الأولى مقتضى شهادة أن لا اله إلا الله وعن هاتين الهجرتين يسال كل عبد يوم القيامة وفي البرزخ ويطالب بها في الدنيا،فهو مطالب بهما في الدور الثالثة:دار الدنيا، ودار البرزخ،ودار القرار.قال قتادة /: كلمتان يسال عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين
من أبرز أمارات هذه الهجرة العظيمة تمام الطاعة والانقياد للنبي ص
وقال سبحانه: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [الأحزاب:6]وهو دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين وهذه الأولوية تتضمن أمورا منها: أن يكون أحب إلى العبد من نفسه لان الأولوية أصلها الحب ونفس العبد أحب له من غيره ومع هذا يجب أن يكون الرسول أولى به منها وأحب إليه منها فبذلك يحصل له اسم الإيمان ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه ومنها أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلا بل الحكم على نفسه للرسول ^ يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده فليس له في نفسه تصرف قط ألا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها.
يا أتباع محمد ص:فمتى علم العبد هذا وآمن به غاية الإيمان وانقاد له بقلبه وكل جوارحه وسلّم واستسلم له انقادت له كل ذرة في قلبه وحصل على مراده ومقصوده،وهذه مرتبة عاليه سامقة وليس هذا مما يُحَصَّلُ معناه بالعبارة بل هو أمر انشق القلب واستقر في سويدائه لا تفي العبارة بمعناه ولا مطمع في حصوله بالدعوى والأماني.
والآن يا عبد الله تعال أدلك على الطريق والمركب حتى تصل لهذه المراتب العالية:
أما الطريق: فهو بذل الجهد واستفراغ الوسع والسعي الحثيث بالهجرة إلى الله ورسوله ص فلن يُنَالَ بالمُنَي،ولا يُدرك بالهُوَيْنا.
وأما مركبه فصدق اللَّجَأ إلى الله والانقطاع إليه بكلِّيته وتحقيق الافتقار إليه من كل وجه والضراعة إليه وصدق التوكل والاستعانة به والانطراح بين يديه كالإناء المثلوم المكسور الفارغ الذي لاشيء عنده فيه،فهذا الذي يرجي له أن يتولى الله هدايته وان يكشف له ما خفي على غيره من طريق هذه الهجرة ومنازلها.
ورأس الأمر وعموده في ذلك إنما هو دوام التفكر وتدبر آيات القرآن حيث تستولي على الفكر وتشغل القلب فإذا صارت معاني القران مكان الخواطر من قلبه وجلس على كرسيه وصار له التصرف وصار هو الأمير المطاع أمره فحينئذ يستقيم له سيره ويتضح له الطريق وتراه ساكنا وهو يباري الريح وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ.
الحمد لله الذي دلنا عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا،وأمرنا بالهجرة إليه ودلنا على ذلك بكتابه المعظم،والصلاة والسلام التامين الكاملين الدائمين على رائدنا وسيدنا حامل لواء الحمد المحمد الأحمد المحمود صلوات ربنا وسلامه عليه وعلى آله وسلم:
عباد الله:
طوفنا في دقائق ماضية في طريق الهجرة إلى الله وإلى رسوله،ولو وفى العبد هذا المقام حقه لرأى العجب العجيب من فضل ربه وبره ولطفه ودفاعه عنه،والإقبال بقلوب عباده إليه،وإسكان الرحمة والمحبة له في قلوبهم،ولكن نقول: ربنا غلب علينا لؤمنا وجهلنا وظلمنا وإساءتنا، فها نحن مقرون بالتفريط والتقصير،فإن تكنا إلى أنفسنا تكلنا إلى ضيعة وعجز وذنب وخطيئه فواحسرتاه ووا أسفاه على رضاك ولو غضب كل أحد سواك.
يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، و لا تكلنا إلى أنفسا طرفة عين.
زاد المهاجر إلى ربه
التأريخ:14/10/1428هـ
المكان: جامع الإمام مالك بن أنس / بالدمام
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
. أما بعد
:فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد ص وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله:
إن للإيمان فرحة وحلاوة ولذاذة في القلب فمن لم يجدها فهو فاقد الإيمان أو ناقصه،ولا تحصل هذه اللذاذا إلا بهجرة القلب إلى الله تعالى وإلى رسوله ص وهي هجرة تتضمن من و إلى فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته ومن عبودية غيره إلى عبوديته،ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له وهذا بعينه معنى الفرار إليه قال تعالى ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الذاريات:50] والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه الفرار إلى الله والفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية ولوازمها فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وأما الفرار منه إليه فهو متضمن لتوحيد الربوبية واثبات القدر وان كل ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفر منه العبد فإنما أوجبته مشيئة الله وحده فانه ما شاء كان ووجب وجوده بمشيئته وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده لعدم مشيئته فادا فر العبد إلى الله فإنما يفر من شيء إلى شيء وجد بمشيئة الله وقدره فهو في الحقيقة فار من الله إليه ومن تصور هذا حق تصوره فهم معنى قوله ^: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» وقوله: «لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك» فانه ليس في الوجود شيء يفر منه ويستعاذ منه ويلتجأ منه إلا هو من الله خلقا وإبداعاً.
فالفار والمستعيذ: فار مما أوجده قدر الله ومشيئته وخلقه إلى ما تقتضيه رحمته وبره ولطفه وإحسانه ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه ومستعيذ بالله منه وتصور هذين الأمرين يوجب للعبد انقطاع عَلَقِ قَلْبِهِ من غير الله بالكلية خوفا ورجاء ومحبة فانه إذا علم أن الذي يفر منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده فتضمن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء ولو كان فراره مما لم يكن بمشيئة الله ولا قدرته لكان ذلك موجها لخوفه منه مثل من يفر من مخلوق آخر اقدر منه فانه في حال فراره من الأول خائف منه حذرا أن لا يكون الثاني يعيذه منه، بخلاف ما إذا كان الذي يفر إليه هو الذي قضي وقدر وشاء ما يفر منه فانه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره.
فتفطن إلى هذا السر العجيب في قوله: «أعوذ بك منك و لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك» وتأمل كيف عاد الأمر كله إلى الفرار من الله إليه وهو معنى الهجرة إلى الله تعالى ولهذا قال النبي ^ «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» ولهذا يقرن الله سبحانه بين الإيمان والهجرة في غير موضع لتلازمهما واقتضاء احدهما للآخر والمقصود: أن الهجرة إلى الله تتضمن هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه واصلها الحب والبغض فان المهاجر من شيء إلى شيء لابد أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه فيؤثر أحب الأمرين إليه على الآخر وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه.
وهذه الهجرة تقوي وتضعف بحسب قوة داعي المحبة في قلب العبد فان كان الداعي أقوى كانت هذه الهجرة أقوى وأتم وأكمل وإذا ضَعُفَ الداعي ضعفتِ الهجرة حتى لا يكاد يشعر بها علما ولا يتحرك بها إرادة.
وأما الهجرة إلى رسول الله ^ فعلم لم يبق منه سوى اسمه ومنهج لم تترك بنيات الطريق سوى اسمه ومَحَجَّةٌ سفت عليها السوافي فطمست رسومها وغارت عليها الأعادي فغوَّرت مناهلها وعيونها فسالكها غريب بين العباد فريد بين كل حي وناد بعيد على قرب المكان وحيد على كثرة الجيران مستوحش مما به يستأنسون مستأنس مما به يستوحشون مقيم إذا ظعنوا ظاعن إذا قطَنُوا منفرد في طريق طلبة لا يقر قراره حتى يظفر به فهو الكائن معهم بجسده البائن منهم بمقصده نامت في طلب الهدى أعينهم وما ليل مطيته بنائم وقعدوا عن الهجرة النبوية وهو في طلبها مشمر قائم يعيبونه بمخالفة أرائهم ويزرون عليه إزراءه على جهالاتهم وأهوائهم قد رجموا فيه الظنون وأحدقوا فيه العيون وتربصوا به ريب المنون فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ، قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ.
والمقصود أن هذه الهجرة النبوية شانها شديد وطريقها على غير المعتاد بعيد،
بعيدٌ على كسلان أو ذي ملالةٍ أما على المشتاقِ فهو قريبُ
ولعمر الله ما هي إلا نور يتلألأ ولكن أنت ظلامه وبدر أضاء مشارق الأرض ومغاربها ولكن أنت غيمه وقتامه ومنهل عذب صاف وأنت كدره ومبتدأ لخير عظيم ولكن ليس عندك خبره.
فاسمع الآن شأن هذه الهجرة والدلالة عليها وحاسب ما بينك وبين الله هل أنت من الهاجرين لها أو المهاجرين إليها.
فحد هذه الهجرة: سفر النفس في كل مسالة من مسائل الإيمان ونازلة من نوازل القلوب وحادثة من حوادث الأحكام إلى معدن الهدى ومنبع النور الملتقى من فم الصادق المصدوق الذي وما ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات وكل شاهد عدَّله هذا المزكِّي الصادق وإلا فعُدَّهُ من أهل الريب والتهمات فهذا حد هذه الهجرة.
والمقصود: أن هذه الهجرة فرض على كل مسلم وهي مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله ^ كما أن الهجرة الأولى مقتضى شهادة أن لا اله إلا الله وعن هاتين الهجرتين يسال كل عبد يوم القيامة وفي البرزخ ويطالب بها في الدنيا،فهو مطالب بهما في الدور الثالثة:دار الدنيا، ودار البرزخ،ودار القرار.قال قتادة /: كلمتان يسال عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين
من أبرز أمارات هذه الهجرة العظيمة تمام الطاعة والانقياد للنبي ص
وقال سبحانه: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [الأحزاب:6]وهو دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين وهذه الأولوية تتضمن أمورا منها: أن يكون أحب إلى العبد من نفسه لان الأولوية أصلها الحب ونفس العبد أحب له من غيره ومع هذا يجب أن يكون الرسول أولى به منها وأحب إليه منها فبذلك يحصل له اسم الإيمان ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه ومنها أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلا بل الحكم على نفسه للرسول ^ يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده فليس له في نفسه تصرف قط ألا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها.
يا أتباع محمد ص:فمتى علم العبد هذا وآمن به غاية الإيمان وانقاد له بقلبه وكل جوارحه وسلّم واستسلم له انقادت له كل ذرة في قلبه وحصل على مراده ومقصوده،وهذه مرتبة عاليه سامقة وليس هذا مما يُحَصَّلُ معناه بالعبارة بل هو أمر انشق القلب واستقر في سويدائه لا تفي العبارة بمعناه ولا مطمع في حصوله بالدعوى والأماني.
والآن يا عبد الله تعال أدلك على الطريق والمركب حتى تصل لهذه المراتب العالية:
أما الطريق: فهو بذل الجهد واستفراغ الوسع والسعي الحثيث بالهجرة إلى الله ورسوله ص فلن يُنَالَ بالمُنَي،ولا يُدرك بالهُوَيْنا.
وأما مركبه فصدق اللَّجَأ إلى الله والانقطاع إليه بكلِّيته وتحقيق الافتقار إليه من كل وجه والضراعة إليه وصدق التوكل والاستعانة به والانطراح بين يديه كالإناء المثلوم المكسور الفارغ الذي لاشيء عنده فيه،فهذا الذي يرجي له أن يتولى الله هدايته وان يكشف له ما خفي على غيره من طريق هذه الهجرة ومنازلها.
ورأس الأمر وعموده في ذلك إنما هو دوام التفكر وتدبر آيات القرآن حيث تستولي على الفكر وتشغل القلب فإذا صارت معاني القران مكان الخواطر من قلبه وجلس على كرسيه وصار له التصرف وصار هو الأمير المطاع أمره فحينئذ يستقيم له سيره ويتضح له الطريق وتراه ساكنا وهو يباري الريح وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ.
الحمد لله الذي دلنا عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا،وأمرنا بالهجرة إليه ودلنا على ذلك بكتابه المعظم،والصلاة والسلام التامين الكاملين الدائمين على رائدنا وسيدنا حامل لواء الحمد المحمد الأحمد المحمود صلوات ربنا وسلامه عليه وعلى آله وسلم:
عباد الله:
طوفنا في دقائق ماضية في طريق الهجرة إلى الله وإلى رسوله،ولو وفى العبد هذا المقام حقه لرأى العجب العجيب من فضل ربه وبره ولطفه ودفاعه عنه،والإقبال بقلوب عباده إليه،وإسكان الرحمة والمحبة له في قلوبهم،ولكن نقول: ربنا غلب علينا لؤمنا وجهلنا وظلمنا وإساءتنا، فها نحن مقرون بالتفريط والتقصير،فإن تكنا إلى أنفسنا تكلنا إلى ضيعة وعجز وذنب وخطيئه فواحسرتاه ووا أسفاه على رضاك ولو غضب كل أحد سواك.
يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، و لا تكلنا إلى أنفسا طرفة عين.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى