رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
ما الذي حدث في تونس؟!
17/2/1432
الْحَمْدُ لله المَلِكِ الْوَهَّابِ، الْعَزِيْزِ الْجَبَّارِ، رَبِّ الْعَالَمِيْنَ، وَمَالِكِ يَوْمِ الْدِّيْنِ، وَخَالِقِ الْنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ، نَحْمَدُهُ حَمْدَاً كَثِيْرَاً، وَنَشْكُرُهُ شُكْرَاً مَزِيْدَاً؛ فَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ يُسْدِيهَا لِعِبَادِهِ، وَكَمْ مِنْ بَلِيَّةٍ يَدْفَعُهَا عَنْهُمْ [وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ] {الْنَّحْلِ:53} وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ؛ مَالِكُ المُلْكِ؛ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، لَا مُلْكَ إِلَّا بِيَدِهِ، وَلَا قَضَاءَ إِلَّا بِأَمْرِهِ، وَلَا يَقَعُ شَيْءٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ [تَبَارَكَ الَّذِيْ بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ] {الْمَلِكُ:1} وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، وَأَمِيْنُهُ عَلَى دِيْنِهِ، وَرَسُوْلُهُ إِلَى عِبَادِهِ، وَأَعْلَمُ الْخَلْقِ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَكْثَرُهُمْ تَعْظِيْمَاً وَإِجْلَالَاً لَهُ؛ حَدَّثَ عَنْهُ ذَاتَ مَرَّةٍ فَقَالَ:«يَقْبِضُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْأَرْضَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَطْوِي الْسَّمَاءَ بِيَمِيْنِهِ ثُمَّ يَقُوْلُ: أَنَا المَلِكُ أَيْنَ مُلُوْكُ الْأَرْضِ؟» وَاهْتَزَّ اهْتِزَازَاً شَدِيْدَاً وَهُوَ يُبَيِّنُ لِلْنَّاسِ عَظَمَةَ الله تَعَالَى وَمُلْكَهُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَصِفُ ذَلِكَ:«حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى المِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُوْلِ الله» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ..
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَامْلَئُوا قُلُوْبَكُمْ بِتَعْظِيْمِهِ وَإِجْلَالِهِ، وَعُبُودِيَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَرَجَائِهِ وَخَوْفِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّنَا مَهْمَا عَظَّمْنَاهُ وَعَبَدْنَاهُ فَلَنْ نَقْدُرَهُ قَدْرَهُ، وَلَنْ نَفِيَهُ حَقَّهُ، فَمَنْ يُعَظِّمْ حَقَّ التَعْظِيمِ رَبَّاً اتَّصَفَ بِكُلِّ كَمَالٍ، وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَمَنْ يَشْكُرُ حَقَّ الشُكْرِ رَبَّاً خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَعَافَانَا وَحَفِظَنَا وَهَدَانَا، وَمِنْ كُلِّ خَيْرٍ أَعْطَانَا، وَدَفَعَ عَنَّا مِنَ الشَرِّ مَا نَعْلَمُ وَمَا لَا نَعْلَمُ.. نَسْأَلُهُ مَا يَضُرُّنَا لِجَهْلِنَا بِالْغَيْبِ فَيَدْفَعُهُ عَنَّا رَحْمَةً بِنَا، وَيُبَدِّلُنَا أَحْسَنَ مِنْهُ وَنَحْنُ لَا نَشْعُرُ [وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلْنَّاسِ الْشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِيْنَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ] {يُوْنُسَ:11} [وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالْشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُوْلَاً] {الْإِسْرَاءِ:11}.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: حِيْنَ خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الدُّنْيَا، وَاسْتَعْمَرَ الْبَشَرَ فِيْهَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَفَلَ لَهُمْ رِزْقَهُمْ، وَأَمْرَهُمْ بِإِقَامَةِ دِيْنِهِمْ، فَرِزْقُهُمْ يُبَلِّغُهُمْ المَسِيرَ إِلَى رَبِّهِمْ، وَدِيْنُهُمْ يُنَجِّيهِمْ فِيْ آخِرَتِهِمْ.
وَأَشَدُّ شَيْءٍ عَلَى الإنْسَانِ أَنْ يُضَيَّقَ عَلَيْهِ فِيْ رِزْقِهِ، وَأَشَدُّ شَيْءٍ عَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يُؤْذَى فِيْ دِيْنِهِ؛ فمَنْعُهُ مِنْ دِيْنِهِ يُذْهِبُ آَخِرَتَهُ، وَمَنْعُهُ مِنْ رِزْقِهِ يُفْسِدُ دُنْيَاهُ، وَلِذَا كَانَ هَدَفُ الْوِلَايَةِ فِي الْإِسْلَامِ تَحْقِيْقَ الْأَمْنِ فِيْ الْدِّيْنِ الَّذِيْ بِهِ تُحْفَظُ الْضَّرُوْرَاتُ، وَتَأْمِيْنَ مَطَالِبِ الْعَيْشِ الْكَرِيْمِ الَّذِي بِهِ تَسْتَقِيْمُ أَحْوَالُ الْدُّنْيَا.
إِنَّ الْوِلَايَةَ فِيْ الْشَّرِيعَةِ عَقْدٌ مَتِيْنٌ، وَمِيْثَاقٌ غَلِيْظٌ بَيْنَ الْرَّاعِي وَالْرَّعِيَّةِ يُؤَدِّي كَلُّ طَرَفٍ مِنْهُمَا مَا أَوْجَبَهُ هَذَا الْتَّعَاقُّدُ، مَعَ الْتَّنَاصُرِ وَالْتَّنَاصُحِ وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالْتَّوَاصِي بِالْصَّبْرِ..
إِنَّهَا بَيْعَةٌ شَرْعِيَّةٌ تَهْدِفُ إِلَى تَحْقِيْقِ مَصَالِحِ الْدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ، وَلَيْسَتْ كَنَظَرِيَاتِ الْعَقْدِ الِاجْتِمَاعِيِّ الْأُورُبيِّ الَّذِي أَنْتَجَ الْنِّظَامَ الْدِّيْمُقْرَاطِيَّ المُعَاصِرَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَخِيرَ عَقْدٌ مَادِّيٌّ يَهْدِفُ إلَى تَحْقِيْقِ مُصَالِحِ الْدُّنْيَا فَقَطْ، وَلَا حَظَّ فِيْهِ لَلْآَخِرَةِ.
فِيْ عَقْدِ الْبَيْعَةِ الْشَّرْعِيَّةِ يَتَعَهَّدُ الْرَّاعِي بِإِقَامَةِ الْشَرِيعَةِ، وَالْعَدْلِ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ، وَالْسَّعْيِّ فِيْ كُلِّ مَا يُحَقِّقُ المَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ..
وَفِيْ مُقَابِلِ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْرَّعِيَّةِ الْسَّمْعُ وَالْطَّاعَةُ حَسَبَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَهِيَ بَيْعَةٌ يَنْعَقِدُ بِهَا الْقَلْبُ قَبْلَ أَنْ تُصَافِحَ بِهَا الْيَدُ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَقُرْبَةً، وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَتَّخِذَهَا أَحَدٌ مِنَ الْرَّعِيَّةِ وَسَيْلَةَ كَسَبٍ لِنَيْلِ جَاهٍ أَوْ مَالٍ بِالْكَذِبِ وَالْتَّمَلُّقِ وَالْنِّفَاقِ، وَلَا يَحِلُّ لِلرَّاعِي أَنْ يَرْضَى بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفْسِدَ الْرَّاعِي وَالْرَّعِيَّةَ..
وَإِذَا أَخَلَّ الْرَّاعِي بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْبَيْعَةِ؛ فَإِنَّ الْشَّرِيعَةَ بَيَّنَتْ كَيْفِيَّةَ الْتَّعَامُلِ مَعَهُ فِيْ تِلْكَ الْحَالِ. وَإِخْلَالُ الْرَّاعِي بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ تُجَاهَ رَعِيَّتِهِ إِمَّا أَنْ يَكُوْنَ فِيْمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْنَّاسِ الْدُّنْيَوِيَّةِ، أَوْ فِيْ دِينِهِمُ الَّذِيْ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُهُمْ الْأُخْرَوِيَّةُ..
وَفِيْ كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ يَجِبُ الْصَّبْرُ، وَبَذْلُ الْنُّصْحِ، وَالِاحْتِسَابُ عَلَيْهِ بِتَذْكِيْرِهِ وَوَعْظِهِ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيْثُ، فَمِنْهَا قَوْلُ الْنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-:«الْسَّمْعُ وَالْطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيْمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ» وَقَوْلُهُ -صلى الله عليه وسلم-:«سَتَكُوْنُ أَثَرَةٌ وَأُمُوْرٌ تُنْكِرُوْنَهَا، قَالُوْا: يَا رَسُوْلَ الله، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: تُؤَدُّوْنَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُوْنَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ» وَقَوْلُهُ -صلى الله عليه وسلم-:«مِنَ رَأَىَ مِنْ أَمِيْرِهِ شَيْئَاً يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ» وَكُلُّهَا أَحَادِيْثُ مُخَرَّجَةٌ فِيْ الْصَّحِيْحَيْنِ.
وَأَمَّا الِاحْتِسَابُ عَلَى الْرَّاعِي بِالْنُّصْحِ وَالمَوْعِظَةِ فجَاءَتْ فِيْ قَوْلِ الْنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-:«... ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ صَدْرُ مُسْلِمٍ ...وَذَكَرَ مِنْهَا: َمُنَاصَحَةَ أُوْلِي الْأَمْرِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.وَقَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم-:«إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثَاً وَذَكَرَ مِنْهَا: وَأَنْ تُنَاصِحُوْا مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ» رَوَاهُ مَالِكٌ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَلَا يَحِلُّ الْخُرُوجُ المُسَلَّحُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ الْكُفْرَ الْبَوَاحَ الَّذِيْ فِيْهِ مِنْ الله تَعَالَى بُرْهَانٌ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِزَالَتِهِ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيْثُ.
وَالِاحْتِسَابُ عَلَى الْرَّاعِي وَنُصْحُهُ وَمَوْعِظَتُهُ وَاجِبٌ عَلَى الْرَّعِيَّةِ سَوَاءً كَانَ إِخْلَالُهُ بِأُمُوْرِ الْدِّيْنِ أَوْ بِأُمُوْرِ الْدُّنْيَا، وَلَا خَيْرَ فِيْ رَعِيَّةٍ لَا يَنْصَحُونَ وَالِيَهُمْ، وَلَا خَيْرَ فِيْ وَالٍ لَا يَسْتَمِعُ إِلَىَ نُصْحِ الْنَّاصِحِيْنَ مِنْهُمْ.. وَقَدْ كَانَ الْصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يُرَاجِعُوْنَ الْنَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِيْ كَثِيْرٍ مِنَ الْقَضَايَا وَهُوَ يُقِرُّهُمْ عَلَى مُرَاجَعَتِهِمْ لَهُ، وَقَالَ الْصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لمَّا وَلِيَ عَلَى الْنَّاسِ:«فَإِذَا رَأَيْتُمُوْنِي قَدْ اسْتَقَمْتُ فَاتَّبِعُوْنِي وَإِنْ زُغْتُ فَقَوِّمُونِي». وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِيْ مَجْلِسٍ وَحَوْلَهُ المُهَاجِرُوْنَ وَالْأَنْصَارُ:«أَرَأَيْتُمْ لَوْ تَرَخَّصْتُ فِيْ بَعْضِ الْأْمْرِ مَا كُنْتُمْ فَاعِلِيْنَ؟ فَقَالَ بَشِيْرُ بْنُ سَعْدٍ: لَوْ فَعَلْتَ قَوَّمْنَاكَ تَقْوِيْمَ القِدْحِ، قَالَ عُمَرُ: أَنْتُمْ إِذَنْ أَنْتُمْ».
وَهَذَا الِاحْتِسَابُ هُوَ لِمَصْلَحَةِ الْرَّاعِي وَالْرَّعِيَّةِ؛ لِأَنَّ فِيْهِ تَثْبِيْتَ سُلْطَانِهِ، وَقُوَّةَ دَوْلَتِهِ، وَالْقُرْبَ مِنْ رَعِيَّتِهِ. وَفِيْهِ مَصْلَحَةُ الْرَّعِيَّةِ بِانْتِظَامِ مَصَالِحِ دِيْنِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَمَنْعُ المُتَمَلِّقِينَ الوُصُولِيِّينَ مِنْ حَجْبِ الْحَقَّائِقِ، وَاحْتِكَارِ المَنَافِعِ؛ فَإِنَّهُ لَا أَضَرَّ عَلَى الْرَّاعِي وَالْرَّعِيَّةِ مِنَ الوُصُولِيِّينَ الِنَفَعْيِّينَ، الَّذِيْنَ يَتَزَلَّفُونَ لِلرَّاعِي لِأَجْلِ مَصَالِحِهِمْ، فَيُظْهِرُوْنَ لَهُ مَا يُرِيْدُ، وَيُخْفُونَ عَنْهُ حَقَائِقَ مَا لَا يُرِيْدُ، وَيَجْعَلُوْنَهُ يَعِيْشُ سَكْرَةَ الْسُّلْطَةِ، وَالْخَطَرُ مُحْدِقٌ بِبَابِهِ، وَالْفِتْنَةُ تُحِيْطُ بِعَرْشِهِ حَتَّى تُطَوِّحَ بِهِ؛ فَيَخْسَرَ سُلْطَانَهُ، وَيَغْشَاهُ الذُّلُّ بَعْدَ الْعِزِّ، وَقَدْ لَا يَنْتَظِمُ الْأَمْرُ لِمَنْ بَعْدَهُ فَتَحِلُّ الْفَوْضَى الَّتِي بِهَا تَخْتَلُّ مَصَالِحُ الْدِّيْنِ وَالْدُّنْيَا، فَلَا يَأْمَنُ الْنَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَقَدْ لَا يَسْتَطِيْعُوْنَ الْخُرُوْجَ إِلَى الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ، مَعَ مَا يُحِيْطُ بِهِمْ مِنْ الْجُوْعِ وَالْخَوْفِ؛ ذَلِكَ أَنَّ اسْتِتْبَابَ الْأَمْنِ بَعْدَ فَلْتِهِ، وَطَيَّ الْحَبْلِ بَعْدَ مَدِّهِ مِنْ أَعْسَرِ مَا يَكُوْنُ؛ لِكَثْرَةِ مَنْ يَتَجَاذَبُهُ لْحِيَازَتِهِ وَالْظَّفَرِ بِهِ.
وَمَا وَقَعَ فِيْ تُوْنُسَ هَذِهِ الْأَيَّامِ كَانَ بِسَبَبِ شِدَّةِ الاحْتِقَانِ الَّذِيْ وَلَّدَ الانْفِجَارَ؛ فَإِنَّ المُسْلِمِيْنَ فِيْهَا قَدْ ضُيِّقَ عَلَيْهِمْ فِيْ دِينِهِمْ مُنْذُ نِصْفِ قَرْنٍ، فَمُنِعَ الْحِجَابُ، وَأُبِيْحَ الْزِّنَا، وَانْتُهِكَتْ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ، وَفُتِحَتِ الْسُّجُونُ لِلْعُلَمَاءِ وَالْدُّعَاةِ، حَتَّى مَاتَ الِاحْتِسَابُ عَلَى الْسُّلْطَانِ فِيْهَا، وَنَجَمَ النِّفَاقُ، وَأُوْذِيَ الْنَّاسُ فِيْ دِيْنِهِمْ أَذَىً شَدِيْدَاً، بِقَصْدِ تَجْهِيلِهِمْ وَمَحْوِ الْعُبُوْدِيَّةِ لله تَعَالَى مِنْ قُلُوْبِهِمْ، وَفَرْضِ الْتَّغْرِيبِ عَلَيْهِمْ، وَحَقَّقَ الْطُّغَاةُ فِيْهَا مَا أَرَادُوا أَوْ كَادُوْا.. وَخِلَالَ هَذِهِ المُدَّةِ الْطَّوِيْلَةِ مِنَ الْكَبْتِ وَالتَّجْهِيْلِ وَالتَّغْرِيْبِ مَلَّ الْنَّاسُ أَنْوَاعَ الانْحِرَافِ، وَدَبَّتْ فِيْهِمْ رُوْحُ الْعَوْدَةِ إِلَى الْدِّيْنِ وَلَكِنْ بِحَذَرٍ وَخَوْفٍ وَاسْتِخْفَاءٍ، وَكَانَتْ الْظُرُوْفُ المَعِيشِيَّةُ المُتَوَسِّطَةُ تَجْعَلُ الْنَّاسَ يَتَشَبَّثُونَ بِالْدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُمْ يَجِدُوْنَ شَيئَاً مِنْهَا، فَلَمَّا فَقَدُوْا هَذَا الْشَّيْءَ الْيَسِيْرَ بِسَبَبِ الْأَزَمَاتِ الاقْتِصَادِيَّةِ، وَفَسَادِ الْسُّلْطَةِ المَالِيِّ وَالإِدَارِيِّ، امْتَلَأَتْ قُلُوْبُهُمْ بِالْضَغَائِنِ عَلَى الْسُّلْطَةِ وأَزْلَامِهَا، وَأَضْحَتِ الْبِلَادُ عَلَى شَفَا انْهِيَارٍ، وَكَانَتْ مُهَيَّأَةً لِلانْفِجَارِ فِيْ أَيِّ لَحْظَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ إِحْرَاقُ شَابٍّ لِنَفْسِهِ بِسَبَبِ الْتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ فِيْ رِزْقِهِ إِلَّا شَرَارَةً أَشْعَلَتِ الْنَّارَ فِيْ بِارُودٍ كَانَ مُهَيَّأً لِلانْفِجَارِ بِهَذَا الْسَّبَبِ أَوْ بِغَيْرِهِ؛ فَخَسِرَ الْطَّاغُوتُ سُلْطَانَهُ، وَبَوَادِرُ الْفَوْضَى تَشْتَعِلُ فِيْ بَلَدِهِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِ وَبَغْيِّهِ..
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ وَالْسَّلامَةَ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِيْنَ أَجْمَعِيْنَ، وَنَعُوْذُ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْضَّلالِ بَعْدَ الْهُدَى، وَمِنَ الذُّلِّ بَعْدَ الْعِزِّ، وَمِنَ الْفَقْرِ بَعْدَ الْغِنَى، وَمِنَ الْجُوْعِ بَعْدَ الْشِبَعِ، وَمِنَ الْخَوْفِ بَعْدَ الْأَمْنِ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَحْفَظَ دِمَاءَ المُسْلِمِيْنَ فِي تُوْنُسَ، وَأَنْ يَحْمِيَ أَعْرَاضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَأَنْ يَنْظِمَ أَمْرَهُمْ فِيْمَنْ يَحْكُمُ فِيْهِمْ بِشَرِيْعَتِهِ، وَأَنْ يَجْمَعَ لَهُمْ مَصَالِحَ الْدِّيْنِ وَالْدُّنْيَا، إِنَّهُ سَمِيْعٌ مُجِيْبٌ.
وَأَقُوْلُ قَوْلِيْ هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ الله...
الخُطْبَةُ الْثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لله حَمْدَاً كَثِيْرَاً طَيِّبَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ الله- وَأَطِيْعُوْهُ، وَسَلُوهُ الْعَافِيَةَ فِيْ دِينِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَهْلِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ؛ فَمَنْ عُوْفِيَ فِيْ دِيْنِهِ وَدُنْيَاهُ اكْتَمَلَتْ لَهُ الْسَّعَادَةُ فِي الْدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ.
أَيُّهَا المُسْلِمُوْنَ: مَا وَقَعَ فِيْ تُوْنُسَ مِنْ انْفِجَارٍ شَعْبِيٍّ هَائِلٍ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ رَدَّهُ وَلَا كَبْحَهُ وَلَا تَخْفِيْفَهُ رَغْمَ طُولِ سَنَوَاتِ الْقَهْرِ وَالْتَسَلُّطِ وَالاسْتِبْدَادِ، وَرَغْمَ الْقَبْضَةِ الْبُوْلِيْسِيَّةِ الْحَدِيْدِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَتَعَامَلُ بِهَا الْنِّظَامُ الْعَلْمَانِيُّ الاسْتِئصَاليُّ المُتَطَرِّفُ مَعَ الْنَّاسِ، وتَدْجِينِهِم خِلَالَ خَمْسٍ وَخَمْسِيْنَ سَنَةً.. كُلُّ ذَلِكَ لِيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْشُّعُوْبَ تَذُلُّ وَتَضْعُفُ وَتَسْتَكِيْنُ وَلَكِنَّهَا لَا تَمُوْتُ، وَأَنَّ تَحْتَ ذُلِّهَا وَاسْتِكَانَتِهَا نَارَاً تَأَجَّجُ تَنْتَظِرُ مَنْ يَقْدَحُهَا.
لَقَدْ كَانَ الْأَذَى فِي الْدِّيْنِ، ثُمَّ إِتْبَاعُ ذَلِكَ بِالْتَّضْيِّيقِ عَلَى الْنَّاسِ فِيْ أَرْزَاقِهِمْ كَفِيْلَاً بِأَنْ يَثُوْرُوْا فِيْ أَيِّ لَحْظَةٍ؛ فَالنِّظَامُ الْعَلْمَانِيُّ الِاسْتِئْصَالِيُّ لَمْ يُبْقِ لَهُمْ دِيَنَهُمُ، وَلَمْ يُصْلِحْ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ، وَالْشَّرَارَةُ الَّتِي قَدَحَتْ هَذِهِ الثَّوْرَةَ جَاءَتْ عَلَى يَدِ فَقِيْرٍ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِيْ رِزْقِهِ، فَلَمَّا اقْتَلَعَ الْنَّاسُ حَاكِمَهُمْ مِنْ عَرْشِهِ أَعْلَنُوا مَا كَانُوا يُخْفُوْنَ مِنْ دِيْنِهِمْ، فَاصْطَفَّ الْنَّاسُ عَلَى الْأَرْصِفَةِ يُصَلُّوْنَ، وَتَحَجَّبَتِ الْنِّسَاءُ، وَاضْطُرَّتِ الْحُكُومَةُ لِبَثِّ الْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ فِيْ وَسَائِلِ الْإِعْلامِ لِامْتَصَاصِ الْغَضَبِ الْشَّعْبِيِّ؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الثَّوْرَةِ هُوَ الْتَّضْيِيْقُ عَلَى الْنَّاسِ فِيْ دِيْنِهِمْ وَفِيْ رِزْقِهِمْ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الْأَخْبَارِ أَنَّ تَوْنُسَ المُشْتَعِلَةَ الْآَنَ خَرَجَ مِنْهَا فِي أَوَّلِ الْخِلَافَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ عَالِمٌ كَبِيْرٌ كَانَ قَاضِيَ إِفْرِيْقِيَّةَ وَفَقِيْهَهَا وَمُحَدِّثَهَا هُوَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ الْأَفْرِيقِيُّ، سَارَ مِنَ الْقَيْرَوَانِ إِلَى بَغْدَادَ، فَقَطَعَ الْقَفْرَ وَالْبَحْرَ لَا لِشَيءٍ إِلَّا لِيَحْتَسِبَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ المَنْصُوْرِ، وَيُنْكِرَ عَلَيْهِ ظُلْمَ وُلَاتِهِ لِلْنَّاسِ، وَمَكَثَ عِنْدَ بَابِهِ أَشْهُرَاً يَطْلُبُ الْدُّخُوْلَ عَلَيْهِ حَتَّى أُدْخِلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُوْ جَعْفَرٍ:«مَا أَقْدَمَكَ؟ قَالَ: ظَهَرَ الْجَوْرُ بِبَلَدِنَا فَجِئْتُ لَأُعْلِمَكَ، فَإِذَا الْجَوْرُ يَخْرُجُ مِنْ دَارِكْ، فَغَضِبَ أَبُوْ جَعْفَرٍ وَهُمَّ بِهِ ثُمَّ أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ»..
تَأَمَّلُوا هَذَا الْصِدْقَ وَالْنُّصْحَ لِلْوُلَاةِ وَلِلْأُمَّةِ مِنْ هَذَا الْعَالمِ الْجَلِيْلِ، قَطَعَ سَفَرَاً بَعِيْدَاً جِدَّاً، وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِمَخَاطِرِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، ولِغَضَبِ الْسُّلْطَانِ، لَا مِنْ أَجْلِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا مِنْ أَجْلِ الْنَّاسِ.. لَا لمَالٍ يَبْتَغِيْهِ، وَلَا لِجَاهٍ يَنْشُدُهُ.. وَإِنَّمَا لأَجْلِ أَنْ يُنْكِرَ الْظُّلْمَ وَيُبَلِّغَ عَنْ المَظَالِمِ.. مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْصُرَ الضُّعَفَاءَ.. مِنْ أَجْلِ أَنْ يَمْنَعَ الْفِتْنَةَ وَالْخُرُوْجَ المُسَلَّحَ.. مِنْ أَجْلِ أَنْ يُثَبِّتَ دَعَائِمَ الأَمْنِ بِنَشْرِ الْعَدْلِ وَرَفْعِ الْظُّلْمِ..
إِنَّ إِفْسَادَ مَعَايشِ الْنَّاسِ بِالْظُّلْمِ وَالْأَثَرَةِ يُوْغِرُ الْصُّدُوْرَ، وَيَمْلَأُ الْقُلُوْبَ، وَإِنَّ إِفْسَادَ دِيْنِهِمْ بِفَرْضِ المَنَاهِجِ الْعَلْمَانِيَّةِ عَلَيْهِمْ يُضْعِفُ عَقْدَ الْبَيْعَةِ فِيْ قُلُوْبِهِمْ؛ لِأَنَّ دِيْنَهُمْ يُصْبِحُ رَقِيْقَاً بَتَغْرِيبِهِمْ، فَإِذَا اجْتَمَعَ إِفْسَادُ دِيْنِهِمْ مَعَ إِفْسَادِ دُنْيَاهُمْ كَانُوْا إِلَى الثَّوْرَةِ أَقْرَبَ، وَلَا يُمْكِنُ حِيْنَئِذٍ كَبْحُ الْنَّاسِ، وَلَا الْسَيْطَرَةُ عَلَى أفْعَالِهِم؛ وَقَدْ دَرَسَ عَدَدٌ مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ الاجْتِمَاعِ السِّيَاسِيِّ مَا وَقَعَ فِيْ الْتَّارِيْخِ المُعَاصِرِ مِنْ ثَوْرَاتٍ كُبْرَى، فَقَرَّرُوْا أَنَّ الْنَّاسَ دُفِعُوْا إِلَيْهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ كَبْتِهِمْ وَزِيَادَةِ المَظَالِمِ عَلَيْهِمْ، وَلَا أَحَدَ يَسْتَطِيْعُ تَحْدِيْدَ وَقْتِ اشْتِعَالِ الثَّوْرَةِ وَلَا وَقْتَ إِطِفَائِهَا وَلَا الْسَيْطَرَةَ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَتَحَوَّلُ إِلَى حَرْبٍ أَهْلِيَّةٍ..
إِنَّ الْتَّقَارُبَ بَيْنَ الْرَّاعِي وَالْرَّعِيَّةِ، وَقِيَامَ الْرَّاعِي عَلَى رَعِيَّتِهِ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَإِقَامَةَ الْعَدْلِ فِيْهِمْ، وَالِاسْتِمَاعَ لِلنَّاصِحِيْنَ مِنْهُمْ، وَقَطْعَ الْطَّرِيْقِ عَلَى المُتَمَلِّقِينَ وَالِنَّفْعِيِّينَ، سَبَبٌ لِصَلَاحِ الْرَّعِيَّةِ وَرِضَاهُمْ، وَإِنَّ صَبْرَ الْرَّعِيَّةِ عَلَى مَا يَرَوْنَهُ مِنَ الْأَثَرَةِ، وَمَا يُشَاهِدُوْنَهُ مِنَ الْخَلَلِ وَالْنَّقْصِ، مَعَ الْدُّعَاءِ لِلرَّاعِي بِالْصَّلَاحِ، وَالِاحْتِسَابِ عَلَيْهِ إِذَا أخْطَأَ خَيْرٌ مِنْ فِتَنٍ عَمْيَاءَ يُشْعِلُهَا الْظُّلْمُ وَالْكَبْتُ، وَلَا يَسْتَطِيْعُ أَحَدٌ إِطْفَاءَهَا.. نَعُوْذُ بِالله تَعَالَى مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَىْ الْعَافِيَةَ فِيْ دِيْنِنَا وَدُنْيَانَا، لَنَا وَلِلْمُسْلِمِيْنَ أَجْمَعِيْنَ، إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيْمٌ.
وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
ما الذي حدث في تونس؟!
17/2/1432
الْحَمْدُ لله المَلِكِ الْوَهَّابِ، الْعَزِيْزِ الْجَبَّارِ، رَبِّ الْعَالَمِيْنَ، وَمَالِكِ يَوْمِ الْدِّيْنِ، وَخَالِقِ الْنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ، نَحْمَدُهُ حَمْدَاً كَثِيْرَاً، وَنَشْكُرُهُ شُكْرَاً مَزِيْدَاً؛ فَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ يُسْدِيهَا لِعِبَادِهِ، وَكَمْ مِنْ بَلِيَّةٍ يَدْفَعُهَا عَنْهُمْ [وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ] {الْنَّحْلِ:53} وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ؛ مَالِكُ المُلْكِ؛ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، لَا مُلْكَ إِلَّا بِيَدِهِ، وَلَا قَضَاءَ إِلَّا بِأَمْرِهِ، وَلَا يَقَعُ شَيْءٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ [تَبَارَكَ الَّذِيْ بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ] {الْمَلِكُ:1} وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، وَأَمِيْنُهُ عَلَى دِيْنِهِ، وَرَسُوْلُهُ إِلَى عِبَادِهِ، وَأَعْلَمُ الْخَلْقِ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَكْثَرُهُمْ تَعْظِيْمَاً وَإِجْلَالَاً لَهُ؛ حَدَّثَ عَنْهُ ذَاتَ مَرَّةٍ فَقَالَ:«يَقْبِضُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْأَرْضَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَطْوِي الْسَّمَاءَ بِيَمِيْنِهِ ثُمَّ يَقُوْلُ: أَنَا المَلِكُ أَيْنَ مُلُوْكُ الْأَرْضِ؟» وَاهْتَزَّ اهْتِزَازَاً شَدِيْدَاً وَهُوَ يُبَيِّنُ لِلْنَّاسِ عَظَمَةَ الله تَعَالَى وَمُلْكَهُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَصِفُ ذَلِكَ:«حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى المِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُوْلِ الله» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ..
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَامْلَئُوا قُلُوْبَكُمْ بِتَعْظِيْمِهِ وَإِجْلَالِهِ، وَعُبُودِيَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَرَجَائِهِ وَخَوْفِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّنَا مَهْمَا عَظَّمْنَاهُ وَعَبَدْنَاهُ فَلَنْ نَقْدُرَهُ قَدْرَهُ، وَلَنْ نَفِيَهُ حَقَّهُ، فَمَنْ يُعَظِّمْ حَقَّ التَعْظِيمِ رَبَّاً اتَّصَفَ بِكُلِّ كَمَالٍ، وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَمَنْ يَشْكُرُ حَقَّ الشُكْرِ رَبَّاً خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَعَافَانَا وَحَفِظَنَا وَهَدَانَا، وَمِنْ كُلِّ خَيْرٍ أَعْطَانَا، وَدَفَعَ عَنَّا مِنَ الشَرِّ مَا نَعْلَمُ وَمَا لَا نَعْلَمُ.. نَسْأَلُهُ مَا يَضُرُّنَا لِجَهْلِنَا بِالْغَيْبِ فَيَدْفَعُهُ عَنَّا رَحْمَةً بِنَا، وَيُبَدِّلُنَا أَحْسَنَ مِنْهُ وَنَحْنُ لَا نَشْعُرُ [وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلْنَّاسِ الْشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِيْنَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ] {يُوْنُسَ:11} [وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالْشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُوْلَاً] {الْإِسْرَاءِ:11}.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: حِيْنَ خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الدُّنْيَا، وَاسْتَعْمَرَ الْبَشَرَ فِيْهَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَفَلَ لَهُمْ رِزْقَهُمْ، وَأَمْرَهُمْ بِإِقَامَةِ دِيْنِهِمْ، فَرِزْقُهُمْ يُبَلِّغُهُمْ المَسِيرَ إِلَى رَبِّهِمْ، وَدِيْنُهُمْ يُنَجِّيهِمْ فِيْ آخِرَتِهِمْ.
وَأَشَدُّ شَيْءٍ عَلَى الإنْسَانِ أَنْ يُضَيَّقَ عَلَيْهِ فِيْ رِزْقِهِ، وَأَشَدُّ شَيْءٍ عَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يُؤْذَى فِيْ دِيْنِهِ؛ فمَنْعُهُ مِنْ دِيْنِهِ يُذْهِبُ آَخِرَتَهُ، وَمَنْعُهُ مِنْ رِزْقِهِ يُفْسِدُ دُنْيَاهُ، وَلِذَا كَانَ هَدَفُ الْوِلَايَةِ فِي الْإِسْلَامِ تَحْقِيْقَ الْأَمْنِ فِيْ الْدِّيْنِ الَّذِيْ بِهِ تُحْفَظُ الْضَّرُوْرَاتُ، وَتَأْمِيْنَ مَطَالِبِ الْعَيْشِ الْكَرِيْمِ الَّذِي بِهِ تَسْتَقِيْمُ أَحْوَالُ الْدُّنْيَا.
إِنَّ الْوِلَايَةَ فِيْ الْشَّرِيعَةِ عَقْدٌ مَتِيْنٌ، وَمِيْثَاقٌ غَلِيْظٌ بَيْنَ الْرَّاعِي وَالْرَّعِيَّةِ يُؤَدِّي كَلُّ طَرَفٍ مِنْهُمَا مَا أَوْجَبَهُ هَذَا الْتَّعَاقُّدُ، مَعَ الْتَّنَاصُرِ وَالْتَّنَاصُحِ وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالْتَّوَاصِي بِالْصَّبْرِ..
إِنَّهَا بَيْعَةٌ شَرْعِيَّةٌ تَهْدِفُ إِلَى تَحْقِيْقِ مَصَالِحِ الْدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ، وَلَيْسَتْ كَنَظَرِيَاتِ الْعَقْدِ الِاجْتِمَاعِيِّ الْأُورُبيِّ الَّذِي أَنْتَجَ الْنِّظَامَ الْدِّيْمُقْرَاطِيَّ المُعَاصِرَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَخِيرَ عَقْدٌ مَادِّيٌّ يَهْدِفُ إلَى تَحْقِيْقِ مُصَالِحِ الْدُّنْيَا فَقَطْ، وَلَا حَظَّ فِيْهِ لَلْآَخِرَةِ.
فِيْ عَقْدِ الْبَيْعَةِ الْشَّرْعِيَّةِ يَتَعَهَّدُ الْرَّاعِي بِإِقَامَةِ الْشَرِيعَةِ، وَالْعَدْلِ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ، وَالْسَّعْيِّ فِيْ كُلِّ مَا يُحَقِّقُ المَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ..
وَفِيْ مُقَابِلِ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْرَّعِيَّةِ الْسَّمْعُ وَالْطَّاعَةُ حَسَبَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَهِيَ بَيْعَةٌ يَنْعَقِدُ بِهَا الْقَلْبُ قَبْلَ أَنْ تُصَافِحَ بِهَا الْيَدُ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَقُرْبَةً، وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَتَّخِذَهَا أَحَدٌ مِنَ الْرَّعِيَّةِ وَسَيْلَةَ كَسَبٍ لِنَيْلِ جَاهٍ أَوْ مَالٍ بِالْكَذِبِ وَالْتَّمَلُّقِ وَالْنِّفَاقِ، وَلَا يَحِلُّ لِلرَّاعِي أَنْ يَرْضَى بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفْسِدَ الْرَّاعِي وَالْرَّعِيَّةَ..
وَإِذَا أَخَلَّ الْرَّاعِي بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْبَيْعَةِ؛ فَإِنَّ الْشَّرِيعَةَ بَيَّنَتْ كَيْفِيَّةَ الْتَّعَامُلِ مَعَهُ فِيْ تِلْكَ الْحَالِ. وَإِخْلَالُ الْرَّاعِي بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ تُجَاهَ رَعِيَّتِهِ إِمَّا أَنْ يَكُوْنَ فِيْمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْنَّاسِ الْدُّنْيَوِيَّةِ، أَوْ فِيْ دِينِهِمُ الَّذِيْ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُهُمْ الْأُخْرَوِيَّةُ..
وَفِيْ كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ يَجِبُ الْصَّبْرُ، وَبَذْلُ الْنُّصْحِ، وَالِاحْتِسَابُ عَلَيْهِ بِتَذْكِيْرِهِ وَوَعْظِهِ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيْثُ، فَمِنْهَا قَوْلُ الْنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-:«الْسَّمْعُ وَالْطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيْمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ» وَقَوْلُهُ -صلى الله عليه وسلم-:«سَتَكُوْنُ أَثَرَةٌ وَأُمُوْرٌ تُنْكِرُوْنَهَا، قَالُوْا: يَا رَسُوْلَ الله، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: تُؤَدُّوْنَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُوْنَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ» وَقَوْلُهُ -صلى الله عليه وسلم-:«مِنَ رَأَىَ مِنْ أَمِيْرِهِ شَيْئَاً يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ» وَكُلُّهَا أَحَادِيْثُ مُخَرَّجَةٌ فِيْ الْصَّحِيْحَيْنِ.
وَأَمَّا الِاحْتِسَابُ عَلَى الْرَّاعِي بِالْنُّصْحِ وَالمَوْعِظَةِ فجَاءَتْ فِيْ قَوْلِ الْنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-:«... ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ صَدْرُ مُسْلِمٍ ...وَذَكَرَ مِنْهَا: َمُنَاصَحَةَ أُوْلِي الْأَمْرِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.وَقَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم-:«إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثَاً وَذَكَرَ مِنْهَا: وَأَنْ تُنَاصِحُوْا مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ» رَوَاهُ مَالِكٌ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَلَا يَحِلُّ الْخُرُوجُ المُسَلَّحُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ الْكُفْرَ الْبَوَاحَ الَّذِيْ فِيْهِ مِنْ الله تَعَالَى بُرْهَانٌ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِزَالَتِهِ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيْثُ.
وَالِاحْتِسَابُ عَلَى الْرَّاعِي وَنُصْحُهُ وَمَوْعِظَتُهُ وَاجِبٌ عَلَى الْرَّعِيَّةِ سَوَاءً كَانَ إِخْلَالُهُ بِأُمُوْرِ الْدِّيْنِ أَوْ بِأُمُوْرِ الْدُّنْيَا، وَلَا خَيْرَ فِيْ رَعِيَّةٍ لَا يَنْصَحُونَ وَالِيَهُمْ، وَلَا خَيْرَ فِيْ وَالٍ لَا يَسْتَمِعُ إِلَىَ نُصْحِ الْنَّاصِحِيْنَ مِنْهُمْ.. وَقَدْ كَانَ الْصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يُرَاجِعُوْنَ الْنَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِيْ كَثِيْرٍ مِنَ الْقَضَايَا وَهُوَ يُقِرُّهُمْ عَلَى مُرَاجَعَتِهِمْ لَهُ، وَقَالَ الْصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لمَّا وَلِيَ عَلَى الْنَّاسِ:«فَإِذَا رَأَيْتُمُوْنِي قَدْ اسْتَقَمْتُ فَاتَّبِعُوْنِي وَإِنْ زُغْتُ فَقَوِّمُونِي». وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِيْ مَجْلِسٍ وَحَوْلَهُ المُهَاجِرُوْنَ وَالْأَنْصَارُ:«أَرَأَيْتُمْ لَوْ تَرَخَّصْتُ فِيْ بَعْضِ الْأْمْرِ مَا كُنْتُمْ فَاعِلِيْنَ؟ فَقَالَ بَشِيْرُ بْنُ سَعْدٍ: لَوْ فَعَلْتَ قَوَّمْنَاكَ تَقْوِيْمَ القِدْحِ، قَالَ عُمَرُ: أَنْتُمْ إِذَنْ أَنْتُمْ».
وَهَذَا الِاحْتِسَابُ هُوَ لِمَصْلَحَةِ الْرَّاعِي وَالْرَّعِيَّةِ؛ لِأَنَّ فِيْهِ تَثْبِيْتَ سُلْطَانِهِ، وَقُوَّةَ دَوْلَتِهِ، وَالْقُرْبَ مِنْ رَعِيَّتِهِ. وَفِيْهِ مَصْلَحَةُ الْرَّعِيَّةِ بِانْتِظَامِ مَصَالِحِ دِيْنِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَمَنْعُ المُتَمَلِّقِينَ الوُصُولِيِّينَ مِنْ حَجْبِ الْحَقَّائِقِ، وَاحْتِكَارِ المَنَافِعِ؛ فَإِنَّهُ لَا أَضَرَّ عَلَى الْرَّاعِي وَالْرَّعِيَّةِ مِنَ الوُصُولِيِّينَ الِنَفَعْيِّينَ، الَّذِيْنَ يَتَزَلَّفُونَ لِلرَّاعِي لِأَجْلِ مَصَالِحِهِمْ، فَيُظْهِرُوْنَ لَهُ مَا يُرِيْدُ، وَيُخْفُونَ عَنْهُ حَقَائِقَ مَا لَا يُرِيْدُ، وَيَجْعَلُوْنَهُ يَعِيْشُ سَكْرَةَ الْسُّلْطَةِ، وَالْخَطَرُ مُحْدِقٌ بِبَابِهِ، وَالْفِتْنَةُ تُحِيْطُ بِعَرْشِهِ حَتَّى تُطَوِّحَ بِهِ؛ فَيَخْسَرَ سُلْطَانَهُ، وَيَغْشَاهُ الذُّلُّ بَعْدَ الْعِزِّ، وَقَدْ لَا يَنْتَظِمُ الْأَمْرُ لِمَنْ بَعْدَهُ فَتَحِلُّ الْفَوْضَى الَّتِي بِهَا تَخْتَلُّ مَصَالِحُ الْدِّيْنِ وَالْدُّنْيَا، فَلَا يَأْمَنُ الْنَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَقَدْ لَا يَسْتَطِيْعُوْنَ الْخُرُوْجَ إِلَى الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ، مَعَ مَا يُحِيْطُ بِهِمْ مِنْ الْجُوْعِ وَالْخَوْفِ؛ ذَلِكَ أَنَّ اسْتِتْبَابَ الْأَمْنِ بَعْدَ فَلْتِهِ، وَطَيَّ الْحَبْلِ بَعْدَ مَدِّهِ مِنْ أَعْسَرِ مَا يَكُوْنُ؛ لِكَثْرَةِ مَنْ يَتَجَاذَبُهُ لْحِيَازَتِهِ وَالْظَّفَرِ بِهِ.
وَمَا وَقَعَ فِيْ تُوْنُسَ هَذِهِ الْأَيَّامِ كَانَ بِسَبَبِ شِدَّةِ الاحْتِقَانِ الَّذِيْ وَلَّدَ الانْفِجَارَ؛ فَإِنَّ المُسْلِمِيْنَ فِيْهَا قَدْ ضُيِّقَ عَلَيْهِمْ فِيْ دِينِهِمْ مُنْذُ نِصْفِ قَرْنٍ، فَمُنِعَ الْحِجَابُ، وَأُبِيْحَ الْزِّنَا، وَانْتُهِكَتْ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ، وَفُتِحَتِ الْسُّجُونُ لِلْعُلَمَاءِ وَالْدُّعَاةِ، حَتَّى مَاتَ الِاحْتِسَابُ عَلَى الْسُّلْطَانِ فِيْهَا، وَنَجَمَ النِّفَاقُ، وَأُوْذِيَ الْنَّاسُ فِيْ دِيْنِهِمْ أَذَىً شَدِيْدَاً، بِقَصْدِ تَجْهِيلِهِمْ وَمَحْوِ الْعُبُوْدِيَّةِ لله تَعَالَى مِنْ قُلُوْبِهِمْ، وَفَرْضِ الْتَّغْرِيبِ عَلَيْهِمْ، وَحَقَّقَ الْطُّغَاةُ فِيْهَا مَا أَرَادُوا أَوْ كَادُوْا.. وَخِلَالَ هَذِهِ المُدَّةِ الْطَّوِيْلَةِ مِنَ الْكَبْتِ وَالتَّجْهِيْلِ وَالتَّغْرِيْبِ مَلَّ الْنَّاسُ أَنْوَاعَ الانْحِرَافِ، وَدَبَّتْ فِيْهِمْ رُوْحُ الْعَوْدَةِ إِلَى الْدِّيْنِ وَلَكِنْ بِحَذَرٍ وَخَوْفٍ وَاسْتِخْفَاءٍ، وَكَانَتْ الْظُرُوْفُ المَعِيشِيَّةُ المُتَوَسِّطَةُ تَجْعَلُ الْنَّاسَ يَتَشَبَّثُونَ بِالْدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُمْ يَجِدُوْنَ شَيئَاً مِنْهَا، فَلَمَّا فَقَدُوْا هَذَا الْشَّيْءَ الْيَسِيْرَ بِسَبَبِ الْأَزَمَاتِ الاقْتِصَادِيَّةِ، وَفَسَادِ الْسُّلْطَةِ المَالِيِّ وَالإِدَارِيِّ، امْتَلَأَتْ قُلُوْبُهُمْ بِالْضَغَائِنِ عَلَى الْسُّلْطَةِ وأَزْلَامِهَا، وَأَضْحَتِ الْبِلَادُ عَلَى شَفَا انْهِيَارٍ، وَكَانَتْ مُهَيَّأَةً لِلانْفِجَارِ فِيْ أَيِّ لَحْظَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ إِحْرَاقُ شَابٍّ لِنَفْسِهِ بِسَبَبِ الْتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ فِيْ رِزْقِهِ إِلَّا شَرَارَةً أَشْعَلَتِ الْنَّارَ فِيْ بِارُودٍ كَانَ مُهَيَّأً لِلانْفِجَارِ بِهَذَا الْسَّبَبِ أَوْ بِغَيْرِهِ؛ فَخَسِرَ الْطَّاغُوتُ سُلْطَانَهُ، وَبَوَادِرُ الْفَوْضَى تَشْتَعِلُ فِيْ بَلَدِهِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِ وَبَغْيِّهِ..
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ وَالْسَّلامَةَ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِيْنَ أَجْمَعِيْنَ، وَنَعُوْذُ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْضَّلالِ بَعْدَ الْهُدَى، وَمِنَ الذُّلِّ بَعْدَ الْعِزِّ، وَمِنَ الْفَقْرِ بَعْدَ الْغِنَى، وَمِنَ الْجُوْعِ بَعْدَ الْشِبَعِ، وَمِنَ الْخَوْفِ بَعْدَ الْأَمْنِ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَحْفَظَ دِمَاءَ المُسْلِمِيْنَ فِي تُوْنُسَ، وَأَنْ يَحْمِيَ أَعْرَاضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَأَنْ يَنْظِمَ أَمْرَهُمْ فِيْمَنْ يَحْكُمُ فِيْهِمْ بِشَرِيْعَتِهِ، وَأَنْ يَجْمَعَ لَهُمْ مَصَالِحَ الْدِّيْنِ وَالْدُّنْيَا، إِنَّهُ سَمِيْعٌ مُجِيْبٌ.
وَأَقُوْلُ قَوْلِيْ هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ الله...
الخُطْبَةُ الْثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لله حَمْدَاً كَثِيْرَاً طَيِّبَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ الله- وَأَطِيْعُوْهُ، وَسَلُوهُ الْعَافِيَةَ فِيْ دِينِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَهْلِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ؛ فَمَنْ عُوْفِيَ فِيْ دِيْنِهِ وَدُنْيَاهُ اكْتَمَلَتْ لَهُ الْسَّعَادَةُ فِي الْدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ.
أَيُّهَا المُسْلِمُوْنَ: مَا وَقَعَ فِيْ تُوْنُسَ مِنْ انْفِجَارٍ شَعْبِيٍّ هَائِلٍ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ رَدَّهُ وَلَا كَبْحَهُ وَلَا تَخْفِيْفَهُ رَغْمَ طُولِ سَنَوَاتِ الْقَهْرِ وَالْتَسَلُّطِ وَالاسْتِبْدَادِ، وَرَغْمَ الْقَبْضَةِ الْبُوْلِيْسِيَّةِ الْحَدِيْدِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَتَعَامَلُ بِهَا الْنِّظَامُ الْعَلْمَانِيُّ الاسْتِئصَاليُّ المُتَطَرِّفُ مَعَ الْنَّاسِ، وتَدْجِينِهِم خِلَالَ خَمْسٍ وَخَمْسِيْنَ سَنَةً.. كُلُّ ذَلِكَ لِيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْشُّعُوْبَ تَذُلُّ وَتَضْعُفُ وَتَسْتَكِيْنُ وَلَكِنَّهَا لَا تَمُوْتُ، وَأَنَّ تَحْتَ ذُلِّهَا وَاسْتِكَانَتِهَا نَارَاً تَأَجَّجُ تَنْتَظِرُ مَنْ يَقْدَحُهَا.
لَقَدْ كَانَ الْأَذَى فِي الْدِّيْنِ، ثُمَّ إِتْبَاعُ ذَلِكَ بِالْتَّضْيِّيقِ عَلَى الْنَّاسِ فِيْ أَرْزَاقِهِمْ كَفِيْلَاً بِأَنْ يَثُوْرُوْا فِيْ أَيِّ لَحْظَةٍ؛ فَالنِّظَامُ الْعَلْمَانِيُّ الِاسْتِئْصَالِيُّ لَمْ يُبْقِ لَهُمْ دِيَنَهُمُ، وَلَمْ يُصْلِحْ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ، وَالْشَّرَارَةُ الَّتِي قَدَحَتْ هَذِهِ الثَّوْرَةَ جَاءَتْ عَلَى يَدِ فَقِيْرٍ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِيْ رِزْقِهِ، فَلَمَّا اقْتَلَعَ الْنَّاسُ حَاكِمَهُمْ مِنْ عَرْشِهِ أَعْلَنُوا مَا كَانُوا يُخْفُوْنَ مِنْ دِيْنِهِمْ، فَاصْطَفَّ الْنَّاسُ عَلَى الْأَرْصِفَةِ يُصَلُّوْنَ، وَتَحَجَّبَتِ الْنِّسَاءُ، وَاضْطُرَّتِ الْحُكُومَةُ لِبَثِّ الْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ فِيْ وَسَائِلِ الْإِعْلامِ لِامْتَصَاصِ الْغَضَبِ الْشَّعْبِيِّ؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الثَّوْرَةِ هُوَ الْتَّضْيِيْقُ عَلَى الْنَّاسِ فِيْ دِيْنِهِمْ وَفِيْ رِزْقِهِمْ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الْأَخْبَارِ أَنَّ تَوْنُسَ المُشْتَعِلَةَ الْآَنَ خَرَجَ مِنْهَا فِي أَوَّلِ الْخِلَافَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ عَالِمٌ كَبِيْرٌ كَانَ قَاضِيَ إِفْرِيْقِيَّةَ وَفَقِيْهَهَا وَمُحَدِّثَهَا هُوَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ الْأَفْرِيقِيُّ، سَارَ مِنَ الْقَيْرَوَانِ إِلَى بَغْدَادَ، فَقَطَعَ الْقَفْرَ وَالْبَحْرَ لَا لِشَيءٍ إِلَّا لِيَحْتَسِبَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ المَنْصُوْرِ، وَيُنْكِرَ عَلَيْهِ ظُلْمَ وُلَاتِهِ لِلْنَّاسِ، وَمَكَثَ عِنْدَ بَابِهِ أَشْهُرَاً يَطْلُبُ الْدُّخُوْلَ عَلَيْهِ حَتَّى أُدْخِلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُوْ جَعْفَرٍ:«مَا أَقْدَمَكَ؟ قَالَ: ظَهَرَ الْجَوْرُ بِبَلَدِنَا فَجِئْتُ لَأُعْلِمَكَ، فَإِذَا الْجَوْرُ يَخْرُجُ مِنْ دَارِكْ، فَغَضِبَ أَبُوْ جَعْفَرٍ وَهُمَّ بِهِ ثُمَّ أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ»..
تَأَمَّلُوا هَذَا الْصِدْقَ وَالْنُّصْحَ لِلْوُلَاةِ وَلِلْأُمَّةِ مِنْ هَذَا الْعَالمِ الْجَلِيْلِ، قَطَعَ سَفَرَاً بَعِيْدَاً جِدَّاً، وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِمَخَاطِرِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، ولِغَضَبِ الْسُّلْطَانِ، لَا مِنْ أَجْلِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا مِنْ أَجْلِ الْنَّاسِ.. لَا لمَالٍ يَبْتَغِيْهِ، وَلَا لِجَاهٍ يَنْشُدُهُ.. وَإِنَّمَا لأَجْلِ أَنْ يُنْكِرَ الْظُّلْمَ وَيُبَلِّغَ عَنْ المَظَالِمِ.. مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْصُرَ الضُّعَفَاءَ.. مِنْ أَجْلِ أَنْ يَمْنَعَ الْفِتْنَةَ وَالْخُرُوْجَ المُسَلَّحَ.. مِنْ أَجْلِ أَنْ يُثَبِّتَ دَعَائِمَ الأَمْنِ بِنَشْرِ الْعَدْلِ وَرَفْعِ الْظُّلْمِ..
إِنَّ إِفْسَادَ مَعَايشِ الْنَّاسِ بِالْظُّلْمِ وَالْأَثَرَةِ يُوْغِرُ الْصُّدُوْرَ، وَيَمْلَأُ الْقُلُوْبَ، وَإِنَّ إِفْسَادَ دِيْنِهِمْ بِفَرْضِ المَنَاهِجِ الْعَلْمَانِيَّةِ عَلَيْهِمْ يُضْعِفُ عَقْدَ الْبَيْعَةِ فِيْ قُلُوْبِهِمْ؛ لِأَنَّ دِيْنَهُمْ يُصْبِحُ رَقِيْقَاً بَتَغْرِيبِهِمْ، فَإِذَا اجْتَمَعَ إِفْسَادُ دِيْنِهِمْ مَعَ إِفْسَادِ دُنْيَاهُمْ كَانُوْا إِلَى الثَّوْرَةِ أَقْرَبَ، وَلَا يُمْكِنُ حِيْنَئِذٍ كَبْحُ الْنَّاسِ، وَلَا الْسَيْطَرَةُ عَلَى أفْعَالِهِم؛ وَقَدْ دَرَسَ عَدَدٌ مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ الاجْتِمَاعِ السِّيَاسِيِّ مَا وَقَعَ فِيْ الْتَّارِيْخِ المُعَاصِرِ مِنْ ثَوْرَاتٍ كُبْرَى، فَقَرَّرُوْا أَنَّ الْنَّاسَ دُفِعُوْا إِلَيْهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ كَبْتِهِمْ وَزِيَادَةِ المَظَالِمِ عَلَيْهِمْ، وَلَا أَحَدَ يَسْتَطِيْعُ تَحْدِيْدَ وَقْتِ اشْتِعَالِ الثَّوْرَةِ وَلَا وَقْتَ إِطِفَائِهَا وَلَا الْسَيْطَرَةَ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَتَحَوَّلُ إِلَى حَرْبٍ أَهْلِيَّةٍ..
إِنَّ الْتَّقَارُبَ بَيْنَ الْرَّاعِي وَالْرَّعِيَّةِ، وَقِيَامَ الْرَّاعِي عَلَى رَعِيَّتِهِ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَإِقَامَةَ الْعَدْلِ فِيْهِمْ، وَالِاسْتِمَاعَ لِلنَّاصِحِيْنَ مِنْهُمْ، وَقَطْعَ الْطَّرِيْقِ عَلَى المُتَمَلِّقِينَ وَالِنَّفْعِيِّينَ، سَبَبٌ لِصَلَاحِ الْرَّعِيَّةِ وَرِضَاهُمْ، وَإِنَّ صَبْرَ الْرَّعِيَّةِ عَلَى مَا يَرَوْنَهُ مِنَ الْأَثَرَةِ، وَمَا يُشَاهِدُوْنَهُ مِنَ الْخَلَلِ وَالْنَّقْصِ، مَعَ الْدُّعَاءِ لِلرَّاعِي بِالْصَّلَاحِ، وَالِاحْتِسَابِ عَلَيْهِ إِذَا أخْطَأَ خَيْرٌ مِنْ فِتَنٍ عَمْيَاءَ يُشْعِلُهَا الْظُّلْمُ وَالْكَبْتُ، وَلَا يَسْتَطِيْعُ أَحَدٌ إِطْفَاءَهَا.. نَعُوْذُ بِالله تَعَالَى مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَىْ الْعَافِيَةَ فِيْ دِيْنِنَا وَدُنْيَانَا، لَنَا وَلِلْمُسْلِمِيْنَ أَجْمَعِيْنَ، إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيْمٌ.
وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى