عبير الروح
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
بسم الله الرحمن الرحيم
عادة غريبة متأصلة في النفس الانسانية عموما ، ولدى الحكام والرؤساء خصوصا، وهذه العادة تتعلق بتكريم الأشخاص بعد موتهم، حيث لا يذكر الانسان إلا بعد موته وانتقاله إلى الدار الآخرة، عندئذ ينبري الناس في تعداد محاسن أمواتهم ومآثرهم الشخصية والعامة، وتنبري الدول إلى تكريم عظمائها وتعليق الأوسمة على نعوشهم، وتقديم الجوائز التقديرية باسمهم .
راودني هذا الاحساس خلال موسم الحج هذه السنة حيث لم يمض على وفاة جدتي سوى أشهر معدودة، ولكونها كانت في مثل تلك المناسبة لا تفتأ تتذكر تفاصيل تلك الرحلة الممتعة التي سافرنا فيها معا، أنا وهي ، ووالديَّ وعمي ، إلى الأراضي المقدسة من أجل قضاء مناسك الحج ، والذي تصادف وجوده في ذلك العام ( 1417هـ / 1996م.) مع مجزرة قانا وما رافقها من ويلات على لبنان بشكل عام والجنوب اللبناني بشكل خاص.
تعود فكرة اصطحاب جدتي ( ام أمي) التي كانت في الخامسة والسبعون من عمرها إلى والدي, الذي كان يعِدها بذلك منذ زمن بعيد ، لذلك لم تصدّق عندما اخبرها بأنه قرّر القيام بفريضة الحج هذه السنة، وطلب منها الاستعداد للقيام بهذه الرحلة، وإن كان هذا الاستعداد في معظمه من الناحية النفسية، وذلك لأن التحضير للنواحي الجسدية كان يقع على عاتق بناتها، وذلك لثقل حركتها الذي منعها منذ سنوات عديدة من الخروج من المنزل إلا نادرا وفي حالات الضرورة فقط. لذلك فهي لم تخرج قبل السفر إلا مرتين، مرة من أجل التقدم بطلب اشارة السفر، و مرة اخرى من أجل تناول التلقيح الطبي المفروض على الحجاج من اجل حمايتهم من بعض الأمراض المعدية.
لقد كان اليوم المحدد للتوجه إلى المطار يوما ممطرا، مع انه كان يوما من ايام فصل الربيع، ولقد بللت المياه القليلة ثياب الاحرام التي كنا قد ارتديناها في البيت . وكان وداع الأهل حارا جدا، يتخلله الخشية والخوف على جدتي الكبيرة، والتي كان أبناؤها يخشون من عدم رؤيتهم لها مجددا، لذلك كانت التوصيات تنهال عليّ من كل حدب وصوب، من اجل الاهتمام بصحتها بشكل خاص، كونها كانت تعاني من أمراض عديدة وأبرزها داء السكري الذي كان يفرض عليها في كثير من الأحيان الذهاب المتكرر إلى الحمام ... ولقد انتبهت إلى هذه النقطة بشكل كبير حتى انني بالغت في بعض الأحيان بذلك، فكنت اقلل لها من كمية مياه الشرب في بعض المناسبات التي تشهد عادة ازدحاما كبيرا، كما في يوم عرفة، حيث كنت ابل شفتيها فقط دون الارتواء .
بدأت الصعاب تبرز في مطلع الرحلة. فبعد الانتظار الطويل في قاعة الذهاب داخل المطار، صعدنا إلى الطائرة التي ما ان ادار القائد محركاتها، حتى عاد ليوقفها بعد دقائق بسبب العطل المفاجئ الذي طرأ عليها. وهذا ما اضطرنا إلى النزول منها والصعود الى اخرى. ولقد كانت هذه الخطوة شاقة جدا على جدتي التي كانت تجد صعوبة في التحرك.
لقد كان لهذا العجز في الحركة التي كانت تعاني منه جدتي أثره في إعاقة حركة حجاج الحملة، مما جعل البعض يتذمر من وجودها الذي كان يؤخرهم في الوصول إلى الوقت المحدد، وكانوا يسألوننا في كثير من الأحيان عن سبب المجيء بها وهي في هذه السن . وكان البعض منهم يتجرأ و يقترح علينا عدم اصطحابها إلا في حالات الضرورة.
أذَكِّر هنا ببعض التصرفات السيئة التي يقوم بها بعض الحجاج الذين يفترض فيهم أن يطبقوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم" ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا"، ولكن للأسف يتحول الكبير ، في مثل تلك المناسبات، إلى عبء على الصغير والشاب، الذي ينسى إن هذه الرحلة في حياة هؤلاء الشيوخ هي اهم رحلة في حياتهم، وقد تكون أيضاً الرحلة الأخيرة .
إن مرحلة الانتظار الطويلة قبل الوصول إلى مكة جعلت ملامح التعب تبدو على وجوه الحجاج، ولم ألمس ذلك على وجه جدتي، التي كانت سعادتها لا توصف، ليس فقط لأنها تقوم بفريضة الحج بل لأنها كانت تغادر البلد للمرة الأولى في حياتها، لذلك كانت حريصة على التمتع بكل لحظة من لحظات سفرها، وكانت حريصة أيضا على عدم ابداء أي تذمر أو شكوى كما كان يفعل غيرها من الحجاج ممن هم اصغر منها سنا بكثير.
كنت أقارن سفرنا المريح مع سفر الحجاج قديما والذي كان يستغرق سنة كاملة في بعض الأحيان، يسافر فيها الحج برا أو بحرا، على ظهور الجمال أو على متن الباخرة، وكذلك كنت اقارن بين سفر الطائرة وسفر البر ، حيث يأتي الحجاج من كافة اقطار الأرض، متكبدين المعاناة بكل فرح وسرور، ملبين دعوة الله سبحانه وتعالى، الذي يقول : " وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ".
ولكن على رغم هذه المقارنة بين سفر البر وسفر البحر، إلا انه يبقى في النهاية سفر، ويطبق عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السفر قطعة من العذاب" ، لهذا كان من الطبيعي ان يشعر الحجاج الذين كانوا يقومون بالمناسك للمرة الأولى، بالتعب والارهاق, بينما لم يكن هذا باديا على وجوه المعرفين والشيوخ والحجاج الذين سبق لهم القيام بهذه الرحلة، فبدأوا بالتلبية ونحن في الطريق إلى الفندق من أجل أخذ قسط من الراحة قبل القيام بطواف القدوم في اليوم التالي....
ما أن وصلنا إلى الفندق حتى بدأ القائمون على الرحلة بتقسيم الغرف، وما فاجأني في هذا الموضوع هو الخلافات والمشاحنات التي كانت تتم بين هؤلاء وبين الحجاج، الذي من المفترض انهم بعزمهم القيام برحلة الحج يدركون معنى قول الله تعالى"فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج". إلا أن هذا الأمر لم يحدث، فقد كان معظمهم حريص على الحصول على أفضل الغرف، وحريص أيضا على تأمين كل وسائل الراحة الموجودة، وكانوا يحتجون على نوعية الطعام ( ومن بينهم جدتي)، و كان أحدهم لا يتورع عن التشاجر في حال قام غيره بالجلوس مكانه على المقعد، وكان منهم من يتشاجر مع المعرِّف أو مع سائق الباص من اجل أمور تافهة لا ينبغي التركيز عليها في الظروف العادية، فكيف في رحلة الحج !! فهذه الرحلة ليست برحلة ترفيهية، وانما هي رحلة تطهيرية يرجع الانسان من بعدها كيوم ولدته أمه. وهي أيضا رحلة تهذيبية تهذب فيها الروح و تزكي فيها النفس، فهل يحصل ذلك مع جميع الحجاج ؟ أم ان نصيب معظمهم هو التعب والنصب؟
إلا انه لا بد من بعض الانصاف عبر ذكر بعض التجاوزات التي تقوم بها بعض الشركات المشرفة على مثل تلك الرحلات، حيث تستخدم اسلوب الخداع والمراوغة من اجل جذب الحجاج، فتقوم برفع اسعار حملاتها تحت حجة تميّزها بخصائص لا توجد لدى غيرها، ولكن ما أن يصل الحجاج إلى البلاد المقدسة، حتى يدركوا بأنهم تعرضوا للخداع والغش من قبل اشخاص يفترض بهم أن يكونوا نموذجا للشرف والصدق كونهم ينظمون مثل هذه الرحلات الدينية.
لقد كان لكبر سن جدتي أثره في تخليها عن القيام ببعض المناسك ، مثل رمي الجمرات، حيث وكّلت بذلك أحد المعرفين وبقيت هي تنتظر في الباص، وكذلك كان لديها بعض التسهيلات الأخرى، مثل القيام بالطواف على حمالة. ولقد كنا نشعر ونحن نراها تنقل محمولة بسرعة بأنها مرتاحة في مقعدها, ولكنها اخبرتنا بانها تعبت كثيرا نتيجة الهز الشديد الذي كان الحمالون يهزونها بها وهم يحاولون الانتهاء بسرعة منها من أجل الاستفادة من حمل حاج آخر.
إن موقف هؤلاء المطوعين "العاملين بالقطعة" ، إضافة إلى بعض "مفتولي العضلات" الذين يدوسون الآخرين كالجرافات ، قد تسبب في العديد من مواسم الحج بوفاة عدد من الحجاج وخاصة كبار السن منهم، والذين يعجزون عن الدفاع عن انفسهم وسط الزحمة الخانقة، فيقعون ارضا ويتم دهسهم بالأرجل .
لقد كان مما استوقفني في موضوع حج كبار السن وما يعانونه في رحلتهم رؤيتي لأحد الأشخاص وهو يحمل امرأة عجوز على رقبته في الطواف، فتخيلت مدى فرحة تلك المرأة بوفاء ابنها وبره بها . و ذكرني هذا الموقف بما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه الذي رأى رجل يحمل أمه على ظهره ، فسأله الرجل : لقد حججت بأمي وهي على ظهري ، أتراني وفيتها حقها يا ابن عمر؟ فقال له عبد الله بن عمر: ولا بطلقة ، أي ولا بطلقة واحدة من آلام الوضع عندما ولدته.
إن مثل هذه المواقف من البر ورعاية الوالدين في الحج لا ينبغي ان تعتبر تشجيعا على تأخير هذه الفريضة حتى الوصول إلى سن الشيخوخة، كما يفعل بعض الناس ممن يربطون بين الحج والشيخوخة، فإذا سألت أحدهم، هل ذهبت إلى الحج؟ أجابك مستغربا: " لا زال لدي وقت، لا زلت صغيرا في السن ؟
إن الحج يحتاج إلى الصحة والشباب، ويحتاج ايضا إلى جهد بشري شديد لا يقدر عليه الشيوخ عادة... كما ان تأخير قضاء مناسك الحج قد يحول بين التمتع ببعض المناسك المندوبة، او يحول دون القيام ببعض الرحلات الأثرية التي تذكر المسلم بتاريخه المجيد وبالمعارك الأولى التي قام بها المسلمون الأوائل، وهذا ما حدث مع جدتي، حيث كانت تبقى في البيت لنذهب نحن لقضاء بعض المناسك أو للصلاة في الحرم المكي.
ثم إن من فوائد الإسراع في القيام بفريضة الحج اسقاط الفرض عن المسلم، ذلك خشية ان يسبقه الموت قبل ان يتمكن من أداء هذه الفريضة الواجبة،فالموت لا يرتبط بالعمر. ويروى عن سعيد بن جبير، أحد ائمة السلف، كلمة معبرة في هذا المجال يقول فيها: "لو علمت في البلد التي أعيش فيها غنيا من الأغنياء كان يستطيع أن يحج, ومات ولم يحج , ما صليت عليه الجنازة " ، ويروى عن ابن عباس في تفسير قول الله تبارك وتعالى :" حتى إذا جاء أحدهم الموت ,قال رب أرجعون لعلى أعمل صالحا فيما تركت " قال ابن عباس في تفسير "فيما تركت "أنه الحج والزكاة.
إن تذكر رحلة الحج بتفاصيلها امر ليس بالسهل، فالمرء يتذكر الأشياء التي تؤثر فيه، ولكن جدتي ظلت تتذكرها وترويها لزوارها حتى الرمق الاخير، ولعل أكثر ما أثّر فيها هو تمكنها من الدخول إلى الروضة الشريفة والصلاة فيها، وذلك الأحساس الجميل الذي راودها وهي في رحاب الحرم النبوي الشريف.
كانت سعادة جدتي بتلك الرحلة لا توصف، وكانت تحرص منذ وصولها إلى أرض الوطن على استقبال المهنئين بعودتها بالسلامة وهي متشحة بالثياب البيضاء، تخبرهم بالحج ومشقته، وتنصحهم بعدم تفويت الفرصة عليهم ، وبالاسراع في القيام بهذه الفريضة قبل ان يتقدم العمر وتقل الهمة، وكانت لا تنسى في كل مرة أن تشكر الله عز وجل الذي امدها بالعمر حتى تقضي مناسك الحج ، مبدية بعد ذلك استعدادها لملاقاة ربها بعد ان انهت فروضها .
.. ولكن الله سبحانه وتعالى لم يستجب لطلبها وبقيت تشكر ربها على نعمة الحج حتى انتقلت الى جوار ربها منذ بضعة اشهر .... رحمها الله وأدخلها فسيح جناته .
في موسم الحج... تحية إلى جدتي
د. نهى عدنان قاطرجي
عادة غريبة متأصلة في النفس الانسانية عموما ، ولدى الحكام والرؤساء خصوصا، وهذه العادة تتعلق بتكريم الأشخاص بعد موتهم، حيث لا يذكر الانسان إلا بعد موته وانتقاله إلى الدار الآخرة، عندئذ ينبري الناس في تعداد محاسن أمواتهم ومآثرهم الشخصية والعامة، وتنبري الدول إلى تكريم عظمائها وتعليق الأوسمة على نعوشهم، وتقديم الجوائز التقديرية باسمهم .
راودني هذا الاحساس خلال موسم الحج هذه السنة حيث لم يمض على وفاة جدتي سوى أشهر معدودة، ولكونها كانت في مثل تلك المناسبة لا تفتأ تتذكر تفاصيل تلك الرحلة الممتعة التي سافرنا فيها معا، أنا وهي ، ووالديَّ وعمي ، إلى الأراضي المقدسة من أجل قضاء مناسك الحج ، والذي تصادف وجوده في ذلك العام ( 1417هـ / 1996م.) مع مجزرة قانا وما رافقها من ويلات على لبنان بشكل عام والجنوب اللبناني بشكل خاص.
تعود فكرة اصطحاب جدتي ( ام أمي) التي كانت في الخامسة والسبعون من عمرها إلى والدي, الذي كان يعِدها بذلك منذ زمن بعيد ، لذلك لم تصدّق عندما اخبرها بأنه قرّر القيام بفريضة الحج هذه السنة، وطلب منها الاستعداد للقيام بهذه الرحلة، وإن كان هذا الاستعداد في معظمه من الناحية النفسية، وذلك لأن التحضير للنواحي الجسدية كان يقع على عاتق بناتها، وذلك لثقل حركتها الذي منعها منذ سنوات عديدة من الخروج من المنزل إلا نادرا وفي حالات الضرورة فقط. لذلك فهي لم تخرج قبل السفر إلا مرتين، مرة من أجل التقدم بطلب اشارة السفر، و مرة اخرى من أجل تناول التلقيح الطبي المفروض على الحجاج من اجل حمايتهم من بعض الأمراض المعدية.
لقد كان اليوم المحدد للتوجه إلى المطار يوما ممطرا، مع انه كان يوما من ايام فصل الربيع، ولقد بللت المياه القليلة ثياب الاحرام التي كنا قد ارتديناها في البيت . وكان وداع الأهل حارا جدا، يتخلله الخشية والخوف على جدتي الكبيرة، والتي كان أبناؤها يخشون من عدم رؤيتهم لها مجددا، لذلك كانت التوصيات تنهال عليّ من كل حدب وصوب، من اجل الاهتمام بصحتها بشكل خاص، كونها كانت تعاني من أمراض عديدة وأبرزها داء السكري الذي كان يفرض عليها في كثير من الأحيان الذهاب المتكرر إلى الحمام ... ولقد انتبهت إلى هذه النقطة بشكل كبير حتى انني بالغت في بعض الأحيان بذلك، فكنت اقلل لها من كمية مياه الشرب في بعض المناسبات التي تشهد عادة ازدحاما كبيرا، كما في يوم عرفة، حيث كنت ابل شفتيها فقط دون الارتواء .
بدأت الصعاب تبرز في مطلع الرحلة. فبعد الانتظار الطويل في قاعة الذهاب داخل المطار، صعدنا إلى الطائرة التي ما ان ادار القائد محركاتها، حتى عاد ليوقفها بعد دقائق بسبب العطل المفاجئ الذي طرأ عليها. وهذا ما اضطرنا إلى النزول منها والصعود الى اخرى. ولقد كانت هذه الخطوة شاقة جدا على جدتي التي كانت تجد صعوبة في التحرك.
لقد كان لهذا العجز في الحركة التي كانت تعاني منه جدتي أثره في إعاقة حركة حجاج الحملة، مما جعل البعض يتذمر من وجودها الذي كان يؤخرهم في الوصول إلى الوقت المحدد، وكانوا يسألوننا في كثير من الأحيان عن سبب المجيء بها وهي في هذه السن . وكان البعض منهم يتجرأ و يقترح علينا عدم اصطحابها إلا في حالات الضرورة.
أذَكِّر هنا ببعض التصرفات السيئة التي يقوم بها بعض الحجاج الذين يفترض فيهم أن يطبقوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم" ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا"، ولكن للأسف يتحول الكبير ، في مثل تلك المناسبات، إلى عبء على الصغير والشاب، الذي ينسى إن هذه الرحلة في حياة هؤلاء الشيوخ هي اهم رحلة في حياتهم، وقد تكون أيضاً الرحلة الأخيرة .
إن مرحلة الانتظار الطويلة قبل الوصول إلى مكة جعلت ملامح التعب تبدو على وجوه الحجاج، ولم ألمس ذلك على وجه جدتي، التي كانت سعادتها لا توصف، ليس فقط لأنها تقوم بفريضة الحج بل لأنها كانت تغادر البلد للمرة الأولى في حياتها، لذلك كانت حريصة على التمتع بكل لحظة من لحظات سفرها، وكانت حريصة أيضا على عدم ابداء أي تذمر أو شكوى كما كان يفعل غيرها من الحجاج ممن هم اصغر منها سنا بكثير.
كنت أقارن سفرنا المريح مع سفر الحجاج قديما والذي كان يستغرق سنة كاملة في بعض الأحيان، يسافر فيها الحج برا أو بحرا، على ظهور الجمال أو على متن الباخرة، وكذلك كنت اقارن بين سفر الطائرة وسفر البر ، حيث يأتي الحجاج من كافة اقطار الأرض، متكبدين المعاناة بكل فرح وسرور، ملبين دعوة الله سبحانه وتعالى، الذي يقول : " وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ".
ولكن على رغم هذه المقارنة بين سفر البر وسفر البحر، إلا انه يبقى في النهاية سفر، ويطبق عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السفر قطعة من العذاب" ، لهذا كان من الطبيعي ان يشعر الحجاج الذين كانوا يقومون بالمناسك للمرة الأولى، بالتعب والارهاق, بينما لم يكن هذا باديا على وجوه المعرفين والشيوخ والحجاج الذين سبق لهم القيام بهذه الرحلة، فبدأوا بالتلبية ونحن في الطريق إلى الفندق من أجل أخذ قسط من الراحة قبل القيام بطواف القدوم في اليوم التالي....
ما أن وصلنا إلى الفندق حتى بدأ القائمون على الرحلة بتقسيم الغرف، وما فاجأني في هذا الموضوع هو الخلافات والمشاحنات التي كانت تتم بين هؤلاء وبين الحجاج، الذي من المفترض انهم بعزمهم القيام برحلة الحج يدركون معنى قول الله تعالى"فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج". إلا أن هذا الأمر لم يحدث، فقد كان معظمهم حريص على الحصول على أفضل الغرف، وحريص أيضا على تأمين كل وسائل الراحة الموجودة، وكانوا يحتجون على نوعية الطعام ( ومن بينهم جدتي)، و كان أحدهم لا يتورع عن التشاجر في حال قام غيره بالجلوس مكانه على المقعد، وكان منهم من يتشاجر مع المعرِّف أو مع سائق الباص من اجل أمور تافهة لا ينبغي التركيز عليها في الظروف العادية، فكيف في رحلة الحج !! فهذه الرحلة ليست برحلة ترفيهية، وانما هي رحلة تطهيرية يرجع الانسان من بعدها كيوم ولدته أمه. وهي أيضا رحلة تهذيبية تهذب فيها الروح و تزكي فيها النفس، فهل يحصل ذلك مع جميع الحجاج ؟ أم ان نصيب معظمهم هو التعب والنصب؟
إلا انه لا بد من بعض الانصاف عبر ذكر بعض التجاوزات التي تقوم بها بعض الشركات المشرفة على مثل تلك الرحلات، حيث تستخدم اسلوب الخداع والمراوغة من اجل جذب الحجاج، فتقوم برفع اسعار حملاتها تحت حجة تميّزها بخصائص لا توجد لدى غيرها، ولكن ما أن يصل الحجاج إلى البلاد المقدسة، حتى يدركوا بأنهم تعرضوا للخداع والغش من قبل اشخاص يفترض بهم أن يكونوا نموذجا للشرف والصدق كونهم ينظمون مثل هذه الرحلات الدينية.
لقد كان لكبر سن جدتي أثره في تخليها عن القيام ببعض المناسك ، مثل رمي الجمرات، حيث وكّلت بذلك أحد المعرفين وبقيت هي تنتظر في الباص، وكذلك كان لديها بعض التسهيلات الأخرى، مثل القيام بالطواف على حمالة. ولقد كنا نشعر ونحن نراها تنقل محمولة بسرعة بأنها مرتاحة في مقعدها, ولكنها اخبرتنا بانها تعبت كثيرا نتيجة الهز الشديد الذي كان الحمالون يهزونها بها وهم يحاولون الانتهاء بسرعة منها من أجل الاستفادة من حمل حاج آخر.
إن موقف هؤلاء المطوعين "العاملين بالقطعة" ، إضافة إلى بعض "مفتولي العضلات" الذين يدوسون الآخرين كالجرافات ، قد تسبب في العديد من مواسم الحج بوفاة عدد من الحجاج وخاصة كبار السن منهم، والذين يعجزون عن الدفاع عن انفسهم وسط الزحمة الخانقة، فيقعون ارضا ويتم دهسهم بالأرجل .
لقد كان مما استوقفني في موضوع حج كبار السن وما يعانونه في رحلتهم رؤيتي لأحد الأشخاص وهو يحمل امرأة عجوز على رقبته في الطواف، فتخيلت مدى فرحة تلك المرأة بوفاء ابنها وبره بها . و ذكرني هذا الموقف بما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه الذي رأى رجل يحمل أمه على ظهره ، فسأله الرجل : لقد حججت بأمي وهي على ظهري ، أتراني وفيتها حقها يا ابن عمر؟ فقال له عبد الله بن عمر: ولا بطلقة ، أي ولا بطلقة واحدة من آلام الوضع عندما ولدته.
إن مثل هذه المواقف من البر ورعاية الوالدين في الحج لا ينبغي ان تعتبر تشجيعا على تأخير هذه الفريضة حتى الوصول إلى سن الشيخوخة، كما يفعل بعض الناس ممن يربطون بين الحج والشيخوخة، فإذا سألت أحدهم، هل ذهبت إلى الحج؟ أجابك مستغربا: " لا زال لدي وقت، لا زلت صغيرا في السن ؟
إن الحج يحتاج إلى الصحة والشباب، ويحتاج ايضا إلى جهد بشري شديد لا يقدر عليه الشيوخ عادة... كما ان تأخير قضاء مناسك الحج قد يحول بين التمتع ببعض المناسك المندوبة، او يحول دون القيام ببعض الرحلات الأثرية التي تذكر المسلم بتاريخه المجيد وبالمعارك الأولى التي قام بها المسلمون الأوائل، وهذا ما حدث مع جدتي، حيث كانت تبقى في البيت لنذهب نحن لقضاء بعض المناسك أو للصلاة في الحرم المكي.
ثم إن من فوائد الإسراع في القيام بفريضة الحج اسقاط الفرض عن المسلم، ذلك خشية ان يسبقه الموت قبل ان يتمكن من أداء هذه الفريضة الواجبة،فالموت لا يرتبط بالعمر. ويروى عن سعيد بن جبير، أحد ائمة السلف، كلمة معبرة في هذا المجال يقول فيها: "لو علمت في البلد التي أعيش فيها غنيا من الأغنياء كان يستطيع أن يحج, ومات ولم يحج , ما صليت عليه الجنازة " ، ويروى عن ابن عباس في تفسير قول الله تبارك وتعالى :" حتى إذا جاء أحدهم الموت ,قال رب أرجعون لعلى أعمل صالحا فيما تركت " قال ابن عباس في تفسير "فيما تركت "أنه الحج والزكاة.
إن تذكر رحلة الحج بتفاصيلها امر ليس بالسهل، فالمرء يتذكر الأشياء التي تؤثر فيه، ولكن جدتي ظلت تتذكرها وترويها لزوارها حتى الرمق الاخير، ولعل أكثر ما أثّر فيها هو تمكنها من الدخول إلى الروضة الشريفة والصلاة فيها، وذلك الأحساس الجميل الذي راودها وهي في رحاب الحرم النبوي الشريف.
كانت سعادة جدتي بتلك الرحلة لا توصف، وكانت تحرص منذ وصولها إلى أرض الوطن على استقبال المهنئين بعودتها بالسلامة وهي متشحة بالثياب البيضاء، تخبرهم بالحج ومشقته، وتنصحهم بعدم تفويت الفرصة عليهم ، وبالاسراع في القيام بهذه الفريضة قبل ان يتقدم العمر وتقل الهمة، وكانت لا تنسى في كل مرة أن تشكر الله عز وجل الذي امدها بالعمر حتى تقضي مناسك الحج ، مبدية بعد ذلك استعدادها لملاقاة ربها بعد ان انهت فروضها .
.. ولكن الله سبحانه وتعالى لم يستجب لطلبها وبقيت تشكر ربها على نعمة الحج حتى انتقلت الى جوار ربها منذ بضعة اشهر .... رحمها الله وأدخلها فسيح جناته .
في موسم الحج... تحية إلى جدتي
د. نهى عدنان قاطرجي
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى