رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الدولة الصفوية (8)
لماذا يطمعون في البحرين؟!
إبراهيم بن محمد الحقيل
20/4/1432هـ
الحمد لله الولي الحميد العزيز الحكيم؛ له معاقد العز ومجامع العظمة، لا يذل من والاه، ولا يعز من عاداه [مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَللهِ العِزَّةُ جَمِيعًا] {فاطر:10} نحمده على عظيم نعمه، ونشكره على جزيل عطائه، ما أصابنا من خير فمن خزائنه، وما أصابنا من ضر فبذنوبنا [مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ] {النساء:79} وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ [اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ] {يونس:3} وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله الله تعالى للعالمين بشيراً ونذيراً، وجعله لهم سراجاً منيراً، يهديهم لما يصلحهم، وينذرهم ما يضرهم ويوبقهم، فبلغ البلاغ المبين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأكثروا من عبادته، واضرعوا له بالدعاء؛ فإن أمامكم أيام الصبر، الصابر فيها كالقابض على الجمر، لا يصبر فيها إلا من صبره الله تعالى، ولا يثبت على دينه إلا من ثبته، فهنيئاً للثابتين الصابرين، وتعساً للجزعين الناكصين؛ فاللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك [رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ] {آل عمران:8}.
أيها الناس: في أحداث الزمان عبر للمعتبرين، وفي تقلبات الأيام عظات للمتعظين، وفي تسارع الأحداث إيقاظ لقلوب الغافلين، فليس ثم ملجأ إلا اللهُ تعالى، به يتعلق المؤمنون، وبه يأمن الخائفون، وفيه يؤمل الراجون [أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ الله قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ] {النمل:62}.
والأمة المسلمة تعيش واقعها على مفترق طرق.. فتونس ومصر تسيران إلى عالم مجهول، وليبيا واليمن مشتعلتان، ودول أخرى على حافة انفجار واضطراب، والبحرين يسعى الإمامية لافتراسها وتسليمها -كما سلمت العراق- لباطنية الفرس الشعوبيين المتعصبين لإعادة أمجاد كسرى. ولو أدرك الناس قيمة البحرين كما يدركها علماء السياسة والجغرافيا لانخلعت قلوبهم خوفاً عليها من أنياب باطنية الفرس.
والبحرين إذا أطلقت في الأحاديث أو في كتب التاريخ والجغرافيا القديمة فهي اسم جامع لكل مدن ساحل الخليج العربي من البصرة شمالاً إلى عمان جنوباً.. دخلت هذه المدن الآن في عدة دول..كما أن منها دولة البحرين التي حملت هذا الاسم دون غيرها، وقد كانت متصلة بمدن الساحل الأخرى حتى فصلتها عنه تغيرات الأرض، فصارت جزراً تختص بهذا الاسم..
وللبحرين القديمة تاريخ طويل قبل الإسلام، وكان العرب فيها خاضعين لدولة الفرس، وكسرى هو من يعين ملوكها وأمراءها؛ حتى جاء الله تعالى بالإسلام، فدخلت قبائل من عرب البحرين في الإسلام، ولا سيما قبائل عبد القيس في الإحساء، وكانوا سابقين إلى الإسلام، ولهم مآثر عديدة، ومناقب كثيرة؛ حتى ألف بعض أهل العلم أربعيناً في فضائل البحرين وأهلها.
ومن فضائلهم أن عبد القيس أوفدوا للمدينة وفداً لمقابلة النبي ^ رغم بعد الشقة بين الإحساء والمدينة، فقابلوه ومعهم تمر من هجر يهدونه له في قصة مؤثرة، وفيها قال النبي ^:«اللهم اغفر لعبد القيس إذ أسلموا طائعين غير كارهين غير خزايا ولا موتورين؛ إذ بعض قوم لا يسلمون حتى يُخزوا ويوتروا... وقال: إن خير المشرق عبد القيس»رواه أحمد.
وكان إسلامهم متقدماً جداً قبل أكثر العرب، رغم بعدهم عن المدينة، كما روى ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال:«إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ في مَسْجِدِ رسول الله ^ في مَسْجِدِ عبد الْقَيْسِ بجواثى من الْبَحْرَيْنِ»رواه البخاري.
وكان بينهم وبين المدينة قبائل مضر وكانت على الكفر فيخافونها، فيأتون في الأشهر الحرم، كما في حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:«أَنَّ أُنَاسًا من عبد الْقَيْسِ قَدِمُوا على رسول الله ^ فَقَالُوا: يا نَبِيَّ الله، إِنَّا حَيٌّ من رَبِيعَةَ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ ولا نَقْدِرُ عَلَيْكَ إلا في أَشْهُرِ الْحُرُمِ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْمُرُ بِهِ من وَرَاءَنَا وَنَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ إذا نَحْنُ أَخَذْنَا بِهِ... فعلمهم شرائع الإسلام، وقال لرئيسهم المنذر بن عائذ: إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا الله الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ»رواه مسلم.
ومن أخبار البحرين أن النبي ^ عامل مجوسها ويهودها ونصاراها على الجزية، وفي ذلك حديث أَنَسِ رضي الله عنه قال:«أُتِيَ النبي ^ بِمَالٍ من الْبَحْرَيْنِ فقال: انْثُرُوهُ في الْمَسْجِدِ وكان أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رسول الله ^ فَخَرَجَ رسول الله ^ إلى الصَّلَاةِ ولم يَلْتَفِتْ إليه، فلما قَضَى الصَّلَاةَ جاء فَجَلَسَ إليه فما كان يَرَى أَحَدًا إلا أَعْطَاهُ»رواه البخاري معلقا مجزوما به.وفي بعض الروايات أنه أول خراج جلب للنبي ^.
وفي حديث عَمْرَو بن عَوْفٍ الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه:«أَنَّ رسول الله ^ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عليهم الْعَلَاءَ بن الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أبو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ من الْبَحْرَيْنِ...» وفي هذا الحديث وعظ النبي ^ أصحابه يحذرهم من التنافس على الدنيا، وهو حديث متفق عليه.
ولما أعسر جَابِرُ بن عبد الله رضي الله عنهما واستدان قال له النبي ^:«لو قد جاء مَالُ الْبَحْرَيْنِ قد أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا فلم يَجِئْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حتى قُبِضَ النبي ^...» وفي تكملة الحديث أن أبا بكر رضي الله عنه أعطاه، وهو حديث متفق عليه.
وكان من أعظم مناقب أهل البحرين أنهم ثبتوا على الإسلام بعد أن ارتدت العرب، حتى قال قتادة رحمه الله تعالى:«لما مات رسول الله ^ ارتدت العرب إلا ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد البحرين».
وقصة ذلك أن الجارود بن المعلى وكان من أشرافهم قام فيهم خطيبا فقال:«يا معشر عبد القيس إني سائلكم عن أمر فأخبروني إن علمتموه، ولا تجيبوني إن لم تعلموه، فقالوا: سل، قال: أتعلمون أنه كان لله أنبياء قبل محمد؟ قالوا: نعم، قال: تعلمونه أم ترونه؟ قالوا: نعلمه، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال: فإن محمداً مات كما ماتوا، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا: ونحن أيضاً نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنت أفضلنا وسيدنا» وثبتوا على إسلامهم، وساروا لقتال من حولهم من المرتدين.
وفي عهد عمر سقطت فارس، ودخل الناس في دين الله تعالى أفواجاً، وكان أبو هريرة أمير البحرين فكتب إلى عمر يستأذنه في إقامة الجمعة بقرى البحرين فكتب إليه عمر: «أقيموا الجمعة حيث كنتم».
وفي القرن السابع كتب شيخ الإسلام ابن تيمية كتاباً لأهل البحرين على إثر خلاف وقع بينهم في مسائل، فأثنى عليهم ثناء جميلاً، وكان مما قال فيهم:«من أحمد...ابن تيمية إلى من يصل إليه كتابه من المؤمنين والمسلمين من أهل البحرين...ثم قال بعد أن سلم عليهم وأثنى على تمسكهم بالسنة، ولزوم الجماعة: فإن أهل البحرين ما زالوا من عهد رسول الله ^ أهل إسلام وفضل...وذكر وفدهم على النبي ^، وثباتهم أيام الردة...وقال: وقاتل بهم أميرهم العلاء بن الحضرمي الرجل الصالح أهل الردة ولهم في السيرة أخبار حسان، فالله سبحانه وتعالى يوفق آخرهم لما وفق له أولهم، إنه ولى ذلك والقادر عليه» وهو كتاب مليء بالنصح لهم، والثناء عليهم، من عالم كبير وإمام لا تأخذه في الحق لومة لائم.
وكان الفرس منذ أن سقط كسراهم، وتفككت دولتهم ينظرون إلى البحرين على أنها تابعة لهم، ولما قامت دولة الصفويين في إيران زادت أطماعهم في البحرين، وحالفوا الغربيين ضد العثمانيين فتسلل الاستعمار الغربي إلى الخليج من أبوابهم، وكان يسعى لزيادة أعدادهم في المناطق السنية؛ لمآرب استعمارية.. وكان الفرس بمعونة الانجليز يضغطون لتوطين الباطنيين في البحرين مدّعين عودتهم إلى أصولهم، حتى وطنوا كثيراً من أتباعهم، فكانوا عيوناً لهم، وجنداً يأتمرون بإمرتهم لإشعال الفتن والقلاقل في بلدانهم، ويذكر المؤرخون أن التعصب للمذهب الباطني كان أكبر دافع للفرس للاستيلاء على البحرين، ولا سيما أنهم يتذكرون أن أجدادهم بقوا على مجوسيتهم، وكانت الجزية تؤخذ منهم..
كفى الله تعالى المسلمين شرهم، وردهم على أعقابهم خاسرين إنه سميع مجيب.. وأقول قولي هذا...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين..
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه [وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ] {البقرة:48}.
أيها المسلمون: من علم أهمية بلدان البحرين القديمة الممتدة من البصرة إلى عمان أدرك سِرِّ استماتة الدولة الصفوية وما بعدها إلى الدولة الخمينية في سبيل الاستيلاء عليها، ففي هذا الشريط الساحلي أكثر من نصف الاحتياطي العالمي من النفط والغاز ، وفيه الممرات البحرية المهمة للتجارة الدولية.
وتمثل دولة البحرين الحالية واسطة هذا الشريط الساحلي؛ ولذا يستميت الباطنيون في قلب نظام حكمها مهما كلف الأمر؛ إذ بامتلاكهم لها يحكمون قبضتهم على كل الشريط، ويستطيعون إمداد جيوبهم الكامنة في دول الخليج بالسلاح لإحداث القلاقل والفتن، وتكون دول المنطقة ومواقعها الحيوية في مرمى مدافعهم وصواريخهم إن نصبوها في البحرين؛ ولذا كان من الأهداف الاستراتيجية للثورة الخمينية الاستيلاء على البحرين، وجاء في أوليات تصريحات الثوار آنذاك أن البحرين جزء من إيران، ويصرحون بأن ثورة الخميني ليست إلا الشرارة الأولى التي سوف تفجر كل المنطقة..
لكن هذا النفس الثوري الذي أرادوا تصديره للخليج هدأ لما رأوا بوادر فشله، ولكنه خيار استراتيجي لا يلغى، وسكوتهم عنه لسنوات ليس إلا تكتيكا سياسيا ليعود من جديد مع حمى الثورات التي اجتاحت البلدان العربية، ويعلو صوت تصدير الثورة الفارسية الإمامية لدى أتباعهم في المنطقة، يتدثر بدثار المطالبة بالحقوق، وهدفه إسقاط الحكومات السنية، وتسليم دولها للعمائم الفارسية كما فعلوا بالعراق..
إن على المتحمسين لوهج الثورات تحت لافتات الحريات وانتزاع الحقوق أن يتحلوا ببعض الفهم السياسي، والإلمام التاريخي بالأطماع الصفوية الباطنية في الخليج عامة، وخاصة ما يمثله موقع البحرين من أهمية كبرى لديهم؛ لتكون بوابة الحلم الفارسي الموعود بإنشاء الإمبراطورية الباطنية الكبرى، وإعادة الأمجاد الكسروية للدولة الفارسية.. هذا الوعي ضرورة كيما يحميهم من تأييد من يستبيحون دماءهم وأعراضهم وأموالهم.
إن ترك الصفوييين يبتلعون البحرين يعد انتحاراً سياسياً وعسكريا لمنظومة دول الخليج العربي بل لعامة أهل السنة شعوبا وحكومات، ولن ىفشل هذه المخططات الصفوية والدعم الليبرالي الأحمق لها تحت شعارات الحرية والحقوق إلا تقوى الله تعالى، وائتلاف أهل السنة، واجتماع كلمتهم، ووعيهم بالأخطار المحدقة بهم؛ فإن من تذكر أفعال فرق الموت ومنظمات بدر، وأعمال عمائم المجوس بالمسلمين في الأهواز والعراق فزع من تمكنهم في دول أخرى، ولو ضحي بالحرية والحقوق بسبب ذلك؛ فإن هؤلاء الباطنيين لا يهتفون بالحرية، ولا يخرجون في مسيراتها، ولا يشعلون ثوراتها إلا لينحروا بها غيرهم إن تمكنوا، ويتلذذوا بتعذيبهم، وهتك أعراضهم، وتهجيرهم من بلدانهم، كفى الله تعالى المسلمين شرهم، وأبطل سعيهم، ورد مكرهم عليهم، وجعل كيدهم في نحورهم، إنه سميع قريب.
وصلوا وسلموا...
الدَّوْلَةُ الصَّفَوِيَّةُ (8)
لِمَاذَا يَطْمَعُوْنَ فِي البَحْرَينِ؟!
إبراهيم بن محمد الحقيل
20/4/1432هـ
الْحَمْدُ لله الْوَلِيِّ الْحَمِيْدِ الْعَزِيْزِ الْحَكِيْمِ؛ لَهُ مَعَاقِدُ الْعِزِّ وَمَجَامِعُ الْعَظَمَةِ، لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَاهُ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَاهُ [مَنْ كَانَ يُرِيْدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيْعَاً] {فَاطِرِ:10} نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيْمِ نِعَمِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى جَزِيْلِ عَطَائِهِ، مَا أَصَابَنَا مِنْ خَيْرٍ فَمِنْ خَزَائِنِهِ، وَمَا أَصَابَنَا مِنْ ضُرٍّ فَبِذُنُوْبِنَا [مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ] {الْنِّسَاءِ:79} وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ؛ [اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيْعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوْهُ أَفَلَا تَذَكَّرُوْنَ] {يُوْنُسَ:3} وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ؛ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَىْ لِلْعَالَمِيْنَ بَشِيْرَاً وَنَذِيْرَاً، وَجَعَلَهُ لَهُمْ سِرَاجَاً مُنِيْرَاً، يَهْدِيهِمْ لِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَيُنْذِرُهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ وَيُوْبِقُهُمْ، فَبَلَّغَ الْبَلَاغَ المُبِيْنَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالْتَّابِعِيْنَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَأَكْثِرُوْا مِنَ عِبَادَتِهِ، واضَرَعُوا لَهُ بِالْدُّعَاءِ؛ فَإِنَّ أَمَامَكُمْ أَيَّامَ الْصَّبْرِ، الْصَّابِرُ فِيْهَا كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، لَا يَصْبِرُ فِيْهَا إِلَّا مِنْ صَبَّرَهُ اللهُ تَعَالَى، وَلَا يَثْبُتُ عَلَى دِينِهِ إِلَّا مَنْ ثَبَّتَهُ، فَهَنِيْئَاً لِلْثَّابِتِينَ الصَّابِرِيْنَ، وَتَعْسَاً لِلْجَزِعِينَ النَّاكِصِينَ؛ فَاللَّهُمَّ يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوْبِ ثَبِّتْ قُلُوْبَنَا عَلَى دِيْنِكَ [رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ] {آَلِ عِمْرَانَ:8}.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: فِيْ أَحْدَاثِ الْزَّمَانِ عِبَرٌ لِلْمُعْتَبِرِيْنَ، وَفِيْ تَقَلُّبَاتِ الْأَيَّامِ عِظَاتٌ لِلْمُتَّعِظِينَ، وَفِيْ تَسَارُعِ الْأَحْدَاثِ إِيْقَاظٌ لِقُلُوْبِ الْغَافِلِيْنَ، فَلَيْسَ ثَمَّ مَلْجَأٌ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، بِهِ يَتَعَلَّقُ المُؤْمِنُوْنَ، وَبِهِ يَأْمَنُ الْخَائِفُوْنَ، وَفِيْهِ يُؤَمِّلُ الْرَّاجُوْنَ [أَمَّنْ يُجِيْبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ الْسُّوْءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ الله قَلِيْلَاً مَا تَذَكَّرُوْنَ] {الْنَّمْلِ:62}.
وَالْأُمَّةُ المُسْلِمَةُ تَعِيْشُ وَاقِعَهَا عَلَى مُفْتَرَقِ طُرُقٍ.. فْتُونُسُ وَمِصْرُ تَسِيْرَانِ إِلَى عَالِمٍ مَجْهُوْلٍ، وَلِيبِيَا وَالْيَمَنُ مُشْتَعِلَتَانِ، وَدُوَلٌ أُخْرَى عَلَى حَافَّةِ انْفِجَارٍ وَاضْطِرَابٍ، وَالْبَحْرَيْنُ يَسْعَى الْإِمَامِيَّةُ لِافْتِرَاسِهَا وَتَسْلِيْمِهَا -كَمَا سُلِّمَتِ العِرَاقُ- لِبَاطِنِيَّةِ الْفُرْسِ الْشُّعُوْبِيِّيْنَ المُتَعَصِّبِينَ لِإِعَادَةِ أَمْجَادِ كِسْرَى. وَلَوْ أَدْرَكَ الْنَّاسُ قِيمَةَ الْبَحْرَيْنِ كَمَا يُدْرِكُهَا عُلَمَاءُ الْسِيَاسَةِ وَالْجُغْرَافْيَا لَانْخَلَعَتْ قُلُوْبُهُمْ خَوفَاً عَلَيْهَا مِنْ أَنْيَابِ بَاطِنِيَّةِ الْفُرْسِ.
وَالْبَحْرَيْنُ إِذَا أُطْلِقَتْ فِي الْأَحَادِيْثِ أَوْ فِيْ كُتُبِ الْتَّارِيْخِ وَالْجُغْرَافِيَا الْقَدِيمَةِ فَهِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مُدُنِ سَاحِلِ الْخَلِيْجِ الْعَرَبِيِّ مِنْ الْبَصْرَةِ شِمَالَاً إِلَى عُمَانَ جَنُوْبَاً.. دَخَلَتْ هَذِهِ المُدُنُ الْآنَ فِيْ عِدَّةِ دُوَلٍ..كَمَا أَنَّ مِنْهَا دَوْلَةَ الْبَحْرَيْنِ الَّتِي حَمَلَتْ هَذَا الِاسْمَ دُوْنَ غَيْرِهَا، وَقَدْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِمُدُنِ الْسَّاحِلِ الْأُخْرَى حَتَّى فَصَلَتْهَا عَنْهُ تَغَيُّرَاتُ الْأَرْضِ، فَصَارَتْ جُزُرَاً تَخْتَصُّ بِهَذَا الْاسْمِ..
وَلِلْبَحْرِينِ الْقَدِيْمَةِ تَارِيْخٌ طَوِيْلٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ الْعَرَبُ فِيْهَا خَاضِعِيْنَ لِدَوْلَةِ الْفُرْسِ، وَكِسْرَى هُوَ مَنْ يُعَيِّنُ مُلُوْكَهَا وَأُمَرَاءَهَا؛ حَتَّى جَاءَ اللهُ تَعَالَىْ بِالْإِسْلَامِ، فَدَخَلَتْ قَبَائِلُ مِنْ عَرَبِ الْبَحْرَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا سِيَّمَا قَبَائِلُ عَبْدِ الْقَيْسِ فِي الْإِحْسَاءِ، وَكَانُوْا سَابِقِيْنَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَهُمْ مَآَثِرُ عَدِيْدَةٌ، وَمَنَاقِبُ كَثِيْرَةٌ؛ حَتَّى أَلَّفَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَرْبَعِيْنَاً فِيْ فَضَائِلِ الْبَحْرَيْنِ وَأَهْلِهَا.
وَمِنْ فَضَائِلِهِمْ أَنَّ عَبْدَ الْقَيْسِ أَوْفَدُوا لِلْمَدِيْنَةِ وَفْدَاً لُمُقَابَلَةِ الْنَّبِيِّ ^ رَغْمَ بُعْدِ الْشُّقَّةِ بَيْنَ الْإِحْسَاءِ وَالمَدِيْنَةِ، فَقَابَلُوْهُ وَمَعَهُمْ تَمرٌ مِنْ بِلَادِهِم يُهْدُوْنَهُ لَهُ فِيْ قِصَّةٍ مُؤْثِّرَةٍ، وَفِيْهَا قَالَ الْنَّبِيُّ ^:«الْلَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ الْقَيْسِ إِذْ أَسْلَمُوْا طَائِعِيْنَ غَيْرَ كَارِهِيْنَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَوْتُوْرِيْنَ؛ إِذْ بَعْضُ قَوْمٍ لَا يُسْلِمُوْنَ حَتَّى يُخْزَوا وَيُوتَرُوا... وَقَالَ: إِنَّ خَيْرَ المَشْرِقِ عَبْدُ الْقَيْسِ»رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَكَانَ إِسْلامُهُمْ مُتَقَدِّمَاً جِدَّاً قَبْلَ أَكْثَرِ الْعَرَبِ، رَغْمَ بُعْدِهِمْ عَنِ المَدِيْنَةِ، كَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:«إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِيْ مَسْجِدِ رَسُوْلِ الله ^ فِيْ مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ الْبَحْرَيْنِ»رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ المَدِيْنَةِ قَبَائِلُ مُضَرَ وَكَانَتْ عَلَى الْكُفْرِ فَيَخَافُونَهَا، فَيَأْتُوْنَ فِيْ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، كَمَا فِيْ حَدِيْثِ أَبِيْ سَعِيْدٍ الْخُدْرِيِّ:«أَنَّ أُنَاسَاً مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ قَدِمُوْا عَلَى رَسُوْلِ الله ^ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ الله، إِنَّا حَيٌّ مِنْ رَبِيْعَةَ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ وَلَا نَقْدِرُ عَلَيْكَ إِلَّا فِيْ أَشْهُرِ الْحُرُمِ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْمُرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَندخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ إِذَا نَحْنُ أَخَذْنَا بِهِ... فَعَلَّمَهُمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ لِرَئِيْسِهِمْ المُنْذِرِ بْنِ عَائِذٍ: إِنَّ فِيْكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ»رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ أَخَبَارِ الْبَحْرَيْنِ أَنَّ الْنَّبِيِّ ^ عَامَلَ مَجُوْسَهَا وَيَهُودَهَا وَنْصَارَاهَا عَلَى الْجِزْيَةِ، وَفِيْ ذَلِكَ حَدِيْثُ أَنَسٍ رِضَيِ اللهُ عَنْهُ قَالَ:«أُتِيَ الْنَّبِيُّ ^ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ: انْثُرُوْهُ فِي المَسْجِدِ وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُوْلُ الله ^ فَخَرَجَ رَسُوْلُ الله ^ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدَاً إِلَّا أَعْطَاهُ»رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقَاً مَجْزُومَاً بِهِ.وَفِيْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أَوَّلُ خَرَاجٍ جُلِبَ لِلْنَّبِيِّ ^.
وَفِيْ حَدِيْثِ عَمْرو بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:«أَنَّ رَسُوْلَ الله ^ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أَبُوْ عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ...» وَفِيْ هَذَا الْحَدِيْثِ وَعَظَ الْنَّبِيُّ ^ أَصْحَابَهُ يُحَذِّرُهُمْ مِنَ الْتَّنَافُسِ عَلَى الْدُّنْيَا، وَهُوَ حَدِيْثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلمَّا أَعْسَرَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَاسْتَدَانَ قَالَ لَهُ الْنَّبِيُّ ^:«لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا فَلَمْ يَجِئْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ الْنَّبِيُّ ^...» وَفِيْ تَكْمِلَةِ الْحَدِيْثِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَعْطَاهُ، وَهُوَ حَدِيْثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَنَاقِبِ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ أَنَّهُمْ ثَبَتُوْا عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنِ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، حَتَّى قَالَ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:«لمَّا مَاتَ رَسُوْلُ الله ^ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ إِلَّا ثَلَاثَةَ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ المَدِيْنَةِ وَمَسْجِدِ الْبَحْرَيْنِ».
وَقِصَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْجَارُوْدَ بْنَ المُعَلَّى وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ قَامَ فِيْهِمْ خَطِيْبَاً فَقَالَ:«يَا مَعْشَرَ عَبْدِ الْقَيْسِ إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ أَمْرٍ فَأَخْبِرُوْنِيْ إِنْ عَلِمْتُمُوْهُ، وَلَا تُجِيْبُونِي إِنْ لَمْ تَعْلَمُوْهُ، فَقَالُوَا: سَلْ، قَالَ: أَتَعْلَمُوْنَ أَنَّهُ كَانَ لله أَنْبِيَاءُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ؟ قَالُوْا: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُوْنَهُ أَمْ تَرَوْنَهُ؟ قَالُوْا: نَعْلَمُهُ، قَالَ: فَمَا فَعَلُوْا؟ قَالُوْا: مَاتُوْا، قَالَ: فَإِنْ مُحَمَّدَاً مَاتَ كَمَا مَاتُوْا، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ الله، فَقَالُوَا: وَنَحْنُ أَيْضَاً نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ الله، وَأَنْتَ أَفْضَلُنَا وَسَيِّدُنَا» وَثَبَتُوا عَلَى إِسْلَامِهِمْ، وَسَارُوْا لِقِتَالِ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ المُرْتَدِّيْنَ.
وَفِيْ عَهْدِ عُمَرَ سَقَطَتْ فَارِسُ، وَدَخَلَ الْنَّاسُ فِيْ دِينِ الله تَعَالَىْ أَفْوَاجَاً، وَكَانَ أَبُوْ هُرَيْرَةَ أَمِيْرَ الْبَحْرَيْنِ فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ يَسْتَأْذِنُهُ فِيْ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِقُرَى الْبَحْرَيْنِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ:«أَقِيْمُوْا الْجُمُعَةَ حَيْثُ كُنْتُمْ».
وَفِيْ الْقَرْنِ الْسَّابِعِ كَتَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ كِتَابَاً لِأَهْلِ الْبَحْرَيْنِ عَلَى إِثْرِ خِلَافٍ وَقَعَ بَيْنَهُمْ فِيْ مَسَائِلَ، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ ثَنَاءً جَمِيْلَاً، وَكَانَ مِمَّا قَالَ فِيْهِمْ:«مِنْ أَحْمَدَ...ابْنِ تَيْمِيَّةَ إِلَى مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ كِتَابُهُ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُسْلِمِيْنَ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ...ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَأَثْنَى عَلَى تَمَسُّكِهِمْ بِالْسُّنَّةِ، وَلُزُوْمِ الْجَمَاعَةِ: فَإِنَّ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ مَا زَالُوا مِنْ عَهْد رَسُوْلِ الله ^ أَهْلَ إِسْلَامٍ وَفَضْلٍ...وَذَكَرَ وَفْدَهُمْ عَلَى الْنَّبِيِّ ^، وَثَبَاتَهُمْ أَيَّامَ الرِّدَّةِ...وَقَالَ: وَقَاتَلَ بِهِمْ أَمِيرُهُمْ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ الْرَّجُلُ الْصَّالِحُ أَهْلَ الرِّدَّةِ وَلَهُمْ فِيْ السِّيْرَةِ أَخَبَارٌ حِسَانٌ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُوَفِّقُ آَخِرَهُمْ لِمَا وَفَّقَ لَهُ أَوَّلَهُمْ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ» وَهُوَ كِتَابٌ مَلِيْءٌ بِالْنُّصْحِ لَهُمْ، وَالْثّنَاءِ عَلَيْهِمْ، مِنْ عَالَمٍ كَبِيْرٍ وَإِمَامٍ لَا تَأْخُذُهُ فِيْ الْحَقِّ لَوْمَةُ لَائِمٍ.
وَكَانَ الْفُرْسُ مُنْذُ أَنْ سَقَطَ كِسْرَاهُمْ، وَتَفَكَّكَتْ دَوْلَتُهُمْ يَنْظُرُوْنَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ عَلَى أَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهُمْ، وَلمَّا قَامَتْ دَوْلَةُ الْصَّفَوِييِّنَ فِيْ إِيْرَانَ زَادَتْ أَطْمَاعُهُمْ فِي الْبَحْرَيْنِ، وَحَالَفُوا الْغَرْبِيِّيْنَ ضِدَّ الْعُثْمَانِيِّيْنَ فَتَسَلَّلَ الاسْتِعْمَارُ الْغَرْبِيُّ إِلَى الْخَلِيجِ مِنْ أَبْوَابِهِمْ، وَكَانَ يَسْعَى لِزِيَادَةِ أَعْدَادِهِمْ فِي المَنَاطِقِ الْسُّنِّيَّةِ؛ لِمَآرِبَ اسْتِعْمَارِيَّةٍ.. وَكَانَ الْفُرْسُ بِمَعُوْنَةِ الإنْجِلِيْزِ يَضْغَطُونَ لِتَوطِينِ الْبَاطِنِيِّينَ فِي الْبَحْرَيْنِ مُدَّعِيْنَ عَوْدَتَهُمْ إِلَى أُصُوْلِهِمْ، حَتَّى وَطَّنُوْا كَثِيْرَاً مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، فَكَانُوْا عُيُوْنَاً لَهُمْ، وَجُنْدَاً يَأْتَمِرُونَ بِإِمَرَتِهِمْ لِإِشْعَالِ الْفِتَنِ وَالْقَلْاقِلِ فِيْ بُلْدَانِهِمْ، وَيَذْكُرُ المُؤَرِّخُوْنَ أَنَّ التَّعَصُّبَ لِلْمَذْهَبِ الْبَاطِنِيِّ كَانَ أَكْبَرَ دَافِعٍ لِلْفُرْسِ لِلْاسْتِيْلَاءِ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُمْ يَتَذَكَّرُوْنَ أَنَّ أَجْدَادَهُمْ بَقُوْا عَلَى مَجُوسِيَتِهِمْ، وَكَانَتِ الْجِزْيَةُ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ..
كَفَىْ اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِيْنَ شَرَّهُمْ، وَرَدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ خَاسِرِيْنَ إِنَّهُ سَمِيْعٌ مُجِيْبٌ..
وَأَقُوْلُ قَوْلِيْ هَذَا...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لله حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ..
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ [وَاتَّقُوا يَوْمَاً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئَاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُوْنَ] {الْبَقَرَةِ:48}.
أَيُّهَا المُسْلِمُوْنَ: مَنْ عَلِمَ أَهَمِّيَّةَ بُلْدَانِ الْبَحْرَيْنِ الْقَدِيْمَةِ المُمْتَدَّةِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى عُمَانَ أَدْرَكَ سِرَّ اسْتِمَاتَةِ الْدَّوْلَةِ الْصَّفَوِيَّةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ دُوَلِ البَاطِنِيينَ إِلى الدَّولَةِ الْخُمَيْنِيَّةِ فِيْ سَبِيلِ الاسْتِيْلَاءِ عَلَيْهَا، فَفِيْ هَذَا الْشَّرِيطِ الْسَّاحِلِيِّ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الِاحْتِيَاطِيِّ الْعَالَمِيِّ مِنَ الْنِّفْطِ وَالْغَازِ، وَفِيهِ المَمَرَّاتُ الْبَحْرِيَّةُ المُهِمَّةُ لِلْتِّجَارَةِ الْدُوَلِيَّةِ.
وَتُمَثِّلُ دَوْلَةُ الْبَحْرَيْنِ الْحَالِيَّةُ وَاسِطَةَ هَذَا الْشَّرِيطِ الْسَّاحِلِيِّ؛ وَلِذَا يَسْتَمِيْتُ الْبَاطِنِيُّونَ فِيْ قَلْبِ نِظَامِ حُكْمِهَا مَهْمَا كَلَّفَ الْأَمْرُ؛ إِذْ بِامْتِلَاكِهِمْ لَهَا يُحْكِمُوْنَ قَبْضَتَهُمْ عَلَى كُلِّ الْشَّرِيطِ، وَيَسْتَطِيْعُوْنَ إِمْدَادَ جُيُوْبِهِمْ الْكَامِنَةِ فِيْ دُوَلِ الْخَلِيْجِ بِالْسِّلاحِ لِإِحْدَاثِ القَلَاقِلِ وَالْفِتَنِ، وَتَكُوْنُ دُوَلُ الْمِنْطِقَةِ وَمَوَاقِعُهَا الْحَيَوِيَّةُ فِيْ مَرْمَى مَدَافِعِهِم وَصَوَارِيْخِهِم إِنْ نَصَبُوهَا فِي الْبَحْرَيْنِ؛ وَلِذَا كَانَ مِنَ الْأَهْدَافِ الِاسْتِرَاتِيْجِيَّةِ لِلْثَّوْرَةِ الْخُمَيْنِيَّةِ الاسْتِيْلاءُ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَجَاءَ فِيْ أُوَلِيَّاتِ تَصْرِيْحَاتِ الْثُّوَّارِ آنَذَاكَ أَنَّ الْبَحْرَيْنَ جُزْءٌ مِنْ إِيْرَانَ، وَيُصَرِّحُوْنَ بِأَنَّ ثَوْرَةَ الخُمَيْنِيِّ لَيْسَتْ إِلَّا الْشَّرَارَةَ الْأُوْلَى الَّتِيْ سَوْفَ تُفَجِّرُ كُلَّ المنْطِقَةِ..
لَكِنَّ هَذَا الْنَّفَسَ الْثَّوْرِيَّ الَّذِيْ أَرَادُوْا تَصْدِيْرَهُ لِلْخَلِيْجِ هَدَأَ لِمَا رَأَوْا بَوَادِرَ فَشَلِهِ، وَلَكِنَّهُ خِيَارٌ اسْتَرَاتِيجِيٌّ لَا يُلْغَى، وَسُكُوْتُهُم عَنْهُ لِسَنَوَاتٍ لَيْسَ إِلَّا تَكْتِيكَاً سِيَاسِيَّاً لِيَعُوْدَ مِنْ جَدِيْدٍ مَعَ حُمَّى الثَّوْرَاتِ الَّتِيْ اجْتَاحَتِ الْبُلْدَانَ الْعَرَبِيَّةَ، وَيَعْلُو صَوْتُ تَصْدِيْرِ الثَّوْرَةِ الْفَارِسِيَّةِ الْإِمَامِيَّةِ لَدَى أَتْبَاعِهِمْ فِيْ المَنْطِقَةِ، يَتَدَثَّرُ بِدِثَارِ المُطَالَبَةِ بِالْحُقُوْقِ، وَهَدَفُهُ إِسْقَاطُ الْحُكُوْمَاتِ الْسُّنِّيَّةِ، وَتَسْلِيْمِ دُوَلِهَا لِلْعَمَائِمِ الْفَارِسِيَّةِ كَمَا فَعَلُوْا بِالْعِرَاقِ..
إِنَّ عَلَى المُتَحَمِّسِيْنَ لِوَهَجِ الثَّوْرَاتِ تَحْتَ لَافِتَاتِ الْحُرِّيَّاتِ وَانْتِزَاعِ الْحُقُوقِ أَنْ يَتَحَلَّوْا بِبَعْضِ الْفَهْمِ السِّيَاسِيِّ، وَالْإِلمَامِ الْتَّارِيْخِيِّ بِالْأَطْمَاعِ الْصَّفَوِيَّةِ الْبَاطِنِيَّةِ فِي الْخَلِيْجِ عَامَّةً، وَخَاصَّةً مَا يُمَثِّلُهُ مَوْقِعُ الْبَحْرَيْنِ مِنْ أَهَمِّيَّةٍ كُبْرَىْ لَدَيْهِمْ؛ لِتَكُوْنَ بَوَّابَةَ الْحُلْمِ الْفَارِسِيِّ المَوْعُوْدِ بِإِنْشَاءِ الْإِمْبْرَاطُورِيَّةِ الْبَاطِنِيَّةِ الْكُبْرَى، وَإِعَادَةِ الْأَمْجَادِ الْكِسْرَوِيَّةِ لِلْدَّوْلَةِ الْفَارِسِيَّةِ.. هَذَا الوَعْيُ ضَرُورَةٌ كَيمَا يَحْمِيهِمْ مِنْ تَأَيِّيدِ مَنْ يَسْتَبِيحُونَ دِمَاءَهُم وَأَعْرَاضَهُمْ وَأَمْوَالَهُم.
إِنَّ تَرْكَ الصَفَوِّيّينَ يَبْتَلِعُونَ الْبَحْرَيْنَ يُعَدُّ انْتِحَارَاً سِيَاسِيَّاً وَعَسْكَرِيَّاً لِمَنْظُومَةِ دُوَلِ الْخَلِيْجِ الْعَرَبِيِّ، بَلْ لِعَامَّةِ أَهْلِ الْسُّنَّةِ شُعُوْبَاً وَحُكُوْمَاتٍ.. وَلَنْ ىُفْشِلَ المُخَطَّطَاتِ الْصَّفَوِيَّةِ وَالْدَّعْمَ الْلَّيبْرَالِيَّ الْأَحْمَقَ لَهَا تَحْتَ شِعَارَاتِ الْحُرِّيَّةِ وَالْحُقُوقِ إِلَّا تَقْوَى الله تَعَالَى وَائْتِلَافُ أَهْلِ الْسُّنَّةِ، وَاجْتِمَاعُ كَلِمَتِهِمْ، وِوَعْيُهُمْ بِالأَخْطَارٍ المُحْدِقَةِ بِهِمْ؛ فَإِنَّ مَنْ تَذَكَّرَ أَفْعَالَ فِرَقِ المَوْتِ وَمُنَظَّمَةِ بَدْرٍ، وَأَعْمَالِ عَمَائِمِ المَجُوْسِ بِالمُسْلِمِيْنَ فِيْ الْأَهْوَازِ وَالْعِرَاقِ فَزِعَ مِنْ تُمَكُّنِهِمْ فِيْ دُوَلٍ أُخْرَى، وَلَوْ ضُحِّيَ بِالْحُرِّيَّةِ وَالْحُقُوْقِ بِسَبَبِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيِّينَ لَا يَهْتِفُونَ بِالْحُرِّيَّةِ، وَلَا يَخْرُجُوْنَ فِيْ مَسِيْرَاتِهَا، وَلَا يُشْعِلُونَ ثَوْرَاتِهَا إِلَّا لِيَنْحَرُوا بِهَا غَيْرَهُمْ إِنْ تَمَكَّنُوا، وَيَتَلَذَّذُوا بِتَعْذِيبِهِمْ، وَهَتْكِ أَعْرَاضِهِمْ، وَتَهْجِيْرِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، كَفَىْ اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِيْنَ شَرَّهُمْ، وَأَبْطَلَ سَعْيَهُمْ، وَرَدَّ مَكْرَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ كَيْدَهُمْ فِيْ نُحُوْرِهِمْ، إِنَّهُ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ.
وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا...
لماذا يطمعون في البحرين؟!
إبراهيم بن محمد الحقيل
20/4/1432هـ
الحمد لله الولي الحميد العزيز الحكيم؛ له معاقد العز ومجامع العظمة، لا يذل من والاه، ولا يعز من عاداه [مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَللهِ العِزَّةُ جَمِيعًا] {فاطر:10} نحمده على عظيم نعمه، ونشكره على جزيل عطائه، ما أصابنا من خير فمن خزائنه، وما أصابنا من ضر فبذنوبنا [مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ] {النساء:79} وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ [اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ] {يونس:3} وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله الله تعالى للعالمين بشيراً ونذيراً، وجعله لهم سراجاً منيراً، يهديهم لما يصلحهم، وينذرهم ما يضرهم ويوبقهم، فبلغ البلاغ المبين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأكثروا من عبادته، واضرعوا له بالدعاء؛ فإن أمامكم أيام الصبر، الصابر فيها كالقابض على الجمر، لا يصبر فيها إلا من صبره الله تعالى، ولا يثبت على دينه إلا من ثبته، فهنيئاً للثابتين الصابرين، وتعساً للجزعين الناكصين؛ فاللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك [رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ] {آل عمران:8}.
أيها الناس: في أحداث الزمان عبر للمعتبرين، وفي تقلبات الأيام عظات للمتعظين، وفي تسارع الأحداث إيقاظ لقلوب الغافلين، فليس ثم ملجأ إلا اللهُ تعالى، به يتعلق المؤمنون، وبه يأمن الخائفون، وفيه يؤمل الراجون [أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ الله قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ] {النمل:62}.
والأمة المسلمة تعيش واقعها على مفترق طرق.. فتونس ومصر تسيران إلى عالم مجهول، وليبيا واليمن مشتعلتان، ودول أخرى على حافة انفجار واضطراب، والبحرين يسعى الإمامية لافتراسها وتسليمها -كما سلمت العراق- لباطنية الفرس الشعوبيين المتعصبين لإعادة أمجاد كسرى. ولو أدرك الناس قيمة البحرين كما يدركها علماء السياسة والجغرافيا لانخلعت قلوبهم خوفاً عليها من أنياب باطنية الفرس.
والبحرين إذا أطلقت في الأحاديث أو في كتب التاريخ والجغرافيا القديمة فهي اسم جامع لكل مدن ساحل الخليج العربي من البصرة شمالاً إلى عمان جنوباً.. دخلت هذه المدن الآن في عدة دول..كما أن منها دولة البحرين التي حملت هذا الاسم دون غيرها، وقد كانت متصلة بمدن الساحل الأخرى حتى فصلتها عنه تغيرات الأرض، فصارت جزراً تختص بهذا الاسم..
وللبحرين القديمة تاريخ طويل قبل الإسلام، وكان العرب فيها خاضعين لدولة الفرس، وكسرى هو من يعين ملوكها وأمراءها؛ حتى جاء الله تعالى بالإسلام، فدخلت قبائل من عرب البحرين في الإسلام، ولا سيما قبائل عبد القيس في الإحساء، وكانوا سابقين إلى الإسلام، ولهم مآثر عديدة، ومناقب كثيرة؛ حتى ألف بعض أهل العلم أربعيناً في فضائل البحرين وأهلها.
ومن فضائلهم أن عبد القيس أوفدوا للمدينة وفداً لمقابلة النبي ^ رغم بعد الشقة بين الإحساء والمدينة، فقابلوه ومعهم تمر من هجر يهدونه له في قصة مؤثرة، وفيها قال النبي ^:«اللهم اغفر لعبد القيس إذ أسلموا طائعين غير كارهين غير خزايا ولا موتورين؛ إذ بعض قوم لا يسلمون حتى يُخزوا ويوتروا... وقال: إن خير المشرق عبد القيس»رواه أحمد.
وكان إسلامهم متقدماً جداً قبل أكثر العرب، رغم بعدهم عن المدينة، كما روى ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال:«إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ في مَسْجِدِ رسول الله ^ في مَسْجِدِ عبد الْقَيْسِ بجواثى من الْبَحْرَيْنِ»رواه البخاري.
وكان بينهم وبين المدينة قبائل مضر وكانت على الكفر فيخافونها، فيأتون في الأشهر الحرم، كما في حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:«أَنَّ أُنَاسًا من عبد الْقَيْسِ قَدِمُوا على رسول الله ^ فَقَالُوا: يا نَبِيَّ الله، إِنَّا حَيٌّ من رَبِيعَةَ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ ولا نَقْدِرُ عَلَيْكَ إلا في أَشْهُرِ الْحُرُمِ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْمُرُ بِهِ من وَرَاءَنَا وَنَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ إذا نَحْنُ أَخَذْنَا بِهِ... فعلمهم شرائع الإسلام، وقال لرئيسهم المنذر بن عائذ: إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا الله الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ»رواه مسلم.
ومن أخبار البحرين أن النبي ^ عامل مجوسها ويهودها ونصاراها على الجزية، وفي ذلك حديث أَنَسِ رضي الله عنه قال:«أُتِيَ النبي ^ بِمَالٍ من الْبَحْرَيْنِ فقال: انْثُرُوهُ في الْمَسْجِدِ وكان أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رسول الله ^ فَخَرَجَ رسول الله ^ إلى الصَّلَاةِ ولم يَلْتَفِتْ إليه، فلما قَضَى الصَّلَاةَ جاء فَجَلَسَ إليه فما كان يَرَى أَحَدًا إلا أَعْطَاهُ»رواه البخاري معلقا مجزوما به.وفي بعض الروايات أنه أول خراج جلب للنبي ^.
وفي حديث عَمْرَو بن عَوْفٍ الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه:«أَنَّ رسول الله ^ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عليهم الْعَلَاءَ بن الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أبو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ من الْبَحْرَيْنِ...» وفي هذا الحديث وعظ النبي ^ أصحابه يحذرهم من التنافس على الدنيا، وهو حديث متفق عليه.
ولما أعسر جَابِرُ بن عبد الله رضي الله عنهما واستدان قال له النبي ^:«لو قد جاء مَالُ الْبَحْرَيْنِ قد أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا فلم يَجِئْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حتى قُبِضَ النبي ^...» وفي تكملة الحديث أن أبا بكر رضي الله عنه أعطاه، وهو حديث متفق عليه.
وكان من أعظم مناقب أهل البحرين أنهم ثبتوا على الإسلام بعد أن ارتدت العرب، حتى قال قتادة رحمه الله تعالى:«لما مات رسول الله ^ ارتدت العرب إلا ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد البحرين».
وقصة ذلك أن الجارود بن المعلى وكان من أشرافهم قام فيهم خطيبا فقال:«يا معشر عبد القيس إني سائلكم عن أمر فأخبروني إن علمتموه، ولا تجيبوني إن لم تعلموه، فقالوا: سل، قال: أتعلمون أنه كان لله أنبياء قبل محمد؟ قالوا: نعم، قال: تعلمونه أم ترونه؟ قالوا: نعلمه، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال: فإن محمداً مات كما ماتوا، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا: ونحن أيضاً نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنت أفضلنا وسيدنا» وثبتوا على إسلامهم، وساروا لقتال من حولهم من المرتدين.
وفي عهد عمر سقطت فارس، ودخل الناس في دين الله تعالى أفواجاً، وكان أبو هريرة أمير البحرين فكتب إلى عمر يستأذنه في إقامة الجمعة بقرى البحرين فكتب إليه عمر: «أقيموا الجمعة حيث كنتم».
وفي القرن السابع كتب شيخ الإسلام ابن تيمية كتاباً لأهل البحرين على إثر خلاف وقع بينهم في مسائل، فأثنى عليهم ثناء جميلاً، وكان مما قال فيهم:«من أحمد...ابن تيمية إلى من يصل إليه كتابه من المؤمنين والمسلمين من أهل البحرين...ثم قال بعد أن سلم عليهم وأثنى على تمسكهم بالسنة، ولزوم الجماعة: فإن أهل البحرين ما زالوا من عهد رسول الله ^ أهل إسلام وفضل...وذكر وفدهم على النبي ^، وثباتهم أيام الردة...وقال: وقاتل بهم أميرهم العلاء بن الحضرمي الرجل الصالح أهل الردة ولهم في السيرة أخبار حسان، فالله سبحانه وتعالى يوفق آخرهم لما وفق له أولهم، إنه ولى ذلك والقادر عليه» وهو كتاب مليء بالنصح لهم، والثناء عليهم، من عالم كبير وإمام لا تأخذه في الحق لومة لائم.
وكان الفرس منذ أن سقط كسراهم، وتفككت دولتهم ينظرون إلى البحرين على أنها تابعة لهم، ولما قامت دولة الصفويين في إيران زادت أطماعهم في البحرين، وحالفوا الغربيين ضد العثمانيين فتسلل الاستعمار الغربي إلى الخليج من أبوابهم، وكان يسعى لزيادة أعدادهم في المناطق السنية؛ لمآرب استعمارية.. وكان الفرس بمعونة الانجليز يضغطون لتوطين الباطنيين في البحرين مدّعين عودتهم إلى أصولهم، حتى وطنوا كثيراً من أتباعهم، فكانوا عيوناً لهم، وجنداً يأتمرون بإمرتهم لإشعال الفتن والقلاقل في بلدانهم، ويذكر المؤرخون أن التعصب للمذهب الباطني كان أكبر دافع للفرس للاستيلاء على البحرين، ولا سيما أنهم يتذكرون أن أجدادهم بقوا على مجوسيتهم، وكانت الجزية تؤخذ منهم..
كفى الله تعالى المسلمين شرهم، وردهم على أعقابهم خاسرين إنه سميع مجيب.. وأقول قولي هذا...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين..
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه [وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ] {البقرة:48}.
أيها المسلمون: من علم أهمية بلدان البحرين القديمة الممتدة من البصرة إلى عمان أدرك سِرِّ استماتة الدولة الصفوية وما بعدها إلى الدولة الخمينية في سبيل الاستيلاء عليها، ففي هذا الشريط الساحلي أكثر من نصف الاحتياطي العالمي من النفط والغاز ، وفيه الممرات البحرية المهمة للتجارة الدولية.
وتمثل دولة البحرين الحالية واسطة هذا الشريط الساحلي؛ ولذا يستميت الباطنيون في قلب نظام حكمها مهما كلف الأمر؛ إذ بامتلاكهم لها يحكمون قبضتهم على كل الشريط، ويستطيعون إمداد جيوبهم الكامنة في دول الخليج بالسلاح لإحداث القلاقل والفتن، وتكون دول المنطقة ومواقعها الحيوية في مرمى مدافعهم وصواريخهم إن نصبوها في البحرين؛ ولذا كان من الأهداف الاستراتيجية للثورة الخمينية الاستيلاء على البحرين، وجاء في أوليات تصريحات الثوار آنذاك أن البحرين جزء من إيران، ويصرحون بأن ثورة الخميني ليست إلا الشرارة الأولى التي سوف تفجر كل المنطقة..
لكن هذا النفس الثوري الذي أرادوا تصديره للخليج هدأ لما رأوا بوادر فشله، ولكنه خيار استراتيجي لا يلغى، وسكوتهم عنه لسنوات ليس إلا تكتيكا سياسيا ليعود من جديد مع حمى الثورات التي اجتاحت البلدان العربية، ويعلو صوت تصدير الثورة الفارسية الإمامية لدى أتباعهم في المنطقة، يتدثر بدثار المطالبة بالحقوق، وهدفه إسقاط الحكومات السنية، وتسليم دولها للعمائم الفارسية كما فعلوا بالعراق..
إن على المتحمسين لوهج الثورات تحت لافتات الحريات وانتزاع الحقوق أن يتحلوا ببعض الفهم السياسي، والإلمام التاريخي بالأطماع الصفوية الباطنية في الخليج عامة، وخاصة ما يمثله موقع البحرين من أهمية كبرى لديهم؛ لتكون بوابة الحلم الفارسي الموعود بإنشاء الإمبراطورية الباطنية الكبرى، وإعادة الأمجاد الكسروية للدولة الفارسية.. هذا الوعي ضرورة كيما يحميهم من تأييد من يستبيحون دماءهم وأعراضهم وأموالهم.
إن ترك الصفوييين يبتلعون البحرين يعد انتحاراً سياسياً وعسكريا لمنظومة دول الخليج العربي بل لعامة أهل السنة شعوبا وحكومات، ولن ىفشل هذه المخططات الصفوية والدعم الليبرالي الأحمق لها تحت شعارات الحرية والحقوق إلا تقوى الله تعالى، وائتلاف أهل السنة، واجتماع كلمتهم، ووعيهم بالأخطار المحدقة بهم؛ فإن من تذكر أفعال فرق الموت ومنظمات بدر، وأعمال عمائم المجوس بالمسلمين في الأهواز والعراق فزع من تمكنهم في دول أخرى، ولو ضحي بالحرية والحقوق بسبب ذلك؛ فإن هؤلاء الباطنيين لا يهتفون بالحرية، ولا يخرجون في مسيراتها، ولا يشعلون ثوراتها إلا لينحروا بها غيرهم إن تمكنوا، ويتلذذوا بتعذيبهم، وهتك أعراضهم، وتهجيرهم من بلدانهم، كفى الله تعالى المسلمين شرهم، وأبطل سعيهم، ورد مكرهم عليهم، وجعل كيدهم في نحورهم، إنه سميع قريب.
وصلوا وسلموا...
الدَّوْلَةُ الصَّفَوِيَّةُ (8)
لِمَاذَا يَطْمَعُوْنَ فِي البَحْرَينِ؟!
إبراهيم بن محمد الحقيل
20/4/1432هـ
الْحَمْدُ لله الْوَلِيِّ الْحَمِيْدِ الْعَزِيْزِ الْحَكِيْمِ؛ لَهُ مَعَاقِدُ الْعِزِّ وَمَجَامِعُ الْعَظَمَةِ، لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَاهُ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَاهُ [مَنْ كَانَ يُرِيْدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيْعَاً] {فَاطِرِ:10} نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيْمِ نِعَمِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى جَزِيْلِ عَطَائِهِ، مَا أَصَابَنَا مِنْ خَيْرٍ فَمِنْ خَزَائِنِهِ، وَمَا أَصَابَنَا مِنْ ضُرٍّ فَبِذُنُوْبِنَا [مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ] {الْنِّسَاءِ:79} وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ؛ [اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيْعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوْهُ أَفَلَا تَذَكَّرُوْنَ] {يُوْنُسَ:3} وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ؛ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَىْ لِلْعَالَمِيْنَ بَشِيْرَاً وَنَذِيْرَاً، وَجَعَلَهُ لَهُمْ سِرَاجَاً مُنِيْرَاً، يَهْدِيهِمْ لِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَيُنْذِرُهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ وَيُوْبِقُهُمْ، فَبَلَّغَ الْبَلَاغَ المُبِيْنَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالْتَّابِعِيْنَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَأَكْثِرُوْا مِنَ عِبَادَتِهِ، واضَرَعُوا لَهُ بِالْدُّعَاءِ؛ فَإِنَّ أَمَامَكُمْ أَيَّامَ الْصَّبْرِ، الْصَّابِرُ فِيْهَا كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، لَا يَصْبِرُ فِيْهَا إِلَّا مِنْ صَبَّرَهُ اللهُ تَعَالَى، وَلَا يَثْبُتُ عَلَى دِينِهِ إِلَّا مَنْ ثَبَّتَهُ، فَهَنِيْئَاً لِلْثَّابِتِينَ الصَّابِرِيْنَ، وَتَعْسَاً لِلْجَزِعِينَ النَّاكِصِينَ؛ فَاللَّهُمَّ يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوْبِ ثَبِّتْ قُلُوْبَنَا عَلَى دِيْنِكَ [رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ] {آَلِ عِمْرَانَ:8}.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: فِيْ أَحْدَاثِ الْزَّمَانِ عِبَرٌ لِلْمُعْتَبِرِيْنَ، وَفِيْ تَقَلُّبَاتِ الْأَيَّامِ عِظَاتٌ لِلْمُتَّعِظِينَ، وَفِيْ تَسَارُعِ الْأَحْدَاثِ إِيْقَاظٌ لِقُلُوْبِ الْغَافِلِيْنَ، فَلَيْسَ ثَمَّ مَلْجَأٌ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، بِهِ يَتَعَلَّقُ المُؤْمِنُوْنَ، وَبِهِ يَأْمَنُ الْخَائِفُوْنَ، وَفِيْهِ يُؤَمِّلُ الْرَّاجُوْنَ [أَمَّنْ يُجِيْبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ الْسُّوْءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ الله قَلِيْلَاً مَا تَذَكَّرُوْنَ] {الْنَّمْلِ:62}.
وَالْأُمَّةُ المُسْلِمَةُ تَعِيْشُ وَاقِعَهَا عَلَى مُفْتَرَقِ طُرُقٍ.. فْتُونُسُ وَمِصْرُ تَسِيْرَانِ إِلَى عَالِمٍ مَجْهُوْلٍ، وَلِيبِيَا وَالْيَمَنُ مُشْتَعِلَتَانِ، وَدُوَلٌ أُخْرَى عَلَى حَافَّةِ انْفِجَارٍ وَاضْطِرَابٍ، وَالْبَحْرَيْنُ يَسْعَى الْإِمَامِيَّةُ لِافْتِرَاسِهَا وَتَسْلِيْمِهَا -كَمَا سُلِّمَتِ العِرَاقُ- لِبَاطِنِيَّةِ الْفُرْسِ الْشُّعُوْبِيِّيْنَ المُتَعَصِّبِينَ لِإِعَادَةِ أَمْجَادِ كِسْرَى. وَلَوْ أَدْرَكَ الْنَّاسُ قِيمَةَ الْبَحْرَيْنِ كَمَا يُدْرِكُهَا عُلَمَاءُ الْسِيَاسَةِ وَالْجُغْرَافْيَا لَانْخَلَعَتْ قُلُوْبُهُمْ خَوفَاً عَلَيْهَا مِنْ أَنْيَابِ بَاطِنِيَّةِ الْفُرْسِ.
وَالْبَحْرَيْنُ إِذَا أُطْلِقَتْ فِي الْأَحَادِيْثِ أَوْ فِيْ كُتُبِ الْتَّارِيْخِ وَالْجُغْرَافِيَا الْقَدِيمَةِ فَهِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مُدُنِ سَاحِلِ الْخَلِيْجِ الْعَرَبِيِّ مِنْ الْبَصْرَةِ شِمَالَاً إِلَى عُمَانَ جَنُوْبَاً.. دَخَلَتْ هَذِهِ المُدُنُ الْآنَ فِيْ عِدَّةِ دُوَلٍ..كَمَا أَنَّ مِنْهَا دَوْلَةَ الْبَحْرَيْنِ الَّتِي حَمَلَتْ هَذَا الِاسْمَ دُوْنَ غَيْرِهَا، وَقَدْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِمُدُنِ الْسَّاحِلِ الْأُخْرَى حَتَّى فَصَلَتْهَا عَنْهُ تَغَيُّرَاتُ الْأَرْضِ، فَصَارَتْ جُزُرَاً تَخْتَصُّ بِهَذَا الْاسْمِ..
وَلِلْبَحْرِينِ الْقَدِيْمَةِ تَارِيْخٌ طَوِيْلٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ الْعَرَبُ فِيْهَا خَاضِعِيْنَ لِدَوْلَةِ الْفُرْسِ، وَكِسْرَى هُوَ مَنْ يُعَيِّنُ مُلُوْكَهَا وَأُمَرَاءَهَا؛ حَتَّى جَاءَ اللهُ تَعَالَىْ بِالْإِسْلَامِ، فَدَخَلَتْ قَبَائِلُ مِنْ عَرَبِ الْبَحْرَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا سِيَّمَا قَبَائِلُ عَبْدِ الْقَيْسِ فِي الْإِحْسَاءِ، وَكَانُوْا سَابِقِيْنَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَهُمْ مَآَثِرُ عَدِيْدَةٌ، وَمَنَاقِبُ كَثِيْرَةٌ؛ حَتَّى أَلَّفَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَرْبَعِيْنَاً فِيْ فَضَائِلِ الْبَحْرَيْنِ وَأَهْلِهَا.
وَمِنْ فَضَائِلِهِمْ أَنَّ عَبْدَ الْقَيْسِ أَوْفَدُوا لِلْمَدِيْنَةِ وَفْدَاً لُمُقَابَلَةِ الْنَّبِيِّ ^ رَغْمَ بُعْدِ الْشُّقَّةِ بَيْنَ الْإِحْسَاءِ وَالمَدِيْنَةِ، فَقَابَلُوْهُ وَمَعَهُمْ تَمرٌ مِنْ بِلَادِهِم يُهْدُوْنَهُ لَهُ فِيْ قِصَّةٍ مُؤْثِّرَةٍ، وَفِيْهَا قَالَ الْنَّبِيُّ ^:«الْلَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ الْقَيْسِ إِذْ أَسْلَمُوْا طَائِعِيْنَ غَيْرَ كَارِهِيْنَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَوْتُوْرِيْنَ؛ إِذْ بَعْضُ قَوْمٍ لَا يُسْلِمُوْنَ حَتَّى يُخْزَوا وَيُوتَرُوا... وَقَالَ: إِنَّ خَيْرَ المَشْرِقِ عَبْدُ الْقَيْسِ»رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَكَانَ إِسْلامُهُمْ مُتَقَدِّمَاً جِدَّاً قَبْلَ أَكْثَرِ الْعَرَبِ، رَغْمَ بُعْدِهِمْ عَنِ المَدِيْنَةِ، كَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:«إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِيْ مَسْجِدِ رَسُوْلِ الله ^ فِيْ مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ الْبَحْرَيْنِ»رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ المَدِيْنَةِ قَبَائِلُ مُضَرَ وَكَانَتْ عَلَى الْكُفْرِ فَيَخَافُونَهَا، فَيَأْتُوْنَ فِيْ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، كَمَا فِيْ حَدِيْثِ أَبِيْ سَعِيْدٍ الْخُدْرِيِّ:«أَنَّ أُنَاسَاً مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ قَدِمُوْا عَلَى رَسُوْلِ الله ^ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ الله، إِنَّا حَيٌّ مِنْ رَبِيْعَةَ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ وَلَا نَقْدِرُ عَلَيْكَ إِلَّا فِيْ أَشْهُرِ الْحُرُمِ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْمُرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَندخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ إِذَا نَحْنُ أَخَذْنَا بِهِ... فَعَلَّمَهُمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ لِرَئِيْسِهِمْ المُنْذِرِ بْنِ عَائِذٍ: إِنَّ فِيْكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ»رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ أَخَبَارِ الْبَحْرَيْنِ أَنَّ الْنَّبِيِّ ^ عَامَلَ مَجُوْسَهَا وَيَهُودَهَا وَنْصَارَاهَا عَلَى الْجِزْيَةِ، وَفِيْ ذَلِكَ حَدِيْثُ أَنَسٍ رِضَيِ اللهُ عَنْهُ قَالَ:«أُتِيَ الْنَّبِيُّ ^ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ: انْثُرُوْهُ فِي المَسْجِدِ وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُوْلُ الله ^ فَخَرَجَ رَسُوْلُ الله ^ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدَاً إِلَّا أَعْطَاهُ»رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقَاً مَجْزُومَاً بِهِ.وَفِيْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أَوَّلُ خَرَاجٍ جُلِبَ لِلْنَّبِيِّ ^.
وَفِيْ حَدِيْثِ عَمْرو بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:«أَنَّ رَسُوْلَ الله ^ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أَبُوْ عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ...» وَفِيْ هَذَا الْحَدِيْثِ وَعَظَ الْنَّبِيُّ ^ أَصْحَابَهُ يُحَذِّرُهُمْ مِنَ الْتَّنَافُسِ عَلَى الْدُّنْيَا، وَهُوَ حَدِيْثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلمَّا أَعْسَرَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَاسْتَدَانَ قَالَ لَهُ الْنَّبِيُّ ^:«لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا فَلَمْ يَجِئْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ الْنَّبِيُّ ^...» وَفِيْ تَكْمِلَةِ الْحَدِيْثِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَعْطَاهُ، وَهُوَ حَدِيْثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَنَاقِبِ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ أَنَّهُمْ ثَبَتُوْا عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنِ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، حَتَّى قَالَ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:«لمَّا مَاتَ رَسُوْلُ الله ^ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ إِلَّا ثَلَاثَةَ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ المَدِيْنَةِ وَمَسْجِدِ الْبَحْرَيْنِ».
وَقِصَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْجَارُوْدَ بْنَ المُعَلَّى وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ قَامَ فِيْهِمْ خَطِيْبَاً فَقَالَ:«يَا مَعْشَرَ عَبْدِ الْقَيْسِ إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ أَمْرٍ فَأَخْبِرُوْنِيْ إِنْ عَلِمْتُمُوْهُ، وَلَا تُجِيْبُونِي إِنْ لَمْ تَعْلَمُوْهُ، فَقَالُوَا: سَلْ، قَالَ: أَتَعْلَمُوْنَ أَنَّهُ كَانَ لله أَنْبِيَاءُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ؟ قَالُوْا: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُوْنَهُ أَمْ تَرَوْنَهُ؟ قَالُوْا: نَعْلَمُهُ، قَالَ: فَمَا فَعَلُوْا؟ قَالُوْا: مَاتُوْا، قَالَ: فَإِنْ مُحَمَّدَاً مَاتَ كَمَا مَاتُوْا، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ الله، فَقَالُوَا: وَنَحْنُ أَيْضَاً نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ الله، وَأَنْتَ أَفْضَلُنَا وَسَيِّدُنَا» وَثَبَتُوا عَلَى إِسْلَامِهِمْ، وَسَارُوْا لِقِتَالِ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ المُرْتَدِّيْنَ.
وَفِيْ عَهْدِ عُمَرَ سَقَطَتْ فَارِسُ، وَدَخَلَ الْنَّاسُ فِيْ دِينِ الله تَعَالَىْ أَفْوَاجَاً، وَكَانَ أَبُوْ هُرَيْرَةَ أَمِيْرَ الْبَحْرَيْنِ فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ يَسْتَأْذِنُهُ فِيْ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِقُرَى الْبَحْرَيْنِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ:«أَقِيْمُوْا الْجُمُعَةَ حَيْثُ كُنْتُمْ».
وَفِيْ الْقَرْنِ الْسَّابِعِ كَتَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ كِتَابَاً لِأَهْلِ الْبَحْرَيْنِ عَلَى إِثْرِ خِلَافٍ وَقَعَ بَيْنَهُمْ فِيْ مَسَائِلَ، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ ثَنَاءً جَمِيْلَاً، وَكَانَ مِمَّا قَالَ فِيْهِمْ:«مِنْ أَحْمَدَ...ابْنِ تَيْمِيَّةَ إِلَى مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ كِتَابُهُ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُسْلِمِيْنَ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ...ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَأَثْنَى عَلَى تَمَسُّكِهِمْ بِالْسُّنَّةِ، وَلُزُوْمِ الْجَمَاعَةِ: فَإِنَّ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ مَا زَالُوا مِنْ عَهْد رَسُوْلِ الله ^ أَهْلَ إِسْلَامٍ وَفَضْلٍ...وَذَكَرَ وَفْدَهُمْ عَلَى الْنَّبِيِّ ^، وَثَبَاتَهُمْ أَيَّامَ الرِّدَّةِ...وَقَالَ: وَقَاتَلَ بِهِمْ أَمِيرُهُمْ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ الْرَّجُلُ الْصَّالِحُ أَهْلَ الرِّدَّةِ وَلَهُمْ فِيْ السِّيْرَةِ أَخَبَارٌ حِسَانٌ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُوَفِّقُ آَخِرَهُمْ لِمَا وَفَّقَ لَهُ أَوَّلَهُمْ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ» وَهُوَ كِتَابٌ مَلِيْءٌ بِالْنُّصْحِ لَهُمْ، وَالْثّنَاءِ عَلَيْهِمْ، مِنْ عَالَمٍ كَبِيْرٍ وَإِمَامٍ لَا تَأْخُذُهُ فِيْ الْحَقِّ لَوْمَةُ لَائِمٍ.
وَكَانَ الْفُرْسُ مُنْذُ أَنْ سَقَطَ كِسْرَاهُمْ، وَتَفَكَّكَتْ دَوْلَتُهُمْ يَنْظُرُوْنَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ عَلَى أَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهُمْ، وَلمَّا قَامَتْ دَوْلَةُ الْصَّفَوِييِّنَ فِيْ إِيْرَانَ زَادَتْ أَطْمَاعُهُمْ فِي الْبَحْرَيْنِ، وَحَالَفُوا الْغَرْبِيِّيْنَ ضِدَّ الْعُثْمَانِيِّيْنَ فَتَسَلَّلَ الاسْتِعْمَارُ الْغَرْبِيُّ إِلَى الْخَلِيجِ مِنْ أَبْوَابِهِمْ، وَكَانَ يَسْعَى لِزِيَادَةِ أَعْدَادِهِمْ فِي المَنَاطِقِ الْسُّنِّيَّةِ؛ لِمَآرِبَ اسْتِعْمَارِيَّةٍ.. وَكَانَ الْفُرْسُ بِمَعُوْنَةِ الإنْجِلِيْزِ يَضْغَطُونَ لِتَوطِينِ الْبَاطِنِيِّينَ فِي الْبَحْرَيْنِ مُدَّعِيْنَ عَوْدَتَهُمْ إِلَى أُصُوْلِهِمْ، حَتَّى وَطَّنُوْا كَثِيْرَاً مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، فَكَانُوْا عُيُوْنَاً لَهُمْ، وَجُنْدَاً يَأْتَمِرُونَ بِإِمَرَتِهِمْ لِإِشْعَالِ الْفِتَنِ وَالْقَلْاقِلِ فِيْ بُلْدَانِهِمْ، وَيَذْكُرُ المُؤَرِّخُوْنَ أَنَّ التَّعَصُّبَ لِلْمَذْهَبِ الْبَاطِنِيِّ كَانَ أَكْبَرَ دَافِعٍ لِلْفُرْسِ لِلْاسْتِيْلَاءِ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُمْ يَتَذَكَّرُوْنَ أَنَّ أَجْدَادَهُمْ بَقُوْا عَلَى مَجُوسِيَتِهِمْ، وَكَانَتِ الْجِزْيَةُ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ..
كَفَىْ اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِيْنَ شَرَّهُمْ، وَرَدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ خَاسِرِيْنَ إِنَّهُ سَمِيْعٌ مُجِيْبٌ..
وَأَقُوْلُ قَوْلِيْ هَذَا...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لله حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ..
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ [وَاتَّقُوا يَوْمَاً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئَاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُوْنَ] {الْبَقَرَةِ:48}.
أَيُّهَا المُسْلِمُوْنَ: مَنْ عَلِمَ أَهَمِّيَّةَ بُلْدَانِ الْبَحْرَيْنِ الْقَدِيْمَةِ المُمْتَدَّةِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى عُمَانَ أَدْرَكَ سِرَّ اسْتِمَاتَةِ الْدَّوْلَةِ الْصَّفَوِيَّةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ دُوَلِ البَاطِنِيينَ إِلى الدَّولَةِ الْخُمَيْنِيَّةِ فِيْ سَبِيلِ الاسْتِيْلَاءِ عَلَيْهَا، فَفِيْ هَذَا الْشَّرِيطِ الْسَّاحِلِيِّ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الِاحْتِيَاطِيِّ الْعَالَمِيِّ مِنَ الْنِّفْطِ وَالْغَازِ، وَفِيهِ المَمَرَّاتُ الْبَحْرِيَّةُ المُهِمَّةُ لِلْتِّجَارَةِ الْدُوَلِيَّةِ.
وَتُمَثِّلُ دَوْلَةُ الْبَحْرَيْنِ الْحَالِيَّةُ وَاسِطَةَ هَذَا الْشَّرِيطِ الْسَّاحِلِيِّ؛ وَلِذَا يَسْتَمِيْتُ الْبَاطِنِيُّونَ فِيْ قَلْبِ نِظَامِ حُكْمِهَا مَهْمَا كَلَّفَ الْأَمْرُ؛ إِذْ بِامْتِلَاكِهِمْ لَهَا يُحْكِمُوْنَ قَبْضَتَهُمْ عَلَى كُلِّ الْشَّرِيطِ، وَيَسْتَطِيْعُوْنَ إِمْدَادَ جُيُوْبِهِمْ الْكَامِنَةِ فِيْ دُوَلِ الْخَلِيْجِ بِالْسِّلاحِ لِإِحْدَاثِ القَلَاقِلِ وَالْفِتَنِ، وَتَكُوْنُ دُوَلُ الْمِنْطِقَةِ وَمَوَاقِعُهَا الْحَيَوِيَّةُ فِيْ مَرْمَى مَدَافِعِهِم وَصَوَارِيْخِهِم إِنْ نَصَبُوهَا فِي الْبَحْرَيْنِ؛ وَلِذَا كَانَ مِنَ الْأَهْدَافِ الِاسْتِرَاتِيْجِيَّةِ لِلْثَّوْرَةِ الْخُمَيْنِيَّةِ الاسْتِيْلاءُ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَجَاءَ فِيْ أُوَلِيَّاتِ تَصْرِيْحَاتِ الْثُّوَّارِ آنَذَاكَ أَنَّ الْبَحْرَيْنَ جُزْءٌ مِنْ إِيْرَانَ، وَيُصَرِّحُوْنَ بِأَنَّ ثَوْرَةَ الخُمَيْنِيِّ لَيْسَتْ إِلَّا الْشَّرَارَةَ الْأُوْلَى الَّتِيْ سَوْفَ تُفَجِّرُ كُلَّ المنْطِقَةِ..
لَكِنَّ هَذَا الْنَّفَسَ الْثَّوْرِيَّ الَّذِيْ أَرَادُوْا تَصْدِيْرَهُ لِلْخَلِيْجِ هَدَأَ لِمَا رَأَوْا بَوَادِرَ فَشَلِهِ، وَلَكِنَّهُ خِيَارٌ اسْتَرَاتِيجِيٌّ لَا يُلْغَى، وَسُكُوْتُهُم عَنْهُ لِسَنَوَاتٍ لَيْسَ إِلَّا تَكْتِيكَاً سِيَاسِيَّاً لِيَعُوْدَ مِنْ جَدِيْدٍ مَعَ حُمَّى الثَّوْرَاتِ الَّتِيْ اجْتَاحَتِ الْبُلْدَانَ الْعَرَبِيَّةَ، وَيَعْلُو صَوْتُ تَصْدِيْرِ الثَّوْرَةِ الْفَارِسِيَّةِ الْإِمَامِيَّةِ لَدَى أَتْبَاعِهِمْ فِيْ المَنْطِقَةِ، يَتَدَثَّرُ بِدِثَارِ المُطَالَبَةِ بِالْحُقُوْقِ، وَهَدَفُهُ إِسْقَاطُ الْحُكُوْمَاتِ الْسُّنِّيَّةِ، وَتَسْلِيْمِ دُوَلِهَا لِلْعَمَائِمِ الْفَارِسِيَّةِ كَمَا فَعَلُوْا بِالْعِرَاقِ..
إِنَّ عَلَى المُتَحَمِّسِيْنَ لِوَهَجِ الثَّوْرَاتِ تَحْتَ لَافِتَاتِ الْحُرِّيَّاتِ وَانْتِزَاعِ الْحُقُوقِ أَنْ يَتَحَلَّوْا بِبَعْضِ الْفَهْمِ السِّيَاسِيِّ، وَالْإِلمَامِ الْتَّارِيْخِيِّ بِالْأَطْمَاعِ الْصَّفَوِيَّةِ الْبَاطِنِيَّةِ فِي الْخَلِيْجِ عَامَّةً، وَخَاصَّةً مَا يُمَثِّلُهُ مَوْقِعُ الْبَحْرَيْنِ مِنْ أَهَمِّيَّةٍ كُبْرَىْ لَدَيْهِمْ؛ لِتَكُوْنَ بَوَّابَةَ الْحُلْمِ الْفَارِسِيِّ المَوْعُوْدِ بِإِنْشَاءِ الْإِمْبْرَاطُورِيَّةِ الْبَاطِنِيَّةِ الْكُبْرَى، وَإِعَادَةِ الْأَمْجَادِ الْكِسْرَوِيَّةِ لِلْدَّوْلَةِ الْفَارِسِيَّةِ.. هَذَا الوَعْيُ ضَرُورَةٌ كَيمَا يَحْمِيهِمْ مِنْ تَأَيِّيدِ مَنْ يَسْتَبِيحُونَ دِمَاءَهُم وَأَعْرَاضَهُمْ وَأَمْوَالَهُم.
إِنَّ تَرْكَ الصَفَوِّيّينَ يَبْتَلِعُونَ الْبَحْرَيْنَ يُعَدُّ انْتِحَارَاً سِيَاسِيَّاً وَعَسْكَرِيَّاً لِمَنْظُومَةِ دُوَلِ الْخَلِيْجِ الْعَرَبِيِّ، بَلْ لِعَامَّةِ أَهْلِ الْسُّنَّةِ شُعُوْبَاً وَحُكُوْمَاتٍ.. وَلَنْ ىُفْشِلَ المُخَطَّطَاتِ الْصَّفَوِيَّةِ وَالْدَّعْمَ الْلَّيبْرَالِيَّ الْأَحْمَقَ لَهَا تَحْتَ شِعَارَاتِ الْحُرِّيَّةِ وَالْحُقُوقِ إِلَّا تَقْوَى الله تَعَالَى وَائْتِلَافُ أَهْلِ الْسُّنَّةِ، وَاجْتِمَاعُ كَلِمَتِهِمْ، وِوَعْيُهُمْ بِالأَخْطَارٍ المُحْدِقَةِ بِهِمْ؛ فَإِنَّ مَنْ تَذَكَّرَ أَفْعَالَ فِرَقِ المَوْتِ وَمُنَظَّمَةِ بَدْرٍ، وَأَعْمَالِ عَمَائِمِ المَجُوْسِ بِالمُسْلِمِيْنَ فِيْ الْأَهْوَازِ وَالْعِرَاقِ فَزِعَ مِنْ تُمَكُّنِهِمْ فِيْ دُوَلٍ أُخْرَى، وَلَوْ ضُحِّيَ بِالْحُرِّيَّةِ وَالْحُقُوْقِ بِسَبَبِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيِّينَ لَا يَهْتِفُونَ بِالْحُرِّيَّةِ، وَلَا يَخْرُجُوْنَ فِيْ مَسِيْرَاتِهَا، وَلَا يُشْعِلُونَ ثَوْرَاتِهَا إِلَّا لِيَنْحَرُوا بِهَا غَيْرَهُمْ إِنْ تَمَكَّنُوا، وَيَتَلَذَّذُوا بِتَعْذِيبِهِمْ، وَهَتْكِ أَعْرَاضِهِمْ، وَتَهْجِيْرِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، كَفَىْ اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِيْنَ شَرَّهُمْ، وَأَبْطَلَ سَعْيَهُمْ، وَرَدَّ مَكْرَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ كَيْدَهُمْ فِيْ نُحُوْرِهِمْ، إِنَّهُ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ.
وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا...
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى