رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د. رياض بن محمد المسيميري
المرجئة
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ لـه. وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:102] . (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) [النساء:1]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) [الأحزاب:70-71].
أما بعدُ : فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ ص وشرُّ الأمورِ مـُحدثاتُها, وكل محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أما بعد, أيها المسلمون:
فإننا كثيراً ما نسمع من إخوان لنا, إذا نُصحوا أو نُهوا عن معصيةٍ ارتكبوها , أو ذنبٍ ألَّموا به, نسمعُ منهم قولةَ حقٍ أُريد بها باطل, فيقولون : اللهُ غفورٌ رحيم, اللهُ واسعُ المغفرة, اللهُ لطيفٌ بعبادِه, ربُّك جَواد كريم, ثم يأخذون في سردِ الآياتِ والأحاديث التي حفظوها عن ظهرِ قلب, في رحمةِ اللهِ الواسعة , ورحمته الشاملة, بل و يتمادى بعضُهم في الجهل بقدرة خالقِه ومولاه, فيقول: ماذا تريدُ منَّا يا أخي, إننا نُصلي و نَصوم, و نُزكي ونَحج, ونتجنبُ الخمر والزنا, وغيرُنا يفعل كذا وكذا, هناك أناسٌ لا يصلون, و يشربون الخمر, ويفعلون كذا و كذا , نحن و للهِ الحمد أحسن منهم كثيراً, نحن كذا و نحن كذا
ويبدأ ون في المنةِ على ربهمِ, و تعدادِ محاسِنهم على غيرِهم, في عُجبٍ وتعالٍ, وافتخار .
(( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )) (الحجرات:17) .
من أدرى هؤلاء المساكين أنهم أحسنوا أعمالَهم, و قاموا بها بتجردٍ وإخلاص, ثم من أدراهم أنَّ الله تعالى قد تقبلها منهم, ففي الحديث أنَّ عائشة رضي الله عنها ((سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)) (المؤمنون:60) .
أهم الذين يزنون ويسرقون, ويشربون الخمر, ويخافون الله ؟ قال : ((لا يا ا بنت الصديق! إنهم الذين يصلون ويصومون, ويتصدقون, ويخافون ألا يُتقبل منهم))[1] .
وقد ذكرَ اللهُ تعالى هذه الآية الكريمة, في معرضِ آياتٍ أُخر, تصفُ المؤمنين الصادقينَ فقال سبحانه : ((إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ )) (المؤمنون:57- 61).
فتأملْ رحمك الله حالَ هؤلاءِ المؤمنين المسارعين في الخيرات, تراهم يُقدمون أفضَل الأعمالِ و أجلَّها, ويتجنبون أسوأَهَا وأَبشَعها, و يتنافسون في الطاعاتِ والقُربات, بقلوبٍ وجلةٍ خائفة, مشفقةٍ من عذاب الله ومقته, لأنَّهم يعرفون عظمةَ الإله الذي يعبدونه, والربَّ الذي يوحدونه, ويوقنون كذلك بأنَّ أي عبادةٍ مهما عَظُمتْ وحَسُنَتْ, وخَلْصَتْ لا يمكن أبداً أن تفي بحق الله تعالى على عباده .
وإنما على الإنسان أن يبذلَ جهدَه وطاقته في صواب العملِ, والإخلاص فيه, و يكون بذلك من المؤمنين الصادقين, الذين يعرفون قدرَ ربهم ومولاهم ويلتمسون أسباب مغفرتهِ.
أما أولئك المعجبون بأعمالِهم و طاعتِهم, فإنْ لم تدر كُهم عناية الله و رحمتُه, فما أقربَ تلك الأعمالِ والطاعات إلى الهباءِ المنثور, فإنَّ العُجب ممقوت, و تزكية النفس ممنوعة, ((لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ )) (التوبة:25) .
ويقول تعالى : ((فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)) (النجم:32 ) .
ويقول سبحانه : ((وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً )) (النور:21) .
ويقول : ((وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ )) (البقرة:198).
و أما الذين يجعلون رحمةَ الله و شفقته على عبادهِ, دافعاً لهم إلى المعصية, و الأمن من مكر الله تعالى بهم, فبئس ما اعتقدوا, و بئس ما صنعوا !!
أليس هذا هو اللؤم بعينه؟ أليس هذا هو الحجود و الجهل؟ أ فيكونُ جزاءُ النعمةِ والرحمةِ, هي المعصية والتمرد, و الإعراض ؟أ فيكون جزاء الصحة و العافية و الإمهالِ : هو الجراءةُ على الذنوب, والخطايا ؟
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** و إن أنت أكرمت اللئيم تمرد
كما تدلُ تلك المقالة من أولئك الناس, على أنهم لا يعرفونََ حقيقةَ الرجاء, و لا حقيقة الخوف, فيخلطون بين الرجاءِ و التمني, و بين الخوفِ والقنوط, و الدليل على أنهم يخلطون بين الرجاءِ و التمني, أنهم إذا رأوا إنساناً مفرطاً في دينه, واقعاً في معاصي الله تعالى, لكنَّه يردد في كل مناسبة أسأل الله العفو والعافية, أرجو الله أن يغفر لي, قالوا هذا إنسانٌ يرجو رحمةَ ربه, ولا يعلم أولئك, أنَّ هذا يُسمى متمنياً لا راجياً .
فإنَّ حقيقة الرجاءِ, هي فعلُ الطاعات و اجتناب المحرمات, ثم رجاءُ رحمةَ الله بعد ذلك .
وفي مثل هذا يقول الله تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ )) (البقرة:218) .
فبعد أن آمنوا وهاجروا, فتركوا الأهل والعشيرة, والوطن, ثم جاهدوا, وقاتلوا في سبيل الله , ثم بعد ذلك رجوا رحمة ربهم, وسألوه مَغفرتَه ورضوانه.
أما إعطاءُ النفسِ هواها, و مقارفة الذنوب و الآثام, ثم رجاءُ رحمة الله بعد ذلك ومغفرته, فهو التمني المذموم, الذي لا يفيد صاحبَه شيئاً, ولا يزيده من ربه إلا بعداً .
((لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً )) (النساء:123) .
فالأماني أيها المسلمون : لا تُنجي أحداً, ولا تنفعه, ولكنَّ المقياسَ هو العمل, والاجتهادُ فيه, مع رجاء رحمةِ الله بعد ذلك .
أما خلطهُم بين الخوفِ والقُنوط, فإنهم إذا رأوا إنساناً يخافُ الله ويخشاه, ويحتاطُ لدينه, ويتجنبُ كلَّ صغيرةٍ وكبيرة, ويحذر ُالشبهات والريب, ويخوفهم من ربهم وعذابهِ, ويتخولهم بالموعظة في مجالسِهم, أو مساجدِهم, إذا رأوا مثل هذا الإنسان التقي الورع, قالوا إنَّه قَنوطٌ من رحمةِ ربه, فيخلطونَ بين الخوفِ والقُنوط, بل ربَّما دعَوه بكلِ جهلٍ وحماقة, إلى تركِ هذا الخوف , وارتكابِ ما يرتكبونه من منكرات, أو مواقعةٍ للشبهات, فاللهُ غفورٌ رحيم, والله جواد كريم, ورحمته سبقت غَضَبه, ويأخذون في تخذيلِ هذا المؤمن, وتوهينِ عزمه ليدعَ الخوفَ,و يأمنَ مكرَ الله .
ولو تدبَّر هؤلاء ما في كتاب الله تعالى, وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم, من ترهيبٍ للعصاة والمفرطين، يهزُ القلوب الحية هزاً .
ولو درسوا سيرةَ سيد المرسلين, وسير صحابتهِ الأطهار, وما فيها من قَصَص خوفهم العظيم من ربهم عز وجل, وإشفاقهم من ذنوبهم .
لو تدبروا هذا كلَّه أو بعضَه, لتغيرت حالُهم, و رقت قلوبُهم، من خشيةِ الله تعالى, فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتُنا, وإمامُنا , سيدَ الخائفين يقول : ((لو تعلمون ما أعلم , لضحكتم قليلاً و لبكيتم كثيراً , ولما تلذذتم بالنساءِ على الفُرُش, ولخرجتم إلى الصعُدات, تجأرون إلى الله تعالى)) رواه مسلم .
وكان عليه السلام, إذا قرأ القرآن يُسمعُ لجوفهِ أزيرٌ كأزيرِ المرجل من البكاء , وكان يُصلي من الليل, حتى تفطرت قدماه الشريفتان,
وهكذا كان الأنبياء من قبله, والأصحاب والصالحون من بعده, نماذج عجيبة في حسن العمل, وشدة الخوف من بارئهم تعالى.
فها هو الخليل عليه السلام, يتقرب لربه بتشيد البيت معاونةً مع إسماعيل ويلجأن بـ (( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )) (البقرة:128) .
واسمع كذلك : (( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ)) (صّ: من الآية24).
وأسمع أيضاً : (( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ)) (صّ:34) .
وهذا نوح: (( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً)) (نوح:28).
وأما العباد والصالحون : فيذكر عن أبي بكر قوله : (( ليتني كنت شجرة تؤكل ثم تعضد)) .
وأما الفاروق: فكان إذا صلّى بالناس, لا يكاد يسمع الناس من شدة الشهيق والبكاء .
ولو تتبعنا أخبار القوم، وشدة خوفهم من الله، من حسن أدائهم لواجباتهم المشروعة, لطال بنا المقام, ودونك سير أعلام النبلاء للذهبي, والحلية لأبي نعيم، والشذرات لابن العماد ترى العجب العجاب .
عائذاً بالله من الشيطان الرجيم : ((إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)) (الأنبياء: من الآية90)
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم، واستغفر الله لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة, والنعمةِ المُسداة, وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين .
أيها المسلمون: فإنَّ من صفات الراجين الناجين بإذن الله تعالى :
أولاً: القيام بالواجبات المشروعة, وأدائها بكل أمانة وإتقان.
ثانياً: القراءةُ في سير الأنبياءِ والصالحين, والعُباد للتأسي بهم, والسير على مناهجهم .
ثالثاً: التخلص من كلّّّّّ الذنوب والخطايا, والمبادرة إلى التوبة النصوح .
رابعاً: إعتزال مواقع الشر, ومجالس الفتنةِ, وعدم مصاحبةِ الأشرار الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون .
خامساً: سؤال الله تعالى توفيقه وعونه, وسداده وتصويبه, فهو مسبب الأسباب, والموفق إلى الحق والصواب .
سادساً: إحسان الظن بالله قبل ذلك, وأثناءه, وبعده. وبذا يكون الرجاء قد أخذ موضعه الصحيح .
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوق إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،
اللهمَّ زينا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مهتدين,لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين، يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين، وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
اللهمَّ آمنا في الأوطانِ والدُور،وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
1 رواه الإمام أحمد ( 275) من حديث سعيد بن وهب عن عائشة رضي الله عنها .
المرجئة
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ لـه. وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:102] . (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) [النساء:1]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) [الأحزاب:70-71].
أما بعدُ : فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ ص وشرُّ الأمورِ مـُحدثاتُها, وكل محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أما بعد, أيها المسلمون:
فإننا كثيراً ما نسمع من إخوان لنا, إذا نُصحوا أو نُهوا عن معصيةٍ ارتكبوها , أو ذنبٍ ألَّموا به, نسمعُ منهم قولةَ حقٍ أُريد بها باطل, فيقولون : اللهُ غفورٌ رحيم, اللهُ واسعُ المغفرة, اللهُ لطيفٌ بعبادِه, ربُّك جَواد كريم, ثم يأخذون في سردِ الآياتِ والأحاديث التي حفظوها عن ظهرِ قلب, في رحمةِ اللهِ الواسعة , ورحمته الشاملة, بل و يتمادى بعضُهم في الجهل بقدرة خالقِه ومولاه, فيقول: ماذا تريدُ منَّا يا أخي, إننا نُصلي و نَصوم, و نُزكي ونَحج, ونتجنبُ الخمر والزنا, وغيرُنا يفعل كذا وكذا, هناك أناسٌ لا يصلون, و يشربون الخمر, ويفعلون كذا و كذا , نحن و للهِ الحمد أحسن منهم كثيراً, نحن كذا و نحن كذا
ويبدأ ون في المنةِ على ربهمِ, و تعدادِ محاسِنهم على غيرِهم, في عُجبٍ وتعالٍ, وافتخار .
(( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )) (الحجرات:17) .
من أدرى هؤلاء المساكين أنهم أحسنوا أعمالَهم, و قاموا بها بتجردٍ وإخلاص, ثم من أدراهم أنَّ الله تعالى قد تقبلها منهم, ففي الحديث أنَّ عائشة رضي الله عنها ((سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)) (المؤمنون:60) .
أهم الذين يزنون ويسرقون, ويشربون الخمر, ويخافون الله ؟ قال : ((لا يا ا بنت الصديق! إنهم الذين يصلون ويصومون, ويتصدقون, ويخافون ألا يُتقبل منهم))[1] .
وقد ذكرَ اللهُ تعالى هذه الآية الكريمة, في معرضِ آياتٍ أُخر, تصفُ المؤمنين الصادقينَ فقال سبحانه : ((إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ )) (المؤمنون:57- 61).
فتأملْ رحمك الله حالَ هؤلاءِ المؤمنين المسارعين في الخيرات, تراهم يُقدمون أفضَل الأعمالِ و أجلَّها, ويتجنبون أسوأَهَا وأَبشَعها, و يتنافسون في الطاعاتِ والقُربات, بقلوبٍ وجلةٍ خائفة, مشفقةٍ من عذاب الله ومقته, لأنَّهم يعرفون عظمةَ الإله الذي يعبدونه, والربَّ الذي يوحدونه, ويوقنون كذلك بأنَّ أي عبادةٍ مهما عَظُمتْ وحَسُنَتْ, وخَلْصَتْ لا يمكن أبداً أن تفي بحق الله تعالى على عباده .
وإنما على الإنسان أن يبذلَ جهدَه وطاقته في صواب العملِ, والإخلاص فيه, و يكون بذلك من المؤمنين الصادقين, الذين يعرفون قدرَ ربهم ومولاهم ويلتمسون أسباب مغفرتهِ.
أما أولئك المعجبون بأعمالِهم و طاعتِهم, فإنْ لم تدر كُهم عناية الله و رحمتُه, فما أقربَ تلك الأعمالِ والطاعات إلى الهباءِ المنثور, فإنَّ العُجب ممقوت, و تزكية النفس ممنوعة, ((لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ )) (التوبة:25) .
ويقول تعالى : ((فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)) (النجم:32 ) .
ويقول سبحانه : ((وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً )) (النور:21) .
ويقول : ((وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ )) (البقرة:198).
و أما الذين يجعلون رحمةَ الله و شفقته على عبادهِ, دافعاً لهم إلى المعصية, و الأمن من مكر الله تعالى بهم, فبئس ما اعتقدوا, و بئس ما صنعوا !!
أليس هذا هو اللؤم بعينه؟ أليس هذا هو الحجود و الجهل؟ أ فيكونُ جزاءُ النعمةِ والرحمةِ, هي المعصية والتمرد, و الإعراض ؟أ فيكون جزاء الصحة و العافية و الإمهالِ : هو الجراءةُ على الذنوب, والخطايا ؟
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** و إن أنت أكرمت اللئيم تمرد
كما تدلُ تلك المقالة من أولئك الناس, على أنهم لا يعرفونََ حقيقةَ الرجاء, و لا حقيقة الخوف, فيخلطون بين الرجاءِ و التمني, و بين الخوفِ والقنوط, و الدليل على أنهم يخلطون بين الرجاءِ و التمني, أنهم إذا رأوا إنساناً مفرطاً في دينه, واقعاً في معاصي الله تعالى, لكنَّه يردد في كل مناسبة أسأل الله العفو والعافية, أرجو الله أن يغفر لي, قالوا هذا إنسانٌ يرجو رحمةَ ربه, ولا يعلم أولئك, أنَّ هذا يُسمى متمنياً لا راجياً .
فإنَّ حقيقة الرجاءِ, هي فعلُ الطاعات و اجتناب المحرمات, ثم رجاءُ رحمةَ الله بعد ذلك .
وفي مثل هذا يقول الله تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ )) (البقرة:218) .
فبعد أن آمنوا وهاجروا, فتركوا الأهل والعشيرة, والوطن, ثم جاهدوا, وقاتلوا في سبيل الله , ثم بعد ذلك رجوا رحمة ربهم, وسألوه مَغفرتَه ورضوانه.
أما إعطاءُ النفسِ هواها, و مقارفة الذنوب و الآثام, ثم رجاءُ رحمة الله بعد ذلك ومغفرته, فهو التمني المذموم, الذي لا يفيد صاحبَه شيئاً, ولا يزيده من ربه إلا بعداً .
((لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً )) (النساء:123) .
فالأماني أيها المسلمون : لا تُنجي أحداً, ولا تنفعه, ولكنَّ المقياسَ هو العمل, والاجتهادُ فيه, مع رجاء رحمةِ الله بعد ذلك .
أما خلطهُم بين الخوفِ والقُنوط, فإنهم إذا رأوا إنساناً يخافُ الله ويخشاه, ويحتاطُ لدينه, ويتجنبُ كلَّ صغيرةٍ وكبيرة, ويحذر ُالشبهات والريب, ويخوفهم من ربهم وعذابهِ, ويتخولهم بالموعظة في مجالسِهم, أو مساجدِهم, إذا رأوا مثل هذا الإنسان التقي الورع, قالوا إنَّه قَنوطٌ من رحمةِ ربه, فيخلطونَ بين الخوفِ والقُنوط, بل ربَّما دعَوه بكلِ جهلٍ وحماقة, إلى تركِ هذا الخوف , وارتكابِ ما يرتكبونه من منكرات, أو مواقعةٍ للشبهات, فاللهُ غفورٌ رحيم, والله جواد كريم, ورحمته سبقت غَضَبه, ويأخذون في تخذيلِ هذا المؤمن, وتوهينِ عزمه ليدعَ الخوفَ,و يأمنَ مكرَ الله .
ولو تدبَّر هؤلاء ما في كتاب الله تعالى, وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم, من ترهيبٍ للعصاة والمفرطين، يهزُ القلوب الحية هزاً .
ولو درسوا سيرةَ سيد المرسلين, وسير صحابتهِ الأطهار, وما فيها من قَصَص خوفهم العظيم من ربهم عز وجل, وإشفاقهم من ذنوبهم .
لو تدبروا هذا كلَّه أو بعضَه, لتغيرت حالُهم, و رقت قلوبُهم، من خشيةِ الله تعالى, فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتُنا, وإمامُنا , سيدَ الخائفين يقول : ((لو تعلمون ما أعلم , لضحكتم قليلاً و لبكيتم كثيراً , ولما تلذذتم بالنساءِ على الفُرُش, ولخرجتم إلى الصعُدات, تجأرون إلى الله تعالى)) رواه مسلم .
وكان عليه السلام, إذا قرأ القرآن يُسمعُ لجوفهِ أزيرٌ كأزيرِ المرجل من البكاء , وكان يُصلي من الليل, حتى تفطرت قدماه الشريفتان,
وهكذا كان الأنبياء من قبله, والأصحاب والصالحون من بعده, نماذج عجيبة في حسن العمل, وشدة الخوف من بارئهم تعالى.
فها هو الخليل عليه السلام, يتقرب لربه بتشيد البيت معاونةً مع إسماعيل ويلجأن بـ (( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )) (البقرة:128) .
واسمع كذلك : (( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ)) (صّ: من الآية24).
وأسمع أيضاً : (( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ)) (صّ:34) .
وهذا نوح: (( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً)) (نوح:28).
وأما العباد والصالحون : فيذكر عن أبي بكر قوله : (( ليتني كنت شجرة تؤكل ثم تعضد)) .
وأما الفاروق: فكان إذا صلّى بالناس, لا يكاد يسمع الناس من شدة الشهيق والبكاء .
ولو تتبعنا أخبار القوم، وشدة خوفهم من الله، من حسن أدائهم لواجباتهم المشروعة, لطال بنا المقام, ودونك سير أعلام النبلاء للذهبي, والحلية لأبي نعيم، والشذرات لابن العماد ترى العجب العجاب .
عائذاً بالله من الشيطان الرجيم : ((إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)) (الأنبياء: من الآية90)
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم، واستغفر الله لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة, والنعمةِ المُسداة, وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين .
أيها المسلمون: فإنَّ من صفات الراجين الناجين بإذن الله تعالى :
أولاً: القيام بالواجبات المشروعة, وأدائها بكل أمانة وإتقان.
ثانياً: القراءةُ في سير الأنبياءِ والصالحين, والعُباد للتأسي بهم, والسير على مناهجهم .
ثالثاً: التخلص من كلّّّّّ الذنوب والخطايا, والمبادرة إلى التوبة النصوح .
رابعاً: إعتزال مواقع الشر, ومجالس الفتنةِ, وعدم مصاحبةِ الأشرار الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون .
خامساً: سؤال الله تعالى توفيقه وعونه, وسداده وتصويبه, فهو مسبب الأسباب, والموفق إلى الحق والصواب .
سادساً: إحسان الظن بالله قبل ذلك, وأثناءه, وبعده. وبذا يكون الرجاء قد أخذ موضعه الصحيح .
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوق إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،
اللهمَّ زينا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مهتدين,لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين، يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين، وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
اللهمَّ آمنا في الأوطانِ والدُور،وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
1 رواه الإمام أحمد ( 275) من حديث سعيد بن وهب عن عائشة رضي الله عنها .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى