مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
عمود الإسلام مكانتها وتاريخ فرضها
الحمد لله العليم الحكيم؛ شرع لعباده من العبادات ما به سعادتهم في الدنيا، وفوزهم في الآخرة، نحمده على عظيم مَنِّه وإحسانه، ونشكره على تتابع نعمه وجزيل عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وسع كل شيء رحمة وعلما ففتح أبواب الرحمة لخلقه وعلمهم ما ينفعهم [فَاذْكُرُوا الله كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ] {البقرة:239} وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله؛ أرسله الله تعالى بالنور والهدى، ففتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم -عباد الله- بتقوى الله تعالى؛ فإن النجاة والفلاح في التقوى [وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] {الزُّمر:61} .
أيها المسلمون: نعم الله تعالى على عباده لا تحصى؛ خلقهم من العدم، ورباهم بالنعم، وهداهم إلى ما ينفعهم، وصرف عنهم ما يضرهم، وحذرهم مما يوبقهم ويهلكهم [وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ] {إبراهيم:34}.
وكثير من الناس لا يبصرون من نعم الله تعالى إلا النعم الدنيوية الحسية كالصحة والعافية والمال والولد والتمتع بالمآكل والمشارب والملابس والمراكب وغيرها من المتع والملذات الزائلة، ويغْفُلُون عن النعم الدينية التي شرعها الله تعالى لهم، وهداهم إليها، وهي أعظم أثرا على العباد، وأكثر نفعا لهم، فلا يرون فيها إلا أنها تكاليفُ شرعية، وفرائض ربانية يؤجرون على أدائها، ويعاقبون على التفريط فيها.
وقليل من الناس من يدرك المعاني العظيمة لهذه الفرائض والعبادات، وأثرها في صلاح قلوب العباد، واستقامة أمورهم، وهناء عيشهم بها، فهي جنة الدنيا الموصلة إلى جنة الآخرة، وواجب على العباد أن يشكروا الله تعالى حين شرعها لهم، وأوجبها عليهم، ثم يشكروه سبحانه على ما هداهم لمعرفتها، ووفقهم لأدائها؛ فكم من جاهل لم يعلمها، وكم من محروم فرط في أدائها، وكم من مستكبر أعرض عنها؟!
والصلاة أعظم الفرائض في الإسلام بعد الشهادتين، وهي عموده الذي لا قوام له إلا بها، ولا حظَّ في الإسلام لمن تركها، ومن ضيَّعها فقد ضيَّع دينه، وهو لما سواها أضيع فلا أمانة له.
والصلاة مشتملة على أحسن الأقوال وأفضل الأفعال، فمن أقوالها التكبير وقراءة القرآن والتسبيح وأنواع الذكر والدعاء، ومن أفعالها القنوت والركوع والسجود وقد بلغت الغاية في الذل والتعظيم لله تعالى.
ومما يدل على مكانة الصلاة، وعظيم منزلتها عند الرب جل جلاله: أنّ الملائكة والنبيين يتقربون إلى الله تعالى بها ، وهم أفضل خلق الله تعالى، وأعلمهم به سبحانه.
والبيت المعمور في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يصلون فيه لله تعالى؛ كما في حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء:( فَرُفِعَ لي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فقال: هذا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فيه كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إذا خَرَجُوا لم يَعُودُوا إليه آخِرَ ما عليهم) متفق عليه. فسبحان من تعبَّدوا له، وسبحان من أحصاهم عددا، وأحاط بهم علما.
وأما الأنبياء عليهم السلام فإنّ القرآن مليء بذكر قنوتهم وسجودهم وركوعهم وصلاتهم.
وفي الإسلام كانت الصلاة من أوائل الأعمال التي دُعي النبي عليه الصلاة والسلام لإقامتها، وجاء في بعض السور المكية الأمر بها؛ كما في سورة الروم [مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ] {الرُّوم:31} .
بل إنّ أول سورة نزلت وهي اقرأ، جاء في تكملتها بعد نزول المدثر [كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ] {العلق:19} فأَطلق سبحانه السجود وأراد الصلاة؛ لأنّ السجود أخص صفاتها، ورَبَط بين السجود والاقتراب من الله تعالى، وهذا مما يدل لأول وهلة أنّ الصلاة أعظم قربة إلى الله تعالى؛ إذ وجَّه إليها رسوله صلى الله عليه وسلم من أول الأمر.
ودلت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم على أنه كان يصلي هو ومن آمن معه في أول الإسلام وهم قليل، وورد في مسند الإمام أحمد أنّ أول شيء جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن علمه الوضوء والصلاة، وأخبر عَفِيفٌ الكنديُ رضي الله عنه أنه قدم إلى مكة عند العباس رضي الله عنه في أول مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال عفيف (فَوَ الله إني لَعِنْدَهُ بِمِنًى إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ من خِبَاءٍ قَرِيبٍ منه فَنَظَرَ إلى الشَّمْسِ فلما رَآهَا مَالَتْ يَعْنِى قام يصلي، قال: ثُمَّ خَرَجَتِ امْرَأَةٌ من ذلك الْخِبَاءِ الذي خَرَجَ منه ذلك الرَّجُلُ فَقَامَتْ خَلْفَهُ تُصَلِّى، ثُمَّ خَرَجَ غُلاَمٌ حين رَاهَقَ الْحُلُمَ من ذلك الْخِبَاءِ فَقَامَ معه يصلي، قال فقلت لِلْعَبَّاسِ: من هذا يا عَبَّاسُ؟ قال: هذا محمد ابنُ أخي، قال: فقلت: من هذه الْمَرْأَةِ؟ قال: هذه امْرَأَتُهُ خَدِيجَةُ ابْنَةُ خُوَيْلِدٍ، قال: قلت: من هذا الْفَتَى؟ قال: هذا علي بنُ أَبِي طَالِبٍ ابن عَمِّهِ، قال: فقلت: فما هذا الذي يَصْنَعُ؟ قال: يصلي، وهو يَزْعُمُ أنه نبي ولم يَتْبَعْهُ على أَمْرِهِ إلا امْرَأَتُهُ وابن عَمِّهِ هذا الْفَتَى، وهو يَزْعُمُ أنه سَيُفْتَحُ عليه كُنُوزُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، قال: فَكَانَ عَفِيفٌ يقول: لو كان اللهُ رزقني الإِسْلاَمَ يَوْمَئِذٍ فأكون ثَالِثاً مع علي بن أَبِى طَالِبٍ رضي الله عنه) رواه أحمد وصححه الحاكم.
وجاء في السيرة النبوية أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه كانوا يصلون صلاتين: الأولى في أول النهار والثانية في آخره قبل أن تفرض الصلوات الخمس.
ثم كان تتويج الصلاة ما وقع في الإسراء والمعراج؛ إذ صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما فوق السماء السابعة حتى سمع صريف الأقلام تكتب القدر، فأخذ فريضة الصلاة عن ربه جل جلاله مباشرة بلا واسطة، وكلَّمه الله تعالى بها خمسين صلاة ثم خففها إلى خمس في الأداء، خمسين في الأجر والمثوبة؛ كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:( فَفَرَضَ الله على أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً قال: فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حتى أَمُرَّ بِمُوسَى فقال مُوسَى عليه السَّلَام: مَاذَا فَرَضَ رَبُّكَ على أُمَّتِكَ؟ قال: قلت: فَرَضَ عليهم خَمْسِينَ صَلَاةً، قال لي مُوسَى عليه السَّلَام: فَرَاجِعْ رَبَّكَ فإن أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذلك، قال: فَرَاجَعْتُ رَبِّي فَوَضَعَ شَطْرَهَا، قال: فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى عليه السَّلَام فَأَخْبَرْتُهُ، قال: رَاجِعْ رَبَّكَ فإن أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذلك، قال: فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فقال: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، قال: فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى فقال: رَاجِعْ رَبَّكَ، فقلت: قد اسْتَحْيَيْتُ من رَبِّي) متفق عليه. وفي رواية للبخاري:( فَنُودِيَ: إني قد أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عن عِبَادِي).
وجاء في سنن النسائي من حديث جابر رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام نزل من السماء يُعلِّم النبي صلى الله عليه وسلم مواقيت الصلاة، ويصلي به كلَّ صلاة في وقتها، والناسُ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتمون به، وهو يأتم بجبريل عليه السلام.
وكانت الصلاةُ الرباعية في أول الأمر ركعتين ثم أُتمت صلاةُ الحضر إلى أربع، وبقيت صلاة السفر ركعتين؛ كما في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت:(فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ في الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ في صَلَاةِ الْحَضَرِ)رواه الشيخان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: روي أنّ الصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، ثم فُرضت الخمسُ ليلة المعراج وكانت ركعتين ركعتين، فلما هاجر أُقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر، وكانت الصلاة تُكْمَلُ شيئا بعد شيء، فكانوا أولا يتكلمون في الصلاة ولم يكن فيها تشهد، ثم أُمروا بالتشهد وحُرِّم عليهم الكلام، وكذلك لم يكن بمكة لهم أذان وإنما شُرِع الأذان بالمدينة بعد الهجرة.اهـ
هذا؛ وقد استقرت صلاةُ المسلمين على ما هي عليه، وكانت مساجد المسلمين معمورة بها في شتى الأقطار منذ أن فرضها الله تعالى عليهم قبل أربعة عشر قرنا وزيادة، ولا زالت كذلك بحمد الله تعالى، ولم يُنقِص المسلمون منها شيئا، أو يزيدوا فيها شيئا، ولم يختلفوا في هيئتها أو عددها أو عدد ركعاتها أو أفعالها، فهي هي كما فرضها رب العالمين؛ فالحمد لله الذي شرعها وفرضها، والحمد لله الذي حفظها، والحمد لله الذي هدانا لها، ونسأله عز وجل أن يعيننا على القيام بها كما يحب ربنا ويرضى...
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ] {البقرة:281}
أيها المسلمون: إنّ من أعظم النعم التي هُدينا إليها؛ الصلاة المفروضة، وواجبٌ علينا أن نشكر الله تعالى عليها دائما وأبدا، ومن شكره عز وجل المحافظة عليها، وتعظيم شأنها، والقيام بما يجب لها.
وإنّ مما يلاحظ - أيها الإخوة - أنّ بين حادثة المعراج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء وتكليم الرب عز وجل له وبين الصلاة ارتباطا وثيقا؛ إذ الصلاة قد فرضت خمس صلوات في هذه الحادثة العظيمة، وقبل رحلة الإسراء والمعراج شُقَّ صدر النبي صلى الله عليه وسلم واستخرج قلبه وغسل بماء زمزم؛ استعدادا للصعود إلى السماء، وتهيئته لمناجاة الرب جل جلاله، التي ينبغي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فيها على أطهر حال وأكمله.
والمسلم قبل أن يناجي ربه في صلاته فُرِض عليه أن يتطهر بالوضوء الذي شرعه الله تعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أكرمه ربه عز وجل ليلة الإسراء فناجاه وكلمه، والمصلي إذا أحرم بصلاته فإنه يناجي ربه عز وجل؛ فشُرِع له القنوت والخشوع، ومُنِع من الالتفات ومن الحركة ومن رفع بصره إلى الأعلى، كما مُنِع من الكلام بغير أذكار الصلاة، ومن أيِّ فعل سوى أفعال الصلاة، روى أَنَسٌ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:( إِنَّ أَحَدَكُمْ إذا قام في صَلَاتِهِ فإنه يُنَاجِي رَبَّهُ أو إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ)رواه البخاري.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاور الرب جل جلاله ليلة الإسراء في تخفيف الصلاة من خمسين إلى خمس؛ فإنّ المصلي إذا شرع في قراءة الفاتحة فإنه يحاور ربه عز وجل؛ كما جاء في حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي ما سَأَلَ فإذا قال الْعَبْدُ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي وإذا قال الرحمن الرَّحِيمِ قال الله تَعَالَى أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وإذا قال مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال مَجَّدَنِي عَبْدِي وقال مَرَّةً فَوَّضَ إلي عَبْدِي فإذا قال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال هذا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي ما سَأَلَ فإذا قال اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عليهم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ قال هذا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي ما سَأَلَ) رواه مسلم.
فإذا كانت هذه عظمة الصلاة، وفخامة شأنها، وتلك هي منزلتها عند رب العالمين فحري بكل مسلم ومسلمة أن يولوها جُلَّ عنايتهم، وعظيم اهتمامهم، وأن يؤدوها كما أمرهم الله تعالى، وأن يقدموها على كل أمر من أمور الدنيا مهما عظم شأنه؛ فإن ثوابها يبقى وإن الدنيا تزول.
مَنْ مِنَ المصلين إذا أراد الإحرام بها استحضر أنها عمود الإسلام، وركنه الأول بعد الشهادتين، وأن الله تعالى فرضها من فوق سبع سموات، وكلَّم بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم مباشرة؟!
مَنْ مِن المصلين يستشعر أنه متى ما كبر تكبيرة الإحرام فإنه قد دخل في مناجاة مع رب العالمين، وخالق الخلق أجمعين، ومن بيده أرزاق العباد وآجالهم، ومَن عنده خزائن كل شيء؟!
فمَن استشعر ذلك أعطى الصلاة حظها من الخشوع والذل لله تعالى، وحضر قلبه فيها، ولم يشغله شيء عنها، فكان من المفلحين الذين هم في صلاتهم خاشعون...وصلوا وسلموا..
عمود الإسلام مكانتها وتاريخ فرضها
الحمد لله العليم الحكيم؛ شرع لعباده من العبادات ما به سعادتهم في الدنيا، وفوزهم في الآخرة، نحمده على عظيم مَنِّه وإحسانه، ونشكره على تتابع نعمه وجزيل عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وسع كل شيء رحمة وعلما ففتح أبواب الرحمة لخلقه وعلمهم ما ينفعهم [فَاذْكُرُوا الله كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ] {البقرة:239} وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله؛ أرسله الله تعالى بالنور والهدى، ففتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم -عباد الله- بتقوى الله تعالى؛ فإن النجاة والفلاح في التقوى [وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] {الزُّمر:61} .
أيها المسلمون: نعم الله تعالى على عباده لا تحصى؛ خلقهم من العدم، ورباهم بالنعم، وهداهم إلى ما ينفعهم، وصرف عنهم ما يضرهم، وحذرهم مما يوبقهم ويهلكهم [وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ] {إبراهيم:34}.
وكثير من الناس لا يبصرون من نعم الله تعالى إلا النعم الدنيوية الحسية كالصحة والعافية والمال والولد والتمتع بالمآكل والمشارب والملابس والمراكب وغيرها من المتع والملذات الزائلة، ويغْفُلُون عن النعم الدينية التي شرعها الله تعالى لهم، وهداهم إليها، وهي أعظم أثرا على العباد، وأكثر نفعا لهم، فلا يرون فيها إلا أنها تكاليفُ شرعية، وفرائض ربانية يؤجرون على أدائها، ويعاقبون على التفريط فيها.
وقليل من الناس من يدرك المعاني العظيمة لهذه الفرائض والعبادات، وأثرها في صلاح قلوب العباد، واستقامة أمورهم، وهناء عيشهم بها، فهي جنة الدنيا الموصلة إلى جنة الآخرة، وواجب على العباد أن يشكروا الله تعالى حين شرعها لهم، وأوجبها عليهم، ثم يشكروه سبحانه على ما هداهم لمعرفتها، ووفقهم لأدائها؛ فكم من جاهل لم يعلمها، وكم من محروم فرط في أدائها، وكم من مستكبر أعرض عنها؟!
والصلاة أعظم الفرائض في الإسلام بعد الشهادتين، وهي عموده الذي لا قوام له إلا بها، ولا حظَّ في الإسلام لمن تركها، ومن ضيَّعها فقد ضيَّع دينه، وهو لما سواها أضيع فلا أمانة له.
والصلاة مشتملة على أحسن الأقوال وأفضل الأفعال، فمن أقوالها التكبير وقراءة القرآن والتسبيح وأنواع الذكر والدعاء، ومن أفعالها القنوت والركوع والسجود وقد بلغت الغاية في الذل والتعظيم لله تعالى.
ومما يدل على مكانة الصلاة، وعظيم منزلتها عند الرب جل جلاله: أنّ الملائكة والنبيين يتقربون إلى الله تعالى بها ، وهم أفضل خلق الله تعالى، وأعلمهم به سبحانه.
والبيت المعمور في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يصلون فيه لله تعالى؛ كما في حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء:( فَرُفِعَ لي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فقال: هذا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فيه كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إذا خَرَجُوا لم يَعُودُوا إليه آخِرَ ما عليهم) متفق عليه. فسبحان من تعبَّدوا له، وسبحان من أحصاهم عددا، وأحاط بهم علما.
وأما الأنبياء عليهم السلام فإنّ القرآن مليء بذكر قنوتهم وسجودهم وركوعهم وصلاتهم.
وفي الإسلام كانت الصلاة من أوائل الأعمال التي دُعي النبي عليه الصلاة والسلام لإقامتها، وجاء في بعض السور المكية الأمر بها؛ كما في سورة الروم [مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ] {الرُّوم:31} .
بل إنّ أول سورة نزلت وهي اقرأ، جاء في تكملتها بعد نزول المدثر [كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ] {العلق:19} فأَطلق سبحانه السجود وأراد الصلاة؛ لأنّ السجود أخص صفاتها، ورَبَط بين السجود والاقتراب من الله تعالى، وهذا مما يدل لأول وهلة أنّ الصلاة أعظم قربة إلى الله تعالى؛ إذ وجَّه إليها رسوله صلى الله عليه وسلم من أول الأمر.
ودلت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم على أنه كان يصلي هو ومن آمن معه في أول الإسلام وهم قليل، وورد في مسند الإمام أحمد أنّ أول شيء جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن علمه الوضوء والصلاة، وأخبر عَفِيفٌ الكنديُ رضي الله عنه أنه قدم إلى مكة عند العباس رضي الله عنه في أول مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال عفيف (فَوَ الله إني لَعِنْدَهُ بِمِنًى إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ من خِبَاءٍ قَرِيبٍ منه فَنَظَرَ إلى الشَّمْسِ فلما رَآهَا مَالَتْ يَعْنِى قام يصلي، قال: ثُمَّ خَرَجَتِ امْرَأَةٌ من ذلك الْخِبَاءِ الذي خَرَجَ منه ذلك الرَّجُلُ فَقَامَتْ خَلْفَهُ تُصَلِّى، ثُمَّ خَرَجَ غُلاَمٌ حين رَاهَقَ الْحُلُمَ من ذلك الْخِبَاءِ فَقَامَ معه يصلي، قال فقلت لِلْعَبَّاسِ: من هذا يا عَبَّاسُ؟ قال: هذا محمد ابنُ أخي، قال: فقلت: من هذه الْمَرْأَةِ؟ قال: هذه امْرَأَتُهُ خَدِيجَةُ ابْنَةُ خُوَيْلِدٍ، قال: قلت: من هذا الْفَتَى؟ قال: هذا علي بنُ أَبِي طَالِبٍ ابن عَمِّهِ، قال: فقلت: فما هذا الذي يَصْنَعُ؟ قال: يصلي، وهو يَزْعُمُ أنه نبي ولم يَتْبَعْهُ على أَمْرِهِ إلا امْرَأَتُهُ وابن عَمِّهِ هذا الْفَتَى، وهو يَزْعُمُ أنه سَيُفْتَحُ عليه كُنُوزُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، قال: فَكَانَ عَفِيفٌ يقول: لو كان اللهُ رزقني الإِسْلاَمَ يَوْمَئِذٍ فأكون ثَالِثاً مع علي بن أَبِى طَالِبٍ رضي الله عنه) رواه أحمد وصححه الحاكم.
وجاء في السيرة النبوية أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه كانوا يصلون صلاتين: الأولى في أول النهار والثانية في آخره قبل أن تفرض الصلوات الخمس.
ثم كان تتويج الصلاة ما وقع في الإسراء والمعراج؛ إذ صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما فوق السماء السابعة حتى سمع صريف الأقلام تكتب القدر، فأخذ فريضة الصلاة عن ربه جل جلاله مباشرة بلا واسطة، وكلَّمه الله تعالى بها خمسين صلاة ثم خففها إلى خمس في الأداء، خمسين في الأجر والمثوبة؛ كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:( فَفَرَضَ الله على أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً قال: فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حتى أَمُرَّ بِمُوسَى فقال مُوسَى عليه السَّلَام: مَاذَا فَرَضَ رَبُّكَ على أُمَّتِكَ؟ قال: قلت: فَرَضَ عليهم خَمْسِينَ صَلَاةً، قال لي مُوسَى عليه السَّلَام: فَرَاجِعْ رَبَّكَ فإن أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذلك، قال: فَرَاجَعْتُ رَبِّي فَوَضَعَ شَطْرَهَا، قال: فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى عليه السَّلَام فَأَخْبَرْتُهُ، قال: رَاجِعْ رَبَّكَ فإن أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذلك، قال: فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فقال: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، قال: فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى فقال: رَاجِعْ رَبَّكَ، فقلت: قد اسْتَحْيَيْتُ من رَبِّي) متفق عليه. وفي رواية للبخاري:( فَنُودِيَ: إني قد أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عن عِبَادِي).
وجاء في سنن النسائي من حديث جابر رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام نزل من السماء يُعلِّم النبي صلى الله عليه وسلم مواقيت الصلاة، ويصلي به كلَّ صلاة في وقتها، والناسُ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتمون به، وهو يأتم بجبريل عليه السلام.
وكانت الصلاةُ الرباعية في أول الأمر ركعتين ثم أُتمت صلاةُ الحضر إلى أربع، وبقيت صلاة السفر ركعتين؛ كما في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت:(فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ في الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ في صَلَاةِ الْحَضَرِ)رواه الشيخان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: روي أنّ الصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، ثم فُرضت الخمسُ ليلة المعراج وكانت ركعتين ركعتين، فلما هاجر أُقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر، وكانت الصلاة تُكْمَلُ شيئا بعد شيء، فكانوا أولا يتكلمون في الصلاة ولم يكن فيها تشهد، ثم أُمروا بالتشهد وحُرِّم عليهم الكلام، وكذلك لم يكن بمكة لهم أذان وإنما شُرِع الأذان بالمدينة بعد الهجرة.اهـ
هذا؛ وقد استقرت صلاةُ المسلمين على ما هي عليه، وكانت مساجد المسلمين معمورة بها في شتى الأقطار منذ أن فرضها الله تعالى عليهم قبل أربعة عشر قرنا وزيادة، ولا زالت كذلك بحمد الله تعالى، ولم يُنقِص المسلمون منها شيئا، أو يزيدوا فيها شيئا، ولم يختلفوا في هيئتها أو عددها أو عدد ركعاتها أو أفعالها، فهي هي كما فرضها رب العالمين؛ فالحمد لله الذي شرعها وفرضها، والحمد لله الذي حفظها، والحمد لله الذي هدانا لها، ونسأله عز وجل أن يعيننا على القيام بها كما يحب ربنا ويرضى...
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ] {البقرة:281}
أيها المسلمون: إنّ من أعظم النعم التي هُدينا إليها؛ الصلاة المفروضة، وواجبٌ علينا أن نشكر الله تعالى عليها دائما وأبدا، ومن شكره عز وجل المحافظة عليها، وتعظيم شأنها، والقيام بما يجب لها.
وإنّ مما يلاحظ - أيها الإخوة - أنّ بين حادثة المعراج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء وتكليم الرب عز وجل له وبين الصلاة ارتباطا وثيقا؛ إذ الصلاة قد فرضت خمس صلوات في هذه الحادثة العظيمة، وقبل رحلة الإسراء والمعراج شُقَّ صدر النبي صلى الله عليه وسلم واستخرج قلبه وغسل بماء زمزم؛ استعدادا للصعود إلى السماء، وتهيئته لمناجاة الرب جل جلاله، التي ينبغي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فيها على أطهر حال وأكمله.
والمسلم قبل أن يناجي ربه في صلاته فُرِض عليه أن يتطهر بالوضوء الذي شرعه الله تعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أكرمه ربه عز وجل ليلة الإسراء فناجاه وكلمه، والمصلي إذا أحرم بصلاته فإنه يناجي ربه عز وجل؛ فشُرِع له القنوت والخشوع، ومُنِع من الالتفات ومن الحركة ومن رفع بصره إلى الأعلى، كما مُنِع من الكلام بغير أذكار الصلاة، ومن أيِّ فعل سوى أفعال الصلاة، روى أَنَسٌ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:( إِنَّ أَحَدَكُمْ إذا قام في صَلَاتِهِ فإنه يُنَاجِي رَبَّهُ أو إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ)رواه البخاري.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاور الرب جل جلاله ليلة الإسراء في تخفيف الصلاة من خمسين إلى خمس؛ فإنّ المصلي إذا شرع في قراءة الفاتحة فإنه يحاور ربه عز وجل؛ كما جاء في حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي ما سَأَلَ فإذا قال الْعَبْدُ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي وإذا قال الرحمن الرَّحِيمِ قال الله تَعَالَى أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وإذا قال مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال مَجَّدَنِي عَبْدِي وقال مَرَّةً فَوَّضَ إلي عَبْدِي فإذا قال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال هذا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي ما سَأَلَ فإذا قال اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عليهم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ قال هذا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي ما سَأَلَ) رواه مسلم.
فإذا كانت هذه عظمة الصلاة، وفخامة شأنها، وتلك هي منزلتها عند رب العالمين فحري بكل مسلم ومسلمة أن يولوها جُلَّ عنايتهم، وعظيم اهتمامهم، وأن يؤدوها كما أمرهم الله تعالى، وأن يقدموها على كل أمر من أمور الدنيا مهما عظم شأنه؛ فإن ثوابها يبقى وإن الدنيا تزول.
مَنْ مِنَ المصلين إذا أراد الإحرام بها استحضر أنها عمود الإسلام، وركنه الأول بعد الشهادتين، وأن الله تعالى فرضها من فوق سبع سموات، وكلَّم بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم مباشرة؟!
مَنْ مِن المصلين يستشعر أنه متى ما كبر تكبيرة الإحرام فإنه قد دخل في مناجاة مع رب العالمين، وخالق الخلق أجمعين، ومن بيده أرزاق العباد وآجالهم، ومَن عنده خزائن كل شيء؟!
فمَن استشعر ذلك أعطى الصلاة حظها من الخشوع والذل لله تعالى، وحضر قلبه فيها، ولم يشغله شيء عنها، فكان من المفلحين الذين هم في صلاتهم خاشعون...وصلوا وسلموا..
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى