رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د . سليمان بن حمد العودة
الحج , والعشر, بين ذكر الله ومراغمة الشيطان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً
إخوة الإسلام : وتتجدَّد المناسباتُ الإسلاميةُ، ويفيض الله من رحماته على المسلمين ما يستوجب الشكر والثناء على واهب النعم وقد عاد حجاجُ بيت الله بعد أن أدُّو مناسكهم بأمنٍ وأمان وصحة وعافية ينبغي أن تذكر فلا تنسى، ويُشكر الله عليها وهل أهلُ الحمد والثناء والشكر موصول ولن يضيع الله الأجر لكل من قدَّم خدمةً لحجاج بيت الله وهيء السبل والمرافق ووفر ما يحتاجه الحجاج خالصة لوجه الله .
أيها المسلمون : كثيرةٌ هي المعاني التي ينبغي أن يعودَ الحجاجُ مستشعرين لها، ومتلبسين بها في حال حلِّهم وإحرامهم وسفرهم وإقامتهم.
ولكنني أكتفي هنا بالوقوف عند أمرين عظيمين تبعث الذكرى بهما مناسك الحج، وإلا فالذكرى بهما واقعةٌ بكل حال ولا تكاد تخطئ نظر اللبيب في كل لحظة، ألا وهما: ذكرُ الله وتعظيمهُ وعداوةُ الشيطان ومراغمتهُ.
ومن ذا الذي لا يتذكر عظمة الله وهو يبصر آياته في السماء والأرض، ويشهد وحدانيته في الأنفس والآفاق، وتأسره عظمةُ الصانع المبدع في كل حيٍ من الأحياء، بل وتشهد الجماداتُ الصمُّ بعظمة الخالق وتتفيء ظلالها ذات اليمين والشمائل سُجداً لله وهم داخرون.
إن قول : (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) سهلة باللسان لكنها عظيمةٌ في الميزان، وهي وإن قلَّت حروفها فهي تحملُ أسمى المعاني وتُرسِّخ التوحيد، بهذه الكلمة بُعث المرسلون، وبها يُحكم بالإسلام أو الكفر، وعليها التقت جيوش الكفر والإيمان، وبها انقسمت الخليقة بين حزب الرحمن وحزب الشيطان .
ذكرُ الله شعار المسلم بكلِّ حال، وبه أنُسه أنَّى اختلف الزمان أو تباعد المكان ((أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)) (الرعد:28).(( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)) (البقرة:152)، (( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)) (العنكبوت:45).
وإذا تلبس الحاجُّ بالذكر من حيث يحرم ذاكراً لله مسبحاً بحمده وملبياً لله وحده لا شريك له، بل وقبل ذلك من حين خروجه من بيته مبتدئاً بدعاءِ السفر المشتمل على ذكر الله، ثم يظل الحاج مستصحباً لذكر الله في الطواف حول الكعبة وبين الصفا والمروة، وفي منى التي ترتج بذكر الله وتكبيره، وفي عرفات حيث أفضلُ الدعاء، وأفضلُ ما قال محمد صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبله: ((لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ)) وحين الإفاضة من عرفات يطيب الذكرُ عند المشعر الحرام (( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)) (البقرة: 198).
وهكذا يستمر الذكرُ عند الجمرات وعند نحر الهدي، بل ويُأمر الحاجُ بذكر الله بعد قضاء المناسك وفراغها، والحق تبارك وتعالى يقول: ((فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) (البقرة: 200-201).
ولئن اختلف أهل التفسير في معنى قوله تعالى: (( فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)) فقالت طائفةٌ: المعنى: الهجوا بذكر الله كثيراً كما يلهج الصبيُّ قائلاً: أبه، أمّه، فكذلك أنتم فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك، لهج المستغيث والمستنصر.
وقالت طائفة أخرى: كان أهلُ الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يُطعمُ ويحملُ الحمالات (من ديةٍ أو غرامة) ليس لهم ذكرٌ غير فِعِالِ آبائهم، فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : (( فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)) .
وثمة معنىً ثالثٌ لطيف ما أحوج المسلمين في هذه الأزمان إلى تأمله، فقد قالت طائفةٌ : إن معنى الآية: اذكروا الله وعظِّموه، وذُبُّوا عن حُرمه، وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غضَّ أحدٌ منهم وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم .
وفي هذا المعنى قال أبو الجوزاء لابن عباس : إن الرجل اليوم لا يذكر أباه، فما معنى الآية ؟ قال: ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله تعالى إذا عُصي أشدّ من غضبك لوالديك إذا شُتما(تفسير القرطبي 2/431).
وسواء كان هذا أو ذاك فالمقصود من الآية -كما قال المفسرون- الحثُّ على كثرة ذكر الله عز وجل، و (أو) هنا لتحقيق المماثلة في الخبر وليست للشك قطعاً ، وإنما هي لتحقيق الخبر عنه بأنه كذلك أو أزيد منه (تفسير ابن كثير 1/355).
إخوة الإيمان : وحيث يرتبط الدعاءُ بالذكر فتأملوا هذا المعنى الدقيق الذي أشارت إليه الآية بقوله: (( فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)) (البقرة: 200).
قال ابنُ كثير : : أرشد تعالى إلى دعائه بعد كثرة ذكره، فإنه مظنةُ الإجابة، وذمَّ من لا يسألهُ إلا في أمر دنياه وهو معرض عن أُخراه فقال: (( فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)) والمقصودُ التنفيرُ عن التشبه بمن هو كذلك، قال سعيدُ بنُ جبير عن ابن عباس رضي الله عنه : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهم اجعله عام غيثٍ وعام خصبٍ وعام ولادٍ حُسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً، فأنزل الله فيهم هذه الآية، وكان يجيءُ بعده آخرون فيقولون: ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) .
فأنزل الله: ((أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) (البقرة:202).
عباد الله : تأملوا كيف ترتبط الدنيا بالآخرة في نظر الإسلام، وكيف يصحح الإسلامُ المفاهيم الخاطئة في هذا الدعاء الشامل الذي كثيراً ما نردده بألسنتنا وقد لا تستحضره قلوبنا: (( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)).
فإن الحسنة في الدنيا تشمل كلَّ مطلوبٍ دنيوي من عافيةٍ ودار رحبةٍ، وزوجةٍ حسنة، ورزق واسع، وعلمٍ نافعٍ وعمل صالح ومركب هنيء وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عباراتُ المفسرين.
وأما الحسنةُ في الآخرة فأعلاها دخولُ الجنة وتوابعهُ من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة.
وأما النجاةُ من النار فهو يقتضي تيسير أسبابهُ في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام(تفسير ابن كثير 1/355، 356).
أيها المسلمون : وهكذا ينبغي أن يستذكر الحجاجُ وغيرهم عظمة الله فيذكروه ويشكروه ويذكروه ذكراً كثيراً ويسبحوه بكرةً وأصيلاً، يذكروه ذكراً تطمئن به القلوب وتنشرح له الصدور، يذكروه في حال اجتماعهم بغيرهم ليذكروهم عظمة الله، ويذكروه في حال خلوتهم فتفيضُ أعينهم خوفاً منه ووجلاً وليذكرهم الله في ملأ خير من ملئهم (( ومن السبعة الذين يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)) .
وذكرُ الله يستوجب تعظيم حرمات الله، والوقوف عند حدود الله وتعظيم شعائره ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)) (الحج:32).
وينبغي أن يشمل ذكرُ الله الذَّب عن دينه، والدعوة إلى هُداه، فليس الذَّبُّ عن الأعراض والأنسابِ بأولى من الذَّبِّ عن دين الله وحرماته، ولا ينبغي أن يطغى ذكرُ الآباء والأجداد والمفاخرةُ بمآثرهم على ذكر الله والانتصار لدينه، والذبِّ عن حماه تلك الحقيقة التي تمثلها العارفون فقال قائلهم :
أبا الإسلام لا أبا لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
إن ذكر الله يرفع أقواماً قعدت بهم أحسابُهم ولم ترق إليها أنسابُهم، وذكر الله يُكَثِّر القليل ويقوي الضعيف، هو سيما المؤمنين، وهو حرز من الشياطين، ذكرُ الله عُدَّةُ المجاهدين، وملاذ الخائفين، وقرةُ عيون الموحدين.
ألا وإنه لا يكفي أن تتردد كلماتُ الذكر على الألسن والقلوبُ غافلةٌ غارقةٌ في الشهوات، إن حقيقة الذكر تعظيمُ من ذُكر، ومن علائم الذاكرين الصادقين أن توجل قلوبهم إذا ذُكر الله، ويزداد إيمانُهم إذا تليت عليهم آياته (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)) (الأنفال:2) .
وإذا رمت يا أخا الإسلام أن تعلم قدر ذكرك لله فانظر في صدق محبتك لله وذودك عن شريعته، والتزامك بهدي محمد r وسنته، ويبقى بعد ذلك ذكرُك لله تعظيماً وتعبداً واعترافاً بأنه أكبرُ من كل شيء، ومع ذلك كله فذكرُ الله لعبادة بالثوابِ والثناء عليهم أكبرُ من ذكرهم إياه في عبادتهم وصلواتهم، كذلك قال ابنُ مسعود وابنُ عباس وأبو الدرداء وأبو قرة وسلمانُ والحسن في معنى قوله تعالى: (( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)) (العنكبوت:45) (تفسير القرطبي 13/349).
اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين، وتقبل منا أعمالنا يا رب العالمين، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه .
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً طاهراً مباركاً فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، لك الحمدُ في الأولى، ولك الحمدُ في الأخرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبدهُ ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين .
عباد الله : أما المعنى الثاني الذي تذكرنا به مناسكُ الحج ولا يكاد يغيب شأنهُ عن غير الحاج فهو عداوة الشيطان للإنسان، ولقد سن الخليلُ عليه السلام لنا في الحج رميَّ الجمار إشعاراً بمراغمة الشيطان وعصيانه وقطعاً لوساوسه حين عرض له في المناسك، وإذا كان الرميُ بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة للشيطان كما ذكر المحققون (الشنقيطي، أضواء البيان5/316)، فإن الاكتفاء بهذا المظهر من مظاهر عداوته، والاقتصار على المراغمة في هذا الزمان والمكان - أعني زمان الحج، ومكان الجمرة - تقليلٌ من شأن عداوته، وتجاهلٌ لإغوائه في كل زمان ومكان، وهو الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهو الذي قعد لابن آدم في أطرقه كلِّها.
أجل إن مناسك الحجِّ ينبغي أن تكون مُذَكِّرةً بهذا العدوِّ المتربص بنا قبل خلقنا، أوليس هو الذي أخرج أبانا آدم عليه السلام من الجنة ؟ أوليس قد ابتدأ عداوته لنا بنخسنا يوم أن يخرجنا الله من بطون أمهاتنا؟ وذلك بداية صراخ الطفل عارياً، وفي الحديث الصحيح: ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلا نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ إِلا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ )) [1]. ليس ذلك فحسب، بل شاء الله وقدَّر أن يبقى قرينُ الجنِّ مع قرين الملائكة مصاحبين لنا ما بقيت حياتُنا ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ ومَعَهُ شَيْطان ، قَالُوا : وَأَنَتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَأَنَا ، إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ ))
لقد توعد الشيطانُ الرجيمُ بإغوائنا، وتهيأ وجنودُه ليقعدوا لنا بأطرق الخير كلِّها (( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ )) (الأعراف:17,16).
وأخبرنا المولى جلّ جلالهُ - وخبره صدق- بعداوة الشيطان لنا فقال: ((إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)) (البقرة:168).
وأرشدنا سبحانه إلى المخرج من عداوته باتخاذه عدوَّاً: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)) (فاطر:6).
ليس يكفي أن نعلم عداوته ، وليس يُجدي أن نلعنه بألسننا وهو يتلاعب بعقولنا، ولقد كان الفضيلُ بنُ عياض : يقول : "يا كذاب يا مُفْترٍ، اتق الله ولا تَسُبَّ الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السَّر"(تفسير القرطبي 14/323، 324).
يا أخا الإسلام : واحذر غاية الحذر أن تكون من نصيب الشيطان الذين اختصهم فقال: ((وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا)) (النساء : 118-121) .
وكن يا عبد الله من أولياء الله الذين قال فيهم : (( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)) (سورة الحجر:42).
قال ابنُ السماك : : يا عجباً لمن عصى المحسنَ بعد معرفته بإحسانه، وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته (تفسير القرطبي 14/324).
أيها المسلمون: واقتضت حكمةُ الله أن تبقى المعركةُ قائمةً ومتجددةً بينكم وبين الشيطان، وليس مِنّا إلا وعليه للشيطان مدخل بل مداخل، ولكن سلاح المجاهدة والاستعداد للمعركة بكل طاقة يضعف من عداوته، بل وربما بلغت المجاهدة بأقوام إلى حدٍ يفرق منهم الشيطان، فإذا سلكوا فجاً سلك الشيطانُ فجاً آخر، وربما أنضى المجاهدون الصادقون شياطينهم كما يُنضي المسافرُ دابته بطول السفرِ وكثرةِ الأعباء .
عباد الله : وإذا كنتم راغمتم الشيطان هذه الأيام فمن حج منكم وشهد المشاهد ووقف المناسك وفيها ذل الشيطانُ وصغر، ومن لم يحج وتقرب إلى الله بصالح الأعمال في الأيام الفاضلة فصلى وصام وتصدق ووصل ونحر وهلل وكبر، فهذه وتلك كانت عوناً لكم على مراغمة الشيطان، ألا فاتخذوا منها عوناً -بعد الله- على مراغمته فيما تستقبلون من أيامكم، وتلك وربي من منافع الحج وفقه العبادات فاعقلوها.
أيها المسلمون : حبلُ الحياة قصير، ونعيمُ الجنة خلودٌ أبدي، فلا تغرنكم الحياةُ الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، واتخذوا من هذه الدار مزرعةً للحياة الباقية، واستعينوا بذكر الله والصلاة على مراغمة الشيطان وعداوته، وغالبوا أنفسكم على طاعة الله، وصبِّروها عن المحرمات.
وإذا عظَّمتم الله حق تعظيمه ذكراً وخوفاً وطاعةً ومجاهدةً في سبيله ونصرةً لدينه، ثم راغمتم الشيطان وضيقتم مسالكه ولم تستهوكم إغراءاتهُ ووساوسُه عشتم في هذه الحياة سعداء آمنين، وانتقلتم بعد الممات إلى درجات النعيم، وبين هذا وذاك تتنَزَّل عليكم الملائكة حين الممات لتستعجل لكم البشرى : ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ)) (فصلت:30-32) .
ألا فلا تسودوا الصحائف بعد بياضها، ولا تراكبوا الذنوب بعد غفرانها، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بعد أن أعتق الله رقابكم من النار، ولا تستبدلوا الأدنى بالذي هو خير، والسعيدُ حقاً من استفاد من الفرص والمناسبات واستقام على الخير والهدي في هذه الحياة .
وأختم الحديث بتنبيه تدعوا الحاجة إليه في مثل هذه الأيام حيث تكثر الرحلاتُ البرية، وربما عادت الأسرة بالحزن والأسى بدل الفرحة والسرور، ذلك حين تسرف الأسرة في لعب أطفالها، ولاسيما اللعب في الدراجات النارية التي تشهد المستشفيات على ضحاياها، فهذا كسير وهذا جريح وثالثٌ في غيبوبة، وربما وصل الخطر إلى الوفاة، فتنَزَّهوا ولا تسرفوا وحافظوا على فلذات أكبادكم، ولا تعرّضوهم للمخاطر، ومثل ذلك وأخطر اللعبُ بالسيارات بحركات هستيرية خطرة، فاحذورا ذلك كلَّه
تلكم وقفتان حريتان بالتأمل أثر هذه الأيام الفاضلة وفي أعقاب الحج والعمرة أردت أن أذَكِّر نفسي وإخواني بهما لمزيد العناية بهما، والاستمرار عليهما، استرشاداً وتحقيقاً لقوله تعالى: (( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)) (الحجر:99).
اللهم ارزقنا الهداية والاستقامة وعافنا من الحور بعد الكور ، وتقبل منا ومن إخواننا المسلمين ، واجعل حجنا مبروراً وسعينا مشكوراً .
[1] الحديث رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة، صحيح الجامع (5/184)
الحج , والعشر, بين ذكر الله ومراغمة الشيطان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً
إخوة الإسلام : وتتجدَّد المناسباتُ الإسلاميةُ، ويفيض الله من رحماته على المسلمين ما يستوجب الشكر والثناء على واهب النعم وقد عاد حجاجُ بيت الله بعد أن أدُّو مناسكهم بأمنٍ وأمان وصحة وعافية ينبغي أن تذكر فلا تنسى، ويُشكر الله عليها وهل أهلُ الحمد والثناء والشكر موصول ولن يضيع الله الأجر لكل من قدَّم خدمةً لحجاج بيت الله وهيء السبل والمرافق ووفر ما يحتاجه الحجاج خالصة لوجه الله .
أيها المسلمون : كثيرةٌ هي المعاني التي ينبغي أن يعودَ الحجاجُ مستشعرين لها، ومتلبسين بها في حال حلِّهم وإحرامهم وسفرهم وإقامتهم.
ولكنني أكتفي هنا بالوقوف عند أمرين عظيمين تبعث الذكرى بهما مناسك الحج، وإلا فالذكرى بهما واقعةٌ بكل حال ولا تكاد تخطئ نظر اللبيب في كل لحظة، ألا وهما: ذكرُ الله وتعظيمهُ وعداوةُ الشيطان ومراغمتهُ.
ومن ذا الذي لا يتذكر عظمة الله وهو يبصر آياته في السماء والأرض، ويشهد وحدانيته في الأنفس والآفاق، وتأسره عظمةُ الصانع المبدع في كل حيٍ من الأحياء، بل وتشهد الجماداتُ الصمُّ بعظمة الخالق وتتفيء ظلالها ذات اليمين والشمائل سُجداً لله وهم داخرون.
إن قول : (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) سهلة باللسان لكنها عظيمةٌ في الميزان، وهي وإن قلَّت حروفها فهي تحملُ أسمى المعاني وتُرسِّخ التوحيد، بهذه الكلمة بُعث المرسلون، وبها يُحكم بالإسلام أو الكفر، وعليها التقت جيوش الكفر والإيمان، وبها انقسمت الخليقة بين حزب الرحمن وحزب الشيطان .
ذكرُ الله شعار المسلم بكلِّ حال، وبه أنُسه أنَّى اختلف الزمان أو تباعد المكان ((أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)) (الرعد:28).(( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)) (البقرة:152)، (( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)) (العنكبوت:45).
وإذا تلبس الحاجُّ بالذكر من حيث يحرم ذاكراً لله مسبحاً بحمده وملبياً لله وحده لا شريك له، بل وقبل ذلك من حين خروجه من بيته مبتدئاً بدعاءِ السفر المشتمل على ذكر الله، ثم يظل الحاج مستصحباً لذكر الله في الطواف حول الكعبة وبين الصفا والمروة، وفي منى التي ترتج بذكر الله وتكبيره، وفي عرفات حيث أفضلُ الدعاء، وأفضلُ ما قال محمد صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبله: ((لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ)) وحين الإفاضة من عرفات يطيب الذكرُ عند المشعر الحرام (( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)) (البقرة: 198).
وهكذا يستمر الذكرُ عند الجمرات وعند نحر الهدي، بل ويُأمر الحاجُ بذكر الله بعد قضاء المناسك وفراغها، والحق تبارك وتعالى يقول: ((فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) (البقرة: 200-201).
ولئن اختلف أهل التفسير في معنى قوله تعالى: (( فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)) فقالت طائفةٌ: المعنى: الهجوا بذكر الله كثيراً كما يلهج الصبيُّ قائلاً: أبه، أمّه، فكذلك أنتم فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك، لهج المستغيث والمستنصر.
وقالت طائفة أخرى: كان أهلُ الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يُطعمُ ويحملُ الحمالات (من ديةٍ أو غرامة) ليس لهم ذكرٌ غير فِعِالِ آبائهم، فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : (( فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)) .
وثمة معنىً ثالثٌ لطيف ما أحوج المسلمين في هذه الأزمان إلى تأمله، فقد قالت طائفةٌ : إن معنى الآية: اذكروا الله وعظِّموه، وذُبُّوا عن حُرمه، وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غضَّ أحدٌ منهم وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم .
وفي هذا المعنى قال أبو الجوزاء لابن عباس : إن الرجل اليوم لا يذكر أباه، فما معنى الآية ؟ قال: ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله تعالى إذا عُصي أشدّ من غضبك لوالديك إذا شُتما(تفسير القرطبي 2/431).
وسواء كان هذا أو ذاك فالمقصود من الآية -كما قال المفسرون- الحثُّ على كثرة ذكر الله عز وجل، و (أو) هنا لتحقيق المماثلة في الخبر وليست للشك قطعاً ، وإنما هي لتحقيق الخبر عنه بأنه كذلك أو أزيد منه (تفسير ابن كثير 1/355).
إخوة الإيمان : وحيث يرتبط الدعاءُ بالذكر فتأملوا هذا المعنى الدقيق الذي أشارت إليه الآية بقوله: (( فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)) (البقرة: 200).
قال ابنُ كثير : : أرشد تعالى إلى دعائه بعد كثرة ذكره، فإنه مظنةُ الإجابة، وذمَّ من لا يسألهُ إلا في أمر دنياه وهو معرض عن أُخراه فقال: (( فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)) والمقصودُ التنفيرُ عن التشبه بمن هو كذلك، قال سعيدُ بنُ جبير عن ابن عباس رضي الله عنه : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهم اجعله عام غيثٍ وعام خصبٍ وعام ولادٍ حُسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً، فأنزل الله فيهم هذه الآية، وكان يجيءُ بعده آخرون فيقولون: ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) .
فأنزل الله: ((أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) (البقرة:202).
عباد الله : تأملوا كيف ترتبط الدنيا بالآخرة في نظر الإسلام، وكيف يصحح الإسلامُ المفاهيم الخاطئة في هذا الدعاء الشامل الذي كثيراً ما نردده بألسنتنا وقد لا تستحضره قلوبنا: (( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)).
فإن الحسنة في الدنيا تشمل كلَّ مطلوبٍ دنيوي من عافيةٍ ودار رحبةٍ، وزوجةٍ حسنة، ورزق واسع، وعلمٍ نافعٍ وعمل صالح ومركب هنيء وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عباراتُ المفسرين.
وأما الحسنةُ في الآخرة فأعلاها دخولُ الجنة وتوابعهُ من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة.
وأما النجاةُ من النار فهو يقتضي تيسير أسبابهُ في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام(تفسير ابن كثير 1/355، 356).
أيها المسلمون : وهكذا ينبغي أن يستذكر الحجاجُ وغيرهم عظمة الله فيذكروه ويشكروه ويذكروه ذكراً كثيراً ويسبحوه بكرةً وأصيلاً، يذكروه ذكراً تطمئن به القلوب وتنشرح له الصدور، يذكروه في حال اجتماعهم بغيرهم ليذكروهم عظمة الله، ويذكروه في حال خلوتهم فتفيضُ أعينهم خوفاً منه ووجلاً وليذكرهم الله في ملأ خير من ملئهم (( ومن السبعة الذين يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)) .
وذكرُ الله يستوجب تعظيم حرمات الله، والوقوف عند حدود الله وتعظيم شعائره ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)) (الحج:32).
وينبغي أن يشمل ذكرُ الله الذَّب عن دينه، والدعوة إلى هُداه، فليس الذَّبُّ عن الأعراض والأنسابِ بأولى من الذَّبِّ عن دين الله وحرماته، ولا ينبغي أن يطغى ذكرُ الآباء والأجداد والمفاخرةُ بمآثرهم على ذكر الله والانتصار لدينه، والذبِّ عن حماه تلك الحقيقة التي تمثلها العارفون فقال قائلهم :
أبا الإسلام لا أبا لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
إن ذكر الله يرفع أقواماً قعدت بهم أحسابُهم ولم ترق إليها أنسابُهم، وذكر الله يُكَثِّر القليل ويقوي الضعيف، هو سيما المؤمنين، وهو حرز من الشياطين، ذكرُ الله عُدَّةُ المجاهدين، وملاذ الخائفين، وقرةُ عيون الموحدين.
ألا وإنه لا يكفي أن تتردد كلماتُ الذكر على الألسن والقلوبُ غافلةٌ غارقةٌ في الشهوات، إن حقيقة الذكر تعظيمُ من ذُكر، ومن علائم الذاكرين الصادقين أن توجل قلوبهم إذا ذُكر الله، ويزداد إيمانُهم إذا تليت عليهم آياته (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)) (الأنفال:2) .
وإذا رمت يا أخا الإسلام أن تعلم قدر ذكرك لله فانظر في صدق محبتك لله وذودك عن شريعته، والتزامك بهدي محمد r وسنته، ويبقى بعد ذلك ذكرُك لله تعظيماً وتعبداً واعترافاً بأنه أكبرُ من كل شيء، ومع ذلك كله فذكرُ الله لعبادة بالثوابِ والثناء عليهم أكبرُ من ذكرهم إياه في عبادتهم وصلواتهم، كذلك قال ابنُ مسعود وابنُ عباس وأبو الدرداء وأبو قرة وسلمانُ والحسن في معنى قوله تعالى: (( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)) (العنكبوت:45) (تفسير القرطبي 13/349).
اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين، وتقبل منا أعمالنا يا رب العالمين، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه .
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً طاهراً مباركاً فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، لك الحمدُ في الأولى، ولك الحمدُ في الأخرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبدهُ ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين .
عباد الله : أما المعنى الثاني الذي تذكرنا به مناسكُ الحج ولا يكاد يغيب شأنهُ عن غير الحاج فهو عداوة الشيطان للإنسان، ولقد سن الخليلُ عليه السلام لنا في الحج رميَّ الجمار إشعاراً بمراغمة الشيطان وعصيانه وقطعاً لوساوسه حين عرض له في المناسك، وإذا كان الرميُ بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة للشيطان كما ذكر المحققون (الشنقيطي، أضواء البيان5/316)، فإن الاكتفاء بهذا المظهر من مظاهر عداوته، والاقتصار على المراغمة في هذا الزمان والمكان - أعني زمان الحج، ومكان الجمرة - تقليلٌ من شأن عداوته، وتجاهلٌ لإغوائه في كل زمان ومكان، وهو الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهو الذي قعد لابن آدم في أطرقه كلِّها.
أجل إن مناسك الحجِّ ينبغي أن تكون مُذَكِّرةً بهذا العدوِّ المتربص بنا قبل خلقنا، أوليس هو الذي أخرج أبانا آدم عليه السلام من الجنة ؟ أوليس قد ابتدأ عداوته لنا بنخسنا يوم أن يخرجنا الله من بطون أمهاتنا؟ وذلك بداية صراخ الطفل عارياً، وفي الحديث الصحيح: ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلا نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ إِلا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ )) [1]. ليس ذلك فحسب، بل شاء الله وقدَّر أن يبقى قرينُ الجنِّ مع قرين الملائكة مصاحبين لنا ما بقيت حياتُنا ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ ومَعَهُ شَيْطان ، قَالُوا : وَأَنَتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَأَنَا ، إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ ))
لقد توعد الشيطانُ الرجيمُ بإغوائنا، وتهيأ وجنودُه ليقعدوا لنا بأطرق الخير كلِّها (( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ )) (الأعراف:17,16).
وأخبرنا المولى جلّ جلالهُ - وخبره صدق- بعداوة الشيطان لنا فقال: ((إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)) (البقرة:168).
وأرشدنا سبحانه إلى المخرج من عداوته باتخاذه عدوَّاً: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)) (فاطر:6).
ليس يكفي أن نعلم عداوته ، وليس يُجدي أن نلعنه بألسننا وهو يتلاعب بعقولنا، ولقد كان الفضيلُ بنُ عياض : يقول : "يا كذاب يا مُفْترٍ، اتق الله ولا تَسُبَّ الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السَّر"(تفسير القرطبي 14/323، 324).
يا أخا الإسلام : واحذر غاية الحذر أن تكون من نصيب الشيطان الذين اختصهم فقال: ((وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا)) (النساء : 118-121) .
وكن يا عبد الله من أولياء الله الذين قال فيهم : (( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)) (سورة الحجر:42).
قال ابنُ السماك : : يا عجباً لمن عصى المحسنَ بعد معرفته بإحسانه، وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته (تفسير القرطبي 14/324).
أيها المسلمون: واقتضت حكمةُ الله أن تبقى المعركةُ قائمةً ومتجددةً بينكم وبين الشيطان، وليس مِنّا إلا وعليه للشيطان مدخل بل مداخل، ولكن سلاح المجاهدة والاستعداد للمعركة بكل طاقة يضعف من عداوته، بل وربما بلغت المجاهدة بأقوام إلى حدٍ يفرق منهم الشيطان، فإذا سلكوا فجاً سلك الشيطانُ فجاً آخر، وربما أنضى المجاهدون الصادقون شياطينهم كما يُنضي المسافرُ دابته بطول السفرِ وكثرةِ الأعباء .
عباد الله : وإذا كنتم راغمتم الشيطان هذه الأيام فمن حج منكم وشهد المشاهد ووقف المناسك وفيها ذل الشيطانُ وصغر، ومن لم يحج وتقرب إلى الله بصالح الأعمال في الأيام الفاضلة فصلى وصام وتصدق ووصل ونحر وهلل وكبر، فهذه وتلك كانت عوناً لكم على مراغمة الشيطان، ألا فاتخذوا منها عوناً -بعد الله- على مراغمته فيما تستقبلون من أيامكم، وتلك وربي من منافع الحج وفقه العبادات فاعقلوها.
أيها المسلمون : حبلُ الحياة قصير، ونعيمُ الجنة خلودٌ أبدي، فلا تغرنكم الحياةُ الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، واتخذوا من هذه الدار مزرعةً للحياة الباقية، واستعينوا بذكر الله والصلاة على مراغمة الشيطان وعداوته، وغالبوا أنفسكم على طاعة الله، وصبِّروها عن المحرمات.
وإذا عظَّمتم الله حق تعظيمه ذكراً وخوفاً وطاعةً ومجاهدةً في سبيله ونصرةً لدينه، ثم راغمتم الشيطان وضيقتم مسالكه ولم تستهوكم إغراءاتهُ ووساوسُه عشتم في هذه الحياة سعداء آمنين، وانتقلتم بعد الممات إلى درجات النعيم، وبين هذا وذاك تتنَزَّل عليكم الملائكة حين الممات لتستعجل لكم البشرى : ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ)) (فصلت:30-32) .
ألا فلا تسودوا الصحائف بعد بياضها، ولا تراكبوا الذنوب بعد غفرانها، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بعد أن أعتق الله رقابكم من النار، ولا تستبدلوا الأدنى بالذي هو خير، والسعيدُ حقاً من استفاد من الفرص والمناسبات واستقام على الخير والهدي في هذه الحياة .
وأختم الحديث بتنبيه تدعوا الحاجة إليه في مثل هذه الأيام حيث تكثر الرحلاتُ البرية، وربما عادت الأسرة بالحزن والأسى بدل الفرحة والسرور، ذلك حين تسرف الأسرة في لعب أطفالها، ولاسيما اللعب في الدراجات النارية التي تشهد المستشفيات على ضحاياها، فهذا كسير وهذا جريح وثالثٌ في غيبوبة، وربما وصل الخطر إلى الوفاة، فتنَزَّهوا ولا تسرفوا وحافظوا على فلذات أكبادكم، ولا تعرّضوهم للمخاطر، ومثل ذلك وأخطر اللعبُ بالسيارات بحركات هستيرية خطرة، فاحذورا ذلك كلَّه
تلكم وقفتان حريتان بالتأمل أثر هذه الأيام الفاضلة وفي أعقاب الحج والعمرة أردت أن أذَكِّر نفسي وإخواني بهما لمزيد العناية بهما، والاستمرار عليهما، استرشاداً وتحقيقاً لقوله تعالى: (( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)) (الحجر:99).
اللهم ارزقنا الهداية والاستقامة وعافنا من الحور بعد الكور ، وتقبل منا ومن إخواننا المسلمين ، واجعل حجنا مبروراً وسعينا مشكوراً .
[1] الحديث رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة، صحيح الجامع (5/184)
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى