بنت الاسلام
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
العام الجديد، يثير في النفس هذه الذكرى العطرة، والمناسبة الخالدة،
والحدث الأجَلّ، وهو هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذه الهجرة التي
كانت بداية الإيذان بفجر الإسلام الجديد، وانطلاقته العظيمة؛ يشرق علينا
العام الهجري الجديد -خصوصًا نحن في مكة- فنسرح بأفكارنا ومخيلاتنا مباشرة
إلى تذكُّر الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم وهو خارج في وهج الظهيرة،
وشدة الحر، ولوعة الشمس ..
هذه إشراقة عام جديد، وإطلالة سنة جديدة، وقد تعود الناس أن يهنئوا
بعضهم بالعام الجديد، وهو أمر يستحق التهنئة لمن قدم خيرًا، وبذل معروفًا،
وحافظ على مثُل، أما من ذهب عامه في إصرار على الذنب، وانهماك في العصيان،
ونسيان للتوبة، فهذا الأولى أن يُعزَّى في عامه، بل في أعوامه التي قضاها
على هذا المنوال، وسوف يأسف على ذلك أسفًا شديدًا، وربما يكون ذلك الأسف في
موقف لا ينفع معه الأسف ولا الأسى ولا الندم، (يَوْمَ
تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ
مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران:30].
إن السنوات والأشهر والأيام إنما هي ورقات من دفاتر أعمارنا، وصفحات من
سجلات حياتنا، وكلما مضت صفحة مضى جزء من العمر لا يمكن استعادته، ولا يمكن
تعويضه، إلا لمن تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا، فإن الله تعالى يعوضه بأن
يبدل سيئاته حسنات، (إِلَّا مَنْ تَابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان:70].
يقول الحسن البصري: "يا ابن آدم! إنما أنت أيام، كلما ذهب يومك ذهب بعضك".
إن العام الجديد كلمة جميلة، وعبارة حلوة، ومفهوم بديع؛ العام الجديد يثير
في النفس أشياء وأشياء، فهو أولا يذكرنا بعظمة الله تعالى، وقدرة الخالق
سبحانه الذي خلق الدهور، والعصور، وخلق الليل والنهار، وخلق الموت والحياة،
وكلها في ذهاب، وتغيُّر وتبدل وتحول، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد لا
يحول ولا يزول، ولا تأخذه سنة ولا نوم، (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) [البقرة:255]، وقال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:26-27].
العام الجديد يثير عند ذوي النفوس الحية والقلوب المؤمنة العبرة بمرور الأيام وسرعة انقضائها، فهي أمر غريب، ونبأ عجيب، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)
[الفرقان:62]، تمر أعوام بالإنسان وكأنها أيام، وتمر الأيام وكأنها أحلام،
فيرجع إلى ربه، ويثوب إلى رشده، ويتدارك نفسه، ويستغل أوقاته فيما ينفعه،
قبل أن يفجأه الأجل، أو تحول دونه ودون الطاعات حوائل، فيأخذ من صحته
لسقمه، ومن حياته لموته، ومن غناه لفقره؛ إنه يعلم أنه مسئول عن شبابه فيما
أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن
علمه ماذا عمل فيه.
العام الجديد، يثير في النفس هذه الذكرى العطرة، والمناسبة الخالدة، والحدث
الأجل، وهو هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، هذه الهجرة التي كانت
بداية الإيذان بفجر الإسلام الجديد، وانطلاقته العظيمة، يشرق علينا العام
الهجري الجديد وخصوصًا ونحن في مكة فنسرح بأفكارنا ومخيلاتنا مباشرة إلى
تذكر الحبيب الأعظم -صلى الله عليه وسلم- وهو خارج في وهج الظهيرة، وشدة
الحر، ولوعة الشمس، يرافقه الصديق -رضي الله عنه- منطلقين إلى غار ثور،
تهيم الأفكار والأرواح.
وعندما نتذكر أحداث تلك الرحلة العظيمة المباركة، وقصصها الخلابة، تدمع
العين يوم أن تتذكر الحبيب -صلى الله عليه وسلم- يلتفت إلى مكة التفاتة حزن
وأسى ولوعة، ثم ينادي: "يا مكة! والله إنك لأحب البقاع إليَّ! ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت".
وتطرب القلوب حينما تتذكر مشهد أهل المدينة، وعظيم فرحهم، وكبير سرورهم في
ذاك اليوم الذي دخل عليهم المدينة محمد بن عبد الله، ذاك اليوم الذي شرفهم
الله بإمام الدنيا، وهادي البشرية، ليحل بينهم، ويعيش بجوارهم؛ حتى ليخيل
للمرء أن أشجار المدينة، وأزهارها وأحجارها كانت تتمايل طربا، وترقص نشوة،
وتغني فرحا، وكأنما المدينة بكل ذرة من ذراتها تنشد بصوت واحد: (طَلَعَ البدرُ علينا من ثنيات الوداع).
ما أسْعدَ الأنصارَ حينَ أطلَّ مِنْ *** هذي الربوعِ ضياءُ أعظمِ وافدِ
هذا هو البدرُ المضيءُ وهذه *** أرواحُنا تسمو برؤيةِ أحمدِ
اللهُ أكبر يا نفوسُ تهلَّلي *** بالمشرقِ الأسمى لهادٍ مهتدي
اللهُ أكبر يا مشاعرُ كبِّري *** اللهُ أكبر يا مدينةُ ردِّدي
العام الهجري الجديد يثير في النفس التأمل العميق، والتذكر الجميل،
والتاريخ الطويل، لكل الأجيال المسلمة التي عاشت قبلنا خلال ألف وأربعمائة
وسبعة وعشرين عامًا، يتذكر الإنسان هذه الأمة العظيمة منذ الهجرة وحتى هذا
العصر؛ كم من دول، وكم من أمم، كم من ملوك، كم من علماء، كم من فقهاء، كم
من شعوب، كم جهاد، كم من قتال، كم من حروب، كمن دعوة، كمن من مآسٍ، كمن من
أحزان، كم من أفراح، كمن من مسرات، كم من انتصارات، كم من حوادث، كم من
فتن، كم من عمار، كم من حضارات، كم وكم وكم مر بهذه الأمة المسلمة!.
كم رفرفت رايات عزها ونصرها على أنحاء الدنيا وأطراف المعمورة! وكم تآمرت
عليها أمم، وحاربتها دول، وكادت لها كيانات، وهي لا تزداد إلا قوة، ولا
تكسب إلا صلابة، ولا تعود إلا أكثر يقينا وحزما وتقدما!.
يا الله! لك أنك تتذكر العام الأول من الهجرة، كم كان عدد المسلمين؟ ثم
تذكر بعد عشر سنوات من الهجرة، ثم بعد خمسين سنة، ثم انظر الآن أين هي حدود
الأمة المسلمة؟ أين هي أطرافها؟ أين هي نهاياتها؟ ثم كم هي أعداد المسلمين
اليوم؟ كم هم أولئك الذين يطربون للهجرة، ويفخرون بالمهاجر؟ ويشهدون أن
محمدًا رسول الله؟.
إن لك أن تتخيل في هذا العام الهجري الجديد كم عدد المنائر التي تترنم بـــــ "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"، لك أن تتخيل عدد الحناجر التي تردد: "رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا"؟ إن العام الهجري الجديد يبعث في النفس ذكريات الأعوام الهجرية السابقة كلها بما فيها من الأحداث والتواريخ، والقصص والعبر.
العام الهجري الجديد يبعث فينا الأسى واللوعة والحزن على أحوال كثير من
إخواننا المسلمين الذين مرت بهم أعوام، وانقضت سنوات وهم يعانون من الهم
والغم، والحروب والكروب، والظلم والعدوان، والتمزق، والخوف والهلع، والآلام
والجراح.
ومع ذلك فالعام الهجري أيضًا يثير في أنفسنا لونًا جميلاً من الآمال
الطيبة، والبشائر الرائعة بما نراه من صحوة للمسلمين، وإقبال على الدين،
وانتشار للخير، وتقدم للمسلمين، وتسارع إلى الدخول في دين الله.
العام الهجري الجديد يثير ألوانًا كثيرة من المشاعر والخواطر، ولكل إنسان
معه وقفات وآهات، وأمنيات وذكريات وتطلعات، فمن مقصر في الطاعة، مسرف في
المعاصي، يتمنى منذ أعوام أن يبادر بالتوبة، وأن يعود للخالق، وأن يتنكر
للذنوب، ويجافي المعاصي؛ ولكن ها هو العام تلو العام وهو لازال يحدث النفس،
ويتمنى الأماني، وتغره الآمال؛ ومن عابد مجتهد يرى في كل عام أنه أكثر
تقصيرًا فيما مضى، وهو يدعو ربه لأن يكون عامه الجديد أكثر عطاءً، وأعظم
بذلاً، وأفضل عبادة.
ومن مؤمِّل آمالاً ينتظرها منذ أعوام وهو يأمل من ربه أن تتحقق، وكل ما
أقبل عام قال لعلها هذا العام! إما من شفاء من مرض، أو غنى من فقر، أو
تـخلص من دَين، أو بناء لمسكن، أو زواج، أو ذرية، أو سفر، أو زيارة، أو غير
ذلك؛ فكل إنسان له آماله وتطلعاته، فإذا ما جاء العام الجديد هز الأنفس
هزًا وبعث كل الذكريات، وأيقظ كل الأحاسيس.
ولكن، في خضم تلك المشاعر، وزحمة هاتيك الذكريات، لا شيء أفضل، ولا أعظم
ولا أجمل ولا أكمل، ولا أهدى سبيلاً من الذي يقف مع العام الجديد وِقفةَ
محاسبة لنفسه، مع ربه -جل وعلا-، فهو يبتهل فرصة العام الجديد ويعتبره نعمة
من الله عليه، ومنّة من خالقه أنه لازال حيًّا، وأن الفرصة لازالت مواتية،
وأن أبواب التوبة مشرعة، فيبادر -أول ما يبادر- مع العام الجديد بتجديد
إيمانه فيجدد توبته، بتجديد صلته بخالقه، بتجديد صلته بالحبيب المهاجر -صلى
الله عليه وسلم-، واستلهام في سنته، والسير على محجته، والاستنارة
بهدايته.
وأخيرًا، فعلينا أن نتذكر أنه ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي منادٍ: يا
ابن آدم! أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوَّدْ مِنِّي، فإني لا أعود إلى
يوم القيامة.
والحدث الأجَلّ، وهو هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذه الهجرة التي
كانت بداية الإيذان بفجر الإسلام الجديد، وانطلاقته العظيمة؛ يشرق علينا
العام الهجري الجديد -خصوصًا نحن في مكة- فنسرح بأفكارنا ومخيلاتنا مباشرة
إلى تذكُّر الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم وهو خارج في وهج الظهيرة،
وشدة الحر، ولوعة الشمس ..
هذه إشراقة عام جديد، وإطلالة سنة جديدة، وقد تعود الناس أن يهنئوا
بعضهم بالعام الجديد، وهو أمر يستحق التهنئة لمن قدم خيرًا، وبذل معروفًا،
وحافظ على مثُل، أما من ذهب عامه في إصرار على الذنب، وانهماك في العصيان،
ونسيان للتوبة، فهذا الأولى أن يُعزَّى في عامه، بل في أعوامه التي قضاها
على هذا المنوال، وسوف يأسف على ذلك أسفًا شديدًا، وربما يكون ذلك الأسف في
موقف لا ينفع معه الأسف ولا الأسى ولا الندم، (يَوْمَ
تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ
مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران:30].
إن السنوات والأشهر والأيام إنما هي ورقات من دفاتر أعمارنا، وصفحات من
سجلات حياتنا، وكلما مضت صفحة مضى جزء من العمر لا يمكن استعادته، ولا يمكن
تعويضه، إلا لمن تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا، فإن الله تعالى يعوضه بأن
يبدل سيئاته حسنات، (إِلَّا مَنْ تَابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان:70].
يقول الحسن البصري: "يا ابن آدم! إنما أنت أيام، كلما ذهب يومك ذهب بعضك".
إن العام الجديد كلمة جميلة، وعبارة حلوة، ومفهوم بديع؛ العام الجديد يثير
في النفس أشياء وأشياء، فهو أولا يذكرنا بعظمة الله تعالى، وقدرة الخالق
سبحانه الذي خلق الدهور، والعصور، وخلق الليل والنهار، وخلق الموت والحياة،
وكلها في ذهاب، وتغيُّر وتبدل وتحول، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد لا
يحول ولا يزول، ولا تأخذه سنة ولا نوم، (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) [البقرة:255]، وقال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:26-27].
العام الجديد يثير عند ذوي النفوس الحية والقلوب المؤمنة العبرة بمرور الأيام وسرعة انقضائها، فهي أمر غريب، ونبأ عجيب، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)
[الفرقان:62]، تمر أعوام بالإنسان وكأنها أيام، وتمر الأيام وكأنها أحلام،
فيرجع إلى ربه، ويثوب إلى رشده، ويتدارك نفسه، ويستغل أوقاته فيما ينفعه،
قبل أن يفجأه الأجل، أو تحول دونه ودون الطاعات حوائل، فيأخذ من صحته
لسقمه، ومن حياته لموته، ومن غناه لفقره؛ إنه يعلم أنه مسئول عن شبابه فيما
أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن
علمه ماذا عمل فيه.
العام الجديد، يثير في النفس هذه الذكرى العطرة، والمناسبة الخالدة، والحدث
الأجل، وهو هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، هذه الهجرة التي كانت
بداية الإيذان بفجر الإسلام الجديد، وانطلاقته العظيمة، يشرق علينا العام
الهجري الجديد وخصوصًا ونحن في مكة فنسرح بأفكارنا ومخيلاتنا مباشرة إلى
تذكر الحبيب الأعظم -صلى الله عليه وسلم- وهو خارج في وهج الظهيرة، وشدة
الحر، ولوعة الشمس، يرافقه الصديق -رضي الله عنه- منطلقين إلى غار ثور،
تهيم الأفكار والأرواح.
وعندما نتذكر أحداث تلك الرحلة العظيمة المباركة، وقصصها الخلابة، تدمع
العين يوم أن تتذكر الحبيب -صلى الله عليه وسلم- يلتفت إلى مكة التفاتة حزن
وأسى ولوعة، ثم ينادي: "يا مكة! والله إنك لأحب البقاع إليَّ! ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت".
وتطرب القلوب حينما تتذكر مشهد أهل المدينة، وعظيم فرحهم، وكبير سرورهم في
ذاك اليوم الذي دخل عليهم المدينة محمد بن عبد الله، ذاك اليوم الذي شرفهم
الله بإمام الدنيا، وهادي البشرية، ليحل بينهم، ويعيش بجوارهم؛ حتى ليخيل
للمرء أن أشجار المدينة، وأزهارها وأحجارها كانت تتمايل طربا، وترقص نشوة،
وتغني فرحا، وكأنما المدينة بكل ذرة من ذراتها تنشد بصوت واحد: (طَلَعَ البدرُ علينا من ثنيات الوداع).
ما أسْعدَ الأنصارَ حينَ أطلَّ مِنْ *** هذي الربوعِ ضياءُ أعظمِ وافدِ
هذا هو البدرُ المضيءُ وهذه *** أرواحُنا تسمو برؤيةِ أحمدِ
اللهُ أكبر يا نفوسُ تهلَّلي *** بالمشرقِ الأسمى لهادٍ مهتدي
اللهُ أكبر يا مشاعرُ كبِّري *** اللهُ أكبر يا مدينةُ ردِّدي
العام الهجري الجديد يثير في النفس التأمل العميق، والتذكر الجميل،
والتاريخ الطويل، لكل الأجيال المسلمة التي عاشت قبلنا خلال ألف وأربعمائة
وسبعة وعشرين عامًا، يتذكر الإنسان هذه الأمة العظيمة منذ الهجرة وحتى هذا
العصر؛ كم من دول، وكم من أمم، كم من ملوك، كم من علماء، كم من فقهاء، كم
من شعوب، كم جهاد، كم من قتال، كم من حروب، كمن دعوة، كمن من مآسٍ، كمن من
أحزان، كم من أفراح، كمن من مسرات، كم من انتصارات، كم من حوادث، كم من
فتن، كم من عمار، كم من حضارات، كم وكم وكم مر بهذه الأمة المسلمة!.
كم رفرفت رايات عزها ونصرها على أنحاء الدنيا وأطراف المعمورة! وكم تآمرت
عليها أمم، وحاربتها دول، وكادت لها كيانات، وهي لا تزداد إلا قوة، ولا
تكسب إلا صلابة، ولا تعود إلا أكثر يقينا وحزما وتقدما!.
يا الله! لك أنك تتذكر العام الأول من الهجرة، كم كان عدد المسلمين؟ ثم
تذكر بعد عشر سنوات من الهجرة، ثم بعد خمسين سنة، ثم انظر الآن أين هي حدود
الأمة المسلمة؟ أين هي أطرافها؟ أين هي نهاياتها؟ ثم كم هي أعداد المسلمين
اليوم؟ كم هم أولئك الذين يطربون للهجرة، ويفخرون بالمهاجر؟ ويشهدون أن
محمدًا رسول الله؟.
إن لك أن تتخيل في هذا العام الهجري الجديد كم عدد المنائر التي تترنم بـــــ "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"، لك أن تتخيل عدد الحناجر التي تردد: "رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا"؟ إن العام الهجري الجديد يبعث في النفس ذكريات الأعوام الهجرية السابقة كلها بما فيها من الأحداث والتواريخ، والقصص والعبر.
العام الهجري الجديد يبعث فينا الأسى واللوعة والحزن على أحوال كثير من
إخواننا المسلمين الذين مرت بهم أعوام، وانقضت سنوات وهم يعانون من الهم
والغم، والحروب والكروب، والظلم والعدوان، والتمزق، والخوف والهلع، والآلام
والجراح.
ومع ذلك فالعام الهجري أيضًا يثير في أنفسنا لونًا جميلاً من الآمال
الطيبة، والبشائر الرائعة بما نراه من صحوة للمسلمين، وإقبال على الدين،
وانتشار للخير، وتقدم للمسلمين، وتسارع إلى الدخول في دين الله.
العام الهجري الجديد يثير ألوانًا كثيرة من المشاعر والخواطر، ولكل إنسان
معه وقفات وآهات، وأمنيات وذكريات وتطلعات، فمن مقصر في الطاعة، مسرف في
المعاصي، يتمنى منذ أعوام أن يبادر بالتوبة، وأن يعود للخالق، وأن يتنكر
للذنوب، ويجافي المعاصي؛ ولكن ها هو العام تلو العام وهو لازال يحدث النفس،
ويتمنى الأماني، وتغره الآمال؛ ومن عابد مجتهد يرى في كل عام أنه أكثر
تقصيرًا فيما مضى، وهو يدعو ربه لأن يكون عامه الجديد أكثر عطاءً، وأعظم
بذلاً، وأفضل عبادة.
ومن مؤمِّل آمالاً ينتظرها منذ أعوام وهو يأمل من ربه أن تتحقق، وكل ما
أقبل عام قال لعلها هذا العام! إما من شفاء من مرض، أو غنى من فقر، أو
تـخلص من دَين، أو بناء لمسكن، أو زواج، أو ذرية، أو سفر، أو زيارة، أو غير
ذلك؛ فكل إنسان له آماله وتطلعاته، فإذا ما جاء العام الجديد هز الأنفس
هزًا وبعث كل الذكريات، وأيقظ كل الأحاسيس.
ولكن، في خضم تلك المشاعر، وزحمة هاتيك الذكريات، لا شيء أفضل، ولا أعظم
ولا أجمل ولا أكمل، ولا أهدى سبيلاً من الذي يقف مع العام الجديد وِقفةَ
محاسبة لنفسه، مع ربه -جل وعلا-، فهو يبتهل فرصة العام الجديد ويعتبره نعمة
من الله عليه، ومنّة من خالقه أنه لازال حيًّا، وأن الفرصة لازالت مواتية،
وأن أبواب التوبة مشرعة، فيبادر -أول ما يبادر- مع العام الجديد بتجديد
إيمانه فيجدد توبته، بتجديد صلته بخالقه، بتجديد صلته بالحبيب المهاجر -صلى
الله عليه وسلم-، واستلهام في سنته، والسير على محجته، والاستنارة
بهدايته.
وأخيرًا، فعلينا أن نتذكر أنه ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي منادٍ: يا
ابن آدم! أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوَّدْ مِنِّي، فإني لا أعود إلى
يوم القيامة.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى