مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د. رياض بن محمد المسيميري
الهزيمة النفسية
الخطبة الأولى
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، أمَّا بعدُ:
أيها المسلمون:
فمنذ أن احتدم الصراع بين الإسلام والكفر والحرب لا تزال سجالاً بين المسلمين والكفار، ندول عليهم تارة ويدولون علينا أخرى.
أما في العصر الحديث فقد مُنيَ المسلمون بهزائم متعددة ونكسات متنوعة، كان من أشدها مرارة وأعمقها أثراً هو تحطيم الروح المعنوية، ورسوخ الهزيمة النفسية، والتي ما برح طيفها ينتصب في هاجس الفرد المسلم وشعوره الباطن.
ومظهر هذه الهزيمة النفسية الموجعة يتجلى بوضوح في هيئة قناعات راسخة لدى البعض بحتمية السيطرة الأبدية للكفار، والمراهنة على ديمومة انتصارهم في كل حرب يخوضونها، والاعتقاد الجازم بأنهم قوة لا تقهر، وقدرة لا تغلب.
لقد ساعد في ترسيخ هذه القناعات تلك الحملات الإعلامية المركزة التي وظفها الغرب بخبث ودهاء لخدمة أهدافه ومؤامراته، وأشاع من خلالها الرعب في القلوب والخوف في النفوس من خلال استعراضه لقدراته العسكرية وإمكاناته العلمية وتفوقه التقني، فهو تارة يعلن أرقاما مذهلة عما تحتويه خزائنه من القنابل النووية، وتارة يعرض قوافل كمد البصر من المدرعات الحربية، وثالثة يعرض أسراباً من الطائرات المقاتلة، ورابعة يعرض لقطات لأساطيله وبوارجه الضخمة، هادفاً من وراء استعراض هذه الترسانة الهائلة - ذات الأرقام الفلكية والتقنية العالية - إلى ترسيخ القناعات باستحالة مجرد المواجهة، فضلاً عن هزيمته عسكرياً!.
وللأسف الشديد؛ فقد انهارت الروح المعنوية لدى ضعفاء الإيمان، ووقعوا في الفخ الذي أراده العدو لهم، وليت الأمر توقف عند هذا ولكنه تعداه إلى ما هو أخطر بكثير.
لقد تعدى الأمر إلى اعتقاد مخيف بأن مقاليد الأمور وتدبير العالم وإهلاك أمةٍ وإحياء أخرى، وإعزاز شعب وإذلال آخر، قد أصبحت بيد الغرب، فكثيراً ما تسمع: لن يسمح الغرب بقيام قائمة للإسلام في دولة كذا وكذا، ولن يسمح الغرب بنهضة صناعية في أمّة كذا وكذا، ولن يسمح الغرب بانتصار أولئك وهزيمة هؤلاء!.
وعليه اعتقد ضعفاء الإيمان أنه: لن يحدث إلا ما يريده الغرب، ولن يحصل إلا ما يشتهيه الغرب، ولن يتم أمر في الكون إلا بمشيئة الغرب.
وهذا تصور خطير يؤول إلى اعتقاد صاحبه - شاء أم أبي –أنّ مدبّر هذا الكون، والمتصرف بمقاليد الأمور هو الغرب الكافر وليس الله الواحد القهار!.
إنه تصوّر خطر ينافي التوحيد الذي أقر به المشركون الأولون، وينسف العقيدة من أصولها، ويقتلعها من جذورها!.
أيها المسلمون:
إننا لا نكابر ولا نغالط الحقائق، فنحن ندرك تماما ما لدى الغرب من القوى الباهرة والإمكانات الهائلة، ونعي بوضوح جهده الدءوب لخدمة مصالحه وعرقلة مصالح الآخرين، لكننا مع ذلك نؤمن بقوة أعظم من قوته، وببطش أشد من بطشه، وإرادة أنفذ من إرادته.
إننا نؤمن بقوة جبار السموات والأرض، الذي يقول: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ).
إذاً فقوة الغرب مهما عظمت تبقى محدودة، وإرادته مهما طغت تبقى محكومة!.
لقد قاد الغرب الحاقد حملات صليبية عدة للقضاء على حواضر العالم الإسلامي وإخماد جذوة الإيمان في النفوس، وجنّد لحملاته تلك مئات الألوف من الجند المدربين، وجهّز لها أحدث ما لديه من العتاد الحربي، وهيأ لقيادة جيوشه أشرس قادته وأكثرهم مراساً!.
والمحصّلة: ثمان حملات صليبية على مدى مائتي عام!.
وفي كل مرة كانت الجيوش الصليبية تعود أدراجها وهي تجر أذيال الهزيمة، وتبوء بالفشل الذريع، لكن يبدو أن البعض لا يجيد قراءة التاريخ، ولا يحسن تأمل السنن، أو استلهام العبر!.
كما يبدو أن البعض لم يستوعب الدرسين البالغين اللذين لُقّنتاه أعظم قوتين في العصر الحديث!.
أما الدرس الأول:
فهو الدرس الفيتنامي الذي بددَّ أحلام الأمريكان، ومرغ كبريائهم في التراب، فذاقوا مرارة الذل، وسقوا من كأس الهوان على يد شعب أعزل بدائي متخلّف، وعادوا يجرّون أذيال الهزيمة، ويعانون عقدةً مازالت تلاحقهم حتى اليوم!.
وأما الدرس الثاني:
فهو الدرس الأفغاني الذي عاصرناه جميعاً، ورأينا كيف تحطّم الصلف الروسي فوق جبال أفغانستان؟!.
ورأينا أيضاً: كيف تمكّن الحفاة العراة من إذلال الروس وإهانتهم، وإرغامهم على الاستسلام ثم الفرار، وهم الذي كانوا قبيل غزوهم ذاك يشكلون القوة الأولى في العالم متفوقين على الغرب، وهذا باعتراف الغرب نفسه!، ثم ما لبثوا، أن تفرقوا، فما أغنت عنهم أسحلتهم، وطائراتهم وقنابلهم شيئاً!.
فهل يظل أقوام بعد هذا يعتقدون باستحالة هزيمة الغرب وإذلاله، وإمكانية انهياره وتحطمه على يد المسلمين الصادقين، يوم يقوم علم الجهاد؟!.
أو بإشغال بعضهم ببعض وتسليط بعضهم على بعض كما حدث أبان الحرب العالمية الأخيرة، يوم اشغل الله الأشقياء بأنفسهم، وأذاق بعضهم بأس بعض في حرب لا تبقي ولا تذر. فما أطفئت نيرانها، ولا وضعت أوزارها إلا بعد أن خلّفت ملايين القتلى، وأضعافهم من الجرحى.
لقد ظلّت الدماء تنزف أربعة أعوام أو تزيد!.
أربع سنوات عجاف والمعارك على قدم وساق؛ رعب لا ينقضي، وخوف لا ينتهي، وليل مكفهر، وبؤس مستمر، وهكذا يشغل الله الظالمين بالظالمين، ويذيقهم من بأسه وشدة انتقامه: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ).
وقد يكون إذلال الكفار بإشاعة الخوف في نفوسهم، وإثارة القلق في حياتهم، وتوريطهم في دوامة من الضنك المستمر، والجحيم المستعر، وتأمل إن شئت ما يحصل في مجتمعاتهم من القتل، والنهب واللصوصية، والقلق والصخب والضجيج!.
وتأمّل ما يعتري حياتهم من السآمة والملل والكآبة والضجر، ناهيك عن ضحايا الأمراض الفتاكة، وضحايا الكحول والمخدرات، وكلّ ذلك مصداقا لقوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ).
نعم، في الدنيا والآخرة! وليس في الآخرة فقط.
أيها المسلمون:
وليس جهود الغرب العسكرية هي التي تخفق فقط، بل حتى جهوده الفكرية وحربه الثقافية ليست بمنأى عن الفشل والإحباط، فلقد وضع الغرب خططاً جهنمية ومؤامرات شيطانية لغزو المسلمين ثقافياً، فأغرق أسواقهم بمجلاته الهابطة، وأفلامه الماجنة، وأدبه الخليع، وسخّر إعلامه لصناعة كل ما يخدم الشهوات ويؤججها، ويدمر الأخلاق ويبيدها!، واستخدم نفوذه وقوته لفرض المفاهيم الباطلة والأنماط السلوكية الضالة.
ولكن كم أصيب من الإحباط الشديد والخذلان الذريع وهو يرى جماهير الشباب تخرج من بين ركام الفتن وجبال المغريات، لتشكل صحوة عارمة، وعودة صادقة إلى الدين، والمعتقد الصحيح، وتتمسك بأهداب الشرع المطهّر!.
كل ذلك يحدث بسرعة أذهلت العالم وأبهرت العقول!.
فأين صواريخ الغرب وطائراته؟!.
وأين خططه ومؤامراته؟!.
لقد وقف الغرب عاجزاً عن إيقاف هذا المدّ الإسلامي الزاحف حتى في عقر داره، واكتفى بالتنديد بخطر الإسلام القادم من جديد، والتحذير من الأصولية العائدة بقوة، مع وصفه إياها بالرجعية والتخلف، كعادته دائما في قلب الحقائق، والعبث بالمفاهيم، والإيحاء للسذج والمغفلين بترديد ادعاءاته، وتبني آرائه، والدوران في فلكه والسير في ركابه!.
أيها المسلمون:
لقد تكفّل الله تعالى بنصر المؤمنين وتفوّقهم.
تعهد سبحانه بسحق الكفار وهزيمتهم متى عاد المسلمون إلى دينهم وراجعوا كتاب ربهم، وأقاموا الإسلام في نفوسهم، فهو القائل سبحانه: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) وهو القائل: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).
ويقول كذلك: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ) ويقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).
ويقول جل جلاله: (وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ).
ويقول: (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ).
إذاً فالقضية ليست قضية صاروخ أو طائرة، وليست قضية مدفعية وقنبلة!.
إنّ القضية قضية إيمان ويقين، وإسلام وتقوى، فمتى ثبت الإيمان ورسخ اليقين وأينعت ثمرة التقوى تحقق النّصر لا محالة، وتقهقر العدو وانهزم، مهما انتفش وتبختر، ومهما طغى وتجبّر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانيّة
الحمد لله يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويضر وينفع، ألا إلى الله تصير الأمور.
والصلاة والسلام على لبشير النذير، أما بعد:
أيها المسلمون:
فقد أذاعت وكالات الأنباء ونشرت الصحف أنّ مراهقا فرنسياً في السادسة عشرة من عمره قد قام بقتل ثلاثة أشخاص من أفراد أسرته، ثم خرج الشارع وأطلق النار على المارة فقتل تسعة أشخاص، وجرح آخرين، سبعة منهم حالتهم خطرة، ثم ختم هذه المسرحية الدامية بإطلاق النار على نفسه حتى فارق الحياة!.
وهذه الحادثة ليست بدعاً مما يحدث يومياً في تلك البلاد وأمثالها، فقد تعوّد الناس على سماع ورؤية حوادث مشابهة تقع هناك باستمرار، وهي تعكس حالة الفوضى والجنون الذي آلت إليه المجتمعات الغربية البائسة، وتعطي صورة واضحة عن النفسية المتدهورة وحالة فقدان الوعي والتوازن لدى القوم هناك.
كما أنّها تعطي صورة واضحة عن الطيش والسفه الذي يسيطر على سلوك النشء والشباب هناك، فإنّ التربية الإباحية التي نشأت عليها الأجيال، وحالة الشتات الفكري، والانحلال الخلقي، الذي رُبّيَ عليه الشباب، هو الذي أوجد مثل هذه الحماقات المتكررة والجرائم المتنوعة!.
وكلّ هذا ينبغي أن تحذر الأمة من الوقوع في مثله، وأن تقوم جادةً بحماية الشباب والمجتمع كله من أسباب الفتنة والانحلال والضياع، والتي من أبرزها الأفلام المثيرة للشهوات، والباعثة على الإجرام.
وإنّ أيّ تهاون أو خلل في أداء هذا الواجب سيثمر ثمرات مرة مماثلة لتلك التي تحدث لدى القوم هناك!.
إنّ الدعوات الإصلاحية التي رفع رايتها العلماء المخلصون والدعاة الناصحون إنما تهدف في حقيقتها وجوهرها لصون الأمة وشبابها عن مثل ذلك الشذوذ والانحراف.
وقد أصبح اليوم لزاماً على الأمة أن تستجيب لدعوة علمائها ودعاتها، وأن تتفهم حقيقة ما يدعون إليه، وما يحذرون منه.
وعليها أن تعي أنهم لا يريدون إلا الإصلاح والأخذ بأسباب العزة والشرف، لتتبوأ أمتهم المكانة الوسط، والحياة الوسط، التي أرادها لهم ربهم.
اللهم إنّا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم أكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
الهزيمة النفسية
الخطبة الأولى
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، أمَّا بعدُ:
أيها المسلمون:
فمنذ أن احتدم الصراع بين الإسلام والكفر والحرب لا تزال سجالاً بين المسلمين والكفار، ندول عليهم تارة ويدولون علينا أخرى.
أما في العصر الحديث فقد مُنيَ المسلمون بهزائم متعددة ونكسات متنوعة، كان من أشدها مرارة وأعمقها أثراً هو تحطيم الروح المعنوية، ورسوخ الهزيمة النفسية، والتي ما برح طيفها ينتصب في هاجس الفرد المسلم وشعوره الباطن.
ومظهر هذه الهزيمة النفسية الموجعة يتجلى بوضوح في هيئة قناعات راسخة لدى البعض بحتمية السيطرة الأبدية للكفار، والمراهنة على ديمومة انتصارهم في كل حرب يخوضونها، والاعتقاد الجازم بأنهم قوة لا تقهر، وقدرة لا تغلب.
لقد ساعد في ترسيخ هذه القناعات تلك الحملات الإعلامية المركزة التي وظفها الغرب بخبث ودهاء لخدمة أهدافه ومؤامراته، وأشاع من خلالها الرعب في القلوب والخوف في النفوس من خلال استعراضه لقدراته العسكرية وإمكاناته العلمية وتفوقه التقني، فهو تارة يعلن أرقاما مذهلة عما تحتويه خزائنه من القنابل النووية، وتارة يعرض قوافل كمد البصر من المدرعات الحربية، وثالثة يعرض أسراباً من الطائرات المقاتلة، ورابعة يعرض لقطات لأساطيله وبوارجه الضخمة، هادفاً من وراء استعراض هذه الترسانة الهائلة - ذات الأرقام الفلكية والتقنية العالية - إلى ترسيخ القناعات باستحالة مجرد المواجهة، فضلاً عن هزيمته عسكرياً!.
وللأسف الشديد؛ فقد انهارت الروح المعنوية لدى ضعفاء الإيمان، ووقعوا في الفخ الذي أراده العدو لهم، وليت الأمر توقف عند هذا ولكنه تعداه إلى ما هو أخطر بكثير.
لقد تعدى الأمر إلى اعتقاد مخيف بأن مقاليد الأمور وتدبير العالم وإهلاك أمةٍ وإحياء أخرى، وإعزاز شعب وإذلال آخر، قد أصبحت بيد الغرب، فكثيراً ما تسمع: لن يسمح الغرب بقيام قائمة للإسلام في دولة كذا وكذا، ولن يسمح الغرب بنهضة صناعية في أمّة كذا وكذا، ولن يسمح الغرب بانتصار أولئك وهزيمة هؤلاء!.
وعليه اعتقد ضعفاء الإيمان أنه: لن يحدث إلا ما يريده الغرب، ولن يحصل إلا ما يشتهيه الغرب، ولن يتم أمر في الكون إلا بمشيئة الغرب.
وهذا تصور خطير يؤول إلى اعتقاد صاحبه - شاء أم أبي –أنّ مدبّر هذا الكون، والمتصرف بمقاليد الأمور هو الغرب الكافر وليس الله الواحد القهار!.
إنه تصوّر خطر ينافي التوحيد الذي أقر به المشركون الأولون، وينسف العقيدة من أصولها، ويقتلعها من جذورها!.
أيها المسلمون:
إننا لا نكابر ولا نغالط الحقائق، فنحن ندرك تماما ما لدى الغرب من القوى الباهرة والإمكانات الهائلة، ونعي بوضوح جهده الدءوب لخدمة مصالحه وعرقلة مصالح الآخرين، لكننا مع ذلك نؤمن بقوة أعظم من قوته، وببطش أشد من بطشه، وإرادة أنفذ من إرادته.
إننا نؤمن بقوة جبار السموات والأرض، الذي يقول: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ).
إذاً فقوة الغرب مهما عظمت تبقى محدودة، وإرادته مهما طغت تبقى محكومة!.
لقد قاد الغرب الحاقد حملات صليبية عدة للقضاء على حواضر العالم الإسلامي وإخماد جذوة الإيمان في النفوس، وجنّد لحملاته تلك مئات الألوف من الجند المدربين، وجهّز لها أحدث ما لديه من العتاد الحربي، وهيأ لقيادة جيوشه أشرس قادته وأكثرهم مراساً!.
والمحصّلة: ثمان حملات صليبية على مدى مائتي عام!.
وفي كل مرة كانت الجيوش الصليبية تعود أدراجها وهي تجر أذيال الهزيمة، وتبوء بالفشل الذريع، لكن يبدو أن البعض لا يجيد قراءة التاريخ، ولا يحسن تأمل السنن، أو استلهام العبر!.
كما يبدو أن البعض لم يستوعب الدرسين البالغين اللذين لُقّنتاه أعظم قوتين في العصر الحديث!.
أما الدرس الأول:
فهو الدرس الفيتنامي الذي بددَّ أحلام الأمريكان، ومرغ كبريائهم في التراب، فذاقوا مرارة الذل، وسقوا من كأس الهوان على يد شعب أعزل بدائي متخلّف، وعادوا يجرّون أذيال الهزيمة، ويعانون عقدةً مازالت تلاحقهم حتى اليوم!.
وأما الدرس الثاني:
فهو الدرس الأفغاني الذي عاصرناه جميعاً، ورأينا كيف تحطّم الصلف الروسي فوق جبال أفغانستان؟!.
ورأينا أيضاً: كيف تمكّن الحفاة العراة من إذلال الروس وإهانتهم، وإرغامهم على الاستسلام ثم الفرار، وهم الذي كانوا قبيل غزوهم ذاك يشكلون القوة الأولى في العالم متفوقين على الغرب، وهذا باعتراف الغرب نفسه!، ثم ما لبثوا، أن تفرقوا، فما أغنت عنهم أسحلتهم، وطائراتهم وقنابلهم شيئاً!.
فهل يظل أقوام بعد هذا يعتقدون باستحالة هزيمة الغرب وإذلاله، وإمكانية انهياره وتحطمه على يد المسلمين الصادقين، يوم يقوم علم الجهاد؟!.
أو بإشغال بعضهم ببعض وتسليط بعضهم على بعض كما حدث أبان الحرب العالمية الأخيرة، يوم اشغل الله الأشقياء بأنفسهم، وأذاق بعضهم بأس بعض في حرب لا تبقي ولا تذر. فما أطفئت نيرانها، ولا وضعت أوزارها إلا بعد أن خلّفت ملايين القتلى، وأضعافهم من الجرحى.
لقد ظلّت الدماء تنزف أربعة أعوام أو تزيد!.
أربع سنوات عجاف والمعارك على قدم وساق؛ رعب لا ينقضي، وخوف لا ينتهي، وليل مكفهر، وبؤس مستمر، وهكذا يشغل الله الظالمين بالظالمين، ويذيقهم من بأسه وشدة انتقامه: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ).
وقد يكون إذلال الكفار بإشاعة الخوف في نفوسهم، وإثارة القلق في حياتهم، وتوريطهم في دوامة من الضنك المستمر، والجحيم المستعر، وتأمل إن شئت ما يحصل في مجتمعاتهم من القتل، والنهب واللصوصية، والقلق والصخب والضجيج!.
وتأمّل ما يعتري حياتهم من السآمة والملل والكآبة والضجر، ناهيك عن ضحايا الأمراض الفتاكة، وضحايا الكحول والمخدرات، وكلّ ذلك مصداقا لقوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ).
نعم، في الدنيا والآخرة! وليس في الآخرة فقط.
أيها المسلمون:
وليس جهود الغرب العسكرية هي التي تخفق فقط، بل حتى جهوده الفكرية وحربه الثقافية ليست بمنأى عن الفشل والإحباط، فلقد وضع الغرب خططاً جهنمية ومؤامرات شيطانية لغزو المسلمين ثقافياً، فأغرق أسواقهم بمجلاته الهابطة، وأفلامه الماجنة، وأدبه الخليع، وسخّر إعلامه لصناعة كل ما يخدم الشهوات ويؤججها، ويدمر الأخلاق ويبيدها!، واستخدم نفوذه وقوته لفرض المفاهيم الباطلة والأنماط السلوكية الضالة.
ولكن كم أصيب من الإحباط الشديد والخذلان الذريع وهو يرى جماهير الشباب تخرج من بين ركام الفتن وجبال المغريات، لتشكل صحوة عارمة، وعودة صادقة إلى الدين، والمعتقد الصحيح، وتتمسك بأهداب الشرع المطهّر!.
كل ذلك يحدث بسرعة أذهلت العالم وأبهرت العقول!.
فأين صواريخ الغرب وطائراته؟!.
وأين خططه ومؤامراته؟!.
لقد وقف الغرب عاجزاً عن إيقاف هذا المدّ الإسلامي الزاحف حتى في عقر داره، واكتفى بالتنديد بخطر الإسلام القادم من جديد، والتحذير من الأصولية العائدة بقوة، مع وصفه إياها بالرجعية والتخلف، كعادته دائما في قلب الحقائق، والعبث بالمفاهيم، والإيحاء للسذج والمغفلين بترديد ادعاءاته، وتبني آرائه، والدوران في فلكه والسير في ركابه!.
أيها المسلمون:
لقد تكفّل الله تعالى بنصر المؤمنين وتفوّقهم.
تعهد سبحانه بسحق الكفار وهزيمتهم متى عاد المسلمون إلى دينهم وراجعوا كتاب ربهم، وأقاموا الإسلام في نفوسهم، فهو القائل سبحانه: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) وهو القائل: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).
ويقول كذلك: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ) ويقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).
ويقول جل جلاله: (وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ).
ويقول: (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ).
إذاً فالقضية ليست قضية صاروخ أو طائرة، وليست قضية مدفعية وقنبلة!.
إنّ القضية قضية إيمان ويقين، وإسلام وتقوى، فمتى ثبت الإيمان ورسخ اليقين وأينعت ثمرة التقوى تحقق النّصر لا محالة، وتقهقر العدو وانهزم، مهما انتفش وتبختر، ومهما طغى وتجبّر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانيّة
الحمد لله يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويضر وينفع، ألا إلى الله تصير الأمور.
والصلاة والسلام على لبشير النذير، أما بعد:
أيها المسلمون:
فقد أذاعت وكالات الأنباء ونشرت الصحف أنّ مراهقا فرنسياً في السادسة عشرة من عمره قد قام بقتل ثلاثة أشخاص من أفراد أسرته، ثم خرج الشارع وأطلق النار على المارة فقتل تسعة أشخاص، وجرح آخرين، سبعة منهم حالتهم خطرة، ثم ختم هذه المسرحية الدامية بإطلاق النار على نفسه حتى فارق الحياة!.
وهذه الحادثة ليست بدعاً مما يحدث يومياً في تلك البلاد وأمثالها، فقد تعوّد الناس على سماع ورؤية حوادث مشابهة تقع هناك باستمرار، وهي تعكس حالة الفوضى والجنون الذي آلت إليه المجتمعات الغربية البائسة، وتعطي صورة واضحة عن النفسية المتدهورة وحالة فقدان الوعي والتوازن لدى القوم هناك.
كما أنّها تعطي صورة واضحة عن الطيش والسفه الذي يسيطر على سلوك النشء والشباب هناك، فإنّ التربية الإباحية التي نشأت عليها الأجيال، وحالة الشتات الفكري، والانحلال الخلقي، الذي رُبّيَ عليه الشباب، هو الذي أوجد مثل هذه الحماقات المتكررة والجرائم المتنوعة!.
وكلّ هذا ينبغي أن تحذر الأمة من الوقوع في مثله، وأن تقوم جادةً بحماية الشباب والمجتمع كله من أسباب الفتنة والانحلال والضياع، والتي من أبرزها الأفلام المثيرة للشهوات، والباعثة على الإجرام.
وإنّ أيّ تهاون أو خلل في أداء هذا الواجب سيثمر ثمرات مرة مماثلة لتلك التي تحدث لدى القوم هناك!.
إنّ الدعوات الإصلاحية التي رفع رايتها العلماء المخلصون والدعاة الناصحون إنما تهدف في حقيقتها وجوهرها لصون الأمة وشبابها عن مثل ذلك الشذوذ والانحراف.
وقد أصبح اليوم لزاماً على الأمة أن تستجيب لدعوة علمائها ودعاتها، وأن تتفهم حقيقة ما يدعون إليه، وما يحذرون منه.
وعليها أن تعي أنهم لا يريدون إلا الإصلاح والأخذ بأسباب العزة والشرف، لتتبوأ أمتهم المكانة الوسط، والحياة الوسط، التي أرادها لهم ربهم.
اللهم إنّا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم أكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى