مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د. رياض بن محمد المسيميري
المرجئة
الخطبة الأولى
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان،
أمَّا بعدُ:
فإننا كثيراً ما نسمع من أخوان لنا، إذا نصحوا أو نهوا عن معصية ارتكبوها، أو ذنب ألموا به، نسمع منهم قولة حق أريد بها باطل، فيقولون: الله غفور رحيم، الله واسع المغفرة، الله لطيف بعباده، ربك جواد كريم، ثم يأخذون في سرد الآيات والأحاديث التي حفظوها عن ظهر قلب، والتي تتكلّم عن رحمة الله الواسعة والشاملة. بل ويتمادى بعضهم في الجهل بقدر خالقه ومولاه، فيقول:
ماذا تريد منا يا أخي؟!.
إننا نصلي ونصوم ونزكي ونحج ونتجنب والخمر والزنا، وغيرنا يفعل كذا وكذا! هناك أناس لا يصلون ويشربون الخمر، ويفعلون كذا وكذا! نحن ولله الحمد أحسن منهم كثيراً، نحن كذا ونحن كذا!.
ويبدأون في المنة على ربهم، وتعداد محاسنهم على غيرهم في عجب وتعالٍ وافتخار: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
من أدرى هؤلاء المساكين أنهم أحسنوا أعمالهم وقاموا بها بتجرد وإخلاص؟!.
ثم من أدراهم أن الله تعالى قد تقبلها منهم؟!.
ففي الحديث أن عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "أرأيت قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، أَهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويخافون الله؟ قال: لا يا ابنة الصديق!.إنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، ويخافون إلا يتقبل منهم".
وقد ذكر الله تعالى هذه الآية الكريمة في معرض آيات أخر تصف المؤمنين الصادقين فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).
فتأمل - رحمك الله - حال هؤلاء المؤمنين المسارعين في الخيرات، تراهم يقدمون أفضل الأعمال واجلّها، ويتجنبون أسوأها وأبشعها، ويتنافسون في الطاعات والقربات بقلوب وجلة خائفة مشفقة من عذاب الله ومقته، لأنهم يعرفون عظمة الإله الذي يعبدونه والرب يوحدونه.
ويوقنون كذلك بأن أيّ عبادة، مهما عظمت وحسنت وخلصت لا يمكن أبداً أن تفي بحق الله تعالى على عباده.
وإنما على الإنسان أن يبذل جهده وطاقته في صواب العمل والإخلاص فيه، ويكون بذلك من المؤمنين الصادقين الذين يعرفون قدر ربهم ومولاهم، ويلتمسون أسباب مغفرته.
أمّا أولئك المعجبون بأعمالهم وطاعاتهم فإن لم تدركهم عناية الله ورحمته فما أقرب تلك الأعمال والطاعات إلى الهباء المنثور، فإنّ العجب ممقوت وتزكية النفس ممنوعة.
يقول سبحانه: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ).
ويقول تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).
ويقول سبحانه: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). ويقول: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ).
وأما الذين يجعلون رحمة الله وشفقته على عباده دافعاً لهم إلى المعصية والأمن من مكر الله تعالى بهم، فبئس ما اعتقدوا، وبئس ما صنعوا!.
أليس هذا هو اللؤم بعينه؟!.
أليس هذا هو الجحود والجهل؟!.
أفيكون جزاء النعمة والرحمة هي المعصية والتمرد والإعراض؟!.
أفيكون جزاء الصحة والعافية والإمهال هو الجراءة على الذنوب والخطايا؟!.
إن أنت أكرمت الكريم ملكته ** وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا
كما تدل تلك المقالة من أولئك الناس على أنهم لا يعرفون حقيقة الرجاء ولا حقيقة الخوف، فيخلطون بين الرجاء والتمني، وبين الخوف والقنوط.
والدليل على أنهم يخلطون بين الرجاء والتمني أنهم إذا رأوا إنسانا مفرطاً في دينه واقعاً في معاصي الله تعالى، لكنه يردد في كل مناسبة: أسأل الله العفو والعافية، أرجو الله أن يغفر لي. قالوا: هذا إنسان يرجو رحمة ربه!.
ولا يعلم أولئك أن هذا يسمى متمنياً لا راجياً!، فإنّ حقيقة الرجاء هي فعل الطاعات واجتناب المحرمات ثم رجاء رحمة الله بعد ذلك.
وفي مثل هذا يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
فبعد أن آمنوا هاجروا، فتركوا الأهل والعشيرة والوطن، ثم جاهدوا وقاتلوا في سبيل الله، ثم بعد ذلك رجوا رحمة ربهم وسألوه مغفرته ورضوانه.
أمّا إعطاء النفس هواها ومقارفة الذنوب والآثام ثم رجاء رحمة الله ومغفرته بعد ذلك فهو التمني المذموم الذي لا يفيد صاحبه شيئاً ولا يزيده من ربه إلا بعداً:
(لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً).
فالأماني - أيها المسلمون - لا تنجي أحداً ولا تنفعه، ولكن القياس هو العمل والاجتهاد فيه، مع رجاء رحمة الله بعد ذلك.
أما خلطهم بين الخوف والقنوط، فإنهم إذا رأوا إنساناً يخاف الله ويخشاه، ويحتاط لدينه، ويتجنب كل صغيرة وكبيرة، ويحذر الشبهات، والريب ويخوفهم من ربهم وعذابه، ويتخولهم بالموعظة في مجالسهم أو مساجدهم، إذا رأوا مثل هذا الإنسان، التقي الورع قالوا أنه قنوط من رحمة ربه!.
فهكذا يخلطون بين الخوف والقنوط!.
بل ربما دعوه بكل جهل وحماقة إلى ترك هذا الخوف، وارتكاب ما يرتكبونه من منكرات، أو موافقة للشبهات، فالله غفور رحيم، والله جواد كريم، ورحمته سبقت غضبه، ويأخذون في تخذيل هذا المؤمن وتوهين عزمه ليدع الخوف ويأمن مكر الله.
ولو تدبر هؤلاء ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ترهيب للعصاة والمفرطين يهز القلوب الحيّة هزاً.
ولو درسوا سيرة سيد المرسلين وسير صحابته الأطهار وما فيها من قصص خوفهم العظيم من ربهم عزّ وجل، وإشفاقهم من ذنوبهم.
لو تدبروا هذا كله أو بعضه لتغيرت حالهم، ورقت قلوبهم من خشية الله تعالى، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا وأمامنا سيد الخائفين يقول: "لو تعلمون ما أعلم؛ لضحتكم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات، تجأرون إلى الله تعالى".
وكان عليه السلام إذا قرأ القرآن يسمع لجوفه أزير كأزير المرجل من البكاء، وكان يصلي من الليل، حتى تفطرت قدماه الشريفتان.
أما أبو بكر رضي الله عنه فكان يقول: "يا ليتني كنت شجرة تعضد، ثم تؤكل، أخاف أن يلقيني في النار ولا يبالي!".
وأما عمر رضي الله عنه فكان إذ أمّ الناس في الصلاة لا يُفهم صوته، يغلبه البكاء، وسمع مرة قارئاً يقرأ: (وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ) إلى قوله تعالى: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ). فمرض شهراً يعوده الناس.
هذا طرف من حياة القوم وخوفهم من الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه. وأشهد أنّ نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم الداعي على رضوانه، صلى الله عليه وآله وصحبه وإخوانه.
أما بعد :
فإنّ من ترك القلب مشحوناً برذائل الأخلاق وانغمس في طلب لذات الدنيا غير مبال أَمِنَ حلال هي أم من حرام، ورضي بالمنكر وواقعه، ثم انتظر مغفرة ربه، فانتظاره حمق وغرور وجهل وضلال، فالله تعالى يقول عن أمثال هؤلاء: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ).
فتأمل قوله تعالى: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا) أليست هي مقولة أولئك الواهمين، الذين يفعلون الذنوب ويقولون: (سَيُغْفَرُ لَنَا).
ثم تأمل قوله في نهاية الآية: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ) يعني أن ما قالوه وفق ما فهموه، باطل مفترى على الله تعالى، وليست الرحمة بقريبة من السادرين في عينهم، المستخفين بربهم: (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ).
وأما خوف الأنبياء والصالحين فليس لقنوطهم من رحمة الله، ولكن لشدة معرفتهم بربهم وعلمهم به سبحانه. وفيهم يقول الله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء).
كما أن خوفهم كذلك بسبب عدم أمنهم من مكر الله تعالى: (فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
وكيف يؤمن تغير الحال، والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبه كيف يشاء؟!.
عن المقداد بن الأسود، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقلب ابن آدم أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياً".
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
وكان معاذ رضي الله عنه يقول: "إنّ المؤمن لا يسكن روعة حتى يترك جسر جهنم وراءه".
ومن الأمن من مكر الله: استصغار الذنوب واحتقارها، فكثيراً ما نسمع: هذا ذنب يسير، وهذه صغيرة، وهذا لمم، وتلك كذبة بيضاء، أولا تهتموا بهذا القشور!. إلى غير ذلك من استهانة بالمنتقم الجبار، جل جلاله، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا". وأشار بيده الشريفة على أنفه عليه الصلاة والسلام.
إذاً فاستصغار الذنوب، بوادر الفجور، وقد قيل: لا تنظر إلى صغر المعصية وانظر إلى عظيم من عصيت.
فاتقوا الله عباد الله بتوبة نصوح، ودعوا حجج الشيطان وخداعه، واحذروا سوء الخاتمة وشؤم المعصية، ولنكن من الذين إذا سمعوا القول اتبعوا أحسنه (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا، وتلم بها شعثنا، وتثبت بها إيماننا، وتهدي بها ضالنا.
(رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ).
اللهم إنّا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
الخطبة الأولى
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان،
أمَّا بعدُ:
فإننا كثيراً ما نسمع من أخوان لنا، إذا نصحوا أو نهوا عن معصية ارتكبوها، أو ذنب ألموا به، نسمع منهم قولة حق أريد بها باطل، فيقولون: الله غفور رحيم، الله واسع المغفرة، الله لطيف بعباده، ربك جواد كريم، ثم يأخذون في سرد الآيات والأحاديث التي حفظوها عن ظهر قلب، والتي تتكلّم عن رحمة الله الواسعة والشاملة. بل ويتمادى بعضهم في الجهل بقدر خالقه ومولاه، فيقول:
ماذا تريد منا يا أخي؟!.
إننا نصلي ونصوم ونزكي ونحج ونتجنب والخمر والزنا، وغيرنا يفعل كذا وكذا! هناك أناس لا يصلون ويشربون الخمر، ويفعلون كذا وكذا! نحن ولله الحمد أحسن منهم كثيراً، نحن كذا ونحن كذا!.
ويبدأون في المنة على ربهم، وتعداد محاسنهم على غيرهم في عجب وتعالٍ وافتخار: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
من أدرى هؤلاء المساكين أنهم أحسنوا أعمالهم وقاموا بها بتجرد وإخلاص؟!.
ثم من أدراهم أن الله تعالى قد تقبلها منهم؟!.
ففي الحديث أن عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "أرأيت قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، أَهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويخافون الله؟ قال: لا يا ابنة الصديق!.إنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، ويخافون إلا يتقبل منهم".
وقد ذكر الله تعالى هذه الآية الكريمة في معرض آيات أخر تصف المؤمنين الصادقين فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).
فتأمل - رحمك الله - حال هؤلاء المؤمنين المسارعين في الخيرات، تراهم يقدمون أفضل الأعمال واجلّها، ويتجنبون أسوأها وأبشعها، ويتنافسون في الطاعات والقربات بقلوب وجلة خائفة مشفقة من عذاب الله ومقته، لأنهم يعرفون عظمة الإله الذي يعبدونه والرب يوحدونه.
ويوقنون كذلك بأن أيّ عبادة، مهما عظمت وحسنت وخلصت لا يمكن أبداً أن تفي بحق الله تعالى على عباده.
وإنما على الإنسان أن يبذل جهده وطاقته في صواب العمل والإخلاص فيه، ويكون بذلك من المؤمنين الصادقين الذين يعرفون قدر ربهم ومولاهم، ويلتمسون أسباب مغفرته.
أمّا أولئك المعجبون بأعمالهم وطاعاتهم فإن لم تدركهم عناية الله ورحمته فما أقرب تلك الأعمال والطاعات إلى الهباء المنثور، فإنّ العجب ممقوت وتزكية النفس ممنوعة.
يقول سبحانه: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ).
ويقول تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).
ويقول سبحانه: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). ويقول: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ).
وأما الذين يجعلون رحمة الله وشفقته على عباده دافعاً لهم إلى المعصية والأمن من مكر الله تعالى بهم، فبئس ما اعتقدوا، وبئس ما صنعوا!.
أليس هذا هو اللؤم بعينه؟!.
أليس هذا هو الجحود والجهل؟!.
أفيكون جزاء النعمة والرحمة هي المعصية والتمرد والإعراض؟!.
أفيكون جزاء الصحة والعافية والإمهال هو الجراءة على الذنوب والخطايا؟!.
إن أنت أكرمت الكريم ملكته ** وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا
كما تدل تلك المقالة من أولئك الناس على أنهم لا يعرفون حقيقة الرجاء ولا حقيقة الخوف، فيخلطون بين الرجاء والتمني، وبين الخوف والقنوط.
والدليل على أنهم يخلطون بين الرجاء والتمني أنهم إذا رأوا إنسانا مفرطاً في دينه واقعاً في معاصي الله تعالى، لكنه يردد في كل مناسبة: أسأل الله العفو والعافية، أرجو الله أن يغفر لي. قالوا: هذا إنسان يرجو رحمة ربه!.
ولا يعلم أولئك أن هذا يسمى متمنياً لا راجياً!، فإنّ حقيقة الرجاء هي فعل الطاعات واجتناب المحرمات ثم رجاء رحمة الله بعد ذلك.
وفي مثل هذا يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
فبعد أن آمنوا هاجروا، فتركوا الأهل والعشيرة والوطن، ثم جاهدوا وقاتلوا في سبيل الله، ثم بعد ذلك رجوا رحمة ربهم وسألوه مغفرته ورضوانه.
أمّا إعطاء النفس هواها ومقارفة الذنوب والآثام ثم رجاء رحمة الله ومغفرته بعد ذلك فهو التمني المذموم الذي لا يفيد صاحبه شيئاً ولا يزيده من ربه إلا بعداً:
(لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً).
فالأماني - أيها المسلمون - لا تنجي أحداً ولا تنفعه، ولكن القياس هو العمل والاجتهاد فيه، مع رجاء رحمة الله بعد ذلك.
أما خلطهم بين الخوف والقنوط، فإنهم إذا رأوا إنساناً يخاف الله ويخشاه، ويحتاط لدينه، ويتجنب كل صغيرة وكبيرة، ويحذر الشبهات، والريب ويخوفهم من ربهم وعذابه، ويتخولهم بالموعظة في مجالسهم أو مساجدهم، إذا رأوا مثل هذا الإنسان، التقي الورع قالوا أنه قنوط من رحمة ربه!.
فهكذا يخلطون بين الخوف والقنوط!.
بل ربما دعوه بكل جهل وحماقة إلى ترك هذا الخوف، وارتكاب ما يرتكبونه من منكرات، أو موافقة للشبهات، فالله غفور رحيم، والله جواد كريم، ورحمته سبقت غضبه، ويأخذون في تخذيل هذا المؤمن وتوهين عزمه ليدع الخوف ويأمن مكر الله.
ولو تدبر هؤلاء ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ترهيب للعصاة والمفرطين يهز القلوب الحيّة هزاً.
ولو درسوا سيرة سيد المرسلين وسير صحابته الأطهار وما فيها من قصص خوفهم العظيم من ربهم عزّ وجل، وإشفاقهم من ذنوبهم.
لو تدبروا هذا كله أو بعضه لتغيرت حالهم، ورقت قلوبهم من خشية الله تعالى، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا وأمامنا سيد الخائفين يقول: "لو تعلمون ما أعلم؛ لضحتكم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات، تجأرون إلى الله تعالى".
وكان عليه السلام إذا قرأ القرآن يسمع لجوفه أزير كأزير المرجل من البكاء، وكان يصلي من الليل، حتى تفطرت قدماه الشريفتان.
أما أبو بكر رضي الله عنه فكان يقول: "يا ليتني كنت شجرة تعضد، ثم تؤكل، أخاف أن يلقيني في النار ولا يبالي!".
وأما عمر رضي الله عنه فكان إذ أمّ الناس في الصلاة لا يُفهم صوته، يغلبه البكاء، وسمع مرة قارئاً يقرأ: (وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ) إلى قوله تعالى: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ). فمرض شهراً يعوده الناس.
هذا طرف من حياة القوم وخوفهم من الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه. وأشهد أنّ نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم الداعي على رضوانه، صلى الله عليه وآله وصحبه وإخوانه.
أما بعد :
فإنّ من ترك القلب مشحوناً برذائل الأخلاق وانغمس في طلب لذات الدنيا غير مبال أَمِنَ حلال هي أم من حرام، ورضي بالمنكر وواقعه، ثم انتظر مغفرة ربه، فانتظاره حمق وغرور وجهل وضلال، فالله تعالى يقول عن أمثال هؤلاء: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ).
فتأمل قوله تعالى: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا) أليست هي مقولة أولئك الواهمين، الذين يفعلون الذنوب ويقولون: (سَيُغْفَرُ لَنَا).
ثم تأمل قوله في نهاية الآية: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ) يعني أن ما قالوه وفق ما فهموه، باطل مفترى على الله تعالى، وليست الرحمة بقريبة من السادرين في عينهم، المستخفين بربهم: (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ).
وأما خوف الأنبياء والصالحين فليس لقنوطهم من رحمة الله، ولكن لشدة معرفتهم بربهم وعلمهم به سبحانه. وفيهم يقول الله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء).
كما أن خوفهم كذلك بسبب عدم أمنهم من مكر الله تعالى: (فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
وكيف يؤمن تغير الحال، والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبه كيف يشاء؟!.
عن المقداد بن الأسود، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقلب ابن آدم أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياً".
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
وكان معاذ رضي الله عنه يقول: "إنّ المؤمن لا يسكن روعة حتى يترك جسر جهنم وراءه".
ومن الأمن من مكر الله: استصغار الذنوب واحتقارها، فكثيراً ما نسمع: هذا ذنب يسير، وهذه صغيرة، وهذا لمم، وتلك كذبة بيضاء، أولا تهتموا بهذا القشور!. إلى غير ذلك من استهانة بالمنتقم الجبار، جل جلاله، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا". وأشار بيده الشريفة على أنفه عليه الصلاة والسلام.
إذاً فاستصغار الذنوب، بوادر الفجور، وقد قيل: لا تنظر إلى صغر المعصية وانظر إلى عظيم من عصيت.
فاتقوا الله عباد الله بتوبة نصوح، ودعوا حجج الشيطان وخداعه، واحذروا سوء الخاتمة وشؤم المعصية، ولنكن من الذين إذا سمعوا القول اتبعوا أحسنه (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا، وتلم بها شعثنا، وتثبت بها إيماننا، وتهدي بها ضالنا.
(رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ).
اللهم إنّا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
المرجئة
الخطبة الأولى
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان،
أمَّا بعدُ:
فإننا كثيراً ما نسمع من أخوان لنا، إذا نصحوا أو نهوا عن معصية ارتكبوها، أو ذنب ألموا به، نسمع منهم قولة حق أريد بها باطل، فيقولون: الله غفور رحيم، الله واسع المغفرة، الله لطيف بعباده، ربك جواد كريم، ثم يأخذون في سرد الآيات والأحاديث التي حفظوها عن ظهر قلب، والتي تتكلّم عن رحمة الله الواسعة والشاملة. بل ويتمادى بعضهم في الجهل بقدر خالقه ومولاه، فيقول:
ماذا تريد منا يا أخي؟!.
إننا نصلي ونصوم ونزكي ونحج ونتجنب والخمر والزنا، وغيرنا يفعل كذا وكذا! هناك أناس لا يصلون ويشربون الخمر، ويفعلون كذا وكذا! نحن ولله الحمد أحسن منهم كثيراً، نحن كذا ونحن كذا!.
ويبدأون في المنة على ربهم، وتعداد محاسنهم على غيرهم في عجب وتعالٍ وافتخار: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
من أدرى هؤلاء المساكين أنهم أحسنوا أعمالهم وقاموا بها بتجرد وإخلاص؟!.
ثم من أدراهم أن الله تعالى قد تقبلها منهم؟!.
ففي الحديث أن عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "أرأيت قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، أَهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويخافون الله؟ قال: لا يا ابنة الصديق!.إنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، ويخافون إلا يتقبل منهم".
وقد ذكر الله تعالى هذه الآية الكريمة في معرض آيات أخر تصف المؤمنين الصادقين فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).
فتأمل - رحمك الله - حال هؤلاء المؤمنين المسارعين في الخيرات، تراهم يقدمون أفضل الأعمال واجلّها، ويتجنبون أسوأها وأبشعها، ويتنافسون في الطاعات والقربات بقلوب وجلة خائفة مشفقة من عذاب الله ومقته، لأنهم يعرفون عظمة الإله الذي يعبدونه والرب يوحدونه.
ويوقنون كذلك بأن أيّ عبادة، مهما عظمت وحسنت وخلصت لا يمكن أبداً أن تفي بحق الله تعالى على عباده.
وإنما على الإنسان أن يبذل جهده وطاقته في صواب العمل والإخلاص فيه، ويكون بذلك من المؤمنين الصادقين الذين يعرفون قدر ربهم ومولاهم، ويلتمسون أسباب مغفرته.
أمّا أولئك المعجبون بأعمالهم وطاعاتهم فإن لم تدركهم عناية الله ورحمته فما أقرب تلك الأعمال والطاعات إلى الهباء المنثور، فإنّ العجب ممقوت وتزكية النفس ممنوعة.
يقول سبحانه: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ).
ويقول تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).
ويقول سبحانه: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). ويقول: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ).
وأما الذين يجعلون رحمة الله وشفقته على عباده دافعاً لهم إلى المعصية والأمن من مكر الله تعالى بهم، فبئس ما اعتقدوا، وبئس ما صنعوا!.
أليس هذا هو اللؤم بعينه؟!.
أليس هذا هو الجحود والجهل؟!.
أفيكون جزاء النعمة والرحمة هي المعصية والتمرد والإعراض؟!.
أفيكون جزاء الصحة والعافية والإمهال هو الجراءة على الذنوب والخطايا؟!.
إن أنت أكرمت الكريم ملكته ** وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا
كما تدل تلك المقالة من أولئك الناس على أنهم لا يعرفون حقيقة الرجاء ولا حقيقة الخوف، فيخلطون بين الرجاء والتمني، وبين الخوف والقنوط.
والدليل على أنهم يخلطون بين الرجاء والتمني أنهم إذا رأوا إنسانا مفرطاً في دينه واقعاً في معاصي الله تعالى، لكنه يردد في كل مناسبة: أسأل الله العفو والعافية، أرجو الله أن يغفر لي. قالوا: هذا إنسان يرجو رحمة ربه!.
ولا يعلم أولئك أن هذا يسمى متمنياً لا راجياً!، فإنّ حقيقة الرجاء هي فعل الطاعات واجتناب المحرمات ثم رجاء رحمة الله بعد ذلك.
وفي مثل هذا يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
فبعد أن آمنوا هاجروا، فتركوا الأهل والعشيرة والوطن، ثم جاهدوا وقاتلوا في سبيل الله، ثم بعد ذلك رجوا رحمة ربهم وسألوه مغفرته ورضوانه.
أمّا إعطاء النفس هواها ومقارفة الذنوب والآثام ثم رجاء رحمة الله ومغفرته بعد ذلك فهو التمني المذموم الذي لا يفيد صاحبه شيئاً ولا يزيده من ربه إلا بعداً:
(لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً).
فالأماني - أيها المسلمون - لا تنجي أحداً ولا تنفعه، ولكن القياس هو العمل والاجتهاد فيه، مع رجاء رحمة الله بعد ذلك.
أما خلطهم بين الخوف والقنوط، فإنهم إذا رأوا إنساناً يخاف الله ويخشاه، ويحتاط لدينه، ويتجنب كل صغيرة وكبيرة، ويحذر الشبهات، والريب ويخوفهم من ربهم وعذابه، ويتخولهم بالموعظة في مجالسهم أو مساجدهم، إذا رأوا مثل هذا الإنسان، التقي الورع قالوا أنه قنوط من رحمة ربه!.
فهكذا يخلطون بين الخوف والقنوط!.
بل ربما دعوه بكل جهل وحماقة إلى ترك هذا الخوف، وارتكاب ما يرتكبونه من منكرات، أو موافقة للشبهات، فالله غفور رحيم، والله جواد كريم، ورحمته سبقت غضبه، ويأخذون في تخذيل هذا المؤمن وتوهين عزمه ليدع الخوف ويأمن مكر الله.
ولو تدبر هؤلاء ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ترهيب للعصاة والمفرطين يهز القلوب الحيّة هزاً.
ولو درسوا سيرة سيد المرسلين وسير صحابته الأطهار وما فيها من قصص خوفهم العظيم من ربهم عزّ وجل، وإشفاقهم من ذنوبهم.
لو تدبروا هذا كله أو بعضه لتغيرت حالهم، ورقت قلوبهم من خشية الله تعالى، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا وأمامنا سيد الخائفين يقول: "لو تعلمون ما أعلم؛ لضحتكم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات، تجأرون إلى الله تعالى".
وكان عليه السلام إذا قرأ القرآن يسمع لجوفه أزير كأزير المرجل من البكاء، وكان يصلي من الليل، حتى تفطرت قدماه الشريفتان.
أما أبو بكر رضي الله عنه فكان يقول: "يا ليتني كنت شجرة تعضد، ثم تؤكل، أخاف أن يلقيني في النار ولا يبالي!".
وأما عمر رضي الله عنه فكان إذ أمّ الناس في الصلاة لا يُفهم صوته، يغلبه البكاء، وسمع مرة قارئاً يقرأ: (وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ) إلى قوله تعالى: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ). فمرض شهراً يعوده الناس.
هذا طرف من حياة القوم وخوفهم من الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه. وأشهد أنّ نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم الداعي على رضوانه، صلى الله عليه وآله وصحبه وإخوانه.
أما بعد :
فإنّ من ترك القلب مشحوناً برذائل الأخلاق وانغمس في طلب لذات الدنيا غير مبال أَمِنَ حلال هي أم من حرام، ورضي بالمنكر وواقعه، ثم انتظر مغفرة ربه، فانتظاره حمق وغرور وجهل وضلال، فالله تعالى يقول عن أمثال هؤلاء: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ).
فتأمل قوله تعالى: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا) أليست هي مقولة أولئك الواهمين، الذين يفعلون الذنوب ويقولون: (سَيُغْفَرُ لَنَا).
ثم تأمل قوله في نهاية الآية: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ) يعني أن ما قالوه وفق ما فهموه، باطل مفترى على الله تعالى، وليست الرحمة بقريبة من السادرين في عينهم، المستخفين بربهم: (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ).
وأما خوف الأنبياء والصالحين فليس لقنوطهم من رحمة الله، ولكن لشدة معرفتهم بربهم وعلمهم به سبحانه. وفيهم يقول الله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء).
كما أن خوفهم كذلك بسبب عدم أمنهم من مكر الله تعالى: (فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
وكيف يؤمن تغير الحال، والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبه كيف يشاء؟!.
عن المقداد بن الأسود، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقلب ابن آدم أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياً".
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
وكان معاذ رضي الله عنه يقول: "إنّ المؤمن لا يسكن روعة حتى يترك جسر جهنم وراءه".
ومن الأمن من مكر الله: استصغار الذنوب واحتقارها، فكثيراً ما نسمع: هذا ذنب يسير، وهذه صغيرة، وهذا لمم، وتلك كذبة بيضاء، أولا تهتموا بهذا القشور!. إلى غير ذلك من استهانة بالمنتقم الجبار، جل جلاله، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا". وأشار بيده الشريفة على أنفه عليه الصلاة والسلام.
إذاً فاستصغار الذنوب، بوادر الفجور، وقد قيل: لا تنظر إلى صغر المعصية وانظر إلى عظيم من عصيت.
فاتقوا الله عباد الله بتوبة نصوح، ودعوا حجج الشيطان وخداعه، واحذروا سوء الخاتمة وشؤم المعصية، ولنكن من الذين إذا سمعوا القول اتبعوا أحسنه (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا، وتلم بها شعثنا، وتثبت بها إيماننا، وتهدي بها ضالنا.
(رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ).
اللهم إنّا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
الخطبة الأولى
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان،
أمَّا بعدُ:
فإننا كثيراً ما نسمع من أخوان لنا، إذا نصحوا أو نهوا عن معصية ارتكبوها، أو ذنب ألموا به، نسمع منهم قولة حق أريد بها باطل، فيقولون: الله غفور رحيم، الله واسع المغفرة، الله لطيف بعباده، ربك جواد كريم، ثم يأخذون في سرد الآيات والأحاديث التي حفظوها عن ظهر قلب، والتي تتكلّم عن رحمة الله الواسعة والشاملة. بل ويتمادى بعضهم في الجهل بقدر خالقه ومولاه، فيقول:
ماذا تريد منا يا أخي؟!.
إننا نصلي ونصوم ونزكي ونحج ونتجنب والخمر والزنا، وغيرنا يفعل كذا وكذا! هناك أناس لا يصلون ويشربون الخمر، ويفعلون كذا وكذا! نحن ولله الحمد أحسن منهم كثيراً، نحن كذا ونحن كذا!.
ويبدأون في المنة على ربهم، وتعداد محاسنهم على غيرهم في عجب وتعالٍ وافتخار: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
من أدرى هؤلاء المساكين أنهم أحسنوا أعمالهم وقاموا بها بتجرد وإخلاص؟!.
ثم من أدراهم أن الله تعالى قد تقبلها منهم؟!.
ففي الحديث أن عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "أرأيت قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، أَهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويخافون الله؟ قال: لا يا ابنة الصديق!.إنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، ويخافون إلا يتقبل منهم".
وقد ذكر الله تعالى هذه الآية الكريمة في معرض آيات أخر تصف المؤمنين الصادقين فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).
فتأمل - رحمك الله - حال هؤلاء المؤمنين المسارعين في الخيرات، تراهم يقدمون أفضل الأعمال واجلّها، ويتجنبون أسوأها وأبشعها، ويتنافسون في الطاعات والقربات بقلوب وجلة خائفة مشفقة من عذاب الله ومقته، لأنهم يعرفون عظمة الإله الذي يعبدونه والرب يوحدونه.
ويوقنون كذلك بأن أيّ عبادة، مهما عظمت وحسنت وخلصت لا يمكن أبداً أن تفي بحق الله تعالى على عباده.
وإنما على الإنسان أن يبذل جهده وطاقته في صواب العمل والإخلاص فيه، ويكون بذلك من المؤمنين الصادقين الذين يعرفون قدر ربهم ومولاهم، ويلتمسون أسباب مغفرته.
أمّا أولئك المعجبون بأعمالهم وطاعاتهم فإن لم تدركهم عناية الله ورحمته فما أقرب تلك الأعمال والطاعات إلى الهباء المنثور، فإنّ العجب ممقوت وتزكية النفس ممنوعة.
يقول سبحانه: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ).
ويقول تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).
ويقول سبحانه: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). ويقول: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ).
وأما الذين يجعلون رحمة الله وشفقته على عباده دافعاً لهم إلى المعصية والأمن من مكر الله تعالى بهم، فبئس ما اعتقدوا، وبئس ما صنعوا!.
أليس هذا هو اللؤم بعينه؟!.
أليس هذا هو الجحود والجهل؟!.
أفيكون جزاء النعمة والرحمة هي المعصية والتمرد والإعراض؟!.
أفيكون جزاء الصحة والعافية والإمهال هو الجراءة على الذنوب والخطايا؟!.
إن أنت أكرمت الكريم ملكته ** وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا
كما تدل تلك المقالة من أولئك الناس على أنهم لا يعرفون حقيقة الرجاء ولا حقيقة الخوف، فيخلطون بين الرجاء والتمني، وبين الخوف والقنوط.
والدليل على أنهم يخلطون بين الرجاء والتمني أنهم إذا رأوا إنسانا مفرطاً في دينه واقعاً في معاصي الله تعالى، لكنه يردد في كل مناسبة: أسأل الله العفو والعافية، أرجو الله أن يغفر لي. قالوا: هذا إنسان يرجو رحمة ربه!.
ولا يعلم أولئك أن هذا يسمى متمنياً لا راجياً!، فإنّ حقيقة الرجاء هي فعل الطاعات واجتناب المحرمات ثم رجاء رحمة الله بعد ذلك.
وفي مثل هذا يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
فبعد أن آمنوا هاجروا، فتركوا الأهل والعشيرة والوطن، ثم جاهدوا وقاتلوا في سبيل الله، ثم بعد ذلك رجوا رحمة ربهم وسألوه مغفرته ورضوانه.
أمّا إعطاء النفس هواها ومقارفة الذنوب والآثام ثم رجاء رحمة الله ومغفرته بعد ذلك فهو التمني المذموم الذي لا يفيد صاحبه شيئاً ولا يزيده من ربه إلا بعداً:
(لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً).
فالأماني - أيها المسلمون - لا تنجي أحداً ولا تنفعه، ولكن القياس هو العمل والاجتهاد فيه، مع رجاء رحمة الله بعد ذلك.
أما خلطهم بين الخوف والقنوط، فإنهم إذا رأوا إنساناً يخاف الله ويخشاه، ويحتاط لدينه، ويتجنب كل صغيرة وكبيرة، ويحذر الشبهات، والريب ويخوفهم من ربهم وعذابه، ويتخولهم بالموعظة في مجالسهم أو مساجدهم، إذا رأوا مثل هذا الإنسان، التقي الورع قالوا أنه قنوط من رحمة ربه!.
فهكذا يخلطون بين الخوف والقنوط!.
بل ربما دعوه بكل جهل وحماقة إلى ترك هذا الخوف، وارتكاب ما يرتكبونه من منكرات، أو موافقة للشبهات، فالله غفور رحيم، والله جواد كريم، ورحمته سبقت غضبه، ويأخذون في تخذيل هذا المؤمن وتوهين عزمه ليدع الخوف ويأمن مكر الله.
ولو تدبر هؤلاء ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ترهيب للعصاة والمفرطين يهز القلوب الحيّة هزاً.
ولو درسوا سيرة سيد المرسلين وسير صحابته الأطهار وما فيها من قصص خوفهم العظيم من ربهم عزّ وجل، وإشفاقهم من ذنوبهم.
لو تدبروا هذا كله أو بعضه لتغيرت حالهم، ورقت قلوبهم من خشية الله تعالى، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا وأمامنا سيد الخائفين يقول: "لو تعلمون ما أعلم؛ لضحتكم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات، تجأرون إلى الله تعالى".
وكان عليه السلام إذا قرأ القرآن يسمع لجوفه أزير كأزير المرجل من البكاء، وكان يصلي من الليل، حتى تفطرت قدماه الشريفتان.
أما أبو بكر رضي الله عنه فكان يقول: "يا ليتني كنت شجرة تعضد، ثم تؤكل، أخاف أن يلقيني في النار ولا يبالي!".
وأما عمر رضي الله عنه فكان إذ أمّ الناس في الصلاة لا يُفهم صوته، يغلبه البكاء، وسمع مرة قارئاً يقرأ: (وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ) إلى قوله تعالى: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ). فمرض شهراً يعوده الناس.
هذا طرف من حياة القوم وخوفهم من الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه. وأشهد أنّ نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم الداعي على رضوانه، صلى الله عليه وآله وصحبه وإخوانه.
أما بعد :
فإنّ من ترك القلب مشحوناً برذائل الأخلاق وانغمس في طلب لذات الدنيا غير مبال أَمِنَ حلال هي أم من حرام، ورضي بالمنكر وواقعه، ثم انتظر مغفرة ربه، فانتظاره حمق وغرور وجهل وضلال، فالله تعالى يقول عن أمثال هؤلاء: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ).
فتأمل قوله تعالى: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا) أليست هي مقولة أولئك الواهمين، الذين يفعلون الذنوب ويقولون: (سَيُغْفَرُ لَنَا).
ثم تأمل قوله في نهاية الآية: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ) يعني أن ما قالوه وفق ما فهموه، باطل مفترى على الله تعالى، وليست الرحمة بقريبة من السادرين في عينهم، المستخفين بربهم: (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ).
وأما خوف الأنبياء والصالحين فليس لقنوطهم من رحمة الله، ولكن لشدة معرفتهم بربهم وعلمهم به سبحانه. وفيهم يقول الله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء).
كما أن خوفهم كذلك بسبب عدم أمنهم من مكر الله تعالى: (فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
وكيف يؤمن تغير الحال، والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبه كيف يشاء؟!.
عن المقداد بن الأسود، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقلب ابن آدم أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياً".
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
وكان معاذ رضي الله عنه يقول: "إنّ المؤمن لا يسكن روعة حتى يترك جسر جهنم وراءه".
ومن الأمن من مكر الله: استصغار الذنوب واحتقارها، فكثيراً ما نسمع: هذا ذنب يسير، وهذه صغيرة، وهذا لمم، وتلك كذبة بيضاء، أولا تهتموا بهذا القشور!. إلى غير ذلك من استهانة بالمنتقم الجبار، جل جلاله، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا". وأشار بيده الشريفة على أنفه عليه الصلاة والسلام.
إذاً فاستصغار الذنوب، بوادر الفجور، وقد قيل: لا تنظر إلى صغر المعصية وانظر إلى عظيم من عصيت.
فاتقوا الله عباد الله بتوبة نصوح، ودعوا حجج الشيطان وخداعه، واحذروا سوء الخاتمة وشؤم المعصية، ولنكن من الذين إذا سمعوا القول اتبعوا أحسنه (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا، وتلم بها شعثنا، وتثبت بها إيماننا، وتهدي بها ضالنا.
(رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ).
اللهم إنّا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى