صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
عبد الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكريات تائب
الحمد لله غافر الذنب .. وقابل التوب ..
شديد العقاب ذي الطول .. لا إله إلا هو إليه المصير ..
الحمد لله الذي يقول للشيء كن فيكون .. وبرحمته نجى موسى وقومه من فرعون ..
الحمد لله الذي كان نعم المجيب لنوح لما دعاه .. وبرحمته كشف الضر عن يونس إذ ناداه ..
وسبحان من كشف الضر عن أيوب .. ورد يوسف بعد طول غياب إلى يعقوب ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. صلى الله وسلم وبارك عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار ..
وما تعاقب الليل والنهار ..
أما بعد :
فهذه ذكريات .. ومشاعر وهمسات ..
أفضى بها التائبون .. واعتبر بها المذنبون ..
نعم .. هي ذكريات .. اعترف بها كهول هدهم مر السنوات ..
وشباب لعبت بهم الشهوات ..
وفتيات ولغن في الملذات ..
هي ذكريات .. مرت وانقضت .. وانتهت ونُسيت ..
لكنها سجلت وكتبت .. وأحصيت وعُدّت ..
* * * * * * * * *
نعم ..
هذه ذكريات تائب .. واعترافات منيب وراغب ..
في زمن كثرت فيه المغريات .. وتنوعت الشهوات ..
وزلت بكثير من الناس الأقدام .. فقارفوا المعاصي والآثام ..
فضعف إيمانهم .. وقوي عليهم شيطانهم ..
إنها ذكريات .. لمن يؤمن بقوله تعالى : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم } ..
كما يؤمن بقوله : { وأن عذابي هو العذاب الأليم } ..
* * * * * * * * *
هذه أخبار أقوام أخبر ربهم .. أنه يفرح بتوبة التائبين إليه ..
مع غناه عنهم .. وشدة حاجتهم إليه ..
وكيف لا يفرح بتوبتهم .. وقد ناداهم بقوله :
يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ..
وناداهم نبيهم بقوله :
إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار .. ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل .. حتى تطلع الشمس من مغربها ..
* * * * * * * * *
أول هؤلاء التائبين ..
شيخ كبير .. نجلس إليه .. بعدما كبر سنه .. ورق عظمه .. وكف بصره ..
وهو يحكي ذكريات شبابه ..
نجلس إلى كعب بن مالك رضي الله عنه ..
وهو يحكي ذكرياته .. في تخلفه عن غزوة تبوك ..
وكانت آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم ..
آذن النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوهم ..
وجمع منهم النفقات لتجهيز الجيش .. حتى بلغ عدد الجيش ثلاثين ألفاً ..
وذلك حين طابت الظلال الثمار ..
في حر شديد .. وسفر بعيد .. وعدو قوي عنيد ..
وكان عدد المسلمين كثيراً .. ولم تكن أسماؤهم مجموعة في كتاب ..
قال كعب – كما في الصحيحين - :
وأنا أيسر ما كنت .. قد جمعت راحلتين .. وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد ..
وأنا في ذلك أصغي إلى الظلال .. وطيب الثمار ..
فلم أزل كذلك .. حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً بالغداة ..
فقلت : أنطلق غدا إلى السوق فأشتري جهازي .. ثم ألحق بهم ..
فانطلقت إلى السوق من الغد .. فعسر علي بعض شأني .. فرجعت ..
فقلت : أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم .. فعسر عليَّ بعض شأني أيضاً ..
فقلت : أرجع غدا إن شاء الله .. فلم أزل كذلك ..
حتى مضت الأيام .. وتخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فجعلت أمشي في الأسواق .. وأطوف بالمدينة ..
فلا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق .. أو رجلاً قد عذره الله ..
* * * * * * * * *
نعم تخلف كعب في المدينة .. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد مضى بأصحابه الثلاثين ألفاً ..
حتى إذا وصل تبوك .. نظر في وجوه أصحابه .. فإذا هو يفقد رجلاً صالحاً ممن شهدوا بيعة العقبة ..
فيقول صلى الله عليه وسلم : ما فعل كعب بن مالك ؟!
فقال رجل : يا رسول الله .. خلفه برداه والنظر في عطفيه ..
فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت .. والله يا نبي الله ما علمنا عليه إلا خيراً ..
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
* * * * * * * * *
قال كعب :
فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك .. وأقبل راجعاً إلى المدينة .. جعلت أتذكر .. بماذا أخرج به من سخطه .. وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ..
حتى إذا وصل المدينة .. عرفتُ أني لا أنجو إلا بالصدق ..
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة .. فبدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين .. ثم جلس للناس ..
فجاءه المخلفون .. فطفقوا يعتذرون إليه .. ويحلفون له ..
وكانوا بضعة وثمانين رجلاً .. فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم .. واستغفر لهم .. ووكل سرائرهم إلى الله ..
وجاءه كعب بن مالك .. فلما سلم عليه .. نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم .. ثم تبسَّم تبسُّم المغضب ..
ثم قال له : تعال ..
فأقبل كعب يمشي إليه .. فلما جلس بين يديه ..
قال له صلى الله عليه وسلم : ما خلفك .. ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟
قال : بلى ..
قال : فما خلفك ؟!
فقال كعب : يا رسول الله .. إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا .. لرأيت أني أخرج من سخطه بعذر .. ولقد أعطيت جدلاً ..
ولكني والله لقد علمت .. أني إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به علي .. ليوشكن الله أن يسخطك علي ..
ولئن حدثتك حديث صدق .. تجد عليَّ فيه .. إني لأرجو فيه عفوَ الله عني ..
يا رسول الله .. والله ما كان لي من عذر ..
والله ما كنت قط أقوى .. ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ..
ثم سكت كعب ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه .. وقال :
أما هذا .. فقد صدقكم الحديث .. فقم .. حتى يقضي الله فيك ..
فقام كعب يجر خطاه .. وخرج من المسجد .. مهموماً مكروباً .. لا يدري ما يقضي الله فيه ..
فلما رأى قومه ذلك .. تبعه رجال منهم .. وأخذوا يلومونه .. ويقولون :
والله ما نعلمك أذنبت ذنباً قط .. قبل هذا .. إنك رجل شاعر ..
أعجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون ..
هلا اعتذرت بعذر يرضى عنك فيه .. ثم يستغفر لك .. فيغفر الله لك ..
قال كعب :
فلم يزالوا يؤنبونني .. حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي ..
فقلت : هل لقي هذا معي أحد ؟
قالوا : نعم .. رجلان قالا مثل ما قلت .. فقيل لهما مثل ما قيل لك ..
قلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع .. وهلال بن أمية ..
فإذا هما رجلان صالحان قد شهدا بدراً .. لي فيهما أسوة ..
فقلت : والله لا أرجع إليه في هذا أبداً .. ولا أكذب نفسي ..
* * * * * * * * *
ثم مضى كعب رضي الله عنه .. حزيناً .. كسير النفس .. وقعد في بيته ..
فلم يمضِ وقت .. حتى نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلام كعب وصاحبيه ..
قال كعب :
فاجتنبنا الناس .. وتغيروا لنا .. فجعلت أخرج إلى السوق .. فلا يكلمني أحد ..
وتنكر لنا الناس .. حتى ما هم بالذين نعرف ..
وتنكرت لنا الحيطان .. حتى ما هي بالحيطان التي نعرف ..
وتنكرت لنا الأرض .. حتى ما هي بالأرض التي نعرف ..
فأما صاحباي فجلسا في بيوتهما يبكيان .. جعلا يبكيان الليل والنهار .. ولا يطلعان رؤوسهما .. ويتعبدان كأنهما الرهبان ..
وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم .. فكنت أخرج .. فأشهد الصلاة مع المسلمين .. وأطوف في الأسواق .. ولا يكلمني أحد ..
وآتي المسجد فأدخل ..
وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ..
فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟
ثم أصلي قريباً منه .. فأسارقه النظر .. فإذا أقبلت على صلاتي .. أقبل إلي ..
وإذا التفتُّ نحوه .. أعرض عني ..
* * * * * * * * *
ومضت على كعب الأيام .. والآلام تلد الآلام ..
وهو الرجل الشريف في قومه ..
بل هو من أبلغ الشعراء .. عرفه الملوك والأمراء ..
وسرت أشعاره عند العظماء .. حتى تمنوا لقياه ..
ثم هو اليوم .. في المدينة .. بين قومه .. لا أحد يكلمه .. ولا ينظر إليه ..
حتى .. إذا اشتدت عليه الغربة .. وضاقت عليه الكربة .. نزل به امتحان آخر :
فبينما هو يطوف في السوق يوماً ..
إذا رجل نصراني جاء من الشام ..
فإذا هو يقول : من يدل على كعب بن مالك ..
فطفق الناس يشيرون له إلى كعب .. فأتاه .. فناوله صحيفة من ملك غسان ..
من ملك غسان ..!!
إذاً قد وصل خبره إلى بلاد الشام .. واهتم به ملك الغساسنة .. فماذا يريد الملك ؟!!
فتح كعب الرسالة فإذا فيها ..
أما بعد .. يا كعب بن مالك .. إنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك ..
ولست بدار مضيعة ولا هوان .. فالحق بنا نواسك ..
فلما أتم قراءة الرسالة .. قال رضي الله عنه : إنا لله .. قد طمع فيَّ أهل الكفر ..
هذا أيضاً من البلاء والشر ..
ثم مضى بالرسالة فوراً إلى التنور .. فأشعله ثم أحرقها فيه ..
ولم يلتفت كعب إلى إغراء الملك ..
نعم فُتح له باب إلى بلاط الملوك .. وقصور العظماء .. يدعونه إلى الكرامة والصحبة ..
والمدينة من حوله تتجهمه .. والوجوه تعبس في وجهه ..
يسلم فلا يرد عليه السلام ..
ويسأل فلا يسمع الجواب ..
ومع ذلك لم يلتفت إلى الكفار ..
ولم يفلح الشيطان في زعزعته .. أو تعبيده لشهوته ..
ألقى الرسالة في النار .. وأحرقها ..
* * * * * * * * *
ومضت الأيام تتلوها الأيام .. وانقضى شهر كامل .. وكعب على هذا الحال ..
والحصار يشتد خناقه .. والضيق يزداد ثقله ..
فلا الرسول صلى الله عليه وسلم يُمضي .. ولا الوحي بالحكم يقضي ..
* * * * * * * * *
فلما اكتملت أربعون يوماً ..
فإذا رسول من النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى كعب .. فيطرق عليه الباب ..
فيخرج كعب إليه .. لعله جاء بالفرج .. فإذا الرسول يقول له :
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ..
قال : أطلقها .. أم ماذا ؟
قال : لا .. ولكن اعتزلها ولا تقربها ..
فدخل كعب على امرأته وقال : الحقي بأهلك ..
فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ..
وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحبي كعب بمثل ذلك ..
فجاءت امرأة هلال بن أمية .. فقالت :
يا رسول الله .. إن هلال بن أمية شيخ كبير ضعيف .. فهل تأذن لي أن أخدمه ..؟
قال : نعم .. ولكن لا يقربنك ..
فقالت المرأة : يا نبي الله .. والله ما به من حركة لشيء ..
ما زال مكتئباً .. يبكي الليل والنهار .. منذ كان من أمره ما كان ..
* * * * * * * * *
ومرت الأيام ثقيلة على كعب ..واشتدت الجفوة عليه ..حتى صار يراجع إيمانه ..
يكلم المسلمين ولا يكلمونه ..
ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرد عليه ..
فإلى أين يذهب ..!! ومن يستشير !؟
قال كعب رضي الله عنه :
فلما طال عليَّ البلاء .. ذهبت إلى أبي قتادة .. وهو ابن عمي .. وأحب الناس إليَّ .. فإذا هو في حائط بستانه .. فتسورت الجدار عليه ..
ودخلت .. فسلمت عليه ..
فوالله ما رد علي السلام ..
فقلت : أنشدك الله .. يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فسكت ..
فقلت : يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فسكت ..
فقلت : أنشدك الله .. يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فقال : الله ورسوله أعلم ..
سمع كعب هذا الجواب .. من ابن عمه وأحب الناس إليه .. لا يدري أهو مؤمن أم لا ؟
فلم يستطع أن يتجلد لما سمعه .. وفاضت عيناه بالدموع ..
ثم اقتحم الحائط خارجاً ..
وذهب إلى منزله .. وجلس فيه ..
يقلب طرفه بين جدرانه .. لا زوجة تجالسه .. ولا قريب يؤانسه ..
وقد مضت عليهم خمسون ليلة .. من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامهم
..
* * * * * * * * *
وفي الليلة الخمسين .. نزلت توبتهم على النبي صلى الله عليه وسلم ثلث الليل ..
فقالت أم سلمة رضي الله عنها :
يا نبي الله .. ألا نبشر كعب بن مالك ..
قال : إذا يحطمكم الناس .. ويمنعونكم النوم سائر الليلة ..
فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر .. آذن الناس بتوبة الله علينا ..
فانطلق الناس يبشرونهم ..
قال كعب :
وكنت قد صليت الفجر على سطح بيت من بيوتنا ..
فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى .. قد ضاقت علي نفسي .. وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت ..
وما من شيء أهم إليّ .. من أن أموت .. فلا يصلي عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .. أو يموت .. فأكون من الناس بتلك المنزلة .. فلا يكلمني أحد منهم .. ولا يصلي عليَّ ..
فبينما أنا على ذلك ..
إذ سمعت صوت صارخ .. على جبل سلع بأعلى صوته يقول :
يا كعب بن مالك ! .. أبشر ..
فخررت ساجداً .. وعرفت أن قد جاء فرج من الله ..
وأقبل إليَّ رجل على فرس .. والآخر صاح من فوق جبل ..
وكان الصوت أسرع من الفرس ..
فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني .. نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه ..
والله ما أملك غيرهما ..
واستعرت ثوبين .. فلسبتهما ..
وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فتلقاني الناس فوجاً .. فوجاً ..
يهنئوني بالتوبة .. يقولون : ليهنك توبة الله عليك ..
حتى دخلت المسجد .. فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وهو يبرق وجهه من السرور .. وكان إذا سُرَّ استنار وجهه .. حتى كأنه قطعة قمر ..
فقال لي : أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك ..
قلت : أمن عندك يا رسول الله .. أم من عند الله ؟
قال : لا .. بل من عند الله .. ثم تلا الآيات ..
فلما جلست بين يديه ..
قلت : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله .. وإلى رسوله ..
فقال : أمسك عليك بعض مالك .. فهو خير لك ..
فقلت : يا رسول الله ! إن الله إنما نجاني بالصدق .. وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت ..
* * * * * * * * *
نعم .. تاب الله على كعب وصاحبيه .. وأنزل في ذلك قرءاناً يتلى ..
فقال عز وجل :
{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } ..
* * * * * * * * *
ومن فرح الله بالتائبين إليه أنه لا يغفر سيئاتهم فقط .. كلا .. بل يبدل سيئاتهم حسنات .. قال عز وجل :
{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً } .. وفي البخاري أن حكيم بن حزام رضي الله عنه أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
أي رسول الله .. أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية .. من صدقة أو .. عتِاقة .. أو صلة رحم .. أفيها أجر ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) ..
الله أكبر ..
الذنوب تغفر .. والسيئات تبدل حسنات .. والحسنات أيام الجاهلية تثبت لصاحبها بعد التوبة .. فماذا بقي !
* * * * * * * * *
هو التواب الرحيم .. الذي وسعت رحمته كل شيء ..
لكن رحمته قريبة من المحسنين .. الرجاعين التائبين ..
الذين إذا أذنبوا استغفروا .. وإذا ذُكِّروا ذكروا ..
فليست المشكلة في وقوع الذنب .. لكن المشكلة الكبرى .. والداهية العظمى ..
هي أن يألف المرء الذنب .. ثم يتساهل بخطره .. فلا يحدث منه توبة ..
والله رحيم بعباده ..
رحمته أسرع من غضبه ..
ومغفرته أعجل من عقوبته ..
هو والله أرحم بعباده .. من آبائهم وأمهاتهم ..
في الصحيحين :
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من حرب هوازن .. أُتي إليه بعد المعركة .. بأطفال الكفار ونسائهم .. ثم جمعوا في مكان ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليهم .. فإذا امرأة من السبي .. أم ثكلى .. تجر خطاها .. تبحث عن ولدها .. وفلذة كبدها ..
قد اضطرب أمرها .. وطار صوابها .. واشتدّ مصابها ..
تطوف على الأطفال الرضع .. تنظر في وجوههم .. يكاد ثديها يتفجر من احتباس اللبن فيه ..
تتمنى لو أن طفلها بين يديها .. تضمه ضمة .. وتشمه شمة .. ولو كلفها ذلك حياتها ..
فبينما هي على ذلك ..
إذ وجدت ولدها .. فلما رأته جف دمعها .. وعاد صوابها ..
ثم انكبت عليه .. وانطرحت بين يديه .. وقد رحمت جوعه وتعبه .. وبكاءه ونصبه ..أخذت تضمه وتقبله ..
ثم ألصقته بصدرها .. وألقمته ثديها ..
فنظر الرحيم الشفيق إليها .. وقد أضناها التعب .. وعظم النصب ..
وقد طال شوقها إلى ولدها .. واشتد مصابه ومصابها ..
فلما رأى ذلها .. وانكسارها .. وفجيعتها بولدها ..
التفت إلى أصحابه ثم قال :
أتُرَون هذه .. طارحة ولدها في النار .. يعني لو أشعلنا ناراً وأمرناها أن تطرح ولدها فيها .. أترون أنها ترضى ..
فعجب الصحابة الكرام : كيف تطرحه في النار .. وهو فلذة كبدها .. وعصارة قلبها ..كيف تطرحه .. وهي تلثمه .. وتقبله .. وتغسل وجهه بدموعها .. كيف تطرحه ..
وهي الأم الرحيمة .. والوالدة الشفيقة ..
قالوا : لا .. والله .. يا رسول الله .. لا تطرحه في النار .. وهي تقدر على أن لا تطرحه ..
فقال صلى الله عليه وسلم : والله .. لله .. أرحم بعباده من هذه بولدها ..
* * * * * * * * *
نعم .. ربنا أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا ..
ومن سعة رحمته .. أنه عرض التوبة على كل أحد ..
مهما أشرك العبد وكفر .. أو طغى وتجبر ..
فإن الرحمة معروضة عليه .. وباب التوبة مشرع بين يديه ..
وانظر إلى ذاك الشيخ الهرم .. الذي .. كبر سنه .. وانحنى ظهره .. ورق عظمه ..
أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهو جالس بين أصحابه يوماً ..
يجر خطاه .. وقد سقط حاجباه على عينيه .. وهو يدّعم على عصا ..
جاء يمشي .. حتى قام بين يديّ النبي صلى الله عليه وسلم .. فقال بصوت تصارعه الآلام ..
يا رسول الله .. أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها .. فلم يترك منها شيئاً ..
وهو في ذلك لم يترك حاجة .. ولا داجة .. أي صغيرة ولا كبيرة .. إلا أتاها ..
لو قسّمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم .. فهل لذلك من توبة ؟
فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره إليه .. فإذا شيخ قد انحنى ظهره .. واضطرب أمره ..
قد هده مر السنين والأعوام .. وأهلكته الشهوات والآلام ..
فقال له صلى الله عليه وسلم : فهل أسلمت ؟
قال : أما أنا .. فأشهد أن لا إله إلا الله .. وأنك رسول الله ..
فقال صلى الله عليه وسلم : تفعل الخيرات .. وتترك السيئات .. فيجعلهن الله لك خيرات كلهن ..
فقال الشيخ : وغدراتي .. وفجراتني ..
فقال : نعم ..
فصاح الشيخ : الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ..
فما زال يكبر حتى توارى عنهم ..
الحديث : رواه الطبراني والبزار ، وقال المنذري : إسناده جيد قوي ،وقال ابن حجر هو على شرط الصحيح .
* * * * * * * * * *
وذكر ابن قدامة في التوابين ..
أن بني إسرائيل .. لحقهم قحط على عهد موسى عليه السلام .. فاجتمع الناس إليه ..
فقالوا : يا كليم الله .. ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث ..
فقام معهم .. وخرجوا إلى الصحراء .. وهم سبعون ألفاً أو يزيدون ..
فقال موسى عليه السلام : إلهي .. اسقنا غيثك .. وانشر علينا رحمتك .. وارحمنا بالأطفال الرضع .. والبهائم الرتع .. والمشايخ الركع ..
فما زادت السماء إلا تقشعاً .. والشمس إلا حرارة ..
فقال موسى : إلهي .. اسقنا ..
فقال الله : كيف أسقيكم ؟ وفيكم عبد يبارزني بالمعاصي منذ أربعين سنة .. فناد في الناس حتى يخرج من بين أظهركم .. فبه منعتكم ..
فصاح موسى في قومه : يا أيها العبد العاصي .. الذي يبارز الله منذ أربعين سنة .. اخرج من بين أظهرنا .. فبك منعنا المطر ..
فنظر العبد العاصي .. ذات اليمين وذات الشمال .. فلم ير أحداً خرج .. فعلم أنه المطلوب ..
فقال في نفسه : إن أنا خرجت من بين هذا الخلق .. افتضحت على رؤوس بني إسرائيل .. وإن قعدت معهم منعوا لأجلي .. فانكسرت نفسه .. ودمعت عينه ..
فأدخل رأسه في ثيابه نادماً على فعاله .. وقال : إلهي .. وسيدي .. عصيتك أربعين سنة ..وأمهلتني .. وقد أتيتك طائعاً .. فاقبلني .. وأخذ يبتهل إلى خالقه ..
فلم يستتم الكلام .. حتى ارتفعت سحابة بيضاء ..فأمطرت كأفواه القرب ..
فعجب موسى وقال : إلهي .. سقيتنا .. وما خرج من بين أظهرنا أحد ..
فقال الله : يا موسى سقيتكم بالذي به منعتكم ..
فقال موسى : إلهي .. أرني هذا العبد الطائع ..
فقال : يا موسى .. إني لم أفضحه وهو يعصيني .. أأفضحه وهو يطيعني ..
* * * * * * * * * *
نعم .. غفر الله له ..
ولماذا لا يغفر له العزيز الرحيم وهو الذي قال :
{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ! لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } .. وصح عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى :
( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ..
يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي..
يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة )
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكريات تائب
الحمد لله غافر الذنب .. وقابل التوب ..
شديد العقاب ذي الطول .. لا إله إلا هو إليه المصير ..
الحمد لله الذي يقول للشيء كن فيكون .. وبرحمته نجى موسى وقومه من فرعون ..
الحمد لله الذي كان نعم المجيب لنوح لما دعاه .. وبرحمته كشف الضر عن يونس إذ ناداه ..
وسبحان من كشف الضر عن أيوب .. ورد يوسف بعد طول غياب إلى يعقوب ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. صلى الله وسلم وبارك عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار ..
وما تعاقب الليل والنهار ..
أما بعد :
فهذه ذكريات .. ومشاعر وهمسات ..
أفضى بها التائبون .. واعتبر بها المذنبون ..
نعم .. هي ذكريات .. اعترف بها كهول هدهم مر السنوات ..
وشباب لعبت بهم الشهوات ..
وفتيات ولغن في الملذات ..
هي ذكريات .. مرت وانقضت .. وانتهت ونُسيت ..
لكنها سجلت وكتبت .. وأحصيت وعُدّت ..
* * * * * * * * *
نعم ..
هذه ذكريات تائب .. واعترافات منيب وراغب ..
في زمن كثرت فيه المغريات .. وتنوعت الشهوات ..
وزلت بكثير من الناس الأقدام .. فقارفوا المعاصي والآثام ..
فضعف إيمانهم .. وقوي عليهم شيطانهم ..
إنها ذكريات .. لمن يؤمن بقوله تعالى : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم } ..
كما يؤمن بقوله : { وأن عذابي هو العذاب الأليم } ..
* * * * * * * * *
هذه أخبار أقوام أخبر ربهم .. أنه يفرح بتوبة التائبين إليه ..
مع غناه عنهم .. وشدة حاجتهم إليه ..
وكيف لا يفرح بتوبتهم .. وقد ناداهم بقوله :
يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ..
وناداهم نبيهم بقوله :
إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار .. ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل .. حتى تطلع الشمس من مغربها ..
* * * * * * * * *
أول هؤلاء التائبين ..
شيخ كبير .. نجلس إليه .. بعدما كبر سنه .. ورق عظمه .. وكف بصره ..
وهو يحكي ذكريات شبابه ..
نجلس إلى كعب بن مالك رضي الله عنه ..
وهو يحكي ذكرياته .. في تخلفه عن غزوة تبوك ..
وكانت آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم ..
آذن النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوهم ..
وجمع منهم النفقات لتجهيز الجيش .. حتى بلغ عدد الجيش ثلاثين ألفاً ..
وذلك حين طابت الظلال الثمار ..
في حر شديد .. وسفر بعيد .. وعدو قوي عنيد ..
وكان عدد المسلمين كثيراً .. ولم تكن أسماؤهم مجموعة في كتاب ..
قال كعب – كما في الصحيحين - :
وأنا أيسر ما كنت .. قد جمعت راحلتين .. وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد ..
وأنا في ذلك أصغي إلى الظلال .. وطيب الثمار ..
فلم أزل كذلك .. حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً بالغداة ..
فقلت : أنطلق غدا إلى السوق فأشتري جهازي .. ثم ألحق بهم ..
فانطلقت إلى السوق من الغد .. فعسر علي بعض شأني .. فرجعت ..
فقلت : أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم .. فعسر عليَّ بعض شأني أيضاً ..
فقلت : أرجع غدا إن شاء الله .. فلم أزل كذلك ..
حتى مضت الأيام .. وتخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فجعلت أمشي في الأسواق .. وأطوف بالمدينة ..
فلا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق .. أو رجلاً قد عذره الله ..
* * * * * * * * *
نعم تخلف كعب في المدينة .. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد مضى بأصحابه الثلاثين ألفاً ..
حتى إذا وصل تبوك .. نظر في وجوه أصحابه .. فإذا هو يفقد رجلاً صالحاً ممن شهدوا بيعة العقبة ..
فيقول صلى الله عليه وسلم : ما فعل كعب بن مالك ؟!
فقال رجل : يا رسول الله .. خلفه برداه والنظر في عطفيه ..
فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت .. والله يا نبي الله ما علمنا عليه إلا خيراً ..
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
* * * * * * * * *
قال كعب :
فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك .. وأقبل راجعاً إلى المدينة .. جعلت أتذكر .. بماذا أخرج به من سخطه .. وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ..
حتى إذا وصل المدينة .. عرفتُ أني لا أنجو إلا بالصدق ..
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة .. فبدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين .. ثم جلس للناس ..
فجاءه المخلفون .. فطفقوا يعتذرون إليه .. ويحلفون له ..
وكانوا بضعة وثمانين رجلاً .. فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم .. واستغفر لهم .. ووكل سرائرهم إلى الله ..
وجاءه كعب بن مالك .. فلما سلم عليه .. نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم .. ثم تبسَّم تبسُّم المغضب ..
ثم قال له : تعال ..
فأقبل كعب يمشي إليه .. فلما جلس بين يديه ..
قال له صلى الله عليه وسلم : ما خلفك .. ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟
قال : بلى ..
قال : فما خلفك ؟!
فقال كعب : يا رسول الله .. إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا .. لرأيت أني أخرج من سخطه بعذر .. ولقد أعطيت جدلاً ..
ولكني والله لقد علمت .. أني إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به علي .. ليوشكن الله أن يسخطك علي ..
ولئن حدثتك حديث صدق .. تجد عليَّ فيه .. إني لأرجو فيه عفوَ الله عني ..
يا رسول الله .. والله ما كان لي من عذر ..
والله ما كنت قط أقوى .. ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ..
ثم سكت كعب ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه .. وقال :
أما هذا .. فقد صدقكم الحديث .. فقم .. حتى يقضي الله فيك ..
فقام كعب يجر خطاه .. وخرج من المسجد .. مهموماً مكروباً .. لا يدري ما يقضي الله فيه ..
فلما رأى قومه ذلك .. تبعه رجال منهم .. وأخذوا يلومونه .. ويقولون :
والله ما نعلمك أذنبت ذنباً قط .. قبل هذا .. إنك رجل شاعر ..
أعجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون ..
هلا اعتذرت بعذر يرضى عنك فيه .. ثم يستغفر لك .. فيغفر الله لك ..
قال كعب :
فلم يزالوا يؤنبونني .. حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي ..
فقلت : هل لقي هذا معي أحد ؟
قالوا : نعم .. رجلان قالا مثل ما قلت .. فقيل لهما مثل ما قيل لك ..
قلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع .. وهلال بن أمية ..
فإذا هما رجلان صالحان قد شهدا بدراً .. لي فيهما أسوة ..
فقلت : والله لا أرجع إليه في هذا أبداً .. ولا أكذب نفسي ..
* * * * * * * * *
ثم مضى كعب رضي الله عنه .. حزيناً .. كسير النفس .. وقعد في بيته ..
فلم يمضِ وقت .. حتى نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلام كعب وصاحبيه ..
قال كعب :
فاجتنبنا الناس .. وتغيروا لنا .. فجعلت أخرج إلى السوق .. فلا يكلمني أحد ..
وتنكر لنا الناس .. حتى ما هم بالذين نعرف ..
وتنكرت لنا الحيطان .. حتى ما هي بالحيطان التي نعرف ..
وتنكرت لنا الأرض .. حتى ما هي بالأرض التي نعرف ..
فأما صاحباي فجلسا في بيوتهما يبكيان .. جعلا يبكيان الليل والنهار .. ولا يطلعان رؤوسهما .. ويتعبدان كأنهما الرهبان ..
وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم .. فكنت أخرج .. فأشهد الصلاة مع المسلمين .. وأطوف في الأسواق .. ولا يكلمني أحد ..
وآتي المسجد فأدخل ..
وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ..
فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟
ثم أصلي قريباً منه .. فأسارقه النظر .. فإذا أقبلت على صلاتي .. أقبل إلي ..
وإذا التفتُّ نحوه .. أعرض عني ..
* * * * * * * * *
ومضت على كعب الأيام .. والآلام تلد الآلام ..
وهو الرجل الشريف في قومه ..
بل هو من أبلغ الشعراء .. عرفه الملوك والأمراء ..
وسرت أشعاره عند العظماء .. حتى تمنوا لقياه ..
ثم هو اليوم .. في المدينة .. بين قومه .. لا أحد يكلمه .. ولا ينظر إليه ..
حتى .. إذا اشتدت عليه الغربة .. وضاقت عليه الكربة .. نزل به امتحان آخر :
فبينما هو يطوف في السوق يوماً ..
إذا رجل نصراني جاء من الشام ..
فإذا هو يقول : من يدل على كعب بن مالك ..
فطفق الناس يشيرون له إلى كعب .. فأتاه .. فناوله صحيفة من ملك غسان ..
من ملك غسان ..!!
إذاً قد وصل خبره إلى بلاد الشام .. واهتم به ملك الغساسنة .. فماذا يريد الملك ؟!!
فتح كعب الرسالة فإذا فيها ..
أما بعد .. يا كعب بن مالك .. إنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك ..
ولست بدار مضيعة ولا هوان .. فالحق بنا نواسك ..
فلما أتم قراءة الرسالة .. قال رضي الله عنه : إنا لله .. قد طمع فيَّ أهل الكفر ..
هذا أيضاً من البلاء والشر ..
ثم مضى بالرسالة فوراً إلى التنور .. فأشعله ثم أحرقها فيه ..
ولم يلتفت كعب إلى إغراء الملك ..
نعم فُتح له باب إلى بلاط الملوك .. وقصور العظماء .. يدعونه إلى الكرامة والصحبة ..
والمدينة من حوله تتجهمه .. والوجوه تعبس في وجهه ..
يسلم فلا يرد عليه السلام ..
ويسأل فلا يسمع الجواب ..
ومع ذلك لم يلتفت إلى الكفار ..
ولم يفلح الشيطان في زعزعته .. أو تعبيده لشهوته ..
ألقى الرسالة في النار .. وأحرقها ..
* * * * * * * * *
ومضت الأيام تتلوها الأيام .. وانقضى شهر كامل .. وكعب على هذا الحال ..
والحصار يشتد خناقه .. والضيق يزداد ثقله ..
فلا الرسول صلى الله عليه وسلم يُمضي .. ولا الوحي بالحكم يقضي ..
* * * * * * * * *
فلما اكتملت أربعون يوماً ..
فإذا رسول من النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى كعب .. فيطرق عليه الباب ..
فيخرج كعب إليه .. لعله جاء بالفرج .. فإذا الرسول يقول له :
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ..
قال : أطلقها .. أم ماذا ؟
قال : لا .. ولكن اعتزلها ولا تقربها ..
فدخل كعب على امرأته وقال : الحقي بأهلك ..
فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ..
وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحبي كعب بمثل ذلك ..
فجاءت امرأة هلال بن أمية .. فقالت :
يا رسول الله .. إن هلال بن أمية شيخ كبير ضعيف .. فهل تأذن لي أن أخدمه ..؟
قال : نعم .. ولكن لا يقربنك ..
فقالت المرأة : يا نبي الله .. والله ما به من حركة لشيء ..
ما زال مكتئباً .. يبكي الليل والنهار .. منذ كان من أمره ما كان ..
* * * * * * * * *
ومرت الأيام ثقيلة على كعب ..واشتدت الجفوة عليه ..حتى صار يراجع إيمانه ..
يكلم المسلمين ولا يكلمونه ..
ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرد عليه ..
فإلى أين يذهب ..!! ومن يستشير !؟
قال كعب رضي الله عنه :
فلما طال عليَّ البلاء .. ذهبت إلى أبي قتادة .. وهو ابن عمي .. وأحب الناس إليَّ .. فإذا هو في حائط بستانه .. فتسورت الجدار عليه ..
ودخلت .. فسلمت عليه ..
فوالله ما رد علي السلام ..
فقلت : أنشدك الله .. يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فسكت ..
فقلت : يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فسكت ..
فقلت : أنشدك الله .. يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فقال : الله ورسوله أعلم ..
سمع كعب هذا الجواب .. من ابن عمه وأحب الناس إليه .. لا يدري أهو مؤمن أم لا ؟
فلم يستطع أن يتجلد لما سمعه .. وفاضت عيناه بالدموع ..
ثم اقتحم الحائط خارجاً ..
وذهب إلى منزله .. وجلس فيه ..
يقلب طرفه بين جدرانه .. لا زوجة تجالسه .. ولا قريب يؤانسه ..
وقد مضت عليهم خمسون ليلة .. من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامهم
..
* * * * * * * * *
وفي الليلة الخمسين .. نزلت توبتهم على النبي صلى الله عليه وسلم ثلث الليل ..
فقالت أم سلمة رضي الله عنها :
يا نبي الله .. ألا نبشر كعب بن مالك ..
قال : إذا يحطمكم الناس .. ويمنعونكم النوم سائر الليلة ..
فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر .. آذن الناس بتوبة الله علينا ..
فانطلق الناس يبشرونهم ..
قال كعب :
وكنت قد صليت الفجر على سطح بيت من بيوتنا ..
فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى .. قد ضاقت علي نفسي .. وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت ..
وما من شيء أهم إليّ .. من أن أموت .. فلا يصلي عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .. أو يموت .. فأكون من الناس بتلك المنزلة .. فلا يكلمني أحد منهم .. ولا يصلي عليَّ ..
فبينما أنا على ذلك ..
إذ سمعت صوت صارخ .. على جبل سلع بأعلى صوته يقول :
يا كعب بن مالك ! .. أبشر ..
فخررت ساجداً .. وعرفت أن قد جاء فرج من الله ..
وأقبل إليَّ رجل على فرس .. والآخر صاح من فوق جبل ..
وكان الصوت أسرع من الفرس ..
فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني .. نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه ..
والله ما أملك غيرهما ..
واستعرت ثوبين .. فلسبتهما ..
وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فتلقاني الناس فوجاً .. فوجاً ..
يهنئوني بالتوبة .. يقولون : ليهنك توبة الله عليك ..
حتى دخلت المسجد .. فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وهو يبرق وجهه من السرور .. وكان إذا سُرَّ استنار وجهه .. حتى كأنه قطعة قمر ..
فقال لي : أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك ..
قلت : أمن عندك يا رسول الله .. أم من عند الله ؟
قال : لا .. بل من عند الله .. ثم تلا الآيات ..
فلما جلست بين يديه ..
قلت : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله .. وإلى رسوله ..
فقال : أمسك عليك بعض مالك .. فهو خير لك ..
فقلت : يا رسول الله ! إن الله إنما نجاني بالصدق .. وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت ..
* * * * * * * * *
نعم .. تاب الله على كعب وصاحبيه .. وأنزل في ذلك قرءاناً يتلى ..
فقال عز وجل :
{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } ..
* * * * * * * * *
ومن فرح الله بالتائبين إليه أنه لا يغفر سيئاتهم فقط .. كلا .. بل يبدل سيئاتهم حسنات .. قال عز وجل :
{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً } .. وفي البخاري أن حكيم بن حزام رضي الله عنه أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
أي رسول الله .. أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية .. من صدقة أو .. عتِاقة .. أو صلة رحم .. أفيها أجر ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) ..
الله أكبر ..
الذنوب تغفر .. والسيئات تبدل حسنات .. والحسنات أيام الجاهلية تثبت لصاحبها بعد التوبة .. فماذا بقي !
* * * * * * * * *
هو التواب الرحيم .. الذي وسعت رحمته كل شيء ..
لكن رحمته قريبة من المحسنين .. الرجاعين التائبين ..
الذين إذا أذنبوا استغفروا .. وإذا ذُكِّروا ذكروا ..
فليست المشكلة في وقوع الذنب .. لكن المشكلة الكبرى .. والداهية العظمى ..
هي أن يألف المرء الذنب .. ثم يتساهل بخطره .. فلا يحدث منه توبة ..
والله رحيم بعباده ..
رحمته أسرع من غضبه ..
ومغفرته أعجل من عقوبته ..
هو والله أرحم بعباده .. من آبائهم وأمهاتهم ..
في الصحيحين :
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من حرب هوازن .. أُتي إليه بعد المعركة .. بأطفال الكفار ونسائهم .. ثم جمعوا في مكان ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليهم .. فإذا امرأة من السبي .. أم ثكلى .. تجر خطاها .. تبحث عن ولدها .. وفلذة كبدها ..
قد اضطرب أمرها .. وطار صوابها .. واشتدّ مصابها ..
تطوف على الأطفال الرضع .. تنظر في وجوههم .. يكاد ثديها يتفجر من احتباس اللبن فيه ..
تتمنى لو أن طفلها بين يديها .. تضمه ضمة .. وتشمه شمة .. ولو كلفها ذلك حياتها ..
فبينما هي على ذلك ..
إذ وجدت ولدها .. فلما رأته جف دمعها .. وعاد صوابها ..
ثم انكبت عليه .. وانطرحت بين يديه .. وقد رحمت جوعه وتعبه .. وبكاءه ونصبه ..أخذت تضمه وتقبله ..
ثم ألصقته بصدرها .. وألقمته ثديها ..
فنظر الرحيم الشفيق إليها .. وقد أضناها التعب .. وعظم النصب ..
وقد طال شوقها إلى ولدها .. واشتد مصابه ومصابها ..
فلما رأى ذلها .. وانكسارها .. وفجيعتها بولدها ..
التفت إلى أصحابه ثم قال :
أتُرَون هذه .. طارحة ولدها في النار .. يعني لو أشعلنا ناراً وأمرناها أن تطرح ولدها فيها .. أترون أنها ترضى ..
فعجب الصحابة الكرام : كيف تطرحه في النار .. وهو فلذة كبدها .. وعصارة قلبها ..كيف تطرحه .. وهي تلثمه .. وتقبله .. وتغسل وجهه بدموعها .. كيف تطرحه ..
وهي الأم الرحيمة .. والوالدة الشفيقة ..
قالوا : لا .. والله .. يا رسول الله .. لا تطرحه في النار .. وهي تقدر على أن لا تطرحه ..
فقال صلى الله عليه وسلم : والله .. لله .. أرحم بعباده من هذه بولدها ..
* * * * * * * * *
نعم .. ربنا أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا ..
ومن سعة رحمته .. أنه عرض التوبة على كل أحد ..
مهما أشرك العبد وكفر .. أو طغى وتجبر ..
فإن الرحمة معروضة عليه .. وباب التوبة مشرع بين يديه ..
وانظر إلى ذاك الشيخ الهرم .. الذي .. كبر سنه .. وانحنى ظهره .. ورق عظمه ..
أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهو جالس بين أصحابه يوماً ..
يجر خطاه .. وقد سقط حاجباه على عينيه .. وهو يدّعم على عصا ..
جاء يمشي .. حتى قام بين يديّ النبي صلى الله عليه وسلم .. فقال بصوت تصارعه الآلام ..
يا رسول الله .. أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها .. فلم يترك منها شيئاً ..
وهو في ذلك لم يترك حاجة .. ولا داجة .. أي صغيرة ولا كبيرة .. إلا أتاها ..
لو قسّمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم .. فهل لذلك من توبة ؟
فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره إليه .. فإذا شيخ قد انحنى ظهره .. واضطرب أمره ..
قد هده مر السنين والأعوام .. وأهلكته الشهوات والآلام ..
فقال له صلى الله عليه وسلم : فهل أسلمت ؟
قال : أما أنا .. فأشهد أن لا إله إلا الله .. وأنك رسول الله ..
فقال صلى الله عليه وسلم : تفعل الخيرات .. وتترك السيئات .. فيجعلهن الله لك خيرات كلهن ..
فقال الشيخ : وغدراتي .. وفجراتني ..
فقال : نعم ..
فصاح الشيخ : الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ..
فما زال يكبر حتى توارى عنهم ..
الحديث : رواه الطبراني والبزار ، وقال المنذري : إسناده جيد قوي ،وقال ابن حجر هو على شرط الصحيح .
* * * * * * * * * *
وذكر ابن قدامة في التوابين ..
أن بني إسرائيل .. لحقهم قحط على عهد موسى عليه السلام .. فاجتمع الناس إليه ..
فقالوا : يا كليم الله .. ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث ..
فقام معهم .. وخرجوا إلى الصحراء .. وهم سبعون ألفاً أو يزيدون ..
فقال موسى عليه السلام : إلهي .. اسقنا غيثك .. وانشر علينا رحمتك .. وارحمنا بالأطفال الرضع .. والبهائم الرتع .. والمشايخ الركع ..
فما زادت السماء إلا تقشعاً .. والشمس إلا حرارة ..
فقال موسى : إلهي .. اسقنا ..
فقال الله : كيف أسقيكم ؟ وفيكم عبد يبارزني بالمعاصي منذ أربعين سنة .. فناد في الناس حتى يخرج من بين أظهركم .. فبه منعتكم ..
فصاح موسى في قومه : يا أيها العبد العاصي .. الذي يبارز الله منذ أربعين سنة .. اخرج من بين أظهرنا .. فبك منعنا المطر ..
فنظر العبد العاصي .. ذات اليمين وذات الشمال .. فلم ير أحداً خرج .. فعلم أنه المطلوب ..
فقال في نفسه : إن أنا خرجت من بين هذا الخلق .. افتضحت على رؤوس بني إسرائيل .. وإن قعدت معهم منعوا لأجلي .. فانكسرت نفسه .. ودمعت عينه ..
فأدخل رأسه في ثيابه نادماً على فعاله .. وقال : إلهي .. وسيدي .. عصيتك أربعين سنة ..وأمهلتني .. وقد أتيتك طائعاً .. فاقبلني .. وأخذ يبتهل إلى خالقه ..
فلم يستتم الكلام .. حتى ارتفعت سحابة بيضاء ..فأمطرت كأفواه القرب ..
فعجب موسى وقال : إلهي .. سقيتنا .. وما خرج من بين أظهرنا أحد ..
فقال الله : يا موسى سقيتكم بالذي به منعتكم ..
فقال موسى : إلهي .. أرني هذا العبد الطائع ..
فقال : يا موسى .. إني لم أفضحه وهو يعصيني .. أأفضحه وهو يطيعني ..
* * * * * * * * * *
نعم .. غفر الله له ..
ولماذا لا يغفر له العزيز الرحيم وهو الذي قال :
{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ! لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } .. وصح عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى :
( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ..
يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي..
يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة )
عبد الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
* * * * * * * * *
وبعض الناس .. تشتاق نفسه إلى الهداية ..
لكنه يمنعه الكبر من اتباع شعائر الدين ..
نعم يتكبر عن تقصير ثوبه فوق الكعبين .. وإعفاء لحيته ومخالفة المشركين .. فجمال مظهره أعظم عنده من طاعة ربه ..
وبعض النساء كذلك .. لا تزال تتساهل بأمر الحجاب .. حرصاً على تكميل زينتها .. وحسن بزتها .. أو تعصي ربها بنتف حاجبها .. أو تضييق لباسها .. وإذا نصحت استكبرت وطغت ..
ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر .. فكيف إذا كان هذا الكبر مانعاً من الهداية ..
كان جبلة بن الأيهم ..
ملكاً من ملوك غسان .. دخل إلى قلبه الإيمان ..
فكتب إلى الخليفة عمر رضي الله عنه .. يستأذنه في القدوم عليه ..
فسرّ عمرُ والمسلمون لذلك سروراً عظيماً ..
وكتب إليه عمر : أن اقدم إلينا .. ولك مالنا وعليك ما علينا ..
فأقبل جبلة في خمسمائة فارس من قومه ..
فلما دنا من المدينة لبس ثياباً منسوجة بالذهب .. ووضع على رأسه تاجاً مرصعاً بالجوهر ..
وألبس جنوده ثياباً فاخرة ..
ثم دخل المدينة .. فلم يبق أحد إلا خرج ينظر إليه حتى النساء والصبيان ..
فلما دخل على عمر رحَّب به وأدنى مجلسه ! ..
فلما دخل موسم الحج حج عمر .. وخرج معه جبلة ..
فبينا هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل فقير من بني فزارة ..
فالتفت إليه جبلة مغضباً .. فلطمه فهشم أنفه ..
فغضب الفزاري .. واشتكاه إلى عمر بن الخطاب ..
فبعث إليه فقال : ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك في الطواف .. فهشمت أنفه !
فقال : إنه وطئ إزاري ؟ ولولا حرمة البيت لضربت عنقه ..
فقال له عمر : أما الآن فقد أقررت .. فإما أن ترضيه .. وإلا اقتص منك .. ولطمك على وجهك ..
قال : يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة !
قال عمر : يا جبلة .. إن الإسلام قد ساوى بينك وبينه .. فما تفضله بشيء إلا بالتقوى ..
قال جبلة : إذن أتنصر ..
قال عمر : من بدل دينه فاقتلوه .. فإن تنصرت ضربت عنقك ..
فقال : أخّرني إلى غدٍ يا أمير المؤمنين ..
قال : لك ذلك .. فلما كان الليل خرج جبلةُ وأصحابُه من مكة .. وسار إلى القسطنطينية فتنصّر ..
فلما مضى عليه زمان هناك .. ذهبت اللذات .. وبقيت الحسرات .. فتذكر أيام إسلامه .. ولذة صلاته وصيامه ..
فندم على ترك الدين .. والشرك برب العالمين ..
فجعل يبكي ويقول :
تنصرت الأشراف من عار لطمة * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة * وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فياليت أمي لم تلدني وليتني * رجعت إلى القول الذي قال لي عمر
وياليتني أرعى المخاض بقفرة * وكنت أسير في ربيعة أو مضر
وياليت لي بالشام أدنى معيشة * أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
ثم ما زال على نصرانيته حتى مات .. نعم .. مات على الكفر لأنه تكبر عن الذلة لشرع رب العالمين ..
* * * * * * * *
فمن أراد السعادة الأبدية .. فليلزم عتبة العبودية ..
وليكن لربه أكثرَ تواضعاً وذلاً .. يسجد بين يديه .. ويتقرب إليه ..
مستجيباً لأمره .. منتهياً عن نهيه وزجره ..
قال الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ..
* * * * * * * *
وقد يرغب المرء في الهداية .. ويستقيم عليها زماناً .. ثم يغرى بمتع الدنيا .. إما بجاه .. أو وظيفة .. أو مال .. أو صداقة .. فيترك دينه لأجلها ..
أو يلتف عليه أقران يزينون له الشهوات .. ويدعونه إلى الملذات .. فيشاركهم في منكرهم .. ويسكت عن معصيتهم ..
فينتقل من عز الطاعة إلى ذل المعصية .. فيرتد على عقبيه بعد إذ هداه الله ..
وفي الصحيحين : أن رجلاً كان قارئاً كاتباً .. فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي .. وقد كان حفظ البقرة وآل عمران ..
وكان الرجل إذا حفظ البقرة .. وآل عمران ارتفع قدره عند الصحابة ..
فأغراه بعض المشركين .. بدنيا .. ومال .. ونساء .. فارتد عن الإسلام ولحق بعباد الأصنام .. طلباً لهذه المتع ..
وأخذ يستهزأ بالنبي صلى الله عليه وسلم .. ويقول : ما يدري محمد إلا ما كتبت له ..
فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بخبره .. فقال :
اللهم اجعله آية .. فلم يلبث أن مات .. نعم مات .. وانقطعت اللذات ..
وبقيت الحسرات .. وعظمت السيئات ..
فلما مات .. حفروا له فدفنوه ..
فلما أصبحوا .. مروا بقبره .. فإذا الأرض قد نبذته فوقها .. وإذا جثته ملقاة على التراب .. فعجبوا !! كيف أخرج من قبره !!
فقالوا : هذا من فعل محمد وأصحابه .. ثم عادوا فحفروا له وأعمقوا .. فدفنوه ..
فأصبحوا .. فمروا بقبره .. فإذا الأرض قد لفظته فوقها ..
فقالوا : هذا من فعل محمد وأصحابه .. ثم عادوا فحفروا له وأعمقوا أكثر ما استطاعوا .. فدفنوه ..
فأصبحوا .. فمروا بقبره .. فإذا الأرض قد لفظته فوقها ..
فقالوا : هذا ليس من فعل البشر ..
فتركوه منبوذاً .. على الأرض تمر به الكلاب فتفتح رجليها فوقه .. وتبول على وجهه ..والثعالب تنهش من لحمه..والغربان تأكل من جسده ..
نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى ..
* * * * * * * *
ومن الناس .. من يستقيم زماناً على الطاعات .. ويأنس برب الأرض والسموات ..
يتلذذ بمناجاته .. ويحي قلبه بمحبته .. وتأنس نفسه بمعرفته ..
لكنه يرى أهل المعاصي والشهوات .. فيشتاق أن يجرب عيشهم .. ويتمتعَ متعهم .. يظن أنهم سعداء .. فلا يلبث أن يتبين له الكربُ والبلاء ..
ذكر ابن الجوزي في كتابه المنتظم أن المسلمين غزو حصناً من حصون الروم..وكان حصناً منيعاً..فحاصروه وأطالوا الحصار وتمنع عليهم..
وأثناء حصارهم أطلت امرأة من نساء الروم فرآها رجل من المسلمين اسمه ابن عبد الرحيم ..
فأعجبته .. وتعلق قلبه بها .. فراسلها : كيف السبيل إليك ؟
فقالت : أن تتنصر .. وتصعد إليَّ ..
فتنصّر وتسلل إليها ..
مسكين ظن أن السعادة في امرأة ينكحها .. وخمر يشربها ..
فلما فقده المسلمون اغتموا لذلك غماً شديداً ..
ثم طالت بهم الأيام ولم يستطيعوا فتح الحصن فذهبوا ..
فلما كان بعد مدة مرّ فريق منهم بالحصن فتذاكروا ابن عبد الرحيم .. فتساءلوا عنه .. وعلى أي حال هو الآن ؟! ..
فنادوا باسمه : يا ابن عبد الرحيم .. فأطلَّ عليهم ..
فقالوا : قد حصلت ما تريد .. فأين قرآنك وعلمك ؟ ما فعلت صلاتك ؟
فقال : لقد أنسيت القرآن كله .. ولا أذكر منه إلا آية واحدة .. قوله تعالى : { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } ..
قال الله : { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون } ..
* * * * * * * *
هذا خبر ابن عبد الرحيم .. أغري بفتنة النساء .. فأشرك برب الأرض والسماء ..
وقد يغرى المرء بالمال .. فيكفر بالكريم المتعال ..
وانظر إلى الأعشى بن قيس ..
فكان شيخاً كبيراً شاعراً .. خرج من اليمامة .. من نجد .. يريد النبي عليه الصلاة والسلام .. راغباً في دخول الإسلام ..
مضى على راحلته .. مشتاقاً للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .. بل كان يسير وهو يردد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً :
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وبت كما بات السليمُ مسهدا
ألا أيهذا السائلي أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا
وآليت لا آوي لها من كلالة * ولا من حَفىً حتى تلاقي محمدا
نبي يرى ما لا ترون وذكرُه * أغار لعمري في البلاد وأنجدا
أجدِّك لم تسمع وصاة محمد * نبيِّ الإله حيث أوصى وأشهدا
إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى * ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله * فترصد للأمر الذي كان أرصدا
وما زال يقطع الفيافي والقفار..يحمله الشوق والغرام .. إلى النبي عليه السلام ..
راغباً في الإسلام .. ونبذ عبادة الأصنام ..
فلما كان قريباً من المدينة..اعترضه بعض المشركين فسألهوه عن أمره؟
فأخبرهم أنه جاء يريد لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم .. فخافوا أن يسلم هذا الشاعر .. فيقوى شأن النبي صلى الله عليه وسلم .. فشاعر واحد وهو حسان بن ثابت قد فعل بهم الأفاعيل .. فكيف لو أسلم شاعر العرب الأعشى بن قيس ..
فقالوا له : يا أعشى دينك ودين آبائك خير لك ..
قال : بل دينه خير وأقوم ..
قالوا : يا أعشى .. إنه يحرم الزنا .. قال : أنا شيخ كبير .. وما لي في النساء حاجة ..
فقالوا : إنه يحرم الخمر ..
فقال : إنها مذهبة للعقل .. مذلة للرجل .. ولا حاجة لي بها ..
فلما رأوا أنه عازم على الإسلام .. قالوا : نعطيك مائةَ بعير وترجع إلى أهلك .. وتترك الإسلام ..
قال : أما المال .. فنعم .. فجمعوها له .. فارتد على عقبيه .. وكرَّ راجعاً إلى قومه بكفره ..
واستاق الإبل أمامه .. فرحاً بها مستبشراً .. فلما كاد أن يبلغ دياره .. سقط من على ناقته فانكسرت رقبته ومات ..
( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ ) ..
* * * * * * * *
وإذا أردت أن تتيقن .. بعاقبة مخالطة الفساق وأهل الفساد ..
فانظر إلى عبيد الله بن جحش .. كان مجالساً للنبي صلى الله عليه وسلم ..
بل كان ممن أوذي في دينه وضيق عليه في مكة .. فهاجر مع المسلمين إلى الحبشة .. ترك أهله وبلده .. وماله وبيته .. في سبيل الله ..
وكانت معه زوجته أم حبيبة ..
فكثرت مخالطته للنصارى .. وابتعد عن المسلمين ..
فما زال حاله يتردى .. حتى أصبح يوماً فقال لزوجته أم حبيبة :
إني نظرت في الأديان فلم أر ديناً خيراً من النصرانية ..
ففزعت .. وقالت : والله ما هو خير لك .. واتق الله ..
فلم يلتفت إليها .. بل كفر بربه .. وعلق الصليب على صدره .. وأكب على الخمر يشربها .. ويخالط النصارى .. حتى مات ..
نسأل الله الثبات على دينه حتى الممات ..
ولعظيم أثر الصحبة في الثبات ..
أمر الله المؤمنين والمؤمنات .. بلزوم الصالحين والصالحات ..
وحذرهم من حال غيرهم ..
فقال الله : { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } ..
* * * * * * * *
ومما يزيد المؤمن صلابة في دينه .. وثباتاً عليه .. أن يحمل هم الدين ..
أن يكون مؤثراً في العصاة لا متأثراً بهم ..
ينصح هذا .. ويعظ ذاك .. ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ..
يدعو بالشريط النافع .. والكتاب المؤثر .. والنصيحة الصادقة .. ليزداد إيماناً مع إيمانه .. وقوة في استقامته ..
وانظر إلى الجبال الراسيات .. والخطى الثابتات ..
انظر على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
انظر إلى أبي بكر رضي الله عنه .. وتأمل في حرصه على الدعوة إلى الله .. واعجب من قوة ثباته على الدين ..
أخرج ابن سعد في الطبقات .. والطبري في الرياض النضرة ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول بعثته كان يدعو إلى الإسلام في مكة سراً .. وكان المسلمون يختفون بدينهم ..
فلما تكامل عددهم ثمانية وثلاثين رجلاً ..
ألحَّ أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر .. إنا قليل ..
فلم يزل أبو بكر يلح عليه حتى خرج صلى الله عليه وسلم .. إلى المسجد .. وخرج المسلمون معه..وتفرقوا في نواحي المسجد..كل رجل في عشيرته..
وقام أبو بكر في الناس خطيباً .. فكان أول خطيب دعا إلى الله .. فلما رأى المشركون من يسفه آلهتهم .. ويتنقص دينهم ..
ثاروا على أبي بكر وعلى المسلمين ..
فجعلوا يضرِبونهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً ..
وأبو بكر يجهر بالدين .. فأحاط به جمع منهم ..
فضربوه .. حتى وقع على الأرض .. وهو كهل قد قارب عمره الخمسين سنة ..
ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة .. وجعل يطأ على بطنه وصدره .. ويضربه بنعلين مخصوفين .. ويحرفهما على وجهه .. حتى مزق لحم وجهه .. وجعلت دماؤه تسيل .. حتى ما يعرف وجهه من أنفه .. وأبو بكر مغمى عليه ..
فجاءت قبيلته بنو تيم يتعادون .. ودفعوا المشركين عنه ..
وحملوه في ثوب .. ولا يشكون في موته .. حتى أدخلوه منزله ..
وقعد أبوه وقومه عند رأسه .. يكلمونه فلا يجيب ..
حتى إذا كان آخر النهار .. أفاق .. وفتح عينيه .. فكان أول كلمة تكلم بها ان قال : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ؟؟
فغضب أبوه وسبه .. ثم خرج من عنده ..
فقعدت أمه عند رأسه .. تجتهد أن تطعميه أو تسقيه .. وتلحّ عليه ..
وهو يردد : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فقالت : والله مالي علم بصاحبك ..
فقال : اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب .. فسليها عنه .. وكانت أم جميل مسلمة تكتم إسلامها ..
فخرجت أمه حتى جاءت أم جميل فقالت :
إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ؟
فقالت أم جميل : ما أعرف أبا بكر .. ولا محمداً .. ولكن إن أحببت مضيت معك إلى ابنك ..
قالت : نعم .. فمضت معها ..
فلما دخلت على أبي بكر .. وجدته صريعاً دنفاً .. ممزق الوجه .. ودماؤه تسيل ..
فبكت وقالت : والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر .. وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم ..
فالتفت إليها أبو بكر .. وما يكاد يطيق .. فقال : يا أم جميل .. ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
قالت : هذه أمك تسمع .. قال : فلا شيء عليك منها ..
قالت : سالمٌ صالحٌ .. قال : فأين هو ؟
قالت : في دار أبي الأرقم ..
فقالت أمه : قد عرفت خبر صاحبك .. فكل واشرب الآن ..
فقال : لا .. إن لله علي أن لا أذوق طعاماً أو شراباً .. حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فأراه بعيني ..
فأمهلتاه .. حتى إذا أظلم الليل .. وهدأ الناس ..
حاول أن يقوم .. فلم يستطع .. فخرجت به أمه وأم جميل يتكئ عليهما .. حتى ادخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أكب عليه يقبله ..
وأكبَّ عليه المسلمون .. ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة ..
وأبو بكر يقول : بأبي وأمي أنت يا رسول الله .. ليس بي من بأس .. إلا ما نال الفاسق من وجهي ..
ثم قال : يا رسول الله .. هذه أمي برة بولدها .. وأنت رجل مبارك .. فادعها إلى الله عز وجل .. وادع الله لها .. عسى الله أن يستنقذها بك من النار ..
فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم دعاها إلى الله .. فأسلمت ..
فهذا الحرص العظيم .. من أبي بكر ..
كان أول ثمراته أن ثبته الله على الدين ..
فإنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم .. شكك بعض الناس في موته ..
وقام عمر رضي الله عنه بسيفه يتهدد من يقول بموته ..
فيرقى أبو بكر المنبر بخطى ثابتات .. ويفصل النزاع بقوله :
من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات .. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ..
ثم ترتد قبائل حول مكة .. فيقف لهم أبو بكر .. ثابتاً راسياً .. حتى أعاد قوة الإسلام ..
بل إن من ثمرات هذا الحرص أن أسلم على يديه أكثرُ من ثلاثين صحابياً .. ستة منهم من العشرة المبشرين بالجنة ..
* * * * * * * *
وينبغي على الفتى والفتاة .. بل على المسلمين والمسلمات ..
إذا عرضت لأحدهم شهوة .. أو شعر في قلبه بقسوة ..
أو أحس بفتور عن الطاعات .. ورغبة في المحرمات ..
أن يشكو همه إلى أخٍ ناصح أمين ..
وقد كان بعض السلف يقول لبعض : تعال بنا نؤمن ساعة ..
وروى الترمذي والنسائي بسند حسن ..
أن مرثد بن أبي مرثد رضي الله عنه .. كان يخرج من المدينة .. إلى مكة مختفياً .. ويذهب إلى البيوت التي يحبس فيها أسرى المسلمين فيطلقهم من قيودهم .. ويحملهم إلى المدينة ..
فدخل مكة ليلة من الليالي .. وواعد أحد الأسرى في موضع منها ..
فبينما هو يمشي إليه .. إذ مرَّ بامرأة بغي بمكة .. يقال لها عناق ..
وكانت صديقة له في الجاهلية ..
فلما رآها اختبأ في ظل جدار فرأته .. فأقبلت إليه ..
فلما نظرت إلى وجهه عرفته .. فقالت : مرثد ؟ قال : مرثد ..
قالت : مرحباً وأهلاً .. هلم فبت عندنا الليلة ..
فقال : يا عناق حرم الله الزنا ..
فقالت : لتفعلن أو لأفضحن .. قال : لا ..
فصاحت : يا أهل الخيام .. هذا الرجل يحمل أسراكم ..
ففزع مرثد .. وهرب .. فتبعه ثمانية منهم .. فدخل حديقة ..
واختبأ في غار فيها ..
فدخلوا وراءه فأعماهم الله عنه ..
فرجعوا إلى رحالهم ..
فلبث في مخبئه يسيراً .. ثم خرج إلى موضع صاحبه ..
فحمله معه حتى خرج به من مكة .. ففك عنه قيوده .. حتى أتيا المدينة ..
نعم .. وصلا المدينة .. لكن قلبه لا زال يتذكر تلك المرأة ..فلم يطق صبراً ..
فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقال :
يا رسول الله .. أنكِحُ عناقاً .. أتزوجها ..؟
فأعرض عنه .. فأعاد عليه : يا رسول الله .. أنكح عناقاً ..
فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم .. حتى أنزل الله : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } ..
فدعاه النبي عليه الصلاة والسلام .. فقال له : " يا مرثد : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة .. والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك .. فلا تنكحها ".
فرضي الله عن مرثد .. تأمل كيف تدارك نفسه رضي الله عنه .. بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. حتى ذهب ما وسوس به الشيطان له ..
وبعض الناس .. تشتاق نفسه إلى الهداية ..
لكنه يمنعه الكبر من اتباع شعائر الدين ..
نعم يتكبر عن تقصير ثوبه فوق الكعبين .. وإعفاء لحيته ومخالفة المشركين .. فجمال مظهره أعظم عنده من طاعة ربه ..
وبعض النساء كذلك .. لا تزال تتساهل بأمر الحجاب .. حرصاً على تكميل زينتها .. وحسن بزتها .. أو تعصي ربها بنتف حاجبها .. أو تضييق لباسها .. وإذا نصحت استكبرت وطغت ..
ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر .. فكيف إذا كان هذا الكبر مانعاً من الهداية ..
كان جبلة بن الأيهم ..
ملكاً من ملوك غسان .. دخل إلى قلبه الإيمان ..
فكتب إلى الخليفة عمر رضي الله عنه .. يستأذنه في القدوم عليه ..
فسرّ عمرُ والمسلمون لذلك سروراً عظيماً ..
وكتب إليه عمر : أن اقدم إلينا .. ولك مالنا وعليك ما علينا ..
فأقبل جبلة في خمسمائة فارس من قومه ..
فلما دنا من المدينة لبس ثياباً منسوجة بالذهب .. ووضع على رأسه تاجاً مرصعاً بالجوهر ..
وألبس جنوده ثياباً فاخرة ..
ثم دخل المدينة .. فلم يبق أحد إلا خرج ينظر إليه حتى النساء والصبيان ..
فلما دخل على عمر رحَّب به وأدنى مجلسه ! ..
فلما دخل موسم الحج حج عمر .. وخرج معه جبلة ..
فبينا هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل فقير من بني فزارة ..
فالتفت إليه جبلة مغضباً .. فلطمه فهشم أنفه ..
فغضب الفزاري .. واشتكاه إلى عمر بن الخطاب ..
فبعث إليه فقال : ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك في الطواف .. فهشمت أنفه !
فقال : إنه وطئ إزاري ؟ ولولا حرمة البيت لضربت عنقه ..
فقال له عمر : أما الآن فقد أقررت .. فإما أن ترضيه .. وإلا اقتص منك .. ولطمك على وجهك ..
قال : يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة !
قال عمر : يا جبلة .. إن الإسلام قد ساوى بينك وبينه .. فما تفضله بشيء إلا بالتقوى ..
قال جبلة : إذن أتنصر ..
قال عمر : من بدل دينه فاقتلوه .. فإن تنصرت ضربت عنقك ..
فقال : أخّرني إلى غدٍ يا أمير المؤمنين ..
قال : لك ذلك .. فلما كان الليل خرج جبلةُ وأصحابُه من مكة .. وسار إلى القسطنطينية فتنصّر ..
فلما مضى عليه زمان هناك .. ذهبت اللذات .. وبقيت الحسرات .. فتذكر أيام إسلامه .. ولذة صلاته وصيامه ..
فندم على ترك الدين .. والشرك برب العالمين ..
فجعل يبكي ويقول :
تنصرت الأشراف من عار لطمة * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة * وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فياليت أمي لم تلدني وليتني * رجعت إلى القول الذي قال لي عمر
وياليتني أرعى المخاض بقفرة * وكنت أسير في ربيعة أو مضر
وياليت لي بالشام أدنى معيشة * أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
ثم ما زال على نصرانيته حتى مات .. نعم .. مات على الكفر لأنه تكبر عن الذلة لشرع رب العالمين ..
* * * * * * * *
فمن أراد السعادة الأبدية .. فليلزم عتبة العبودية ..
وليكن لربه أكثرَ تواضعاً وذلاً .. يسجد بين يديه .. ويتقرب إليه ..
مستجيباً لأمره .. منتهياً عن نهيه وزجره ..
قال الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ..
* * * * * * * *
وقد يرغب المرء في الهداية .. ويستقيم عليها زماناً .. ثم يغرى بمتع الدنيا .. إما بجاه .. أو وظيفة .. أو مال .. أو صداقة .. فيترك دينه لأجلها ..
أو يلتف عليه أقران يزينون له الشهوات .. ويدعونه إلى الملذات .. فيشاركهم في منكرهم .. ويسكت عن معصيتهم ..
فينتقل من عز الطاعة إلى ذل المعصية .. فيرتد على عقبيه بعد إذ هداه الله ..
وفي الصحيحين : أن رجلاً كان قارئاً كاتباً .. فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي .. وقد كان حفظ البقرة وآل عمران ..
وكان الرجل إذا حفظ البقرة .. وآل عمران ارتفع قدره عند الصحابة ..
فأغراه بعض المشركين .. بدنيا .. ومال .. ونساء .. فارتد عن الإسلام ولحق بعباد الأصنام .. طلباً لهذه المتع ..
وأخذ يستهزأ بالنبي صلى الله عليه وسلم .. ويقول : ما يدري محمد إلا ما كتبت له ..
فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بخبره .. فقال :
اللهم اجعله آية .. فلم يلبث أن مات .. نعم مات .. وانقطعت اللذات ..
وبقيت الحسرات .. وعظمت السيئات ..
فلما مات .. حفروا له فدفنوه ..
فلما أصبحوا .. مروا بقبره .. فإذا الأرض قد نبذته فوقها .. وإذا جثته ملقاة على التراب .. فعجبوا !! كيف أخرج من قبره !!
فقالوا : هذا من فعل محمد وأصحابه .. ثم عادوا فحفروا له وأعمقوا .. فدفنوه ..
فأصبحوا .. فمروا بقبره .. فإذا الأرض قد لفظته فوقها ..
فقالوا : هذا من فعل محمد وأصحابه .. ثم عادوا فحفروا له وأعمقوا أكثر ما استطاعوا .. فدفنوه ..
فأصبحوا .. فمروا بقبره .. فإذا الأرض قد لفظته فوقها ..
فقالوا : هذا ليس من فعل البشر ..
فتركوه منبوذاً .. على الأرض تمر به الكلاب فتفتح رجليها فوقه .. وتبول على وجهه ..والثعالب تنهش من لحمه..والغربان تأكل من جسده ..
نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى ..
* * * * * * * *
ومن الناس .. من يستقيم زماناً على الطاعات .. ويأنس برب الأرض والسموات ..
يتلذذ بمناجاته .. ويحي قلبه بمحبته .. وتأنس نفسه بمعرفته ..
لكنه يرى أهل المعاصي والشهوات .. فيشتاق أن يجرب عيشهم .. ويتمتعَ متعهم .. يظن أنهم سعداء .. فلا يلبث أن يتبين له الكربُ والبلاء ..
ذكر ابن الجوزي في كتابه المنتظم أن المسلمين غزو حصناً من حصون الروم..وكان حصناً منيعاً..فحاصروه وأطالوا الحصار وتمنع عليهم..
وأثناء حصارهم أطلت امرأة من نساء الروم فرآها رجل من المسلمين اسمه ابن عبد الرحيم ..
فأعجبته .. وتعلق قلبه بها .. فراسلها : كيف السبيل إليك ؟
فقالت : أن تتنصر .. وتصعد إليَّ ..
فتنصّر وتسلل إليها ..
مسكين ظن أن السعادة في امرأة ينكحها .. وخمر يشربها ..
فلما فقده المسلمون اغتموا لذلك غماً شديداً ..
ثم طالت بهم الأيام ولم يستطيعوا فتح الحصن فذهبوا ..
فلما كان بعد مدة مرّ فريق منهم بالحصن فتذاكروا ابن عبد الرحيم .. فتساءلوا عنه .. وعلى أي حال هو الآن ؟! ..
فنادوا باسمه : يا ابن عبد الرحيم .. فأطلَّ عليهم ..
فقالوا : قد حصلت ما تريد .. فأين قرآنك وعلمك ؟ ما فعلت صلاتك ؟
فقال : لقد أنسيت القرآن كله .. ولا أذكر منه إلا آية واحدة .. قوله تعالى : { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } ..
قال الله : { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون } ..
* * * * * * * *
هذا خبر ابن عبد الرحيم .. أغري بفتنة النساء .. فأشرك برب الأرض والسماء ..
وقد يغرى المرء بالمال .. فيكفر بالكريم المتعال ..
وانظر إلى الأعشى بن قيس ..
فكان شيخاً كبيراً شاعراً .. خرج من اليمامة .. من نجد .. يريد النبي عليه الصلاة والسلام .. راغباً في دخول الإسلام ..
مضى على راحلته .. مشتاقاً للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .. بل كان يسير وهو يردد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً :
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وبت كما بات السليمُ مسهدا
ألا أيهذا السائلي أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا
وآليت لا آوي لها من كلالة * ولا من حَفىً حتى تلاقي محمدا
نبي يرى ما لا ترون وذكرُه * أغار لعمري في البلاد وأنجدا
أجدِّك لم تسمع وصاة محمد * نبيِّ الإله حيث أوصى وأشهدا
إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى * ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله * فترصد للأمر الذي كان أرصدا
وما زال يقطع الفيافي والقفار..يحمله الشوق والغرام .. إلى النبي عليه السلام ..
راغباً في الإسلام .. ونبذ عبادة الأصنام ..
فلما كان قريباً من المدينة..اعترضه بعض المشركين فسألهوه عن أمره؟
فأخبرهم أنه جاء يريد لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم .. فخافوا أن يسلم هذا الشاعر .. فيقوى شأن النبي صلى الله عليه وسلم .. فشاعر واحد وهو حسان بن ثابت قد فعل بهم الأفاعيل .. فكيف لو أسلم شاعر العرب الأعشى بن قيس ..
فقالوا له : يا أعشى دينك ودين آبائك خير لك ..
قال : بل دينه خير وأقوم ..
قالوا : يا أعشى .. إنه يحرم الزنا .. قال : أنا شيخ كبير .. وما لي في النساء حاجة ..
فقالوا : إنه يحرم الخمر ..
فقال : إنها مذهبة للعقل .. مذلة للرجل .. ولا حاجة لي بها ..
فلما رأوا أنه عازم على الإسلام .. قالوا : نعطيك مائةَ بعير وترجع إلى أهلك .. وتترك الإسلام ..
قال : أما المال .. فنعم .. فجمعوها له .. فارتد على عقبيه .. وكرَّ راجعاً إلى قومه بكفره ..
واستاق الإبل أمامه .. فرحاً بها مستبشراً .. فلما كاد أن يبلغ دياره .. سقط من على ناقته فانكسرت رقبته ومات ..
( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ ) ..
* * * * * * * *
وإذا أردت أن تتيقن .. بعاقبة مخالطة الفساق وأهل الفساد ..
فانظر إلى عبيد الله بن جحش .. كان مجالساً للنبي صلى الله عليه وسلم ..
بل كان ممن أوذي في دينه وضيق عليه في مكة .. فهاجر مع المسلمين إلى الحبشة .. ترك أهله وبلده .. وماله وبيته .. في سبيل الله ..
وكانت معه زوجته أم حبيبة ..
فكثرت مخالطته للنصارى .. وابتعد عن المسلمين ..
فما زال حاله يتردى .. حتى أصبح يوماً فقال لزوجته أم حبيبة :
إني نظرت في الأديان فلم أر ديناً خيراً من النصرانية ..
ففزعت .. وقالت : والله ما هو خير لك .. واتق الله ..
فلم يلتفت إليها .. بل كفر بربه .. وعلق الصليب على صدره .. وأكب على الخمر يشربها .. ويخالط النصارى .. حتى مات ..
نسأل الله الثبات على دينه حتى الممات ..
ولعظيم أثر الصحبة في الثبات ..
أمر الله المؤمنين والمؤمنات .. بلزوم الصالحين والصالحات ..
وحذرهم من حال غيرهم ..
فقال الله : { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } ..
* * * * * * * *
ومما يزيد المؤمن صلابة في دينه .. وثباتاً عليه .. أن يحمل هم الدين ..
أن يكون مؤثراً في العصاة لا متأثراً بهم ..
ينصح هذا .. ويعظ ذاك .. ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ..
يدعو بالشريط النافع .. والكتاب المؤثر .. والنصيحة الصادقة .. ليزداد إيماناً مع إيمانه .. وقوة في استقامته ..
وانظر إلى الجبال الراسيات .. والخطى الثابتات ..
انظر على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
انظر إلى أبي بكر رضي الله عنه .. وتأمل في حرصه على الدعوة إلى الله .. واعجب من قوة ثباته على الدين ..
أخرج ابن سعد في الطبقات .. والطبري في الرياض النضرة ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول بعثته كان يدعو إلى الإسلام في مكة سراً .. وكان المسلمون يختفون بدينهم ..
فلما تكامل عددهم ثمانية وثلاثين رجلاً ..
ألحَّ أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر .. إنا قليل ..
فلم يزل أبو بكر يلح عليه حتى خرج صلى الله عليه وسلم .. إلى المسجد .. وخرج المسلمون معه..وتفرقوا في نواحي المسجد..كل رجل في عشيرته..
وقام أبو بكر في الناس خطيباً .. فكان أول خطيب دعا إلى الله .. فلما رأى المشركون من يسفه آلهتهم .. ويتنقص دينهم ..
ثاروا على أبي بكر وعلى المسلمين ..
فجعلوا يضرِبونهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً ..
وأبو بكر يجهر بالدين .. فأحاط به جمع منهم ..
فضربوه .. حتى وقع على الأرض .. وهو كهل قد قارب عمره الخمسين سنة ..
ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة .. وجعل يطأ على بطنه وصدره .. ويضربه بنعلين مخصوفين .. ويحرفهما على وجهه .. حتى مزق لحم وجهه .. وجعلت دماؤه تسيل .. حتى ما يعرف وجهه من أنفه .. وأبو بكر مغمى عليه ..
فجاءت قبيلته بنو تيم يتعادون .. ودفعوا المشركين عنه ..
وحملوه في ثوب .. ولا يشكون في موته .. حتى أدخلوه منزله ..
وقعد أبوه وقومه عند رأسه .. يكلمونه فلا يجيب ..
حتى إذا كان آخر النهار .. أفاق .. وفتح عينيه .. فكان أول كلمة تكلم بها ان قال : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ؟؟
فغضب أبوه وسبه .. ثم خرج من عنده ..
فقعدت أمه عند رأسه .. تجتهد أن تطعميه أو تسقيه .. وتلحّ عليه ..
وهو يردد : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فقالت : والله مالي علم بصاحبك ..
فقال : اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب .. فسليها عنه .. وكانت أم جميل مسلمة تكتم إسلامها ..
فخرجت أمه حتى جاءت أم جميل فقالت :
إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ؟
فقالت أم جميل : ما أعرف أبا بكر .. ولا محمداً .. ولكن إن أحببت مضيت معك إلى ابنك ..
قالت : نعم .. فمضت معها ..
فلما دخلت على أبي بكر .. وجدته صريعاً دنفاً .. ممزق الوجه .. ودماؤه تسيل ..
فبكت وقالت : والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر .. وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم ..
فالتفت إليها أبو بكر .. وما يكاد يطيق .. فقال : يا أم جميل .. ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
قالت : هذه أمك تسمع .. قال : فلا شيء عليك منها ..
قالت : سالمٌ صالحٌ .. قال : فأين هو ؟
قالت : في دار أبي الأرقم ..
فقالت أمه : قد عرفت خبر صاحبك .. فكل واشرب الآن ..
فقال : لا .. إن لله علي أن لا أذوق طعاماً أو شراباً .. حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فأراه بعيني ..
فأمهلتاه .. حتى إذا أظلم الليل .. وهدأ الناس ..
حاول أن يقوم .. فلم يستطع .. فخرجت به أمه وأم جميل يتكئ عليهما .. حتى ادخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أكب عليه يقبله ..
وأكبَّ عليه المسلمون .. ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة ..
وأبو بكر يقول : بأبي وأمي أنت يا رسول الله .. ليس بي من بأس .. إلا ما نال الفاسق من وجهي ..
ثم قال : يا رسول الله .. هذه أمي برة بولدها .. وأنت رجل مبارك .. فادعها إلى الله عز وجل .. وادع الله لها .. عسى الله أن يستنقذها بك من النار ..
فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم دعاها إلى الله .. فأسلمت ..
فهذا الحرص العظيم .. من أبي بكر ..
كان أول ثمراته أن ثبته الله على الدين ..
فإنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم .. شكك بعض الناس في موته ..
وقام عمر رضي الله عنه بسيفه يتهدد من يقول بموته ..
فيرقى أبو بكر المنبر بخطى ثابتات .. ويفصل النزاع بقوله :
من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات .. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ..
ثم ترتد قبائل حول مكة .. فيقف لهم أبو بكر .. ثابتاً راسياً .. حتى أعاد قوة الإسلام ..
بل إن من ثمرات هذا الحرص أن أسلم على يديه أكثرُ من ثلاثين صحابياً .. ستة منهم من العشرة المبشرين بالجنة ..
* * * * * * * *
وينبغي على الفتى والفتاة .. بل على المسلمين والمسلمات ..
إذا عرضت لأحدهم شهوة .. أو شعر في قلبه بقسوة ..
أو أحس بفتور عن الطاعات .. ورغبة في المحرمات ..
أن يشكو همه إلى أخٍ ناصح أمين ..
وقد كان بعض السلف يقول لبعض : تعال بنا نؤمن ساعة ..
وروى الترمذي والنسائي بسند حسن ..
أن مرثد بن أبي مرثد رضي الله عنه .. كان يخرج من المدينة .. إلى مكة مختفياً .. ويذهب إلى البيوت التي يحبس فيها أسرى المسلمين فيطلقهم من قيودهم .. ويحملهم إلى المدينة ..
فدخل مكة ليلة من الليالي .. وواعد أحد الأسرى في موضع منها ..
فبينما هو يمشي إليه .. إذ مرَّ بامرأة بغي بمكة .. يقال لها عناق ..
وكانت صديقة له في الجاهلية ..
فلما رآها اختبأ في ظل جدار فرأته .. فأقبلت إليه ..
فلما نظرت إلى وجهه عرفته .. فقالت : مرثد ؟ قال : مرثد ..
قالت : مرحباً وأهلاً .. هلم فبت عندنا الليلة ..
فقال : يا عناق حرم الله الزنا ..
فقالت : لتفعلن أو لأفضحن .. قال : لا ..
فصاحت : يا أهل الخيام .. هذا الرجل يحمل أسراكم ..
ففزع مرثد .. وهرب .. فتبعه ثمانية منهم .. فدخل حديقة ..
واختبأ في غار فيها ..
فدخلوا وراءه فأعماهم الله عنه ..
فرجعوا إلى رحالهم ..
فلبث في مخبئه يسيراً .. ثم خرج إلى موضع صاحبه ..
فحمله معه حتى خرج به من مكة .. ففك عنه قيوده .. حتى أتيا المدينة ..
نعم .. وصلا المدينة .. لكن قلبه لا زال يتذكر تلك المرأة ..فلم يطق صبراً ..
فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقال :
يا رسول الله .. أنكِحُ عناقاً .. أتزوجها ..؟
فأعرض عنه .. فأعاد عليه : يا رسول الله .. أنكح عناقاً ..
فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم .. حتى أنزل الله : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } ..
فدعاه النبي عليه الصلاة والسلام .. فقال له : " يا مرثد : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة .. والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك .. فلا تنكحها ".
فرضي الله عن مرثد .. تأمل كيف تدارك نفسه رضي الله عنه .. بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. حتى ذهب ما وسوس به الشيطان له ..
عبد الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
* * * * * * * *
وذكر أبو نعيم في الحلية :
عن عمرو ابن ميمون بن مهران قال :
بعدما كبر أبي وذهب بصره .. قال لي : هلم بنا إلى الحسن البصري ..
فخرجت به أقوده إلى بيت الحسن البصري .. فلما دخلنا على الحسن قال له أبي :
يا أبا سعيد .. قد أنست من قلبي غلظة .. فاستلن لي منه ..
فقرأ الحسن { أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } ..
فبكى أبي .. حتى سقط .. وأخذ يضرب برجله الأرض ..
كما تضرب الشاة المذبوحة ..
وأخذ الحسن البصري يبكي معه وينتحب ..
فجاءت الجارية .. فقالت : قد أتعبتم الشيخ .. قوموا تفرقوا ..
فأخذتُ بيد أبي فخرجت به .. فلما صرنا في الطريق .. وكزني أبي في صدري وكزة .. ثم قال : يا بني .. لقد قرأ علينا آيات .. لو فهمتها بقلبك لأبقت فيه كلوماً .. أي جروحاً ..
نعم ..
لا بد من شكوى إلى ذي مروءة * يناجيك أو يسليك أو يتوجع ..
* * * * * * * *
ومن أعظم وسائل الثبات على الدين ..أن يكون المرء طائعاً لله في سره وعلنه ..
صح عند ابن ماجة وغيره .. أنه صلى الله عليه وسلم قال : لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاء .. فيجعلها الله هباء منثوراً .. قال ثوبان : يا رسول الله صفهم لنا .. جلهم لنا .. لا نكون منهم ونحن لا نعلم ..
قال : أما إنهم إخوانكم .. ومن جلدتكم .. ويأخذون من الليل كما تأخذون .. ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ..
خلت امرأة برجل يوماً .. فكان الشيطان ثالثهما .. فدعته إلى الفاحشة .. فقال : إن رجلاً يبيع جنة عرضها السموات والأرض .. بلذة فانية .. لمجنون ..
وقد كان الصالحون .. يعجبهم أن يكون للرجل خبيئةٌ من عمل صالح .. بينه وبين ربه لا يعلمها أحد .. من صدقة في السر .. أو نصيحة لمقصر .. أو كفالة يتيم .. أو أرملة ومسكين .. أو قيام في الأسحار .. وصيام في النهار .. ودعاء واستغفار ..
أو ختم للقرآن .. وذكر دائم للرحمن ..
والله لا يضيع أجر المحسنين ..
كان أبو بكر رضي الله عنه إذا صلى الفجر خرج إلى الصحراء .. فاحتبس فيها شيئاً يسيراً .. ثم عاد إلى المدينة ..
فعجب عمر رضي الله عنه من خروجه .. فتبعه يوماً خفية بعدما صلى الفجر ..
فإذا أبو بكر يخرج من المدينة ويأتي على خيمة قديمة في الصحراء .. فاختبأ له عمر خلف صخرة ..
فلبث أبو بكر في الخيمة شيئاً يسيراً .. ثم خرج ..
فخرج عمر من وراء صخرته ودخل الخيمة .. فإذا فيها امرأة ضعيفة عمياء .. وعندها صبية صغار ..
فسألها عمر : من هذا الذي يأتيكم ..
فقالت : لا أعرفه .. هذا رجل من المسلمين .. يأتينا كل صباح .. منذ كذا وكذا ..
قال فماذا يفعل : قالت : يكنس بيتنا .. ويعجن عجيننا .. ويحلب داجننا .. ثم يخرج ..
فخرج عمر وهو يقول : لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر .. لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر ..
* * * * * * * *
ولم يكن عمر رضي الله عنه بعيداً في تعبده وإخلاصه عن أبي بكر ..
فقد خرج مرة رضي الله عنه إلى ضواحي المدينة .. فإذا برجل عابر سبيل نازل وسط الطريق .. وقد نصب خيمة قديمة .. وقعد عند بابها .. مضطربَ الحال .. فسأله عمر : من الرجل ؟
قال : من أهل البادية .. جئت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله ..
فسمع عمر أنين امرأة داخل الخيمة .. فسأله عنه ؟
فقال : انطلق رحمك الله لحاجتك ..
قال عمر : هذا من حاجتي ..
فقال : امرأتي في الطلق - يعني تلد - وليس عندي مال ولا طعام ولا أحد ..
فرجع عمر إلى بيته سريعاً .. فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي : هل لك في خير ساقه الله إليك ؟
قالت : وما ذاك .. فأخبرها بخبر الرجل .. فحملت امرأته معها متاعاً .. وحمل هو جراباً فيه طعام .. وقدراً وحطباً .. ومضى إلى الرجل ..
ودخلت امرأة عمر على المرأة في خيمتها ..
وقعد هو عند الرجل .. فأشعل النار وأخذ ينفخ الحطب .. ويصنع الطعام .. والدخان يتخلل لحيته .. والرجل قاعد ينظر إليه ..
فبينما هو على ذلك .. إذ صاحت امرأته من داخل الخيمة .. يا أمير المؤمنين .. بشر صاحبك بغلام ..
فلما سمع الرجل .. أمير المؤمنين .. فزع وقال : أنت عمر بن الخطاب .. قال : نعم .. فاضطرب الرجل .. وجعل يتنحى عن عمر.. فقال له عمر : مكانك ..
ثم حمل عمر القدر .. وقربه إلى الخيمة وصاح بامرأته .. أشبعيها ..
فأكلت المرأة من الطعام .. ثم أخرجت باقي الطعام خارج الخيمة ..
فقام عمر فأخذه فوضعه بين يدي الرجل .. وقال له : كل .. فإنك قد سهرت من الليل ..
ثم نادى عمر امرأته فخرجت إليه ..
فقال للرجل : إذا كان من الغد .. فأتنا نأمر لك بما يصلحك ..
* * * * * * * *
وهكذا كان من بعدهم ..
فكان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل .. فيتصدق بها..ويقول : إن صدقة السر تطفىء غضب الرب ..
فلما مات وجدوا في ظهره آثار سواد .. فقالوا : هذا ظهر حمال .. وما علمناه اشتغل حمالاً ..
فانقطع الطعام عن مائة بيت في المدينة .. من بيوت الأرامل والأيتام .. كان يأتيهم طعامهم بالليل .. لا يدرون من يحضره إليهم .. فعلموا أنه الذي ينفق عليهم ..
وصام أحد السلف عشرين سنة .. يصوم يوماً ويفطر يوماً .. وأهله لا يدرون عنه .. كان له دكان يخرج إليه إذا طلعت الشمس ويأخذ معه فطوره وغداءه .. فإذا كان يوم صومه تصدق بالطعام .. وإذا كان يوم فطره أكله ..
فإذا غربت الشمس .. رجع إلى أهله وتعشى معهم ..
نعم .. كانوا يستشعرون العبودية لله في جميع أحوالهم ..
هم المتقون حقاً .. وأولياء الله صدقاً .. والله يقول : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا } ..
فطوبى لقلوب ملأتها خشيته .. واستولت عليها محبته ..
أصبحت الطاعة لهم عادة .. والحركات والسكنات لهم عبادة ..
والله لو جالست نفسك خاليا * وبحثتها بحثا بلا روغان
لوجدت خير العيش عيشهم فإن ..تقعد رجعت بذلة وهوان
فالحق شمس والعيون نواظر * لا تختفي إلا على العميان
والقلب يعمى عن هداه مثلما تعمى * وأعظم هذه العينان
وصلاحه وفلاحه ونعيمه تجريد هذا الحب للرحمن
فإذا تخلى منه أصبح حائراً ويعود في ذا الكون ذا خسران
* * * * * * * *
وعلى من وفقه الله للاستقامة على هذا الدين .. أن لا يغتر بطول استقامته .. ولا كثرةِ صلاته وعبادته ..
بل يسأل ربه الثباتَ على الدين .. والعصمةَ واليقين ..
وانظر إلى محطم الأصنام..وباني البيت الحرام..إبراهيمَ عليه السلام..
يبني البيت وهو يبتهل إلى ربه ويقول:واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام ..
ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ..
وقالت عائشة رضي الله عنها .. كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ..
وكان يستعيذ بالله من الحور بعد الكور..يعني من الضلال بعد الهدى..
ومن أقوى وسائل الثبات .. الاشتغال بميراث الأنبياء .. من طلب العلم النافع .. وحضور مجالسه .. ومخالطة أهله .. وقراءة كتبه ..
والعالم أشد على الشيطان من ألف عابد .. وفضل العالم عل العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ..
* * * * * * * *
وختاماً .. فإن من وسائل الثبات على الدين ..
أن يتصور العبد عاقبة صبره على الطاعات .. ومجانبة المحرمات ..
فكيف يبيع العاقل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ..ولا خطر على قلب بشر
بعيش زائل كأنه أحلام ..
كيف تباع جنةٌ عرضها الأرض السموات .. بسجن مليء بالبليات ..
ومساكنُ تجري من تحتها الأنهار .. بأعطان آخرها الخراب والبوار ..
وكيف تباع أبكارٌ كأنهن الياقوت والمرجان .. بقذرات دنسات مسافحات ..
وأنهارٌ من خمر لذة للشاربين .. بشراب مفسد للدنيا والدين ..
وكيف تباع لذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم .. بالنظر إلى وجه فاجرة قبيح دميم ..
وسماعُ الخطاب من الرحمن .. بسماع المعازف والألحان ..
وكيف يباع الجلوسُ على منابر اللؤلؤ يوم المزيد .. بالجلوس مع كل شيطان مريد ..
نعم .. كيف ترغب عنها !! وهي دار غرسها الرحمن بيده .. وجعلها مقراً لأحبابه ..
ووصف دخولها بالفوز العظيم .. وملكَها بالملك الكبير ..
فإن سألت عن تربتها فهي المسك والزعفران ..
وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن ..
وحصباؤها لؤلؤ وجوهر .. وبناؤها فضة وذهب ..
وإن سألت عن ثمرها فأحلى من العسل ..
وإن سألت عن ورقها فألين الحلل ..
أما أنهارها فأنهارٌ من لبن لم يتغير طعمه .. وأنهار من خمر لذة للشاربين ..وأنهار من عسل مصفى ..
وطعامهم فاكهةٌ مما يتخيرون..ولحمُ طير مما يشتهون ..
ولباس أهلها الحرير والذهب .. وفرشها بطائن في أعلى الرتب ..
وخدمهم ولدان مخلدون .. كأنهم لؤلؤ مكنون ..
* * * * * * * * *
فهم في روضاتها يتقلبون .. وعلى أسرتها يتكئون ..
ومن ثمارها يتفكهون .. ويطوف عليهم ولدان مخلدون ..
يوم يحشر المتقون إلى الرحمن وفداً..ويساق المجرمون إلى جهنم ورداً ..
فواعجباً لها كيف نام طلابها ؟ وكيف لم يتسابق إليها عشاقها !
وربهم يناديهم بقوله :
{ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ } ..
* * * * * * * * *
أيها الأخوة والأخوات ..
هذه وسائل الثبات .. لمن أراد السلامة والنجاة ..
ونحن في زمن كثرت فيه الفتن .. وتنوعت المحن ..
فتن تفتن الأبصار .. وأخرى تفتن الأسماع .. وثالثة تسهل الفاحشة .. ورابعة تدعوا إلى المال الحرام ..
حتى صار حالنا قريباً من ذلك الزمان .. الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما : ( فإن وراءكم أيام الصبر .. الصبر فيهن كقبض على الجمر .. للعامل فيهن أجر خمسين منكم .. يعمل مثل عمله ..
قالوا : يا رسول الله .. أو منهم .. قال : بل منكم .. ) .. حديث حسن ..
وعند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : بدأ الإسلام غريباً .. وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء .. نعم طوبى للغرباء ..
وإنما يعظم الأجر للعامل الصالح في آخر الزمان .. لأنه لا يكاد يجد على الخير أعواناً .. فهو غريب بين العصاة .. نعم غريب بينهم ..
يأكلون الربا ولا يأكل .. ويسمعون الغناء ولا يسمع .. وينظرون إلى المحرمات ولا ينظر .. بل ويقعون في السحر والشرك .. وهو على التوحيد ..
وعند البخاري : قال صلى الله عليه وسلم : لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شرٌ منه حتى تلقوا ربكم ..
وأخرج البزار بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله عز وجل : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين .. ولا أجمع له أمنين .. إذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة .. وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ..
نعم .. من كان خائفاً في الدنيا .. معظماً لجلال الله .. أمن يوم القيامة .. وفرح بلقاء الله .. وكان من أهل الجنة الذين قال الله عنهم :
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } ..
أما من كان مقبلاً على المعاصي .. همه شهوة بطنه وفرجه .. آمناً من عذاب الله .. فهو في خوف وفزع في الآخرة ..
قال الله : { تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ } ..
فتوكل على الله إنك على الحق المبين ..
ولا تغتر بكثرةِ المتساقطين .. ولا ندرةِ الثابتين ..
ولا تستوحش من قلة السالكين ..
يا معرضا عما يراد به وقد * جد المسير فمنتهاه داني
جذلان يضحك آمنا متبختراً * وكأنه قد نال عقد أمان
خلع السرور عليه أو في حله * طردت جميع الهم والأحزان
يختال في حلل المسرة ناسياً * ما بعدها من حلة الأكفان
ما سعيه إلا لطيب العيش في الدنيا ولو أفضى إلى النيران
قد باع طيب العيش في دار النعيم بذا الحطام المضمحل الفاني
* * * * * * * *
أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لفعل الخيرات .. وترك المنكرات ..
وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ..
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك ..
وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله ..
كتبه /
د. محمد بن عبد الرحمن العريفي
26/12/1422هـ
arefe@arefe.com
وذكر أبو نعيم في الحلية :
عن عمرو ابن ميمون بن مهران قال :
بعدما كبر أبي وذهب بصره .. قال لي : هلم بنا إلى الحسن البصري ..
فخرجت به أقوده إلى بيت الحسن البصري .. فلما دخلنا على الحسن قال له أبي :
يا أبا سعيد .. قد أنست من قلبي غلظة .. فاستلن لي منه ..
فقرأ الحسن { أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } ..
فبكى أبي .. حتى سقط .. وأخذ يضرب برجله الأرض ..
كما تضرب الشاة المذبوحة ..
وأخذ الحسن البصري يبكي معه وينتحب ..
فجاءت الجارية .. فقالت : قد أتعبتم الشيخ .. قوموا تفرقوا ..
فأخذتُ بيد أبي فخرجت به .. فلما صرنا في الطريق .. وكزني أبي في صدري وكزة .. ثم قال : يا بني .. لقد قرأ علينا آيات .. لو فهمتها بقلبك لأبقت فيه كلوماً .. أي جروحاً ..
نعم ..
لا بد من شكوى إلى ذي مروءة * يناجيك أو يسليك أو يتوجع ..
* * * * * * * *
ومن أعظم وسائل الثبات على الدين ..أن يكون المرء طائعاً لله في سره وعلنه ..
صح عند ابن ماجة وغيره .. أنه صلى الله عليه وسلم قال : لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاء .. فيجعلها الله هباء منثوراً .. قال ثوبان : يا رسول الله صفهم لنا .. جلهم لنا .. لا نكون منهم ونحن لا نعلم ..
قال : أما إنهم إخوانكم .. ومن جلدتكم .. ويأخذون من الليل كما تأخذون .. ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ..
خلت امرأة برجل يوماً .. فكان الشيطان ثالثهما .. فدعته إلى الفاحشة .. فقال : إن رجلاً يبيع جنة عرضها السموات والأرض .. بلذة فانية .. لمجنون ..
وقد كان الصالحون .. يعجبهم أن يكون للرجل خبيئةٌ من عمل صالح .. بينه وبين ربه لا يعلمها أحد .. من صدقة في السر .. أو نصيحة لمقصر .. أو كفالة يتيم .. أو أرملة ومسكين .. أو قيام في الأسحار .. وصيام في النهار .. ودعاء واستغفار ..
أو ختم للقرآن .. وذكر دائم للرحمن ..
والله لا يضيع أجر المحسنين ..
كان أبو بكر رضي الله عنه إذا صلى الفجر خرج إلى الصحراء .. فاحتبس فيها شيئاً يسيراً .. ثم عاد إلى المدينة ..
فعجب عمر رضي الله عنه من خروجه .. فتبعه يوماً خفية بعدما صلى الفجر ..
فإذا أبو بكر يخرج من المدينة ويأتي على خيمة قديمة في الصحراء .. فاختبأ له عمر خلف صخرة ..
فلبث أبو بكر في الخيمة شيئاً يسيراً .. ثم خرج ..
فخرج عمر من وراء صخرته ودخل الخيمة .. فإذا فيها امرأة ضعيفة عمياء .. وعندها صبية صغار ..
فسألها عمر : من هذا الذي يأتيكم ..
فقالت : لا أعرفه .. هذا رجل من المسلمين .. يأتينا كل صباح .. منذ كذا وكذا ..
قال فماذا يفعل : قالت : يكنس بيتنا .. ويعجن عجيننا .. ويحلب داجننا .. ثم يخرج ..
فخرج عمر وهو يقول : لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر .. لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر ..
* * * * * * * *
ولم يكن عمر رضي الله عنه بعيداً في تعبده وإخلاصه عن أبي بكر ..
فقد خرج مرة رضي الله عنه إلى ضواحي المدينة .. فإذا برجل عابر سبيل نازل وسط الطريق .. وقد نصب خيمة قديمة .. وقعد عند بابها .. مضطربَ الحال .. فسأله عمر : من الرجل ؟
قال : من أهل البادية .. جئت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله ..
فسمع عمر أنين امرأة داخل الخيمة .. فسأله عنه ؟
فقال : انطلق رحمك الله لحاجتك ..
قال عمر : هذا من حاجتي ..
فقال : امرأتي في الطلق - يعني تلد - وليس عندي مال ولا طعام ولا أحد ..
فرجع عمر إلى بيته سريعاً .. فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي : هل لك في خير ساقه الله إليك ؟
قالت : وما ذاك .. فأخبرها بخبر الرجل .. فحملت امرأته معها متاعاً .. وحمل هو جراباً فيه طعام .. وقدراً وحطباً .. ومضى إلى الرجل ..
ودخلت امرأة عمر على المرأة في خيمتها ..
وقعد هو عند الرجل .. فأشعل النار وأخذ ينفخ الحطب .. ويصنع الطعام .. والدخان يتخلل لحيته .. والرجل قاعد ينظر إليه ..
فبينما هو على ذلك .. إذ صاحت امرأته من داخل الخيمة .. يا أمير المؤمنين .. بشر صاحبك بغلام ..
فلما سمع الرجل .. أمير المؤمنين .. فزع وقال : أنت عمر بن الخطاب .. قال : نعم .. فاضطرب الرجل .. وجعل يتنحى عن عمر.. فقال له عمر : مكانك ..
ثم حمل عمر القدر .. وقربه إلى الخيمة وصاح بامرأته .. أشبعيها ..
فأكلت المرأة من الطعام .. ثم أخرجت باقي الطعام خارج الخيمة ..
فقام عمر فأخذه فوضعه بين يدي الرجل .. وقال له : كل .. فإنك قد سهرت من الليل ..
ثم نادى عمر امرأته فخرجت إليه ..
فقال للرجل : إذا كان من الغد .. فأتنا نأمر لك بما يصلحك ..
* * * * * * * *
وهكذا كان من بعدهم ..
فكان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل .. فيتصدق بها..ويقول : إن صدقة السر تطفىء غضب الرب ..
فلما مات وجدوا في ظهره آثار سواد .. فقالوا : هذا ظهر حمال .. وما علمناه اشتغل حمالاً ..
فانقطع الطعام عن مائة بيت في المدينة .. من بيوت الأرامل والأيتام .. كان يأتيهم طعامهم بالليل .. لا يدرون من يحضره إليهم .. فعلموا أنه الذي ينفق عليهم ..
وصام أحد السلف عشرين سنة .. يصوم يوماً ويفطر يوماً .. وأهله لا يدرون عنه .. كان له دكان يخرج إليه إذا طلعت الشمس ويأخذ معه فطوره وغداءه .. فإذا كان يوم صومه تصدق بالطعام .. وإذا كان يوم فطره أكله ..
فإذا غربت الشمس .. رجع إلى أهله وتعشى معهم ..
نعم .. كانوا يستشعرون العبودية لله في جميع أحوالهم ..
هم المتقون حقاً .. وأولياء الله صدقاً .. والله يقول : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا } ..
فطوبى لقلوب ملأتها خشيته .. واستولت عليها محبته ..
أصبحت الطاعة لهم عادة .. والحركات والسكنات لهم عبادة ..
والله لو جالست نفسك خاليا * وبحثتها بحثا بلا روغان
لوجدت خير العيش عيشهم فإن ..تقعد رجعت بذلة وهوان
فالحق شمس والعيون نواظر * لا تختفي إلا على العميان
والقلب يعمى عن هداه مثلما تعمى * وأعظم هذه العينان
وصلاحه وفلاحه ونعيمه تجريد هذا الحب للرحمن
فإذا تخلى منه أصبح حائراً ويعود في ذا الكون ذا خسران
* * * * * * * *
وعلى من وفقه الله للاستقامة على هذا الدين .. أن لا يغتر بطول استقامته .. ولا كثرةِ صلاته وعبادته ..
بل يسأل ربه الثباتَ على الدين .. والعصمةَ واليقين ..
وانظر إلى محطم الأصنام..وباني البيت الحرام..إبراهيمَ عليه السلام..
يبني البيت وهو يبتهل إلى ربه ويقول:واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام ..
ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ..
وقالت عائشة رضي الله عنها .. كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ..
وكان يستعيذ بالله من الحور بعد الكور..يعني من الضلال بعد الهدى..
ومن أقوى وسائل الثبات .. الاشتغال بميراث الأنبياء .. من طلب العلم النافع .. وحضور مجالسه .. ومخالطة أهله .. وقراءة كتبه ..
والعالم أشد على الشيطان من ألف عابد .. وفضل العالم عل العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ..
* * * * * * * *
وختاماً .. فإن من وسائل الثبات على الدين ..
أن يتصور العبد عاقبة صبره على الطاعات .. ومجانبة المحرمات ..
فكيف يبيع العاقل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ..ولا خطر على قلب بشر
بعيش زائل كأنه أحلام ..
كيف تباع جنةٌ عرضها الأرض السموات .. بسجن مليء بالبليات ..
ومساكنُ تجري من تحتها الأنهار .. بأعطان آخرها الخراب والبوار ..
وكيف تباع أبكارٌ كأنهن الياقوت والمرجان .. بقذرات دنسات مسافحات ..
وأنهارٌ من خمر لذة للشاربين .. بشراب مفسد للدنيا والدين ..
وكيف تباع لذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم .. بالنظر إلى وجه فاجرة قبيح دميم ..
وسماعُ الخطاب من الرحمن .. بسماع المعازف والألحان ..
وكيف يباع الجلوسُ على منابر اللؤلؤ يوم المزيد .. بالجلوس مع كل شيطان مريد ..
نعم .. كيف ترغب عنها !! وهي دار غرسها الرحمن بيده .. وجعلها مقراً لأحبابه ..
ووصف دخولها بالفوز العظيم .. وملكَها بالملك الكبير ..
فإن سألت عن تربتها فهي المسك والزعفران ..
وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن ..
وحصباؤها لؤلؤ وجوهر .. وبناؤها فضة وذهب ..
وإن سألت عن ثمرها فأحلى من العسل ..
وإن سألت عن ورقها فألين الحلل ..
أما أنهارها فأنهارٌ من لبن لم يتغير طعمه .. وأنهار من خمر لذة للشاربين ..وأنهار من عسل مصفى ..
وطعامهم فاكهةٌ مما يتخيرون..ولحمُ طير مما يشتهون ..
ولباس أهلها الحرير والذهب .. وفرشها بطائن في أعلى الرتب ..
وخدمهم ولدان مخلدون .. كأنهم لؤلؤ مكنون ..
* * * * * * * * *
فهم في روضاتها يتقلبون .. وعلى أسرتها يتكئون ..
ومن ثمارها يتفكهون .. ويطوف عليهم ولدان مخلدون ..
يوم يحشر المتقون إلى الرحمن وفداً..ويساق المجرمون إلى جهنم ورداً ..
فواعجباً لها كيف نام طلابها ؟ وكيف لم يتسابق إليها عشاقها !
وربهم يناديهم بقوله :
{ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ } ..
* * * * * * * * *
أيها الأخوة والأخوات ..
هذه وسائل الثبات .. لمن أراد السلامة والنجاة ..
ونحن في زمن كثرت فيه الفتن .. وتنوعت المحن ..
فتن تفتن الأبصار .. وأخرى تفتن الأسماع .. وثالثة تسهل الفاحشة .. ورابعة تدعوا إلى المال الحرام ..
حتى صار حالنا قريباً من ذلك الزمان .. الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما : ( فإن وراءكم أيام الصبر .. الصبر فيهن كقبض على الجمر .. للعامل فيهن أجر خمسين منكم .. يعمل مثل عمله ..
قالوا : يا رسول الله .. أو منهم .. قال : بل منكم .. ) .. حديث حسن ..
وعند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : بدأ الإسلام غريباً .. وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء .. نعم طوبى للغرباء ..
وإنما يعظم الأجر للعامل الصالح في آخر الزمان .. لأنه لا يكاد يجد على الخير أعواناً .. فهو غريب بين العصاة .. نعم غريب بينهم ..
يأكلون الربا ولا يأكل .. ويسمعون الغناء ولا يسمع .. وينظرون إلى المحرمات ولا ينظر .. بل ويقعون في السحر والشرك .. وهو على التوحيد ..
وعند البخاري : قال صلى الله عليه وسلم : لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شرٌ منه حتى تلقوا ربكم ..
وأخرج البزار بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله عز وجل : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين .. ولا أجمع له أمنين .. إذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة .. وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ..
نعم .. من كان خائفاً في الدنيا .. معظماً لجلال الله .. أمن يوم القيامة .. وفرح بلقاء الله .. وكان من أهل الجنة الذين قال الله عنهم :
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } ..
أما من كان مقبلاً على المعاصي .. همه شهوة بطنه وفرجه .. آمناً من عذاب الله .. فهو في خوف وفزع في الآخرة ..
قال الله : { تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ } ..
فتوكل على الله إنك على الحق المبين ..
ولا تغتر بكثرةِ المتساقطين .. ولا ندرةِ الثابتين ..
ولا تستوحش من قلة السالكين ..
يا معرضا عما يراد به وقد * جد المسير فمنتهاه داني
جذلان يضحك آمنا متبختراً * وكأنه قد نال عقد أمان
خلع السرور عليه أو في حله * طردت جميع الهم والأحزان
يختال في حلل المسرة ناسياً * ما بعدها من حلة الأكفان
ما سعيه إلا لطيب العيش في الدنيا ولو أفضى إلى النيران
قد باع طيب العيش في دار النعيم بذا الحطام المضمحل الفاني
* * * * * * * *
أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لفعل الخيرات .. وترك المنكرات ..
وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ..
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك ..
وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله ..
كتبه /
د. محمد بن عبد الرحمن العريفي
26/12/1422هـ
arefe@arefe.com
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى