رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ /صالح بن عبد الرحمن الخضيري
وقفة تذكير بعد موسم الحج
الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي خلق الأرض والسماوات العُلا ، الرحمنُ على العرش استوى له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السِرَّ وأخفى ، اللهُ لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وعَدَ المؤمنين بالدرجات العلا ، جناتُ عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاءُ من تزكَّى ، وأشهد أَنَّ محمداً عبد الله ورسوله أكملُ المؤمنين إيماناً وأعظمهم خُلقُاً صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه البررة الأتقياء وعلى مَنْ تبعهم بإحسانٍ واقتفى أَمَّا بَعْدُ :
فيا أيها الناس : اتقوا الله جَلَّ وعلا فلا يراكم حيث نهاكم ، ولا يَفْقِدْكم حيث أمركم اتقوا عذاب الله بصالح العمل واخشوه في السر والعلن وأَنيبوا إليه واستغفروه ، واستقيموا على طاعته ولا تغرنكم الحياة الدنيا فقد رأيتم تقلبها بأهلها ، فاعتبروا يا أولي الأبصار فإِنَّ السعيد مَنْ وُعِظَ بغيره ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) الحشر ) .
أيها المسلمون : لئن كان الحج قد قَوّض خيامَه ، ورجعت قوافل الحجيج إلى بلدانهم وانتهى يوم النحر ويوم عرفه والوقوفُ بالمشاعر المقدسة وأعمال العشر والأضحية ، إِلا أَنَّ هذا الموسم المعظّم قد ترك أثره في النفوس المؤمنة وتأثيره في القلوب الواعية ، ترك آثاراً حميدة لا يمحوها مرور الزمن ولا تبرح من الذاكرة ومن ذلك يسرُّ الحنين إلى معاودة الحج مرةً بعد أخرى كما قال جَلَّ وعلا ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً (125) البقرة ) فهذا البيت المعظّم يتردد إليه المسلمون في كل زمن بلا كللٍ ولا ملل وكلما رجعوا منه اشتاقوا مرةً أخرى إليه فلا يقضون وطرهمٍ منه أبداً جعله الله قياماً للناس وجعله مباركاً وقبلةً للمسلمين وهو أيضاً رمزٌ لوحدة الأمة الإسلامية حيث يتوجه إليه كل مسلم على وجه الأرض ويلتقي في رحابه العربي والعجمي والأبيض والأسود ومَنْ في مشرق الدنيا بمن في مغربها ( ... هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ ... (78) الحج ) لا فضل لواحد منهم على الآخر إلا بتقوى الله وطاعته والإيمان به وعبادته فمن كان اتقى كان بالمجد أجدراً .
عباد الله : لقد انتهى هذا الموسم فربح أقوامٌ وخسر آخرون فكم من عتيق من النار في تلك الأيام ، وكم من أناسِ رجعوا وقد غُسِلوا من أوضار الذنوب فصاروا كيوم ولدتهم أمهاتهم ، وكم من أناس لم يحصلوا والعياذ بالله إلا على التعب والمشقة وذلك بما قدمت أيديهم وما ربك بظلاّمٍ للعبيد كم هو جميل أن يرجع الحاج من حجه وقد عاهد ربه على المحافظة على الصلاة الجماعة وبر والديه وصلةِ رحمه والإحسان إلى جيرانه والصدق في معاملة جميع الناس ولا سيما إخوانهُ .
أيها الحاج : الذي مَنَّ الله عليه بالوصول إلى هاتيك البقاع الشريفة والأماكن المقدسة كن وفقك الله آخذاً بوصية الله التي ذكرنا بها في آياتٍ متعددة وختم بها آيات الحج فقال ( ... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) البقرة ) وقال تعالى ( ... فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) البقرة ) قال أبن مسعودt ( إنما جُعلت المغفرةُ لمن اتقى بعد انصراه من الحج عن جميع المعاصي ) .
عباد الله : إن تذكير الله لنا بالتقوى في آيات الحج ليوضح لنا بجلاء بأن الحج يجب أن يمنع صاحبه عن معصية الله وأن يرغبه في طاعة الله فيتحول بعد الحج من سيء إلى حسن ومن حسن إلى أحسن وهذه هي ثمرة العمل الصالح .
أيها المسلمون : إِن استمرار الإنسان على الطاعة والعبادة ودوام الاستقامة بعد الأعمال الصالة والمواسم الفاضلة لدليلُ خير وبرهان قبول فالخير كله مجموع في طاعة الله والإقبال عليه ، والشر كله مجموع في معصية الله والإعراض عنه .
فتزوّد أيها المسلم : من الأعمال الصالحة ليوم مصرعك فكأنك بالموت وقد نزل بك كما نزل بغيرك وهيهاتَ لا تدري متى الموتُ ينزلُ : فبادر أيامكَ ، وتب إلى الله من آثامك وحاول ألا يمضي عليك يومٌ إلا وقد فعلتَ فيه طاعةً تقربك إلى الله فإن لم تفعل الطاعة فاجتنب المعصية وراقب مَنْ هو أقرب إليك من حبل الوريد .
قال بعض السلف : تعاهد نفسك في ثلاث : إذا عملت فاذكر نظر الله إليك ، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله منك ، وإذا سكت فاذكر علم الله فيك ( 1 ) .
وقال عبدالله بن عوف t ( أحب لكم يا معشر إخواني : ثلاثاً : هذا القرآن تتلونه آناء الليل والنهار ، ولزوم الجماعة ، والكفُّ من أعراض المسلمين ) ، وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل ( لم ير أحد أبي إلا في مسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض وكان يكره المشي في الأسواق ) .
نعم إن الليل والنهار رأس مال المؤمن ربحهما الجنة وخسرانهما النار فإن السنة شجرة والشهور فروعها والأيام أغصانُها والساعات أوراقها والأنفاس ثمارها فمن كان أنفاسه في طاعة فثمرته شجرةٌ طيبة ، ومَنْ كانت أنفاسه في معصية فثمرته حنظل .
إن الواجب على المؤمن أن يبادر بالأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها إما بموت أو مرضٍ أو غير ذلك من العلل والآفات وأن يطرح التسويف جانباً فإن القوة والحزم أن لا تؤخر عملَ اليوم لغدٍ .
وفي سنن الترمذي عن النبي r قال ( اغتنم خمساً : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ) المؤمن الحازم إذا دنا غروبُ شمس يومه سَبحّ ودعا بدعاء المساء وأجاب داعي الله وصَلّى مع المسلمين في بيوت فإذا أصبح دعا بدعاء الصباح ثم تطوعَ بالنوافل بعد الفرائض فحافظ على أربعِ ركعات قبل صلاة الظهر وركعتين بعدها وركعتين بع المغرب وركعتين بعد صلاة العشاء وركعتين قبل صلاة الفجر حيث قال r ( ما من مسلم يصلي لله في كل يوم ثنتي عشرة ركفة تطوعا غير الفريضة إلا بنى الله بيتاً في الجنة) ويحافظ على الوتر بعد صلاة العشاء أو قبل صلاة الفجرِ وأقله ركعة ، مع صلاة الضحى وقراءة شيءٍ من القرآن يتخلل ذلك عيادةُ مريض أو تباعُ جنازة أو إرشاد منال أو نصيحة مسلم أو صلة رحم وبر وصدقة وصيامٌ وقيام وحسن بشر ، وسلامة صدر ، وتعاونٌ على البر والتقوى هذا هو شأن المؤمن الذي يرغب في ثواب الله ويرجو رحمة الله فيا بشراه بمحبة الله له ، وتيسر أموره ومحيه الملائكة والمؤمنين له ، وتثبيت الله له عند الموت ، وأشراق قلبه بنور الإيمان فهنيئاً له طيب الحياة في الدنيا والآخرة وذلك الفوز العظيم .
( 1 ) . ( السير 11/485 ) .
أيها المسلمون : إن الصحة والفراغ والمال هي الأبواب التي تدخل منها الشهوات المستحكمة والهوى المهلكِ لصاحبه وقديماً قيل : من الفراغ تكون الصبوة .
فيا أيها الإنسان : اجعل من مرور الليالي والأيام عبرةً لنفسك فإن الليل والنهار يبليان كل جديد ويقربان كل بعيد ويطويان الأعمار ، ويشيبان الصفار ، ويغنيان الكبار ، قال الحسن البصري رحمه الله ( لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار وتقريب الآجال هيهات قد صحب نوحاً وعاداً وثمودَ وقروناً بين ذلك كثيراً فأصبحوا قد قدموا على ربهم ووردوا على أعمالهم وأصبح الليل والنهار غضين جديدين لم يبلهما ما مرّابه مستعدين لمن بقي بمثل ما أصاب به من مضى ) إن بقاءَ المسلم المطيعِ لله كل يوم لغنيمة : يؤدي الفرائض ويكثر التسبيح والذكر.
قال بعض السلف ( مَنْ حفظ على نفسه أوقاته فلا يضيعها بما لا رضا الله فيه حفظ الله عليه دينه ودنياه فإن الجزاء من جنس العمل إِنَّ مَنْ حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في جميع الأحوال يَحُوطُهُ وينصره ويحفظه ويوفقه ويؤيده ويسدّده فإنه جَلّ جلاله قائمٌ على كل نفسٍ بما كسبت وهو تعالى مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) .
كتب بعض السلف إلى أخٍ له :
أما بعد " فإن كان الله معك فممنْ تخاف ؟ وإن كان عليك فمنْ ترجو ؟ والسلام ".
والعبد إذا اتقى اللهَ وحفظ حدوده ففعل الواجبات وترك المحرمات خاصةً في حال رخائه وصحته فقد تعرّف بذلك إلى الله وكان بينه وبين ربه معرفة فيعينه الله في الشدة ويعرف لهعمله في الرخاء فينجِّيه من الشدائد والكرب بتلك المعرفة ( 1 ) كما قال r ( تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) وفي سنن الترمذي ( من سَرّه أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر لدعاء في الرخاء ) ( 2 ) قال الضاحك بن قيس ( اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة إِنَّ يونسَ عليه السلام كان يذكر الله ، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) الصافات ) وإن فرعون كان طاغياً ناسياً لذكر الله فلما أدركه الفرق قال ( آمنت " فلم ينفعه ذلك " فقال تعالى ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) يونس ) .
( 1 ) . ( نور الاقتباس لابن رجب ) . ( 2 ) . ( ت في الدعوات رقم 3379 ) .
أيها المسلم : إذا علمتَ أن التعرّفَ إلى الله في الرخاء بعبادته والإقبالِ عليه يوجب معرفة الله لعبده في الشدة فلا شدة يلقاها المؤمنُ في الدنيا أعظمَ من شدة الموت وهي أهون مما بعدها إن لم يكن مصير العبد إلى خير وإن كان مصيره إلى خير فهي آخر شدةٍ يلقاها .
ألاَ فاتقوا الله رحمكم الله واستعدوا للموت قبل نزوله بالأعمال الصالحة ،
والتوبة الصادقة ـ فإن المرء لا يدري متى تنزل هذه الشدةُ من ليل أو نهار ، وذكر الأعمال الصالحة عند حضور الموت مما يحسن ظن المؤمن بربه وَيُهوّن عليه شدة الموت ويقوّي رجاءه وفقنا الله وإياكم لما يرضيه وأعذنا من شر الشيطان وشركه وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المؤمنين والمؤمنات من كل ذنب فاستغفروه ، إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرب الحليمُ العظيم ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب النهج القويم ، اللهم صل وسلم على عبدك ورسوله محمد وعلى آله وصبحه أما بعد :
فيا عباد الله : تذكروا وفقكم الله أن أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه كما جاء في الحديث ومن هنا كان عمل النبي r ديمة وكان إذا عَمِلَ عملاً أثبته .
يقال هذا أيها المسلمون والبعض منا قد يفوّت على نفسه فرصاً من الطاعات وأبواباً من الخيرات والوظائف اليومية كالورد والسنن والرواتب والمسابقة إلى الصف الأول وتلاوة القرآن والذكر والاستغفار ناهيك عمن يفوّت الواجب كصلاة الجماعة ونحوها ، فقد يكون مِنْ أسبابه فعلُ بعض المعاصي فإن مِنْ آثارها حرمان الطاعة وقد يكون من أسباب ذلك التوسع في بعض المباحات بكافة أنواعها فإن الإغراق في المباحات قد يؤدي بصاحبه إل الوقوع في المنهيات والمحرمات ، وهنا أذكِّرُ بأن الإكثارَ من الرحلات البرية بلا أهدافٍ تربوية والمبالغة في ذلك يعدُّ نوعاً من الترف وفيه إهدارٌ للطاقات ، وتضييع للأوقات ، وإهمال للجُمُعات ولربما ضَيّع بعض الناس أهله وأولاده ومكثروا أياماً متتابعة بدون ملاحظة ورعاية وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول .
فعلى الإنسان أن يقتصد في هذا المرء وفي غيره وأن يروّح عن نفسه باعتدال ، وأن يتنزه خارج البلد على منهج الأمة الوسط بلا إفراطٍ ولا تفريط والله المستعان .
ومن أسباب ترك هذه الأعمال اليومية عدم التنبه إلى فضلها وما رتب عليها من أجرٍ وثواب ، ونسيان المرء للموت وشدائده وما بعده من أهوال ولزوم الاستعداد لذلك وقد يكون من أسباب ذلك غفلة المرء عن محاسبة نفسه ومن ثَمَّ يظن أنه قد بلغ الكمال ، ولا ريب أن للتسويف دوره في هذا المجال والله المستعان .
فعلى المرء أن يستعينَ بالله ويلجأ إليه وأن يدرك أن الدنيا دارَ عملٍ وغرس فليطرح التسويف جانباً ولينظر في النصوص الشرعية وما صَرّحت به من ثوابٍ هذه الأعمال الصالحة وليتذكر ما سلف من ذنوبه الماضية فلعلَّ هذا أن يحفزه للجد والتشمير ، والاجتهاد والعمل ( ... وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) الروم ) .
اللهم أعنا على ذكرِك وشكرِك وحسن عبادتك ، ربنا ظلمنا أنفسنا ، ربنا آتنا في الدنيا حسنه ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأهلك أعداء الدين ، اللهم مَنْ أرادنا وأرد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه واجعل كيده في نحره ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح وولاة أمورنا واجعلهم على الخير أعواناً ربنا لا تزغ قلوبنا ، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وعلى نبينا محمد آله وصحبه أجمعين .
وقفة تذكير بعد موسم الحج
الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي خلق الأرض والسماوات العُلا ، الرحمنُ على العرش استوى له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السِرَّ وأخفى ، اللهُ لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وعَدَ المؤمنين بالدرجات العلا ، جناتُ عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاءُ من تزكَّى ، وأشهد أَنَّ محمداً عبد الله ورسوله أكملُ المؤمنين إيماناً وأعظمهم خُلقُاً صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه البررة الأتقياء وعلى مَنْ تبعهم بإحسانٍ واقتفى أَمَّا بَعْدُ :
فيا أيها الناس : اتقوا الله جَلَّ وعلا فلا يراكم حيث نهاكم ، ولا يَفْقِدْكم حيث أمركم اتقوا عذاب الله بصالح العمل واخشوه في السر والعلن وأَنيبوا إليه واستغفروه ، واستقيموا على طاعته ولا تغرنكم الحياة الدنيا فقد رأيتم تقلبها بأهلها ، فاعتبروا يا أولي الأبصار فإِنَّ السعيد مَنْ وُعِظَ بغيره ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) الحشر ) .
أيها المسلمون : لئن كان الحج قد قَوّض خيامَه ، ورجعت قوافل الحجيج إلى بلدانهم وانتهى يوم النحر ويوم عرفه والوقوفُ بالمشاعر المقدسة وأعمال العشر والأضحية ، إِلا أَنَّ هذا الموسم المعظّم قد ترك أثره في النفوس المؤمنة وتأثيره في القلوب الواعية ، ترك آثاراً حميدة لا يمحوها مرور الزمن ولا تبرح من الذاكرة ومن ذلك يسرُّ الحنين إلى معاودة الحج مرةً بعد أخرى كما قال جَلَّ وعلا ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً (125) البقرة ) فهذا البيت المعظّم يتردد إليه المسلمون في كل زمن بلا كللٍ ولا ملل وكلما رجعوا منه اشتاقوا مرةً أخرى إليه فلا يقضون وطرهمٍ منه أبداً جعله الله قياماً للناس وجعله مباركاً وقبلةً للمسلمين وهو أيضاً رمزٌ لوحدة الأمة الإسلامية حيث يتوجه إليه كل مسلم على وجه الأرض ويلتقي في رحابه العربي والعجمي والأبيض والأسود ومَنْ في مشرق الدنيا بمن في مغربها ( ... هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ ... (78) الحج ) لا فضل لواحد منهم على الآخر إلا بتقوى الله وطاعته والإيمان به وعبادته فمن كان اتقى كان بالمجد أجدراً .
عباد الله : لقد انتهى هذا الموسم فربح أقوامٌ وخسر آخرون فكم من عتيق من النار في تلك الأيام ، وكم من أناسِ رجعوا وقد غُسِلوا من أوضار الذنوب فصاروا كيوم ولدتهم أمهاتهم ، وكم من أناس لم يحصلوا والعياذ بالله إلا على التعب والمشقة وذلك بما قدمت أيديهم وما ربك بظلاّمٍ للعبيد كم هو جميل أن يرجع الحاج من حجه وقد عاهد ربه على المحافظة على الصلاة الجماعة وبر والديه وصلةِ رحمه والإحسان إلى جيرانه والصدق في معاملة جميع الناس ولا سيما إخوانهُ .
أيها الحاج : الذي مَنَّ الله عليه بالوصول إلى هاتيك البقاع الشريفة والأماكن المقدسة كن وفقك الله آخذاً بوصية الله التي ذكرنا بها في آياتٍ متعددة وختم بها آيات الحج فقال ( ... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) البقرة ) وقال تعالى ( ... فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) البقرة ) قال أبن مسعودt ( إنما جُعلت المغفرةُ لمن اتقى بعد انصراه من الحج عن جميع المعاصي ) .
عباد الله : إن تذكير الله لنا بالتقوى في آيات الحج ليوضح لنا بجلاء بأن الحج يجب أن يمنع صاحبه عن معصية الله وأن يرغبه في طاعة الله فيتحول بعد الحج من سيء إلى حسن ومن حسن إلى أحسن وهذه هي ثمرة العمل الصالح .
أيها المسلمون : إِن استمرار الإنسان على الطاعة والعبادة ودوام الاستقامة بعد الأعمال الصالة والمواسم الفاضلة لدليلُ خير وبرهان قبول فالخير كله مجموع في طاعة الله والإقبال عليه ، والشر كله مجموع في معصية الله والإعراض عنه .
فتزوّد أيها المسلم : من الأعمال الصالحة ليوم مصرعك فكأنك بالموت وقد نزل بك كما نزل بغيرك وهيهاتَ لا تدري متى الموتُ ينزلُ : فبادر أيامكَ ، وتب إلى الله من آثامك وحاول ألا يمضي عليك يومٌ إلا وقد فعلتَ فيه طاعةً تقربك إلى الله فإن لم تفعل الطاعة فاجتنب المعصية وراقب مَنْ هو أقرب إليك من حبل الوريد .
قال بعض السلف : تعاهد نفسك في ثلاث : إذا عملت فاذكر نظر الله إليك ، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله منك ، وإذا سكت فاذكر علم الله فيك ( 1 ) .
وقال عبدالله بن عوف t ( أحب لكم يا معشر إخواني : ثلاثاً : هذا القرآن تتلونه آناء الليل والنهار ، ولزوم الجماعة ، والكفُّ من أعراض المسلمين ) ، وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل ( لم ير أحد أبي إلا في مسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض وكان يكره المشي في الأسواق ) .
نعم إن الليل والنهار رأس مال المؤمن ربحهما الجنة وخسرانهما النار فإن السنة شجرة والشهور فروعها والأيام أغصانُها والساعات أوراقها والأنفاس ثمارها فمن كان أنفاسه في طاعة فثمرته شجرةٌ طيبة ، ومَنْ كانت أنفاسه في معصية فثمرته حنظل .
إن الواجب على المؤمن أن يبادر بالأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها إما بموت أو مرضٍ أو غير ذلك من العلل والآفات وأن يطرح التسويف جانباً فإن القوة والحزم أن لا تؤخر عملَ اليوم لغدٍ .
وفي سنن الترمذي عن النبي r قال ( اغتنم خمساً : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ) المؤمن الحازم إذا دنا غروبُ شمس يومه سَبحّ ودعا بدعاء المساء وأجاب داعي الله وصَلّى مع المسلمين في بيوت فإذا أصبح دعا بدعاء الصباح ثم تطوعَ بالنوافل بعد الفرائض فحافظ على أربعِ ركعات قبل صلاة الظهر وركعتين بعدها وركعتين بع المغرب وركعتين بعد صلاة العشاء وركعتين قبل صلاة الفجر حيث قال r ( ما من مسلم يصلي لله في كل يوم ثنتي عشرة ركفة تطوعا غير الفريضة إلا بنى الله بيتاً في الجنة) ويحافظ على الوتر بعد صلاة العشاء أو قبل صلاة الفجرِ وأقله ركعة ، مع صلاة الضحى وقراءة شيءٍ من القرآن يتخلل ذلك عيادةُ مريض أو تباعُ جنازة أو إرشاد منال أو نصيحة مسلم أو صلة رحم وبر وصدقة وصيامٌ وقيام وحسن بشر ، وسلامة صدر ، وتعاونٌ على البر والتقوى هذا هو شأن المؤمن الذي يرغب في ثواب الله ويرجو رحمة الله فيا بشراه بمحبة الله له ، وتيسر أموره ومحيه الملائكة والمؤمنين له ، وتثبيت الله له عند الموت ، وأشراق قلبه بنور الإيمان فهنيئاً له طيب الحياة في الدنيا والآخرة وذلك الفوز العظيم .
( 1 ) . ( السير 11/485 ) .
أيها المسلمون : إن الصحة والفراغ والمال هي الأبواب التي تدخل منها الشهوات المستحكمة والهوى المهلكِ لصاحبه وقديماً قيل : من الفراغ تكون الصبوة .
فيا أيها الإنسان : اجعل من مرور الليالي والأيام عبرةً لنفسك فإن الليل والنهار يبليان كل جديد ويقربان كل بعيد ويطويان الأعمار ، ويشيبان الصفار ، ويغنيان الكبار ، قال الحسن البصري رحمه الله ( لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار وتقريب الآجال هيهات قد صحب نوحاً وعاداً وثمودَ وقروناً بين ذلك كثيراً فأصبحوا قد قدموا على ربهم ووردوا على أعمالهم وأصبح الليل والنهار غضين جديدين لم يبلهما ما مرّابه مستعدين لمن بقي بمثل ما أصاب به من مضى ) إن بقاءَ المسلم المطيعِ لله كل يوم لغنيمة : يؤدي الفرائض ويكثر التسبيح والذكر.
قال بعض السلف ( مَنْ حفظ على نفسه أوقاته فلا يضيعها بما لا رضا الله فيه حفظ الله عليه دينه ودنياه فإن الجزاء من جنس العمل إِنَّ مَنْ حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في جميع الأحوال يَحُوطُهُ وينصره ويحفظه ويوفقه ويؤيده ويسدّده فإنه جَلّ جلاله قائمٌ على كل نفسٍ بما كسبت وهو تعالى مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) .
كتب بعض السلف إلى أخٍ له :
أما بعد " فإن كان الله معك فممنْ تخاف ؟ وإن كان عليك فمنْ ترجو ؟ والسلام ".
والعبد إذا اتقى اللهَ وحفظ حدوده ففعل الواجبات وترك المحرمات خاصةً في حال رخائه وصحته فقد تعرّف بذلك إلى الله وكان بينه وبين ربه معرفة فيعينه الله في الشدة ويعرف لهعمله في الرخاء فينجِّيه من الشدائد والكرب بتلك المعرفة ( 1 ) كما قال r ( تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) وفي سنن الترمذي ( من سَرّه أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر لدعاء في الرخاء ) ( 2 ) قال الضاحك بن قيس ( اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة إِنَّ يونسَ عليه السلام كان يذكر الله ، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) الصافات ) وإن فرعون كان طاغياً ناسياً لذكر الله فلما أدركه الفرق قال ( آمنت " فلم ينفعه ذلك " فقال تعالى ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) يونس ) .
( 1 ) . ( نور الاقتباس لابن رجب ) . ( 2 ) . ( ت في الدعوات رقم 3379 ) .
أيها المسلم : إذا علمتَ أن التعرّفَ إلى الله في الرخاء بعبادته والإقبالِ عليه يوجب معرفة الله لعبده في الشدة فلا شدة يلقاها المؤمنُ في الدنيا أعظمَ من شدة الموت وهي أهون مما بعدها إن لم يكن مصير العبد إلى خير وإن كان مصيره إلى خير فهي آخر شدةٍ يلقاها .
ألاَ فاتقوا الله رحمكم الله واستعدوا للموت قبل نزوله بالأعمال الصالحة ،
والتوبة الصادقة ـ فإن المرء لا يدري متى تنزل هذه الشدةُ من ليل أو نهار ، وذكر الأعمال الصالحة عند حضور الموت مما يحسن ظن المؤمن بربه وَيُهوّن عليه شدة الموت ويقوّي رجاءه وفقنا الله وإياكم لما يرضيه وأعذنا من شر الشيطان وشركه وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المؤمنين والمؤمنات من كل ذنب فاستغفروه ، إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرب الحليمُ العظيم ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب النهج القويم ، اللهم صل وسلم على عبدك ورسوله محمد وعلى آله وصبحه أما بعد :
فيا عباد الله : تذكروا وفقكم الله أن أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه كما جاء في الحديث ومن هنا كان عمل النبي r ديمة وكان إذا عَمِلَ عملاً أثبته .
يقال هذا أيها المسلمون والبعض منا قد يفوّت على نفسه فرصاً من الطاعات وأبواباً من الخيرات والوظائف اليومية كالورد والسنن والرواتب والمسابقة إلى الصف الأول وتلاوة القرآن والذكر والاستغفار ناهيك عمن يفوّت الواجب كصلاة الجماعة ونحوها ، فقد يكون مِنْ أسبابه فعلُ بعض المعاصي فإن مِنْ آثارها حرمان الطاعة وقد يكون من أسباب ذلك التوسع في بعض المباحات بكافة أنواعها فإن الإغراق في المباحات قد يؤدي بصاحبه إل الوقوع في المنهيات والمحرمات ، وهنا أذكِّرُ بأن الإكثارَ من الرحلات البرية بلا أهدافٍ تربوية والمبالغة في ذلك يعدُّ نوعاً من الترف وفيه إهدارٌ للطاقات ، وتضييع للأوقات ، وإهمال للجُمُعات ولربما ضَيّع بعض الناس أهله وأولاده ومكثروا أياماً متتابعة بدون ملاحظة ورعاية وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول .
فعلى الإنسان أن يقتصد في هذا المرء وفي غيره وأن يروّح عن نفسه باعتدال ، وأن يتنزه خارج البلد على منهج الأمة الوسط بلا إفراطٍ ولا تفريط والله المستعان .
ومن أسباب ترك هذه الأعمال اليومية عدم التنبه إلى فضلها وما رتب عليها من أجرٍ وثواب ، ونسيان المرء للموت وشدائده وما بعده من أهوال ولزوم الاستعداد لذلك وقد يكون من أسباب ذلك غفلة المرء عن محاسبة نفسه ومن ثَمَّ يظن أنه قد بلغ الكمال ، ولا ريب أن للتسويف دوره في هذا المجال والله المستعان .
فعلى المرء أن يستعينَ بالله ويلجأ إليه وأن يدرك أن الدنيا دارَ عملٍ وغرس فليطرح التسويف جانباً ولينظر في النصوص الشرعية وما صَرّحت به من ثوابٍ هذه الأعمال الصالحة وليتذكر ما سلف من ذنوبه الماضية فلعلَّ هذا أن يحفزه للجد والتشمير ، والاجتهاد والعمل ( ... وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) الروم ) .
اللهم أعنا على ذكرِك وشكرِك وحسن عبادتك ، ربنا ظلمنا أنفسنا ، ربنا آتنا في الدنيا حسنه ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأهلك أعداء الدين ، اللهم مَنْ أرادنا وأرد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه واجعل كيده في نحره ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح وولاة أمورنا واجعلهم على الخير أعواناً ربنا لا تزغ قلوبنا ، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وعلى نبينا محمد آله وصحبه أجمعين .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى