عبير الروح
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل
في ما اشتملت عليه هذه الغزوة من الأحكام
منها أن الجهاد يلزم بالشروع فيه ، فمن لبس لأمته ، ليس له أن يرجع .
ومنها أنه لا يحب الخروج إذا طرق العدو في الديار . ومنها أنه لا يأذن إن لا يطيق القتال من الصبيان ، ومنها جواز الغزو بالنساء ، والاستعانة بهن في الجهاد ، وجواز الانغماس في العدو ، كما فعل أنس بن النضر وغيره ، وإن الإمام إذا جرح صلي بهم قاعداً وصلوا وراءه قعوداً ، وأن الدعاء بالشهادة ، وتمنيها ليس من المنهي عنه كما فعل ابن جحش ، وأن المسلم إذا قتل نفسه ن فهو من اهل النار كقزمان ، وأن الشهيد لا يغسل ، ولا يصلي عليه ن ولا يكفن في غيره ثيابه إلا أن يسلبها ، وأنه إذا كان جنباً غُسل كحنظلة ، وأن الشهداء يدفنون في مصارعهم لأمره برد القتلى إليها ، وجواز دفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد ، وهل دفنهم في ثيابهم استحباب أو وجوب؟ الثاني: أظهر ، ومنها المعذور كالأعرج يجوز له الخروج ، وأن المسلمين إذا قتلوا مسلماً في الجهاد يظنونه كافراً ، فديته في بيت المال، لأنه أراد أن يدي أبا حذيفة بن اليمان.
وأما الحكم التي في هذه الوقعة , فقد أشار سبحانه إلى أمهاتها في سورة ( آل عمران) من قوله : ( وإذ غدوت من أهلك ) إلى تمام الستين آية .
فمنها تعريفهم عاقبة المعصية والفشل والتنازع ليستيقظوا ويحذروا من أسباب الخذلان ، وأن حكمة الله جرت بأن الرسل وأتباعهم يُدالون مرة ، ويُدال عليهم أخري ، ولكن يكون لهم العاقبة ن فلو انتصروا دائماً دخل معهم المؤمن وغيره ولم يتمزوا ولو انتصر غيرهم دائماً لم يحصل المقصود .
قال الله تعالى : ( مما كان الله ليذر المؤمنين علي ما أنتم حتى يميز الخبيث من الطيب ) " سورة آل عمران : 179 " أي : ما كان الله ليذركم على هذا من التباس المؤمنين بالمنافقين حتى يميزهم ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) الذي يميز به بينهم بل يريد سبحانه أن يميزهم تمييزاً مشهوداً . وقوله : (ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) استدراك لما نفى من إطلاعهم على الغيب ، أى : سوى الرسل ، فإنه يطلعهم على ما يشاء كما في سورة الجن ، فسعادتكم بالإيمان بالغيب الذى يطلع عليه رسله ، فإن آمنتم به واتقيتم فلكم أعظم الأجر .
ومنها استخراج عبودية أوليائه في السراء والضراء ، فإذا ثبتوا على الطاعة فيما أحبوا وكرهوا ، فهم ليسوا كمن يعبده على حرف .
ومنها أنه لو بسط لهم النصر دائماً لكانوا كما يكونون لو بسط لهم الرزق ، فهو المدبر لهم ، كما يليق بحكمته ، إنه بهم خبير بصير . ومنها أنهم إذا انكسروا له استوجبوا النصر ، فإن خلعة النصر مع ولاية الذل ، كما قال تعالى : (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) "سورة آل عمران : 123" (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم) الآية "سورة التوبة : 26" ، ومنها أنه هيأ لعباده منازل لا تبلغها أعمالهم ، ولا يبلغونها إلا بالبلاء ، فقيضه لهم ، كما وفقهم للأعمال الصالحة .
ومنها أن العافية الدائمة ، والنصر الغنى يورث ركوناً إلى العاجلة ، ويثبط النفوس ، ويعوقها عن السير إلى الله ، فإذا أراد الله كرامة عبد قيص له من البلاء ما يكون دواء لهذا .
ومنها أن الشهادة عنده من أعلى المراتب ، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من أوليائه شهداء .
ومنه أنه سبحانه إذا أراد هلاك أعدائه قيض أسباباً يستوجبون بها الهلاك . بغيهم ومبالغتهم في أذى أوليائه ، فيمحص به أولياءه من ذنوبهم ، ويكون من أسباب محق أعداء الله ، وذكر سبحانه ذلك في قوله : (ولاتهنوا ولا تحزنوا) إلى قوله (ويمحق الكافرين) سورة آل عمران : 139-142 " فجمع بين تشجيعهم ، وحسن التعزية ، وذكر الحكم الاهرة التي اقتضت إدالة الكفار ، فقال : (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) " سورة آل عمران : 140" ، أى : ما بالكم تحزنون وتهنون عند هذا ، وقد مسهم مثله في سبيل الشيطان . ثم أخبر أنه يداول أيام هذه الحياة ، لأنها عرض حاضر يقسمها بين أوليائه وأعدائه بخلاف الآخرة ، ثم ذكر حكمة أخرى ، وهى تمييز المؤمن من المنافق ، فيعلمهم علم شهادة ، لأن العلم الغيبى لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ، ثم ذكر حكمة أخرى ، وهى اتخاذه منهم شهداء : وقوله : (والله لا يحب الظالمين) ، تنبيه لطيف على أن الذين اتخذوا عن نبيه يوم أحد ، لم يتخذ منهم شهداء ، لأنه لا يحبهم ، ثم ذكر حكمة أخرى ، وهى تمحيص المؤمنين من الذنوب ، وأيضاً من المنافقين ، ثم ذكر حكمة أخرى ، وهى محق الكافرين . ثم أنكر حسبانهم دخول الجنة بدون الجهاد ، والصبر ، وقوله : (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) "سورة آل عمران : 142" أى : ولما يقع منكم ، فيكون الجزاء على الواقع المعلوم ، ثم وبخهم على هزيمتهم من أمر كانوا يتمنونه ، ومنها أن هذه الواقعة مقدمة بين يدى موته صلى الله عليه وسلم ، والشاكرين هم الذين عرفوا قدر النعمة ، فثبتوا عليها حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل لهم العاقبة ، ثم أخبر أنه جعل لكل نفس أجلاً ، ثم أخبر أن كثيراً من الأنبياء قتلوا ، وقتل معهم أتباع لهم كثيرون ، فما وهن من بقى منهم أو من وهن عند القتل ، والصحيح أنها تتناول الفريقين ، ثم أخبر سبحانه عما استنصر به الأنبياء وأممهم من اعترافهم ، وتوبتهم واستغفارهم ، وسؤالهم التثبيت لأقدامهم ، والنصر على أعدائهم فقال : (وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) "سورة آل عمران : 147" فسألوا من الله مغفرة ذنوبهم وتثبيت أقدامهم ونصرهم لما علموا أنهم إنما يدال عليهم بذنوبهم ، وأن الشيطان يستنزلهم ، ويهزمهم بها ، وأنها نوعان : تقصير في حق ، أو تجاوز في حد ، وأن النصر منوط بالطاعة (قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا) ، ثم علموا أنه سبحنه وتعالى إن لم يثبت أقدامهم ، وينصرهم ، ولم يقدروا على ذلك ، سألوه ما هو بيده ، فوفوا المقامين حقهما : مقام المقتضى ، وهو التوحيد والالتجاء إليه ، ومقام إزالة المانع من النصر ، وهو الذنوب والإسراف ، ثم حذرهم سبحانه من طاعة العدو وأنهم إن فعلوا ذلك خسروا الدارين ، وفيه تعريض بمن أطاعهم من المنافقين لما انتصروا يوم أحد ، ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين وخير الناصرين ، فمن والاه ، فهو المنصور ، ثم أخبر أنه سيلقى في قلوب أعدائهم الرعب الذى يمنعهم من الهجوم عليهم ، وذلك بسبب الشرك ، وعلى قدر الشرك يكون الرعب ، والمؤمن الذى لم يلبس إيمانه بالشرك ، له الأمن والهدى .
ثم أخبر بصدق وعده في النصر ، وأنهم لو استمروا على الطاعة ، لاستمر النصر ، ولكن انخلعوا عن عصمة الطاعة ، ففارقتهم النصرة ، فصرفهم ابتلاء وتعريفاً لهم بعاقبة المعصية ، ثم أخبر بعفوه عنهم لاستأصلهم ، ولكن بعفوه دفعهم بعد أن أجمعوا على استئصالهم ، ثم ذكرهم بحافهم حال الفرار مصعدين ، أى : جادين في الهرب ، أو صاعدين في الجبل لا يلوون على نبيهم وأصحابه ، والرسول يدعوهم في أخراهم : "إلى عبادة الله أنا رسول الله " فأثابهم بهذا الفرار غماً بعد غم : غم الفرار ، وغم صرخة الشيطان أن محمداً قتل ، وقيل : جازاكم غماً بما غممتم رسوله بفراركم ، والأول أظهر لوجوه :
الأول : قوله : (لكى لا تأسوا على ما فاتكم) إلى آخره ، تنبيهاً على الحكمة وهى نسيانهم الحزن على ما فاتهم من الظفر ، وما أصابهم من الهزيمة ، وهذا إنما يحصل بغم يعقبه غم آخر .
الثانى : مطابقة الواقع فحصل غم فوات الغنيمة ، ثم غم الهزيمة ، ثم غم الجراح والقتل ، ثم سماع قتل النبي ، ثم ظهور العدو على الجبل وليس المراد غمين اثنين ، بل غماً متتابعاً لتمام الابتلاء .
الثالث : أن قوله : (بغم) من تمام الثواب ، لا أنه سبب للثواب ، والمعنى : أثابكم غماً متصلا بغم جزاء على ما وقع من الهرب وإسلام النبي ، وترك الاستجابة له ، ومخالفته في لزوم المركز ، وتنازعهم وفشلهم وكل واحد يوجب غماً يخصه ومن لطفه بهم أنها من موجبات الطباع التي تمنع من النصر المستقر ، فقيض ما أخرجها من القوة إلى الفعل ، فترتبت عليها آثارها ، فعلموا أن التوبة منها ، والاحتراز منها ، ودفعها بأضدادها متعين ، وربما صحت الأجساد بالعلل .
ثم أنه سبحانه رحمهم ، فغيب عنهم الغم بالنعاس ، وهو في الحرب علامة النصر ، كما أنزله يوم بدر ، وأخبر أن من لم يصبه فهو ممن أهمته نفسه لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه ، وأنهم (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) .
وفسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل ، وفسر أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله ، ولا حكمة له فيه ، ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار إتمام دينه ، وهذا هو ظن السوء الذى ظنه المشركون والمنافقون في (سورة الفتح) ، وإنما كان هذا الظن ظن السوء والجاهلية لأنه ظن لا يليق بالله وصفاته وأسمائه وحكمته وحمده ، وتفرده بالربوبية والإلهية وصدقه في وعده ، فمن ظن أنه لا يتم أمر رسوله ، وأنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة ، يضمحل معها الحق اضمحلالاً لا يقوم بعده ، فقد ظن به ظن السوء ، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وصفاته ، ومن أنكر أن يكون ذلك بقدره ، فما عرفه ولا ملكه ، وكذلك من أنكر الحكمة التي يستحق عليها الحمد في ذلك ، بل زعم أنها مشيئة مجردة فذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار .
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفى غيرهم ، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله ، وعرف أسماءه وصفاته وموجب حمده وحكمته ، فمن قنط من رحمته ، فقد ظن به السوء ، ومن جوز عليه أنه يعذبه المحسن ، ويسوى بينه وبين عدوه ، فقط ظن به ذلك ، ومن ظن أنه يترك خلقه سدى من الأمر والنهى ، فقد ظن به ظن السوء ، وكذلك من ظن أنه لا يثيبهم ولا يعاقبهم ، ولا يبين لهم ما اختلفوا فيه ، وكذلك من ظن أنه يضيع العمل الصالح بلا سبب من العبد ، ويعاقبه بما لا سنع له فيه ، أو جوز عليه أن يؤيد أعداءه المعجزات التي يؤيد بها الرسل ، وأنه يحسن منه كل شئ حتى يخلد في النار من أفنى عمره في طاعته ، وينعم من أنفد عمره في معصيته ، وكلاهما سواء لا يعرف امتناع أحدهما إلا بخير صادق ، وإلا فالعقل لا يقضى بقبح أحدهما وحسن الآخر ، وكذلك من ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل ، وترك الحق لم يخبر به إلا برمز من بعيد ، وصرح دائماً بالباطل ، وأراد من خلقه أن يتبعوا أذهانهم في تحريف كلامه ، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم ، لا على كتابه ، بل أراد لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من لغتهم مع قدرته على التصريح بالحق ، وإزالة الألفاظ التي توقع في اعتقاد الباطل ، وظن أنه وسلفه عبروا عن الحق دون الله ورسوله ، وأن الهدى في كلامهم ، وأن كلام الله لا يؤخذ من ظاهره إلا الضلال ، فهذا من سوء الظن بالله ،فكل من هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء ، ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية ، ومن ظن أنه يكون في ملكه ما لا يشاء ، ولا يقدر عليه فقد ظن به ظن السوء ، ومن ظن أنه كان معطلا من الأزل إلى الأد عن الفعل ، ولا يوصف به حينئذ ثم صار قادراً عليه ، فقد ظن به ظن السوء ، ومن ظن أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم الموجودات ، فقد ظن به ظن السوء ، ومن ظن أنه لا إرادة له ، ولا كلام يقوم به ، وأنه لم يكلم أحد ، ولا يتكلم أبداً ، ولا له أمر ولا نهى يقوم به ، فقد ظن به ظن السوء ، ومن ظن أنه ليس فوق سماواته على عرشه وأن الأمكنة بالنسبة إليه سواء ، ومن قال : سبحانه ربى الأسفل ، كمن قال : سبحان ربى الأعلى . فقد ظن به أقبح الظن ، ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ، كما يحب الطاعة ، فقد ظن به ظن السوء ، ومن ظن أنه لا يحب و يرضى ولا يغضب ، ولا يوالى ولا يعادى ، ولا يقرب من أحد ولا يقرب منه أحد ، فقط ظن به ظن السوء ، وكذلك من ظن أنه يسوى بين المتضادين ، أو يفرق بين المتساويين من كل وجه ، أو يحبط طاعات العمر بكبيرة تخلده في نار الجحيم ، وبالجملة فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسله ، أو عطل ما وصف به نفسه ، فقد ظن به ظن السوء ، كمن ظن أن له ولداً أو شريكاً أو شفيعاً بدون إذنه ، أو أن بينه وبين خلقه وسائط ، يرفعون حوائجهم إليه ، أو أن ما عنده ينال بالمعصية كما ينال بالطاعة ، أو ظن أنه إذا ترك لأجله شيئاً لم يعوضه خيراً منه ، أو ظن أنه يعاقب بمحض المشيئة بغير سبب من العبد ، أو ظن أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة أنه يخيبه ، أو ظن أنه يسلط على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أعداءه تسليطاً مستقراً في حياته ومماته.
فلما مات استبدوا بالأمر دون وصية وأهل بيته ، وكانت العزة لأعدائه وأعدائهم بلا ذنب لأوليائه ، وهو يقد على نصرهم ، ثم جعل المبدلين مضاجعين له في حفرته تسلم أمته عليه وعليهم ، وكل مبطل وكافر مقهور ، فهو يظن بربه هذا الظن ، فأكثر الخلق به بل كلهم إلا ما شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء ، ومن فتش نفسه رآه فيها كامناً كمون النار في الزناد ، فاقدح من زناد من شئت ينبئك شرره عما في زناده ، فمستقل ومستكثر وفتش نفسك هل أنت سالم ..
فإن تنج منها تنج مـن ذى عظيمــــــة
وإلا فإنى لا إخالك ناجياً
فلعين اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع ، وليتب إلى الله ويستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء .
والمقصود الكلام على قوله تعالى : (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) "سورة آل عمران : 154" ثم خبر عن الكلام الصادر عن ظنهم وهو قولهم : (هل لنا من الأمر من شئ) .
وقولهم : (لم كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ها هنا) فليس مقصودهم بهذا إثبات القدر ، ولو كان ذلك لم يذموا ، ولما حسن الد عليهم بقوله : (قل إن الأمر كله لله) ولهذا قال غير واد : إن ظنهم هذا التكذيب بالقدر ، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم لما اصابهم القتل ، فأكذبهم بقوله : (إن الأمر كله لله) فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه ، فلو كتب القتل على من كان في بيته لخرج إلى مضجعه ولابد ، وهذا من أظهر الأشياء إبطالا لقول القدرية .
ثم أخبر تعالى عن حكمة أخرى وهى ابتلاء ما في صدورهم ، وهو اختبار ما فيها من الإيمان والنفاق ، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيماناً ، والمنافق ومن في قلبه مرض يظهر على جوارحه ، ثم ذكر حكمة أخرى ، وهى تمحيص ما في قلبه مرض يظهر على جوارحه ، ثم ذكر حكمة أخرى ، وهى تمحيص ما فى قلوب المؤمنين ، وهو تنقيتها ، فإن القلوب يخالطها من غلبة الطبع وميل النفس ، وحكم العادة ، وتزيين الشيطان ، واستيلاء الغفلة ما يضاد ما فيها من الإيمان ، فلو تركت في عافيه دائمه لم تتلخص من هذا ، فكانت نعمته عليهم بهذه الكسرة تعادل النعمة بالنصرة ، ثم أخبر تعالى عمن تولى من المؤمنين ، أنه بسبب ذنوبهم استزلهم الشيطان فإن الأعمال جند للعبد وجند عليه ، ففرار الإنسان من عدو يطيقه إنما هو بجند من عمله .
ثم أخبر أنه عفا عنهم لأن الفرار لم يكن عن شك وإنما كان لعارض ثم كرر سبحانه أن هذا بأعمالهم فقال : (أو لما أصابتك مصيبة قد أصبتم مثليها) الآية "سور آل عمران : 165" وذكر هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السور المكية وقال : (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) "سورة الشورى : 30" وقال : (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) "سورة النساء : 78" فالنعمة فضله ، والسيئة عدله ، وختم الآية بقوله : (إن الله على كل شئ قدير ) عد قوله : (هو من عند أنفسكم) إعلاماً بعموم قدرته مع عدله ، ففيه إثبات القدر والسبب فأضاف السبب ينفى إبطال القدر ، فهو مشاكل قوله : (لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) "سورة التكوير: 28" وفى ذكر قدرته نكته لطيفة ، وى أن الأمر بيده ، فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره ، وكشف هذا ووضحه بقوله : (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ) "سورة آل عمران : 166" وهو الإذن القدرى ، ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير وهو أن يعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان ، فتكلم المنافقون بما في نفوسم ، فسمعه المؤمنون ، وسمعوا رد الله عليهم وعرفوا مؤدى النفاق وما يؤول غليه ، فلله كم من حكمة في ضمن هذه القصة ونعمة ، وكم فيها من تحذير وإرشاد ، ثم عزاهم عمن قتل منهم أحسن تعزية فقال : (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله) الآيات " سورة آل عمران : 169-173" فجمع لهم بين الحياة الدائمة والقرب منه وأنهم عنده ، وجريان الرزق المستمر عليهم ، وفرحهم بما آتاهم من فضله وهو فوق الرضى واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من كرامته.
وذكّرهم سبحانه في هذه المحنة بما هو من أعظم نعمة عليهم التي عن قابلوا بها كل محنةٍ تلاشت ، وهي إرسال رسو ل من أنفسهم ، فكل بليّةٍ بعد هذا العظيم أمر يسير جداً ، فأعلمهم أن المصيبة من أنفسهم ، ليحذروا وأنها بقدرة ليوحدوا ويتكلوا ، وأخبرهم بما له من الحكم لئلا يتهموه في قدره ، وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته ، وذكرهم بما هو أعظم من النصر والغنيمة ، وعزاهم عن قتلاهم لينافسوهم ، ولا يحزنوا عليهم ، فله الحمد كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.
في ما اشتملت عليه هذه الغزوة من الأحكام
منها أن الجهاد يلزم بالشروع فيه ، فمن لبس لأمته ، ليس له أن يرجع .
ومنها أنه لا يحب الخروج إذا طرق العدو في الديار . ومنها أنه لا يأذن إن لا يطيق القتال من الصبيان ، ومنها جواز الغزو بالنساء ، والاستعانة بهن في الجهاد ، وجواز الانغماس في العدو ، كما فعل أنس بن النضر وغيره ، وإن الإمام إذا جرح صلي بهم قاعداً وصلوا وراءه قعوداً ، وأن الدعاء بالشهادة ، وتمنيها ليس من المنهي عنه كما فعل ابن جحش ، وأن المسلم إذا قتل نفسه ن فهو من اهل النار كقزمان ، وأن الشهيد لا يغسل ، ولا يصلي عليه ن ولا يكفن في غيره ثيابه إلا أن يسلبها ، وأنه إذا كان جنباً غُسل كحنظلة ، وأن الشهداء يدفنون في مصارعهم لأمره برد القتلى إليها ، وجواز دفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد ، وهل دفنهم في ثيابهم استحباب أو وجوب؟ الثاني: أظهر ، ومنها المعذور كالأعرج يجوز له الخروج ، وأن المسلمين إذا قتلوا مسلماً في الجهاد يظنونه كافراً ، فديته في بيت المال، لأنه أراد أن يدي أبا حذيفة بن اليمان.
وأما الحكم التي في هذه الوقعة , فقد أشار سبحانه إلى أمهاتها في سورة ( آل عمران) من قوله : ( وإذ غدوت من أهلك ) إلى تمام الستين آية .
فمنها تعريفهم عاقبة المعصية والفشل والتنازع ليستيقظوا ويحذروا من أسباب الخذلان ، وأن حكمة الله جرت بأن الرسل وأتباعهم يُدالون مرة ، ويُدال عليهم أخري ، ولكن يكون لهم العاقبة ن فلو انتصروا دائماً دخل معهم المؤمن وغيره ولم يتمزوا ولو انتصر غيرهم دائماً لم يحصل المقصود .
قال الله تعالى : ( مما كان الله ليذر المؤمنين علي ما أنتم حتى يميز الخبيث من الطيب ) " سورة آل عمران : 179 " أي : ما كان الله ليذركم على هذا من التباس المؤمنين بالمنافقين حتى يميزهم ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) الذي يميز به بينهم بل يريد سبحانه أن يميزهم تمييزاً مشهوداً . وقوله : (ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) استدراك لما نفى من إطلاعهم على الغيب ، أى : سوى الرسل ، فإنه يطلعهم على ما يشاء كما في سورة الجن ، فسعادتكم بالإيمان بالغيب الذى يطلع عليه رسله ، فإن آمنتم به واتقيتم فلكم أعظم الأجر .
ومنها استخراج عبودية أوليائه في السراء والضراء ، فإذا ثبتوا على الطاعة فيما أحبوا وكرهوا ، فهم ليسوا كمن يعبده على حرف .
ومنها أنه لو بسط لهم النصر دائماً لكانوا كما يكونون لو بسط لهم الرزق ، فهو المدبر لهم ، كما يليق بحكمته ، إنه بهم خبير بصير . ومنها أنهم إذا انكسروا له استوجبوا النصر ، فإن خلعة النصر مع ولاية الذل ، كما قال تعالى : (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) "سورة آل عمران : 123" (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم) الآية "سورة التوبة : 26" ، ومنها أنه هيأ لعباده منازل لا تبلغها أعمالهم ، ولا يبلغونها إلا بالبلاء ، فقيضه لهم ، كما وفقهم للأعمال الصالحة .
ومنها أن العافية الدائمة ، والنصر الغنى يورث ركوناً إلى العاجلة ، ويثبط النفوس ، ويعوقها عن السير إلى الله ، فإذا أراد الله كرامة عبد قيص له من البلاء ما يكون دواء لهذا .
ومنها أن الشهادة عنده من أعلى المراتب ، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من أوليائه شهداء .
ومنه أنه سبحانه إذا أراد هلاك أعدائه قيض أسباباً يستوجبون بها الهلاك . بغيهم ومبالغتهم في أذى أوليائه ، فيمحص به أولياءه من ذنوبهم ، ويكون من أسباب محق أعداء الله ، وذكر سبحانه ذلك في قوله : (ولاتهنوا ولا تحزنوا) إلى قوله (ويمحق الكافرين) سورة آل عمران : 139-142 " فجمع بين تشجيعهم ، وحسن التعزية ، وذكر الحكم الاهرة التي اقتضت إدالة الكفار ، فقال : (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) " سورة آل عمران : 140" ، أى : ما بالكم تحزنون وتهنون عند هذا ، وقد مسهم مثله في سبيل الشيطان . ثم أخبر أنه يداول أيام هذه الحياة ، لأنها عرض حاضر يقسمها بين أوليائه وأعدائه بخلاف الآخرة ، ثم ذكر حكمة أخرى ، وهى تمييز المؤمن من المنافق ، فيعلمهم علم شهادة ، لأن العلم الغيبى لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ، ثم ذكر حكمة أخرى ، وهى اتخاذه منهم شهداء : وقوله : (والله لا يحب الظالمين) ، تنبيه لطيف على أن الذين اتخذوا عن نبيه يوم أحد ، لم يتخذ منهم شهداء ، لأنه لا يحبهم ، ثم ذكر حكمة أخرى ، وهى تمحيص المؤمنين من الذنوب ، وأيضاً من المنافقين ، ثم ذكر حكمة أخرى ، وهى محق الكافرين . ثم أنكر حسبانهم دخول الجنة بدون الجهاد ، والصبر ، وقوله : (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) "سورة آل عمران : 142" أى : ولما يقع منكم ، فيكون الجزاء على الواقع المعلوم ، ثم وبخهم على هزيمتهم من أمر كانوا يتمنونه ، ومنها أن هذه الواقعة مقدمة بين يدى موته صلى الله عليه وسلم ، والشاكرين هم الذين عرفوا قدر النعمة ، فثبتوا عليها حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل لهم العاقبة ، ثم أخبر أنه جعل لكل نفس أجلاً ، ثم أخبر أن كثيراً من الأنبياء قتلوا ، وقتل معهم أتباع لهم كثيرون ، فما وهن من بقى منهم أو من وهن عند القتل ، والصحيح أنها تتناول الفريقين ، ثم أخبر سبحانه عما استنصر به الأنبياء وأممهم من اعترافهم ، وتوبتهم واستغفارهم ، وسؤالهم التثبيت لأقدامهم ، والنصر على أعدائهم فقال : (وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) "سورة آل عمران : 147" فسألوا من الله مغفرة ذنوبهم وتثبيت أقدامهم ونصرهم لما علموا أنهم إنما يدال عليهم بذنوبهم ، وأن الشيطان يستنزلهم ، ويهزمهم بها ، وأنها نوعان : تقصير في حق ، أو تجاوز في حد ، وأن النصر منوط بالطاعة (قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا) ، ثم علموا أنه سبحنه وتعالى إن لم يثبت أقدامهم ، وينصرهم ، ولم يقدروا على ذلك ، سألوه ما هو بيده ، فوفوا المقامين حقهما : مقام المقتضى ، وهو التوحيد والالتجاء إليه ، ومقام إزالة المانع من النصر ، وهو الذنوب والإسراف ، ثم حذرهم سبحانه من طاعة العدو وأنهم إن فعلوا ذلك خسروا الدارين ، وفيه تعريض بمن أطاعهم من المنافقين لما انتصروا يوم أحد ، ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين وخير الناصرين ، فمن والاه ، فهو المنصور ، ثم أخبر أنه سيلقى في قلوب أعدائهم الرعب الذى يمنعهم من الهجوم عليهم ، وذلك بسبب الشرك ، وعلى قدر الشرك يكون الرعب ، والمؤمن الذى لم يلبس إيمانه بالشرك ، له الأمن والهدى .
ثم أخبر بصدق وعده في النصر ، وأنهم لو استمروا على الطاعة ، لاستمر النصر ، ولكن انخلعوا عن عصمة الطاعة ، ففارقتهم النصرة ، فصرفهم ابتلاء وتعريفاً لهم بعاقبة المعصية ، ثم أخبر بعفوه عنهم لاستأصلهم ، ولكن بعفوه دفعهم بعد أن أجمعوا على استئصالهم ، ثم ذكرهم بحافهم حال الفرار مصعدين ، أى : جادين في الهرب ، أو صاعدين في الجبل لا يلوون على نبيهم وأصحابه ، والرسول يدعوهم في أخراهم : "إلى عبادة الله أنا رسول الله " فأثابهم بهذا الفرار غماً بعد غم : غم الفرار ، وغم صرخة الشيطان أن محمداً قتل ، وقيل : جازاكم غماً بما غممتم رسوله بفراركم ، والأول أظهر لوجوه :
الأول : قوله : (لكى لا تأسوا على ما فاتكم) إلى آخره ، تنبيهاً على الحكمة وهى نسيانهم الحزن على ما فاتهم من الظفر ، وما أصابهم من الهزيمة ، وهذا إنما يحصل بغم يعقبه غم آخر .
الثانى : مطابقة الواقع فحصل غم فوات الغنيمة ، ثم غم الهزيمة ، ثم غم الجراح والقتل ، ثم سماع قتل النبي ، ثم ظهور العدو على الجبل وليس المراد غمين اثنين ، بل غماً متتابعاً لتمام الابتلاء .
الثالث : أن قوله : (بغم) من تمام الثواب ، لا أنه سبب للثواب ، والمعنى : أثابكم غماً متصلا بغم جزاء على ما وقع من الهرب وإسلام النبي ، وترك الاستجابة له ، ومخالفته في لزوم المركز ، وتنازعهم وفشلهم وكل واحد يوجب غماً يخصه ومن لطفه بهم أنها من موجبات الطباع التي تمنع من النصر المستقر ، فقيض ما أخرجها من القوة إلى الفعل ، فترتبت عليها آثارها ، فعلموا أن التوبة منها ، والاحتراز منها ، ودفعها بأضدادها متعين ، وربما صحت الأجساد بالعلل .
ثم أنه سبحانه رحمهم ، فغيب عنهم الغم بالنعاس ، وهو في الحرب علامة النصر ، كما أنزله يوم بدر ، وأخبر أن من لم يصبه فهو ممن أهمته نفسه لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه ، وأنهم (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) .
وفسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل ، وفسر أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله ، ولا حكمة له فيه ، ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار إتمام دينه ، وهذا هو ظن السوء الذى ظنه المشركون والمنافقون في (سورة الفتح) ، وإنما كان هذا الظن ظن السوء والجاهلية لأنه ظن لا يليق بالله وصفاته وأسمائه وحكمته وحمده ، وتفرده بالربوبية والإلهية وصدقه في وعده ، فمن ظن أنه لا يتم أمر رسوله ، وأنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة ، يضمحل معها الحق اضمحلالاً لا يقوم بعده ، فقد ظن به ظن السوء ، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وصفاته ، ومن أنكر أن يكون ذلك بقدره ، فما عرفه ولا ملكه ، وكذلك من أنكر الحكمة التي يستحق عليها الحمد في ذلك ، بل زعم أنها مشيئة مجردة فذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار .
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفى غيرهم ، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله ، وعرف أسماءه وصفاته وموجب حمده وحكمته ، فمن قنط من رحمته ، فقد ظن به السوء ، ومن جوز عليه أنه يعذبه المحسن ، ويسوى بينه وبين عدوه ، فقط ظن به ذلك ، ومن ظن أنه يترك خلقه سدى من الأمر والنهى ، فقد ظن به ظن السوء ، وكذلك من ظن أنه لا يثيبهم ولا يعاقبهم ، ولا يبين لهم ما اختلفوا فيه ، وكذلك من ظن أنه يضيع العمل الصالح بلا سبب من العبد ، ويعاقبه بما لا سنع له فيه ، أو جوز عليه أن يؤيد أعداءه المعجزات التي يؤيد بها الرسل ، وأنه يحسن منه كل شئ حتى يخلد في النار من أفنى عمره في طاعته ، وينعم من أنفد عمره في معصيته ، وكلاهما سواء لا يعرف امتناع أحدهما إلا بخير صادق ، وإلا فالعقل لا يقضى بقبح أحدهما وحسن الآخر ، وكذلك من ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل ، وترك الحق لم يخبر به إلا برمز من بعيد ، وصرح دائماً بالباطل ، وأراد من خلقه أن يتبعوا أذهانهم في تحريف كلامه ، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم ، لا على كتابه ، بل أراد لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من لغتهم مع قدرته على التصريح بالحق ، وإزالة الألفاظ التي توقع في اعتقاد الباطل ، وظن أنه وسلفه عبروا عن الحق دون الله ورسوله ، وأن الهدى في كلامهم ، وأن كلام الله لا يؤخذ من ظاهره إلا الضلال ، فهذا من سوء الظن بالله ،فكل من هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء ، ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية ، ومن ظن أنه يكون في ملكه ما لا يشاء ، ولا يقدر عليه فقد ظن به ظن السوء ، ومن ظن أنه كان معطلا من الأزل إلى الأد عن الفعل ، ولا يوصف به حينئذ ثم صار قادراً عليه ، فقد ظن به ظن السوء ، ومن ظن أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم الموجودات ، فقد ظن به ظن السوء ، ومن ظن أنه لا إرادة له ، ولا كلام يقوم به ، وأنه لم يكلم أحد ، ولا يتكلم أبداً ، ولا له أمر ولا نهى يقوم به ، فقد ظن به ظن السوء ، ومن ظن أنه ليس فوق سماواته على عرشه وأن الأمكنة بالنسبة إليه سواء ، ومن قال : سبحانه ربى الأسفل ، كمن قال : سبحان ربى الأعلى . فقد ظن به أقبح الظن ، ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ، كما يحب الطاعة ، فقد ظن به ظن السوء ، ومن ظن أنه لا يحب و يرضى ولا يغضب ، ولا يوالى ولا يعادى ، ولا يقرب من أحد ولا يقرب منه أحد ، فقط ظن به ظن السوء ، وكذلك من ظن أنه يسوى بين المتضادين ، أو يفرق بين المتساويين من كل وجه ، أو يحبط طاعات العمر بكبيرة تخلده في نار الجحيم ، وبالجملة فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسله ، أو عطل ما وصف به نفسه ، فقد ظن به ظن السوء ، كمن ظن أن له ولداً أو شريكاً أو شفيعاً بدون إذنه ، أو أن بينه وبين خلقه وسائط ، يرفعون حوائجهم إليه ، أو أن ما عنده ينال بالمعصية كما ينال بالطاعة ، أو ظن أنه إذا ترك لأجله شيئاً لم يعوضه خيراً منه ، أو ظن أنه يعاقب بمحض المشيئة بغير سبب من العبد ، أو ظن أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة أنه يخيبه ، أو ظن أنه يسلط على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أعداءه تسليطاً مستقراً في حياته ومماته.
فلما مات استبدوا بالأمر دون وصية وأهل بيته ، وكانت العزة لأعدائه وأعدائهم بلا ذنب لأوليائه ، وهو يقد على نصرهم ، ثم جعل المبدلين مضاجعين له في حفرته تسلم أمته عليه وعليهم ، وكل مبطل وكافر مقهور ، فهو يظن بربه هذا الظن ، فأكثر الخلق به بل كلهم إلا ما شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء ، ومن فتش نفسه رآه فيها كامناً كمون النار في الزناد ، فاقدح من زناد من شئت ينبئك شرره عما في زناده ، فمستقل ومستكثر وفتش نفسك هل أنت سالم ..
فإن تنج منها تنج مـن ذى عظيمــــــة
وإلا فإنى لا إخالك ناجياً
فلعين اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع ، وليتب إلى الله ويستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء .
والمقصود الكلام على قوله تعالى : (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) "سورة آل عمران : 154" ثم خبر عن الكلام الصادر عن ظنهم وهو قولهم : (هل لنا من الأمر من شئ) .
وقولهم : (لم كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ها هنا) فليس مقصودهم بهذا إثبات القدر ، ولو كان ذلك لم يذموا ، ولما حسن الد عليهم بقوله : (قل إن الأمر كله لله) ولهذا قال غير واد : إن ظنهم هذا التكذيب بالقدر ، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم لما اصابهم القتل ، فأكذبهم بقوله : (إن الأمر كله لله) فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه ، فلو كتب القتل على من كان في بيته لخرج إلى مضجعه ولابد ، وهذا من أظهر الأشياء إبطالا لقول القدرية .
ثم أخبر تعالى عن حكمة أخرى وهى ابتلاء ما في صدورهم ، وهو اختبار ما فيها من الإيمان والنفاق ، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيماناً ، والمنافق ومن في قلبه مرض يظهر على جوارحه ، ثم ذكر حكمة أخرى ، وهى تمحيص ما في قلبه مرض يظهر على جوارحه ، ثم ذكر حكمة أخرى ، وهى تمحيص ما فى قلوب المؤمنين ، وهو تنقيتها ، فإن القلوب يخالطها من غلبة الطبع وميل النفس ، وحكم العادة ، وتزيين الشيطان ، واستيلاء الغفلة ما يضاد ما فيها من الإيمان ، فلو تركت في عافيه دائمه لم تتلخص من هذا ، فكانت نعمته عليهم بهذه الكسرة تعادل النعمة بالنصرة ، ثم أخبر تعالى عمن تولى من المؤمنين ، أنه بسبب ذنوبهم استزلهم الشيطان فإن الأعمال جند للعبد وجند عليه ، ففرار الإنسان من عدو يطيقه إنما هو بجند من عمله .
ثم أخبر أنه عفا عنهم لأن الفرار لم يكن عن شك وإنما كان لعارض ثم كرر سبحانه أن هذا بأعمالهم فقال : (أو لما أصابتك مصيبة قد أصبتم مثليها) الآية "سور آل عمران : 165" وذكر هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السور المكية وقال : (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) "سورة الشورى : 30" وقال : (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) "سورة النساء : 78" فالنعمة فضله ، والسيئة عدله ، وختم الآية بقوله : (إن الله على كل شئ قدير ) عد قوله : (هو من عند أنفسكم) إعلاماً بعموم قدرته مع عدله ، ففيه إثبات القدر والسبب فأضاف السبب ينفى إبطال القدر ، فهو مشاكل قوله : (لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) "سورة التكوير: 28" وفى ذكر قدرته نكته لطيفة ، وى أن الأمر بيده ، فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره ، وكشف هذا ووضحه بقوله : (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ) "سورة آل عمران : 166" وهو الإذن القدرى ، ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير وهو أن يعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان ، فتكلم المنافقون بما في نفوسم ، فسمعه المؤمنون ، وسمعوا رد الله عليهم وعرفوا مؤدى النفاق وما يؤول غليه ، فلله كم من حكمة في ضمن هذه القصة ونعمة ، وكم فيها من تحذير وإرشاد ، ثم عزاهم عمن قتل منهم أحسن تعزية فقال : (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله) الآيات " سورة آل عمران : 169-173" فجمع لهم بين الحياة الدائمة والقرب منه وأنهم عنده ، وجريان الرزق المستمر عليهم ، وفرحهم بما آتاهم من فضله وهو فوق الرضى واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من كرامته.
وذكّرهم سبحانه في هذه المحنة بما هو من أعظم نعمة عليهم التي عن قابلوا بها كل محنةٍ تلاشت ، وهي إرسال رسو ل من أنفسهم ، فكل بليّةٍ بعد هذا العظيم أمر يسير جداً ، فأعلمهم أن المصيبة من أنفسهم ، ليحذروا وأنها بقدرة ليوحدوا ويتكلوا ، وأخبرهم بما له من الحكم لئلا يتهموه في قدره ، وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته ، وذكرهم بما هو أعظم من النصر والغنيمة ، وعزاهم عن قتلاهم لينافسوهم ، ولا يحزنوا عليهم ، فله الحمد كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى