رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / عبد الله بن محمد البصري
مفاهيم صححها الإسلام
أَمَّا بَعدُ :
فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِن تَوفِيقِ اللهِ لِلعَبدِ أَن يُرِيَهُ الأُمُورَ عَلَى حَقَائِقِهَا ، وَيَكشِفَ لَهُ بَوَاطِنَهَا وَمَكنُونَاتِهَا ، فَيَعقِلَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيهِ في الوَاقِعِ ، وَلا يَغتَرَّ بِالظَّوَاهِرِ عَنِ البَوَاطِنِ ، وَلا يَشتَغِلَ بِالزَّيفِ عَنِ الحَقِيقَةِ ، وَهَذَا مَا لا يَكُونُ إِلاَّ حِينَ يَستَسلِمُ لأَوَامِرِ رَبِّهِ فَيَعمَلُ بها ، وَيُرَاقِبُ نَوَاهِيَهُ فَيَنتَهِي عَنهَا ، وَيَعرِفُ حُدُودَهُ فَيَقِفُ عِندَهَا وَلا يَتَعَدَّاهَا ، إِنَّ مِثلَ هَذَا هُوَ المُنتَفِعُ بما يَعلَمُ بِتَطبِيقِهِ في حَيَاتِهِ وَاقِعًا حَيًّا ، المُستَفِيدُ ممَّا يَعقِلُ بِالاتِّصَافِ بِهِ سُلُوكًا مُشَاهَدًا ، في خُلُقٍ محبُوبٍ وَتَعامُلٍ مَرغُوبٍ ، وَأَمَّا حِينَ يَكِلُ اللهُ العَبدَ إِلى فَهمِهِ القَاصِرِ ، فَمَا أَشقَاهُ حِينَئِذٍ وَمَا أَتعَسَ حَظَّهُ ! وَمَا أَقَلَّ صَوَابَهُ وَمَا أَكثَرَ خَطَأَهُ ! وَلَقَد وَرَدَت في كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ تَجلِيَةٌ مُبَاشِرَةٌ لِبَعضِ الحَقَائِقِ الغَائِبَةِ ، وَتَصحِيحٌ لِبَعضِ المَفَاهِيمِ المَغلُوطِ فِيهَا ، ممَّا كَانَ أَهلُ الجَاهِلِيَّةِ وَمَا زَالَ بَعضُهُم إِلى الآنَ يَرَاهُ وَيَعتَقِدُهُ ، وَيَبني عَلَيهِ كَثِيرًا مِن تَصَرُّفَاتِهِ وَيَسِيرُ وِفقَهُ في عَامَّةِ تَعَامُلاتِهِ .
أَلا وَإِنَّ مِن تِلكَ الأُمُورِ المُخطَأِ فِيهَا وَهِيَ ممَّا يُكَدِّرُ صَفَاءَ التَّوحِيدِ وَيُوهِنُ بِنَاءَ العَقِيدَةِ ، مَا استَقَرَّ لَدَى بَعضِ ضُعَفَاءِ الإِيمَانِ تَبَعًا لِلمُرجِفِينَ وَالمُنَافِقِينَ ، مِنَ النَّظَرِ إِلى القُوَى العَالمِيَّةِ الكَافِرَةِ نَظرَةَ خَوفٍ وَانهزِامٍ ، حتى لَكَأَنَّهَا بما تَملِكُهُ مِن قُوَّةٍ وَتِقنِيَةٍ هِيَ المَالِكَةُ لِلكَونِ المُتَصَرِّفَةُ في شُؤُونِهِ ، أَو لَكَأَنَّ اللهَ قَد حَكَمَ لِتِلكَ القَوَى بِالانتِصَارِ وَالعِزَّةِ ، وَقَضَى عَلَى المُسلِمِينَ بِالضَّعفِ وَالذِّلَّةِ ، وَتِلكَ خَدِيعَةُ إِيمَانٍ مَهزُوزٍ وَنَتِيجَةُ فِقهٍ مَنكُوسٍ ، وَإِلاَّ فَإِنَّ الأَمرَ عَلَى العَكسِ مِن ذَلِكَ تَمَامًا ، فَقَد قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُم عَلَى أَعقَابِكُم فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ . بَلِ اللهُ مَولاَكُم وَهُوَ خَيرُ النَّاصِرِينَ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعلَمُونَ " وَمَا أَرسَلَ اللهُ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ إِلاَّ لِيُظهِرَهُ وَيُعلِيَ شَأنَهُ " هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ " وَلَكِنَّ مِن حِكمَتِهِ وَعَدلِهِ ، أَن يُصِيبَ المُسلِمينَ مِنَ الضَّعفِ مَا يُصِيبُهُم بِسَبَبِ ذُنُوبِهِم وَابتِعَادِهِم عَن دِينِهِم ، فَإِذَا رَاجَعُوا أَنفُسَهُم وَرَجَعُوا إِلى رَبِّهِم ، نُصِرُوا بِإِذنِ اللهِ ، وَلم تَقِفْ في وُجُوهِهِم قُوَّةُ سَلاحٍ وَلا مَهَارَةُ تَخطِيطٍ " وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُم في الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ " وَمِنَ الأَخطَاءِ التي صَحَّحَهَا القُرآنُ أَنَّ مِنَ المُسلِمِينَ مَن لا يَرَى الدِّينَ إِلاَّ أُمُورًا ظَاهِرَةً لِلنَّاسِ ، وَيَقتَصِرُ مِنهُ عَلَى مَا وَجَدَ عَلَيهِ آبَاءَهُ أَو أَهلَ بَلَدِهِ ، غَيرَ مُدرِكٍ لِسَعَةِ الإِسلامِ وَشُمُولِهِ ، وَأَنَّهُ قَد جَمَعَ خَيرَيِ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ، وَغَذَّى الرُّوحَ وَحَفِظَ الجَسَدَ ، وَنَظَّمَ المُعَامَلاتِ كَمَا سَنَّ العِبَادَاتِ ، وَحَثَّ عَلَى كُلِّ خَيرٍ وَبِرٍّ وَمَصلَحَةٍ ، وَنهى عَن كُلِّ شَرٍّ وَإِثمٍ وَمَفسَدَةٍ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لَيسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُم قِبَلَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ وَلَـكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَالمَلآئِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُربى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهدِهِم إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ في البَأسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ " وقال ـ تعالى ـ : " وَلَيسَ البِرُّ بِأَنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا البُيُوتَ مِن أَبوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ " إِنَّ في الأُمَّةِ اليَومَ مَن يَقتَصِرُ عَلَى صَلاةٍ إِنما هِيَ حَرَكَاتٌ شَكلِيَّةٌ لا لُبَّ فِيهَا ، أَو عَلَى صَومٍ هُوَ مُجَرَّدُ حَبسٍ لِلنَّفسِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، أَو حَجٍّ لَيسَ إِلاَّ رِحلَةً استِكشَافِيَّةً أَو نُزهَةً جَمَاعِيَّةً ، ثم هُم بَعدَ ذَلِكَ يَمنَعُونَ الزَّكَاةَ وَلا يُطعِمُونَ الطَّعَامَ ، وَلا يُحسِنُونَ إِلى القُربى وَلا يَكفُلُونَ الأَيتَامَ ، وَلا يَفُونَ لِذِي عَهدٍ بِعَهدِهِ وَلا يُعطُونَ صَاحِبَ حَقٍّ حَقَّهُ ، يَغُشُّونَ وَيَرشُونَ وَيُرَابُونَ ، وَيَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللهِ وَلا يُبَالُونَ " إِذَا اكتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَستَوفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُم أَو وَزَنُوهُم يُخسِرُونَ " فَأَينَ مِن أُولَئِكَ التَّقوَى وَأَين هُم مِنهَا ؟ وَمَا أَبعدَهُم عَنِ استِسلامِ المُسلِمِينَ وَصِدقِ المُؤمِنِينَ وَمُرَاقَبَةِ المُحسِنِينَ ! وَمَا أَحوَجَهُم إِلى أَن يَفهَمُوا دِينَهُمُ الفَهمَ الصَّحِيحَ ، عَن عَبدِاللهِ بنِ مَسعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " اِستَحيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ " قَالَ : قُلنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّا نَستَحيِي وَالحَمدُ للهِ . قَالَ : " لَيسَ ذَاكَ ، وَلَكِنَّ الاستِحيَاءَ مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ ، أَن تَحفَظَ الرَّأسَ وَمَا وَعَى ، وَالبَطنَ وَمَا حَوَى ، وَلْتَذكُرِ المَوتَ وَالبِلَى ، وَمَن أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنيَا ، فَمَن فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ استَحيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ " وَمِنَ المَفَاهِيمِ الَّتي صَحَّحَهَا الإِسلامُ وَمَا زَالَ بَعضُ الجَاهِلِينَ مُصِرًّا فِيهَا عَلَى فَهمِهِ القَاصِرِ ، مَفهُومُ القُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ ، حَيثُ يَفهَمُ كَثِيرُونَ أَنَّ مِقيَاسَ الشَّجَاعَةِ هُوَ البَطشُ بِالخُصُومِ وَالشِّدَّةُ عَلَى المُخَالِفِينَ ، وَالفَتكُ بهم وَلَو كَانُوا مِنَ المُسلِمِينَ ، وَتِلكَ نَزعَةٌ شَيطَانِيَّةٌ وَسَورَةٌ إِبلِيسِيَّةٌ ، وَنَارٌ لا يَصبِرُ عَلَى حَرِّهَا إِلاَّ قُلُوبٌ نَزَعَ اللهُ مِنهَا الرَّحمَةَ ، وَلَهِيبٌ لا يَتَّقِدُ إِلاَّ في أَفئِدَةٍ تَمَكَّنَت مِنهَا الغِلظَةُ وَالقَسوَةُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لَيسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَملِكُ نَفسَهُ عِندَ الغَضَبِ " تِلكَ هِيَ الشَّجَاعَةُ وَالشِّدَّةُ بِمِقيَاسِ محمدِ بنِ عبدِاللهِ ، ضَبطٌ لِلنَّفسِ وَتَحَكُّمٌ في الإِرَادَةِ ، وَإِمسَاكٌ عَنِ الشَّرِّ وَكَفٌّ عَنِ الأَذَى ، وَإِذَا كَانَ مِقيَاسُهَا الجَاهِلِيُّ البَطشَ وَالضَّربَ وَالقَتلَ وَالفَتكَ ، فَإِنَّ تِلكَ الصِّفَاتِ في الحَقِيقَةِ خَوَرٌ وَضَعفٌ وَانهِزَامٌ وَاستِسلامٌ ، خَوَرٌ أَمَامَ الهَوَى ، وَضَعفٌ لِسُلطَانِ النَّفسِ ، وَانهِزَامٌ لأَوَامِرِ الشَّيطَانِ وَاستِسلامٌ لِنَزَغَاتِهِ ، أَمَّا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللهُ وَيُحِبُّونَهُ ، فَقَد أَنَارَ بِالإِيمَانِ قُلُوبَهُم ، وَقَوَّى بِالتَّقوَى عَزَائِمَهُم ، وَهَذَّبَ بِمُرَاقَبَتِهِ سُلُوكَهُم ، فَلا يَبطِشُونَ بِإِخوَانِهِم وَلا يَفتِكُونَ ، بَل هُم " أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم " " أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ " إِمَامُهُم في ذَلِكَ وَقُدوَتُهُم صَاحِبُ الخُلُقِ العَظِيمِ ، الَّذِي مَا ضَرَبَ شَيئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلا امرَأَةً وَلا خَادِمًا ، إِلاَّ أَن يُجَاهِدَ في سَبِيلِ اللهِ ، وَمَا نِيلَ مِنهُ شَيءٌ قَطُّ فَيَنتَقِمُ مِن صَاحِبِهِ إِلاَّ أَن يُنتَهَكَ شَيءٌ مِن مَحَارِمِ اللهِ فَيَنتَقِمَ للهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَهُوَ القَائِلُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فِيمَا صَحَّ عَنهُ : " الإِيمَانُ قَيدُ الفَتكِ ، لا يَفتِكُ مُؤمِنٌ " وَالقَائِلُ : " إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شَيءٍ إِلاَّ زَانَهُ ، وَلا يُنزَعُ مِن شَيءٍ إِلاَّ شَانَهُ " وَالقَائِلُ : " أَلا أُخبِرُكُم بِمَن يَحرُمُ عَلَى النَّارِ أَو بِمَن تَحرُمُ عَلَيهِ النَّارُ ؟ تَحرُمُ عَلَى كُلِّ هَينٍ لَينٍ سَهلٍ " وَالمُوصِي رَجُلاً بِقَولِهِ : " لا تَغضَبْ " فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ : " لا تَغضَبْ " وَالقَائِلُ في الحَثِّ عَلَى كَظمِ الغَيظِ : " مَا مِن جُرعَةٍ أَعظَمُ أَجرًا عِندَ اللهِ ، مِن جُرعَةِ غَيظٍ كَظَمَهَا عَبدٌ ابتِغَاءَ وَجهِ اللهِ " وَممَّا صَحَّحَ الإِسلامُ فِيهِ النَّظرَةَ ، فَأَبى الجَاهِلُونَ إِلاَّ أَن يَستَمِرُّوا فِيهِ عَلَى نَظرَتِهِمُ العَورَاءِ ، مَفهُومُ الغِنى وَالثَّرَاءِ ، وَقَيِاسُ الأُمُورِ بِالكَثرَةِ وَالقِلَّةِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ " لَيسَ الغِنى عَن كَثرَةِ العَرَضِ ، وَلَكِنَّ الغِنى غِنى النَّفسِ " وَقَالَ : " لَيسَتِ السَّنَةُ بِأَلاَّ تُمطَرُوا ، وَلَكِنَّ السَّنَةَ أَن تُمطَرُوا وَتُمطَرُوا وَلا تُنبِتُ الأَرضُ شَيئًا " وَصَدَقَ وَاللهِ ، فَكَم مِن أُنَاسٍ يَملِكُونَ مَا لَو قَسَّمُوهُ عَلَى مَن حَولَهُم لَكَفَاهُم مُدَّةَ حَيَاتِهِم ، وَمَعَ هَذَا تَرَى أَحَدَهُم يَصِلُ كَدَّ النَّهَارِ بِسَهَرِ اللَّيلِ ، وَلا يَكتَفِي بما أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ حَتى يَعتَدِيَ عَلَى مَالِ غَيرِهِ ، وَتَرَاهُ مستَعِدًّا أَن يَبذُلَ دَمَهُ وَرُوحَهُ بَل وَدِينَهُ مِن أَجلِ تَحصِيلِ حَفنَةٍ مِنَ المَالِ قَلِيلَةٍ ، وَلَو أَنَّهُ قَنِعَ بما أَحَلَّهُ اللهُ لَكَفَاهُ ، وَلأَفلَحَ في دُنيَاهُ وَأُخرَاهُ ، لَكِنَّهُ اختَارَ الشَّقَاءَ عَلَى السَّعَادَةِ ، وَآثَرَ الأُولى عَلَى الآخِرَةِ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " قَد أَفلَحَ مَن أَسلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بما آتَاهُ " وَإِنَّهُ لَو نَظَرَ النَّاسُ إِلى الغِنى كَمَا وَجَّهَهُمُ الإِسلامُ إِلَيهِ ، وَاكتَفَوا مِنهُ بما يُقِيمُ أَوَدَهُم في هَذِهِ الدَّارِ ، لَعَاشُوا حَيَاةً هَنِيَّةً وَعِيشَةً رَضِيَّةً ، لَكِنَّ سُعَارَ المَادَّةِ الَّذِي اشتَعَلَ في القُلُوبِ ، وَالطَّمَعَ الَّذِي شَبَّ في النُّفُوسِ ، جَعَلَ مِنَ النَّاسِ ذِئَابًا يَنهَشُ بَعضُهَا بَعضًا ، بَل كِلابًا تَتَهَارَشُ عَلَى جِيفَةٍ مُنتِنَةٍ ، وَنُسِيَت القُربى وَقُطِعَتِ الأَرحَامُ ، وَعُودِيَ الأَصحَابُ وَأُوذِيَ الجِيرَانُ ، وَعُبِدَ المَالُ وَشَحَّت بِهِ النُّفُوسُ ، وَمِن هُنَا جَاءَ نَزعُ البَرَكَاتِ وَقَلَّتِ الاستَفَادَةُ مِنَ الأَرزَاقِ ، وَتَحَمَّلَ النَّاسُ الدُّيُونَ وَبَهَضَتهُمُ الحُقُوقُ ، وَمُنِعُوا البَرَكَةَ مَعَ كَثرَةِ مَا يَدخُلُ عَلَيهِم ، وَابتُلُوا بِالفَقرِ الحَقِيقِيِّ وَالإِفلاسِ الخَطِيرِ ، أَلا وَهُوَ أَكلُ الحُقُوقِ وَظُلمُ الآخَرِينَ وَالتَّعدِّي عَلَيهِم ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " أَتَدرُونَ مَا المُفلِسُ " قَالُوا : المُفلِسُ فِينَا مَن لا دِرهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ . فَقَالَ : " إِنَّ المُفلِسَ مِن أُمَّتي مَن يَأتي يَومَ القِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأتي وَقَد شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعطَى هَذَا مِن حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِن حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَت حَسَنَاتُهُ قَبلَ أَن يُقضَى مَا عَلَيهِ أُخِذَ مِن خَطَايَاهُم فَطُرِحَت عَلَيهِ ثم طُرِحَ في النَّارِ " وَممَّا صَحَّحَ الإِسلامُ فِيهِ النَّظرَةَ ، مَفهُومُ وَصلِ الأَرحَامِ ، حَيثُ يَرَاهُ كَثِيرُونَ مَصلَحَةً مُتَبَادَلَةً ، فَيَصِلُونَ مَن وَصَلَهُم وَيُعطُونَ مَن أَعطَاهُم ، وَيُحسِنُونَ إِلى مَن أَحسَنَ إِلَيهِم وَيُدنُونَ مَن أَدنَاهُم ، وَمَن كَانَ بِخِلافِ ذَلِكَ قَطَعُوهُ وَهَجَرُوهُ ، وَكَأَنَّهُ لا يُحَرِّكُهُم إِلى الصِّلَةِ إِلاَّ الدُّنيَا ، غَافِلِينَ عَن عَظِيمِ الأَجرِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ الَّذِي وُعِدَ بِهِ الوَاصِلُونَ ، وَشَدِيدِ الوَعِيدِ وَالعَذَابِ الَّذِي أُوعِدَ بِهِ القَاطِعُونَ ، وَإِذَا كَانَ الأَمرُ كَذَلِكَ عِندَ أُولَئِكَ الغَافِلِينَ ، فَإِنَّ لِلصِّلَةِ في الإِسلامِ مَعنًى آخَرَ مُختَلِفًا ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لَيسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئِ ، وَلَكِنَّ الوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قَطَعَت رَحِمُهُ وَصَلَهَا " نَعَمْ ـ أَيُّهَا الإِخوَةُ ـ لَيسَتِ الصِّلَةُ مَصلَحَةً دُنيَوِيَّةً ، بَل هِيَ عِبَادَةٌ وَعَمَلٌ صَالحٌ ، يُؤجَرُ عَلَى فِعلِهَا وَيُعَاقَبُ عَلَى تَركِهَا ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن سَرَّهُ أَن يُبسَطَ عَلَيهِ رِزقُهُ أَو يُنسَأَ في أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " وَقَالَ : " إِنَّ اللهَ خَلَقَ الخَلقَ حَتى إِذَا فَرَغَ مِن خَلقِهِ قَالَتِ الرَّحِمُ : هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ . قَالَ : نَعَمْ ، أَمَا تَرضَينَ أَن أَصِلَ مَن وَصَلَكِ وَأَقطَعَ مِن قَطَعَكِ ؟ قَالَت : بَلَى ، يَا رَبِّ . قَالَ : فَهُوَ لَكِ " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لا يَدخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ " وَلا يَعتَذِرَنَّ أَحَدٌ بِقَطعِ رَحِمِهِ لَهُ ، بَل وَلا بِإِسَاءَتِهِم إِلَيهِ ، فَإِنَّهُ إِن كَانَ يُرِيدُ اللهَ وَالدَّارَ الآخِرَةَ ، فَإِنَّ نَاصِرَهُ الرَّحمَنُ ، وَمُعِينُهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ ، فَمَن يَرجُو بَعدَ ذَلِكَ وَممَّن يَخَافُ وَفِيمَ يَطمَعُ ، عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ لي قَرَابَةً أَصِلُهُم وَيَقطَعُوني ، وَأُحسِنُ إِلَيهِم وَيُسِيئُونَ إِليَّ ، وَأَحلُمُ عَنهُم وَيَجهَلُونَ عَلَيَّ ، فَقَالَ : " لَئِن كُنتَ كَمَا قُلتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ المَلَّ ، وَلا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيهِم مَا دُمتَ عَلَى ذَلِكَ " أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاعلَمُوا أَنَّ المُسلِمَ الحَقَّ ، لا تَمنَعُهُ عَنِ اتِّبَاعِ أَوَامِرِ اللهِ وَرَسُولِهِ عَادَةٌ أَو هَوًى أَو شَهوَةٌ ، وَلا تَدفَعُهُ عَصَبِيَّةٌ أَو حَمِيَّةٌ جَاهِلِيَّةٌ إِلى رَدِّ الحَقِّ وَظُلمِ الآخَرِينَ ، بَل هَمُّهُ رِضَا اللهِ أَينَمَا كَانَ ، وَهَدَفُهُ نَيلُ الأَجرِ وَالرِّضوَانِ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ " وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعجِبُكَ قَولُهُ في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَيُشهِدُ اللهَ عَلَى مَا في قَلبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ . وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى في الأَرضِ لِيُفسِدَ فِيِهَا وَيُهلِكَ الحَرثَ وَالنَّسلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتهُ العِزَّةُ بِالإِثمِ فَحَسبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئسَ المِهَادُ . وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاء مَرضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادخُلُوا في السِّلمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبِينٌ . فَإِن زَلَلتُم مِن بَعدِ مَا جَاءتكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ رَبَّكُم ، وَأَسلِمُوا إِلَيهِ وُجُوهَكُم ، وَأَخلِصُوا لَهُ دِينَكُم ، وَاحمَدُوهُ عَلَى أَن شَرَحَ لِلإِسلامِ صُدُورَكُم وَهَدَى لِلإِيمَانِ قُلُوبَكُم ، وَاطلُبُوا مَرضَاتَهُ في كُلِّ شَأنِكُم ، وَلا تُمُنُّوا عَلَيهِ بِأَعمَالِكُم وَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُم ، فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنكُم وَلَهُ الفَضلُ عَلَيكُم " يَمُنُّونَ عَلَيكَ أَنْ أَسلَمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسلامَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيكُم أَنْ هَدَاكُم للإِيمَانِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ " " وَلَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِن أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " " لَيسَ بِأَمَانِيِّكُم وَلا أَمَانيِّ أَهلِ الكِتَابِ مَن يَعمَلْ سُوءًا يُجزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا . وَمَن يَعمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَـئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَن أَحسَنُ دِينًا ممَّن أَسلَمَ وَجهَهُ لله وَهُوَ مُحسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبرَاهِيمَ خَلِيلاً ".
مفاهيم صححها الإسلام
أَمَّا بَعدُ :
فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِن تَوفِيقِ اللهِ لِلعَبدِ أَن يُرِيَهُ الأُمُورَ عَلَى حَقَائِقِهَا ، وَيَكشِفَ لَهُ بَوَاطِنَهَا وَمَكنُونَاتِهَا ، فَيَعقِلَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيهِ في الوَاقِعِ ، وَلا يَغتَرَّ بِالظَّوَاهِرِ عَنِ البَوَاطِنِ ، وَلا يَشتَغِلَ بِالزَّيفِ عَنِ الحَقِيقَةِ ، وَهَذَا مَا لا يَكُونُ إِلاَّ حِينَ يَستَسلِمُ لأَوَامِرِ رَبِّهِ فَيَعمَلُ بها ، وَيُرَاقِبُ نَوَاهِيَهُ فَيَنتَهِي عَنهَا ، وَيَعرِفُ حُدُودَهُ فَيَقِفُ عِندَهَا وَلا يَتَعَدَّاهَا ، إِنَّ مِثلَ هَذَا هُوَ المُنتَفِعُ بما يَعلَمُ بِتَطبِيقِهِ في حَيَاتِهِ وَاقِعًا حَيًّا ، المُستَفِيدُ ممَّا يَعقِلُ بِالاتِّصَافِ بِهِ سُلُوكًا مُشَاهَدًا ، في خُلُقٍ محبُوبٍ وَتَعامُلٍ مَرغُوبٍ ، وَأَمَّا حِينَ يَكِلُ اللهُ العَبدَ إِلى فَهمِهِ القَاصِرِ ، فَمَا أَشقَاهُ حِينَئِذٍ وَمَا أَتعَسَ حَظَّهُ ! وَمَا أَقَلَّ صَوَابَهُ وَمَا أَكثَرَ خَطَأَهُ ! وَلَقَد وَرَدَت في كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ تَجلِيَةٌ مُبَاشِرَةٌ لِبَعضِ الحَقَائِقِ الغَائِبَةِ ، وَتَصحِيحٌ لِبَعضِ المَفَاهِيمِ المَغلُوطِ فِيهَا ، ممَّا كَانَ أَهلُ الجَاهِلِيَّةِ وَمَا زَالَ بَعضُهُم إِلى الآنَ يَرَاهُ وَيَعتَقِدُهُ ، وَيَبني عَلَيهِ كَثِيرًا مِن تَصَرُّفَاتِهِ وَيَسِيرُ وِفقَهُ في عَامَّةِ تَعَامُلاتِهِ .
أَلا وَإِنَّ مِن تِلكَ الأُمُورِ المُخطَأِ فِيهَا وَهِيَ ممَّا يُكَدِّرُ صَفَاءَ التَّوحِيدِ وَيُوهِنُ بِنَاءَ العَقِيدَةِ ، مَا استَقَرَّ لَدَى بَعضِ ضُعَفَاءِ الإِيمَانِ تَبَعًا لِلمُرجِفِينَ وَالمُنَافِقِينَ ، مِنَ النَّظَرِ إِلى القُوَى العَالمِيَّةِ الكَافِرَةِ نَظرَةَ خَوفٍ وَانهزِامٍ ، حتى لَكَأَنَّهَا بما تَملِكُهُ مِن قُوَّةٍ وَتِقنِيَةٍ هِيَ المَالِكَةُ لِلكَونِ المُتَصَرِّفَةُ في شُؤُونِهِ ، أَو لَكَأَنَّ اللهَ قَد حَكَمَ لِتِلكَ القَوَى بِالانتِصَارِ وَالعِزَّةِ ، وَقَضَى عَلَى المُسلِمِينَ بِالضَّعفِ وَالذِّلَّةِ ، وَتِلكَ خَدِيعَةُ إِيمَانٍ مَهزُوزٍ وَنَتِيجَةُ فِقهٍ مَنكُوسٍ ، وَإِلاَّ فَإِنَّ الأَمرَ عَلَى العَكسِ مِن ذَلِكَ تَمَامًا ، فَقَد قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُم عَلَى أَعقَابِكُم فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ . بَلِ اللهُ مَولاَكُم وَهُوَ خَيرُ النَّاصِرِينَ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعلَمُونَ " وَمَا أَرسَلَ اللهُ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ إِلاَّ لِيُظهِرَهُ وَيُعلِيَ شَأنَهُ " هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ " وَلَكِنَّ مِن حِكمَتِهِ وَعَدلِهِ ، أَن يُصِيبَ المُسلِمينَ مِنَ الضَّعفِ مَا يُصِيبُهُم بِسَبَبِ ذُنُوبِهِم وَابتِعَادِهِم عَن دِينِهِم ، فَإِذَا رَاجَعُوا أَنفُسَهُم وَرَجَعُوا إِلى رَبِّهِم ، نُصِرُوا بِإِذنِ اللهِ ، وَلم تَقِفْ في وُجُوهِهِم قُوَّةُ سَلاحٍ وَلا مَهَارَةُ تَخطِيطٍ " وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُم في الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ " وَمِنَ الأَخطَاءِ التي صَحَّحَهَا القُرآنُ أَنَّ مِنَ المُسلِمِينَ مَن لا يَرَى الدِّينَ إِلاَّ أُمُورًا ظَاهِرَةً لِلنَّاسِ ، وَيَقتَصِرُ مِنهُ عَلَى مَا وَجَدَ عَلَيهِ آبَاءَهُ أَو أَهلَ بَلَدِهِ ، غَيرَ مُدرِكٍ لِسَعَةِ الإِسلامِ وَشُمُولِهِ ، وَأَنَّهُ قَد جَمَعَ خَيرَيِ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ، وَغَذَّى الرُّوحَ وَحَفِظَ الجَسَدَ ، وَنَظَّمَ المُعَامَلاتِ كَمَا سَنَّ العِبَادَاتِ ، وَحَثَّ عَلَى كُلِّ خَيرٍ وَبِرٍّ وَمَصلَحَةٍ ، وَنهى عَن كُلِّ شَرٍّ وَإِثمٍ وَمَفسَدَةٍ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لَيسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُم قِبَلَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ وَلَـكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَالمَلآئِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُربى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهدِهِم إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ في البَأسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ " وقال ـ تعالى ـ : " وَلَيسَ البِرُّ بِأَنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا البُيُوتَ مِن أَبوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ " إِنَّ في الأُمَّةِ اليَومَ مَن يَقتَصِرُ عَلَى صَلاةٍ إِنما هِيَ حَرَكَاتٌ شَكلِيَّةٌ لا لُبَّ فِيهَا ، أَو عَلَى صَومٍ هُوَ مُجَرَّدُ حَبسٍ لِلنَّفسِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، أَو حَجٍّ لَيسَ إِلاَّ رِحلَةً استِكشَافِيَّةً أَو نُزهَةً جَمَاعِيَّةً ، ثم هُم بَعدَ ذَلِكَ يَمنَعُونَ الزَّكَاةَ وَلا يُطعِمُونَ الطَّعَامَ ، وَلا يُحسِنُونَ إِلى القُربى وَلا يَكفُلُونَ الأَيتَامَ ، وَلا يَفُونَ لِذِي عَهدٍ بِعَهدِهِ وَلا يُعطُونَ صَاحِبَ حَقٍّ حَقَّهُ ، يَغُشُّونَ وَيَرشُونَ وَيُرَابُونَ ، وَيَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللهِ وَلا يُبَالُونَ " إِذَا اكتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَستَوفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُم أَو وَزَنُوهُم يُخسِرُونَ " فَأَينَ مِن أُولَئِكَ التَّقوَى وَأَين هُم مِنهَا ؟ وَمَا أَبعدَهُم عَنِ استِسلامِ المُسلِمِينَ وَصِدقِ المُؤمِنِينَ وَمُرَاقَبَةِ المُحسِنِينَ ! وَمَا أَحوَجَهُم إِلى أَن يَفهَمُوا دِينَهُمُ الفَهمَ الصَّحِيحَ ، عَن عَبدِاللهِ بنِ مَسعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " اِستَحيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ " قَالَ : قُلنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّا نَستَحيِي وَالحَمدُ للهِ . قَالَ : " لَيسَ ذَاكَ ، وَلَكِنَّ الاستِحيَاءَ مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ ، أَن تَحفَظَ الرَّأسَ وَمَا وَعَى ، وَالبَطنَ وَمَا حَوَى ، وَلْتَذكُرِ المَوتَ وَالبِلَى ، وَمَن أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنيَا ، فَمَن فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ استَحيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ " وَمِنَ المَفَاهِيمِ الَّتي صَحَّحَهَا الإِسلامُ وَمَا زَالَ بَعضُ الجَاهِلِينَ مُصِرًّا فِيهَا عَلَى فَهمِهِ القَاصِرِ ، مَفهُومُ القُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ ، حَيثُ يَفهَمُ كَثِيرُونَ أَنَّ مِقيَاسَ الشَّجَاعَةِ هُوَ البَطشُ بِالخُصُومِ وَالشِّدَّةُ عَلَى المُخَالِفِينَ ، وَالفَتكُ بهم وَلَو كَانُوا مِنَ المُسلِمِينَ ، وَتِلكَ نَزعَةٌ شَيطَانِيَّةٌ وَسَورَةٌ إِبلِيسِيَّةٌ ، وَنَارٌ لا يَصبِرُ عَلَى حَرِّهَا إِلاَّ قُلُوبٌ نَزَعَ اللهُ مِنهَا الرَّحمَةَ ، وَلَهِيبٌ لا يَتَّقِدُ إِلاَّ في أَفئِدَةٍ تَمَكَّنَت مِنهَا الغِلظَةُ وَالقَسوَةُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لَيسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَملِكُ نَفسَهُ عِندَ الغَضَبِ " تِلكَ هِيَ الشَّجَاعَةُ وَالشِّدَّةُ بِمِقيَاسِ محمدِ بنِ عبدِاللهِ ، ضَبطٌ لِلنَّفسِ وَتَحَكُّمٌ في الإِرَادَةِ ، وَإِمسَاكٌ عَنِ الشَّرِّ وَكَفٌّ عَنِ الأَذَى ، وَإِذَا كَانَ مِقيَاسُهَا الجَاهِلِيُّ البَطشَ وَالضَّربَ وَالقَتلَ وَالفَتكَ ، فَإِنَّ تِلكَ الصِّفَاتِ في الحَقِيقَةِ خَوَرٌ وَضَعفٌ وَانهِزَامٌ وَاستِسلامٌ ، خَوَرٌ أَمَامَ الهَوَى ، وَضَعفٌ لِسُلطَانِ النَّفسِ ، وَانهِزَامٌ لأَوَامِرِ الشَّيطَانِ وَاستِسلامٌ لِنَزَغَاتِهِ ، أَمَّا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللهُ وَيُحِبُّونَهُ ، فَقَد أَنَارَ بِالإِيمَانِ قُلُوبَهُم ، وَقَوَّى بِالتَّقوَى عَزَائِمَهُم ، وَهَذَّبَ بِمُرَاقَبَتِهِ سُلُوكَهُم ، فَلا يَبطِشُونَ بِإِخوَانِهِم وَلا يَفتِكُونَ ، بَل هُم " أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم " " أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ " إِمَامُهُم في ذَلِكَ وَقُدوَتُهُم صَاحِبُ الخُلُقِ العَظِيمِ ، الَّذِي مَا ضَرَبَ شَيئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلا امرَأَةً وَلا خَادِمًا ، إِلاَّ أَن يُجَاهِدَ في سَبِيلِ اللهِ ، وَمَا نِيلَ مِنهُ شَيءٌ قَطُّ فَيَنتَقِمُ مِن صَاحِبِهِ إِلاَّ أَن يُنتَهَكَ شَيءٌ مِن مَحَارِمِ اللهِ فَيَنتَقِمَ للهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَهُوَ القَائِلُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فِيمَا صَحَّ عَنهُ : " الإِيمَانُ قَيدُ الفَتكِ ، لا يَفتِكُ مُؤمِنٌ " وَالقَائِلُ : " إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شَيءٍ إِلاَّ زَانَهُ ، وَلا يُنزَعُ مِن شَيءٍ إِلاَّ شَانَهُ " وَالقَائِلُ : " أَلا أُخبِرُكُم بِمَن يَحرُمُ عَلَى النَّارِ أَو بِمَن تَحرُمُ عَلَيهِ النَّارُ ؟ تَحرُمُ عَلَى كُلِّ هَينٍ لَينٍ سَهلٍ " وَالمُوصِي رَجُلاً بِقَولِهِ : " لا تَغضَبْ " فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ : " لا تَغضَبْ " وَالقَائِلُ في الحَثِّ عَلَى كَظمِ الغَيظِ : " مَا مِن جُرعَةٍ أَعظَمُ أَجرًا عِندَ اللهِ ، مِن جُرعَةِ غَيظٍ كَظَمَهَا عَبدٌ ابتِغَاءَ وَجهِ اللهِ " وَممَّا صَحَّحَ الإِسلامُ فِيهِ النَّظرَةَ ، فَأَبى الجَاهِلُونَ إِلاَّ أَن يَستَمِرُّوا فِيهِ عَلَى نَظرَتِهِمُ العَورَاءِ ، مَفهُومُ الغِنى وَالثَّرَاءِ ، وَقَيِاسُ الأُمُورِ بِالكَثرَةِ وَالقِلَّةِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ " لَيسَ الغِنى عَن كَثرَةِ العَرَضِ ، وَلَكِنَّ الغِنى غِنى النَّفسِ " وَقَالَ : " لَيسَتِ السَّنَةُ بِأَلاَّ تُمطَرُوا ، وَلَكِنَّ السَّنَةَ أَن تُمطَرُوا وَتُمطَرُوا وَلا تُنبِتُ الأَرضُ شَيئًا " وَصَدَقَ وَاللهِ ، فَكَم مِن أُنَاسٍ يَملِكُونَ مَا لَو قَسَّمُوهُ عَلَى مَن حَولَهُم لَكَفَاهُم مُدَّةَ حَيَاتِهِم ، وَمَعَ هَذَا تَرَى أَحَدَهُم يَصِلُ كَدَّ النَّهَارِ بِسَهَرِ اللَّيلِ ، وَلا يَكتَفِي بما أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ حَتى يَعتَدِيَ عَلَى مَالِ غَيرِهِ ، وَتَرَاهُ مستَعِدًّا أَن يَبذُلَ دَمَهُ وَرُوحَهُ بَل وَدِينَهُ مِن أَجلِ تَحصِيلِ حَفنَةٍ مِنَ المَالِ قَلِيلَةٍ ، وَلَو أَنَّهُ قَنِعَ بما أَحَلَّهُ اللهُ لَكَفَاهُ ، وَلأَفلَحَ في دُنيَاهُ وَأُخرَاهُ ، لَكِنَّهُ اختَارَ الشَّقَاءَ عَلَى السَّعَادَةِ ، وَآثَرَ الأُولى عَلَى الآخِرَةِ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " قَد أَفلَحَ مَن أَسلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بما آتَاهُ " وَإِنَّهُ لَو نَظَرَ النَّاسُ إِلى الغِنى كَمَا وَجَّهَهُمُ الإِسلامُ إِلَيهِ ، وَاكتَفَوا مِنهُ بما يُقِيمُ أَوَدَهُم في هَذِهِ الدَّارِ ، لَعَاشُوا حَيَاةً هَنِيَّةً وَعِيشَةً رَضِيَّةً ، لَكِنَّ سُعَارَ المَادَّةِ الَّذِي اشتَعَلَ في القُلُوبِ ، وَالطَّمَعَ الَّذِي شَبَّ في النُّفُوسِ ، جَعَلَ مِنَ النَّاسِ ذِئَابًا يَنهَشُ بَعضُهَا بَعضًا ، بَل كِلابًا تَتَهَارَشُ عَلَى جِيفَةٍ مُنتِنَةٍ ، وَنُسِيَت القُربى وَقُطِعَتِ الأَرحَامُ ، وَعُودِيَ الأَصحَابُ وَأُوذِيَ الجِيرَانُ ، وَعُبِدَ المَالُ وَشَحَّت بِهِ النُّفُوسُ ، وَمِن هُنَا جَاءَ نَزعُ البَرَكَاتِ وَقَلَّتِ الاستَفَادَةُ مِنَ الأَرزَاقِ ، وَتَحَمَّلَ النَّاسُ الدُّيُونَ وَبَهَضَتهُمُ الحُقُوقُ ، وَمُنِعُوا البَرَكَةَ مَعَ كَثرَةِ مَا يَدخُلُ عَلَيهِم ، وَابتُلُوا بِالفَقرِ الحَقِيقِيِّ وَالإِفلاسِ الخَطِيرِ ، أَلا وَهُوَ أَكلُ الحُقُوقِ وَظُلمُ الآخَرِينَ وَالتَّعدِّي عَلَيهِم ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " أَتَدرُونَ مَا المُفلِسُ " قَالُوا : المُفلِسُ فِينَا مَن لا دِرهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ . فَقَالَ : " إِنَّ المُفلِسَ مِن أُمَّتي مَن يَأتي يَومَ القِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأتي وَقَد شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعطَى هَذَا مِن حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِن حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَت حَسَنَاتُهُ قَبلَ أَن يُقضَى مَا عَلَيهِ أُخِذَ مِن خَطَايَاهُم فَطُرِحَت عَلَيهِ ثم طُرِحَ في النَّارِ " وَممَّا صَحَّحَ الإِسلامُ فِيهِ النَّظرَةَ ، مَفهُومُ وَصلِ الأَرحَامِ ، حَيثُ يَرَاهُ كَثِيرُونَ مَصلَحَةً مُتَبَادَلَةً ، فَيَصِلُونَ مَن وَصَلَهُم وَيُعطُونَ مَن أَعطَاهُم ، وَيُحسِنُونَ إِلى مَن أَحسَنَ إِلَيهِم وَيُدنُونَ مَن أَدنَاهُم ، وَمَن كَانَ بِخِلافِ ذَلِكَ قَطَعُوهُ وَهَجَرُوهُ ، وَكَأَنَّهُ لا يُحَرِّكُهُم إِلى الصِّلَةِ إِلاَّ الدُّنيَا ، غَافِلِينَ عَن عَظِيمِ الأَجرِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ الَّذِي وُعِدَ بِهِ الوَاصِلُونَ ، وَشَدِيدِ الوَعِيدِ وَالعَذَابِ الَّذِي أُوعِدَ بِهِ القَاطِعُونَ ، وَإِذَا كَانَ الأَمرُ كَذَلِكَ عِندَ أُولَئِكَ الغَافِلِينَ ، فَإِنَّ لِلصِّلَةِ في الإِسلامِ مَعنًى آخَرَ مُختَلِفًا ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لَيسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئِ ، وَلَكِنَّ الوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قَطَعَت رَحِمُهُ وَصَلَهَا " نَعَمْ ـ أَيُّهَا الإِخوَةُ ـ لَيسَتِ الصِّلَةُ مَصلَحَةً دُنيَوِيَّةً ، بَل هِيَ عِبَادَةٌ وَعَمَلٌ صَالحٌ ، يُؤجَرُ عَلَى فِعلِهَا وَيُعَاقَبُ عَلَى تَركِهَا ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن سَرَّهُ أَن يُبسَطَ عَلَيهِ رِزقُهُ أَو يُنسَأَ في أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " وَقَالَ : " إِنَّ اللهَ خَلَقَ الخَلقَ حَتى إِذَا فَرَغَ مِن خَلقِهِ قَالَتِ الرَّحِمُ : هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ . قَالَ : نَعَمْ ، أَمَا تَرضَينَ أَن أَصِلَ مَن وَصَلَكِ وَأَقطَعَ مِن قَطَعَكِ ؟ قَالَت : بَلَى ، يَا رَبِّ . قَالَ : فَهُوَ لَكِ " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لا يَدخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ " وَلا يَعتَذِرَنَّ أَحَدٌ بِقَطعِ رَحِمِهِ لَهُ ، بَل وَلا بِإِسَاءَتِهِم إِلَيهِ ، فَإِنَّهُ إِن كَانَ يُرِيدُ اللهَ وَالدَّارَ الآخِرَةَ ، فَإِنَّ نَاصِرَهُ الرَّحمَنُ ، وَمُعِينُهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ ، فَمَن يَرجُو بَعدَ ذَلِكَ وَممَّن يَخَافُ وَفِيمَ يَطمَعُ ، عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ لي قَرَابَةً أَصِلُهُم وَيَقطَعُوني ، وَأُحسِنُ إِلَيهِم وَيُسِيئُونَ إِليَّ ، وَأَحلُمُ عَنهُم وَيَجهَلُونَ عَلَيَّ ، فَقَالَ : " لَئِن كُنتَ كَمَا قُلتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ المَلَّ ، وَلا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيهِم مَا دُمتَ عَلَى ذَلِكَ " أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاعلَمُوا أَنَّ المُسلِمَ الحَقَّ ، لا تَمنَعُهُ عَنِ اتِّبَاعِ أَوَامِرِ اللهِ وَرَسُولِهِ عَادَةٌ أَو هَوًى أَو شَهوَةٌ ، وَلا تَدفَعُهُ عَصَبِيَّةٌ أَو حَمِيَّةٌ جَاهِلِيَّةٌ إِلى رَدِّ الحَقِّ وَظُلمِ الآخَرِينَ ، بَل هَمُّهُ رِضَا اللهِ أَينَمَا كَانَ ، وَهَدَفُهُ نَيلُ الأَجرِ وَالرِّضوَانِ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ " وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعجِبُكَ قَولُهُ في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَيُشهِدُ اللهَ عَلَى مَا في قَلبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ . وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى في الأَرضِ لِيُفسِدَ فِيِهَا وَيُهلِكَ الحَرثَ وَالنَّسلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتهُ العِزَّةُ بِالإِثمِ فَحَسبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئسَ المِهَادُ . وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاء مَرضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادخُلُوا في السِّلمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبِينٌ . فَإِن زَلَلتُم مِن بَعدِ مَا جَاءتكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ رَبَّكُم ، وَأَسلِمُوا إِلَيهِ وُجُوهَكُم ، وَأَخلِصُوا لَهُ دِينَكُم ، وَاحمَدُوهُ عَلَى أَن شَرَحَ لِلإِسلامِ صُدُورَكُم وَهَدَى لِلإِيمَانِ قُلُوبَكُم ، وَاطلُبُوا مَرضَاتَهُ في كُلِّ شَأنِكُم ، وَلا تُمُنُّوا عَلَيهِ بِأَعمَالِكُم وَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُم ، فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنكُم وَلَهُ الفَضلُ عَلَيكُم " يَمُنُّونَ عَلَيكَ أَنْ أَسلَمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسلامَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيكُم أَنْ هَدَاكُم للإِيمَانِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ " " وَلَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِن أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " " لَيسَ بِأَمَانِيِّكُم وَلا أَمَانيِّ أَهلِ الكِتَابِ مَن يَعمَلْ سُوءًا يُجزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا . وَمَن يَعمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَـئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَن أَحسَنُ دِينًا ممَّن أَسلَمَ وَجهَهُ لله وَهُوَ مُحسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبرَاهِيمَ خَلِيلاً ".
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى