رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ , ونستغفرهُ , ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا , منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ , ومنْ يُضلل فلا هاديَ له ، وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله .{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ]آل عمران:102[ .{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } ] النساء:1[.{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } ]الأحزاب:70-71[.
أما بعد : فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ , وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمورِ مـُحدثاتُها , وكلَّ محدثةٍ بدعة , وكلَّ بدعةٍ ضلالة , وكلَّ ضلالةٍ في النار ..
أما بعدُ ، أيها المسلمون :
فيقول الله تعالى في كتابه الكريم : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } ]الأنبياء:35[ ويقول سبحانه : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } ]آل عمران: 186[يقرر المولى جلَّ جلالهُ , وتقدست أسماؤهُ, أنَّ من حكمته سبحانه , أنْ يبتلى الناس في هذه الحياة , بأنواعٍ من الابتلاءات , وصنوفٍ من الفتن { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ]الأنفال:37[وأخطر أنواع تلك الابتلاءات , أنْ يُبتلى المرء في دينه , فينشأ ضعيفَ الإيمان هشَّ العقيدةِ, منحرفَ السلوكِ ,محباً للفسادِ , واقعاً فيه , ويظل مبتلاً بهذا الواقعِ الكئيب , المؤذنُ بسوء العاقبةِ , ووخامة المصير, وهو مع ذلك كله, لا يشعر بخطورةِ موقفهِ, وأنه يسيُر إلى الهاويةِ , سيراً حثيثاً فتمضي أيامهِ ولياليه في لهوٍ, ولعب, , دون أنْ يستيقظَ ضميرهُ , أو يحيا وجدانهَ , فقد فهم الحياة هكذا , فهماً منكوساً , وأنها أوقاتُ لذةٍ , وساعاتُ متعةٍ, فلا يخطرُ الموتُ على باله , وإنْ خطرَ لحظةً, ما فسرعانَ ما ينساهُ, أو يتناساهُ , حتى لا يعكرَ صفو مزاجهِ , ولا يكدِّر لذةَ حياتهِ , وهكذا تنقضي الأعوامَ , وتمضي السنيَن , وهو في غفلةٍ مُطبقةٍ , حتى اختطفه الموتُ فجأةً , وهو غارقٌ في لذ تهِ متقلبٌ في نشوتهِ وشهوتهِ , فخسر بذلك الدنيا, والآخرةَ, ذلك هو الخسران المبين .
وصنف من الناس قد يبتلى بنوع آخر من الابتلاء , فقد يكونُ أحدهم مستقيماً في سلوكه, حسناً في تصرفاته , محافظاً على واجباتهِ نوعاً ما , فيبتلى بفقرٍ, أو فاقةٍ , فيضيق أمامهُ سبل العيش , وتغلقُ في وجههِ طرقُ الكسبِ فيشعرُ بشيءٍ من الحرمانِ, والعوزِ , ويرى النعم ظاهرةً على وجوهٍ غيرهُ من الناس , فيسخطُ, ويتضجرُ , ويظهرُ مرضَ قلبه , ويتخايلُ له الشيطان, يقذفُ في قلبهِ الشبهةَ تلو الشبهة , أنت مستقيم , وأنت طيب , فلماذا تشقى ويسعد غيرك من الناسِ ؟! لماذا ينالُ الناسَ الثراءَ, والمكانةَ, والوجاهةَ, وأنت خالِ الوفاض , صفر اليدين ؟!.. أهذا جـزاء الاستقامة ؟!.. أهذا جزاءُ المحافظةِ على الواجبات ؟!.وهكذا يظلُ الشيطانُ يتلاعب بهذا المسكين , حتى تنهارَ إرادته , وينفذَ صبرهُ , ثم ينتكسُ على عقبيهِ , ويسخطُ على ربهِ , ويتجرأ على مولاهُ سبحانه, فيخسر بذلك الدنيا, والآخرة , ذلك هو الخسرانُ المبين.
وصفٌ آخر, قد يبتلىَ بنوعٍ آخر من الابتلاءات , فقد يصابُ بمرضٍ مزمنٍ لا ينفكُ عنه, كـأن يفقد حاسةً من حواسهِ أو جارحـةً من جوارحهِ فتسودُ الدنـيا في وجههِ , ويكدرُ صفو عيشهِ , ويعيش مهموماً محزوناً , ويتخايلُ له الشيطان يقذفُ في قلبه الشبهةَ تلو الشبهة , أنت مسلم , وأنت طيب , فلماذا يصيبكَ ما أصابك ؟! ما هو ذنبكَ حتى تبتلى إلى هذا الحدّ؟! لماذا تشقى ويسعدُ غيرك من الناس ؟! لماذا يتقلبُ الكفارُ في صحة وعافية ؟؟ وأنت أسير مرضك رهينُ مُصابك ؟! أهذا جزاء إيمانكَ, واستقامتكَ , لو أنك فعلتَ كذا وكذا, لكان كذا وكذا , يا لخسارتِكَ, وخيبتك !!وهكذا يظلُ الشيطانُ يتلاعبُ بأعصابِ هذا المسكين !! ويسخرُ من عواطفهِ, ومشاعرهِ, حتى تنهارَ إرادتُه , وينفُذ صبره , فيسبَ القضاءَ, ويهزأُ بالقدرِ , فيخسرُ بذلك الدنيا والآخرةَ , ذلك هو الخسرانُ المبين .
وصنفٌ من الناس , قد يُبتلى في ذريتهِ , فيولدُ لـه الأطفالُ المشوهون, أو الأطفالُ المعتوهون , أو يصابَ بعضُ أبنائه بمرضٍ عُضالٍ, فينتقلُ بهم من طبيبٍ إلى طبيب , ومن مصحةٍ إلى أخرى , فلا يأذنُ الله تعالى بشفاءٍ, ولا يكتبُ عافيةً, فيصيبهُ اليأسُ , ويستولي عليه القنوطُ, ويتخايلُ لـه الشيطانُ يقذفِ في قلبه الشبهةَ تلو الشبهة , أنت مسلم, وأنت مؤمن , وأنت طيب فلمـاذا تشقى, ويسعدُ غـيركَ من الناس ؟ ما هو ذنبكَ حتى يُصيبك ما أصابك ؟! لأي شيٍ تُبتلى بهؤلاء المرضى ؟؟..ويهنأُ بقيةُ الناسِ بأولادٍ أصحاء ؟! لماذا أنت من بينهم معذبٌ محروم ؟! وهكذا .يظلُ الشيطان يتلاعبُ بهذا المسكينِ , ويسخرُ من عواطفه , حتى ينهارُ, وينهزمُ, ويظهرُ خورهُ, وضعفه , وضحالةِ إيمانه , وضعفِ عقيدتهِ , فيسبُ القضاء , ويهزأُ بالقدر , فيخسرُ بذلك الدنيا, والآخرة , ذلك هو الخسرانُ المبين .
وصنفٌ من الناس , قد يبتلى بكسادٍ في تجارته , وشحٍ في كسبه , فينتقل من نشاطٍ إلى آخر , ومن تجارةٍ إلى أخرى ,سعياً وراء الكسبِ, والمنفعة , فلا يكادُ يوفقُ في شيءٍ فيها , فتَسودُ الدنيا في عينيه , وتظلمُ في وجهه , ويفقدُ المسكين أعصابه, واتزانه , ويبدأُ في ندبِ حظهِ , وسوءِ حاله , وتعلوهُ سحابةٌ كئيبة من التشاؤمِ, والتطير , ويتخايل, لـه الشيطان , يقذفِ في قلبه الشبهةَ تلو الشبهة , أنت لا تصلحُ للتجارة , وأنت ينقُصك الذكاءُ, والسياسة ؟! لماذا لا تغشُ كما يغشون , وتكذبُ كما يكذبون ؟! أتريدُ أن تظلَ في خسارةٍ, وقحطِ ؟! من أين تعيش إذاً ؟! وكيف تواجهُ مصاعبَ الحياةِ, ومتطلباتها ؟! وهكذا يأخذُ الشيطانُ بيد ذلك المسكين شيئاً فشيئاً , حتى يفقدهُ ضميرهُ , ويفقدهُ أمانتهُ , فينتكسُ على عقبيه , قد باعَ عفتهَ, ومرؤ تهَ , وباعَ شهامتهُ, ورجولته , واستساغَ أكل الحرامِ , وأطعمهُ أهلهُ, وأولادهُ الأبرياء , وأيما جسدٍ نبتَ من سحتٍ , فالنارُ أولى به , وصنفٌ من الناس , يرفعُ رايةَ الإصلاحَ في بيته , ويسعى جاهداً لتطهيرهَ من آلاتِ اللهوِ, والفسادِ , ويأمرُ أهله بالحشمةِ والعفافِ , وأبنائهُ بالاستقامةِ, والطهر , فيبتلى بزوجةٍ غافلةٍ لاهيةٍ , قد استحوذَ عليها الشيطانُ , فأنساها ذكرَ الله , فتعلنُ تمردها, واحتجاجها على ذلك الإصلاح المأمول , وتعملُ بكل قواها لإجهاضِ الفكرةِ , في نفسِ زوجها , باذلةٍ في سبيلِ ذلك , كيدها العظيم , ومكرها السيئ الخبيث , فيضعفُ ذلك المسكينُ , أمام كيدِ زوجتهِ ودهائِها , ويفتُر حماسُه , وتتلاشى آمالهُ , فيعودُ بيتُه خراباً , وأهلهُ, وولدهُ دماراً , وصدق الله إذ يقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } ]التغابن: 14[ وصنفٌ من الناس , قد رفعَ راية الإصلاحِ , في حارتهِ, وحيهِ , فأخذَ يُناصحُ جيرانهُ , ويدعوهم إلى الصلاةِ, والاستقامةِ, ,ويُحذرهم من المنكراتِ والفتنِ , فما وجدَ إلا الإعراضَ, والصدود ؟! وابتلي بسماعِ أسوأ الأجوبة , وأغلظَ الردودِ , فأصيب َباليأسِ, والقنوطِ , وتخايلَ أمامهُ الشيطانُ , يقذف في قلبه الشبهةَ تلو الشبهة ؟! لماذا تشقى بهؤلاءِ المنحرفين , أتريدُ أن تصلحَ الكون ؟ أصلح نفسكَ أولًا ؟! أنت لا تصلحُ للدعوةِ, والنصيحةِ ؟! أو أنت أديتَ ما عليك , فأتركِ المجالَ لغيرك . وهكذا لا يزالُ الشيطانُ بذلك المسكينِ حتى يتخلى عن دعوتهِ , ويوهمهُ بأنه قد أدى واجبهَ , فيتقوقعُ على نفسهِ, ويرضى بالزرعِ , ويتبعُ أذنابَ البقر . وصنفٌ من الناس , قد رفع راية الإصلاح في مجتمعه كلهِ , وأخذ على عاتقهِ , أعباءَ الدعوةِ إلى الله , والأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ , فلما أعياهُ طولُ الطريقِ , وبعدُ الشقةِ , وابتلي بطاغوتٍ يخذلهُ, ويخوفه , ومستُه الفتنهُ, والبلاء , آثر السلامةَ, والعافية , وأخلدَ إلى الأرض بائعاً آخرتهَ بدنيا غيرهِ , ذلك هو الخسران المبين !
وبعد , فهذه جملةٌ مختصرة, مما يقع في حياةِ الناسِ , من الابتلاءاتِ, والفتِن يبتلى بها ربنا سبحانه الناس , ليميز الخبيثَ من الطيبِ , ويعلم المفسدَ من المصلح , وقويُ الإيمانِ من ضعيفةِ , ويظهرُ مرضى القلوبِ , وهو بذلك الابتلاء يقيم الحجة على العباد , ويمحصُ الصفوفَ ليُهلك من هلكَ عن بينهٍ ويحيا من حي عن بينه .
بارك الله لي, ولكم في القرآن العظيم ,,,
الخطبة الثانية
الحمدُ لله ِالملكُ الحقُ المبين , وأُصلي وأسلمُ على عبده, ورسوله, الصادقُ الأمين , وعلى أصحابه الأطهارُ الميامين , وعلينا, وعلى عباد الِله الصالحين , أما بعد:
فإن مما يُعينُ على المسلمِ , حين يواجهُ البلاءَ أياً كان نوعه , أن يتذكرَ أن ذلـك هو سنةُ الحياةِ, لا فـرق بين مسلمٍ وكـافر , قـال الله عن الكافرين : { فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ } ]النساء:104[ فيواجه ذلك الابتلاء , بالتسليمِ, والصبِر الجميلِ , وأن يعتقدَ جازماً أن ما أصابهُ لم يكن يخطئهْ , وما أخطأهُ لم يكن ليصيبهُ , وأنَّ أمرَ الله كان قدراً مقدوراً .
وعليه أن يتذكرَ حالُ السلفِ , وكيف أصابتهم البأساءُ , والضراءُ , وزُلزلُوا , وابتلوا بفقدِ الأهلِ, والولدِ , والأوطانِ, والأموالِ , وأصابهمُ الجوعُ, والفقرُ والعوزُ , فرضوا بما قسمهُ الُله لهم , وبـما قدرهُ عليهم, دون أن يتسخطوا , أو يتضجروا , وبأتِ جهودَ الشيطانِ في إغرائهم, وتوهينِ عزائمهم بالفشلِ الذريعِ , حتى كان فيهم , من إذا سلكَ فجاً , سلكَ الشيطانُ فجاً غيَر فجه , كلُ ذلك حين عظُمَ الإيمانُ في قلوبهم , وتمكنتِ العقيدةُ من نفوسهم , ووصلوا الغايةَ في تقديسِ ربهم , والتسليمَ لقضائهِ, وحكمتهِ , فرفعَ الُله عنهم البلاءَ , وأبدلهم بالخوفِ أمناً , وبالذلِ عزاً , وبسطَ لهم في أرزاقهم , وأتتهمُ الدنيا, وهي راغمةٌ , وفتحوا البلادَ , وأنفقوا كنوزَ فارسٍ والروم في سبيل الله .
ومما يعينُ على رفع البلاء , صدق اللجوءِ إلى الله تعالى , والاستعانةُ به وحده والتضرعُ بين يديه , والإلحاحُ في سؤالهِ سبحانه , وقبل ذلك, ومعه , إصلاحُ النفسِ بتزكيتها وتطهيرها من شؤم المعصية ,والتوبة من الذنوب كلها , فما نزل بلاء إلا بذنب , وما رفع إلا بتوبة , قال الله تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ]الشورى:30[ .
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ، ودرك الشقاء ، وسوء القضاء ، وشماتة الأعداء ...
الابتــــــــــــلاء
الدكتور رياض بن محمد المسيميري
أما بعد : فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ , وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمورِ مـُحدثاتُها , وكلَّ محدثةٍ بدعة , وكلَّ بدعةٍ ضلالة , وكلَّ ضلالةٍ في النار ..
أما بعدُ ، أيها المسلمون :
فيقول الله تعالى في كتابه الكريم : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } ]الأنبياء:35[ ويقول سبحانه : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } ]آل عمران: 186[يقرر المولى جلَّ جلالهُ , وتقدست أسماؤهُ, أنَّ من حكمته سبحانه , أنْ يبتلى الناس في هذه الحياة , بأنواعٍ من الابتلاءات , وصنوفٍ من الفتن { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ]الأنفال:37[وأخطر أنواع تلك الابتلاءات , أنْ يُبتلى المرء في دينه , فينشأ ضعيفَ الإيمان هشَّ العقيدةِ, منحرفَ السلوكِ ,محباً للفسادِ , واقعاً فيه , ويظل مبتلاً بهذا الواقعِ الكئيب , المؤذنُ بسوء العاقبةِ , ووخامة المصير, وهو مع ذلك كله, لا يشعر بخطورةِ موقفهِ, وأنه يسيُر إلى الهاويةِ , سيراً حثيثاً فتمضي أيامهِ ولياليه في لهوٍ, ولعب, , دون أنْ يستيقظَ ضميرهُ , أو يحيا وجدانهَ , فقد فهم الحياة هكذا , فهماً منكوساً , وأنها أوقاتُ لذةٍ , وساعاتُ متعةٍ, فلا يخطرُ الموتُ على باله , وإنْ خطرَ لحظةً, ما فسرعانَ ما ينساهُ, أو يتناساهُ , حتى لا يعكرَ صفو مزاجهِ , ولا يكدِّر لذةَ حياتهِ , وهكذا تنقضي الأعوامَ , وتمضي السنيَن , وهو في غفلةٍ مُطبقةٍ , حتى اختطفه الموتُ فجأةً , وهو غارقٌ في لذ تهِ متقلبٌ في نشوتهِ وشهوتهِ , فخسر بذلك الدنيا, والآخرةَ, ذلك هو الخسران المبين .
وصنف من الناس قد يبتلى بنوع آخر من الابتلاء , فقد يكونُ أحدهم مستقيماً في سلوكه, حسناً في تصرفاته , محافظاً على واجباتهِ نوعاً ما , فيبتلى بفقرٍ, أو فاقةٍ , فيضيق أمامهُ سبل العيش , وتغلقُ في وجههِ طرقُ الكسبِ فيشعرُ بشيءٍ من الحرمانِ, والعوزِ , ويرى النعم ظاهرةً على وجوهٍ غيرهُ من الناس , فيسخطُ, ويتضجرُ , ويظهرُ مرضَ قلبه , ويتخايلُ له الشيطان, يقذفُ في قلبهِ الشبهةَ تلو الشبهة , أنت مستقيم , وأنت طيب , فلماذا تشقى ويسعد غيرك من الناسِ ؟! لماذا ينالُ الناسَ الثراءَ, والمكانةَ, والوجاهةَ, وأنت خالِ الوفاض , صفر اليدين ؟!.. أهذا جـزاء الاستقامة ؟!.. أهذا جزاءُ المحافظةِ على الواجبات ؟!.وهكذا يظلُ الشيطانُ يتلاعب بهذا المسكين , حتى تنهارَ إرادته , وينفذَ صبرهُ , ثم ينتكسُ على عقبيهِ , ويسخطُ على ربهِ , ويتجرأ على مولاهُ سبحانه, فيخسر بذلك الدنيا, والآخرة , ذلك هو الخسرانُ المبين.
وصفٌ آخر, قد يبتلىَ بنوعٍ آخر من الابتلاءات , فقد يصابُ بمرضٍ مزمنٍ لا ينفكُ عنه, كـأن يفقد حاسةً من حواسهِ أو جارحـةً من جوارحهِ فتسودُ الدنـيا في وجههِ , ويكدرُ صفو عيشهِ , ويعيش مهموماً محزوناً , ويتخايلُ له الشيطان يقذفُ في قلبه الشبهةَ تلو الشبهة , أنت مسلم , وأنت طيب , فلماذا يصيبكَ ما أصابك ؟! ما هو ذنبكَ حتى تبتلى إلى هذا الحدّ؟! لماذا تشقى ويسعدُ غيرك من الناس ؟! لماذا يتقلبُ الكفارُ في صحة وعافية ؟؟ وأنت أسير مرضك رهينُ مُصابك ؟! أهذا جزاء إيمانكَ, واستقامتكَ , لو أنك فعلتَ كذا وكذا, لكان كذا وكذا , يا لخسارتِكَ, وخيبتك !!وهكذا يظلُ الشيطانُ يتلاعبُ بأعصابِ هذا المسكين !! ويسخرُ من عواطفهِ, ومشاعرهِ, حتى تنهارَ إرادتُه , وينفُذ صبره , فيسبَ القضاءَ, ويهزأُ بالقدرِ , فيخسرُ بذلك الدنيا والآخرةَ , ذلك هو الخسرانُ المبين .
وصنفٌ من الناس , قد يُبتلى في ذريتهِ , فيولدُ لـه الأطفالُ المشوهون, أو الأطفالُ المعتوهون , أو يصابَ بعضُ أبنائه بمرضٍ عُضالٍ, فينتقلُ بهم من طبيبٍ إلى طبيب , ومن مصحةٍ إلى أخرى , فلا يأذنُ الله تعالى بشفاءٍ, ولا يكتبُ عافيةً, فيصيبهُ اليأسُ , ويستولي عليه القنوطُ, ويتخايلُ لـه الشيطانُ يقذفِ في قلبه الشبهةَ تلو الشبهة , أنت مسلم, وأنت مؤمن , وأنت طيب فلمـاذا تشقى, ويسعدُ غـيركَ من الناس ؟ ما هو ذنبكَ حتى يُصيبك ما أصابك ؟! لأي شيٍ تُبتلى بهؤلاء المرضى ؟؟..ويهنأُ بقيةُ الناسِ بأولادٍ أصحاء ؟! لماذا أنت من بينهم معذبٌ محروم ؟! وهكذا .يظلُ الشيطان يتلاعبُ بهذا المسكينِ , ويسخرُ من عواطفه , حتى ينهارُ, وينهزمُ, ويظهرُ خورهُ, وضعفه , وضحالةِ إيمانه , وضعفِ عقيدتهِ , فيسبُ القضاء , ويهزأُ بالقدر , فيخسرُ بذلك الدنيا, والآخرة , ذلك هو الخسرانُ المبين .
وصنفٌ من الناس , قد يبتلى بكسادٍ في تجارته , وشحٍ في كسبه , فينتقل من نشاطٍ إلى آخر , ومن تجارةٍ إلى أخرى ,سعياً وراء الكسبِ, والمنفعة , فلا يكادُ يوفقُ في شيءٍ فيها , فتَسودُ الدنيا في عينيه , وتظلمُ في وجهه , ويفقدُ المسكين أعصابه, واتزانه , ويبدأُ في ندبِ حظهِ , وسوءِ حاله , وتعلوهُ سحابةٌ كئيبة من التشاؤمِ, والتطير , ويتخايل, لـه الشيطان , يقذفِ في قلبه الشبهةَ تلو الشبهة , أنت لا تصلحُ للتجارة , وأنت ينقُصك الذكاءُ, والسياسة ؟! لماذا لا تغشُ كما يغشون , وتكذبُ كما يكذبون ؟! أتريدُ أن تظلَ في خسارةٍ, وقحطِ ؟! من أين تعيش إذاً ؟! وكيف تواجهُ مصاعبَ الحياةِ, ومتطلباتها ؟! وهكذا يأخذُ الشيطانُ بيد ذلك المسكين شيئاً فشيئاً , حتى يفقدهُ ضميرهُ , ويفقدهُ أمانتهُ , فينتكسُ على عقبيه , قد باعَ عفتهَ, ومرؤ تهَ , وباعَ شهامتهُ, ورجولته , واستساغَ أكل الحرامِ , وأطعمهُ أهلهُ, وأولادهُ الأبرياء , وأيما جسدٍ نبتَ من سحتٍ , فالنارُ أولى به , وصنفٌ من الناس , يرفعُ رايةَ الإصلاحَ في بيته , ويسعى جاهداً لتطهيرهَ من آلاتِ اللهوِ, والفسادِ , ويأمرُ أهله بالحشمةِ والعفافِ , وأبنائهُ بالاستقامةِ, والطهر , فيبتلى بزوجةٍ غافلةٍ لاهيةٍ , قد استحوذَ عليها الشيطانُ , فأنساها ذكرَ الله , فتعلنُ تمردها, واحتجاجها على ذلك الإصلاح المأمول , وتعملُ بكل قواها لإجهاضِ الفكرةِ , في نفسِ زوجها , باذلةٍ في سبيلِ ذلك , كيدها العظيم , ومكرها السيئ الخبيث , فيضعفُ ذلك المسكينُ , أمام كيدِ زوجتهِ ودهائِها , ويفتُر حماسُه , وتتلاشى آمالهُ , فيعودُ بيتُه خراباً , وأهلهُ, وولدهُ دماراً , وصدق الله إذ يقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } ]التغابن: 14[ وصنفٌ من الناس , قد رفعَ راية الإصلاحِ , في حارتهِ, وحيهِ , فأخذَ يُناصحُ جيرانهُ , ويدعوهم إلى الصلاةِ, والاستقامةِ, ,ويُحذرهم من المنكراتِ والفتنِ , فما وجدَ إلا الإعراضَ, والصدود ؟! وابتلي بسماعِ أسوأ الأجوبة , وأغلظَ الردودِ , فأصيب َباليأسِ, والقنوطِ , وتخايلَ أمامهُ الشيطانُ , يقذف في قلبه الشبهةَ تلو الشبهة ؟! لماذا تشقى بهؤلاءِ المنحرفين , أتريدُ أن تصلحَ الكون ؟ أصلح نفسكَ أولًا ؟! أنت لا تصلحُ للدعوةِ, والنصيحةِ ؟! أو أنت أديتَ ما عليك , فأتركِ المجالَ لغيرك . وهكذا لا يزالُ الشيطانُ بذلك المسكينِ حتى يتخلى عن دعوتهِ , ويوهمهُ بأنه قد أدى واجبهَ , فيتقوقعُ على نفسهِ, ويرضى بالزرعِ , ويتبعُ أذنابَ البقر . وصنفٌ من الناس , قد رفع راية الإصلاح في مجتمعه كلهِ , وأخذ على عاتقهِ , أعباءَ الدعوةِ إلى الله , والأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ , فلما أعياهُ طولُ الطريقِ , وبعدُ الشقةِ , وابتلي بطاغوتٍ يخذلهُ, ويخوفه , ومستُه الفتنهُ, والبلاء , آثر السلامةَ, والعافية , وأخلدَ إلى الأرض بائعاً آخرتهَ بدنيا غيرهِ , ذلك هو الخسران المبين !
وبعد , فهذه جملةٌ مختصرة, مما يقع في حياةِ الناسِ , من الابتلاءاتِ, والفتِن يبتلى بها ربنا سبحانه الناس , ليميز الخبيثَ من الطيبِ , ويعلم المفسدَ من المصلح , وقويُ الإيمانِ من ضعيفةِ , ويظهرُ مرضى القلوبِ , وهو بذلك الابتلاء يقيم الحجة على العباد , ويمحصُ الصفوفَ ليُهلك من هلكَ عن بينهٍ ويحيا من حي عن بينه .
بارك الله لي, ولكم في القرآن العظيم ,,,
الخطبة الثانية
الحمدُ لله ِالملكُ الحقُ المبين , وأُصلي وأسلمُ على عبده, ورسوله, الصادقُ الأمين , وعلى أصحابه الأطهارُ الميامين , وعلينا, وعلى عباد الِله الصالحين , أما بعد:
فإن مما يُعينُ على المسلمِ , حين يواجهُ البلاءَ أياً كان نوعه , أن يتذكرَ أن ذلـك هو سنةُ الحياةِ, لا فـرق بين مسلمٍ وكـافر , قـال الله عن الكافرين : { فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ } ]النساء:104[ فيواجه ذلك الابتلاء , بالتسليمِ, والصبِر الجميلِ , وأن يعتقدَ جازماً أن ما أصابهُ لم يكن يخطئهْ , وما أخطأهُ لم يكن ليصيبهُ , وأنَّ أمرَ الله كان قدراً مقدوراً .
وعليه أن يتذكرَ حالُ السلفِ , وكيف أصابتهم البأساءُ , والضراءُ , وزُلزلُوا , وابتلوا بفقدِ الأهلِ, والولدِ , والأوطانِ, والأموالِ , وأصابهمُ الجوعُ, والفقرُ والعوزُ , فرضوا بما قسمهُ الُله لهم , وبـما قدرهُ عليهم, دون أن يتسخطوا , أو يتضجروا , وبأتِ جهودَ الشيطانِ في إغرائهم, وتوهينِ عزائمهم بالفشلِ الذريعِ , حتى كان فيهم , من إذا سلكَ فجاً , سلكَ الشيطانُ فجاً غيَر فجه , كلُ ذلك حين عظُمَ الإيمانُ في قلوبهم , وتمكنتِ العقيدةُ من نفوسهم , ووصلوا الغايةَ في تقديسِ ربهم , والتسليمَ لقضائهِ, وحكمتهِ , فرفعَ الُله عنهم البلاءَ , وأبدلهم بالخوفِ أمناً , وبالذلِ عزاً , وبسطَ لهم في أرزاقهم , وأتتهمُ الدنيا, وهي راغمةٌ , وفتحوا البلادَ , وأنفقوا كنوزَ فارسٍ والروم في سبيل الله .
ومما يعينُ على رفع البلاء , صدق اللجوءِ إلى الله تعالى , والاستعانةُ به وحده والتضرعُ بين يديه , والإلحاحُ في سؤالهِ سبحانه , وقبل ذلك, ومعه , إصلاحُ النفسِ بتزكيتها وتطهيرها من شؤم المعصية ,والتوبة من الذنوب كلها , فما نزل بلاء إلا بذنب , وما رفع إلا بتوبة , قال الله تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ]الشورى:30[ .
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ، ودرك الشقاء ، وسوء القضاء ، وشماتة الأعداء ...
الابتــــــــــــلاء
الدكتور رياض بن محمد المسيميري
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى