رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الأصل في الزواج بناء حياة سعيدة مستقرَّة مفعمة بالحب مزدانة بالتفاهم، فتصبح الأسرة التي خرجت من بذرتين اتحدتا نبتة شامخة بسوقها مورقة بأوراقها مزهرة بزهرها. وبتشابك أغصان تلك الشجرة المباركة يظهر فيء بارد جميل يتخلله بصيص من ضوء الشمس، فتغدو لوحة مبدعة. إنَّ حال تلك الشجرة بتشابك أغصانها حال تلاحم أفراد الأسرة بدءاً من الزوج والزوجة وانتهاءً بالأبناء إخوة وأخوات.
هذا هو الأصل في الزواج.
في الماضي كان المجتمع كلّه يغرِّد كعصافير الدوري فرحاً مستبشراً بخطبة فلان وفلانة وزواج فلان وفلانة، وبمثل هذا الانبساط والسرور يحدث الضيق وتظهر الهموم بطلاق فلان وفلانة من النَّاس حتى ولو لم يكن هناك معرفة بهما. الطلاق الواحد كان يربك عدداً كثيراً من الأسر، وتزداد حالة الهمّ والمشاركة الوجدانية إذا خلَّف ذلك الزواج المنهار أولاداً.
حالة طلاق واحدة كانت تهزُّ المجتمع، تجعله يتحسَّب ويحوقل؛ لأنَّ درجة إدراكه لخطورة الأمر تبدو عالية، ورغم أنَّ كثيراً من حالات الطلاق في الماضي لم تكن تحدث إلاَّ بعد محاولات مستميتة لرأب ما تصدع من بنيان الأسرة، ورغم أنَّ كثيراً من الحالات لم تكن لتحدث أيضاً إلاَّ في أصعب المواقف، فهذا رجل لا يصلي، وهذا رجل سكير لم يرتدع، وعلى قلَّة هذه الحالات كان الطلاق نادراً، أو هو في بعض الأزمنة والأحايين معدوم، أمَّا من جهة الأسباب المتعلقة بالمرأة، فما كان المجتمع يفصح عنها غالباً، ستراً لها ورغبةً في أن يأتيها رزق آخر أو زوج آخر، وكانت الكلمة الدارجة "فلانة تركت أو تركها زوجها، الله يستر علينا وعليها".
لم يكن معهوداً أن يكون عدم إنجاب المرأة سبباً في الطلاق، إذ كان الزوج يتزوَّج ثانية أو ثالثة أو رابعة ولا يترك الأولى، بل تبقى في ذمَّته معزّزة مكرَّمة.
ولم يكن معهوداً أن يكون ضعف حال الرجل وقلة ذات يده سبباً في طلب الطلاق، إذ يُعدُّ ذلك الطلب عيباً في المرأة وسوءاً في تربيتها، وهذا لم يحدث إلا نادراً.
ولم يكن معهوداً أن يكون طلب الاستقلال عن بيت العائلة "الحمولة" سبباً في الطلاق؛ لأنَّ ذلك الطلب لم يكن موجوداً، إذ كان البيت على اتساعه أو ضيقه يشمل الأسرة كلها الجد والجدَّة، الأم، الأب، الأولاد، وربما تزوَّج من الأولاد من تزوَّج وسكن معهم في نفس المنزل يحويهم جميعاً.
ولم يكن معهوداً أن يكون تذمُّر المرأة من أم الزوج أو والد الزوج سبباً في الانفصال؛ ذلك أنَّها كانت تعد نفسها منذ قدومها لهذا البيت "ابنة لهما" توليهما رعاية قصوى وتقوم راضية بخدمتهما، ويزداد اهتمامها بهما كلّما تقدَّما في السن، وعلى قدر ما تقدِّم الزوجة لوالدي زوجها من معروف تزداد منزلتها عند زوجها.
ولم يكن إرهاق المرأة بأعمال المنزل سبباً في طلب الطلاق، وبالرغم من ندرة وجود الخادمات أو انعدام وجودهن في المنازل، ورغم قيام المرأة بكل الأعمال المنزلية بدءاً من غسل الملابس وكيِّها وكنس وترتيب المنزل إلى طبخ الطعام، وانتهاءً برعاية طلبات الزوج وتربية الأولاد، إلا أنَّ ذلك كله لم يكن سبباً يستدعي أن تصرخ المرأة طلباً للفكاك، بل كانت تعمل راضية قانعة محتسبة الأجر.
ولم يكن معهوداً أن يكون شكل المرأة أو الرجل سبباً في الطلاق؛ لأنَّ القناعة ملأت قلبيهما، فالرجل قد رضي باختيار أمّه أو أخته والمرأة رضيت بموافقة ولي أمرها، ولم يكن الشكل الهدف النهائي الذي تسقط عنده كل الخيارات الأخرى، كان الرضا بالحل الوسط هو الذي يطغى، فلا تطرُّف في هذه المسألة، وكلا الطرفين يرضيان بالمقسوم.
ولم يكن معهوداً أن يكون راتب المرأة سبباً في الطلاق؛ لأنَّه نادراً ما كان لها دخل، وإذا كان فالذي يحدث أن توظِّف المرأة ما بيدها من دخل لصالح بيتها وأسرتها، فتلك التي تغرس أو تحرث أو تخدم في بيوت جيرانها أو تخيط أو تطحن أو تعلِّم القرآن أو القراءة أو تحلب أو تبيع ما أنتجته يدها من أعمال يدوية... إلخ.. لم تكن تدّخر ما تملكه لها وحدها، ولم تكن تنفرد به؛ لأنَّها تدرك أنَّ الزواج ليس شركة مالية "هذا لي وهذا لك" "هذه أسهمي وتلك أسهمك"، بل كانت ترى الزواج مؤسسة اجتماعية هي تعني هو، وكلاهما يعنيان نحن، ولم تكن "الأنا" موجودة آنذاك.
.. ولم يكن معهوداً كذلك أن تتهاوى البيوت وتستحيل نارها رماداً لغياب ربِّ الأسرة عن بيته شهوراً، بل سنوات في سعيه لطلب الرزق.
فقد كان منتشراً في بعض المناطق أن يسافر الزوج من منطقته إلى بلاد بعيدة.. وكانت مسافة السفر ذهاباً تأخذ زمناً يقدَّر ويُقاس بالشهور وليس بالساعات.. ومثلها طريق العودة، وحين يغيب الزوج عن منزله شهوراً، بل سنوات، تمكث المرأة في منزلها راعية لبيت زوجها، حافظة لفراشه، ساهرة على أولادهما، تكون لهم أباً وأمَّاً في الوقت نفسه، تشتعل في صدرها جذوة الشوق لزوجها والد أبنائها، تلوح بالأمل بين فينة وأخرى على طيفه يمر، تطوي الأيام تلو الأيام، والشهور في إثر الشهور، والسنوات تجرُّ خلفها السنوات، وليس لها إلاَّ راية الوفاء ترفعها على سارية الذكرى.
وحين تقترب عودة الزوج، ربّ الأسرة "أبو العيال" حينئذ لا تسأل عن الشوق الذي يعمر قلب الزوجة، سنوات مضت حافلة بما فيها من ذكرى وشجن، فهذا الولد الذي تركه يحبو هل سيعرفه وقد غدا صبياً عتياً؟ وتلك الزوجة التي تركها شابة نضرة هل سيعرفها وقد خطَّ البعد والفرقة تعاريجهما على وجهها؟
ورغم مرور تلك السنين، إلاَّ أنَّ الزوجة لم تكن تفكِّر مجرَّد التفكير في الطلاق، بل تكون دوماً بين عامين، عام يمضي لا تزال ذكرى زوجها عابقة فيه، وسنة ستأتي علَّها تكون آخر مرحلة من مراحل السفر، حين يرخي الليل سدوله، وينوخ الجمل بحمله ويلتقي البحر بأشعة الشمس الآفلة، حين تنطفئ جذوة الشوق لتشتعل جذوة اللقاء والوفاء، حينها تنسى الزوجة كل تلك السنين تغدو لحظة عابرة.. ومضة شهاب في سماء الانتظار.
وكان الزوج يحفظ للمرأة وفاءها ويقدِّر لها صبرها، ورغم أنَّ بعض الأزواج ربَّما قد يكون له أسرة أخرى في غربته، إلاَّ أنَّ ذلك لا تعده المرأة خيانة لها؛ لأنَّها تدرك أنَّ الرجل لا يستغني عن أسرة وزوجة تعفَّه في سفره وفي حلّه، وتعلم أنَّ ذلك البعد لمصلحة الأسرة التي يعمران بنيانها، ويشدَّان سقفها بحبال الودّ والإخلاص بعضهما لبعض، وأنَّ لحظات البعد، عفواً سنوات السفر، (مُكره أخاك فيها لا بطل)، وأنَّ الأمل باللقاء والعودة أقوى من أفكار الفرقة والافتراق والطلاق.
عفواً، يبدو أنَّني استرسلت في تلك الخاطرة التي اقتحمت عليّ أفكاري، فإنَّ ما كن يفعلنه نساؤنا في الماضي من ركوب أصعب أنواع الصبر، أمرٌ يعجز القلم أن يمضي دون أن يسطِّره فخراً بهنّ لصبرهن ووفائهن، وفخراً برجالنا الذين لم تكن تثنيهم قلَّة مصادر الرزق في ديارهم، فيسعون في مناكبها قاطعين المفاوز والوديان والجبال سعياً وراء اللقمة الحلال.
أعود.. ولم يكن معهوداً أن تشترط المرأة أن تستقر في نفس مدينة أهلها أو حيِّهم، فقد تتزوَّج المرأة ويمضي بها زوجها إلى منطقة بعيدة عن حيِّها، أماكن نشأتها، لعبها، طفولتها، فتمضي وهي مودِّعة أهلها وداع من لا يعتقد بلقاء.. أقول: لم يكن منتشراً أنَّه إذا لم يتم شرطها أن تطلب الطلاق؛ لأنَّها تدرك أنَّ بعدها عن أهلها لا يعني نهاية كل شيء، وأنَّ ما تسعى له من بناء أسرة مع زوجها قد يحتمل فيه كل شيء، حتى لو بعُدت عن أهلها.
ولم يكن معهوداً أن تثير المشكلاتُ الصغيرة الزوجَ أو الزوجةَ فتطلب الزوجة الطلاق، أو يتحدَّاها الزوج فيرمي بكلمة الفراق في ساعة غضب، فهذه المشكلات لم يكن دورها سوى أن تثير بعض زوابع خفيفة سرعان ما تمضي؛ لأنَّ هناك أعظم منها ممَّا يهتمون به ويشغل فكرهم من بناء أسرة قوية ومن سعي لطلب الرزق.
إضافة إلى أنَّه على رغم صغر سن الأزواج آنذاك، إلاَّ أنَّ قلّة عدد حالات الطلاق بهذا السبب أمرٌ يثير التفكير، أهي حكمة وأناة ولين جانب امتاز بها الزوج والزوجة، أم أنَّ هناك ظروفاً أخرى من إحاطة الأهل بهذه الأسرة الوليدة ومشاورة الأهل وأصحاب الحكمة وأولي النهى فيما يستجدُّ من بوادر المشكلات لها دور في تقليل عدد حالات الطلاق، وفي تثبيت أركان هذه الأسرة؟!
ينتابني شعور بالكآبة والضيق حين أتذكّر أنَّ نسبة (30%) من حالات الزواج في إحدى العواصم العربية الكبرى مصيرها الفشل، حسب إحصاءات نشرتها الصحف نقلاً عن مصادر رسمية، ويختلجني إحساس غامض: هل نسبة (70%) الباقية تمثِّل الحياة الزوجية السعيدة؟
لماذا (30%)؟! هل غدت كلمة "طالق" أو "طلِّقني" أسهل من "السلام عليكم"؟! هل من يعنيهم الأمر من زوج وزوجة لا يفهمان ماذا تعنيه تلك الكلمة؟! وما التوابع واللواحق والنتائج والآثار والمصائب التي تترتّب على تلك الكلمة؟!
دعكم من أنَّ بعض الطلاق رحمة، فهذا لا أعنيه، ولكن ما أقصده حين تغتال تلك الكلمة حكمة الرجال وصبر النساء، ويعزف بها على جرح الألم والفراق، حين تئن البيوت وتتسع الجراحات، وحين تتضعضع المنازل لأسباب تذكِّرنا بنزاعات الأطفال على أشيائهم، لكنَّ الأطفال سرعان ما يعودون ويدملون جراحهم، أمَّا الكبار فإنَّ جراحهم تظلُّ تثعب دماً.
ولعلِّي في عجالة سريعة أضع القلم على أسباب هذا الجرح النازف كما أعتقدها:
أولاً: غياب الحكمة:
يُمدح الرجل بالحكمة والاتزان، وكذلك المرأة؛ حين يكون من أوَّل مواصفاتها أنَّها امرأة رزينة (متأنية عاقلة). إنَّ غياب تلك الصفة يعني انهيار الحياة السعيدة ثمَّ سقوط برج الزواج. لكن الملاحظ أنَّ كثيراً من النَّاس يفتقر إلى الحكمة في اتخاذ القرارات، وخصوصاً قراري الزواج والطلاق، وهما القراران اللذان يرسما منعطفاً خطيراً في حياة الفرد.
فزيجات كثيرة تتم دون السؤال الكافي من الزوج عن المرأة، وعن تربيتها، عن دينها ومقدار تمسُّكها به وحرصها عليه، فقد يكتفي كثير من الرجال بالمواصفات الخارجية.
وزيجات كثيرة تتم على عجل دون سؤال عن الزوج، إذ يُكتفى أيضاً بمقدرته المالية أو نسبه الرفيع.. أو حتى أين سيقيم حفل الزفاف.. وأين سيمضي بزوجه شهراً من "العسل"؟!
وهنا تختفي الحكمة!
وتختفي الحكمة أيضاً حين يكون من أسباب الطلاق توافه الأمور، فهذه امرأة طُلِّقت لأنَّها لم تجد طبخ وجبة ما! أين الحكمة؟! وأخرى طلَّقها زوجها حين أفسدت آلة من أدوات المنزل! وثالثة اختلفت وجهات نظرها مع وجهات نظر زوجها، فكان الطلاق حاسماً لهذا الخلاف!! ورابعة.. وخامسة..
وهذا زوج أخذته العزَّة فرمى كلمة الطلاق على زوجته تحدياً حين طلبت ذلك.. وغير ذلك، أمثلة كثيرة توضِّح أنَّ الحكمة قد غابت أو غُيِّبت في مثل تلك المواقف، والحكمة مطلوبة من الطرفين، لكنَّها في حق الرجل أوجب؛ وذلك لأنَّ زمام الأمور بيده، والمرأة قد تستعجل في لحظة انفعال وغضب فتطلب الفراق، لكنها حين تسمع الكلمة سرعان ما تعود إلى نفسها فتندم، ولات ساعة مندم.
لو يدرك كلا الطرفين أنَّ الاستعجال في اتخاذ القرارات وارتجالية المواقف ينتج عنه عواقب وخيمة لكليهما! لو أدركا.. لكان للحكمة موقف هنا.
ثانياً: كثرة المغريات والمثيرات:
البساطة التي ترتكز عليها أمور النَّاس في السابق أوجدت السماحة في المعاملة، على عكس تعقيد الحياة وكثرة المغريات اليوم.
بعض حالات الطلاق في الوقت الحاضر نتاج الانغماس في تلك المثيرات، فهذا زوج انجرف أمام مغريات القنوات الفضائية، فبدأ يقارن بين زوجته وبين "النساء الفضائيات" فزهد بما لديه على أمل أن ينال ما يرى.. وهذه زوجة أغرتها الحياة الدنيا وملذّاتها فلم تقنع بما لديها وبنصيبها الذي كتبه الله لها، وبدأت تقارن بين حالها وحال مثيلاتها أو حال من هو أعلى منها جاهاً وحسباً، فزهدت في زوجها؛ رجاء أن يأتيها فارس على صهوة جواد أبيض!
ثالثاً: استقلالية الرأي:
استقلالية الرأي أمر محمود إلاَّ في بعض الحالات، حين يفرز ذلك الأمر قرارات عشوائية لا ترتكز على المصلحة العامة، والانفراد باتخاذ قرارات مصيرية بهذا الشكل الارتجالي أمر سيئ العاقبة. مشاورة أهل العلم وأصحاب العقول الراجحة والآراء الصائبة في كثير من النزاعات أمر قد يقلِّص حالات الطلاق، خاصة عند كثير من الناس ممَّن يفتقد القدرة على احتواء مشكلاته بنفسه، ولنا في القرآن خير معين حين يأمر بإرسال حكم من أهله وحكم من أهلها للصلح بين الطرفين.
رابعاً: الجهل بالغرض من الزواج:
كثيرون يرون أنَّ الزواج يعني وجهاً جميلاً وبيتاً منظَّماً وعشاء فاخراً. وكثيرات يرين أنَّ الزواج رجل غني وحرية واسعة وانطلاق بلا حدود. لكن ثمَّة غرضاً يجهله بعض الأزواج، وهو أنَّ الهدف من الزواج تحقيق السعادة لكلا الطرفين دون ضرر أو إضرار بأي طرف آخر.. وحتى تتحقق هذه المسألة فعلى الطرفين الاهتمام برعاية حقوق كلّ منهما، واحترام تلك الحقوق في إطار الحرص على عدم تبادل الأدوار بينهما، فالزوج رجل والزوجة امرأة، فحين تمتشق المرأة القوامة.. وحين يضحِّي الرجل بغيرته متساهلاً مع زوجته؛ يصهل خيل الطلاق؛ لأنَّ الرجل مهما قدَّم من تنازل سيطالب بتلك القوامة وهي حق من حقوقه، والمرأة مهما نشدت الرجل أن يمنحها حرية أكثر وأن يخفف من غيرته ستطالب بها يوما؛ً لأنَّها ستدرك أنَّها المظلَّة التي تقيها عواصف الحياة، وإذا حدث الرفض من أي الطرفين لواقع تبادل الأدوار هذا فسيصهل خيل الطلاق، سيصهل الخيل!! ويغدو الطلاق لعبة نار يلهو بها من يشاء.
المصدر : لها أون لاين
الطلاق ولعبة النَّار
د.أفراح بنت علي الحميضي
هذا هو الأصل في الزواج.
في الماضي كان المجتمع كلّه يغرِّد كعصافير الدوري فرحاً مستبشراً بخطبة فلان وفلانة وزواج فلان وفلانة، وبمثل هذا الانبساط والسرور يحدث الضيق وتظهر الهموم بطلاق فلان وفلانة من النَّاس حتى ولو لم يكن هناك معرفة بهما. الطلاق الواحد كان يربك عدداً كثيراً من الأسر، وتزداد حالة الهمّ والمشاركة الوجدانية إذا خلَّف ذلك الزواج المنهار أولاداً.
حالة طلاق واحدة كانت تهزُّ المجتمع، تجعله يتحسَّب ويحوقل؛ لأنَّ درجة إدراكه لخطورة الأمر تبدو عالية، ورغم أنَّ كثيراً من حالات الطلاق في الماضي لم تكن تحدث إلاَّ بعد محاولات مستميتة لرأب ما تصدع من بنيان الأسرة، ورغم أنَّ كثيراً من الحالات لم تكن لتحدث أيضاً إلاَّ في أصعب المواقف، فهذا رجل لا يصلي، وهذا رجل سكير لم يرتدع، وعلى قلَّة هذه الحالات كان الطلاق نادراً، أو هو في بعض الأزمنة والأحايين معدوم، أمَّا من جهة الأسباب المتعلقة بالمرأة، فما كان المجتمع يفصح عنها غالباً، ستراً لها ورغبةً في أن يأتيها رزق آخر أو زوج آخر، وكانت الكلمة الدارجة "فلانة تركت أو تركها زوجها، الله يستر علينا وعليها".
لم يكن معهوداً أن يكون عدم إنجاب المرأة سبباً في الطلاق، إذ كان الزوج يتزوَّج ثانية أو ثالثة أو رابعة ولا يترك الأولى، بل تبقى في ذمَّته معزّزة مكرَّمة.
ولم يكن معهوداً أن يكون ضعف حال الرجل وقلة ذات يده سبباً في طلب الطلاق، إذ يُعدُّ ذلك الطلب عيباً في المرأة وسوءاً في تربيتها، وهذا لم يحدث إلا نادراً.
ولم يكن معهوداً أن يكون طلب الاستقلال عن بيت العائلة "الحمولة" سبباً في الطلاق؛ لأنَّ ذلك الطلب لم يكن موجوداً، إذ كان البيت على اتساعه أو ضيقه يشمل الأسرة كلها الجد والجدَّة، الأم، الأب، الأولاد، وربما تزوَّج من الأولاد من تزوَّج وسكن معهم في نفس المنزل يحويهم جميعاً.
ولم يكن معهوداً أن يكون تذمُّر المرأة من أم الزوج أو والد الزوج سبباً في الانفصال؛ ذلك أنَّها كانت تعد نفسها منذ قدومها لهذا البيت "ابنة لهما" توليهما رعاية قصوى وتقوم راضية بخدمتهما، ويزداد اهتمامها بهما كلّما تقدَّما في السن، وعلى قدر ما تقدِّم الزوجة لوالدي زوجها من معروف تزداد منزلتها عند زوجها.
ولم يكن إرهاق المرأة بأعمال المنزل سبباً في طلب الطلاق، وبالرغم من ندرة وجود الخادمات أو انعدام وجودهن في المنازل، ورغم قيام المرأة بكل الأعمال المنزلية بدءاً من غسل الملابس وكيِّها وكنس وترتيب المنزل إلى طبخ الطعام، وانتهاءً برعاية طلبات الزوج وتربية الأولاد، إلا أنَّ ذلك كله لم يكن سبباً يستدعي أن تصرخ المرأة طلباً للفكاك، بل كانت تعمل راضية قانعة محتسبة الأجر.
ولم يكن معهوداً أن يكون شكل المرأة أو الرجل سبباً في الطلاق؛ لأنَّ القناعة ملأت قلبيهما، فالرجل قد رضي باختيار أمّه أو أخته والمرأة رضيت بموافقة ولي أمرها، ولم يكن الشكل الهدف النهائي الذي تسقط عنده كل الخيارات الأخرى، كان الرضا بالحل الوسط هو الذي يطغى، فلا تطرُّف في هذه المسألة، وكلا الطرفين يرضيان بالمقسوم.
ولم يكن معهوداً أن يكون راتب المرأة سبباً في الطلاق؛ لأنَّه نادراً ما كان لها دخل، وإذا كان فالذي يحدث أن توظِّف المرأة ما بيدها من دخل لصالح بيتها وأسرتها، فتلك التي تغرس أو تحرث أو تخدم في بيوت جيرانها أو تخيط أو تطحن أو تعلِّم القرآن أو القراءة أو تحلب أو تبيع ما أنتجته يدها من أعمال يدوية... إلخ.. لم تكن تدّخر ما تملكه لها وحدها، ولم تكن تنفرد به؛ لأنَّها تدرك أنَّ الزواج ليس شركة مالية "هذا لي وهذا لك" "هذه أسهمي وتلك أسهمك"، بل كانت ترى الزواج مؤسسة اجتماعية هي تعني هو، وكلاهما يعنيان نحن، ولم تكن "الأنا" موجودة آنذاك.
.. ولم يكن معهوداً كذلك أن تتهاوى البيوت وتستحيل نارها رماداً لغياب ربِّ الأسرة عن بيته شهوراً، بل سنوات في سعيه لطلب الرزق.
فقد كان منتشراً في بعض المناطق أن يسافر الزوج من منطقته إلى بلاد بعيدة.. وكانت مسافة السفر ذهاباً تأخذ زمناً يقدَّر ويُقاس بالشهور وليس بالساعات.. ومثلها طريق العودة، وحين يغيب الزوج عن منزله شهوراً، بل سنوات، تمكث المرأة في منزلها راعية لبيت زوجها، حافظة لفراشه، ساهرة على أولادهما، تكون لهم أباً وأمَّاً في الوقت نفسه، تشتعل في صدرها جذوة الشوق لزوجها والد أبنائها، تلوح بالأمل بين فينة وأخرى على طيفه يمر، تطوي الأيام تلو الأيام، والشهور في إثر الشهور، والسنوات تجرُّ خلفها السنوات، وليس لها إلاَّ راية الوفاء ترفعها على سارية الذكرى.
وحين تقترب عودة الزوج، ربّ الأسرة "أبو العيال" حينئذ لا تسأل عن الشوق الذي يعمر قلب الزوجة، سنوات مضت حافلة بما فيها من ذكرى وشجن، فهذا الولد الذي تركه يحبو هل سيعرفه وقد غدا صبياً عتياً؟ وتلك الزوجة التي تركها شابة نضرة هل سيعرفها وقد خطَّ البعد والفرقة تعاريجهما على وجهها؟
ورغم مرور تلك السنين، إلاَّ أنَّ الزوجة لم تكن تفكِّر مجرَّد التفكير في الطلاق، بل تكون دوماً بين عامين، عام يمضي لا تزال ذكرى زوجها عابقة فيه، وسنة ستأتي علَّها تكون آخر مرحلة من مراحل السفر، حين يرخي الليل سدوله، وينوخ الجمل بحمله ويلتقي البحر بأشعة الشمس الآفلة، حين تنطفئ جذوة الشوق لتشتعل جذوة اللقاء والوفاء، حينها تنسى الزوجة كل تلك السنين تغدو لحظة عابرة.. ومضة شهاب في سماء الانتظار.
وكان الزوج يحفظ للمرأة وفاءها ويقدِّر لها صبرها، ورغم أنَّ بعض الأزواج ربَّما قد يكون له أسرة أخرى في غربته، إلاَّ أنَّ ذلك لا تعده المرأة خيانة لها؛ لأنَّها تدرك أنَّ الرجل لا يستغني عن أسرة وزوجة تعفَّه في سفره وفي حلّه، وتعلم أنَّ ذلك البعد لمصلحة الأسرة التي يعمران بنيانها، ويشدَّان سقفها بحبال الودّ والإخلاص بعضهما لبعض، وأنَّ لحظات البعد، عفواً سنوات السفر، (مُكره أخاك فيها لا بطل)، وأنَّ الأمل باللقاء والعودة أقوى من أفكار الفرقة والافتراق والطلاق.
عفواً، يبدو أنَّني استرسلت في تلك الخاطرة التي اقتحمت عليّ أفكاري، فإنَّ ما كن يفعلنه نساؤنا في الماضي من ركوب أصعب أنواع الصبر، أمرٌ يعجز القلم أن يمضي دون أن يسطِّره فخراً بهنّ لصبرهن ووفائهن، وفخراً برجالنا الذين لم تكن تثنيهم قلَّة مصادر الرزق في ديارهم، فيسعون في مناكبها قاطعين المفاوز والوديان والجبال سعياً وراء اللقمة الحلال.
أعود.. ولم يكن معهوداً أن تشترط المرأة أن تستقر في نفس مدينة أهلها أو حيِّهم، فقد تتزوَّج المرأة ويمضي بها زوجها إلى منطقة بعيدة عن حيِّها، أماكن نشأتها، لعبها، طفولتها، فتمضي وهي مودِّعة أهلها وداع من لا يعتقد بلقاء.. أقول: لم يكن منتشراً أنَّه إذا لم يتم شرطها أن تطلب الطلاق؛ لأنَّها تدرك أنَّ بعدها عن أهلها لا يعني نهاية كل شيء، وأنَّ ما تسعى له من بناء أسرة مع زوجها قد يحتمل فيه كل شيء، حتى لو بعُدت عن أهلها.
ولم يكن معهوداً أن تثير المشكلاتُ الصغيرة الزوجَ أو الزوجةَ فتطلب الزوجة الطلاق، أو يتحدَّاها الزوج فيرمي بكلمة الفراق في ساعة غضب، فهذه المشكلات لم يكن دورها سوى أن تثير بعض زوابع خفيفة سرعان ما تمضي؛ لأنَّ هناك أعظم منها ممَّا يهتمون به ويشغل فكرهم من بناء أسرة قوية ومن سعي لطلب الرزق.
إضافة إلى أنَّه على رغم صغر سن الأزواج آنذاك، إلاَّ أنَّ قلّة عدد حالات الطلاق بهذا السبب أمرٌ يثير التفكير، أهي حكمة وأناة ولين جانب امتاز بها الزوج والزوجة، أم أنَّ هناك ظروفاً أخرى من إحاطة الأهل بهذه الأسرة الوليدة ومشاورة الأهل وأصحاب الحكمة وأولي النهى فيما يستجدُّ من بوادر المشكلات لها دور في تقليل عدد حالات الطلاق، وفي تثبيت أركان هذه الأسرة؟!
ينتابني شعور بالكآبة والضيق حين أتذكّر أنَّ نسبة (30%) من حالات الزواج في إحدى العواصم العربية الكبرى مصيرها الفشل، حسب إحصاءات نشرتها الصحف نقلاً عن مصادر رسمية، ويختلجني إحساس غامض: هل نسبة (70%) الباقية تمثِّل الحياة الزوجية السعيدة؟
لماذا (30%)؟! هل غدت كلمة "طالق" أو "طلِّقني" أسهل من "السلام عليكم"؟! هل من يعنيهم الأمر من زوج وزوجة لا يفهمان ماذا تعنيه تلك الكلمة؟! وما التوابع واللواحق والنتائج والآثار والمصائب التي تترتّب على تلك الكلمة؟!
دعكم من أنَّ بعض الطلاق رحمة، فهذا لا أعنيه، ولكن ما أقصده حين تغتال تلك الكلمة حكمة الرجال وصبر النساء، ويعزف بها على جرح الألم والفراق، حين تئن البيوت وتتسع الجراحات، وحين تتضعضع المنازل لأسباب تذكِّرنا بنزاعات الأطفال على أشيائهم، لكنَّ الأطفال سرعان ما يعودون ويدملون جراحهم، أمَّا الكبار فإنَّ جراحهم تظلُّ تثعب دماً.
ولعلِّي في عجالة سريعة أضع القلم على أسباب هذا الجرح النازف كما أعتقدها:
أولاً: غياب الحكمة:
يُمدح الرجل بالحكمة والاتزان، وكذلك المرأة؛ حين يكون من أوَّل مواصفاتها أنَّها امرأة رزينة (متأنية عاقلة). إنَّ غياب تلك الصفة يعني انهيار الحياة السعيدة ثمَّ سقوط برج الزواج. لكن الملاحظ أنَّ كثيراً من النَّاس يفتقر إلى الحكمة في اتخاذ القرارات، وخصوصاً قراري الزواج والطلاق، وهما القراران اللذان يرسما منعطفاً خطيراً في حياة الفرد.
فزيجات كثيرة تتم دون السؤال الكافي من الزوج عن المرأة، وعن تربيتها، عن دينها ومقدار تمسُّكها به وحرصها عليه، فقد يكتفي كثير من الرجال بالمواصفات الخارجية.
وزيجات كثيرة تتم على عجل دون سؤال عن الزوج، إذ يُكتفى أيضاً بمقدرته المالية أو نسبه الرفيع.. أو حتى أين سيقيم حفل الزفاف.. وأين سيمضي بزوجه شهراً من "العسل"؟!
وهنا تختفي الحكمة!
وتختفي الحكمة أيضاً حين يكون من أسباب الطلاق توافه الأمور، فهذه امرأة طُلِّقت لأنَّها لم تجد طبخ وجبة ما! أين الحكمة؟! وأخرى طلَّقها زوجها حين أفسدت آلة من أدوات المنزل! وثالثة اختلفت وجهات نظرها مع وجهات نظر زوجها، فكان الطلاق حاسماً لهذا الخلاف!! ورابعة.. وخامسة..
وهذا زوج أخذته العزَّة فرمى كلمة الطلاق على زوجته تحدياً حين طلبت ذلك.. وغير ذلك، أمثلة كثيرة توضِّح أنَّ الحكمة قد غابت أو غُيِّبت في مثل تلك المواقف، والحكمة مطلوبة من الطرفين، لكنَّها في حق الرجل أوجب؛ وذلك لأنَّ زمام الأمور بيده، والمرأة قد تستعجل في لحظة انفعال وغضب فتطلب الفراق، لكنها حين تسمع الكلمة سرعان ما تعود إلى نفسها فتندم، ولات ساعة مندم.
لو يدرك كلا الطرفين أنَّ الاستعجال في اتخاذ القرارات وارتجالية المواقف ينتج عنه عواقب وخيمة لكليهما! لو أدركا.. لكان للحكمة موقف هنا.
ثانياً: كثرة المغريات والمثيرات:
البساطة التي ترتكز عليها أمور النَّاس في السابق أوجدت السماحة في المعاملة، على عكس تعقيد الحياة وكثرة المغريات اليوم.
بعض حالات الطلاق في الوقت الحاضر نتاج الانغماس في تلك المثيرات، فهذا زوج انجرف أمام مغريات القنوات الفضائية، فبدأ يقارن بين زوجته وبين "النساء الفضائيات" فزهد بما لديه على أمل أن ينال ما يرى.. وهذه زوجة أغرتها الحياة الدنيا وملذّاتها فلم تقنع بما لديها وبنصيبها الذي كتبه الله لها، وبدأت تقارن بين حالها وحال مثيلاتها أو حال من هو أعلى منها جاهاً وحسباً، فزهدت في زوجها؛ رجاء أن يأتيها فارس على صهوة جواد أبيض!
ثالثاً: استقلالية الرأي:
استقلالية الرأي أمر محمود إلاَّ في بعض الحالات، حين يفرز ذلك الأمر قرارات عشوائية لا ترتكز على المصلحة العامة، والانفراد باتخاذ قرارات مصيرية بهذا الشكل الارتجالي أمر سيئ العاقبة. مشاورة أهل العلم وأصحاب العقول الراجحة والآراء الصائبة في كثير من النزاعات أمر قد يقلِّص حالات الطلاق، خاصة عند كثير من الناس ممَّن يفتقد القدرة على احتواء مشكلاته بنفسه، ولنا في القرآن خير معين حين يأمر بإرسال حكم من أهله وحكم من أهلها للصلح بين الطرفين.
رابعاً: الجهل بالغرض من الزواج:
كثيرون يرون أنَّ الزواج يعني وجهاً جميلاً وبيتاً منظَّماً وعشاء فاخراً. وكثيرات يرين أنَّ الزواج رجل غني وحرية واسعة وانطلاق بلا حدود. لكن ثمَّة غرضاً يجهله بعض الأزواج، وهو أنَّ الهدف من الزواج تحقيق السعادة لكلا الطرفين دون ضرر أو إضرار بأي طرف آخر.. وحتى تتحقق هذه المسألة فعلى الطرفين الاهتمام برعاية حقوق كلّ منهما، واحترام تلك الحقوق في إطار الحرص على عدم تبادل الأدوار بينهما، فالزوج رجل والزوجة امرأة، فحين تمتشق المرأة القوامة.. وحين يضحِّي الرجل بغيرته متساهلاً مع زوجته؛ يصهل خيل الطلاق؛ لأنَّ الرجل مهما قدَّم من تنازل سيطالب بتلك القوامة وهي حق من حقوقه، والمرأة مهما نشدت الرجل أن يمنحها حرية أكثر وأن يخفف من غيرته ستطالب بها يوما؛ً لأنَّها ستدرك أنَّها المظلَّة التي تقيها عواصف الحياة، وإذا حدث الرفض من أي الطرفين لواقع تبادل الأدوار هذا فسيصهل خيل الطلاق، سيصهل الخيل!! ويغدو الطلاق لعبة نار يلهو بها من يشاء.
المصدر : لها أون لاين
الطلاق ولعبة النَّار
د.أفراح بنت علي الحميضي
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى