رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
كان الليل يسدل أستاره والظلام مخيماً في الحي كله ومن خلف البيوت كان يضيء مصباح خافت يرسل بحنان نوراً باهتاً حزيناً على تلك المرأة التي ضمتها الكآبة ولفها الحزن وغمرها الشعور بالوحدة وفقدان المعين ، لقد استغرق أولادها في نوم عميق وبقيت سارحة مع أفكارها غارقة في أحزانها تائهة لا تدري ماذا تفعل ؟ وكيف تخرج من تلك المشكلة التي رمتها في وسطها الأقدار ؟ وعصفت بها رياح الزمن وتركتها تصارع أمواج الحيرة وتغرق في بحر من الدموع .....
وطال الصمت ... وهي لا تزال شاردة الذهن مشغولة البال تحاول أن تستخلص بنات أفكارها لتصل إلى فكرة تنقذها مما هي فيه وتحملها إلى شواطئ الأمل وبر السلامة ....
وفجأة رن جرس الهاتف فارتعدت أوصالها لصوته الذي يكسر جدار الصمت ويحملها على الكلام وهي لا ترغب في التحدث مع أحد .. وبعد أن تكرر رنين الهاتف متوسلاً إليها أن تأخذ سماعته وتسمع شُكاته قامت إليه متثاقلة قبل أن يوقظ صوته النائمين لتجد أختها أمينة وتسأل عن سبب غيابها عن زيارتهم الأسرية .
لقد انتظرناك طويلاً وها قد انتهت الزيارة ولم تأتي ..
وحاولت أم خالد التحدث فلم تسعفها الكلمات ولم يساعدها صوتها الذي كان يخرج من أعماق حلقها – بصعوبة خافتاً – متقطعاً .
أنهت أمينة المكالمة لتترك أختها ترتاح بعد أن وعدتها أن تأتي إليها في صبيحة اليوم التالي ...
وطلع فجر الغد فتبدد الظلام وأشرقت الأرض بالضياء ولكن الدنيا بقيت مظلمة بعين أم خالد ولم تشعر بنور الشمس الساطع ولم تُجدد حياتها بميلاد يوم جديد ، فهي لم تنم بل بقيت حائرة الفكر ، شاردة الذهن كسيرة الفؤاد ..
وجاءت أختها أمينة تطلب منها أن تخبرها بسرعة عما يختلج صدرها ويكابد فؤادها ..
كان صوت أم خالد يغيب وهي تجهش بالبكاء وتروي لأختها ما رأته من ابنها خالد ...
وكانت دهشة الأخت كبيرة فسألت باستغراب ...
أيدخن وهو لا يزال في الثامنة من عمره ؟!! .. هذا غير معقول ... ألم يعلم ما حصل لأبيه من قبل ؟!
فتنهدت أم خالد تنهيدة عميقة وأجابت:إنه صغير السن لا يدرك حقيقة مرض أبيه فقد كان في السادسة من عمره حين مرض أبوه . أما أنا فلن أنسى ما حصل فقد كان زوجي يدخن باستمرار إلى أن أصابه سرطان الرئة الذي أودى بحياته كما تعلمين بعد مشوار طويل من العناء والمرض . كان لا ينام ولا يترك أحداً ينام من السعال والقطران الذي يملأ صدره ويسبب له ضيقاً في التنفس وتقشعاً مستمراً ...
آه لو تعلمين يا أختي كم كنت أتوسل إليه أن يترك التدخين رفقاً بصحته التي كانت تتدهور شيئاً فشيئاً ، ردت الأخت : نعم أذكر كم مرّةً نقل فيها إلى المستشفى ، وأذكر كم قضيت من ليال حزينة وأنت إلى جانبه – وهو يكابد الألم ويعاني الأوجاع القاسية – كنتِ لا تستريحين بل تتنقلين بين تربية الأطفال ومتابعتهم وبين مرافقته إلى المستشفى وهو يعاني من الالتهاب الشُعبي والكحة الشديدة وضيق التنفس .. وكم كان الأطباء ينصحونه في كل مرة بترك التدخين حفاظاً على صحته من أمراض أخطر قد تهدد حياته وكان لا يصغي إليهم بل يعود إلى الدخان فور إحساسه بالتحسن وخروجه من المستشفي ...
قالت أم خالد : نعم فهل أسمح – الآن – للآلام أن تعتصر قلب ولدي الغالي وتملأ صدره – وأنا التي أتألم لو وخزته شوكة في إصبعه ويؤرقني لو ارتفعت حرارته قليلاً - ؟؟ .
إنه صغير لا يقدر حجم المشكلة بل يريد أن يقلد ما يراه من الكبار ظناً منه أن كل ما يفعلونه مناسب لهم ويستحق التقليد . ولا يدري أن أباه كان مخطئاً ومفرطاً في صحته وماله ودينه وتربية أطفاله بدل أن يكون لهم أباً مثالياً وقدوة حسنة وأسوة جيدة يحتذى بها ... فقد كان دخانه يملأ الغرفة ويزعجنا جميعاً برائحته ، الكريهة ، وكان الأولاد يمرضون باستمرار نتيجة استنشاقهم دخان السجائر المتصاعد الذي يلوث الغرفة بسمومه المختلفة . وأذكر أيضاً يوم احترقت يد ولدي الصغير أمجد حين كان في حجر أبيه وأمسك بطرف السيجارة من الخلف فهرع أبو خالد لتبريد يد الطفل فوقعت السيجارة على السجادة فأحرقتها وكادت تشعل البيت لولا أن عناية الله تداركتنا بعد أن سيطر الذعر على الأولاد جميعاً ، وجعل الصغيرة – سعاد – تقف في مكانها راجفة القلب ..
أضافت أم خالد : وعيناها مغرقتان بالدموع ، كل هذا لا يذكر أمام ما أصبحنا نعانيه من الفقر وقلة ذات اليد في الآونة الأخيرة فقد كان المرض والإعياء يمنعان أبا خالد من ممارسة عمله بالشكل المطلوب فقل دخله وزاد ما صار ينفقه على الدخان فأخذت حاجتنا للغذاء والدواء تزداد ...
وبعد أن كنا نتصدق بما يزيد عن حاجتنا بتنا ننتظر ما يجود به المحسنون علينا بعد أن أقعد المرض أبا خالد فترات طويلة فكان يغلق متْجرهُ كلما زاد عليه الألم ... وأخذت آلامه تشتد ويضيق صدره ويخرج الدم الغزير مع تقشّعه وسعاله الذي كان يخيفنا ونشعر باقتراب أجله ، وكان لونه أصفراً وجسمه هزيلاً لقلة شهيته للطعام وهو لا يدري أنه أصيب بسرطان الرئة الذي بدت علاماته ، وأن النهاية قريبة وهو الموت المؤكد ..
سادت لحظات من الصمت قطعتها أمينة بصوت مخنوق وهي تمسح خدي أختها المبتلين بالدموع : رحم الله أبا خالد وبارك الله في أطفالك من بعده وأعانك على حمل مسؤولية تربيتهم ورعايتهم ...
أضافت أم خالد : لهذا كله سأعمل جاهدة لأقنع ولدي ألا يسير على نهج أبيه ولكن لا أدري كيف السبيل إلى ذلك ؟ هل ألجأ إلى ضربه وتعنيفه ومعاقبته أو إلى نصحه وإرشاده بلين وعطف ؟.
وهل يكفي هذا لتعديل سلوكه وإصلاح شأنه ؟ لقد احترت في أمري أرجوك أن تخبريني ما الطريقة المثلى لحل مثل هذه المشكلة ؟.
أبواب الحل
قالت أمينة : أني أرى أن تصارحيه بالحقيقة دون عنف أو عقاب لأن الضرب سوف يمنعه من التدخين أمامك فقط .... ولكن خذيه إلى جوارك وأرشديه إلى ضرر التدخين وسوء عواقبه كي يقتنع بتركه بدافع من نفسه ولا يعود إليه ثانية على الإطلاق .. واستدركت قائلة : لقد تذكرت ، هناك لجنة خاصة لمكافحة التدخين – وهي لجنة خيرية – من أولوياتها حماية النشء من الوقوع في براثن التدخين ومن محاسنها أنها تخاطب النشء على حسب مداركهم العقلية ، وتعرفهم بمخاطر التدخين ، ما رأيك أن تعرفي عنوانها وتأخذي خالداً إليها فربما تجدين الحل المثالي هناك ....
انفجرت أسارير أم خالد وتفتحت أمامها أبواب الأمل وقالت بشغف والفرحة تغمر فؤادها : هل ما تقولينه حقيقة يا أختي ؟. إن هذا لشيئ عظيم . الحمد لله على كرمه وإنعامه ...
أجابت أمينة : إن العالم كله أدرك بأن مشكلة التدخين مشكلة اجتماعية واقتصادية خطيرة على الفرد والمجتمع ، لذلك تسابقت الدول إلى تأسيس الجمعيات المناهضة للتدخين مساهمة منها في علاج المدخنين وحماية غير المدخنين ، وبث الوعي الصحي لديهم لوقايتهم من أخطار التدخين ...
شكرت أم خالد أختها أمينة على نصائحها القيمة وودعتها وأخبرتها أنها ستوافيها بما سيجد معها في مشكلتها . وتنفست الصعداء وشعرت بالراحة والطمأنينة بعد أن عانت من القلق والاضطراب واستغرقت في نوم عميق لم تستيقظ منه إلا على صوت جرس الباب ، فقد أتى الأولاد من المدرسة ...
وبعد الغداء جلست مع ابنها خالد وصارحته بأنها اكتشفت أنه يدخن .. حاول خالد في البداية أن ينكر علاقته بالسجائر ولكنه اعترف أمام ما رأته عيناه من رقة أمه وشفقتها وخوفها عليه فأخبرته ببعض أضرار التدخين خاصة على نموه وتحصيله الدراسي ونشاطه البدني .
عندها أطرق خالد وقد دمعت عيناه نادماً وأدرك خطأه ووعد أمه ألا يعود إلى التدخين ثانية فقالت له : ما رأيك أن نراجع لجنة مكافحة التدخين لمساعدتك على تركه بشكل نهائي ؟ فأومأ برأسه موافقاً ..
لجنة مكافحة التدخين
وبعد العصر ذهبت أم خالد وابنها إلى اللجنة حيث قابلا موجه اللجنة الذي رحب بهم وبدأ يشرح لخالد عن تركيب الدخان وأضراره الصحية مبيناً ذلك . بما لديه من صور حقيقية تمثل أمراض التدخين وبين أضراره الاجتماعية والحكم الشرعي له وكيفية تركه وأن أساس ذلك القناعة التامة بالإقلاع عنه التي تنتج من المعرفة الحقيقة لخطره ..
كان خالد يستمع باهتمام لكلمات الموجه ثم قال : الآن عرفت حقيقة الدخان المزيفة بعد أن كنت جاهلاً بأخطاره فقد كان الأصدقاء يزينونه بأنه يجعلني رجلاً قوياً سعيداً ، فتبين لي أن كل ما يقولونه خطأ وكذب .....
قال الموجه : ( لقد وصلنا إلى بداية الطريق الصحيح وهي القناعة والنية بترك التدخين بشكل نهائي وهذا هو الأساس في العلاج ) .
وسأخبرك ببعض النصائح التي تساعدك على التخلص من هذه العادة السيئة ...
قالت الأم : جزاك الله خيراً يا أستاذ ، أخبره بها ليتخلص من التدخين بسرعة ..
أجاب الموجه : عليك التوقف عن التدخين فوراً دون تدريج والابتعاد عن أصدقائك المدخنين ، لأنهم سيذكرونك بالدخان ، ثم حاول تسلية نفسك ببعض المسليات ( الفصفص اللبان ) واحمل معك دائماً مسواكاً وتناول السوائل بكثرة كلما فكرت في الدخان أيضاً عليك ممارسة الرياضة لتُسليك عن التدخين في البداية ، أما الاستمرار عليها فهو يؤدي إلى تنظيف صدرك من القطران المترسب فيه وهو القارّ ذاته الذي يوضع على الطريق .
فهل ترضى لصدرك الصغير أن ينوء بحمل الأوساخ والقطران – وأنت في هذا السن الذي تحتاج فيه إلى رئتيك لتأمين الأكسجين اللازم للنمو والنشاط ؟ واستأنف الموجه قوله : ما رأيك يا خالد أن أرسلك للطبيب ليكشف عن صدرك فهز خالد رأسه بالموافقة ، فذهب خالد – وهو مطمئن – إلى الطبيب ، وقام الطبيب بقياس وزنه وطوله ثم أدخل هذه المعلومات وغيرها في جهاز وظائف الرئة بجواره ، وقام بفحص صدر خالد ، فتبين أن صدره – والحمد لله – لم يتأثر تأثراً بالغاً لحداثة عهده بالتدخين .
بشائر النجاح
ثم اصطحبه الطبيب إلى غرفة العلاج فاستقبله أخصائي العلاج وأجلسه على السرير ووضع بعض الأسلاك على أذنيه ويديه ، وكانت الأسلاك تتصل بجهاز الملامس الفضي الذي بدأ يشتغل ليصدر أصوات وذبذبات متقطعة وارتاح خالد لمدة نصف ساعة على هذا الوضع ، وهدأت أعصابه وشاهد خلالها ( برنامجاً ) عن التدخين كان غنياً بالحقائق والصور الواضحة المقنعة لترك التدخين ...
فرحت الأم لاستجابة ابنها للعلاج واقتناعه ، وبدأت غيوم حزنها تتلاشى بحلول شعاع الأمل بالشفاء العاجل والانتهاء من هذه المشكلة ..
وأوصاه الطبيب بالتردد على العيادة لمدة أسبوع لاستكمال العلاج واتباع النصائح بكل دقةٍ .. غادر خالد وأمه بعد أن وعد الموجه بمتابعة العلاج .
نصيحة صادقة
وهكذا بدأت السعادة تأخذ طريقها إلى أسرة أم خالد وهدأ فؤادها الذي كان يحترق مع كل سيجارة يدخنها ولدها .
وآلت على نفسها أن تقدم النصائح للأسر القريبة منها لكي لا تعيش التجربة المرة التي عاشتها ، وكانت تطلب من كل أبوين أن يكونا مثلاً للقدوة الحسنة ، لأن الطفل ينشأ على عادات أهله ويحاول تقليد سلوكياتهم ، فإن هما علماه الفضائل والعادات الحسنة وغرسا في قلبه حب الخير والابتعاد عن كل ضار مؤذٍ كان له ذلك حصناً يحميه فيما بعد ... كما أن على الوالدين ملاحظة أي تصرف أو سلوك خاطئ وسرعة إصلاحه وتداركه ، ويجب أن يعرفا أصدقاء أولادهم ، هل هم على خُلق سليم أو لا ؟ لأن (( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل )) [ حديث شريف ] ...
ومن المهم أيضاً متابعة مشكلات الأبناء وهمومهم وعلاجها أولاً بأول قبل استفحالها لسهولة ذلك في البداية ، فكم من حريق أُخمد في بدايته ولو لا ذلك لانتشر شرره واستفحل خطره وعظمت خسائره ، كما أن التعاون مع المدرسة له الأهمية البالغة في تربية الأبناء ورعايتهم وتعديل سلوكهم إلى الأفضل ، فالمدرسة – بمدرسيها ومرشدها – للتربية والتعليم بأن واحد ولا يقتصر دورهم على التعليم فقط ..
هذه القصة واقعية
تتحدث عن أسرة عانت من مشكلة التدخين بدءاً برب الأسرة الذي مات بعواقب التدخين ، ثم تبعه ابنه في هذه العادة فتداركته الأم الحنون وبذلت كل ما في وسعها لعلاج ابنها وحمايته من المرض بمساعدة لجنة مكافحة التدخين .
وحريٌّ بكل أولياء الأمور أن يكونوا قدوة لأبنائهم في كل خير ، وأن يتحملوا مسؤولياتهم على الوجه الأكبر تجاه ذويهم ومن يتولون رعايتهم لحمايتهم من العادات السيئة وسوء السلوك ...
مقتطفات
بالإضافة لما يحتويه التبغ بكل أنواعه من نيكوتين وغازات أخرى ، فقد ثبت علمياً أنه يحتوي على مواد كيميائية مسرطنة قد تؤدي إلى تحول الخلايا الطبيعة في الجسم إلى خلايا سرطانية ( خاصة إذا كان الجسم مؤهلاً لذلك ) .
حقائق علمية :
• التدخين هو السبب في 30% من أمراض السرطان و 90% من سرطان الرئة ، كما أنه السبب الرئيس للوفاة عند الرجال حيث فاق سرطان الثدي بصفته السبب الرئيس للوفاة عند النساء .
• هناك علاقة واضحة بين الفم والشفتين واللسان والحلق واستخدام السجائر والغليون والسيجار ومضغ التبغ ، إن مدخني الغليون والسجائر معرضون للإصابة بسرطان الفم والمريء بمعدل يزيد 3-5 مرات عن غير المدخين .
• من الواضح أن سرطان الشفة واللسان له علاقة بتدخين الغليون والسيجار .
• التدخين هو السبب الرئيس للإصابة بسرطان الحنجرة ، الأمر الذي قد يفقد الشخص صوته وربما يؤدي إلى الوفاه .
كيف يمكنك الإقلاع عن التدخين ؟
تستطيع ذلك ، لا تعتقد أنه قد فات الأوان للإقلاع عن التدخين لأن الضرر قد حصل ، هناك دلائل طبية أثبتت عكس ذلك إذ أن جسمك يبدأ بالتعافي بعد الإقلاع عن التدخين مباشرة .
قد يبدو اتخاذ القرار صعباً ،ـ لذا توقف لمدة أسبوع ( حاول أن تكون قوي الإرادة ) . بعد النجاح حتماً ستشعر بالفرق ، حاول أسبوعاً آخر .
وهكذا حتى تتمكن من التخلص من هذه العادة ، العقبتان الرئيسيتان هما الإدمان على النيكوتين ، والثانية هي عادة التدخين .
المصدر : مستشفي الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث
معاناة أم
الدكتور / محمد عزت الطباع
وطال الصمت ... وهي لا تزال شاردة الذهن مشغولة البال تحاول أن تستخلص بنات أفكارها لتصل إلى فكرة تنقذها مما هي فيه وتحملها إلى شواطئ الأمل وبر السلامة ....
وفجأة رن جرس الهاتف فارتعدت أوصالها لصوته الذي يكسر جدار الصمت ويحملها على الكلام وهي لا ترغب في التحدث مع أحد .. وبعد أن تكرر رنين الهاتف متوسلاً إليها أن تأخذ سماعته وتسمع شُكاته قامت إليه متثاقلة قبل أن يوقظ صوته النائمين لتجد أختها أمينة وتسأل عن سبب غيابها عن زيارتهم الأسرية .
لقد انتظرناك طويلاً وها قد انتهت الزيارة ولم تأتي ..
وحاولت أم خالد التحدث فلم تسعفها الكلمات ولم يساعدها صوتها الذي كان يخرج من أعماق حلقها – بصعوبة خافتاً – متقطعاً .
أنهت أمينة المكالمة لتترك أختها ترتاح بعد أن وعدتها أن تأتي إليها في صبيحة اليوم التالي ...
وطلع فجر الغد فتبدد الظلام وأشرقت الأرض بالضياء ولكن الدنيا بقيت مظلمة بعين أم خالد ولم تشعر بنور الشمس الساطع ولم تُجدد حياتها بميلاد يوم جديد ، فهي لم تنم بل بقيت حائرة الفكر ، شاردة الذهن كسيرة الفؤاد ..
وجاءت أختها أمينة تطلب منها أن تخبرها بسرعة عما يختلج صدرها ويكابد فؤادها ..
كان صوت أم خالد يغيب وهي تجهش بالبكاء وتروي لأختها ما رأته من ابنها خالد ...
وكانت دهشة الأخت كبيرة فسألت باستغراب ...
أيدخن وهو لا يزال في الثامنة من عمره ؟!! .. هذا غير معقول ... ألم يعلم ما حصل لأبيه من قبل ؟!
فتنهدت أم خالد تنهيدة عميقة وأجابت:إنه صغير السن لا يدرك حقيقة مرض أبيه فقد كان في السادسة من عمره حين مرض أبوه . أما أنا فلن أنسى ما حصل فقد كان زوجي يدخن باستمرار إلى أن أصابه سرطان الرئة الذي أودى بحياته كما تعلمين بعد مشوار طويل من العناء والمرض . كان لا ينام ولا يترك أحداً ينام من السعال والقطران الذي يملأ صدره ويسبب له ضيقاً في التنفس وتقشعاً مستمراً ...
آه لو تعلمين يا أختي كم كنت أتوسل إليه أن يترك التدخين رفقاً بصحته التي كانت تتدهور شيئاً فشيئاً ، ردت الأخت : نعم أذكر كم مرّةً نقل فيها إلى المستشفى ، وأذكر كم قضيت من ليال حزينة وأنت إلى جانبه – وهو يكابد الألم ويعاني الأوجاع القاسية – كنتِ لا تستريحين بل تتنقلين بين تربية الأطفال ومتابعتهم وبين مرافقته إلى المستشفى وهو يعاني من الالتهاب الشُعبي والكحة الشديدة وضيق التنفس .. وكم كان الأطباء ينصحونه في كل مرة بترك التدخين حفاظاً على صحته من أمراض أخطر قد تهدد حياته وكان لا يصغي إليهم بل يعود إلى الدخان فور إحساسه بالتحسن وخروجه من المستشفي ...
قالت أم خالد : نعم فهل أسمح – الآن – للآلام أن تعتصر قلب ولدي الغالي وتملأ صدره – وأنا التي أتألم لو وخزته شوكة في إصبعه ويؤرقني لو ارتفعت حرارته قليلاً - ؟؟ .
إنه صغير لا يقدر حجم المشكلة بل يريد أن يقلد ما يراه من الكبار ظناً منه أن كل ما يفعلونه مناسب لهم ويستحق التقليد . ولا يدري أن أباه كان مخطئاً ومفرطاً في صحته وماله ودينه وتربية أطفاله بدل أن يكون لهم أباً مثالياً وقدوة حسنة وأسوة جيدة يحتذى بها ... فقد كان دخانه يملأ الغرفة ويزعجنا جميعاً برائحته ، الكريهة ، وكان الأولاد يمرضون باستمرار نتيجة استنشاقهم دخان السجائر المتصاعد الذي يلوث الغرفة بسمومه المختلفة . وأذكر أيضاً يوم احترقت يد ولدي الصغير أمجد حين كان في حجر أبيه وأمسك بطرف السيجارة من الخلف فهرع أبو خالد لتبريد يد الطفل فوقعت السيجارة على السجادة فأحرقتها وكادت تشعل البيت لولا أن عناية الله تداركتنا بعد أن سيطر الذعر على الأولاد جميعاً ، وجعل الصغيرة – سعاد – تقف في مكانها راجفة القلب ..
أضافت أم خالد : وعيناها مغرقتان بالدموع ، كل هذا لا يذكر أمام ما أصبحنا نعانيه من الفقر وقلة ذات اليد في الآونة الأخيرة فقد كان المرض والإعياء يمنعان أبا خالد من ممارسة عمله بالشكل المطلوب فقل دخله وزاد ما صار ينفقه على الدخان فأخذت حاجتنا للغذاء والدواء تزداد ...
وبعد أن كنا نتصدق بما يزيد عن حاجتنا بتنا ننتظر ما يجود به المحسنون علينا بعد أن أقعد المرض أبا خالد فترات طويلة فكان يغلق متْجرهُ كلما زاد عليه الألم ... وأخذت آلامه تشتد ويضيق صدره ويخرج الدم الغزير مع تقشّعه وسعاله الذي كان يخيفنا ونشعر باقتراب أجله ، وكان لونه أصفراً وجسمه هزيلاً لقلة شهيته للطعام وهو لا يدري أنه أصيب بسرطان الرئة الذي بدت علاماته ، وأن النهاية قريبة وهو الموت المؤكد ..
سادت لحظات من الصمت قطعتها أمينة بصوت مخنوق وهي تمسح خدي أختها المبتلين بالدموع : رحم الله أبا خالد وبارك الله في أطفالك من بعده وأعانك على حمل مسؤولية تربيتهم ورعايتهم ...
أضافت أم خالد : لهذا كله سأعمل جاهدة لأقنع ولدي ألا يسير على نهج أبيه ولكن لا أدري كيف السبيل إلى ذلك ؟ هل ألجأ إلى ضربه وتعنيفه ومعاقبته أو إلى نصحه وإرشاده بلين وعطف ؟.
وهل يكفي هذا لتعديل سلوكه وإصلاح شأنه ؟ لقد احترت في أمري أرجوك أن تخبريني ما الطريقة المثلى لحل مثل هذه المشكلة ؟.
أبواب الحل
قالت أمينة : أني أرى أن تصارحيه بالحقيقة دون عنف أو عقاب لأن الضرب سوف يمنعه من التدخين أمامك فقط .... ولكن خذيه إلى جوارك وأرشديه إلى ضرر التدخين وسوء عواقبه كي يقتنع بتركه بدافع من نفسه ولا يعود إليه ثانية على الإطلاق .. واستدركت قائلة : لقد تذكرت ، هناك لجنة خاصة لمكافحة التدخين – وهي لجنة خيرية – من أولوياتها حماية النشء من الوقوع في براثن التدخين ومن محاسنها أنها تخاطب النشء على حسب مداركهم العقلية ، وتعرفهم بمخاطر التدخين ، ما رأيك أن تعرفي عنوانها وتأخذي خالداً إليها فربما تجدين الحل المثالي هناك ....
انفجرت أسارير أم خالد وتفتحت أمامها أبواب الأمل وقالت بشغف والفرحة تغمر فؤادها : هل ما تقولينه حقيقة يا أختي ؟. إن هذا لشيئ عظيم . الحمد لله على كرمه وإنعامه ...
أجابت أمينة : إن العالم كله أدرك بأن مشكلة التدخين مشكلة اجتماعية واقتصادية خطيرة على الفرد والمجتمع ، لذلك تسابقت الدول إلى تأسيس الجمعيات المناهضة للتدخين مساهمة منها في علاج المدخنين وحماية غير المدخنين ، وبث الوعي الصحي لديهم لوقايتهم من أخطار التدخين ...
شكرت أم خالد أختها أمينة على نصائحها القيمة وودعتها وأخبرتها أنها ستوافيها بما سيجد معها في مشكلتها . وتنفست الصعداء وشعرت بالراحة والطمأنينة بعد أن عانت من القلق والاضطراب واستغرقت في نوم عميق لم تستيقظ منه إلا على صوت جرس الباب ، فقد أتى الأولاد من المدرسة ...
وبعد الغداء جلست مع ابنها خالد وصارحته بأنها اكتشفت أنه يدخن .. حاول خالد في البداية أن ينكر علاقته بالسجائر ولكنه اعترف أمام ما رأته عيناه من رقة أمه وشفقتها وخوفها عليه فأخبرته ببعض أضرار التدخين خاصة على نموه وتحصيله الدراسي ونشاطه البدني .
عندها أطرق خالد وقد دمعت عيناه نادماً وأدرك خطأه ووعد أمه ألا يعود إلى التدخين ثانية فقالت له : ما رأيك أن نراجع لجنة مكافحة التدخين لمساعدتك على تركه بشكل نهائي ؟ فأومأ برأسه موافقاً ..
لجنة مكافحة التدخين
وبعد العصر ذهبت أم خالد وابنها إلى اللجنة حيث قابلا موجه اللجنة الذي رحب بهم وبدأ يشرح لخالد عن تركيب الدخان وأضراره الصحية مبيناً ذلك . بما لديه من صور حقيقية تمثل أمراض التدخين وبين أضراره الاجتماعية والحكم الشرعي له وكيفية تركه وأن أساس ذلك القناعة التامة بالإقلاع عنه التي تنتج من المعرفة الحقيقة لخطره ..
كان خالد يستمع باهتمام لكلمات الموجه ثم قال : الآن عرفت حقيقة الدخان المزيفة بعد أن كنت جاهلاً بأخطاره فقد كان الأصدقاء يزينونه بأنه يجعلني رجلاً قوياً سعيداً ، فتبين لي أن كل ما يقولونه خطأ وكذب .....
قال الموجه : ( لقد وصلنا إلى بداية الطريق الصحيح وهي القناعة والنية بترك التدخين بشكل نهائي وهذا هو الأساس في العلاج ) .
وسأخبرك ببعض النصائح التي تساعدك على التخلص من هذه العادة السيئة ...
قالت الأم : جزاك الله خيراً يا أستاذ ، أخبره بها ليتخلص من التدخين بسرعة ..
أجاب الموجه : عليك التوقف عن التدخين فوراً دون تدريج والابتعاد عن أصدقائك المدخنين ، لأنهم سيذكرونك بالدخان ، ثم حاول تسلية نفسك ببعض المسليات ( الفصفص اللبان ) واحمل معك دائماً مسواكاً وتناول السوائل بكثرة كلما فكرت في الدخان أيضاً عليك ممارسة الرياضة لتُسليك عن التدخين في البداية ، أما الاستمرار عليها فهو يؤدي إلى تنظيف صدرك من القطران المترسب فيه وهو القارّ ذاته الذي يوضع على الطريق .
فهل ترضى لصدرك الصغير أن ينوء بحمل الأوساخ والقطران – وأنت في هذا السن الذي تحتاج فيه إلى رئتيك لتأمين الأكسجين اللازم للنمو والنشاط ؟ واستأنف الموجه قوله : ما رأيك يا خالد أن أرسلك للطبيب ليكشف عن صدرك فهز خالد رأسه بالموافقة ، فذهب خالد – وهو مطمئن – إلى الطبيب ، وقام الطبيب بقياس وزنه وطوله ثم أدخل هذه المعلومات وغيرها في جهاز وظائف الرئة بجواره ، وقام بفحص صدر خالد ، فتبين أن صدره – والحمد لله – لم يتأثر تأثراً بالغاً لحداثة عهده بالتدخين .
بشائر النجاح
ثم اصطحبه الطبيب إلى غرفة العلاج فاستقبله أخصائي العلاج وأجلسه على السرير ووضع بعض الأسلاك على أذنيه ويديه ، وكانت الأسلاك تتصل بجهاز الملامس الفضي الذي بدأ يشتغل ليصدر أصوات وذبذبات متقطعة وارتاح خالد لمدة نصف ساعة على هذا الوضع ، وهدأت أعصابه وشاهد خلالها ( برنامجاً ) عن التدخين كان غنياً بالحقائق والصور الواضحة المقنعة لترك التدخين ...
فرحت الأم لاستجابة ابنها للعلاج واقتناعه ، وبدأت غيوم حزنها تتلاشى بحلول شعاع الأمل بالشفاء العاجل والانتهاء من هذه المشكلة ..
وأوصاه الطبيب بالتردد على العيادة لمدة أسبوع لاستكمال العلاج واتباع النصائح بكل دقةٍ .. غادر خالد وأمه بعد أن وعد الموجه بمتابعة العلاج .
نصيحة صادقة
وهكذا بدأت السعادة تأخذ طريقها إلى أسرة أم خالد وهدأ فؤادها الذي كان يحترق مع كل سيجارة يدخنها ولدها .
وآلت على نفسها أن تقدم النصائح للأسر القريبة منها لكي لا تعيش التجربة المرة التي عاشتها ، وكانت تطلب من كل أبوين أن يكونا مثلاً للقدوة الحسنة ، لأن الطفل ينشأ على عادات أهله ويحاول تقليد سلوكياتهم ، فإن هما علماه الفضائل والعادات الحسنة وغرسا في قلبه حب الخير والابتعاد عن كل ضار مؤذٍ كان له ذلك حصناً يحميه فيما بعد ... كما أن على الوالدين ملاحظة أي تصرف أو سلوك خاطئ وسرعة إصلاحه وتداركه ، ويجب أن يعرفا أصدقاء أولادهم ، هل هم على خُلق سليم أو لا ؟ لأن (( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل )) [ حديث شريف ] ...
ومن المهم أيضاً متابعة مشكلات الأبناء وهمومهم وعلاجها أولاً بأول قبل استفحالها لسهولة ذلك في البداية ، فكم من حريق أُخمد في بدايته ولو لا ذلك لانتشر شرره واستفحل خطره وعظمت خسائره ، كما أن التعاون مع المدرسة له الأهمية البالغة في تربية الأبناء ورعايتهم وتعديل سلوكهم إلى الأفضل ، فالمدرسة – بمدرسيها ومرشدها – للتربية والتعليم بأن واحد ولا يقتصر دورهم على التعليم فقط ..
هذه القصة واقعية
تتحدث عن أسرة عانت من مشكلة التدخين بدءاً برب الأسرة الذي مات بعواقب التدخين ، ثم تبعه ابنه في هذه العادة فتداركته الأم الحنون وبذلت كل ما في وسعها لعلاج ابنها وحمايته من المرض بمساعدة لجنة مكافحة التدخين .
وحريٌّ بكل أولياء الأمور أن يكونوا قدوة لأبنائهم في كل خير ، وأن يتحملوا مسؤولياتهم على الوجه الأكبر تجاه ذويهم ومن يتولون رعايتهم لحمايتهم من العادات السيئة وسوء السلوك ...
مقتطفات
بالإضافة لما يحتويه التبغ بكل أنواعه من نيكوتين وغازات أخرى ، فقد ثبت علمياً أنه يحتوي على مواد كيميائية مسرطنة قد تؤدي إلى تحول الخلايا الطبيعة في الجسم إلى خلايا سرطانية ( خاصة إذا كان الجسم مؤهلاً لذلك ) .
حقائق علمية :
• التدخين هو السبب في 30% من أمراض السرطان و 90% من سرطان الرئة ، كما أنه السبب الرئيس للوفاة عند الرجال حيث فاق سرطان الثدي بصفته السبب الرئيس للوفاة عند النساء .
• هناك علاقة واضحة بين الفم والشفتين واللسان والحلق واستخدام السجائر والغليون والسيجار ومضغ التبغ ، إن مدخني الغليون والسجائر معرضون للإصابة بسرطان الفم والمريء بمعدل يزيد 3-5 مرات عن غير المدخين .
• من الواضح أن سرطان الشفة واللسان له علاقة بتدخين الغليون والسيجار .
• التدخين هو السبب الرئيس للإصابة بسرطان الحنجرة ، الأمر الذي قد يفقد الشخص صوته وربما يؤدي إلى الوفاه .
كيف يمكنك الإقلاع عن التدخين ؟
تستطيع ذلك ، لا تعتقد أنه قد فات الأوان للإقلاع عن التدخين لأن الضرر قد حصل ، هناك دلائل طبية أثبتت عكس ذلك إذ أن جسمك يبدأ بالتعافي بعد الإقلاع عن التدخين مباشرة .
قد يبدو اتخاذ القرار صعباً ،ـ لذا توقف لمدة أسبوع ( حاول أن تكون قوي الإرادة ) . بعد النجاح حتماً ستشعر بالفرق ، حاول أسبوعاً آخر .
وهكذا حتى تتمكن من التخلص من هذه العادة ، العقبتان الرئيسيتان هما الإدمان على النيكوتين ، والثانية هي عادة التدخين .
المصدر : مستشفي الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث
معاناة أم
الدكتور / محمد عزت الطباع
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى