رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الخَلَّالُ النَّبَوِيَّةُ (9)
صَبَرُ الْنَّبِيِّ ^ بَعْدَ الهِجْرَةِ
27/7/1431
الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِيْنَ؛ وَفَّقَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لِلْحَقِّ المُبِينِ، وَأنَالَهُمْ الْإِمَامَةَ بِالْصَّبْرِ وَالْيَقِيْنِ [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُوْنَ بِأَمْرِنَا لمَّا صَبَرُوَا وَكَانُوْا بِآَيَاتِنَا يُوْقِنُوْنَ] {الْسَّجْدَةِ:24} نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ الْعَظِيمَةِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى آَلَائِهِ الْجَسْيمَةِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ؛ ابْتَلَى عِبَادَهُ بِالإِيْمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالْدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ، وَالْجَنَّةِ وَالْنَّارِ، وَفَتَنَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ؛ لِيُظْهِرَ أَهْلَ الْصِّدْقِ وَالْصَّبْرِ [وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُوْنَ] {الْفُرْقَانَ:20} وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ؛ أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَأُوْذِيَ فَصَبَرَ، حَتَّى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ:«لَقَدْ أُوْذِيْتُ فِي الله وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِي الله وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ؛ عُذِّبُوا فِي ذَاتِ الله تَعَالَى، وَأُوْذُوْا فِي دِيْنِهِ فَثَبَتُوا حَتَّى لَقُوْا رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَلَى الْتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَاصْبِرُوَا عَلَى دِيَنِكُمْ، وَصَابِرُوْا الْأَعْدَاءَ الَّذِيْنَ يَسْعَوْنَ لِفِتْنَتِكُمْ؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ جَزَاءُ ذَلِكَ، وَهِيَ سِلْعَةُ الله تَعَالَى الْغَالِيَةُ [يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آَمَنُوْا اصْبِرُوَا وَصَابِرُوْا وَرَابِطُوْا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ] {آَلِ عِمْرَانَ:200} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:«أُمِرُوَا أَنْ يَصْبِرُوْا عَلَى دِيْنِهِمُ الَّذِيْ ارْتَضَاهُ اللهُ لَهُمْ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، فَلَا يَدَعُوْهُ لَسَّرَّاءَ وَلَا لَضَّرَّاءَ، وَلَا لِشِدَّةٍ وِلَا لِرَخَاءٍ حَتَّى يَمُوْتُوْا مُسْلِمِيْنَ، وَأَنْ يُصَابِرُوْا الْأَعْدَاءَ الَّذِيْنَ يَكْتُمُوْنَ دِيْنَهُمْ».
أَيُّهَا الْنَّاسُ: مَنْ طَالَعَ سِيْرَةَ الْنَّبِيِّ ^ وَاسْتَعْرَضَ مَرَاحِلَ حَيَاتِهِ؛ وَجَدَ أَنَّهُ حُمِّلَ أَعْظَمَ دَعْوَةٍ وَأَثْقَلَهَا، فَأَدَّاهَا وَبَلَّغَهَا، وَتَحَمَّلَ شِدَّةَ الحَيَاةِ وشَظَفَهَا، وَصَبَرَ عَلَى كَدَرِهَا وَمُرِّهَا، حَتَّى لَقِيَ اللهَ تَعَالَى؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالْصَّبْرِ الْجَمِيْلِ الَّذِي لَا سَخَطَ فِيْهِ وَلَا شِكَايَةَ [فَاصْبِرْ صَبْرَاً جَمِيْلَاً] {الْمَعَارِجِ:5}.
لَقَدْ أُوْذِيَ ^ فِي الله تَعَالَى أَشَدَّ الْأَذَى مُنْذُ أَنْ أَظْهَرَ دَعْوَتَهُ، حَتَّى أَذِنَ اللهُ تَعَالَى لَهُ بِالهِجْرَةِ إِلَى دَارِ الْأَنْصَارِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَبِالهِجْرَةِ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ الْأَذَى؛ إِذْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ عَدُوَانِ لَدُودَانِ فِي المَدِيْنَةِ: المُنَافِقُوْنَ وَالْيَهُوْدُ، وَمِنْ وَرَائِهِمُ المُشْرِكُوْنَ فِي مَكَّةَ، فَصَارَ يُعَالِجُ بَعْدَ هِجْرَتِهِ ^ أَعْدَاءً ثَلَاثَةً.
إِنَّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآَنَ وَالْسُّنَّةَ، وَطَالَعَ السِّيْرَةَ الْنَّبَوِيَّةَ سَيَظْهَرُ لَهُ كَمْ صَبَرَ الْنَّبِيُّ ^ -بَعْدَ هِجْرَتِهِ- عَلَى أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ الْثَّلاثَةِ، وَعَامَلَ كُلَّ عَدُوٍّ مِنْهُمْ بِمَا تَقْتَضِيْهِ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ، فَكُفَّارُ مَكَّةَ مَا تَرَكُوْهُ بَعْدَ هِجْرَتِهِ بَلْ غَزَوْهُ فِي المَدِيْنَةِ، فِي بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ، وَفِي أُحُدٍ قَتَلُوَا سَبْعِيْنَ مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَشَجُّوا وَجْهَهُ الْشَّرِيْفَ، وَكَسَرُوْا رَبَاعِيَّتَهُ، وَهَشَمُوا الْبَيْضَةَ عَلَى رَأْسِهِ، فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ دَعَا لَهُمْ.
وَأَمَّا الْيَهُوْدُ فَمَعَ تَكْذِيْبِهِمْ لَهُ، وَصَدِّهِمْ عَنْ دِيْنِهِ، وَتَحْرِيْضِ المُشْرِكِيْنَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُمْ نَقَضُوْا عُهُوْدَهُمْ مَعَهُ فِي أَشَدِّ الْسَّاعَاتِ ضِيْقَاً وَحَرَجَاً؛ رَجَاءَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، وَإِبَادَةِ أَتْبَاعِهِ، فَصَبَرَ عَلَيْهِمْ صَبْرَاً لَا يَصْبِرُهُ أَحَدٌ غَيْرَهُ ^، وَلَمْ يَكْفِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى حَاوَلُوا قَتَلَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَسَحَرُوهُ وَسَمُّوهُ، فَقَطَعَ سُمَّهُمْ نِيَاطَ قَلْبِهِ ^، فَهُمْ قَتَلَتُهُ عَلَيْهِ الْصَّلاةُ وَالْسَّلامُ، وَعَلَيْهِمْ لِعَائِنُ الله تَعَالَى المُتَتَابِعَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
لَكِنَّ المُنَافِقِيْنَ هُمْ أَكْثَرُ الْطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ أَذَىً لِلْنَبِيِّ ^، وَصَبَرَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَصْبِرْ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَعَامِلَهُمْ بِظَاهِرِ حَالِهِمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى الله تَعَالَى.
وَإِنَّمَا كَانَ المُنَافِقُوْنَ أَشَدَّ الْطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ أَذَىً لِلْنَبِيِّ ^ لِأَنَّهُمْ يُسَاكِنُوْنَهْ، وَيَنْدَسُّونَ فِي أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، فَيُخَذِّلُونُ وَيُرْجِفُونَ وَيَبُثُّوْنَ الْشَّائِعَاتِ، وَيُخْبِرُوْنَ الْيَهُوْدَ وَالمُشْرِكِيْنَ بِعَوْرَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَمَنْ قَرَأَ آَيَاتِ الْقُرْآَنِ فِي المُْنَافِقِيْنَ تَبَيَّنَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ حَجْمِ الْأَذَى الَّذِي أَصَابَ الْنَّبِيَّ ^ مِنْهُمْ، وَكَيْفَ صَبَرَ عَلَيْهِمْ.
لَقَدْ أَظْهَرُوْا الإِيْمَانَ وَالْطَّاعَةَ لِلْنَّبِيِّ ^، لَكِنَّهُمْ أَبْطَنُوا الْكُفْرَ وَمُحَارَبَتَهُ، وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُوْنُ مِنَ الْعَدَّاءِ؛ لِخَفَاءِ أَمْرِهِمْ عَلَى الْنَّاسِ، وَالْعَدُوُّ الْبَاطِنُ يَفْعَلُ أَضْعَافَ مَا يَفْعَلُ الْعَدُوُّ الْظَّاهِرُ؛ لِصُعُوْبَةِ الْتَّحَرُّزِ مِنْهُ.. وَهَكَذَا كَانَ حَالُ المُنَافِقِيْنَ مَعَ الْنَّبِيِّ ^ [وَيَقُوْلُوْنَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِيْ تَقُوْلُ] {الْنِّسَاءِ:81}.
وَكَانَ إِظْهَارُهُمْ لِلْإِيْمَانِ عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ وَالاسْتِهْزَاءِ وَالْكَيْدِ لِلْمُؤْمِنِيْنَ لَيْسَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ وَلِذَا فَهُمْ يَصِفُوْنَ المُؤْمِنِيْنَ بِالْسَّفَهِ [وَإِذَا قِيَلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ الْنَّاسُ قَالُوْا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ الْسُّفَهَاءُ] {الْبَقَرَةِ:13} وَفِي آَيَةٍ أُخْرَى [وَإِذَا لَقُوْا الَّذِيْنَ آَمَنُوْا قَالُوْا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىَ شَيَاطِيْنِهِمْ قَالُوْا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُوْنَ] {الْبَقَرَةِ:14}.
وَكَانَتْ لَهُمْ مَجَالِسُ يَسْخَرُوْنَ فِيْهَا بِدِيْنِهِ الَّذِي بَلَّغَهُ عَنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ؛ حِقْدَاً فِي قُلُوْبِهِمْ، وَصَدَّاً عَنِ الدَّعْوَةِ، وَلَا يَحْضُرُوْنَ الْغَزْوَ مَعَ الْنَّبِيِّ ^ إِلَّا لِلإِرْجَافِ وَالْتَّخْذِيْلِ وَالسُّخْرِيَةِ، وَإِحْدَاثِ الْفِتْنَةِ، كَمَا فَعَلُوْا فِي غَزْوَةِ العُسْرَةِ فَفَضَحَهُمُ اللهُ تَعَالَى وَبَيَّنَ كُفْرَهُمْ [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُوْلُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوْضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِالله وَآَيَاتِهِ وَرَسُوْلِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُوْنَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيْمَانِكُمْ] {الْتَّوْبَة:65-66}.
وَكَمْ مِنْ فِتْنَةٍ حَاوَلُوا إِشْعَالَهَا بَيْنَ المُؤْمِنِيْنَ [لَوْ خَرَجُوا فِيْكُمْ مَّا زَادُوْكُمْ إِلَّا خَبَالَاً وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُوْنَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيْكُمْ سَمَّاعُوْنَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْظَّالِمِيْنَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَارِهُوْنَ] {الْتَّوْبَة:47-48}.
وَبَلَغَ أَذَاهُمْ لِلْنَّبِيِّ ^ أَنَّهُمْ يُضَارُّونَهُ فِي أَمَاكِنِ الْعِبَادَةِ، وَمَا ابْتَنَوْا مَسْجِدَ الْضِّرَارِ إِلَّا لِذَلِكَ [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدَاً ضِرَارَاً وَكُفْرَاً وَتَفْرِيْقَاً بَيْنَ المُؤْمِنِيْنَ وَإِرْصَادَاً لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُوْلَهُ مِنْ قَبْلُ] {الْتَّوْبَةَ:107}.
وَكَانُوْا يَصْرِفُوْنَ الْنَّاسَ عَنِ الْغَزْوِ مَعَ رَسُوْلِ الله ^ [وَقَالُوْا لَا تَنْفِرُوا فِيْ الْحَرِّ] {الْتَّوْبَة:81} وَيَصُدُونَهُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِيْ سَبِيِلِ الله تَعَالَى تَارَةً بِالسُّخْرِيَةِ وَالْلَّمْزِ [الَّذِيْنَ يَلْمِزُوْنَ المُطَّوِّعِيْنَ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ فِيْ الْصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُوْنَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُوْنَ مِنْهُمْ] {الْتَّوْبَةَ:79} وَتَارَةً أُخْرَى بِاسْتِغْلَالِ ضَوَائِقِ المُؤمِنِينَ وَالتَّوَاصِي عَلَى الْإِمْسَاكِ؛ لِيَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ ^ وَيَتْرُكُوهُ [هُمُ الَّذِيْنَ يَقُوْلُوْنَ لَا تُنْفِقُوْا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُوْلِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا] {الْمُنَافِقُوْنَ:7}.
وَيَخْتَلِقُونَ الْمَعَاذِيْرَ لِتَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْغَزْوِ وَعَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيِلِ الله تَعَالَى [يَعْتَذِرُوْنَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ] {الْتَّوْبَةَ:94} [سَيَقُوْلُ لَكَ المُخَلَّفُوْنَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُوْنَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُوْلُوْنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِيْ قُلُوْبِهِمْ] {الْفَتْحِ:11}
وَيَا لَيْتَ أَنَّهُمْ حَفِظُوْا ذَلِكَ لِلْنَّبِيِّ ^، وَحَمَدُوهُ بِهِ، حِيْنَ لَمْ يُعَاقِبْهُمْ، وَعَامَلَهُمْ بِظَاهِرِ حَالِهِمْ، وَوَكَلَهُمْ إِلَى أَيْمَانِهِمْ، وَصَدَّقَهُمْ فِي أَقْوَالِهِمْ، بَلْ جَعَلُوْهُ مَوْضِعَ سُخْرِيَتِهِمْ وَتَنَدُّرِهِم بِهِ ^ [وَمِنْهُمْ الَّذِيْنَ يُؤْذُوْنَ الْنَّبِيَّ وَيَقُوْلُوْنَ هُوَ أُذُنٌ] {الْتَّوْبَةَ:61} أَيْ: يَسْمَعُ مِنَّا، وَيُصَدِّقُنَا بِمَا نَقُوْلُ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ صَادِقٍ وَكَاذِبٍ، فَصَبَرَ الْنَّبِيُّ ^ عَلَى كُلِّ هَذَا الْأَذَى مِنْهُمْ.
وَكَانُوْا يَشْمِتُونَ بِهِ ^ وَبِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ كَمَا قَالُوْا بَعْدَ أُحُدٍ [لَوْ أَطَاعُوْنَا مَا قُتِلُوا] {آَل عِمْرَانَ:168} وَقَالُوا فِي الْخَنْدَقِ [مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُوْلُهُ إِلَّا غُرُوْرَاً] {الْأَحْزَابُ:12} وَأَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَفْرَحُوْنَ بِمُصَابِ المُؤْمِنِيْنَ [إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيَبَةٌ يَقُوْلُوْا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَّهُمْ فَرِحُوْنَ] {الْتَّوْبَةَ:50} وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنَّهُ ^ صَبَرَ عَلَيْهِمْ؛ رَجَاءَ تَوْبَتِهِمْ؛ وَلِئَلَا تَقَعَ فِتْنَةٌ فِي المُؤْمِنِيْنَ بِسَبَبِهِمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ طَعَنُوْا فِيْ أَمَانَةِ الْنَّبِيِّ ^ وَعَدْلِهِ بِسَبَبِ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا يَطْلُبُوْنَهُ [وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِيْ الْصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوْا وَإِنْ لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُوْنَ] {الْتَّوْبَةَ:58} وَكَانَ ^ يَقْسِمُ غَنَائِمَ بَيْنَ الْنَّاسِ فَقَالَ أَحَدُهُمْ:«اعْدِلْ، فَقَالَ ^: وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ» وَقَالَ آَخَرُ:«اتَّقِ اللهَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ رَسُوْلُ الله ^ فَمَنْ يُطِعِ اللهَ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُوْنِيْ؟» رَوَاهُمَا الْشَّيْخَانِ.
وَتَجَاوَزُوْا ذَلِكَ إِلَى الطَّعْنِ فِي عِرْضِهِ الْشَّرِيفِ ^، فَرَمَوْا زَوْجَهُ بِالْزِّنَا، وَأَشَاعُوا ذَلِكَ فِي الْنَّاسِ، وَاشْتَدَّ الْكَرْبُ بِالْنَّبِيِّ ^ إِلَى أَنْ فَضَحَهُمْ اللهُ تَعَالَى فِي سُوْرَةِ الْنُّوْرِ، وَبَرَّأَ زَوْجَهُ مِنَ الْخَنَا، وَتَحْمَّلَ ^ هَذَا الْأَذَى الْشَّدِيْدَ مِنْهُمْ، وَصَبَرَ عَلَيْهِمْ.
وَمِنْ عَظِيْمِ أَذَاهُمْ لِلْنَّبِيِّ ^ أَنَّهُمْ وَصَفُوْهُ بِالْذِّلَّةِ فَصَبَرَ عَلَيْهِمْ [يَقُوْلُوْنَ لَئِنْ رَّجَعْنَا إِلَىَ الْمَدِيْنَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ] {الْمُنَافِقُوْنَ:8} وَحَالَفُوُا الْكُفَّارَ عَلَى المُؤْمِنِيْنَ طَلَبَاً لِلْعِزَّةِ [الَّذِيْنَ يَتَّخِذُوْنَ الْكَافِرِيْنَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُوْنِ المُؤْمِنِيْنَ أَيَبْتَغُوْنَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيْعَاً] {الْنِّسَاءِ:139}.
وَإِنَّمَا كَفَّ الْنَّبِيُّ ^ عَنِ المُنَافِقِيْنَ، وَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُمْ امْتَثَالَاً لِأَمْرِ الله تَعَالَى [أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِيْ قُلُوْبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِيْ أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيَغا] {الْنِّسَاءِ:63} وَفِيْ آَيَةٍ أُخْرَى [وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِيْنَ وَالمُنَافِقِيْنَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وَكَفَى بِالله وَكِيْلَاً] {الْأَحْزَابُ:48}. نَعُوْذُ بِالله تَعَالَى مِنَ الْنِّفَاقِ وَالمُنَافِقِيْنَ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ الثَّبَاتَ عَلَى الإِيْمَانِ وَالْيَقِيْنِ، إِنَّهُ سَمِيْعٌ مُجِيْبٌ. وَأَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الْثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لله حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ [وَاتَّقُوا الْنَّارَ الَّتِيْ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِيْنَ * وَأَطِيْعُوْا اللهَ وَالْرَّسُوْلَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوْنَ] {آَلِ عِمْرَانَ:131-132}.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: لِلْصَّبْرِ مَقَامٌ عَظِيْمٌ فِيْ الْدِّيْنِ، وَجَزَاءٌ كَبِيْرٌ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ [إِنَّمَا يُوَفَّىَ الصَّابِرُوْنَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {الْزُّمَرْ:10} وَبِهِ تَجَمَّلَ الْرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الْسَّلَامُ [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوْ الْعَزْمِ مِنَ الْرُّسُلِ] {الْأَحْقَافِ:35} وَسَبَبُ ذَلِكَ -وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنَّهُ لَا ثَبَاتَ عَلَى الْدِّيْنِ إِلَّا بِالْصَّبْرِ؛ لِأَنَّ أَذَى الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِيْنَ شَدِيْدٌ لَا يُطِيْقُهُ إِلَّا الصَّابِرُوْنَ؛ وَلِأَنَّ شَهَوَاتِ الْدُّنْيَا وَإغْرَاءَاتِهَا تَدْعُو الْنُّفُوْسَ إِلَيْهَا، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ تَنَازُلَاً عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْدِّيْنِ لِأَجْلِهَا، وَالْنَّفْسُ أَمَّارَةٌ بِالْسُّوْءِ، فَلَا يَقْهَرُ نَفْسَهُ عَنِ الْدُّنْيَا وَزِيْنَتِهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ الله تَعَالَى إِلَّا الصَّابِرُوْنَ..
وَكَمْ مِنْ نُفُوْسٍ ضَعِيْفَةٍ لَمْ تُطِقْ أَذَى الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِيْنَ، وَلَمْ تَصْمُدْ أَمَامَ تَشْكِيكِهِمْ فِي الدِّينِ، فَتَحَوَّلَتْ عَنْ مَنَاهِجِهَا إِلَى مَا يُرْضِيْهِمْ، وَانْتَقَلَتْ مِنْ خِدْمَةِ دِيَنِ الله تَعَالَى إِلَى خِدْمَتِهِمْ، وَتَحْقِيْقِ أَهْدَافِهِمِ؛ اتِّقَاءً لِضَرَرِهِمْ وَأَذَاهُمْ، أَوْ طَلَبَاً لِلَعَاعَةٍ مِنَ الْدُّنْيَا يَبْذُلُونَهَا لَهُمْ.
وَلَمَّا وَقَعَتْ حَادِثَةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ، وَحَدَّثَ الْنَّبِيُّ ^ بِهَا، لَمْ يُصَدِّقْهُ إِلَّا الصَّادِقُوْنَ فِي إِيْمَانِهِمْ، الصِّدِّيْقُوْنَ فِيْ انْتِمَائِهِمْ، الصَّابِرُوْنَ عَلَى دِيْنِهِمْ، المُصَابِرُونَ فِي مُنَابَذَةِ أَعْدَائِهِمْ.
وَأَمَّا الْضُّعَفَاءُ المُذَبْذَبُوْنَ، فَخَارَتْ عَزَائِمُهُمْ، وَنَفَدَ صَبْرُهُمْ، فَارْتَدُّوْا عَلَى أَعْقَابِهِمْ؛ كَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «لَمَّا أُسْرِيَ بِالْنَّبِيِّ ^ إِلَى المَسْجِدِ الْأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ الْنَّاسُ بِذَلِكَ فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ آَمَنُوْا بِهِ وَصَدَّقُوهُ»رَوَاهُ الْحَاكِمُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبِّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:«أُسْرِيَ بِالْنَّبِيِّ ^ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ ثُمَّ جَاءَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَحَدَّثَهُمْ بِمَسِيْرِهِ وَبِعَلَامَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ وَبِعِيرِهِمْ، قَالَ أُنَاسٌ: نَحْنُ لَا نُصَدِّقُ مُحَمَّدَاً، فَارْتَدُّوْا كُفَّارَاً فَضَرَبَ اللهُ أَعْنَاقَهُمْ مَعَ أَبِيْ جَهْلٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
إِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى الْدِّيْنِ لَا يُحَقِّقَهُ إِلَا أَهْلُ الْصَّبْرِ وَالْيَقِيْنِ، وَلَهُمُ الْإِمَامَةُ فِي الْدِّيْنِ، كَمَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْصِّدِّيقِيَنَّ، وَمِنَ الْتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ الْنَّبِيِّ ^ الْتَّأَسِّي بِهِ فِي الْصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِيْنَ، وَالْصَّبْرِ عَنِ الْدُّنْيَا وَمَلَذَّاتِهَا، وَالَّتَمَسُّكُ بِسُنَّتِهِ ^، وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا أَحْدَثَهُ المُبْتَدِعَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِدَعِ وَالْضَّلالَاتِ، وَمِنْهَا مَا يَفْعَلُوْنَهُ هَذِهِ الْأَيَّامَ مِنَ الاحْتِفَالِ بِمَا يَزْعُمُوْنَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، وَمَا أَحْدَثُوهُ فِيْهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا تَزِيْدُهُمْ مِنْ الله تَعَالَى إِلَّا بُعْدَاً، مَعَ أَنَّ وَقْتَ مِعْرَاجِهِ ^ لَا يُعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْتَّحْدِيْدِ وَلَا الْتَّقْرِيْبِ، لَا فِي سَنَتِهِ وَلَا فِي شَهْرِهِ وَلَا فِي لَيْلَتِهِ، وَلَكِنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ أَضَلُّوْا الْعَامَّةَ بِهَذِهِ المُحْدَثَاتِ؛ لِمَا أُشْرِبُوْا فِي قُلُوْبِهِمُ مِنَ الهَوَى وَالْجَهْلِ، وَالْنَّبِيُّ ^ قَدْ أَمَرَنَا بِالْتَّمَسُّكِ بِسُنَّتِهِ، وَحَذَّرَنَا مِنَ الِابْتِدَاعِ فِي الْدِّينِ، وَأَخْبَرَنَا أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَأَنْ كُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ، وَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِطَاعَةِ رَسُوْلِهِ ^ لِنَنَالَ الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فَاتَّبِعُوْنِيْ يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوْبَكُمْ وَاللهُ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ] {آَل عِمْرَانَ:31} [وَمَا آَتَاكُمُ الْرَّسُوْلُ فَخُذُوْهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيْدُ الْعِقَابِ] {الْحَشْرِ:7}.
وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
الخلال النبوية (9)
صبر النبي ^ بعد الهجرة
27/7/1431
الحمد لله رب العالمين؛ وفق من شاء من عباده للحق المبين، وأنالهم الإمامة بالصبر واليقين [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ] {السجدة:24} نحمده على نعمه العظيمة، ونشكره على آلائه الجسيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ابتلى عباده بالإيمان والكفر، والدنيا والآخرة، والجنة والنار، وفتن بعضهم ببعض؛ ليظهر أهل الصدق والصبر [وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا] {الفرقان:20} وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أعطي فشكر، وأوذي فصبر، حتى قال عليه الصلاة والسلام:«لقد أُوذِيتُ في الله وما يوذى أَحَدٌ وَلَقَدْ أُخِفْتُ في الله وما يُخَافُ أَحَدٌ» صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ عذبوا في ذات الله تعالى، وأوذوا في دينه، فثبتوا حتى لقوا ربهم عز وجل، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واصبروا على دينكم، وصابروا الأعداء الذين يسعون لفتنتكم؛ فإن الجنة جزاء ذلك، وهي سلعة الله تعالى الغالية [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {آل عمران:200} قال الحسن البصري رحمه الله تعالى:«أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء، ولا لشدة ولا لرخاء حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم».
أيها الناس: من طالع سيرة النبي ^ واستعرض مراحل حياته؛ وجد أنه حُمِّل أعظم دعوة وأثقلها، فأداها وبلغها، وتحمل شدة الحياة وشظفها، وصبر على كدرها ومُرِّها، حتى لقي الله تعالى؛ وذلك أن الله تعالى أمره بالصبر الجميل الذي لا سخط فيه ولا شكاية [فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا] {المعارج:5}.
لقد أوذي ^ في الله تعالى أشد الأذى منذ أن أظهر دعوته، حتى أذن الله تعالى له بالهجرة إلى دار الأنصار رضي الله عنهم، وبالهجرة لم يسلم من الأذى؛ إذ اجتمع عليه عدوان لدودان في المدينة: المنافقون واليهود، ومن ورائهم المشركون في مكة، فصار يعالج بعد هجرته ^ أعداء ثلاثة.
إن من قرأ القرآن والسنة، وطالع السيرة النبوية سيظهر له كم صبر النبي ^ بعد هجرته على أعداء الإسلام الثلاثة، وعامل كل عدو منهم بما تقتضيه مصلحة الإسلام، فكفار مكة ما تركوه بعد هجرته بل غزوه في المدينة، في بدر وأحد والخندق، وفي أحد قتلوا سبعين من أصحابه رضي الله عنهم، وشجوا وجهه الشريف، وكسروا رباعيته، وهشموا البيضة على رأسه، فصبر على ذلك، ولم يزد على أن دعا لهم.
وأما اليهود فمع تكذيبهم له، وصدهم عن دينه، وتحريض المشركين عليه؛ فإنهم نقضوا عهودهم معه في أشد الساعات ضيقاً وحرجا؛ رجاء القضاء عليه، وإبادة أتباعه، فصبر عليهم صبراً لا يصبره أحد غيره ^، ولم يكفهم ذلك حتى حاولوا قتله غير مرة، وسحروه وسموه، فقطع سمهم نياط قلبه ^، فهم قتلته عليه الصلاة والسلام، وعليهم لعائن الله تعالى المتتابعة إلى يوم القيامة.
لكن المنافقين هم أكثر الطوائف الثلاث أذى للنبي ^، وصبر عليهم ما لم يصبر على غيرهم، وعاملهم بظاهر حالهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى.
وإنما كان المنافقون أشد الطوائف الثلاث أذى للنبي ^ لأنهم يساكنونه، ويندسون في أصحابه رضي الله عنهم، فيخذلون ويرجفون ويبثون الشائعات، ويخبرون اليهود والمشركين بعورات المؤمنين، ومن قرأ آيات القرآن في المنافقين تبين له شيء من حجم الأذى الذي أصاب النبي ^ منهم، وكيف صبر عليهم.
لقد أظهروا الإيمان والطاعة للنبي ^، لكنهم أبطنوا الكفر ومحاربته، وهذا أشد ما يكون من العداء؛ لخفاء أمرهم على الناس، والعدو الباطن يفعل أضعاف ما يفعل العدو الظاهر؛ لصعوبة التحرز منه.. وهكذا كان حال المنافقين مع النبي ^ [وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ] {النساء:81}.
وكان إظهارهم للإيمان على وجه السخرية والاستهزاء والكيد للمؤمنين ليس غير ذلك؛ ولذا فهم يصفون المؤمنين بالسفه [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ] {البقرة:13} وفي آية أخرى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] {البقرة:14}.
وكانت لهم مجالس يسخرون فيها بدينه الذي بلغه عن ربه سبحانه؛ حقداً في قلوبهم، وصداً عن الدعوة، ولا يحضرون الغزو مع النبي ^ إلا للإرجاف والتخذيل والسخرية، وإحداث الفتنة، كما فعلوا في غزوة تبوك ففضحهم الله تعالى وبين كفرهم [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِالله وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ] {التوبة:65-66}.
وكم من فتنة حاولوا إشعالها بين المؤمنين [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَارِهُونَ] {التوبة:47-48}.
وبلغ أذاهم للنبي ^ أنهم يضارونه في أماكن العبادة، وما ابتنوا مسجد الضرار إلا لذلك [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ] {التوبة:107}
وكانوا يصرفون الناس عن الغزو مع رسول الله ^ [وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الحَرِّ] {التوبة:81} ويصدونهم عن الإنفاق في سبيل الله تعالى تارة بالسخرية واللمز [الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ] {التوبة:79} وتارة أخرى باستغلال ضوائق المؤمنين والتواصي على الإمساك؛ ليتفرق الناس عن النبي ^ ويتركوه [هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا] {المنافقون:7}.
ويختلقون المعاذير لتخلفهم عن الغزو وعن الإنفاق في سبيل الله تعالى [يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ] {التوبة:94} [سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ] {الفتح:11}
ويا ليت أنهم حفظوا ذلك للنبي ^، وحمدوه به، حين لم يعاقبهم، وعاملهم بظاهر حالهم، ووكلهم إلى أيمانهم، وصدقهم في أقوالهم، بل جعلوه موضع سخريتهم وتندرهم به ^ [وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ] {التوبة:61} أي: يسمع منا، ويصدقنا بما نقول، ولا يفرق بين صادق وكاذب، فصبر النبي ^ على كل هذا الأذى منهم.
وكانوا يشمتون به ^ وبأصحابه رضي الله عنهم إذا أصابتهم مصيبة كما قالوا بعد أحد [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] {آل عمران:168} وقالوا في الخندق [مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا] {الأحزاب:12} وأخبر الله تعالى أنهم يفرحون بمصاب المؤمنين [إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ] {التوبة:50} ومع ذلك كله فإنه ^ صبر عليهم؛ رجاء توبتهم؛ ولئلا تقع فتنة في المؤمنين بسببهم.
ومنهم من طعنوا في أمانة النبي ^ وعدله بسبب عرض من الدنيا يطلبونه [وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ] {التوبة:58} وكان ^ يقسم غنائم بين الناس فقال أحدهم:«اعْدِلْ، فقال ^: وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إذا لم أَعْدِلْ؟ قد خِبْتَ وَخَسِرْتَ إن لم أَكُنْ أَعْدِلُ» وقال آخر:«اتَّقِ الله يا محمد، فقال رسول الله ^ فَمَنْ يُطِع الله إن عَصَيْتُهُ؟ أَيَأْمَنُنِي على أَهْلِ الأرض ولا تَأْمَنُونِي؟» رواهما الشيخان.
وتجاوزوا ذلك إلى الطعن في عرضه الشريف ^، فرموا زوجه بالزنا، وأشاعوا ذلك في الناس، واشتد الكرب بالنبي ^ إلى أن فضحهم الله تعالى في سورة النور، وبرأ زوجه من الخنا، وتحمل ^ هذا الأذى الشديد منهم، وصبر عليهم.
ومن عظيم أذاهم للنبي ^ أنهم وصفوه بالذلة فصبر عليهم [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] {المنافقون:8} وحالفوا الكفار على المؤمنين طلبا للعزة [الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لله جَمِيعًا] {النساء:139}.
وإنما كف النبي ^ عن المنافقين، وصبر على أذاهم امتثالاً لأمر الله تعالى [أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا] {النساء:63} وفي آية أخرى [وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وَكَفَى بِالله وَكِيلًا] {الأحزاب:48}. نعوذ بالله تعالى من النفاق والمنافقين، ونسأله سبحانه الثبات على الإيمان واليقين، إنه سميع مجيب. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه [وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] {آل عمران:131-132}.
أيها الناس: للصبر مقام عظيم في الدين، وجزاء كبير عند رب العالمين [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {الزُّمر:10} وبه تجمل الرسل عليهم السلام [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ] {الأحقاف:35} وسبب ذلك -والله أعلم- أنه لا ثبات على الدين إلا بالصبر؛ لأن أذى الكفار والمنافقين شديد لا يطيقه إلا الصابرون؛ ولأن شهوات الدنيا وإغراءاتها تدعو النفوس إليها، ويقتضي ذلك تنازلاً عن شيء من الدين لأجلها، والنفس أمارة بالسوء، فلا يقهر نفسه عن الدنيا وزينتها ابتغاء رضوان الله تعالى إلا الصابرون..
وكم من نفوس ضعيفة لم تطق أذى الكفار والمنافقين، ولم تصمد أمام تشكيكهم في الدين، فتحولت عن مناهجها إلى ما يرضيهم، وانتقلت من خدمة دين الله تعالى إلى خدمتهم، وتحقيق أهدافهم؛ اتقاء لضررهم وأذاهم، أو طلباً للعاعة من الدنيا يبذلونها لهم.
ولما وقعت حادثة الإسراء والمعراج، وحدث النبي ^ بها، لم يصدقه إلا الصادقون في إيمانهم، الصديقون في انتمائهم، الصابرون على دينهم، المصابرون في منابذة أعدائهم.
وأما الضعفاء المذبذبون، فخارت عزائمهم، ونفد صبرهم، فارتدوا على أعقابهم؛ كما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «لما أسري بالنبي ^ إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن آمنوا به وصدقوه»رواه الحاكم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما:«أسري بالنبي ^ إلى بيت المقدس ثم جاء من ليلته فحدثهم بمسيره وبعلامة بيت المقدس وبعيرهم، قال أناس: نحن لا نصدق محمداً، فارتدوا كفاراً فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل» رواه أحمد.
إن الثبات على الدين لا يحققه إلا أهل الصبر واليقين، ولهم الإمامة في الدين، كما تحقق ذلك للأنبياء والصديقين، ومن التخلق بأخلاق النبي ^ التأسي به في الصبر على أذى الكفار والمنافقين، والصبر عن الدنيا وملذاتها، والتمسك بسنته ^، والإعراض عما أحدثه المبتدعة من أنواع البدع والضلالات، ومنها ما يفعلونه هذه الأيام، من الاحتفال بما يزعمونه ليلة الإسراء والمعراج، وما يفعلونه فيها من أنواع العبادات التي لا تزيدهم من الله تعالى إلا بعداً، مع أن وقت معراجه ^ لا يعلم على وجه التحديد ولا التقريب، لا في سنته ولا في شهره ولا في ليلته، ولكن أهل الأهواء أضلوا العامة بهذه المحدثات؛ لما أشربوا في قلوبهم من الهوى والجهل، والنبي ^ قد أمرنا بالتمسك بسنته، وحذرنا من الابتداع في الدين، وأخبرنا أن كل بدعة ضلالة، وأن كل ضلالة في النار، وقد أمرنا الله تعالى بطاعة رسوله ^ لننال الفوز والفلاح [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {آل عمران:31} [وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] {الحشر:7}.
وصلوا وسلموا على نبيكم...
صَبَرُ الْنَّبِيِّ ^ بَعْدَ الهِجْرَةِ
27/7/1431
الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِيْنَ؛ وَفَّقَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لِلْحَقِّ المُبِينِ، وَأنَالَهُمْ الْإِمَامَةَ بِالْصَّبْرِ وَالْيَقِيْنِ [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُوْنَ بِأَمْرِنَا لمَّا صَبَرُوَا وَكَانُوْا بِآَيَاتِنَا يُوْقِنُوْنَ] {الْسَّجْدَةِ:24} نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ الْعَظِيمَةِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى آَلَائِهِ الْجَسْيمَةِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ؛ ابْتَلَى عِبَادَهُ بِالإِيْمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالْدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ، وَالْجَنَّةِ وَالْنَّارِ، وَفَتَنَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ؛ لِيُظْهِرَ أَهْلَ الْصِّدْقِ وَالْصَّبْرِ [وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُوْنَ] {الْفُرْقَانَ:20} وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ؛ أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَأُوْذِيَ فَصَبَرَ، حَتَّى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ:«لَقَدْ أُوْذِيْتُ فِي الله وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِي الله وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ؛ عُذِّبُوا فِي ذَاتِ الله تَعَالَى، وَأُوْذُوْا فِي دِيْنِهِ فَثَبَتُوا حَتَّى لَقُوْا رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَلَى الْتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَاصْبِرُوَا عَلَى دِيَنِكُمْ، وَصَابِرُوْا الْأَعْدَاءَ الَّذِيْنَ يَسْعَوْنَ لِفِتْنَتِكُمْ؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ جَزَاءُ ذَلِكَ، وَهِيَ سِلْعَةُ الله تَعَالَى الْغَالِيَةُ [يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آَمَنُوْا اصْبِرُوَا وَصَابِرُوْا وَرَابِطُوْا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ] {آَلِ عِمْرَانَ:200} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:«أُمِرُوَا أَنْ يَصْبِرُوْا عَلَى دِيْنِهِمُ الَّذِيْ ارْتَضَاهُ اللهُ لَهُمْ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، فَلَا يَدَعُوْهُ لَسَّرَّاءَ وَلَا لَضَّرَّاءَ، وَلَا لِشِدَّةٍ وِلَا لِرَخَاءٍ حَتَّى يَمُوْتُوْا مُسْلِمِيْنَ، وَأَنْ يُصَابِرُوْا الْأَعْدَاءَ الَّذِيْنَ يَكْتُمُوْنَ دِيْنَهُمْ».
أَيُّهَا الْنَّاسُ: مَنْ طَالَعَ سِيْرَةَ الْنَّبِيِّ ^ وَاسْتَعْرَضَ مَرَاحِلَ حَيَاتِهِ؛ وَجَدَ أَنَّهُ حُمِّلَ أَعْظَمَ دَعْوَةٍ وَأَثْقَلَهَا، فَأَدَّاهَا وَبَلَّغَهَا، وَتَحَمَّلَ شِدَّةَ الحَيَاةِ وشَظَفَهَا، وَصَبَرَ عَلَى كَدَرِهَا وَمُرِّهَا، حَتَّى لَقِيَ اللهَ تَعَالَى؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالْصَّبْرِ الْجَمِيْلِ الَّذِي لَا سَخَطَ فِيْهِ وَلَا شِكَايَةَ [فَاصْبِرْ صَبْرَاً جَمِيْلَاً] {الْمَعَارِجِ:5}.
لَقَدْ أُوْذِيَ ^ فِي الله تَعَالَى أَشَدَّ الْأَذَى مُنْذُ أَنْ أَظْهَرَ دَعْوَتَهُ، حَتَّى أَذِنَ اللهُ تَعَالَى لَهُ بِالهِجْرَةِ إِلَى دَارِ الْأَنْصَارِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَبِالهِجْرَةِ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ الْأَذَى؛ إِذْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ عَدُوَانِ لَدُودَانِ فِي المَدِيْنَةِ: المُنَافِقُوْنَ وَالْيَهُوْدُ، وَمِنْ وَرَائِهِمُ المُشْرِكُوْنَ فِي مَكَّةَ، فَصَارَ يُعَالِجُ بَعْدَ هِجْرَتِهِ ^ أَعْدَاءً ثَلَاثَةً.
إِنَّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآَنَ وَالْسُّنَّةَ، وَطَالَعَ السِّيْرَةَ الْنَّبَوِيَّةَ سَيَظْهَرُ لَهُ كَمْ صَبَرَ الْنَّبِيُّ ^ -بَعْدَ هِجْرَتِهِ- عَلَى أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ الْثَّلاثَةِ، وَعَامَلَ كُلَّ عَدُوٍّ مِنْهُمْ بِمَا تَقْتَضِيْهِ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ، فَكُفَّارُ مَكَّةَ مَا تَرَكُوْهُ بَعْدَ هِجْرَتِهِ بَلْ غَزَوْهُ فِي المَدِيْنَةِ، فِي بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ، وَفِي أُحُدٍ قَتَلُوَا سَبْعِيْنَ مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَشَجُّوا وَجْهَهُ الْشَّرِيْفَ، وَكَسَرُوْا رَبَاعِيَّتَهُ، وَهَشَمُوا الْبَيْضَةَ عَلَى رَأْسِهِ، فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ دَعَا لَهُمْ.
وَأَمَّا الْيَهُوْدُ فَمَعَ تَكْذِيْبِهِمْ لَهُ، وَصَدِّهِمْ عَنْ دِيْنِهِ، وَتَحْرِيْضِ المُشْرِكِيْنَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُمْ نَقَضُوْا عُهُوْدَهُمْ مَعَهُ فِي أَشَدِّ الْسَّاعَاتِ ضِيْقَاً وَحَرَجَاً؛ رَجَاءَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، وَإِبَادَةِ أَتْبَاعِهِ، فَصَبَرَ عَلَيْهِمْ صَبْرَاً لَا يَصْبِرُهُ أَحَدٌ غَيْرَهُ ^، وَلَمْ يَكْفِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى حَاوَلُوا قَتَلَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَسَحَرُوهُ وَسَمُّوهُ، فَقَطَعَ سُمَّهُمْ نِيَاطَ قَلْبِهِ ^، فَهُمْ قَتَلَتُهُ عَلَيْهِ الْصَّلاةُ وَالْسَّلامُ، وَعَلَيْهِمْ لِعَائِنُ الله تَعَالَى المُتَتَابِعَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
لَكِنَّ المُنَافِقِيْنَ هُمْ أَكْثَرُ الْطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ أَذَىً لِلْنَبِيِّ ^، وَصَبَرَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَصْبِرْ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَعَامِلَهُمْ بِظَاهِرِ حَالِهِمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى الله تَعَالَى.
وَإِنَّمَا كَانَ المُنَافِقُوْنَ أَشَدَّ الْطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ أَذَىً لِلْنَبِيِّ ^ لِأَنَّهُمْ يُسَاكِنُوْنَهْ، وَيَنْدَسُّونَ فِي أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، فَيُخَذِّلُونُ وَيُرْجِفُونَ وَيَبُثُّوْنَ الْشَّائِعَاتِ، وَيُخْبِرُوْنَ الْيَهُوْدَ وَالمُشْرِكِيْنَ بِعَوْرَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَمَنْ قَرَأَ آَيَاتِ الْقُرْآَنِ فِي المُْنَافِقِيْنَ تَبَيَّنَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ حَجْمِ الْأَذَى الَّذِي أَصَابَ الْنَّبِيَّ ^ مِنْهُمْ، وَكَيْفَ صَبَرَ عَلَيْهِمْ.
لَقَدْ أَظْهَرُوْا الإِيْمَانَ وَالْطَّاعَةَ لِلْنَّبِيِّ ^، لَكِنَّهُمْ أَبْطَنُوا الْكُفْرَ وَمُحَارَبَتَهُ، وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُوْنُ مِنَ الْعَدَّاءِ؛ لِخَفَاءِ أَمْرِهِمْ عَلَى الْنَّاسِ، وَالْعَدُوُّ الْبَاطِنُ يَفْعَلُ أَضْعَافَ مَا يَفْعَلُ الْعَدُوُّ الْظَّاهِرُ؛ لِصُعُوْبَةِ الْتَّحَرُّزِ مِنْهُ.. وَهَكَذَا كَانَ حَالُ المُنَافِقِيْنَ مَعَ الْنَّبِيِّ ^ [وَيَقُوْلُوْنَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِيْ تَقُوْلُ] {الْنِّسَاءِ:81}.
وَكَانَ إِظْهَارُهُمْ لِلْإِيْمَانِ عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ وَالاسْتِهْزَاءِ وَالْكَيْدِ لِلْمُؤْمِنِيْنَ لَيْسَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ وَلِذَا فَهُمْ يَصِفُوْنَ المُؤْمِنِيْنَ بِالْسَّفَهِ [وَإِذَا قِيَلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ الْنَّاسُ قَالُوْا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ الْسُّفَهَاءُ] {الْبَقَرَةِ:13} وَفِي آَيَةٍ أُخْرَى [وَإِذَا لَقُوْا الَّذِيْنَ آَمَنُوْا قَالُوْا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىَ شَيَاطِيْنِهِمْ قَالُوْا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُوْنَ] {الْبَقَرَةِ:14}.
وَكَانَتْ لَهُمْ مَجَالِسُ يَسْخَرُوْنَ فِيْهَا بِدِيْنِهِ الَّذِي بَلَّغَهُ عَنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ؛ حِقْدَاً فِي قُلُوْبِهِمْ، وَصَدَّاً عَنِ الدَّعْوَةِ، وَلَا يَحْضُرُوْنَ الْغَزْوَ مَعَ الْنَّبِيِّ ^ إِلَّا لِلإِرْجَافِ وَالْتَّخْذِيْلِ وَالسُّخْرِيَةِ، وَإِحْدَاثِ الْفِتْنَةِ، كَمَا فَعَلُوْا فِي غَزْوَةِ العُسْرَةِ فَفَضَحَهُمُ اللهُ تَعَالَى وَبَيَّنَ كُفْرَهُمْ [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُوْلُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوْضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِالله وَآَيَاتِهِ وَرَسُوْلِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُوْنَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيْمَانِكُمْ] {الْتَّوْبَة:65-66}.
وَكَمْ مِنْ فِتْنَةٍ حَاوَلُوا إِشْعَالَهَا بَيْنَ المُؤْمِنِيْنَ [لَوْ خَرَجُوا فِيْكُمْ مَّا زَادُوْكُمْ إِلَّا خَبَالَاً وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُوْنَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيْكُمْ سَمَّاعُوْنَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْظَّالِمِيْنَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَارِهُوْنَ] {الْتَّوْبَة:47-48}.
وَبَلَغَ أَذَاهُمْ لِلْنَّبِيِّ ^ أَنَّهُمْ يُضَارُّونَهُ فِي أَمَاكِنِ الْعِبَادَةِ، وَمَا ابْتَنَوْا مَسْجِدَ الْضِّرَارِ إِلَّا لِذَلِكَ [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدَاً ضِرَارَاً وَكُفْرَاً وَتَفْرِيْقَاً بَيْنَ المُؤْمِنِيْنَ وَإِرْصَادَاً لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُوْلَهُ مِنْ قَبْلُ] {الْتَّوْبَةَ:107}.
وَكَانُوْا يَصْرِفُوْنَ الْنَّاسَ عَنِ الْغَزْوِ مَعَ رَسُوْلِ الله ^ [وَقَالُوْا لَا تَنْفِرُوا فِيْ الْحَرِّ] {الْتَّوْبَة:81} وَيَصُدُونَهُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِيْ سَبِيِلِ الله تَعَالَى تَارَةً بِالسُّخْرِيَةِ وَالْلَّمْزِ [الَّذِيْنَ يَلْمِزُوْنَ المُطَّوِّعِيْنَ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ فِيْ الْصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُوْنَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُوْنَ مِنْهُمْ] {الْتَّوْبَةَ:79} وَتَارَةً أُخْرَى بِاسْتِغْلَالِ ضَوَائِقِ المُؤمِنِينَ وَالتَّوَاصِي عَلَى الْإِمْسَاكِ؛ لِيَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ ^ وَيَتْرُكُوهُ [هُمُ الَّذِيْنَ يَقُوْلُوْنَ لَا تُنْفِقُوْا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُوْلِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا] {الْمُنَافِقُوْنَ:7}.
وَيَخْتَلِقُونَ الْمَعَاذِيْرَ لِتَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْغَزْوِ وَعَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيِلِ الله تَعَالَى [يَعْتَذِرُوْنَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ] {الْتَّوْبَةَ:94} [سَيَقُوْلُ لَكَ المُخَلَّفُوْنَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُوْنَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُوْلُوْنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِيْ قُلُوْبِهِمْ] {الْفَتْحِ:11}
وَيَا لَيْتَ أَنَّهُمْ حَفِظُوْا ذَلِكَ لِلْنَّبِيِّ ^، وَحَمَدُوهُ بِهِ، حِيْنَ لَمْ يُعَاقِبْهُمْ، وَعَامَلَهُمْ بِظَاهِرِ حَالِهِمْ، وَوَكَلَهُمْ إِلَى أَيْمَانِهِمْ، وَصَدَّقَهُمْ فِي أَقْوَالِهِمْ، بَلْ جَعَلُوْهُ مَوْضِعَ سُخْرِيَتِهِمْ وَتَنَدُّرِهِم بِهِ ^ [وَمِنْهُمْ الَّذِيْنَ يُؤْذُوْنَ الْنَّبِيَّ وَيَقُوْلُوْنَ هُوَ أُذُنٌ] {الْتَّوْبَةَ:61} أَيْ: يَسْمَعُ مِنَّا، وَيُصَدِّقُنَا بِمَا نَقُوْلُ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ صَادِقٍ وَكَاذِبٍ، فَصَبَرَ الْنَّبِيُّ ^ عَلَى كُلِّ هَذَا الْأَذَى مِنْهُمْ.
وَكَانُوْا يَشْمِتُونَ بِهِ ^ وَبِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ كَمَا قَالُوْا بَعْدَ أُحُدٍ [لَوْ أَطَاعُوْنَا مَا قُتِلُوا] {آَل عِمْرَانَ:168} وَقَالُوا فِي الْخَنْدَقِ [مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُوْلُهُ إِلَّا غُرُوْرَاً] {الْأَحْزَابُ:12} وَأَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَفْرَحُوْنَ بِمُصَابِ المُؤْمِنِيْنَ [إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيَبَةٌ يَقُوْلُوْا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَّهُمْ فَرِحُوْنَ] {الْتَّوْبَةَ:50} وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنَّهُ ^ صَبَرَ عَلَيْهِمْ؛ رَجَاءَ تَوْبَتِهِمْ؛ وَلِئَلَا تَقَعَ فِتْنَةٌ فِي المُؤْمِنِيْنَ بِسَبَبِهِمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ طَعَنُوْا فِيْ أَمَانَةِ الْنَّبِيِّ ^ وَعَدْلِهِ بِسَبَبِ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا يَطْلُبُوْنَهُ [وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِيْ الْصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوْا وَإِنْ لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُوْنَ] {الْتَّوْبَةَ:58} وَكَانَ ^ يَقْسِمُ غَنَائِمَ بَيْنَ الْنَّاسِ فَقَالَ أَحَدُهُمْ:«اعْدِلْ، فَقَالَ ^: وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ» وَقَالَ آَخَرُ:«اتَّقِ اللهَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ رَسُوْلُ الله ^ فَمَنْ يُطِعِ اللهَ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُوْنِيْ؟» رَوَاهُمَا الْشَّيْخَانِ.
وَتَجَاوَزُوْا ذَلِكَ إِلَى الطَّعْنِ فِي عِرْضِهِ الْشَّرِيفِ ^، فَرَمَوْا زَوْجَهُ بِالْزِّنَا، وَأَشَاعُوا ذَلِكَ فِي الْنَّاسِ، وَاشْتَدَّ الْكَرْبُ بِالْنَّبِيِّ ^ إِلَى أَنْ فَضَحَهُمْ اللهُ تَعَالَى فِي سُوْرَةِ الْنُّوْرِ، وَبَرَّأَ زَوْجَهُ مِنَ الْخَنَا، وَتَحْمَّلَ ^ هَذَا الْأَذَى الْشَّدِيْدَ مِنْهُمْ، وَصَبَرَ عَلَيْهِمْ.
وَمِنْ عَظِيْمِ أَذَاهُمْ لِلْنَّبِيِّ ^ أَنَّهُمْ وَصَفُوْهُ بِالْذِّلَّةِ فَصَبَرَ عَلَيْهِمْ [يَقُوْلُوْنَ لَئِنْ رَّجَعْنَا إِلَىَ الْمَدِيْنَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ] {الْمُنَافِقُوْنَ:8} وَحَالَفُوُا الْكُفَّارَ عَلَى المُؤْمِنِيْنَ طَلَبَاً لِلْعِزَّةِ [الَّذِيْنَ يَتَّخِذُوْنَ الْكَافِرِيْنَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُوْنِ المُؤْمِنِيْنَ أَيَبْتَغُوْنَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيْعَاً] {الْنِّسَاءِ:139}.
وَإِنَّمَا كَفَّ الْنَّبِيُّ ^ عَنِ المُنَافِقِيْنَ، وَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُمْ امْتَثَالَاً لِأَمْرِ الله تَعَالَى [أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِيْ قُلُوْبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِيْ أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيَغا] {الْنِّسَاءِ:63} وَفِيْ آَيَةٍ أُخْرَى [وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِيْنَ وَالمُنَافِقِيْنَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وَكَفَى بِالله وَكِيْلَاً] {الْأَحْزَابُ:48}. نَعُوْذُ بِالله تَعَالَى مِنَ الْنِّفَاقِ وَالمُنَافِقِيْنَ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ الثَّبَاتَ عَلَى الإِيْمَانِ وَالْيَقِيْنِ، إِنَّهُ سَمِيْعٌ مُجِيْبٌ. وَأَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الْثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لله حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ [وَاتَّقُوا الْنَّارَ الَّتِيْ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِيْنَ * وَأَطِيْعُوْا اللهَ وَالْرَّسُوْلَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوْنَ] {آَلِ عِمْرَانَ:131-132}.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: لِلْصَّبْرِ مَقَامٌ عَظِيْمٌ فِيْ الْدِّيْنِ، وَجَزَاءٌ كَبِيْرٌ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ [إِنَّمَا يُوَفَّىَ الصَّابِرُوْنَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {الْزُّمَرْ:10} وَبِهِ تَجَمَّلَ الْرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الْسَّلَامُ [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوْ الْعَزْمِ مِنَ الْرُّسُلِ] {الْأَحْقَافِ:35} وَسَبَبُ ذَلِكَ -وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنَّهُ لَا ثَبَاتَ عَلَى الْدِّيْنِ إِلَّا بِالْصَّبْرِ؛ لِأَنَّ أَذَى الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِيْنَ شَدِيْدٌ لَا يُطِيْقُهُ إِلَّا الصَّابِرُوْنَ؛ وَلِأَنَّ شَهَوَاتِ الْدُّنْيَا وَإغْرَاءَاتِهَا تَدْعُو الْنُّفُوْسَ إِلَيْهَا، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ تَنَازُلَاً عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْدِّيْنِ لِأَجْلِهَا، وَالْنَّفْسُ أَمَّارَةٌ بِالْسُّوْءِ، فَلَا يَقْهَرُ نَفْسَهُ عَنِ الْدُّنْيَا وَزِيْنَتِهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ الله تَعَالَى إِلَّا الصَّابِرُوْنَ..
وَكَمْ مِنْ نُفُوْسٍ ضَعِيْفَةٍ لَمْ تُطِقْ أَذَى الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِيْنَ، وَلَمْ تَصْمُدْ أَمَامَ تَشْكِيكِهِمْ فِي الدِّينِ، فَتَحَوَّلَتْ عَنْ مَنَاهِجِهَا إِلَى مَا يُرْضِيْهِمْ، وَانْتَقَلَتْ مِنْ خِدْمَةِ دِيَنِ الله تَعَالَى إِلَى خِدْمَتِهِمْ، وَتَحْقِيْقِ أَهْدَافِهِمِ؛ اتِّقَاءً لِضَرَرِهِمْ وَأَذَاهُمْ، أَوْ طَلَبَاً لِلَعَاعَةٍ مِنَ الْدُّنْيَا يَبْذُلُونَهَا لَهُمْ.
وَلَمَّا وَقَعَتْ حَادِثَةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ، وَحَدَّثَ الْنَّبِيُّ ^ بِهَا، لَمْ يُصَدِّقْهُ إِلَّا الصَّادِقُوْنَ فِي إِيْمَانِهِمْ، الصِّدِّيْقُوْنَ فِيْ انْتِمَائِهِمْ، الصَّابِرُوْنَ عَلَى دِيْنِهِمْ، المُصَابِرُونَ فِي مُنَابَذَةِ أَعْدَائِهِمْ.
وَأَمَّا الْضُّعَفَاءُ المُذَبْذَبُوْنَ، فَخَارَتْ عَزَائِمُهُمْ، وَنَفَدَ صَبْرُهُمْ، فَارْتَدُّوْا عَلَى أَعْقَابِهِمْ؛ كَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «لَمَّا أُسْرِيَ بِالْنَّبِيِّ ^ إِلَى المَسْجِدِ الْأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ الْنَّاسُ بِذَلِكَ فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ آَمَنُوْا بِهِ وَصَدَّقُوهُ»رَوَاهُ الْحَاكِمُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبِّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:«أُسْرِيَ بِالْنَّبِيِّ ^ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ ثُمَّ جَاءَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَحَدَّثَهُمْ بِمَسِيْرِهِ وَبِعَلَامَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ وَبِعِيرِهِمْ، قَالَ أُنَاسٌ: نَحْنُ لَا نُصَدِّقُ مُحَمَّدَاً، فَارْتَدُّوْا كُفَّارَاً فَضَرَبَ اللهُ أَعْنَاقَهُمْ مَعَ أَبِيْ جَهْلٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
إِنَّ الثَّبَاتَ عَلَى الْدِّيْنِ لَا يُحَقِّقَهُ إِلَا أَهْلُ الْصَّبْرِ وَالْيَقِيْنِ، وَلَهُمُ الْإِمَامَةُ فِي الْدِّيْنِ، كَمَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْصِّدِّيقِيَنَّ، وَمِنَ الْتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ الْنَّبِيِّ ^ الْتَّأَسِّي بِهِ فِي الْصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِيْنَ، وَالْصَّبْرِ عَنِ الْدُّنْيَا وَمَلَذَّاتِهَا، وَالَّتَمَسُّكُ بِسُنَّتِهِ ^، وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا أَحْدَثَهُ المُبْتَدِعَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِدَعِ وَالْضَّلالَاتِ، وَمِنْهَا مَا يَفْعَلُوْنَهُ هَذِهِ الْأَيَّامَ مِنَ الاحْتِفَالِ بِمَا يَزْعُمُوْنَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، وَمَا أَحْدَثُوهُ فِيْهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا تَزِيْدُهُمْ مِنْ الله تَعَالَى إِلَّا بُعْدَاً، مَعَ أَنَّ وَقْتَ مِعْرَاجِهِ ^ لَا يُعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْتَّحْدِيْدِ وَلَا الْتَّقْرِيْبِ، لَا فِي سَنَتِهِ وَلَا فِي شَهْرِهِ وَلَا فِي لَيْلَتِهِ، وَلَكِنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ أَضَلُّوْا الْعَامَّةَ بِهَذِهِ المُحْدَثَاتِ؛ لِمَا أُشْرِبُوْا فِي قُلُوْبِهِمُ مِنَ الهَوَى وَالْجَهْلِ، وَالْنَّبِيُّ ^ قَدْ أَمَرَنَا بِالْتَّمَسُّكِ بِسُنَّتِهِ، وَحَذَّرَنَا مِنَ الِابْتِدَاعِ فِي الْدِّينِ، وَأَخْبَرَنَا أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَأَنْ كُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ، وَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِطَاعَةِ رَسُوْلِهِ ^ لِنَنَالَ الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فَاتَّبِعُوْنِيْ يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوْبَكُمْ وَاللهُ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ] {آَل عِمْرَانَ:31} [وَمَا آَتَاكُمُ الْرَّسُوْلُ فَخُذُوْهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيْدُ الْعِقَابِ] {الْحَشْرِ:7}.
وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
الخلال النبوية (9)
صبر النبي ^ بعد الهجرة
27/7/1431
الحمد لله رب العالمين؛ وفق من شاء من عباده للحق المبين، وأنالهم الإمامة بالصبر واليقين [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ] {السجدة:24} نحمده على نعمه العظيمة، ونشكره على آلائه الجسيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ابتلى عباده بالإيمان والكفر، والدنيا والآخرة، والجنة والنار، وفتن بعضهم ببعض؛ ليظهر أهل الصدق والصبر [وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا] {الفرقان:20} وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أعطي فشكر، وأوذي فصبر، حتى قال عليه الصلاة والسلام:«لقد أُوذِيتُ في الله وما يوذى أَحَدٌ وَلَقَدْ أُخِفْتُ في الله وما يُخَافُ أَحَدٌ» صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ عذبوا في ذات الله تعالى، وأوذوا في دينه، فثبتوا حتى لقوا ربهم عز وجل، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واصبروا على دينكم، وصابروا الأعداء الذين يسعون لفتنتكم؛ فإن الجنة جزاء ذلك، وهي سلعة الله تعالى الغالية [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {آل عمران:200} قال الحسن البصري رحمه الله تعالى:«أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء، ولا لشدة ولا لرخاء حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم».
أيها الناس: من طالع سيرة النبي ^ واستعرض مراحل حياته؛ وجد أنه حُمِّل أعظم دعوة وأثقلها، فأداها وبلغها، وتحمل شدة الحياة وشظفها، وصبر على كدرها ومُرِّها، حتى لقي الله تعالى؛ وذلك أن الله تعالى أمره بالصبر الجميل الذي لا سخط فيه ولا شكاية [فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا] {المعارج:5}.
لقد أوذي ^ في الله تعالى أشد الأذى منذ أن أظهر دعوته، حتى أذن الله تعالى له بالهجرة إلى دار الأنصار رضي الله عنهم، وبالهجرة لم يسلم من الأذى؛ إذ اجتمع عليه عدوان لدودان في المدينة: المنافقون واليهود، ومن ورائهم المشركون في مكة، فصار يعالج بعد هجرته ^ أعداء ثلاثة.
إن من قرأ القرآن والسنة، وطالع السيرة النبوية سيظهر له كم صبر النبي ^ بعد هجرته على أعداء الإسلام الثلاثة، وعامل كل عدو منهم بما تقتضيه مصلحة الإسلام، فكفار مكة ما تركوه بعد هجرته بل غزوه في المدينة، في بدر وأحد والخندق، وفي أحد قتلوا سبعين من أصحابه رضي الله عنهم، وشجوا وجهه الشريف، وكسروا رباعيته، وهشموا البيضة على رأسه، فصبر على ذلك، ولم يزد على أن دعا لهم.
وأما اليهود فمع تكذيبهم له، وصدهم عن دينه، وتحريض المشركين عليه؛ فإنهم نقضوا عهودهم معه في أشد الساعات ضيقاً وحرجا؛ رجاء القضاء عليه، وإبادة أتباعه، فصبر عليهم صبراً لا يصبره أحد غيره ^، ولم يكفهم ذلك حتى حاولوا قتله غير مرة، وسحروه وسموه، فقطع سمهم نياط قلبه ^، فهم قتلته عليه الصلاة والسلام، وعليهم لعائن الله تعالى المتتابعة إلى يوم القيامة.
لكن المنافقين هم أكثر الطوائف الثلاث أذى للنبي ^، وصبر عليهم ما لم يصبر على غيرهم، وعاملهم بظاهر حالهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى.
وإنما كان المنافقون أشد الطوائف الثلاث أذى للنبي ^ لأنهم يساكنونه، ويندسون في أصحابه رضي الله عنهم، فيخذلون ويرجفون ويبثون الشائعات، ويخبرون اليهود والمشركين بعورات المؤمنين، ومن قرأ آيات القرآن في المنافقين تبين له شيء من حجم الأذى الذي أصاب النبي ^ منهم، وكيف صبر عليهم.
لقد أظهروا الإيمان والطاعة للنبي ^، لكنهم أبطنوا الكفر ومحاربته، وهذا أشد ما يكون من العداء؛ لخفاء أمرهم على الناس، والعدو الباطن يفعل أضعاف ما يفعل العدو الظاهر؛ لصعوبة التحرز منه.. وهكذا كان حال المنافقين مع النبي ^ [وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ] {النساء:81}.
وكان إظهارهم للإيمان على وجه السخرية والاستهزاء والكيد للمؤمنين ليس غير ذلك؛ ولذا فهم يصفون المؤمنين بالسفه [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ] {البقرة:13} وفي آية أخرى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] {البقرة:14}.
وكانت لهم مجالس يسخرون فيها بدينه الذي بلغه عن ربه سبحانه؛ حقداً في قلوبهم، وصداً عن الدعوة، ولا يحضرون الغزو مع النبي ^ إلا للإرجاف والتخذيل والسخرية، وإحداث الفتنة، كما فعلوا في غزوة تبوك ففضحهم الله تعالى وبين كفرهم [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِالله وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ] {التوبة:65-66}.
وكم من فتنة حاولوا إشعالها بين المؤمنين [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَارِهُونَ] {التوبة:47-48}.
وبلغ أذاهم للنبي ^ أنهم يضارونه في أماكن العبادة، وما ابتنوا مسجد الضرار إلا لذلك [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ] {التوبة:107}
وكانوا يصرفون الناس عن الغزو مع رسول الله ^ [وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الحَرِّ] {التوبة:81} ويصدونهم عن الإنفاق في سبيل الله تعالى تارة بالسخرية واللمز [الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ] {التوبة:79} وتارة أخرى باستغلال ضوائق المؤمنين والتواصي على الإمساك؛ ليتفرق الناس عن النبي ^ ويتركوه [هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا] {المنافقون:7}.
ويختلقون المعاذير لتخلفهم عن الغزو وعن الإنفاق في سبيل الله تعالى [يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ] {التوبة:94} [سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ] {الفتح:11}
ويا ليت أنهم حفظوا ذلك للنبي ^، وحمدوه به، حين لم يعاقبهم، وعاملهم بظاهر حالهم، ووكلهم إلى أيمانهم، وصدقهم في أقوالهم، بل جعلوه موضع سخريتهم وتندرهم به ^ [وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ] {التوبة:61} أي: يسمع منا، ويصدقنا بما نقول، ولا يفرق بين صادق وكاذب، فصبر النبي ^ على كل هذا الأذى منهم.
وكانوا يشمتون به ^ وبأصحابه رضي الله عنهم إذا أصابتهم مصيبة كما قالوا بعد أحد [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] {آل عمران:168} وقالوا في الخندق [مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا] {الأحزاب:12} وأخبر الله تعالى أنهم يفرحون بمصاب المؤمنين [إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ] {التوبة:50} ومع ذلك كله فإنه ^ صبر عليهم؛ رجاء توبتهم؛ ولئلا تقع فتنة في المؤمنين بسببهم.
ومنهم من طعنوا في أمانة النبي ^ وعدله بسبب عرض من الدنيا يطلبونه [وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ] {التوبة:58} وكان ^ يقسم غنائم بين الناس فقال أحدهم:«اعْدِلْ، فقال ^: وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إذا لم أَعْدِلْ؟ قد خِبْتَ وَخَسِرْتَ إن لم أَكُنْ أَعْدِلُ» وقال آخر:«اتَّقِ الله يا محمد، فقال رسول الله ^ فَمَنْ يُطِع الله إن عَصَيْتُهُ؟ أَيَأْمَنُنِي على أَهْلِ الأرض ولا تَأْمَنُونِي؟» رواهما الشيخان.
وتجاوزوا ذلك إلى الطعن في عرضه الشريف ^، فرموا زوجه بالزنا، وأشاعوا ذلك في الناس، واشتد الكرب بالنبي ^ إلى أن فضحهم الله تعالى في سورة النور، وبرأ زوجه من الخنا، وتحمل ^ هذا الأذى الشديد منهم، وصبر عليهم.
ومن عظيم أذاهم للنبي ^ أنهم وصفوه بالذلة فصبر عليهم [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] {المنافقون:8} وحالفوا الكفار على المؤمنين طلبا للعزة [الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لله جَمِيعًا] {النساء:139}.
وإنما كف النبي ^ عن المنافقين، وصبر على أذاهم امتثالاً لأمر الله تعالى [أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا] {النساء:63} وفي آية أخرى [وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وَكَفَى بِالله وَكِيلًا] {الأحزاب:48}. نعوذ بالله تعالى من النفاق والمنافقين، ونسأله سبحانه الثبات على الإيمان واليقين، إنه سميع مجيب. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه [وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] {آل عمران:131-132}.
أيها الناس: للصبر مقام عظيم في الدين، وجزاء كبير عند رب العالمين [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {الزُّمر:10} وبه تجمل الرسل عليهم السلام [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ] {الأحقاف:35} وسبب ذلك -والله أعلم- أنه لا ثبات على الدين إلا بالصبر؛ لأن أذى الكفار والمنافقين شديد لا يطيقه إلا الصابرون؛ ولأن شهوات الدنيا وإغراءاتها تدعو النفوس إليها، ويقتضي ذلك تنازلاً عن شيء من الدين لأجلها، والنفس أمارة بالسوء، فلا يقهر نفسه عن الدنيا وزينتها ابتغاء رضوان الله تعالى إلا الصابرون..
وكم من نفوس ضعيفة لم تطق أذى الكفار والمنافقين، ولم تصمد أمام تشكيكهم في الدين، فتحولت عن مناهجها إلى ما يرضيهم، وانتقلت من خدمة دين الله تعالى إلى خدمتهم، وتحقيق أهدافهم؛ اتقاء لضررهم وأذاهم، أو طلباً للعاعة من الدنيا يبذلونها لهم.
ولما وقعت حادثة الإسراء والمعراج، وحدث النبي ^ بها، لم يصدقه إلا الصادقون في إيمانهم، الصديقون في انتمائهم، الصابرون على دينهم، المصابرون في منابذة أعدائهم.
وأما الضعفاء المذبذبون، فخارت عزائمهم، ونفد صبرهم، فارتدوا على أعقابهم؛ كما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «لما أسري بالنبي ^ إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن آمنوا به وصدقوه»رواه الحاكم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما:«أسري بالنبي ^ إلى بيت المقدس ثم جاء من ليلته فحدثهم بمسيره وبعلامة بيت المقدس وبعيرهم، قال أناس: نحن لا نصدق محمداً، فارتدوا كفاراً فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل» رواه أحمد.
إن الثبات على الدين لا يحققه إلا أهل الصبر واليقين، ولهم الإمامة في الدين، كما تحقق ذلك للأنبياء والصديقين، ومن التخلق بأخلاق النبي ^ التأسي به في الصبر على أذى الكفار والمنافقين، والصبر عن الدنيا وملذاتها، والتمسك بسنته ^، والإعراض عما أحدثه المبتدعة من أنواع البدع والضلالات، ومنها ما يفعلونه هذه الأيام، من الاحتفال بما يزعمونه ليلة الإسراء والمعراج، وما يفعلونه فيها من أنواع العبادات التي لا تزيدهم من الله تعالى إلا بعداً، مع أن وقت معراجه ^ لا يعلم على وجه التحديد ولا التقريب، لا في سنته ولا في شهره ولا في ليلته، ولكن أهل الأهواء أضلوا العامة بهذه المحدثات؛ لما أشربوا في قلوبهم من الهوى والجهل، والنبي ^ قد أمرنا بالتمسك بسنته، وحذرنا من الابتداع في الدين، وأخبرنا أن كل بدعة ضلالة، وأن كل ضلالة في النار، وقد أمرنا الله تعالى بطاعة رسوله ^ لننال الفوز والفلاح [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {آل عمران:31} [وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] {الحشر:7}.
وصلوا وسلموا على نبيكم...
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى