رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / عبد الله بن محمد البصري
أما الله فقد برأها ... فماذا يريد شانئها ؟
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ وَأَبُو بَكرٍ عَبدُ اللهِ بنُ أَبي قُحَافَةَ ، لا يُذكَرُ هَذَا إِلاَّ ذُكِرَ ذَاكَ ، مُحَمَّدٌ هُوَ رَسُولُ اللهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِمَامُ المُرسَلِينَ ، وَأَبُو بَكرٍ هُوَ الصِّدِّيقُ ، صَاحِبُهُ في الغَارِ وَرَفِيقُهُ في الهِجرَةِ ، وَوَزِيرُهُ المُلازِمُ لَهُ مُلازَمَةَ الظِلِّ وَخَلِيفَتُهُ الأَوَّلُ ، أَوَّلُ مَن أَسلَمَ مِنَ الرِّجَالِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ ، كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لا يُخطِئُهُ أَحَدُ طَرَفيِ النَّهَارِ أَن يَأتيَ بَيتَهُ إِمَّا بُكرَةً وَإِمَّا عَشِيَّةً ، وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّهُ لَيسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ في نَفسِهِ وَمَالِهِ مِن أَبي بَكرِ بنِ أَبي قُحَافَةَ ، وَلَو كُنتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلاً لاتَّخَذتُ أَبَا بَكرٍ خَلِيلاً ، وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسلامِ أَفضَلُ ، سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوخَةٍ في هَذَا المَسجِدِ غَيرَ خَوخَةِ أَبي بَكرٍ " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَا لأَحَدٍ عِندَنَا يَدٌ إِلاَّ وَقَد كَافَأنَاهُ مَا خَلا أَبَا بَكرٍ ، فَإِنَّ لَهُ عِندَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللهُ بها يَومَ القِيَامَةِ " رَضِيَ اللهُ عَنِ الصِّدِّيقِ وَأَرضَاهُ ، وَأَحَبَّهُ وَرَفَعَهُ كَمَا أَحَبَّهُ نَبيُّ الإِسلامِ وَرَفَعَهُ ، وَكَافَأَهُ يَومَ القِيَامَةِ بما سَبَقَ لَهُ مِن يَدٍ بَيضَاءَ لم يَنسَهَا لَهُ أَوفى النَّاسِ وَأَجوَدُهُم وَأَحسَنُهُم خُلُقًا ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، هَذِهِ اليَدُ الَّتي لأَبي بَكرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ وَالَّتي لا يُكَافِئُهُ عَلَيهَا إِلاَّ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ لم تَكُنْ وَلِيَدَةَ يَومٍ أَو يَومَينِ صُحبَةً لِرَسُولِ اللهِ ، وَلا نَتِيجَةَ إِنفَاقِهِ دِرهَمًا أَو دِرهَمَينِ في سَبيلِ اللهِ ، بَل هِيَ خُلاصَةُ عُمَرٍ مُبَارَكٍ وَعُصَارَةُ نَفسٍ مُخلِصَةٍ ، وَثَمَرَةُ مَالٍ رَابِحٍ وَوَلَدٍ صَالحٍ وَهَبَهَا أَبُو بَكرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ للهِ وَلِرَسُولِهِ ، فَعَن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَومًا أَن نَتَصَدَّقَ ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالاً عِندِي ، فَقُلتُ : اليَومَ أَسبِقُ أَبَا بَكرٍ إِنْ سَبَقتُهُ يَومًا ، فَجِئتُ بِنِصفِ مَالي ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَا أَبقَيتَ لأَهلِكَ ؟ " قُلتُ : مِثلَهُ . قَالَ : وَأَتَى أَبُو بَكرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ بِكُلِّ مَا عِندَهُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَا أَبقَيتَ لأَهلِكَ ؟ " قَالَ : أَبقَيتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ . قُلتُ : لا أُسَابِقُكَ إِلى شَيءٍ أَبَدًا .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَزَادَ مَحَبَّةَ الصَّاحِبَينِ الكَرِيمَينِ لِبَعضِهِمَا وَقَوَّى المَوَدَّةَ بَينَهُمَا ، أَنَّ تَوَّجَ أَبُو بَكرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ مَا بَذَلَهُ لِرَسُولِ اللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ بِابنَتِهِ وَفَلَذَةِ كَبِدِهِ عَائِشَةَ ، فَدَفَعَ بها إِلَيهِ وَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا ؛ لِتَكُونَ امرَأَةَ إِمَامِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ ، وَلِتَصِيرَ زَوجَتَهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ، وَلِتُصبِحَ أُمًّا لِلمُؤمِنِينَ وَتَنضَمَّ إِلى بَيتِ النُّبُوَّةِ الكَرِيمِ ، ذَلِكُمُ البَيتُ المُبَارَكُ التَّقِيُّ النَّقِيُّ ، المُمتَلِئُ عَفَافًا وَطَهَارَةً وَنَزَاهَةً ، فَيَقُولُ اللهُ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيرًا " وَلِتَغدُوَ الصِّدِّيقَةُ بِنتُ الصِّدِّيقِ في مَكَانَةٍ لا تُوَازِيهَا فِيهَا امرَأَةٌ مِن نِسَاءِ الأُمَّةِ إِلاَّ أُمَّهَاتُ المُؤمِنِينَ الَّلاتي أَرَدنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ ، فَيَقُولُ ـ سُبحَانَهُ ـ عَنهُنَّ : " يَا نِسَاءَ النَّبيِّ لَستُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيتُنَّ " وَلِتَغدُوَ عَائِشَةُ بِنتُ أَبي بَكرٍ وَأَبُوهَا أَحَبَّ النَّاسِ إِلى رَسُولِ اللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فَعَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَن أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيكَ ؟ قَالَ : " عَائِشَةُ " قِيلَ : مِنَ الرِّجَالِ ؟ قَالَ : " أَبُوهَا "
أُمَّةَ الإِسلامِ ، عَائِشَةُ بِنتُ أَبي بَكرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا وَعَن أَبِيهَا وَأَرضَاهُمَا ـ عَلَمٌ عَلَى رَأسِهِ نَارٌ ، هِيَ بُشرَى جِبرِيلَ لِرَسُولِ اللهِ وَرُؤيَاهُ في مَنَامِهِ ، وَهِيَ زَوجُهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ، وَلم يَتَزَوَّجْ بِكرًا غَيرَهَا ، وَهِيَ فُرقَانٌ بَينَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ ، وَفَيصَلٌ بَينَ مُؤمِنٍ مُحِبٍّ وَمُنَافِقٍ شَانِئٍ ، عَابِدَةٌ زَاهِدَةٌ ، خَطِيبَةٌ أَدِيبَةٌ ، عَالِمَةٌ فَقِيهَةٌ ، مُحَدِّثَةٌ فَصِيحَةٌ ، طَاهِرَةٌ مُطَهَّرَةٌ ، تَقِيَّةٌ نَقِيَّةٌ ، أَقرَأَهَا الرُّوحُ الأَمِينُ السَّلامَ ، وَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ في لِحَافِهَا وَثَوبِهَا ، وَأَحَبَّهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ طُولَ حَيَاتِهِ ، وَتُوُفِّيَ في بَيتِهَا وَفي يَومِهَا وَبَينَ سَحرِهَا وَنَحرِهَا ، وَجَمَعَ اللهُ بَينَ رِيقِهَا وَرِيقِهِ عِندَ مَوتِهِ ، بِكُلِّ ذَلِكَ صَحَّتِ الأَخبَارُ وَثَبَتَتِ الآثَارُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلم يَكمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَريَمُ بِنتُ عِمرَانَ وَآسِيَةُ امرَأَةُ فِرعَونَ ، وَفَضلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : قَالَ لي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " أُرِيتُكِ في المَنَامِ ثَلاثَ لَيَالٍ ، يَجِيءُ بِكِ المَلَكُ في سَرَقَةٍ مِن حَرِيرٍ فَقَالَ لي : هَذِهِ امرَأَتُكَ ، فَكَشَفتُ عَن وَجهِكِ الثَّوبَ فَإِذَا أَنتِ هِيَ . فَقُلتُ : إِنْ يَكُن هَذَا مِن عِندِ اللهِ يُمضِهِ " وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ أَنَّ جِبرِيلَ جَاءَ بِصُورَتِهَا في خِرقَةِ حَرِيرٍ خَضرَاءَ إِلى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : " هَذِهِ زَوجَتُكَ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ " وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " يَا عَائِشُ ، هَذَا جِبرِيلُ يُقرِئُكِ السَّلامَ " قَالَت : وَعَلَيهِ السَّلامُ وَرَحمَةُ اللهِ . وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّونَ بِهَدَايَاهُم يَومَ عَائِشَةَ ، يَبتَغُونَ بِذَلِكَ مَرضَاةَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَالَت : إِنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ كُنَّ حِزبَينِ : فَحِزبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَودَةُ ، وَالحِزبُ الآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَكَلَّمَ حِزبُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلنَ لَهَا : كَلِّمِي رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَيَقُولُ : مَن أَرَادَ أَن يُهدِيَ إِلى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَليُهدِهِ إِلَيهِ حَيثُ كَانَ . فَكَلَّمَتهُ فَقَالَ لَهَا : " لا تُؤذِيني في عَائِشَةَ ؛ فَإِنَّ الوَحيَ لم يَأتِني وَأَنَا في ثَوبِ امرَأَةٍ إِلاَّ عَائِشَةَ " قَالَت : أَتُوبُ إِلى اللهِ مِن ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ . ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَونَ فَاطِمَةَ فَأَرسَلنَ إِلى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَكَلَّمَتهُ فَقَالَ : " يَا بُنَيَّةُ ، أَلا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ ؟ " قَالَت : بَلَى . قَالَ : " فَأَحِبِّي هَذِهِ " وَعَن أَبي مُوسَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : مَا أَشكَلَ عَلَينَا أَصحَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلنَا عَائِشَةَ إِلاَّ وَجَدنَا عِندَهَا مِنهُ عِلمًا . وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : إِنَّ مِن نِعَمِ اللهِ عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ تُوُفِّيَ في بَيتي وَفي يَومِي وَبَينَ سَحرِي وَنَحرِي ، وَأَنَّ اللهَ جَمَعَ بَينَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِندَ مَوتِهِ ، دَخَلَ عَلَيَّ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ أَبي بَكرٍ وَبِيَدِهِ سِوَاكٌ وَأَنَا مُسنِدَةٌ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَرَأَيتُهُ يَنظُرُ إِلَيهِ ، وَعَرَفتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ فَقُلتُ : آخُذُهُ لَكَ ؟ فَأَشَارَ بِرَأسِهِ أَنْ نَعَمْ ، فَتَنَاوَلتُهُ فَاشتَدَّ عَلَيهِ وَقُلتُ : أُلَيِّنُهُ لَكَ ؟ فَأَشَارَ بِرَأسِهِ أَنْ نَعَمْ ، فَلَيَّنتُهُ فَأَمَرَّهُ ، وَبَينَ يَدَيهِ رَكوَةٌ فِيهَا مَاءٌ ، فَجَعَلَ يُدخِلُ يَدَيهِ في المَاءِ فَيَمسَحُ بهمَا وَجهَهُ وَيَقُولُ : " لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، إِنَّ لِلمَوتِ سَكَرَاتٍ " ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ : " في الرَّفِيقِ الأَعلَى " حَتَّى قُبِضَ وَمَالَت يَدُهُ . وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : مَاتَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بَينَ حَاقِنَتي وَذَاقِنَتي . هَذِهِ هِيَ أُمُّ المُؤمِنِينَ عَائِشَةُ ، الصِّدِّيقَةُ بِنتُ الصِّدِّيقِ ، نَشَأَت مُنذُ نُعُومَةِ أَظفَارِهَا في بَيتِ إِسلامٍ وَصَلاحٍ ، لم تَعرِفْ جَاهِلِيَّةً وَلا ضَلالاً ، وَلم تُجَرِّبْ غِوَايَةً وَلا سَفَاهَةً ، قَالَت ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ : لم أَعقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ . إِنَّهَا المَرأَةُ الَّتي عَاشَت في قَلبِ رَسُولِ اللهِ قَبلَ أَن يَبنيَ بها بِبِشَارَةِ اللهِ لَهُ ، ثُمَّ دَخَلَ بها ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بَعدَ أَن هَاجَرَ إِلى المَدِينَةِ وَنَصرَهُ اللهُ في غَزوَةِ بَدرٍ الكُبرَى ، تَقُولُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ : تَزَوَّجَنيَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ في شَوَّالٍ ، وَبَنَى بي في شَوَّالٍ ، فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ أَحظَى عِندَهُ مِنِّي ؟! ثُمَّ إِنَّهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ عَاشَت مَعَهُ حَيَاتَهُ وَهِيَ الشَّابَّةُ الصَّغِيرَةُ الحَدِيثَةُ السِّنِّ المَحَبَّةُ لِلَّعِبِ ، فَكَانَ مِن حُبِّهِ إِيَّاهَا يُسَرِّبُ إِلَيهَا صَوَاحِبَهَا يُلاعِبْنَهَا ، وَمَكَّنَهَا مِن أَن تَضَعَ رَأسَهَا عَلَى كَتِفِهِ الشَّرِيفِ وَخَدُّهَا عَلَى خَدِّهِ مُستَتِرَةً بِهِ لِتَنظُرَ إِلى الأَحبَاشِ وَهُم يَلعَبُونَ بِحِرَابِهِم في المَسجِدِ ، وَكَانَ مِن حُبِّهَا أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ مُحَادَثَتَهَا إِذَا سَافَرَ ، وَسَابَقَهَا مَرَّةً فَسَبَقتُهُ ، ثُمَّ سَابَقَهَا أُخرَى فَسَبَقَهَا ، وَبَلَغَ مِن حُبِّهِ إِيَّاهَا أَن كَانَ يُدَلِّلُهَا فَيَقُولُ : " يَا عَائِشُ " وَ " يَا مُوَفَّقَةُ " وَيَا : " يَا بِنتَ الصِّدِّيقِ " وَإِذَا غَارَت زَوجَاتُهُ مِنهَا قَالَ : " إِنَّهَا بِنتُ أَبي بَكرٍ " بَل بَلَغَ مِن حُبِّهِ إِيَّاهَا أَن جَعَلَ يَعلَمُ بما يَدُورُ في خَاطِرِهَا تُجَاهَهُ ، فَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : قَالَ لي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : إِنِّي لأَعلَمُ إِذَا كُنتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنتِ عَلَيَّ غَضبَى ! قَالَت : فَقُلتُ : مِن أَينَ تَعرِفُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : أَمَّا إِذَا كُنتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ : لا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ ، وَإِذَا كُنتِ عَلَيَّ غَضبَى قُلتِ : لا وَرَبِّ إِبرَاهِيمَ ، قَالَت : قُلتُ : أَجَلْ ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَهجُرُ إِلاَّ اسمَكَ . وَكَانَ يُدَاعِبُهَا فَيَتَعَمَّدُ شُربَ المَاءِ مِنَ المَوضِعِ الَّذِي تَشرَبُ مِنهُ وَالأَكلَ ممَّا تَأكُلُ مِنهُ ، فَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يُعطِيني العَرْقَ فَأَتَعَرَّقُهُ ، ثُمَّ يَأخُذُهُ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوضِعِ فِيَّ ، وَيُعطِيني الإِنَاءَ فَأَشرَبُ ، ثُمَّ يَأخُذُهُ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوضِعِ فِيَّ . حَتَّى إِذَا مَرِضَ استَأذَنَ نِسَاءَهُ في أَن يُمَرَّضَ في بَيتِهَا فَأَذِنَّ لَهُ ، ثُمَّ مَاتَ في حِجرِهَا وَهُوَ رَاضٍ عَنهَا ، بَل وَدُفِنَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَاحِبَاهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ في بَيتِهَا . وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بَقِيَتِ الصِّدِّيقَةُ بَعدَهُ مَنَارَةَ عِلمٍ وَمَوئِلَ فِقهٍ ، فَأَفتَتِ المُسلِمِينَ في عَهدِ عُمَرَ وَعُثمَانَ ، وَجَلَسَت لِلتَّحدِيثِ فَرَوَى عَنهَا كِبَارُ التَّابِعِينَ ، وَكَانَ مَسرُوقٌ إِذَا حَدَّثَ عَنهَا قَالَ : حَدَّثَتني الصِّدِّيقَةُ بِنتُ الصِّدِّيقِ ، حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللهِ المُبَرَّأَةُ فَلَم أُكَذِّبْهَا . فَرَضِيَ اللهُ عَن عَائِشَةَ وَأَرضَاهَا ، وَرَضِيَ عَن أَبيهَا وَأَرضَاهُ ، وَحَشَرَنَا في زُمَرَتِهِمَا مَعَ مُحَمَّدٍ وَالَّذِينَ أَنعَمَ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . ذَلِكَ الفَضلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا .
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ مَا كَانَ ـ سُبحَانَهُ ـ لِيَختَارَ لِرَسُولِهِ وَخَيرِ خَلقِهِ إِلاَّ خَيرَ الزَّوجَاتِ ، مِن أَفضَلِ النِّسَاءِ دِينًا وَخُلُقًا وَأَكمَلِهِنَّ عَقلاً وَعِلمًا ، غَيرَ أَنَّ مِن حِكمَتِهِ ـ سُبحَانَهُ ـ أَن جَعَلَ أَشَدَّ النَّاسِ بَلاءً الأَنبِيَاءَ ثُمَّ الأَكمَلَ فَالأَكمَلَ ، فَكَانَ أَنِ ابتَلَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَصَاحِبَهُ أَبَا بَكرٍ الصِّدِّيقَ وَزَوجَهُ الصِّدِّيقَةَ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ بِأَن تَنَاوَلَت أَلسِنَةُ المُنَافِقِينَ النَّجِسَةُ عِرضَهَا الشَّرِيفَ ، فَقَذَفُوهَا وَزَنُّوهَا بِرِيبَةٍ ، وَاتَّهَمُوهَا بما تَرتَجِفُ الأَفئِدَةُ مِن أَن تَتَّهِمَ بِهِ امرَأَةً مِن سَائِرِ النِّسَاءِ ، فَكَيفَ بِزَوجِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ المُحصَنَةِ المُؤمِنَةِ العَفِيفَةِ ؟ وَكَانَ أَن حَدَثَت قِصَّةُ الإِفكِ ، الَّتي تَوَلىَّ كِبرَهَا رَأسُ المُنَافِقِينَ عَبدُ اللهِ بنُ أُبيِّ بنِ أَبي سَلُولٍ ، وَوَلَغَ فِيهَا مَن وَلَغَ مِنَ المُنَافِقِينَ أَو ممَّن ضَعُفُوا مِن غَيرِهِم ، إِلاَّ أَنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ لم يَترُكْ حَبِيبَةَ رَسُولِهِ دُونَ أَن يُبَرِّئَهَا ، فَأَنزَلَ ـ سُبحَانَهُ ـ بَرَاءَتَهَا في آيَاتٍ كَرِيمَاتٍ في سُورَةِ النُّورِ ، آيَاتٍ تُزَكِّيهَا وَتُطَهِّرُهَا ، وَتَرفَعُ الدَّنَسَ عَنهَا وَعَن بَيتِ النُّبُوَّةِ ، لِيُؤَكِّدَ الصَّادِقُ المَصدُوقُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَيَقُولُ : " أَبشِرِي يَا عَائِشَةُ ، أَمَّا اللهُ فَقَد بَرَّأَكِ " وَلِيَبقَى قَولُهُ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفكِ عُصبَةٌ مِنكُم لا تَحسَبُوهُ شَرًّا لَكُم بَل هُوَ خَيرٌ لَكُم لِكُلِّ امرِئٍ مِنهُم مَا اكتَسَبَ مِنَ الإِثمِ وَالَّذِي تَوَلىَّ كِبرَهُ مِنهُم لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ " لِيَبقَى هَذَا القَولُ الكَرِيمُ نِبرَاسًا لِكُلِّ مُؤمِنٍ أَحَبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ، لِيَعلَمَ أَنَّهُ مَهمَا تَكَلَّمَ المُنَافِقُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا في عِرضِ هَذِهِ الطَّاهِرَةِ المُطَهَّرَةِ المَصُونَةِ ، فَإِنَّ في ثَنَايَا ذَلِكَ مِنَ الخَيرِ لِلمُؤمِنِينَ مَا لا يَعلَمُونَهُ ، وَمَا لا يَتَوَقَّعُهُ أُولَئِكَ الأَفَّاكُونَ الظَّلَمَةُ الحَاقِدُونَ ، وَالَّذِينَ ابتَدَأَهُم ابنُ أُبَيٍّ وَشِرذِمَتُهُ الظَّالِمَةُ الحَاقِدَةُ ، وَمَا زَالَ الأَشرَارُ الأَنجَاسُ مِنَ الرَّافِضَةِ يُحيُونَ مَظلَمَتَهُ وَيُرَدِّدُونَهَا في كُتُبِهِم وَمَوَاقِعِهِم ، وَيَفضَحُ اللهُ بها كُبَرَاءَهُم وَرُؤُوسَهُم ، فَيَأبى مَا في نُفُوسِهِم مِن سُوءِ نِيَّةٍ وَفَسَادِ طَوِيَّةٍ ، إِلاَّ أَن يَطفَحَ عَلَى أَلسِنَتِهِم في مَحَافِلِهِم ، لِيُعلِنُوا شَاؤُوا أَم أَبَوا كُفرَهُمُ البَاطِنَ بِبُغضِ أَهلِ بَيتِ رَسُولِ اللهِ ، وَإِنِ ادَّعُوا ظَاهِرًا مَحَبَّتَهُم وتَقدِيسَهُم ؛ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يُبَرِّئَانِ أُمَّ المُؤمِنِينَ مِنَ الفَاحِشَةِ ، وَتُعلَنُ طَهَارَتُهَا في الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَيَأبى هَؤُلاءِ إِلاَّ رَدَّ كَلامِ اللهِ وَكَلامَ رَسُولِهِ " لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيَى مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيم " فَاللَّهُمَّ عَلَيكَ بِالرَّافِضَةِ وَمَن سَارَ سَيرَهُم أَو صَحَّحَ مُعتَقَدَهُم أَو تَقَرَّبَ إِلَيهِم ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسلامَ وَأَظهِرِ السُّنَّةَ وَانصُرْ أَهلَهَا ، وَأَذِلَّ الشِّركَ وَاقمَعِ البِدعَةَ وَاخذُلِ المَفتُونِينَ بها .
أما الله فقد برأها ... فماذا يريد شانئها ؟
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ وَأَبُو بَكرٍ عَبدُ اللهِ بنُ أَبي قُحَافَةَ ، لا يُذكَرُ هَذَا إِلاَّ ذُكِرَ ذَاكَ ، مُحَمَّدٌ هُوَ رَسُولُ اللهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِمَامُ المُرسَلِينَ ، وَأَبُو بَكرٍ هُوَ الصِّدِّيقُ ، صَاحِبُهُ في الغَارِ وَرَفِيقُهُ في الهِجرَةِ ، وَوَزِيرُهُ المُلازِمُ لَهُ مُلازَمَةَ الظِلِّ وَخَلِيفَتُهُ الأَوَّلُ ، أَوَّلُ مَن أَسلَمَ مِنَ الرِّجَالِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ ، كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لا يُخطِئُهُ أَحَدُ طَرَفيِ النَّهَارِ أَن يَأتيَ بَيتَهُ إِمَّا بُكرَةً وَإِمَّا عَشِيَّةً ، وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّهُ لَيسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ في نَفسِهِ وَمَالِهِ مِن أَبي بَكرِ بنِ أَبي قُحَافَةَ ، وَلَو كُنتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلاً لاتَّخَذتُ أَبَا بَكرٍ خَلِيلاً ، وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسلامِ أَفضَلُ ، سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوخَةٍ في هَذَا المَسجِدِ غَيرَ خَوخَةِ أَبي بَكرٍ " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَا لأَحَدٍ عِندَنَا يَدٌ إِلاَّ وَقَد كَافَأنَاهُ مَا خَلا أَبَا بَكرٍ ، فَإِنَّ لَهُ عِندَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللهُ بها يَومَ القِيَامَةِ " رَضِيَ اللهُ عَنِ الصِّدِّيقِ وَأَرضَاهُ ، وَأَحَبَّهُ وَرَفَعَهُ كَمَا أَحَبَّهُ نَبيُّ الإِسلامِ وَرَفَعَهُ ، وَكَافَأَهُ يَومَ القِيَامَةِ بما سَبَقَ لَهُ مِن يَدٍ بَيضَاءَ لم يَنسَهَا لَهُ أَوفى النَّاسِ وَأَجوَدُهُم وَأَحسَنُهُم خُلُقًا ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، هَذِهِ اليَدُ الَّتي لأَبي بَكرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ وَالَّتي لا يُكَافِئُهُ عَلَيهَا إِلاَّ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ لم تَكُنْ وَلِيَدَةَ يَومٍ أَو يَومَينِ صُحبَةً لِرَسُولِ اللهِ ، وَلا نَتِيجَةَ إِنفَاقِهِ دِرهَمًا أَو دِرهَمَينِ في سَبيلِ اللهِ ، بَل هِيَ خُلاصَةُ عُمَرٍ مُبَارَكٍ وَعُصَارَةُ نَفسٍ مُخلِصَةٍ ، وَثَمَرَةُ مَالٍ رَابِحٍ وَوَلَدٍ صَالحٍ وَهَبَهَا أَبُو بَكرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ للهِ وَلِرَسُولِهِ ، فَعَن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَومًا أَن نَتَصَدَّقَ ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالاً عِندِي ، فَقُلتُ : اليَومَ أَسبِقُ أَبَا بَكرٍ إِنْ سَبَقتُهُ يَومًا ، فَجِئتُ بِنِصفِ مَالي ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَا أَبقَيتَ لأَهلِكَ ؟ " قُلتُ : مِثلَهُ . قَالَ : وَأَتَى أَبُو بَكرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ بِكُلِّ مَا عِندَهُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَا أَبقَيتَ لأَهلِكَ ؟ " قَالَ : أَبقَيتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ . قُلتُ : لا أُسَابِقُكَ إِلى شَيءٍ أَبَدًا .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَزَادَ مَحَبَّةَ الصَّاحِبَينِ الكَرِيمَينِ لِبَعضِهِمَا وَقَوَّى المَوَدَّةَ بَينَهُمَا ، أَنَّ تَوَّجَ أَبُو بَكرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ مَا بَذَلَهُ لِرَسُولِ اللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ بِابنَتِهِ وَفَلَذَةِ كَبِدِهِ عَائِشَةَ ، فَدَفَعَ بها إِلَيهِ وَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا ؛ لِتَكُونَ امرَأَةَ إِمَامِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ ، وَلِتَصِيرَ زَوجَتَهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ، وَلِتُصبِحَ أُمًّا لِلمُؤمِنِينَ وَتَنضَمَّ إِلى بَيتِ النُّبُوَّةِ الكَرِيمِ ، ذَلِكُمُ البَيتُ المُبَارَكُ التَّقِيُّ النَّقِيُّ ، المُمتَلِئُ عَفَافًا وَطَهَارَةً وَنَزَاهَةً ، فَيَقُولُ اللهُ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيرًا " وَلِتَغدُوَ الصِّدِّيقَةُ بِنتُ الصِّدِّيقِ في مَكَانَةٍ لا تُوَازِيهَا فِيهَا امرَأَةٌ مِن نِسَاءِ الأُمَّةِ إِلاَّ أُمَّهَاتُ المُؤمِنِينَ الَّلاتي أَرَدنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ ، فَيَقُولُ ـ سُبحَانَهُ ـ عَنهُنَّ : " يَا نِسَاءَ النَّبيِّ لَستُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيتُنَّ " وَلِتَغدُوَ عَائِشَةُ بِنتُ أَبي بَكرٍ وَأَبُوهَا أَحَبَّ النَّاسِ إِلى رَسُولِ اللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فَعَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَن أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيكَ ؟ قَالَ : " عَائِشَةُ " قِيلَ : مِنَ الرِّجَالِ ؟ قَالَ : " أَبُوهَا "
أُمَّةَ الإِسلامِ ، عَائِشَةُ بِنتُ أَبي بَكرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا وَعَن أَبِيهَا وَأَرضَاهُمَا ـ عَلَمٌ عَلَى رَأسِهِ نَارٌ ، هِيَ بُشرَى جِبرِيلَ لِرَسُولِ اللهِ وَرُؤيَاهُ في مَنَامِهِ ، وَهِيَ زَوجُهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ، وَلم يَتَزَوَّجْ بِكرًا غَيرَهَا ، وَهِيَ فُرقَانٌ بَينَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ ، وَفَيصَلٌ بَينَ مُؤمِنٍ مُحِبٍّ وَمُنَافِقٍ شَانِئٍ ، عَابِدَةٌ زَاهِدَةٌ ، خَطِيبَةٌ أَدِيبَةٌ ، عَالِمَةٌ فَقِيهَةٌ ، مُحَدِّثَةٌ فَصِيحَةٌ ، طَاهِرَةٌ مُطَهَّرَةٌ ، تَقِيَّةٌ نَقِيَّةٌ ، أَقرَأَهَا الرُّوحُ الأَمِينُ السَّلامَ ، وَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ في لِحَافِهَا وَثَوبِهَا ، وَأَحَبَّهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ طُولَ حَيَاتِهِ ، وَتُوُفِّيَ في بَيتِهَا وَفي يَومِهَا وَبَينَ سَحرِهَا وَنَحرِهَا ، وَجَمَعَ اللهُ بَينَ رِيقِهَا وَرِيقِهِ عِندَ مَوتِهِ ، بِكُلِّ ذَلِكَ صَحَّتِ الأَخبَارُ وَثَبَتَتِ الآثَارُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلم يَكمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَريَمُ بِنتُ عِمرَانَ وَآسِيَةُ امرَأَةُ فِرعَونَ ، وَفَضلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : قَالَ لي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " أُرِيتُكِ في المَنَامِ ثَلاثَ لَيَالٍ ، يَجِيءُ بِكِ المَلَكُ في سَرَقَةٍ مِن حَرِيرٍ فَقَالَ لي : هَذِهِ امرَأَتُكَ ، فَكَشَفتُ عَن وَجهِكِ الثَّوبَ فَإِذَا أَنتِ هِيَ . فَقُلتُ : إِنْ يَكُن هَذَا مِن عِندِ اللهِ يُمضِهِ " وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ أَنَّ جِبرِيلَ جَاءَ بِصُورَتِهَا في خِرقَةِ حَرِيرٍ خَضرَاءَ إِلى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : " هَذِهِ زَوجَتُكَ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ " وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " يَا عَائِشُ ، هَذَا جِبرِيلُ يُقرِئُكِ السَّلامَ " قَالَت : وَعَلَيهِ السَّلامُ وَرَحمَةُ اللهِ . وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّونَ بِهَدَايَاهُم يَومَ عَائِشَةَ ، يَبتَغُونَ بِذَلِكَ مَرضَاةَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَالَت : إِنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ كُنَّ حِزبَينِ : فَحِزبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَودَةُ ، وَالحِزبُ الآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَكَلَّمَ حِزبُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلنَ لَهَا : كَلِّمِي رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَيَقُولُ : مَن أَرَادَ أَن يُهدِيَ إِلى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَليُهدِهِ إِلَيهِ حَيثُ كَانَ . فَكَلَّمَتهُ فَقَالَ لَهَا : " لا تُؤذِيني في عَائِشَةَ ؛ فَإِنَّ الوَحيَ لم يَأتِني وَأَنَا في ثَوبِ امرَأَةٍ إِلاَّ عَائِشَةَ " قَالَت : أَتُوبُ إِلى اللهِ مِن ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ . ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَونَ فَاطِمَةَ فَأَرسَلنَ إِلى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَكَلَّمَتهُ فَقَالَ : " يَا بُنَيَّةُ ، أَلا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ ؟ " قَالَت : بَلَى . قَالَ : " فَأَحِبِّي هَذِهِ " وَعَن أَبي مُوسَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : مَا أَشكَلَ عَلَينَا أَصحَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلنَا عَائِشَةَ إِلاَّ وَجَدنَا عِندَهَا مِنهُ عِلمًا . وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : إِنَّ مِن نِعَمِ اللهِ عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ تُوُفِّيَ في بَيتي وَفي يَومِي وَبَينَ سَحرِي وَنَحرِي ، وَأَنَّ اللهَ جَمَعَ بَينَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِندَ مَوتِهِ ، دَخَلَ عَلَيَّ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ أَبي بَكرٍ وَبِيَدِهِ سِوَاكٌ وَأَنَا مُسنِدَةٌ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَرَأَيتُهُ يَنظُرُ إِلَيهِ ، وَعَرَفتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ فَقُلتُ : آخُذُهُ لَكَ ؟ فَأَشَارَ بِرَأسِهِ أَنْ نَعَمْ ، فَتَنَاوَلتُهُ فَاشتَدَّ عَلَيهِ وَقُلتُ : أُلَيِّنُهُ لَكَ ؟ فَأَشَارَ بِرَأسِهِ أَنْ نَعَمْ ، فَلَيَّنتُهُ فَأَمَرَّهُ ، وَبَينَ يَدَيهِ رَكوَةٌ فِيهَا مَاءٌ ، فَجَعَلَ يُدخِلُ يَدَيهِ في المَاءِ فَيَمسَحُ بهمَا وَجهَهُ وَيَقُولُ : " لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، إِنَّ لِلمَوتِ سَكَرَاتٍ " ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ : " في الرَّفِيقِ الأَعلَى " حَتَّى قُبِضَ وَمَالَت يَدُهُ . وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : مَاتَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بَينَ حَاقِنَتي وَذَاقِنَتي . هَذِهِ هِيَ أُمُّ المُؤمِنِينَ عَائِشَةُ ، الصِّدِّيقَةُ بِنتُ الصِّدِّيقِ ، نَشَأَت مُنذُ نُعُومَةِ أَظفَارِهَا في بَيتِ إِسلامٍ وَصَلاحٍ ، لم تَعرِفْ جَاهِلِيَّةً وَلا ضَلالاً ، وَلم تُجَرِّبْ غِوَايَةً وَلا سَفَاهَةً ، قَالَت ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ : لم أَعقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ . إِنَّهَا المَرأَةُ الَّتي عَاشَت في قَلبِ رَسُولِ اللهِ قَبلَ أَن يَبنيَ بها بِبِشَارَةِ اللهِ لَهُ ، ثُمَّ دَخَلَ بها ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بَعدَ أَن هَاجَرَ إِلى المَدِينَةِ وَنَصرَهُ اللهُ في غَزوَةِ بَدرٍ الكُبرَى ، تَقُولُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ : تَزَوَّجَنيَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ في شَوَّالٍ ، وَبَنَى بي في شَوَّالٍ ، فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ أَحظَى عِندَهُ مِنِّي ؟! ثُمَّ إِنَّهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ عَاشَت مَعَهُ حَيَاتَهُ وَهِيَ الشَّابَّةُ الصَّغِيرَةُ الحَدِيثَةُ السِّنِّ المَحَبَّةُ لِلَّعِبِ ، فَكَانَ مِن حُبِّهِ إِيَّاهَا يُسَرِّبُ إِلَيهَا صَوَاحِبَهَا يُلاعِبْنَهَا ، وَمَكَّنَهَا مِن أَن تَضَعَ رَأسَهَا عَلَى كَتِفِهِ الشَّرِيفِ وَخَدُّهَا عَلَى خَدِّهِ مُستَتِرَةً بِهِ لِتَنظُرَ إِلى الأَحبَاشِ وَهُم يَلعَبُونَ بِحِرَابِهِم في المَسجِدِ ، وَكَانَ مِن حُبِّهَا أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ مُحَادَثَتَهَا إِذَا سَافَرَ ، وَسَابَقَهَا مَرَّةً فَسَبَقتُهُ ، ثُمَّ سَابَقَهَا أُخرَى فَسَبَقَهَا ، وَبَلَغَ مِن حُبِّهِ إِيَّاهَا أَن كَانَ يُدَلِّلُهَا فَيَقُولُ : " يَا عَائِشُ " وَ " يَا مُوَفَّقَةُ " وَيَا : " يَا بِنتَ الصِّدِّيقِ " وَإِذَا غَارَت زَوجَاتُهُ مِنهَا قَالَ : " إِنَّهَا بِنتُ أَبي بَكرٍ " بَل بَلَغَ مِن حُبِّهِ إِيَّاهَا أَن جَعَلَ يَعلَمُ بما يَدُورُ في خَاطِرِهَا تُجَاهَهُ ، فَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : قَالَ لي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : إِنِّي لأَعلَمُ إِذَا كُنتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنتِ عَلَيَّ غَضبَى ! قَالَت : فَقُلتُ : مِن أَينَ تَعرِفُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : أَمَّا إِذَا كُنتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ : لا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ ، وَإِذَا كُنتِ عَلَيَّ غَضبَى قُلتِ : لا وَرَبِّ إِبرَاهِيمَ ، قَالَت : قُلتُ : أَجَلْ ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَهجُرُ إِلاَّ اسمَكَ . وَكَانَ يُدَاعِبُهَا فَيَتَعَمَّدُ شُربَ المَاءِ مِنَ المَوضِعِ الَّذِي تَشرَبُ مِنهُ وَالأَكلَ ممَّا تَأكُلُ مِنهُ ، فَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يُعطِيني العَرْقَ فَأَتَعَرَّقُهُ ، ثُمَّ يَأخُذُهُ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوضِعِ فِيَّ ، وَيُعطِيني الإِنَاءَ فَأَشرَبُ ، ثُمَّ يَأخُذُهُ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوضِعِ فِيَّ . حَتَّى إِذَا مَرِضَ استَأذَنَ نِسَاءَهُ في أَن يُمَرَّضَ في بَيتِهَا فَأَذِنَّ لَهُ ، ثُمَّ مَاتَ في حِجرِهَا وَهُوَ رَاضٍ عَنهَا ، بَل وَدُفِنَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَاحِبَاهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ في بَيتِهَا . وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بَقِيَتِ الصِّدِّيقَةُ بَعدَهُ مَنَارَةَ عِلمٍ وَمَوئِلَ فِقهٍ ، فَأَفتَتِ المُسلِمِينَ في عَهدِ عُمَرَ وَعُثمَانَ ، وَجَلَسَت لِلتَّحدِيثِ فَرَوَى عَنهَا كِبَارُ التَّابِعِينَ ، وَكَانَ مَسرُوقٌ إِذَا حَدَّثَ عَنهَا قَالَ : حَدَّثَتني الصِّدِّيقَةُ بِنتُ الصِّدِّيقِ ، حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللهِ المُبَرَّأَةُ فَلَم أُكَذِّبْهَا . فَرَضِيَ اللهُ عَن عَائِشَةَ وَأَرضَاهَا ، وَرَضِيَ عَن أَبيهَا وَأَرضَاهُ ، وَحَشَرَنَا في زُمَرَتِهِمَا مَعَ مُحَمَّدٍ وَالَّذِينَ أَنعَمَ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . ذَلِكَ الفَضلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا .
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ مَا كَانَ ـ سُبحَانَهُ ـ لِيَختَارَ لِرَسُولِهِ وَخَيرِ خَلقِهِ إِلاَّ خَيرَ الزَّوجَاتِ ، مِن أَفضَلِ النِّسَاءِ دِينًا وَخُلُقًا وَأَكمَلِهِنَّ عَقلاً وَعِلمًا ، غَيرَ أَنَّ مِن حِكمَتِهِ ـ سُبحَانَهُ ـ أَن جَعَلَ أَشَدَّ النَّاسِ بَلاءً الأَنبِيَاءَ ثُمَّ الأَكمَلَ فَالأَكمَلَ ، فَكَانَ أَنِ ابتَلَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَصَاحِبَهُ أَبَا بَكرٍ الصِّدِّيقَ وَزَوجَهُ الصِّدِّيقَةَ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ بِأَن تَنَاوَلَت أَلسِنَةُ المُنَافِقِينَ النَّجِسَةُ عِرضَهَا الشَّرِيفَ ، فَقَذَفُوهَا وَزَنُّوهَا بِرِيبَةٍ ، وَاتَّهَمُوهَا بما تَرتَجِفُ الأَفئِدَةُ مِن أَن تَتَّهِمَ بِهِ امرَأَةً مِن سَائِرِ النِّسَاءِ ، فَكَيفَ بِزَوجِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ المُحصَنَةِ المُؤمِنَةِ العَفِيفَةِ ؟ وَكَانَ أَن حَدَثَت قِصَّةُ الإِفكِ ، الَّتي تَوَلىَّ كِبرَهَا رَأسُ المُنَافِقِينَ عَبدُ اللهِ بنُ أُبيِّ بنِ أَبي سَلُولٍ ، وَوَلَغَ فِيهَا مَن وَلَغَ مِنَ المُنَافِقِينَ أَو ممَّن ضَعُفُوا مِن غَيرِهِم ، إِلاَّ أَنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ لم يَترُكْ حَبِيبَةَ رَسُولِهِ دُونَ أَن يُبَرِّئَهَا ، فَأَنزَلَ ـ سُبحَانَهُ ـ بَرَاءَتَهَا في آيَاتٍ كَرِيمَاتٍ في سُورَةِ النُّورِ ، آيَاتٍ تُزَكِّيهَا وَتُطَهِّرُهَا ، وَتَرفَعُ الدَّنَسَ عَنهَا وَعَن بَيتِ النُّبُوَّةِ ، لِيُؤَكِّدَ الصَّادِقُ المَصدُوقُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَيَقُولُ : " أَبشِرِي يَا عَائِشَةُ ، أَمَّا اللهُ فَقَد بَرَّأَكِ " وَلِيَبقَى قَولُهُ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفكِ عُصبَةٌ مِنكُم لا تَحسَبُوهُ شَرًّا لَكُم بَل هُوَ خَيرٌ لَكُم لِكُلِّ امرِئٍ مِنهُم مَا اكتَسَبَ مِنَ الإِثمِ وَالَّذِي تَوَلىَّ كِبرَهُ مِنهُم لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ " لِيَبقَى هَذَا القَولُ الكَرِيمُ نِبرَاسًا لِكُلِّ مُؤمِنٍ أَحَبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ، لِيَعلَمَ أَنَّهُ مَهمَا تَكَلَّمَ المُنَافِقُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا في عِرضِ هَذِهِ الطَّاهِرَةِ المُطَهَّرَةِ المَصُونَةِ ، فَإِنَّ في ثَنَايَا ذَلِكَ مِنَ الخَيرِ لِلمُؤمِنِينَ مَا لا يَعلَمُونَهُ ، وَمَا لا يَتَوَقَّعُهُ أُولَئِكَ الأَفَّاكُونَ الظَّلَمَةُ الحَاقِدُونَ ، وَالَّذِينَ ابتَدَأَهُم ابنُ أُبَيٍّ وَشِرذِمَتُهُ الظَّالِمَةُ الحَاقِدَةُ ، وَمَا زَالَ الأَشرَارُ الأَنجَاسُ مِنَ الرَّافِضَةِ يُحيُونَ مَظلَمَتَهُ وَيُرَدِّدُونَهَا في كُتُبِهِم وَمَوَاقِعِهِم ، وَيَفضَحُ اللهُ بها كُبَرَاءَهُم وَرُؤُوسَهُم ، فَيَأبى مَا في نُفُوسِهِم مِن سُوءِ نِيَّةٍ وَفَسَادِ طَوِيَّةٍ ، إِلاَّ أَن يَطفَحَ عَلَى أَلسِنَتِهِم في مَحَافِلِهِم ، لِيُعلِنُوا شَاؤُوا أَم أَبَوا كُفرَهُمُ البَاطِنَ بِبُغضِ أَهلِ بَيتِ رَسُولِ اللهِ ، وَإِنِ ادَّعُوا ظَاهِرًا مَحَبَّتَهُم وتَقدِيسَهُم ؛ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يُبَرِّئَانِ أُمَّ المُؤمِنِينَ مِنَ الفَاحِشَةِ ، وَتُعلَنُ طَهَارَتُهَا في الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَيَأبى هَؤُلاءِ إِلاَّ رَدَّ كَلامِ اللهِ وَكَلامَ رَسُولِهِ " لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيَى مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيم " فَاللَّهُمَّ عَلَيكَ بِالرَّافِضَةِ وَمَن سَارَ سَيرَهُم أَو صَحَّحَ مُعتَقَدَهُم أَو تَقَرَّبَ إِلَيهِم ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسلامَ وَأَظهِرِ السُّنَّةَ وَانصُرْ أَهلَهَا ، وَأَذِلَّ الشِّركَ وَاقمَعِ البِدعَةَ وَاخذُلِ المَفتُونِينَ بها .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى