رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
سُوَرُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ (2)
الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِيْنَ
إبراهيم بن محمد الحقيل
7/6/1431
الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِيْنَ؛ أَنْزَلَ الْقُرْآَنَ هُدىً وَشِفَاءً لِلْمُؤْمِنِيْنَ [قُلْ هُوَ لِلَّذِيْنَ آَمَنُوْا هُدىً وَشِفَاءٌ] {فُصِّلَتْ:44} نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ فَنِعَمُهُ عَلَى عِبَادِهِ مُتَوَالِيَةٌ، وَآلاؤُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ مُتَتَابِعَةٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ؛ يَهْدِيَ وَيُضِلُّ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَبْسُطُ وَيَقْبِضُ، وَيَرْفَعُ وَيَضَعُ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُوَ الْعَلِيْمُ الْحَكِيْمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ؛ فَتَحَ اللهُ تَعَالَىْ بِهِ أَعْيُنَاً عُمْيَاً، وَآَذَانَاً صُمَّاً، وَقُلُوْبَاً غُلْفَاً؛ فَاسْتَضَاءَتْ بِنُوْرِ الْوَحْي الَّذِيْ بَلَّغَهُ فَكَانَتْ مِنَ الْمُهْتَدِيْنَ، صَلَّىَ اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَىَ يَوْمِ الْدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا الله تَعَالَىْ وَأَطِيْعُوْهُ، وَالْتَزَمُوْا دِيْنَهُ، وَتَدَبَّرُوْا كِتَابَهُ، وَعَظَّمُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ [وَأَطِيْعُوْا الله وَالْرَّسُوْلَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوْنَ] {آَلِ عِمْرَانَ:132} .
أَيُّهَا الْنَّاسُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمٌ عَظِيْمٌ مُبَارَكٌ، اِخْتُصَّ بِخَصَائِصَ كَثِيْرَةٍ، وَفَضَائِلَ عَظِيْمَةٍ، وَشُرِعَتْ فِيْهِ عِبَادَاتٌ عِدَّةَ، وَجَعَلَهُ اللهُ تَعَالَىْ لِلْمُسْلِمِيْنَ عِيْدَاً بَعْدَ أَنْ هَدَاهُمُ إِلَيْهِ، وَضَلَّتْ عَنْهُ الْأُمَمُ الَّتِيْ كَانَتْ قَبْلَهُمْ.
وَمِنْ خَصَائِصِ الْجُمُعَةِ هَذِهِ الصَّلَاةُ العَظِيمَّةُ الَّتِيْ شَرَعَهَا الْنَّبِيُّ ^ فَوْرَ هِجْرَتِهِ لِلْمَدِيْنَةِ، وَكَانَ يَقْصِدُ صَلَاتَهَا بِسُوَرٍ يَقْرَؤُهَا فِيْهَا اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ قِرَاءَتَهَا فِيْهَا مِنْ الْسُّنَّةِ، وَهِيَ سُوَرُ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِيْنَ وَالْأَعْلَى وَالْغَاشِيَةِ، وَمِمَّا وَرَدَ فِيْ سُنَّتِهِ ^ أَنَّهُ يَخُصُّ الْرَّكْعَةَ الْأُوْلَىْ بِالْجُمُعَةِ، وَالْثَّانِيَةَ بِالْمُنَافِقِيْنَ؛ كَمَا رَوَىَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا«أَنَّ الْنَّبِيَّ ^ كَانَ يَقْرَأُ فِيْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ سُوْرَةَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِيْنَ»رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى عُبَيْدُ الله بْنُ أَبِيْ رَافِعٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَالَ:«صَلَّى بِنَا أَبُوْ هُرَيْرَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَرَأَ بِسُوَرَةِ الْجُمُعَةِ وَفِيْ الْرَّكْعَةِ الْآَخِرَةِ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُوْنَ، قَالَ: فَأَدْرَكْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ حِيْنَ انْصَرَفَ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ قَرَأْتَ بِسُوَرَتَيْنِ كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقْرَأُ بِهِمَا بِالْكُوْفَةِ، قَالَ أَبُوْ هُرَيْرَةَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ الله ^ يَقْرَأُ بِهِمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ»رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُوْ دَاوُدَ وَالَلَّفْظُ لَهُ.
وَلَا يَقْصِدُ الْنَّبِيُّ ^ قَرَأَتَهُما فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِلَّا لَمَعَانٍ عَظِيْمَةٍ حَوَتْهَا الْسُّوْرَتَانِ، يَعْلَمُ الْنَّاسُ مِنْهَا مَا يَعْلَمُوْنَ، وَيَجْهَلُوْنَ مِنْهَا مَا يَجْهَلُوْنَ عَلَى قَدْرِ مَا آَتَاهُمْ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْفِقْهِ فِيْ الْدِّيْنِ، وَمَعْرِفَةِ الْتَّأْوِيْلِ، وَتُدْبُّرِ آَيَاتِ الْكِتَابِ الْحَكِيْمِ.
وَالْحَدِيْثُ عَنِ الْسُّوْرَتَيْنِ وَمَا فِيْهِمَا مِنْ الْفِقْهِ وَالْمَعَانِي حَدِيْثٌ غَزِيْرٌ عَزِيْزٌ، يَسْتَوْعِبُ مَجَالِسَ عِدَّةً، وَحَسْبُنَا فِيْ هَذِهِ الْفَرِيْضَةِ الْمُحْكَمَةِ أَنْ نَأْتِيَ عَلَى مَا اشْتَرَكَتْ فِيْهِ الْسُّوْرَتَانِ مِنَ الْمَعَانِيْ، وَهِيَ مَعَانٍ جَلِيْلَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا وَتَأْمَّلَهَا، لَا يَمْلِكُ مَنْ عِلْمَهَا إِلَّا أَنْ يُسَبِحَ الله تَعَالَى كَمَا يُسَبِّحُهُ أَهْلُ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلُ أَرْضِهِ، وَهَذَا افْتِتَاحُ سُوْرَةِ الْجُمُعَةِ [يُسَبِّحُ لله مَا فِيْ الْسَّمَاوَاتِ وَمَا فِيْ الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوْسِ الْعَزِيْزِ الْحَكِيْمِ] {الْجُمُعَةِ:1}.
لَقَدِ اشْتَرَكَتْ الْسُّوْرَتَانِ فِيْ وَصْفِ أَهْلِ الْضَّلالِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْرَّسُوْلُ ^؛ لِيَتَجَدَّدَ حَذَرُ الْمُؤْمِنِ فِيْ كُلِّ أُسْبُوْعٍ يَسْمَعُ فِيْهِ الْسُّوْرَتَيْنِ مِنْ سُلُوْكِ طَرِيْقِهِمْ، فَفِيْ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْمِنَّةِ بِبَعْثَةِ الْرَّسُوْلِ ^ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَىْ حَالَ الْيَهُوْدِ الْمُكَذِّبِيْنَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْحَقِّ، فَكَانَ تَكْذِيْبُهُمْ عَنْ إِعْرَاضٍ وَاسْتِكْبَارٍ فَقَالَ سُبْحَانَهُ فِيْهِمْ [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ الله وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] {الجمعة:5} وَهُوَ تَهْدِيْدٌ لِمَنْ يَعْلَمُ الْحَقَّ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ، وَتَحْذِيْرٌ لِغَيْرِهِ مِنْ اتِّبَاعِهِ فِيْ بَاطِلِهِ.
وَفِيْ سُوْرَةِ الْمُنَافِقِيْنَ ذِكْرٌ لِنَوْعٍ آَخَرَ مِنَ الْإِعْرَاضِ، وَهُوَ إِعْرَاضُ الْمُنَافِقِيْنَ الَّذِيْنَ يُظْهِرُوْنَ الْإِيْمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، فَيُخَالِفَ بَاطِنُهُمْ ظَاهِرَهُمْ [إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ] {المنافقون:1} وَسَبَبُ اسْتِتَارِهِمْ بِنِفَاقِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ لِصَدِّ الْنَّاسِ عَنْ دِيَنِ الله تَعَالَى بِكُلِّ الْوَسَائِلِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَىْ هَتَكَ سَتْرَهُمْ، وَأَظْهَرَ لِلْنَّاسِ أَمْرَهُمْ، وَفَضَحَ مُرَادَهُمْ؛ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِمْ غَيْرُهُمْ [اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {المنافقون:2}
وَأَهَمُّ قَضِيَّتَيْنِ تَشْغَلَانِ حَيَّزَاً كَبِيْرَاً مِنْ تَفْكِيْرِ الْنَّاسِ فِي الْحَيَاةِ الْدُّنْيَا هُمَا قَضِيْتَا الْرِّزْقِ وَالْأَجَلِ، وَكَثِيْرَاً مَا سُعِّرَتِ الْحُرُوْبُ لِأَجْلِهِمَا، وَكِلْتَا الْقَضِيَّتَيْنِ عَالجَتُهُمَا الْسُّوْرَتَانِ:
أَمَّا قَضِيَّةُ الْرِّزْقِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ فِيْ سُوْرَةِ الْجُمُعَةِ بِالْضَّرْبِ فِيْ الْأَرْضِ، وَطَلَبِ الْرِّزْقِ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعَطِّلَ عَنْ الْفَرَائِضِ، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {الْجُمُعَةِ:9-10}.
وَمِنْ أَكْثَرِ مَا يُلْهِيْ الْعِبَادَ عَنْ فَرَائِضِ الله تَعَالَى الِاشْتِغَالُ بِالْلَّهَوِ وَبِالتِجَارَةِ فَجَاءَ الْتَّحْذِيْرُ مِنْهُ [وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا] {الجمعة:11} وَيَأْتِي الْتَّأْكِيدُ عَلَى ذَلِكَ فِيْ سُوْرَةِ الْمُنَافِقِيْنَ مَعَ الْنَّهْيِّ عَنِ الْلَّهْوِ بِالْأَوَّلُادِ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ] {المنافقون:9}؛ ذَلِكَ أَنَّ الْرِّزْقَ يُبْتَغَى مِمَّنْ يَمْلِكُ خَزَائِنَهُ، وَمَنْ بِيَدِهِ مَفَاتِيْحُهُ، وَنَجِدَ هَذَا الْمَعْنَىْ فِيْ الْجُمُعَةِ [قُلْ مَا عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] {الجمعة:11} كَمَا نَجِدُهُ فِيْ سُوْرَةِ الْمُنَافِقِيْنَ [وَلله خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ] {المنافقون:7}.
وَمَا خُلِقَ الْإِنْسَانُ إِلَّا لِيَذْكُرَ اللهَ تَعَالَى فِيْ كُلِّ حِيْنٍ بِلِسَانِهِ وَأَرْكَانِهِ، فِيْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَنَجِدَ أَنَّ الْسُّوْرَتَيْنِ تُكَرِّسَانِ هَذَا الْمَعْنَىْ فِيْ وُجْدَانِ الْعَبْدِ فِيْ كُلِّ جُمُعَةٍ، وَتَغْرْسَانِ فِيْ قَلْبِهِ أَهَمِّيَّةَ ذِكْرِ الله تَعَالَىْ؛ فَفِيْ الْجُمُعَةِ [فَاسْعَوْا إِلَىَ ذِكْرِ الله] {الْجُمُعَةِ:9} وَفِيْهَا تَرْتِيْبُ الْفَلَاحِ عَلَى الْذَّكَرِ [وَاذْكُرُوْا اللهَ كَثِيْرَاً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ] {الْجُمُعَةِ:10} وَفِيْ سُوْرَةِ الْمُنَافِقِيْنَ تَرْتِيْبُ الْخَسَارَةِ عَلَى الْتَفْرِيْطِ فِيْ الْذِّكْرِ [لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُوْنَ] {الْمُنَافِقُوْنَ:9}.
وَمَا يَقَعُ مِنْ ظُلْمِ الْعِبَادِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ الله تَعَالَى فَهُوَ بِسَبَبِهِمْ، وَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيْهِمْ؛ إِذْ لَوْ كَانَتْ قُلُوْبُهُمْ صَالِحَةً لِلْهِدَايَةِ لَوَفَّقَهُمْ الَلهُ تَعَالَى إِلَيْهَا [بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِيْنَ كَذَّبُوُا بِآَيَاتِ الله وَاللهُ لَا يَهْدِيَ الْقَوْمَ الْظَّالِمِيْنَ] {الْجُمُعَةِ:5} فَوَصَفَهُمْ بِالْظُّلْمِ لِتَّكْذِيْبِهِمْ، وَفِيْ الْمُنَافِقِيْنَ [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوْا ثُمَّ كَفَرُوَا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوْبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُوْنَ] {الْمُنَافِقُوْنَ:3}.
وَفِيْ الْسُّوْرَتَيْنِ تَأْكِيْدٌ عَلَى عَدَمِ الْاغْتِرَارِ بِالْمَظَاهِرِ الزَّائِفَةِ مِنْ فَصَاحَةِ الْلِّسَانِ، وَرَوْعَةِ الْبَيَانِ، وَجَمَالِ الْخِلْقَةِ، وَكَثْرَةِ الْثَّقَافَةِ وَالْمَعْرِفَةِ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِصَلَاحِ الْقَلْبِ لَا بِحُسْنِ الْمَنْطِقَ، وَبِإِتْبَاعِ الْعِلْمِ بِالْعَمَلِ لَا بِسَعَةِ الِاطِّلَاعِ؛ فَالْيَهُوْدُ -وَهُمْ عُلَمَاءُ عَصْرِهِمْ- مَا نَفَعَهُمْ عِلْمُهُمْ بِالْكِتَابِ حِيْنَ لَمْ يَعْلَمُوَا بِهِ، فَذُّمَّهُمْ اللهُ تَعَالَى فِيْ سُوْرَةِ الْجُمُعَةِ [مَثَلُّ الَّذِيْنَ حُمِّلُوا الْتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوْهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَاً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِيْنَ كَذَّبُوُا بِآَيَاتِ الله] {الْجُمُعَةِ:5} وَالْمُنَافِقُوْنَ كَانُوْا ذَوِي فَصَاحَةِ لِسَانٍ، وَجَمَالِ أَجْسَامٍ، حَتَّى وَصَفَ جِمَالَهُمُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ:«كَانُوْا رِجَالَاً أَجْمَلَ شَيْءٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَمَا أَغْنَىَ عَنْهُمْ ذَلِكَ شَيْئَاً، وَذَمَّهُمْ اللهُ تَعَالَىْ فِيْ قُرْآَنٍ يُتْلَى [وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] {المنافقون:4}.
نَعُوْذُ بِالله تَعَالَى مِنْ الْنِّفَاقِ وَالْمُنَافِقِيْنَ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ الثَّبَاتْ عَلَى الْدِّيْنِ، وَلُزُوْمِ الْصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيْمِ، كَمَا نَسْأَلُهُ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى قُلَوَبِنَا بِتَدَبُّرِ آَيَاتِ الْذِّكْرِ الْحَكِيْمِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا فَهْمَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ، إِنَّهُ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ..
أَعُوْذُ بِالله مِنَ الْشَّيْطَانِ الْرَّجِيْمِ [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوٓا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوْ الْأَلْبَابِ] {صَ:29}.
بَارَكَ الله لِيْ وَلَكُمْ فِيْ الْقُرْآَنِ وَالْسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيْهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، وَأَقُوْلُ مَا تَسْمَعُوْنَ وَاسْتَغْفِرْ اللهَ لِي وَلَكُمْ..
الْخُطْبَةُ الْثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لله حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَاشْهَدْ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ [وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ] {البقرة:48}.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُوْنَ: مَنْ تَأَمَّلَ سُوْرَتَيْ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِيْنَ وَجَدَ أَنَّهُمَا تَنَاوَلَتَا طَائِفَتَيْنِ مِنْ أَعْدَاءِ الْمُسْلِمِيْنَ، هُمَا الْيَهُوْدُ فِيْ أَرْبَعِ آَيَاتٍ مِنْ سُوْرَةِ الْجُمُعَةِ، وَالْمُنَافِقُوْنَ فِيْ ثَمَانِيَ آَيَاتٍ مِنْ سُوْرَةِ الْمُنَافِقِيْنَ، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ الْتَّارِيْخَ، وَتَأَمَّلَ الْوَاقِعَ وَجَدَ أَنَّ الْيَهُوْدَ وَالْمُنَافِقِيْنَ أَخْطَرُ أَعْدَاءِ الْإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَهَذَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآَنِ أَنْ يُذَكِّرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ كُلَّ جُمُعَةٍ بِهَذَيْنِ الْعَدُوَّيْنِ؛ تَحْذِيْرَاً لَهُمْ مِنْ دُوْنِ سَائِرِ طَوَائِفِ الْكُفْرِ وَالْشِّرْكِ، ثُمَّ تُثْبِتُ أَحْدَاثُ الْتَّارِيْخِ وَالْوَاقِعِ أَنَّ لِهَذَا التَّذْكِيْرِ الُمَسْتَمِرِّ بِهَذَيْنِ الْعَدُوَّيْنِ حَاجَتَهُ الْمُلِحَّةَ؛ لِيُبَاعِدَ الْمُؤْمِنُ عَنِ الِاتِّصَافِ بِصِفَاتِهِمْ الْسَّيِّئَةِ؛ وَلِكَيْ يَحْذَرَ مِنْ غَوَائِلِ هَذَيْنِ الْعَدُوَّيْنِ الَّلدُوْدَيْنَ.
وَالْيَهُوْدُ وَالْمُنَافِقُوْنَ يَشْتَرِكُوْنَ فِيْ جُمْلَةٍ مِنَ الْصِّفَاتِ تَنْدَرِجُ كُلُّهَا فِي طِبَاعِ الْلُّؤْمِ وَالْخِسَّةِ وَالْعِنَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ:
فَكُلَّاً مِنَ الْيَهُوْدِ وَالْمُنَافِقِيْنَ يَعْلَمُوْنَ الْحَقَّ وَلَا يَتَّبِعُوْنَهُ، بَلْ يُحَارِبُوْنَهُ، فَلَيْسُوا مِثْلَ الْنَّصَارَى وَكَثِيْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ الَّذِيْنَ عَارَضُوا الْحَقَّ لِجَهْلِهِمْ بِهِ؛ فَالْيَهُوْدُ أَهْلُ كِتَابٍ يَعْلَمُوْنَ حَقِيْقَةَ الْإِسْلَامِ وَصِدْقَ الْنَّبِيِّ ^، وَالْمُنَافِقُوْنَ عَاشُوْا بَيْنَ الْمُسْلِمِيْنَ وَعَلِمُوْا مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَقِّ، وَلَكِنَّهُمْ نَابَذُوْهُ الْعَدَاءَ.
وَشَرَاسَةُ الْيَهُوْدِ وَالْمُنَافِقِيْنَ فِي عَدَاوَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِيْنَ مُتَوَاتِرَةٌ فِيْ الْكِتَابِ وَالْسُّنَّةِ، وَمُثْبَتَةٌ فِيْ تَارِيْخٍ طَوِيْلٍ مِنَ الْعِدَاءِ، وَنُشَاهِدُهَا فِيْ وَاقِعِنَا الْمُعَاصِرِ، وَكِلَا الْطَّائِفَتَيْنِ تَتَصِفَانَ بِالْغَدْرِ؛ فَالْيَهُوْدُ نَقَضُوْا عُهُوْدَهُمْ مَعَ الْنَّبِيِّ ^، وَغَدَرُوا بِالْمُسْلِمِيْنَ فِي دُوَلِ الْإِسْلَامِ الْمُتَعَاقِبَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَأَسَّسُوا الْفَرْقَ الْبَاطِنِيَّةَ الْمُنَافَقةَ الْمُنَاوِئَةَ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ.
وَأَمَّا الْمُنَافِقُوْنَ فَغَدَرُوا بِالْمُسْلِمِيْنَ فِيْ أَشَدِّ الْسَّاعَاتِ، وَأَحَلَكِ الْظُّرُوْفِ مُنْذُ أَنْ سَنَّ الْغَدْرَ فِيْهِمْ عَبْدُ الله بْنُ أَبِيِّ بْنِ سَلُوْلٍ فِيْ غَزْوَةِ أُحُدٍ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَعَدَدٌ مِنْ دُوَلِ الْإِسْلَامِ سَقَطَتْ بِسَبَبِهِمْ، وَبِمَعُوْنَةِ الْيَهُوْدِ لَهُمْ.
وَيَشْتَرِكُ الْيَهُوْدُ وَالْمُنَافِقُوْنَ فِيْ ثَلَاثِ صِفَاتٍ رَدِيْئَةٍ هِيَ الْجُبْنُ وَالْحِرْصُ وَالشُّحُّ؛ وَسُوْرَةُ الْجُمُعَةِ كَشَفَتْ حَقِيْقَةَ جُبْنِ الْيَهُوْدِ وَفِرَارَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ [قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ] {الجمعة:6-7} وَقَالَ الْنَّبِيُّ ^:«وَلَوْ أَنَّ الْيَهُوْدَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ فِي الْنَّارِ»رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأَلْمَحْتُ سُوْرَةُ الْمُنَافِقِيْنَ إِلَى اتِّصَافِ الْمُنَافِقِيْنَ بِالْجُبْنِ[يَحْسَبُوْنَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ] {الْمُنَافِقُوْنَ:4}
وَأَمَّا الْبُخْلُ فَالْيَهُوْدُ وَالْمُنَافِقُوْنَ مَوْصُوْفَوْنَ بِهِ فِيْ عَدَدِ مِنْ آَيِّ الْقُرْآَنِ، وَكَشَفَتْ سُوْرَةُ الْمُنَافِقِيْنَ مَقُوْلَةَ رُؤُوْسِ الْنِّفَاقِ لِأَتْبَاعِهِمْ [هُمُ الَّذِيْنَ يَقُوْلُوْنَ لَا تُنْفِقُوْا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُوْلِ الله حَتَّىَ يَنْفَضُّوا] {الْمُنَافِقُوْنَ:7}.
وَلِئَلا يَقَعَ الْمُؤْمِنُوْنَ فِيْ شَيْءٍ مِنْ أَوْصَافِ الْيَهُوْدِ وَالْمُنَافِقِيْنَ نَجِدُ أَنَّ الْسُّوْرَتَيْنِ جَمِيْعَاً حَذَّرَتَا الْمُؤْمِنِيْنَ مِنَ الِاتِّصَافِ بِالْجُبْنِ وَالْحِرْصِ وَالْبُخْلِ فَأَكَّدَتْ الْسُّوْرَتَانِ عَلَى أَنَّ الْأَجَلَّ نَازِلٌ بِالْعِبَادِ لَا مَحَالَةَ، لَا يَرُدُّهُ حِرْصٌ وَلَا حَذَرَ فَفِيْ الْجُمُعَةِ [قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِيْ تَفِرُّوْنَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيَكُمْ ثُمَّ تُرَدُّوْنَ إِلَىَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالَشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ] {الْجُمُعَةِ:8} وَفِي سُوْرَةِ الْمُنَافِقِيْنَ [وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسَاً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا] {الْمُنَافِقُوْنَ:11}.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُعِدَّ لِلْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ مَا يُنَجِّيْهِ مِنَ الْأَهْوَالِ؛ وَذَلِكَ بِالْعَمَلِ الْصَّالِحِ، وَهُوَ مَا دَعَتْ إلَيه الْسُّوْرَتَانِ جَمِيْعَاً [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {الجمعة:9} وَفِيْ آَيَةٍ أُخْرَى [وَاذْكُرُوْا اللهَ كَثِيْرَاً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ] {الْجُمُعَةِ:10} وَفِي آَيَةٍ ثَالِثَةٍ [قُلْ مَا عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنَ الْلَّهْوِ وَمِنَ الْتِّجَارَةِ] {الْجُمُعَةِ:11} وَفِيْ سُوْرَةِ الْمُنَافِقِيْنَ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {المنافقون:9-11}
وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى نَبِيِّكُمْ....
الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِيْنَ
إبراهيم بن محمد الحقيل
7/6/1431
الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِيْنَ؛ أَنْزَلَ الْقُرْآَنَ هُدىً وَشِفَاءً لِلْمُؤْمِنِيْنَ [قُلْ هُوَ لِلَّذِيْنَ آَمَنُوْا هُدىً وَشِفَاءٌ] {فُصِّلَتْ:44} نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ فَنِعَمُهُ عَلَى عِبَادِهِ مُتَوَالِيَةٌ، وَآلاؤُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ مُتَتَابِعَةٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ؛ يَهْدِيَ وَيُضِلُّ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَبْسُطُ وَيَقْبِضُ، وَيَرْفَعُ وَيَضَعُ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُوَ الْعَلِيْمُ الْحَكِيْمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ؛ فَتَحَ اللهُ تَعَالَىْ بِهِ أَعْيُنَاً عُمْيَاً، وَآَذَانَاً صُمَّاً، وَقُلُوْبَاً غُلْفَاً؛ فَاسْتَضَاءَتْ بِنُوْرِ الْوَحْي الَّذِيْ بَلَّغَهُ فَكَانَتْ مِنَ الْمُهْتَدِيْنَ، صَلَّىَ اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَىَ يَوْمِ الْدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا الله تَعَالَىْ وَأَطِيْعُوْهُ، وَالْتَزَمُوْا دِيْنَهُ، وَتَدَبَّرُوْا كِتَابَهُ، وَعَظَّمُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ [وَأَطِيْعُوْا الله وَالْرَّسُوْلَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوْنَ] {آَلِ عِمْرَانَ:132} .
أَيُّهَا الْنَّاسُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمٌ عَظِيْمٌ مُبَارَكٌ، اِخْتُصَّ بِخَصَائِصَ كَثِيْرَةٍ، وَفَضَائِلَ عَظِيْمَةٍ، وَشُرِعَتْ فِيْهِ عِبَادَاتٌ عِدَّةَ، وَجَعَلَهُ اللهُ تَعَالَىْ لِلْمُسْلِمِيْنَ عِيْدَاً بَعْدَ أَنْ هَدَاهُمُ إِلَيْهِ، وَضَلَّتْ عَنْهُ الْأُمَمُ الَّتِيْ كَانَتْ قَبْلَهُمْ.
وَمِنْ خَصَائِصِ الْجُمُعَةِ هَذِهِ الصَّلَاةُ العَظِيمَّةُ الَّتِيْ شَرَعَهَا الْنَّبِيُّ ^ فَوْرَ هِجْرَتِهِ لِلْمَدِيْنَةِ، وَكَانَ يَقْصِدُ صَلَاتَهَا بِسُوَرٍ يَقْرَؤُهَا فِيْهَا اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ قِرَاءَتَهَا فِيْهَا مِنْ الْسُّنَّةِ، وَهِيَ سُوَرُ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِيْنَ وَالْأَعْلَى وَالْغَاشِيَةِ، وَمِمَّا وَرَدَ فِيْ سُنَّتِهِ ^ أَنَّهُ يَخُصُّ الْرَّكْعَةَ الْأُوْلَىْ بِالْجُمُعَةِ، وَالْثَّانِيَةَ بِالْمُنَافِقِيْنَ؛ كَمَا رَوَىَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا«أَنَّ الْنَّبِيَّ ^ كَانَ يَقْرَأُ فِيْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ سُوْرَةَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِيْنَ»رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى عُبَيْدُ الله بْنُ أَبِيْ رَافِعٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَالَ:«صَلَّى بِنَا أَبُوْ هُرَيْرَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَرَأَ بِسُوَرَةِ الْجُمُعَةِ وَفِيْ الْرَّكْعَةِ الْآَخِرَةِ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُوْنَ، قَالَ: فَأَدْرَكْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ حِيْنَ انْصَرَفَ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ قَرَأْتَ بِسُوَرَتَيْنِ كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقْرَأُ بِهِمَا بِالْكُوْفَةِ، قَالَ أَبُوْ هُرَيْرَةَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ الله ^ يَقْرَأُ بِهِمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ»رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُوْ دَاوُدَ وَالَلَّفْظُ لَهُ.
وَلَا يَقْصِدُ الْنَّبِيُّ ^ قَرَأَتَهُما فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِلَّا لَمَعَانٍ عَظِيْمَةٍ حَوَتْهَا الْسُّوْرَتَانِ، يَعْلَمُ الْنَّاسُ مِنْهَا مَا يَعْلَمُوْنَ، وَيَجْهَلُوْنَ مِنْهَا مَا يَجْهَلُوْنَ عَلَى قَدْرِ مَا آَتَاهُمْ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْفِقْهِ فِيْ الْدِّيْنِ، وَمَعْرِفَةِ الْتَّأْوِيْلِ، وَتُدْبُّرِ آَيَاتِ الْكِتَابِ الْحَكِيْمِ.
وَالْحَدِيْثُ عَنِ الْسُّوْرَتَيْنِ وَمَا فِيْهِمَا مِنْ الْفِقْهِ وَالْمَعَانِي حَدِيْثٌ غَزِيْرٌ عَزِيْزٌ، يَسْتَوْعِبُ مَجَالِسَ عِدَّةً، وَحَسْبُنَا فِيْ هَذِهِ الْفَرِيْضَةِ الْمُحْكَمَةِ أَنْ نَأْتِيَ عَلَى مَا اشْتَرَكَتْ فِيْهِ الْسُّوْرَتَانِ مِنَ الْمَعَانِيْ، وَهِيَ مَعَانٍ جَلِيْلَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا وَتَأْمَّلَهَا، لَا يَمْلِكُ مَنْ عِلْمَهَا إِلَّا أَنْ يُسَبِحَ الله تَعَالَى كَمَا يُسَبِّحُهُ أَهْلُ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلُ أَرْضِهِ، وَهَذَا افْتِتَاحُ سُوْرَةِ الْجُمُعَةِ [يُسَبِّحُ لله مَا فِيْ الْسَّمَاوَاتِ وَمَا فِيْ الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوْسِ الْعَزِيْزِ الْحَكِيْمِ] {الْجُمُعَةِ:1}.
لَقَدِ اشْتَرَكَتْ الْسُّوْرَتَانِ فِيْ وَصْفِ أَهْلِ الْضَّلالِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْرَّسُوْلُ ^؛ لِيَتَجَدَّدَ حَذَرُ الْمُؤْمِنِ فِيْ كُلِّ أُسْبُوْعٍ يَسْمَعُ فِيْهِ الْسُّوْرَتَيْنِ مِنْ سُلُوْكِ طَرِيْقِهِمْ، فَفِيْ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْمِنَّةِ بِبَعْثَةِ الْرَّسُوْلِ ^ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَىْ حَالَ الْيَهُوْدِ الْمُكَذِّبِيْنَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْحَقِّ، فَكَانَ تَكْذِيْبُهُمْ عَنْ إِعْرَاضٍ وَاسْتِكْبَارٍ فَقَالَ سُبْحَانَهُ فِيْهِمْ [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ الله وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] {الجمعة:5} وَهُوَ تَهْدِيْدٌ لِمَنْ يَعْلَمُ الْحَقَّ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ، وَتَحْذِيْرٌ لِغَيْرِهِ مِنْ اتِّبَاعِهِ فِيْ بَاطِلِهِ.
وَفِيْ سُوْرَةِ الْمُنَافِقِيْنَ ذِكْرٌ لِنَوْعٍ آَخَرَ مِنَ الْإِعْرَاضِ، وَهُوَ إِعْرَاضُ الْمُنَافِقِيْنَ الَّذِيْنَ يُظْهِرُوْنَ الْإِيْمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، فَيُخَالِفَ بَاطِنُهُمْ ظَاهِرَهُمْ [إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ] {المنافقون:1} وَسَبَبُ اسْتِتَارِهِمْ بِنِفَاقِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ لِصَدِّ الْنَّاسِ عَنْ دِيَنِ الله تَعَالَى بِكُلِّ الْوَسَائِلِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَىْ هَتَكَ سَتْرَهُمْ، وَأَظْهَرَ لِلْنَّاسِ أَمْرَهُمْ، وَفَضَحَ مُرَادَهُمْ؛ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِمْ غَيْرُهُمْ [اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {المنافقون:2}
وَأَهَمُّ قَضِيَّتَيْنِ تَشْغَلَانِ حَيَّزَاً كَبِيْرَاً مِنْ تَفْكِيْرِ الْنَّاسِ فِي الْحَيَاةِ الْدُّنْيَا هُمَا قَضِيْتَا الْرِّزْقِ وَالْأَجَلِ، وَكَثِيْرَاً مَا سُعِّرَتِ الْحُرُوْبُ لِأَجْلِهِمَا، وَكِلْتَا الْقَضِيَّتَيْنِ عَالجَتُهُمَا الْسُّوْرَتَانِ:
أَمَّا قَضِيَّةُ الْرِّزْقِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ فِيْ سُوْرَةِ الْجُمُعَةِ بِالْضَّرْبِ فِيْ الْأَرْضِ، وَطَلَبِ الْرِّزْقِ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعَطِّلَ عَنْ الْفَرَائِضِ، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {الْجُمُعَةِ:9-10}.
وَمِنْ أَكْثَرِ مَا يُلْهِيْ الْعِبَادَ عَنْ فَرَائِضِ الله تَعَالَى الِاشْتِغَالُ بِالْلَّهَوِ وَبِالتِجَارَةِ فَجَاءَ الْتَّحْذِيْرُ مِنْهُ [وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا] {الجمعة:11} وَيَأْتِي الْتَّأْكِيدُ عَلَى ذَلِكَ فِيْ سُوْرَةِ الْمُنَافِقِيْنَ مَعَ الْنَّهْيِّ عَنِ الْلَّهْوِ بِالْأَوَّلُادِ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ] {المنافقون:9}؛ ذَلِكَ أَنَّ الْرِّزْقَ يُبْتَغَى مِمَّنْ يَمْلِكُ خَزَائِنَهُ، وَمَنْ بِيَدِهِ مَفَاتِيْحُهُ، وَنَجِدَ هَذَا الْمَعْنَىْ فِيْ الْجُمُعَةِ [قُلْ مَا عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] {الجمعة:11} كَمَا نَجِدُهُ فِيْ سُوْرَةِ الْمُنَافِقِيْنَ [وَلله خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ] {المنافقون:7}.
وَمَا خُلِقَ الْإِنْسَانُ إِلَّا لِيَذْكُرَ اللهَ تَعَالَى فِيْ كُلِّ حِيْنٍ بِلِسَانِهِ وَأَرْكَانِهِ، فِيْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَنَجِدَ أَنَّ الْسُّوْرَتَيْنِ تُكَرِّسَانِ هَذَا الْمَعْنَىْ فِيْ وُجْدَانِ الْعَبْدِ فِيْ كُلِّ جُمُعَةٍ، وَتَغْرْسَانِ فِيْ قَلْبِهِ أَهَمِّيَّةَ ذِكْرِ الله تَعَالَىْ؛ فَفِيْ الْجُمُعَةِ [فَاسْعَوْا إِلَىَ ذِكْرِ الله] {الْجُمُعَةِ:9} وَفِيْهَا تَرْتِيْبُ الْفَلَاحِ عَلَى الْذَّكَرِ [وَاذْكُرُوْا اللهَ كَثِيْرَاً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ] {الْجُمُعَةِ:10} وَفِيْ سُوْرَةِ الْمُنَافِقِيْنَ تَرْتِيْبُ الْخَسَارَةِ عَلَى الْتَفْرِيْطِ فِيْ الْذِّكْرِ [لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُوْنَ] {الْمُنَافِقُوْنَ:9}.
وَمَا يَقَعُ مِنْ ظُلْمِ الْعِبَادِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ الله تَعَالَى فَهُوَ بِسَبَبِهِمْ، وَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيْهِمْ؛ إِذْ لَوْ كَانَتْ قُلُوْبُهُمْ صَالِحَةً لِلْهِدَايَةِ لَوَفَّقَهُمْ الَلهُ تَعَالَى إِلَيْهَا [بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِيْنَ كَذَّبُوُا بِآَيَاتِ الله وَاللهُ لَا يَهْدِيَ الْقَوْمَ الْظَّالِمِيْنَ] {الْجُمُعَةِ:5} فَوَصَفَهُمْ بِالْظُّلْمِ لِتَّكْذِيْبِهِمْ، وَفِيْ الْمُنَافِقِيْنَ [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوْا ثُمَّ كَفَرُوَا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوْبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُوْنَ] {الْمُنَافِقُوْنَ:3}.
وَفِيْ الْسُّوْرَتَيْنِ تَأْكِيْدٌ عَلَى عَدَمِ الْاغْتِرَارِ بِالْمَظَاهِرِ الزَّائِفَةِ مِنْ فَصَاحَةِ الْلِّسَانِ، وَرَوْعَةِ الْبَيَانِ، وَجَمَالِ الْخِلْقَةِ، وَكَثْرَةِ الْثَّقَافَةِ وَالْمَعْرِفَةِ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِصَلَاحِ الْقَلْبِ لَا بِحُسْنِ الْمَنْطِقَ، وَبِإِتْبَاعِ الْعِلْمِ بِالْعَمَلِ لَا بِسَعَةِ الِاطِّلَاعِ؛ فَالْيَهُوْدُ -وَهُمْ عُلَمَاءُ عَصْرِهِمْ- مَا نَفَعَهُمْ عِلْمُهُمْ بِالْكِتَابِ حِيْنَ لَمْ يَعْلَمُوَا بِهِ، فَذُّمَّهُمْ اللهُ تَعَالَى فِيْ سُوْرَةِ الْجُمُعَةِ [مَثَلُّ الَّذِيْنَ حُمِّلُوا الْتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوْهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَاً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِيْنَ كَذَّبُوُا بِآَيَاتِ الله] {الْجُمُعَةِ:5} وَالْمُنَافِقُوْنَ كَانُوْا ذَوِي فَصَاحَةِ لِسَانٍ، وَجَمَالِ أَجْسَامٍ، حَتَّى وَصَفَ جِمَالَهُمُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ:«كَانُوْا رِجَالَاً أَجْمَلَ شَيْءٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَمَا أَغْنَىَ عَنْهُمْ ذَلِكَ شَيْئَاً، وَذَمَّهُمْ اللهُ تَعَالَىْ فِيْ قُرْآَنٍ يُتْلَى [وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] {المنافقون:4}.
نَعُوْذُ بِالله تَعَالَى مِنْ الْنِّفَاقِ وَالْمُنَافِقِيْنَ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ الثَّبَاتْ عَلَى الْدِّيْنِ، وَلُزُوْمِ الْصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيْمِ، كَمَا نَسْأَلُهُ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى قُلَوَبِنَا بِتَدَبُّرِ آَيَاتِ الْذِّكْرِ الْحَكِيْمِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا فَهْمَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ، إِنَّهُ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ..
أَعُوْذُ بِالله مِنَ الْشَّيْطَانِ الْرَّجِيْمِ [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوٓا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوْ الْأَلْبَابِ] {صَ:29}.
بَارَكَ الله لِيْ وَلَكُمْ فِيْ الْقُرْآَنِ وَالْسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيْهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، وَأَقُوْلُ مَا تَسْمَعُوْنَ وَاسْتَغْفِرْ اللهَ لِي وَلَكُمْ..
الْخُطْبَةُ الْثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لله حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَاشْهَدْ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ [وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ] {البقرة:48}.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُوْنَ: مَنْ تَأَمَّلَ سُوْرَتَيْ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِيْنَ وَجَدَ أَنَّهُمَا تَنَاوَلَتَا طَائِفَتَيْنِ مِنْ أَعْدَاءِ الْمُسْلِمِيْنَ، هُمَا الْيَهُوْدُ فِيْ أَرْبَعِ آَيَاتٍ مِنْ سُوْرَةِ الْجُمُعَةِ، وَالْمُنَافِقُوْنَ فِيْ ثَمَانِيَ آَيَاتٍ مِنْ سُوْرَةِ الْمُنَافِقِيْنَ، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ الْتَّارِيْخَ، وَتَأَمَّلَ الْوَاقِعَ وَجَدَ أَنَّ الْيَهُوْدَ وَالْمُنَافِقِيْنَ أَخْطَرُ أَعْدَاءِ الْإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَهَذَا مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآَنِ أَنْ يُذَكِّرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ كُلَّ جُمُعَةٍ بِهَذَيْنِ الْعَدُوَّيْنِ؛ تَحْذِيْرَاً لَهُمْ مِنْ دُوْنِ سَائِرِ طَوَائِفِ الْكُفْرِ وَالْشِّرْكِ، ثُمَّ تُثْبِتُ أَحْدَاثُ الْتَّارِيْخِ وَالْوَاقِعِ أَنَّ لِهَذَا التَّذْكِيْرِ الُمَسْتَمِرِّ بِهَذَيْنِ الْعَدُوَّيْنِ حَاجَتَهُ الْمُلِحَّةَ؛ لِيُبَاعِدَ الْمُؤْمِنُ عَنِ الِاتِّصَافِ بِصِفَاتِهِمْ الْسَّيِّئَةِ؛ وَلِكَيْ يَحْذَرَ مِنْ غَوَائِلِ هَذَيْنِ الْعَدُوَّيْنِ الَّلدُوْدَيْنَ.
وَالْيَهُوْدُ وَالْمُنَافِقُوْنَ يَشْتَرِكُوْنَ فِيْ جُمْلَةٍ مِنَ الْصِّفَاتِ تَنْدَرِجُ كُلُّهَا فِي طِبَاعِ الْلُّؤْمِ وَالْخِسَّةِ وَالْعِنَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ:
فَكُلَّاً مِنَ الْيَهُوْدِ وَالْمُنَافِقِيْنَ يَعْلَمُوْنَ الْحَقَّ وَلَا يَتَّبِعُوْنَهُ، بَلْ يُحَارِبُوْنَهُ، فَلَيْسُوا مِثْلَ الْنَّصَارَى وَكَثِيْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ الَّذِيْنَ عَارَضُوا الْحَقَّ لِجَهْلِهِمْ بِهِ؛ فَالْيَهُوْدُ أَهْلُ كِتَابٍ يَعْلَمُوْنَ حَقِيْقَةَ الْإِسْلَامِ وَصِدْقَ الْنَّبِيِّ ^، وَالْمُنَافِقُوْنَ عَاشُوْا بَيْنَ الْمُسْلِمِيْنَ وَعَلِمُوْا مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَقِّ، وَلَكِنَّهُمْ نَابَذُوْهُ الْعَدَاءَ.
وَشَرَاسَةُ الْيَهُوْدِ وَالْمُنَافِقِيْنَ فِي عَدَاوَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِيْنَ مُتَوَاتِرَةٌ فِيْ الْكِتَابِ وَالْسُّنَّةِ، وَمُثْبَتَةٌ فِيْ تَارِيْخٍ طَوِيْلٍ مِنَ الْعِدَاءِ، وَنُشَاهِدُهَا فِيْ وَاقِعِنَا الْمُعَاصِرِ، وَكِلَا الْطَّائِفَتَيْنِ تَتَصِفَانَ بِالْغَدْرِ؛ فَالْيَهُوْدُ نَقَضُوْا عُهُوْدَهُمْ مَعَ الْنَّبِيِّ ^، وَغَدَرُوا بِالْمُسْلِمِيْنَ فِي دُوَلِ الْإِسْلَامِ الْمُتَعَاقِبَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَأَسَّسُوا الْفَرْقَ الْبَاطِنِيَّةَ الْمُنَافَقةَ الْمُنَاوِئَةَ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ.
وَأَمَّا الْمُنَافِقُوْنَ فَغَدَرُوا بِالْمُسْلِمِيْنَ فِيْ أَشَدِّ الْسَّاعَاتِ، وَأَحَلَكِ الْظُّرُوْفِ مُنْذُ أَنْ سَنَّ الْغَدْرَ فِيْهِمْ عَبْدُ الله بْنُ أَبِيِّ بْنِ سَلُوْلٍ فِيْ غَزْوَةِ أُحُدٍ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَعَدَدٌ مِنْ دُوَلِ الْإِسْلَامِ سَقَطَتْ بِسَبَبِهِمْ، وَبِمَعُوْنَةِ الْيَهُوْدِ لَهُمْ.
وَيَشْتَرِكُ الْيَهُوْدُ وَالْمُنَافِقُوْنَ فِيْ ثَلَاثِ صِفَاتٍ رَدِيْئَةٍ هِيَ الْجُبْنُ وَالْحِرْصُ وَالشُّحُّ؛ وَسُوْرَةُ الْجُمُعَةِ كَشَفَتْ حَقِيْقَةَ جُبْنِ الْيَهُوْدِ وَفِرَارَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ [قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ] {الجمعة:6-7} وَقَالَ الْنَّبِيُّ ^:«وَلَوْ أَنَّ الْيَهُوْدَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ فِي الْنَّارِ»رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأَلْمَحْتُ سُوْرَةُ الْمُنَافِقِيْنَ إِلَى اتِّصَافِ الْمُنَافِقِيْنَ بِالْجُبْنِ[يَحْسَبُوْنَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ] {الْمُنَافِقُوْنَ:4}
وَأَمَّا الْبُخْلُ فَالْيَهُوْدُ وَالْمُنَافِقُوْنَ مَوْصُوْفَوْنَ بِهِ فِيْ عَدَدِ مِنْ آَيِّ الْقُرْآَنِ، وَكَشَفَتْ سُوْرَةُ الْمُنَافِقِيْنَ مَقُوْلَةَ رُؤُوْسِ الْنِّفَاقِ لِأَتْبَاعِهِمْ [هُمُ الَّذِيْنَ يَقُوْلُوْنَ لَا تُنْفِقُوْا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُوْلِ الله حَتَّىَ يَنْفَضُّوا] {الْمُنَافِقُوْنَ:7}.
وَلِئَلا يَقَعَ الْمُؤْمِنُوْنَ فِيْ شَيْءٍ مِنْ أَوْصَافِ الْيَهُوْدِ وَالْمُنَافِقِيْنَ نَجِدُ أَنَّ الْسُّوْرَتَيْنِ جَمِيْعَاً حَذَّرَتَا الْمُؤْمِنِيْنَ مِنَ الِاتِّصَافِ بِالْجُبْنِ وَالْحِرْصِ وَالْبُخْلِ فَأَكَّدَتْ الْسُّوْرَتَانِ عَلَى أَنَّ الْأَجَلَّ نَازِلٌ بِالْعِبَادِ لَا مَحَالَةَ، لَا يَرُدُّهُ حِرْصٌ وَلَا حَذَرَ فَفِيْ الْجُمُعَةِ [قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِيْ تَفِرُّوْنَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيَكُمْ ثُمَّ تُرَدُّوْنَ إِلَىَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالَشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ] {الْجُمُعَةِ:8} وَفِي سُوْرَةِ الْمُنَافِقِيْنَ [وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسَاً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا] {الْمُنَافِقُوْنَ:11}.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُعِدَّ لِلْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ مَا يُنَجِّيْهِ مِنَ الْأَهْوَالِ؛ وَذَلِكَ بِالْعَمَلِ الْصَّالِحِ، وَهُوَ مَا دَعَتْ إلَيه الْسُّوْرَتَانِ جَمِيْعَاً [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {الجمعة:9} وَفِيْ آَيَةٍ أُخْرَى [وَاذْكُرُوْا اللهَ كَثِيْرَاً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ] {الْجُمُعَةِ:10} وَفِي آَيَةٍ ثَالِثَةٍ [قُلْ مَا عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنَ الْلَّهْوِ وَمِنَ الْتِّجَارَةِ] {الْجُمُعَةِ:11} وَفِيْ سُوْرَةِ الْمُنَافِقِيْنَ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {المنافقون:9-11}
وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى نَبِيِّكُمْ....
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى