صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
مالكم من دونه من ولي ولا شفيع وقوله سبحانه والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وقوله تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا وسورة الزمر أصل عظيم في هذا
ومن هذا قوله سبحانه ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين يدعو من دون الله مالا يضره ومالا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير وكذلك قوله تعالى مثل الذين اتخذوا من دون
الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو
كانوا يعلمون والقرآن عامته إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم الذي هو أصل
الأصول
وهذا الذي ذكرناه كله من تحريم هذا الدعاء مع كونه قد يؤثر إذا قدر أن هذا الدعاء كان سببا أو جزءا من السبب في حصول طلبته
والناس قد اختلفوا في الدعاء المستعقب لقضاء الحاجات
فزعم قوم من المبطلين
متفلسفة ومتصوفة أنه لا فائدة فيه أصلا فإن المشيئة الالهية والأسباب
العلوية إما أن تكون قد اقتضت وجود المطلوب وحينئذ فلا حاجة إلى الدعاء أو
لا تكون اقتضته وحينئذ فلا ينفع الدعاء
وقال قوم ممن تكلم في العلم بل الدعاء علامة ودلالة على حصول المطلوب وجعلوا ارتباطه بالمطلوب ارتباط الدليل بالمدلول لا ارتباط السبب بالمسبب بمنزلة الخبر الصادق والعلم السابق
والصواب ما عليه الجمهور من أن الدعاء سبب لحصول الخير المطلوب أو غيره كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة وسواء سمي سببا أو شرطا أو جزءا من السبب فالمقصود هنا واحد فإذا أراد الله بعبد خيرا ألهمه دعاءه والاستعانة
به وجعل استعانته ودعاءه سببا للخير الذي قضاه له كما قال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه إني لا أحمل هم الإجابة وإنما أحمل هم الدعاء فإذا ألهمت
الدعاء فإن الإجابة معه كما أن الله تعالى إذا أراد أن يشبع عبدا أو يرويه
الهمه أن يأكل أو يشرب وإذا أراد أن يتوب على عبد ألهمه أن يتوب فيتوب عليه
وإذا أراد أن يرحمه ويدخله الجنة يسره لعمل أهل الجنة والمشيئة الإلهية
اقتضت وجود هذه الخيرات بأسبابها المقدرة لها كما اقتضت وجود دخول الجنة
بالعمل الصالح ووجود الولد بالوطء والعلم بالتعلم فمبدأ الأمور من الله
وتمامها على الله لا أن العبد نفسه هو المؤثر في الرب أو في ملكوت الرب بل
الرب سبحانه هو المؤثر في ملكوته وهو جاعل دعاء عبده سببا لما يريده
سبحانه من القضاء كما قال رجل للنبي صلى الله عليه و سلم يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقي نسترقي بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا قال هي من قدر الله وعنه صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض
فهذا في الدعاء الذي يكون سببا في حصول المطلوب
وأعلى من هذا ما جاء به الكتاب والسنة من رضا الله وفرحه وضحكه بسبب أعمال عباده الصالحة كما جاءت به النصوص وكذلك غضبه ومقته
وقد بسطنا الكلام في هذا الباب وما للناس فيه من المقالات والاضطراب في غير هذا الموضع
فما فرض من الأدعية المنهي عنها سببا فقد تقدم الكلام عليه
فأما غالب هذه الأدعية التي ليست مشروعة فلا تكون هي السبب في حصول المطلوب ولا جزءا منه ولا يعلم ذلك بل
لا يتوهم إلا وهما كاذبا كالنذر سواء فإن في الصحيح عن ابن عمر عن النبي
صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج
به من البخيل وعن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل مالم يكن البخيل يريد أن يخرجه
فقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن النذر لا يأتي بخير وأنه ليس من الأسباب الجالبة لخير أو الدافعة لشر أصلا وإنما يوافق القدر موافقة كما توافقه سائر الأسباب فيخرج من البخيل حينئذ مالم يكن يخرجه قبل ذلك ومع هذا فأنت ترى الذين يحكون أنهم وقعوا في شدائد فنذروا نذرا لكشف شدائدهم أكثر أو قريبا من الذين يزعمون أنهم دعوا عند القبور أو غيرها فقضيت حوائجهم بل من كثرة اغترار الضالين المضلين بذلك صارت النذور المحرمة في الشرع مآكل لكثير من السدنة والمجاورين العاكفين على القبور أو غيرها يأخذون من الأموال
شيئا كثيرا وأولئك الناذرون يقول أحدهم مرضت فنذرت ويقول الآخر خرج علي
المحاربون فنذرت ويقول الآخر ركبت البحر فنذرت ويقول الآخر حبست فنذرت
ويقول الآخر أصابتني فاقة فنذرت
وقد قام بنفوسهم
أن هذه النذور هي السبب في حصول مطلوبهم ودفع مرهوبهم وقد أخبر الصادق
المصدوق أن نذر طاعة الله فضلا عن معصيته ليس سببا لحصول الخير وإنما الخير
الذي يحصل للناذر يوافقه موافقة كما يوافق سائر الأسباب فما هذه الأدعية
غير المشروعة في حصول المطلوب بأكثر من هذه النذور في حصول المطلوب بل تجد كثيرا من الناس
يقول إن المكان الفلاني أو المشهد الفلاني أو القبر الفلاني يقبل النذر
بمعنى أنهم نذروا له نذرا إن قضيت حاجتهم وقضيت كما يقول القائلون الدعاء
عند المشهد الفلاني أو القبر الفلاني مستجاب بمعنى أنهم دعوا هناك مرة
فرأوا اثر الإجابة بل إذا كان المبطلون يضيفون قضاء حوائجهم إلى خصوص
نذر المعصية مع أن جنس النذر لا أثر له في ذلك لم يبعد منهم
إذا أضافوا حصول غرضهم إلى خصوص الدعاء بمكان لا خصوص له في الشرع لأن لأن
جنس الدعاء هذا مؤثر فالإضافة إليه ممكنة بخلاف جنس النذر فإنه لا يؤثر
والغرض بأن يعرف أن الشيطان إذا زين لهم نسبة الأثر إلى مالا يؤثر نوعا ولا وصفا فنسبته إلى وصف قد ثبت تأثير نوعه أولى أن يزينه لهم ثم كما لم يكن ذلك الاعتقاد منهم صحيحا فكذلك هذ إذا كلاهما مخالف للشرع
ومما يوضح ذلك أن اعتقاد المعتقد أن هذا الدعاء أو هذا النذر هو السبب أو بعض السبب في حصول المطلوب لا بد له من دلالة ولا دليل على ذلك في
الغالب إلا الاقتران أحيانا أعني وجودهما جميعا وإن تراخى أحدهما عن الآخر
مكانا أو زمانا مع الانتقاض أضعاف أضعاف الاقتران ومجرد اقتران الشيء
بالشيء بعض الأوقات مع انتقاضه ليس دليلا على العلة باتفاق العقلاء إذا كان
هنالك سبب آخر صالح إذ تخلف الأثر عنه يدل على عدم العلية
فإن قيل إن التخلف لفوات شرط أو لوجود مانع
قيل بل الاقتران لوجود سبب آخر وهذا هو الراجح فإنا نرى الله في كل وقت يقضي الحاجات ويفرج الكربات بأنواع من الأسباب
لا يحصيها إلا هو وما رأيناه يحدث المطلوب مع وجود هذا الدعاء المبتدع إلا
نادرا فإذا رأيناه قد أحدث كان شيئا وكان الدعاء المبتدع قد وجد إحالة
حدوث الحادث على ما علم من الأسباب التي لا يحصيها إلا الله أولى من إحالته على ما لم يثبت كونه سببا
ثم الاقتران إن كان دليلا على العلة فالانتقاض دليل على عدمها
وهنا افترق الناس على ثلاث فرق مغضوب عليهم وضالون والذين أنعم الله عليهم
فالمغضوب عليهم يطعنون في عامة الأسباب المشروعة وغير المشروعة
ويقولون الدعاء المشروع قد يؤثر وقد لا يؤثر ويتصل بذلك الكلام في دلالة الآيات على تصديق الأنبياء عليهم السلام
والضالون يتوهمون في كل ما يتخيل سببا وإن كان يدخل في دين اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم والمتكايسون من المتفلسفة يحيلون ذلك على أمور فلكية وقوى نفسانية وأسباب طبيعية يدورون حولها لا يعدلون عنها
فأما المهتدون فهم لا ينكرون ما خلقه الله من القوى والطبائع في جميع الأجسام والأرواح إذ الجميع خلق الله لكنهم يؤمنون بما وراء ذلك من قدرة الله التي هو بها على كل شيء قدير ومن أنه كل يوم هو في شأن ومن أن إجابته لعبده المؤمن خارجة عن قوة نفس العبد وتصرف جسمه وروحه وبأن الله يخرق العادات لأنبيائه لإظهار صدقهم ولإكرامهم بذلك ونحو ذلك من حكمه وكذلك يخرقها لأوليائه تارة لتأييد دينه بذلك وتارة تعجيلا لبعض ثوابهم في الدنيا وتارة إنعاما عليهم بجلب نعمة أو دفع نقمة أو لغير ذلك ويؤمنون بأن الله يرد ما أمرهم به من الأعمال
الصالحة والدعوات المشروعة إلى ما جعله في قوى الأجسام والأنفس ولا
يلتفتون إلى الأوهام التي دلت الأدلة العقلية أو الشرعية على فسادها ولا
يعلمون بما حرمته الشريعة وإن ظن أن له تأثيرا
وبالجملة فالعلم بأن هذا كان هو السبب أو بعض السبب أو شرط السبب في هذا
الأمر الحادث قد يعلم كثيرا أو قد يظن كثيرا وقد يتوهم كثيرا وهما ليس له
مستند صحيح إلا ضعف العقل
ويكفيك أن كل ما يظن أنه سبب لحصول المطالب مما حرمته الشريعة من دعاء أو غيره لا بد فيه من أحد أمرين
إما أن لا يكون سببا صحيحا كدعاء مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا وإما أن يكون ضرره أكثر من نفعه
فأما ما كان سببا صحيحا منفعته أكثر من مضرته فلا ينهى عنه الشرع
بحال وكل مالم يشرع من العبادات مع قيام المقتضي لفعله من غير مانع فإنه من باب النهي عنه كما تقدم
وأما العلم بغلبة السبب فله طرق في الأمور الشرعية كما له طرق في الأمور الطبيعية
منها
الاضطرار فإن الناس لما عطشوا وجاعوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و
سلم فأخذ غير مرة ماء قليلا فوضع يده الكريمة فيه حتى فار الماء من بين
أصابعه ووضع يده الكريمة في الطعام وبرك فيه حتى كثر كثرة خارجة عن العادة
فإن العلم بهذا الاقتران المعين يوجب العلم بأن كثرة الماء والطعام كانت
بسببه ص - علما ضروريا كما يعلم أن الرجل ذا ضرب بالسيف ضربة شديدة صرعته
فمات أن الموت كان منها بل أوكد فإن العلم بأن كثرة الماء الطعام ليس له سبب معتاد في مثل ذلك أصلا مع أن العلم بهذه المقارنة يوجب علما ضروريا بذلك وكذلك لما دعا النبي صلى الله عليه و سلم لأنس بن مالك أن يكثر الله ماله وولده فكان نخله يحمل في السنة مرتين على خلاف عادة بلده ورأى من ولده وولد ولده أكثر من مائة فإن مثل هذا الحادث يعلم أنه كان بسبب ذلك الدعاء
ومن رأى طفلا يبكي بكاء شديدا فألقمته أمه الثدي فسكن علم يقينا أن سكونه كان لأجل ارتضاعه اللبن
والاحتمالات وإن تطرقت إلى النوع فإنها قد لا تتطرق إلى الشخص المعين وكذلك الأدعية فإن المؤمن يدعو بدعاء فيرى المدعو بعينه مع عدم الأسباب المقتضية له أو يفعل فعلا كذلك فيجده كذلك كالعلاء
بن الحضرمي رضي الله عنه لما قال يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم اسقنا
فمطروا في يوم شديد الحر مطرا لم يجاوز عسكرهم وقال احملنا فمشوا على النهر
الكبير مشيا لم يبل أسافل أقدام دوابهم وأيوب السختياني لما ركض الجبل
لصاحبه ركضة فنبعت له عين
ماء فشرب ثم غارت فدعا الله وحده لا شريك له دل الوحي المنزل والعقول الصحيحة على فائدته ومنفعته ثم التجارب التي لا يحصي عددها إلا الله
فتجد أكثر المؤمنين قد دعوا الله وسألوه أشياء أسبابها منتفية
في حقهم فأحدث لهم تلك المطالب على الوجه الذي طلبوه على وجه يوجب العلم
تارة والظن الغالب أخرى أن الدعاء كان هو السبب في هذا وتجد هذا ثابتا عند
ذوي العقول والبصائر الذين يعرفون جنس الأدلة وشروطها واطرادها
وأما اعتقاد تأثير الأدعية المحرمة فعامته إنما نجد اعتقاده عند أهل الجهل
الذين لا يميزون بين الدليل وغيره ولا يفهمون ما يشترط للدليل من الاطراد وإنما يقع في أهل الظلمات من الكفار والمنافقين أو ذوي الكبائر الذين أظلمت قلوبهم بالمعاصي حتى لا يميزون بين الحق والباطل
وأما ما ذكر في المناسك
أنه بعد تحية النبي صلى الله عليه و سلم وصاحبيه والصلاة والسلام يدعو فقد
ذكر الإمام أحمد وغيره أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا
يستدبره وذلك بعد
تحيته عليه الصلاة و السلام ثم يدعو لنفسه وذكر انه إذا حياه وصلى عليه
يستقبله بوجهه بأبي هو وأمي صلى الله عليه و سلم فإذا أراد الدعاء جعل
الحجرة عن يساره واستقبل القبلة ودعا وهذا مراعاة منهم لذلك فإن الدعاء عند القبر لا يكره مطلقا بل يؤمر به للميت كما جاءت به السنة فيما تقدم ضمنا وتبعا وإنما المكروه أن يتحرى المجيء إلى القبر للدعاء عنده
وكذلك ذكر أصحاب مالك قالوا يدنو من القبر فيسلم على النبي صلى الله عليه و سلم ثم يدعو مستقبل القبلة يوليه ظهره وقيل لا يوليه ظهره وإنما اختلفوا لما فيه من استدباره فأما إذا جعل الحجرة عن يساره فقد زال المحذور بلا خلاف وصار في الروضة أو أمامها
ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة الصلاة إلى القبر فإن ذلك
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
قد ثبت النهي فيه عن النبي صلى الله عليه و سلم كما تقدم فلما نهى أن
يتخذ القبر مسجدا أو قبلة أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه كما لا يصلي إليه
قال مالك في المبسوط لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله
عليه و سلم يدعو ولكن يسلم ويمضى ولهذا والله أعلم حرفت الحجرة وثلثت لما
بنيت فلم يجعل حائطها الشمالي على سمت القبلة ولا جعل جدارها مربعا وكذلك قصدوا قبل أن تدخل الحجرة في المسجد
فروى ابن بطة بإسناد معروف عن هشام بن عروة حدثني أبي قال كان الناس يصلون
إلى القبر فأمر عمر بن عبد العزيز فرفع حتى لا يصلي إليه الناس فلما هدم
بدت قدم بساق وركبة قال ففزع من ذلك عمر بن عبد العزيز فأتاه عروة فقال هذه ساق عمر وركبته فسرى عن عمر بن عبد العزيز
وهذا أصل مستمر فإنه لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يستحب أن يصلي إليه
ألا ترى أن المسلم لما نهى عن الصلاة إلى جهة المشرق وغيرها فإنه ينهى أن
يتحرى استقبالها وقت الدعاء ومن الناس من يتحرى
قت دعائه استقبال الجهة التي يكون فيها معظمه الصالح سواء كانت في المشرق
أو غيره وهذا ضلال بين وشرك واضح كما أن بعض الناس يمتنع من استدبار الجهة التي فيها بعض مقدسيهم من الصالحين وهو يستدبر الجهة التي فيها بيت الله وقبر رسول الله صلى الله عليه و سلم وكل هذه الأشياء من البدع التي تضارع دين النصارى
ومما يبين لك ذلك أن
نفس السلام على النبي صلى الله عليه و سلم قد راعوا فيه السنة حتى لا يخرج
إلى الوجه المكروه الذي قد يجر إلى إطراء النصارى عملا بقوله صلى الله
عليه و سلم لا تتخذوا قبري عيدا وبقوله لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن
مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله فكان بعضهم يسأل عن السلام على
القبر خشية أن يكون من هذا الباب حتى قيل له إن ابن عمر كان يفعل ذلك
ولهذا كره مالك رضي الله عنه وغيره من أهل العلم لأهل المدينة كلما دخل أحدهم المسجد أن يجيء فيسلم على قبر النبي صلى الله عليه و سلم وصاحبيه قال وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر أو أراد سفرا ونحو ذلك
ورخص بعضهم في السلام عليه إذا دخل المسجد للصلاة ونحوها
وأما قصده دائما للصلاة والسلام فما علمت أحدا رخص فيه لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا مع أنا قد شرع لنا إذا دخلنا المسجد أن نقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته كما نقول ذلك في آخر صلاتنا بل قد استحب ذلك لكل من دخل مكانا ليس فيه أحد أن يسلم على النبي صلى الله عليه و سلم لما تقدم من أن السلام عليه يبلغه من كل موضع
فخاف مالك وغيره أن يكون فعل ذلك عند القبر كل ساعة نوعا من اتخاذ القبر عيدا
وأيضا فإن ذلك بدعة
فقد كان المهاجرون والأنصار على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله
عنهم يجيئون إلى المسجد كل يوم خمس مرات يصلون ولم يكونوا يأتون مع ذلك إلى القبر يسلمون عليه لعلمهم رضي الله عنهم بما كان النبي صلى الله عليه و سلم يكرهه من ذلك وبما نهاهم عنه وأنهم يسلمون عليه حين دخول المسجد والخروج منه وفي التشهد كما كانوا يسلمون عليه كذلك في حياته والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك
قال سعيد بن منصور في سننه حدثنا عبد الرحمن بن زيد حدثني أبي عن ابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه و سلم فسلم وصلى عليه وقال السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه
وعبد الرحمن بن زيد وأن كان يضعف لكن الحديث المتقدم عن نافع الصحيح يدل على أن ابن عمر ما كان يفعل ذلك دائما ولا غالبا
وما أحسن ما قال مالك لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وغيره ولهذا كره الأئمة استلام القبر وتقبيله وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه وكانت حجرة عائشة التي دفنوه فيها ملاصقة لمسجده وكان ما بين منبره وبيته هو الروضة ومضى الأمر على ذلك في عهدالخلفاء الراشدين ومن بعدهم وزيد في المسجد زيادات وغيروا الحجرة عن حالها هي وغيرها من الحجر المطيفة بالمسجد من شرقيه
وقبليه حتى بناه الوليد بن عبد الملك وكان عمر بن عبد العزيز عامله على
المدينة فابتاع هذه الحجر وغيرها وهدمهن وأدخلهن في المسجد فمن أهل العلم من كره ذلك كسعيد بن المسيب ومنهم من لم يكرهه
قال أبو بكر الأثرم قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل قبر النبي صلى الله عليه و سلم يمس ويتمسح به فقال ما أعرف هذا قلت له فالمنبر فقال أما المنبر فنعم قد جاء فيه قال أبو عبد الله شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر أنه مسح على المنبر قال ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة قلت ويروون عن يحيى بن سعيد أنه حين أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر
فمسحه ودعا فرأيته استحسنه ثم قال لعله عند الضرورة والشيء قيل لأبي عبد
الله إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر وقلت له رأيت أهل العلم من أهل
المدينة لا يمسونه ويقومون ناحية فيسلمون فقال أبو عبد الله نعم وهكذا كان
ابن عمر يفعل ثم قال أبو عبد الله بأبي هو وأمي صلى الله عليه و سلم
فقد رخص أحمد وغيره في التمسح بالمنبر والرمانة التي هي موضع مقعد النبي صلى الله عليه و سلم ويده ولم يرخصوا في التمسح بقبره وقد حكى بعض أصحابنا
رواية في مسح قبره لأن أحمد شيع بعض الموتى فوضع يده على قبره يدعو له والفرق بين الموضعين ظاهر
وكره مالك التمسح بالمنبر كما كرهوا التمسح بالقبر
فأما اليوم فقد احترق المنبر وما بقيت الرمانة وإنما بقي من المنبر خشبة صغيرة فقد زال ما رخص فيه لأن الأثر المنقول عن ابن عمر وغيره إنما هو التمسح بمقعده
وروى الأثرم بإسناده عن العتبي عن مالك عن عبد الله بن دينار قال رأيت ابن
عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه و سلم فيصلي عليه وعلى أبي بكر وعمر
الوجه الثالث في كراهة قصد القبور للدعاء أن السلف رضي الله عنهم كرهوا ذلك متأولين في ذلك قوله صلى الله عليه و سلم لا تتخذوا قبري عيدا كما ذكرنا ذلك عن علي بن الحسين والحسن بن الحسن ابن عمه وهما أفضل أهل البيت من التابعين وأعلم بهذا الشأن من غيرهما لمجاورتهما الحجرة النبوية نسبا ومكانا
وقد ذكرنا عن أحمد وغيره أنه أمر من سلم على النبي صلى الله عليه و سلم وصاحبيه ثم أراد أن يدعو أن ينصرف فيستقبل القبلة وكذلك أنكر ذلك غير واحد من العلماء المتقدمين كمالك وغيره ومن المتأخرين مثل أبي الوفاء بن عقيل وأبي الفرج بن الجوزي
وما أحفظ لا عن صحابي ولا عن تابعي ولا عن إمام معروف أنه استحب قصد شيء من القبور للدعاء عنده ولا روى أحد في ذلك شيئا لا عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أحد من الأئمة المعروفين وقد صنف الناس في
الدعاء وأوقاته وأمكنته وذكروا فيه الآثار فما ذكر أحد منهم في فضل الدعاء شيء من القبور حرفا واحدا فيما أعلم
فكيف يجوز والحالة هذه أن يكون الدعاء عندها أجوب وأفضل والسلف تنكره ولا نعرفه وتنهى عنه ولا تأمرنا به
نعم صار من نحو المائة الثالثة يوجد متفرقا في كلام بعض الناس فلان ترجى الإجابة عند قبره وفلان يدعى عند قبره ونحو ذلك كما وجد الإنكار على من يقول ذلك ويأمر به كائنا من كان فإن أحسن أحواله أن يكون مجتهدا في هذه المسألة أو مقلدا فيعفوا الله عنه
أما إن هذا الذي قاله يقتضي استحباب ذلك فلا بل قد يقال هذا من جنس قول بعض الناس المكان الفلاني يقبل النذر والموضع الفلاني ينذر له ويعينون عينا أو بئرا أو شجرة أو مغارة أو حجرا أو غير ذلك من الأوثان فكما لا يكون مثل هذا القول عمدة في الدين كذلك الأول
ولم يبلغنا إلى الساعة عن أحد من السلف رخصة في ذلك إلا
ما روى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن أبي
فديك قال أخبرني سليمان بن يزيد الكعبي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى
الله عليه و سلم قال من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة
قال ابن أبي فديك وأخبرني عمر بن حفص أن ابن أبي مليكة كان يقول من أحب أن يقوم وجاه النبي صلى الله عليه و سلم فليجعل القنديل الذي في القبلة عند رأس القبر على رأسه
قال ابن أبي فديك وسمعت بعض من أدركت يقول بلغنا أنه من وقف
عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم فتلا هذه الآية إن الله وملائكته يصلون
على النبي فقال صلى الله عليك يا محمد حتى يقولها سبعين مرة ناداه ملك صلى
الله عليه يا فلان ولم تسقط له حاجة
فهذا الأثر من ابن أبي فديك قد يقال فيه استحباب قصد الدعاء عند القبر ولا حجة فيه لوجوه
أحدها أن ابن أبي فديك روى هذا عن مجهول وذكر ذلك المجهول أنه بلاغ عمن لا يعرف ومثل هذا لا يثبت به شيء أصلا وابن أبي فديك متأخر في حدود المائة الثانية ليس هو من التابعين ولا تابعيهم المشهورين حتى يقال قد كان هذا معروفا في القرون الثلاثة وحسبك أن أهل العلم بالمدينة المعتمدين لم ينقلوا شيئا من ذلك
ومما يضعفه أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا فكيف يكون من صلى عليه سبعين مرة جزاؤه أن يصلي عليه ملك من الملائكة وأحاديثه المتقدمة تبين أن الصلاة والسلام عليه تبلغه من البعيد والقريب
الثاني أن هذا إنما يقتضي استحباب الدعاء للزائر في ضمن الزيارة كما ذكر ذلك العلماء في مناسك الحج وليس هذا من مسألتنا فإنا قد قدمنا أن من زاره زيارة مشروعة ودعا في ضمنها لم يكره هذا كما ذكره بعض العلماء مع ما في ذلك من النزاع مع أن المنقول عن السلف كراهة الوقوف عند القبر للدعاء وهو أصح وإنما المكروه الذي ذكرناه قصد الدعاء عنده ابتداء كما أن من دخل المسجد فصلى تحية المسجد ودعا ضمنها لم يكره ذلك أو توضأ في مكان وصلى هناك ودعا في ضمن صلاته لم يكره ذلك ولو تحرى الدعاء في تلك البقعة أو في مسجد لا خصيصة له في الشرع دون غيره من المساجد نهي عن هذا التخصيص
الثالث أن الاستجابة هنا لعلها لكثرة صلاته على النبي صلى الله عليه و سلم فإن الصلاة عليه قبل الدعاء وفي وسطه وآخره من أقوى الأسباب التي يرجى بها إجابة سائر الدعاء كما جاءت به الآثار مثل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه
الذي يروى موقوفا ومرفوعا الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك رواه الترمذي
وذكر محمد بن الحسن بن زبالة في كتاب أخبار المدينة فيما رواه عنه الزبير
بن بكار وروى عنه عن عبد العزيز بن محمد الداروردي قال رأيت رجلا من أهل المدينة يقال له محمد بن كيسان يأتي إذا صلى العصر من يوم الجمعة ونحن جلوس مع ربيعة بن أبي عبد الرحمن فيقوم
عند القبر فيسلم على النبي صلى الله عليه و سلم ويدعو حتى يمسي فيقول
جلساء ربيعة انظروا إلى ما يصنع هذا فيقول دعوه فإنما للمرء ما نوى
ومحمد بن الحسن هذا صاحب أخبار وهو مضعف عند أهل الحديث كالواقدي ونحوه لكن يستأنس بما يرويه ويعتبر به
وهذه الحكاية قد يتمسك بها على الطرفين فإنها تتضمن أن الذي فعله هذا الرجل أمر مبتدع عندهم لم يكن من فعل الصحابة ولا غيرهم من علماء أهل المدينة وإلا لو كان هذا أمرا معروفا من عمل أهل المدينة لما استغربه جلساء ربيعة وأنكروه بل ذكر محمد بن الحسن لها في كتابه مع رواية الزبير بن بكار ذلك عنه يدل على أنهم على عهد مالك وذويه ما كانوا يعرفون هذا العمل وإلا لو كان هذا شائعا بينهم لما ذكروا في كتاب مصنف ما يتضمن استغراب ذلك
ثم إن جلساء ربيعة وهم قوم فقهاء علماء أنكروا ذلك وربيعة أقره فغايته أن يكون في ذلك خلاف ولكن تعليل ربيعة له بأن لكل امرئ ما نوى لا يقتضي الإقرار على ما يكره فإنه لو أراد الصلاة هناك لنهاه وكذلك لو أراد الصلاة في وقت نهي
وإنما الذي اراده ربيعة والله أعلم أن من كانت له نية صالحة أثيب على نيته وإن كان الفعل الذي فعله ليس بمشروع إذا لم يتعمد مخالفة الشرع
فهذا الدعاء وإن لم يكن مشروعا لكن لصاحبه نية صالحة قد يثاب علىنيته
فيستفاد من ذلك أنهم مجمعون على أن الدعاء عند القبر غير مستحب ولا خصيصة في تلك البقعة وإنما الخير قد يحصل من جهة نية الداعي
ثم إن ربيعة لم ينكر عليه متابعة لجلسائه إما لأنه لم يبلغه أن النبي صلى
الله عليه و سلم نهى عن اتخاذ قبره عيدا وعن الصلاة عنده فإن ربيعة كما قال
أحمد كان قليل العلم بالآثار أو بلغه ذلك لكن لم ير مثل هذا داخلا في معنى النهي أو لأنه لم ير هذا محرما وإنما غايته أن يكون مكروها وإنكار المكروه ليس بفرض أو أنه رأى أن ذلك الرجل إنما قصده السلام والدعاء جاء ضمنا وتبعا
وفي هذا نظر ولا ريب أن العلماء قد يختلفون في مثل هذا كما اختلفوا في صحة الصلاة عند القبر ومن لم يبطلها قد لا ينهى عن فعل ذلك
والعمدة على الكتاب والسنة وما كان عليه السابقون مع أن محمد بن الحسن هذا
قد روى أخبارا عن السلف تؤيد ما ذكرناه فقال حدثني عمر بن هرون عن سلمة بن
وردان قال رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه و سلم ثم يسند
ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو
فهذا إن كان ثابتا عن أنس فهو مؤيد لما ذكرناه فإن أنسا لم يكن ساكنا بالمدينة وإما كان يقدم من البصرة إما مع الحجيج أو نحوهم فيسلم على النبي صلى الله عليه و سلم ثم إذا أراد الدعاء فالذي ينبغي في حق مثله إنما يكون ضمنا وتبعا وهو مستدبر القبر
وذكر محمد بن الحسن عن عبد العزيز بن محمد ومحمد بن إسماعيل وغيرهما عن محمد بن هلال وعن غير واحد من أهل
العلم أن بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي فيه قبره هو بيت عائشة
الذي كانت تسكنه وأنه مربع مبني بحجارة سود وقصة وأن الذي يلي القبلة منه أطوله والشرقي والغربي سواء والشامي أنقصها وباب البيت مما يلي الشام وهو مسدود بحجارة سود وقصة
ثم بنى عمر بن عبد العزيز على ذلك هذا البناء الظاهر وعمر بن عبد العزيز زواه لئلا يتخذه الناس قبلة تخص فيه الصلاة من بين مسجد النبي صلى الله عليه و سلم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال كما حدثني عبد العزيز بن محمد عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قاتل
الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وحدثني مالك بن أنس عن زيد بن
أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال اللهم لا تجعل
قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
فهذه الآثار إذا ضمت إلى ما قدمنا من الآثار علم كيف كان حال السلف في هذا الباب وأن ما عليه كثير من الخلف في ذلك هو من المنكرات عندهم
ولا يدخل في هذا الباب ما يروى من أن قوما سمعوا رد السلام من قبر النبي صلى الله عليه و سلم أو قبور غيره من الصالحين وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة ونحو ذلك
فهذا كله حق ليس مما نحن فيه والأمر أجل من ذلك وأعظم
وكذلك أيضا
ما يروى أن رجلا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه و سلم فشكا إليه الجدب
عام الرمادة فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج فيستسقي الناس فإن
هذا ليس من هذا الباب ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي صلى الله عليه و سلم وأعرف من هذه الوقائع كثيرا
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه و سلم أو لغيره من أمته حاجته فتقضى له فإن هذا قد وقع كثيرا وليس هو مما نحن فيه
وعليك أن تعلم أن إجابة النبي صلى الله عليه و سلم أو غيره لهؤلاء
السائلين ليس مما يدل على استحباب السؤال فإنه هو القائل صلى الله عليه و
سلم إن أحدكم ليسألني مسألة فأعطيه إياها فيخرج بها يتأبطها نارا فقالوا يا
رسول الله فلم تعطيهم قال يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل
وأكثر هؤلاء السائلين الملحين لما هم فيه من الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم كما أن السائلين له في الحياة كانوا كذلك وفيهم من أجيب وأمر بالخروج من المدينة
فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا فرق بين هذا وهذا
فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد استهانة بأهلها بل لما يخاف عليهم من الفتنة وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها فلولا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به لما نهي الناس عن ذلك
وكذلك ما يذكر من الكرامات
وخوارق العادات التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين مثل نزول الأنوار
والملائكة عندها وتوقي الشياطين والبهائم لها واندفاع النار عنها وعمن جاورها وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى واستحباب الاندفان عند بعضهم وحصول الأنس والسكينة عندها ونزول
العذاب بمن استهان بها فجنس هذا حق ليس مما نحن فيه وما في قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله ورحمته وما لها عند الله من الحرمة والكرامة فوق ما يتوهمه أكثر الخلق لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك
وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة أو قصد الدعاء والنسك عندها لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي حذر منها الشارع كما تقدم فذكرت هذه الأمور لأنها مما يتوهم معارضته لما قدمنا وليس كذلك
الوجه الرابع أن اعتقاد استجابة الدعاء عندها وفضله قد أوجب أن تنتاب لذلك وتقصد
وربما اجتمع القبوريون عندها اجتماعات كثيرة في مواسم معينة وهذا بعينه هو
الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله لا تتخذوا قبري عيدا وبقوله
لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وبقوله صلى الله
عليه و سلم لا تتخذوا القبور مساجد فإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد
حتى إن بعض القبور يجتمع عندها القبوريون في يوم من السنة ويسافرون إليها لإقامة العيد إما في المحرم أو رجب أو شعبان أو ذي الحجة أو غيرها
وبعضها يجتمع عندها في يوم عاشوراء وبعضها في يوم عرفة وبعضها في النصف من شعبان وبعضها في وقت آخر بحيث يكون لها يوم من السنة تقصد فيه ويجتمع عندها فيه كما تقصد عرفة ومزدلفة ومنى في أيام معلومة من السنة وكما يقصد مصلى المصر يوم العيدين بل ربما كان الاهتمام بهذه الاجتماعات في الدين والدنيا أهم وأشد
ومنها ما يسافر إليه من الأمصار في وقت معين أو وقت غير معين لقصد الدعاء عنده والعبادة هناك كما يقصد بيت الله الحرام لذلك وهذا
السفر لا أعلم بين المسلمين خلافا في تحريمه والنهي عنه إلا أن يكون خلافا
حادثا وإنما ذكرت الوجهين المتقدمين في السفر المجرد لزيارة القبور
فأما إذا كان السفر للعبادة عندها بالدعاء أو الصلاة أو إقامة العيد أو نحو ذلك فهذا لا ريب فيه حتى إن بعضهم يسميه الحج ويقول نريد الحج إلى قبر فلان وفلان
ومنها ما يقصد الاجتماع عنده في يوم معين من الأسبوع
وفي الجملة هذا الذي يفعل عند هذه القبور هو بعينه الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله لا تتخذوا قبري عيدا
فإن اعتياد قصد المكان المعين في وقت معين عائد بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع هو بعينه معنى العيد ثم ينهى عن دق ذلك وجله وهذا هو الذي تقدم عن الإمام أحمد إنكاره قال وقد أفرط الناس في هذا جدا وأكثروا وذكر ما يفعل عند قبر الحسين
وقد ذكرت فيما تقدم أنه يكره اعتياد عبادة في وقت إذا لم تجيء بها السنة فكيف اعتياد مكان معين في وقت معين
ويدخل في هذا ما يفعل بمصر عند قبر نفيسة وغيرها وما يفعل بالعراق عند
القبر الذي يقال إنه قبر علي رضي الله عنه وقبر الحسين وحذيفة بن اليمان
وسلمان الفارسي وقبر موسى بن جعفر ومحمد ابن علي الجواد ببغداد وعند قبر
أحمد بن حنبل ومعروف الكرخي وغيرها وما يفعل عند قبر أبي يزيد البسطامي
وكان يفعل نحو ذلك بحران عند قبر يسمى قبر الأنصاري إلى قبور كثيرة في أكثر بلاد الإسلام لا يمكن حصرها كما أنهم بنوا كثيرا منها مساجد وبعضها مغصوب كما بنوا على قبر أبي حنيفة والشافعي وغيرهم
وهؤلاء الفضلاء من الأمة إنما ينبغي محبتهم واتباعهم وإحياء ما أحيوه من الدين والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة والرضوان ونحو ذلك
فأما اتخاذ قبورهم أعيادا فهو مما حرمه الله ورسوله واعتياد قصد هذه
القبور في وقت معين والاجتماع العام عندها في وقت معين هو اتخاذها عيدا كما
تقدم ولا أعلم بين المسلمين أهل العلم في ذلك خلافا ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة فإن هذا من التشبه بأهل الكتابين الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه و سلم أنه كائن في هذه الأمة
وأصل ذلك إنما هو اعتقاد فضل الدعاء عندها وإلا فلو لم يقم هذا الاعتقاد بالقلوب لانمحي ذلك كله فإذا كان قصدها للدعاء يجر هذه المفاسد
كان حراما كالصلاة عندها وأولى وكان ذلك فتنة للخلق وفتحا لباب الشرك وإغلاقا لباب الإيمان فصل
قد تقدم أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن اتخاذها مساجد وعن الصلاة
عندها وعن اتخاذها عيدا وأنه دعا الله ان لا يتخذ قبره وثنا يعبد
وقد تقدم أن اتخاذ المكان عيدا هو اعتياد إتيانه للعبادة عنده أو غير ذلك
وقد تقدم النهي الخاص عن الصلاة عندها وإليها والأمر بالسلام عليها والدعاء لها
وذكرنا ما في دعاء المرء لنفسه عندها من الفرق بين قصدها لأجل الدعاء أو الدعاء ضمنا وتبعا
وتمام الكلام في ذلك بذكر
سائر العبادات فالقول فيها جميعا كالقول في الدعاء فليس في ذكر الله هناك
أو القراءة عند القبر أو الصيام عنده أو الذبح عنده فضل على غيره من البقاع ولا قصد ذلك عند القبور مستحبا
وما علمت أحدا من علماء المسلمين يقول إن الذكر هناك أو الصيام والقراءة أفضل منه في غير تلك البقعة
فأما ما يذكره بعض الناس من أنه
ينتفع الميت بسماع القرآن بخلاف ما إذا قرئ في مكان آخر فهذا إذا عنى به
أنه يصل الثواب إليه إذا قرئ عند القبر خاصة فليس عليه أحد من أهل العلم المعروفين بل الناس على قولين
أحدهما أن ثواب العبادات البدنية من الصلاة والقراءة وغيرهما يصل إلى الميت كما يصل إليه ثواب العبادات المالية بالاجماع وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما وقول طائفة من أصحاب الشافعي ومالك وهو الصواب لأدلة كثيرة ذكرناها في غير هذا الموضع
والثاني أن ثواب العبادة البدنية لا يصل إليه بحال وهو المشهور عند أصحاب الشافعي ومالك وما من أحد من هؤلاء يخص مكانا بالوصول أو عدمه
فأما استماع الميت للأصوات من القراءة وغيرها فحق لكن الميت ما بقي يثاب بعد الموت على عمل يعمله هو بعد الموت من استماع أو غيره وإنما ينعم أو يعذب بما كان قد عمله في حياته هو أو بما يعمل غيره بعد الموت من أثره
أو بما يعامل به كما قد اختلف في تعذيبه بالنياحة ! عليه وكما ينعم بما
يهدي إليه وكما ينعم بالدعاء له وإهداء العبادات المالية بالإجماع وكذلك قد ذكر طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم ونقلوه عن أحمد وذكروا فيه آثارا أن الميت يتألم بما يفعل عنده من المعاصي فقد يقال أيضا إنه يتنعم بما يسمعه من القراءة وذكر الله
وهذا لو صح لم يوجب استحباب القراءة عنده فإن ذلك لو كان مشروعا لبينه رسول الله صلى الله عليه و سلم لأمته
وذلك لأن هذا وإن كان نوع مصلحة ففيه مفسدة راجحة كما في الصلاة عنده وتنعم الميت بالدعاء له والاستغفار والصدقة عنه وغير ذلك من العبادات يحصل له به من النفع أعظم من ذلك وهو مشروع ولا مفسدة فيه ولهذا لم يقل أحد من العلماء بأنه يستحب قصد القبر دائما للقراءة عنده إذ قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن ذلك ليس
مما شرعه النبي صلى الله عليه و سلم لأمته لكن اختلفوا في القراءة عند
القبور هل هي مكروهة أم لا تكره والمسألة مشهورة وفيها ثلاث روايات عن أحمد
إحداها أن ذلك لا بأس به وهي اختيار الخلال وصاحبه وأكثر المتأخرين من أصحابه وقالوا هي الرواية المتأخرة عن أحمد وقول جماعة من أصحاب أبي حنيفة واعتمدوا على ما نقل عن ابن عمرو رضي الله عنهما أنه
أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتيح سورة البقرة وخواتيمها ونقل أيضا عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة
والثانية أن ذلك مكروه
حتى اختلف هؤلاء هل تقرأ الفاتحة في صلاة الجنازة إذا صلى عليها في
المقبرة وفيه عن أحمد روايتان وهذه الرواية هي التي رواها أكثر أصحابه عنه
وعليها قدماء أصحابه الذين صحبوه كعبد الوهاب الوراق وأبي بكر المروزي ونحوهما وهي مذهب جمهور السلف كأبي حنيفة ومالك وهشيم بن بشير وغيرهم ولا يحفظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة كلام لأن ذلك كان عنده بدعة وقال مالك ما علمت أحدا يفعل ذلك
فعلم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه
والثالثة أن القراءة عنده وقت الدفن لا بأس بها كما نقل ابن عمرو رضي الله عنهما وعن بعض المهاجرين وأما القراءة بعد ذلك مثل الذين ينتابون القبر للقراءة عنده فهذا مكروه فإنه لم ينقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلا
وهذه الرواية لعلها أقوى من غيرها لما فيها من التوفيق
بين الدلائل والذين كرهو القراءة عند القبر كرهها بعضهم وإن لم يقصد
القراءة هناك كما تكره الصلاة فان أحمد نهى عن القراءة في صلاة الجنازة
هناك
ومعلوم أن القراءة في الصلاة ليس المقصود بها القراءة عند القبر ومع هذا فالفرق بين ما يفعل ضمنا وتبعا وما يفعل لأجل القبر بين كما تقدم والوقوف التي وقفها الناس على القراءة عند قبورهم فيها من الفائدة أنها تعين على حفظ القرآن وأنها رزق لحافظ القرآن وباعثة لهم على حفظه ودرسه وملازمته
وإن قدر أن القارئ لا يثاب على قراءته فهو مما يحفظ به الدين كما يحفظ
بقراءة الكافر وجهاد الفاجر وقد قال صلى الله عليه و سلم إن الله يؤيد هذا
الدين بالرجل الفاجر
وبسط الكلام في الوقوف وشروطها قد ذكر في موضع آخر وليس هذا هو المقصود هنا
فأما ذكر الله هناك فلا يكره لكن قصد البقعة للذكر هناك بدعة مكروهة فإنه نوع من اتخاذها عيدا وكذلك قصدها للصيام عندها ومن رخص في القراءة فانه لا يرخص في اتخاذها عيدا مثل أن يجعل له وقت معلوم يعتاد فيه القراءة هناك أو يجتمع عنده للقراءة ونحو ذلك كما أن من يرخص في الذكر والدعاء هناك لا يرخص في اتخاذه عيدا لذلك كما تقدم
وأما الذبح هناك فنهى عنه مطلقا ذكره أصحابنا وغيرهم لما روى أنس عن النبي
صلى الله عليه و سلم قال لا عقر في الإسلام رواه أحمد وأبو داود وزاد قال
عبد الرزاق كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة
قال أحمد في
رواية المروزي قال النبي صلى الله عليه و سلم لا عقر في الإسلام كانوا إذا
مات لهم الميت نحروا جزورا على قبره فنهى النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك كره أبو عبد الله أكل لحمه
قال صحابنا وفي معنى هذا ما يفعله كثير من أهل زماننا في التصدق عند القبر بخبز أو نحوه فهذه أنواع العبادات البدنية أو المالية أو المركب منهما
فصل
ومن المحرمات العكوف عند القبر والمجاورة عنده وسدانته وتعليق الستور عليه كأنه بيت الله الكعبة
فإنا قد بينا أن نفس بناء المسجد عليه منهي عنه باتفاق الأمة محرم بدلالة السنة فكيف إذا ضم إلى ذلك المجاورة في ذلك المسجد والعكوف فيه كأنه المسجد الحرام بل عند بعضهم العكوف فيه أحب إليه من العكوف في المسجد الحرام إذ من الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله
بل حرمة ذلك المسجد المبني على القبر الذي حرمه الله ورسوله أعظم عند القبوريين من حرمة بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وقد أسست على تقوى من الله ورضوان
وقد بلغ الشيطان بهذه البدع إلى الشرك العظيم في كثير من الناس حتى إن منهم من يعتقد أن زيارة المشاهد التي على القبور إما قبر نبي أو شيخ أو بعض أهل البيت أفضل من حج البيت الحرام ويسمى زيارتها الحج الأكبر ومن هؤلاء من يرى أن السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و سلم أفضل من حج
البيت وبعضهم إذا وصل إلى المدينة رجع ولم يذهب إلى البيت الحرام وظن أنه
حصل له المقصود وهذا لأنهم ظنوا أن زيارة القبور إنما هو لأجل الدعاء عندها
والتوسل بها وسؤال الميت ودعائه
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه و سلم أفضل من الكعبة
ولو علموا أن المقصود إنما هو عبادة الله وحده لا شريك له وسؤاله ودعاؤه
وأن المقصود بزيارة القبور هو الدعاء لها كما يقصد بالصلاة على الميت لزال
هذا الشرك عن
قلوبهم ولهذا نجد كثيرا من هؤلاء يسأل الميت والغائب كما يسأل ربه فيقول اغفر لي وارحمني وتب علي ونحو ذلك
وكثير من الناس تتمثل له صورة الشيخ المستغاث به ويكون ذلك شيطانا قد خاطبه كما تفعل الشياطين بعبدة الأوثان
وأعظم من ذلك قصد الدعاء عنده والنذر له أو للسدنة العاكفين عليه أو المجاورين عنده من أقاربه أو غيرهم واعتقاد أنه بالنذر له قضيت الحاجة أو كشف عنه البلاء
فإنا قد بينا بقول الصادق المصدوق أن نذر العمل المشروع لا يأتي بخير وأن الله لم يجعله سببا لدرك حاجة كما جعل الدعاء سببا لذلك فكيف بنذر المعصية الذي لا يجوز الوفاء به
واعلم أن المقبورين من الأنبياء
والصالحين المدفونين يكرهون ما يفعل عندهم كل الكراهة كما أن المسيح يكره
ما يفعله النصارى به وكما كان أنبياء بني إسرائيل يكرهون ما يفعله الأتباع
فلا يحسب المرء المسلم أن النهي عن اتخاذ القبور أعيادا وأوثانا فيه غص من كرامة أصحابها بل هو من باب إكرامهم
وذلك أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن سنة ذلك المقبور وطريقه مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه
ومن كرامة الأنبياء والصالحين أن يتبع ما دعوا إليه من العمل الصالح ليكثر أجرهم بكثرة أجور من تبعهم كما قال صلى الله عليه و سلم من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء
إنما اشتغلت قلوب طوائف من الناس بأنواع من العبادات المبتدعة
إما من الأدعية وإما من الأسفار وإما من السماعات ونحو ذلك لإعراضهم عن المشروع أو بعضه أعني لإعراض قلوبهم وإن قاموا بصورة المشروع وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه عاقلا لما اشتملت عليه من الكلم الطيب والعمل الصالح مهتما بها كل الاهتمام أغنته عن كل ما يتوهم فيه خيرا من جنسها
ومن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله بعقله وتدبره بقلبه وجد فيه من الفهم والحلاوة والهدى وشفاء القلوب والبركة والمنفعة مالا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره
ومن اعتاد الدعاء المشروع في أوقاته كالأسحار وأدبار الصلوات والسجود ونحو ذلك أغناه عن كل دعاء مبتدع في ذاته أو في بعض صفاته
فعلى العاقل أن يجتهد في اتباع السنة في كل شيء من ذلك ويعتاض عن كل ما يظن من البدع أنه خير بنوعه من السنن فإنه فإنه من يتحرى الخير يعطه ومن يتوقى الشر يوقه
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل
يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه و سلم وإن كان النبي قد سلكها اتفاقا لا قصدا
قال سندي الخواتيمي سألنا أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد يذهب إليها ترى ذلك قال أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى وعلى ما كان يفعله ابن عمر يتتبع مواضع النبي صلى الله عليه و سلم وأثره فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدا وأكثروا فيه
وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم أنه سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد التي
بالمدينة وغيرها يذهب إليها فقال أما على حديث ابن أم مكتوم وأنه سأل
النبي صلى الله عليه و سلم أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مسجدا أو على
ما كان يفعل ابن عمر كان يتتبع مواضع سير النبي صلى الله عليه و سلم حتى
إنه رؤي يصب في موضع الماء فسئل عن ذلك فقال
كان النبي صلى الله عليه و سلم يصب ههنا ماء قال أما على هذا فلا بأس قال
ورخص فيه ثم قال ولكن قد أفرط الناس جدا وأكثروا في هذا المعنى فذكر قبر
الحسين وما يفعل الناس عنده رواهما الخلال في كتاب الأدب
فقد فصل أبو عبد الله في المشاهد وهي الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء والصالحين من غير أن تكون مساجد لهم كمواضع بالمدينة بين القليل الذي لا يتخذونه عيدا والكثير الذي يتخذونه عيدا كما تقدم
وهذا التفصيل جمع فيه بين الآثار وأقوال الصحابة فإنه قد روى البخاري في
صحيحه عن موسى بن عقبة قال رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق
ويصلي فيها ويحدث أن أباه كان يصلي فيها وأنه رأى النبي صلى الله عليه و
سلم يصلي في تلك الأمكنة قال موسى وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلي في تلك
الأمكنة
فهذا ما رخص فيه أحمد رضي الله عنه
وأما ما كرهه فروى سعيد بن منصور
في سننه حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن معرور بن سويد عن عمر رضي الله
عنه قال خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر ب ألم تر كيف فعل ربك
بأصحاب الفيل و لئيلاف قريش في الثانية فلما رجع من حجته
رأى الناس ابتدروا المسجد فقال ما هذا قالوا مسجد صلى فيه رسول الله صلى
الله عليه و سلم فقال هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم أتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له منكم الصلاة فيه فليصل ومن لم تعرض له الصلاة فليمض
فقد كره عمر رضي الله عنه اتخاذ مصلى النبي صلى الله عليه و سلم عيدا وبين أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا
وفي رواية عنه أنه رأى الناس يذهبون مذاهب فقال أين يذهب هؤلاء فقيل يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه و سلم فهم يصلون فيه فقال إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها
وروى محمد بن وضاح وغيره أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع
تحتها النبي صلى الله عليه و سلم بيعة الرضوان لأن الناس كانوا يذهبون
تحتها فخاف عمر الفتنة عليهم
وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم في إتيان تلك المشاهد
فقال محمد بن وضاح كان مالك وغيره من علماء
المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة ما عدا قبا
واحدا ودخل سفيان الثوري بيت المقدس وصلى فيه ولم يتتبع تلك الآثار ولا
الصلاة فيها
فهؤلاء كرهوها مطلقا لحديث عمر رضي الله عنه هذا لأن ذلك يشبه
الصلاة عند المقابر إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعيادا وإلى التشبه بأهل الكتاب ولأن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا عن غيرهم من المهاجرين والأنصار أن أحدا منهم كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه و سلم
والصواب مع جمهور الصحابة لأن متابعة النبي صلى الله عليه و سلم تكون
بطاعة أمره وتكون في فعله بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله فإذا
قصد النبي صلى الله عليه و سلم العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة
له كقصد المشاعر والمساجد
وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول أو غير ذلك مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان فإنا إذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له فإن الأعمال بالنيات
واستحب آخرون من العلماء المتأخرين إتيانها وذكر طائفة المصنفين من أصحابنا وغيرهم في المناسك استحباب زيارة هذه المشاهد وعدوا منها مواضع وسموها
وأما أحمد فرخص منها فيما جاء به الأثر من ذلك إلا إذا اتخذت عيدا مثل أن تنتاب لذلك ويجتمع عندها في وقت معلوم كما يرخص في صلاة النساء في المساجد جماعات وإن كانت بيوتهن خيرا لهن إلا إذا تبرجن وجمع بذلك بين الآثار واحتج بحديث ابن أم مكتوم
ومثله ما أخرجاه في الصحيحين عن عتبان بن مالك قال كنت أصلي لقومي بني
سالم فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت إني أنكرت بصري وإن السيول تحول
بيني وبين مسجد قومي فلوددت أنك جئت فصليت في بيتي مكانا حتى أتخذه مسجدا
فقال أفعل إن شاء الله فغدا علي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر
معه بعد ما اشتد النهار فاستأذن النبي صلى الله
عليه وسلم فأذنت له فلم يجلس حتى قال أين تحب أن أصلي من بيتك فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن يصلي فيه فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فكبر وصففنا وراءه فصلى ركعتين ثم سلم وسلمنا حين سلم
ففي هذا الحديث دلالة على أن من قصد أن يبنى مسجده في موضع صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا بأس به وكذلك قصد الصلاة في موضع صلاته
ولكن هذا كان أصل قصده بناء مسجد فأحب أن يكون موضعا يصلي له فيه النبي
صلى الله عليه و سلم ليكون النبي صلى الله عليه و سلم هو الذي يرسم المسجد
بخلاف مكان صلى فيه النبي صلى الله عليه و سلم اتفاقا فاتخذ مسجدا لا لحاجة
إلى المسجد لكن لا لأجل صلاته فيه
فأما الأمكنة التي كان
النبي صلى الله عليه و سلم يقصد الصلاة والدعاء عندها فقصد الصلاة أو
الدعاء فيها سنة اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم واتباعا له كما إذا
تحرى الصلاة أو الدعاء في وقت من الأوقات فإن قصد الصلاة أو الدعاء في ذلك الوقت سنة كسائر عباداته وسائر الأفعال التي فعلها على وجه التقرب
ومثل هذا ما أخرجاه في الصحيحين عن يزيد بن أبي عبيد قال كان سلمة بن
الأكوع يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف فقلت له يا أبا مسلم
أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة قال رأيت النبي صلى الله عليه و سلم
يتحرى الصلاة عندها
وفي رواية لمسلم عن سلمة بن الأكوع أنه كان يتحرى الصلاة في موضع المصحف يسبح فيه وذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتحرى ذلك المكان وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة
وقد ظن بعض المصنفين أن هذا مما اختلف فيه وجعله والقسم الأول سواء
وليس بجيد فإنه هنا قد أخبر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتحرى البقعة فكيف لا يكون هذا القصد مستحبا
نعم إيطان بقعة في المسجد لا يصلى إلا فيها منهي عنه كما جاءت به السنة والإيطان ليس هو التحري من غير إيطان
فيجب الفرق بين اتباع النبي صلى الله عليه و سلم والاستنان به فيما فعله وبين ابتداع بدعة لم يسنها لأجل تعلقها به
وقد تنازع العلماء فيما إذا فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلا من المباحات لسبب وفعلناه نحن تشبها به مع انتفاء ذلك السبب فمنهم من يستحب ذلك ومنهم من لا يستحبه
وعلى هذا يخرج فعل ابن عمر رضي الله عنهما فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي في تلك البقاع التي في طريقه لأنها كانت منزله لم يتحر الصلاة فيها لمعنى في البقعة
فنظير هذا أن يصلي المسافر في منزله وهذا سنة
فأما قصد الصلاة في تلك البقاع التي وصلى فيها اتفاقا فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجا وعمارا أو مسافرين ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه و سلم
ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبا لكانوا إليه أسبق فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم وقد قال صلى الله عليه و سلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة
وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين بل هو مما ابتدع وقول الصحابي وفعله إذا خالفه نظيره ليس بحجة فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة
وأيضا فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد والتشبه بأهل الكتاب مما نهينا عن التشبه بهم فيه وذلك ذريعة
إلى الشرك بالله والشارع قد حسم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع
الشمس وعند غروبها وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد فإذا كان قد نهى عن
الصلاة المشروعة في هذا المكان وهذا الزمان سدا للذريعة فكيف يستحب قصد
الصلاة والدعاء في مكان اتفق قيامهم فيه أو صلاتهم فيه من غير
أن يكونوا قد قصدوه للصلاة فيه والدعاء فيه ولو ساغ هذا لاستحب قصد جبل
حراء والصلاة فيه وقصد جبل ثور والصلاة فيه وقصد الأماكن التي يقال إن
الأنبياء قاموا فيها كالمقامين اللذين بجبل قاسيون بدمشق اللذين يقال إنهما
مقام إبراهيم وعيسى والمقام الذي يقال إنه مغارة دم قابيل وأمثال ذلك من البقاع التي بالحجاز والشام وغيرهما
ثم ذلك يفضي إلى ما أفضت إليه مفاسد القبور فإنه يقال إن هذا مقام نبي أو قبر نبي أو ولي بخبر لا يعرف قائله أو بمنام لا تعرف حقيقته ثم يترتب على ذلك اتخاذه مسجدا فيصير وثنا يعبد من دون الله تعالى شرك مبني على إفك والله سبحانه يقرن في كتابه بين الشرك والكذب كما يقرن بين الصدق والإخلاص
ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله مرتين ثم قرأ قول الله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به
وقال تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا
أين شركاؤكم اللذين كنتم تزعمون إلى قوله وضل عنهم ما كانوا يفترون
وقال تعالى عن الخليل إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون
وقال تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة إلى قوله إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار وضل عنكم ما كنتم تزعمون
وقال تعالى تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إلى قوله
وقال تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم إلى قوله وضل عنهم ما كانوا يفترون
وقال تعالى ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون
وقال تعالى إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين
قال أبو قلابة هي لكل مبتدع من هذه الأمة إلى يوم القيامة وهو كما قال
فإن أهل الكذب والفرية عليهم من الغضب والذلة ما أوعدهم الله به
والشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء ولهذا فإن كل من كان
عن التوحيد والسنة أبعد كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب كالرافضة
الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء وأعظمهم شركا فلا يوجد في أهل الأهواء
أكذب منهم ولا أبعد عن التوحيد حتى إنهم يخربون مساجد الله التي يذكر فيها اسمه فيعطلونها عن الجمعات والجماعات ويعمرون المشاهد التي أقيمت على القبور التي نهى الله ورسوله عن اتخاذها والله سبحانه في كتابه إنما أمر بعمارة المساجد لا المشاهد
فقال تعالى ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ولم يقل مشاهد الله
وقال تعالى قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ولم يقل عند كل مشهد
وقال تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم
بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر واقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ولم يقل مشاهد الله
بل المشاهد إنما يعمرها من يخشى غير الله ولا يعمرها إلا من فيه نوع من الشرك
وقال تعالى في بيوت اذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو
والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء
الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا
ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب
وقال تعالى ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ولم يقل وأن المشاهد لله
وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم الثابتة بقوله في الحديث الصحيح من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة ولم يقل مشهدا
وقال أيضا في الحديث صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين صلاة
وقال أيضا في الحديث الصحيح من تطهر
في بيته فأحسن الطهور ثم خرج إلى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة كانت خطواته
إحداها ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة فإذا جلس ينتظر الصلاة فالعبد في صلاة
ما دام ينتظر الصلاة والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى
فيه اللهم اغفر له اللهم ارحمه مالم يحدث
وهذا مما علم بالتواتر والضرورة من دين
الرسول صلى الله عليه و سلم فإنه أمر بعمارة المساجد والصلاة فيها ولم
يأمرنا ببناء مشهد لا على قبر نبي ولا على غير قبر نبي ولا على مقام نبي
ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في بلاد الإسلام لا الحجاز ولا
الشام ولا اليمن ولا العراق ولا خراسان ولا مصر ولا المغرب مسجد مبني على قبر ولا مشهد يقصد للزيارة أصلا ولم يكن أحد
من السلف يأتي قبر نبي أو غير نبي لأجل الدعاء عنده ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم ولا عند قبر غيره من الأنبياء وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي صلى الله عليه و سلم وعلى صاحبيه
واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه و سلم لا يستقبل
قبره وتنازعوا عند السلام عليه فقال مالك وأحمد وغيرهما يستقبل قبره ويسلم
عليه
وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي وأظنه منصوصا عنه وقال أبو حنيفة بل يستقبل القبلة ويسلم عليه وهكذا في كتاب أصحابه
وقال مالك فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في المبسوط والقاضي عياض وغيرهما لا
أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم ويدعو ولكن يسلم ويمضي
وقال أيضا في المبسوط لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم فيصلي عليه ويدعو لأبي بكر وعمر
فقيل له فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه إلا يفعلون ذلك في اليوم مرة وأكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة فقال لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده
وقد تقدم في ذلك من الآثار عن السلف والأئمة ما يوافق هذا ويؤيده من أنهم كانوا إنما يستحبون عند قبره ما هو من جنس الدعاء والتحية كالصلاة والسلام ويكرهون قصده للدعاء والوقوف عنده للدعاء ومن يرخص منهم في
شيء من ذلك فإنه يرخص فيما إذا سلم عليه ثم أراد الدعاء أن يدعو مستقبل القبلة إما مستدبر القبر أو منحرفا عنه وهو أن يستقبل القبلة ويدعو ولا يدعو مستقبل القبر وهكذا المنقول عن سائر الأئمة
ليس في ائمة المسلمين من استحب للمار أن يستقبل قبر النبي صلى الله عليه و سلم ويدعو عنده
وهذا الذي ذكرناه عن مالك والسلف يبين حقيقة الحكاية المأثورة عنه وهي
الحكاية التي ذكرها القاضي عياض عن محمد بن حميد قال ناظر أبو جعفر أمير
المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له مالك يا أمير المؤمنين
لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوما فقال لا ترفعوا
أصواتكم فوق صوت النبي الآية ومدح قوما فقال إن الذين يغضون أصواتهم عند
رسول الله وذم قوما فقال إن الذن ينادونك من وراء
الحجرات أكثرهم لا يعقلون الآية وإن حرمته ميتا كحرمته حيا فاستكان لها
أبو جعفر وقال يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله
صلى الله عليه و سلم فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم
إلى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله فيك قال الله تعالى ولو
أنهم ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله الآية
فهذه الحكاية على هذا الوجه إما أن تكون ضعيفة أو مغيرة وإما أن تفسر بما يوافق مذهبه إذ قد يفهم منها ما هو خلاف مذهبه المعروف بنقل الثقات من أصحابه فانه لا يختلف مذهبه أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء وقد نص على أنه لا يقف عند الدعاء مطلقا وذكر طائفة من أصحابه أنه يدنو من القبر ويسلم على النبي صلى الله عليه و سلم ثم يدعو مستقبل القبلة ويوليه ظهره وقيل لا يوليه ظهره
فاتفقوا في استقبال القبلة وتنازعوا في تولية القبر ظهره وقت الدعاء
ويشبه والله أعلم أن يكون مالك رحمه الله سئل عن استقبال القبر عند السلام وهو يسمي ذلك دعاء فإنه قد كان من فقهاء العراق من يرى
أنه عند السلام عليه يستقبل القبلة أيضا ومالك يرى استقبال القبر في هذه
الحال كما تقدم وكما قال في رواية ابن وهب عنه إذا سلم على النبي صلى الله
عليه و سلم يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ويدعو ولا يمس
القبر بيده
وقد تقدم قوله إنه يصلي عليه ويدعو له
ومعلوم أن الصلاة عليه والدعاء له يوجب شفاعته للعبد يوم القيامة كما قال
صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول
ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة
فقول مالك في هذه الحكاية ان كان ثابتا عنه معناه أنك إذا استقبلته وصليت
عليه وسلمت عليه وسألت الله له الوسيلة يشفع فيك يوم القيامة فإن الأمم يوم
القيامة يتوسلون إلى الله بشفاعته واستشفاع العبد به في الدنيا هو بطاعته
وفعل ما يشفع له به يوم القيامة كسؤال الله له الوسيلة ونحو ذلك
وكذلك ما نقل عنه من رواية
ابن وهب إذا سلم على النبي صلى الله عليه و سلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر
لا إلى القبلة ويدعو ويسلم يعني دعاءه للنبي صلى الله عليه و سلم وصاحبيه
فهذا الدعاء المشروع هناك كالدعاء عند زيارة قبور سائر المؤمنين وهو الدعاء لهم فإنه أحق الناس أن يصلي عليه ويسلم ويدعي له بأبي هو وأمي صلى الله عليه و سلم
وبهذا تتفق أقوال مالك ويفرق بين الدعاء الذي أحبه والدعاء الذي كرهه وذكر أنه بدعة
وأما الحكاية في تلاوة مالك هذه الآية ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية فهي والله أعلم باطلة فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلمه ولم يذكر أحد منهم أنه استحب أن يسأل النبي صلى الله عليه و سلم بعد الموت لا استغفارا ولا غيره وكلام مالك المنصوص عنه وعن أمثاله ينافي هذا
وإنما يعرف مثل هذا في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلا هذه الآية وأنشد بيتين ... يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم ... نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم ...
ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي واحمد مثل ذلك واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعا مندوبا لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم بل قضاء حاجة مثل هذا الأعرابي وأمثاله لها أسباب قد بسطت في غير هذا الموضع
وليس كل من قضيت
حاجته لسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعا مأمورا به فقد كان صلى الله عليه و
سلم يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلا وتكون المسألة محرمة في
حق السائل حتى قال إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا قالوا يا
رسول الله فلم تعطيهم قال يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل
وقد يعمل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا ولا يكون عالما أنه منهي عنه فيثاب على حسن قصده ويعفى عنه لعدم علمه وهذا باب واسع
وعاما العبادات المبتدعة المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس ويحصل له بها
نوع من الفائدة وذلك لا يدل على أنها مشروعة بل لو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها لما نهى عنها
ثم هذا الفاعل قد يكون متأولا أو مخطئا مجتهدا أو مقلدا فيغفر له خطؤه ويثاب على ما فعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع كالمجتهد المخطئ وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أنه قد علم أن مالكا من أعلم
الناس بمثل هذه الأمور فإنه مقيم بالمدينة يرى ما يفعله التابعون وتابعوهم
ويسمع ما ينقلونه عن الصحابة وأكابر التابعين وهو ينهى عن الوقوف عند
القبر للدعاء ويذكر أنه لم يفعله السلف وقد أجدب الناس على عهد عمر رضي
الله عنه فاستسقى بالعباس
ففي صحيح البخاري عن أنس أن عمر
استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك
بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون
فاستسقوا به كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه و سلم في حياته وهو
أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم فيدعو لهم ويدعون معه كالإمام والمأمومين من غير
أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض
بمخلوق ولما مات النبي صلى الله عليه و سلم توسلوا بدعاء العباس واستسقوا
به
ولهذا قال الفقهاء يستحب الاستسقاء بأهل الخير والدين والأفضل أن يكونوا من أهل
بيت النبي صلى الله عليه و سلم وقد استسقى معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي
وقال اللهم إنا نستسقي بيزيد بن الأسود يا يزيد ارفع يديك فرفع يديه ودعا
ودعا الناس حتى أمطروا وذهب الناس ولم يذهب أحد من الصحابة إلى قبر نبي ولا غيره يستسقي عنده ولا به
فأما مقامات الأنبياء والصالحين وهي الأمكنة التي قاموا فيها أو أقاموا أو عبدوا الله سبحانه فيها لكنهم لا يتخذوها مساجد
فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء المشهورين
أحدهما النهي عن ذلك وكراهته
وأنه لا يستحب قصد بقعة للعبادة إلا أن يكون قصدها للعبادة مما جاء به
الشرع مثل أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قصدها للعبادة كما قصد الصلاة
في مقام إبراهيم وكما كان يتحرى الصلاة عند الأسطوانة وكما يقصد المساجد
للصلاة ويقصد الصف الأول ونحو ذلك
والقول الثاني أنه لا بأس باليسير من ذلك كما نقل عن ابن عمر أنه كان
فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء المشهورين
أحدهما النهي عن ذلك وكراهته
وأنه لا يستحب قصد بقعة للعبادة إلا أن يكون قصدها للعبادة مما جاء به
الشرع مثل أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قصدها للعبادة كما قصد الصلاة
في مقام إبراهيم وكما كان يتحرى الصلاة عند الأسطوانة وكما يقصد المساجد
للصلاة ويقصد الصف الأول ونحو ذلك
والقول الثاني أنه لا بأس باليسير من ذلك كما نقل عن ابن عمر أنه كان
يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه و سلم وإن كان النبي قد سلكها اتفاقا لا قصدا
قال سندي الخواتيمي سألنا أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد يذهب إليها ترى ذلك قال أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى وعلى ما كان يفعله ابن عمر يتتبع مواضع النبي صلى الله عليه و سلم وأثره فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدا وأكثروا فيه
وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم أنه سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد التي
بالمدينة وغيرها يذهب إليها فقال أما على حديث ابن أم مكتوم وأنه سأل
النبي صلى الله عليه و سلم أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مسجدا أو على
ما كان يفعل ابن عمر كان يتتبع مواضع سير النبي صلى الله عليه و سلم حتى
إنه رؤي يصب في موضع الماء فسئل عن ذلك فقال
كان النبي صلى الله عليه و سلم يصب ههنا ماء قال أما على هذا فلا بأس قال
ورخص فيه ثم قال ولكن قد أفرط الناس جدا وأكثروا في هذا المعنى فذكر قبر
الحسين وما يفعل الناس عنده رواهما الخلال في كتاب الأدب
فقد فصل أبو عبد الله في المشاهد وهي الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء والصالحين من غير أن تكون مساجد لهم كمواضع بالمدينة بين القليل الذي لا يتخذونه عيدا والكثير الذي يتخذونه عيدا كما تقدم
وهذا التفصيل جمع فيه بين الآثار وأقوال الصحابة فإنه قد روى البخاري في
صحيحه عن موسى بن عقبة قال رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق
ويصلي فيها ويحدث أن أباه كان يصلي فيها وأنه رأى النبي صلى الله عليه و
سلم يصلي في تلك الأمكنة قال موسى وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلي في تلك
الأمكنة
فهذا ما رخص فيه أحمد رضي الله عنه
وأما ما كرهه فروى سعيد بن منصور
في سننه حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن معرور بن سويد عن عمر رضي الله
عنه قال خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر ب ألم تر كيف فعل ربك
بأصحاب الفيل و لئيلاف قريش في الثانية فلما رجع من حجته
رأى الناس ابتدروا المسجد فقال ما هذا قالوا مسجد صلى فيه رسول الله صلى
الله عليه و سلم فقال هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم أتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له منكم الصلاة فيه فليصل ومن لم تعرض له الصلاة فليمض
فقد كره عمر رضي الله عنه اتخاذ مصلى النبي صلى الله عليه و سلم عيدا وبين أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا
وفي رواية عنه أنه رأى الناس يذهبون مذاهب فقال أين يذهب هؤلاء فقيل يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه و سلم فهم يصلون فيه فقال إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها
وروى محمد بن وضاح وغيره أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع
تحتها النبي صلى الله عليه و سلم بيعة الرضوان لأن الناس كانوا يذهبون
تحتها فخاف عمر الفتنة عليهم
وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم في إتيان تلك المشاهد
فقال محمد بن وضاح كان مالك وغيره من علماء
المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة ما عدا قبا
واحدا ودخل سفيان الثوري بيت المقدس وصلى فيه ولم يتتبع تلك الآثار ولا
الصلاة فيها
فهؤلاء كرهوها مطلقا لحديث عمر رضي الله عنه هذا لأن ذلك يشبه
الصلاة عند المقابر إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعيادا وإلى التشبه بأهل الكتاب ولأن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا عن غيرهم من المهاجرين والأنصار أن أحدا منهم كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه و سلم
والصواب مع جمهور الصحابة لأن متابعة النبي صلى الله عليه و سلم تكون
بطاعة أمره وتكون في فعله بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله فإذا
قصد النبي صلى الله عليه و سلم العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة
له كقصد المشاعر والمساجد
وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول أو غير ذلك مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان فإنا إذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له فإن الأعمال بالنيات
واستحب آخرون من العلماء المتأخرين إتيانها وذكر طائفة المصنفين من أصحابنا وغيرهم في المناسك استحباب زيارة هذه المشاهد وعدوا منها مواضع وسموها
وأما أحمد فرخص منها فيما جاء به الأثر من ذلك إلا إذا اتخذت عيدا مثل أن تنتاب لذلك ويجتمع عندها في وقت معلوم كما يرخص في صلاة النساء في المساجد جماعات وإن كانت بيوتهن خيرا لهن إلا إذا تبرجن وجمع بذلك بين الآثار واحتج بحديث ابن أم مكتوم
ومثله ما أخرجاه في الصحيحين عن عتبان بن مالك قال كنت أصلي لقومي بني
سالم فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت إني أنكرت بصري وإن السيول تحول
بيني وبين مسجد قومي فلوددت أنك جئت فصليت في بيتي مكانا حتى أتخذه مسجدا
فقال أفعل إن شاء الله فغدا علي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر
معه بعد ما اشتد النهار فاستأذن النبي صلى الله
عليه وسلم فأذنت له فلم يجلس حتى قال أين تحب أن أصلي من بيتك فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن يصلي فيه فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فكبر وصففنا وراءه فصلى ركعتين ثم سلم وسلمنا حين سلم
ففي هذا الحديث دلالة على أن من قصد أن يبنى مسجده في موضع صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا بأس به وكذلك قصد الصلاة في موضع صلاته
ولكن هذا كان أصل قصده بناء مسجد فأحب أن يكون موضعا يصلي له فيه النبي
صلى الله عليه و سلم ليكون النبي صلى الله عليه و سلم هو الذي يرسم المسجد
بخلاف مكان صلى فيه النبي صلى الله عليه و سلم اتفاقا فاتخذ مسجدا لا لحاجة
إلى المسجد لكن لا لأجل صلاته فيه
فأما الأمكنة التي كان
النبي صلى الله عليه و سلم يقصد الصلاة والدعاء عندها فقصد الصلاة أو
الدعاء فيها سنة اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم واتباعا له كما إذا
تحرى الصلاة أو الدعاء في وقت من الأوقات فإن قصد الصلاة أو الدعاء في ذلك الوقت سنة كسائر عباداته وسائر الأفعال التي فعلها على وجه التقرب
ومثل هذا ما أخرجاه في الصحيحين عن يزيد بن أبي عبيد قال كان سلمة بن
الأكوع يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف فقلت له يا أبا مسلم
أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة قال رأيت النبي صلى الله عليه و سلم
يتحرى الصلاة عندها
وفي رواية لمسلم عن سلمة بن الأكوع أنه كان يتحرى الصلاة في موضع المصحف يسبح فيه وذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتحرى ذلك المكان وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة
وقد ظن بعض المصنفين أن هذا مما اختلف فيه وجعله والقسم الأول سواء
وليس بجيد فإنه هنا قد أخبر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتحرى البقعة فكيف لا يكون هذا القصد مستحبا
نعم إيطان بقعة في المسجد لا يصلى إلا فيها منهي عنه كما جاءت به السنة والإيطان ليس هو التحري من غير إيطان
فيجب الفرق بين اتباع النبي صلى الله عليه و سلم والاستنان به فيما فعله وبين ابتداع بدعة لم يسنها لأجل تعلقها به
وقد تنازع العلماء فيما إذا فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلا من المباحات لسبب وفعلناه نحن تشبها به مع انتفاء ذلك السبب فمنهم من يستحب ذلك ومنهم من لا يستحبه
وعلى هذا يخرج فعل ابن عمر رضي الله عنهما فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي في تلك البقاع التي في طريقه لأنها كانت منزله لم يتحر الصلاة فيها لمعنى في البقعة
فنظير هذا أن يصلي المسافر في منزله وهذا سنة
فأما قصد الصلاة في تلك البقاع التي وصلى فيها اتفاقا فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجا وعمارا أو مسافرين ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه و سلم
ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبا لكانوا إليه أسبق فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم وقد قال صلى الله عليه و سلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة
وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين بل هو مما ابتدع وقول الصحابي وفعله إذا خالفه نظيره ليس بحجة فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة
وأيضا فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد والتشبه بأهل الكتاب مما نهينا عن التشبه بهم فيه وذلك ذريعة
إلى الشرك بالله والشارع قد حسم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع
الشمس وعند غروبها وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد فإذا كان قد نهى عن
الصلاة المشروعة في هذا المكان وهذا الزمان سدا للذريعة فكيف يستحب قصد
الصلاة والدعاء في مكان اتفق قيامهم فيه أو صلاتهم فيه من غير
أن يكونوا قد قصدوه للصلاة فيه والدعاء فيه ولو ساغ هذا لاستحب قصد جبل
حراء والصلاة فيه وقصد جبل ثور والصلاة فيه وقصد الأماكن التي يقال إن
الأنبياء قاموا فيها كالمقامين اللذين بجبل قاسيون بدمشق اللذين يقال إنهما
مقام إبراهيم وعيسى والمقام الذي يقال إنه مغارة دم قابيل وأمثال ذلك من البقاع التي بالحجاز والشام وغيرهما
ثم ذلك يفضي إلى ما أفضت إليه مفاسد القبور فإنه يقال إن هذا مقام نبي أو قبر نبي أو ولي بخبر لا يعرف قائله أو بمنام لا تعرف حقيقته ثم يترتب على ذلك اتخاذه مسجدا فيصير وثنا يعبد من دون الله تعالى شرك مبني على إفك والله سبحانه يقرن في كتابه بين الشرك والكذب كما يقرن بين الصدق والإخلاص
ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله مرتين ثم قرأ قول الله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به
وقال تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا
أين شركاؤكم اللذين كنتم تزعمون إلى قوله وضل عنهم ما كانوا يفترون
وقال تعالى عن الخليل إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون
وقال تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة إلى قوله إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار وضل عنكم ما كنتم تزعمون
وقال تعالى تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إلى قوله
وقال تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم إلى قوله وضل عنهم ما كانوا يفترون
وقال تعالى ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون
وقال تعالى إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين
قال أبو قلابة هي لكل مبتدع من هذه الأمة إلى يوم القيامة وهو كما قال
فإن أهل الكذب والفرية عليهم من الغضب والذلة ما أوعدهم الله به
والشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء ولهذا فإن كل من كان
عن التوحيد والسنة أبعد كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب كالرافضة
الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء وأعظمهم شركا فلا يوجد في أهل الأهواء
أكذب منهم ولا أبعد عن التوحيد حتى إنهم يخربون مساجد الله التي يذكر فيها اسمه فيعطلونها عن الجمعات والجماعات ويعمرون المشاهد التي أقيمت على القبور التي نهى الله ورسوله عن اتخاذها والله سبحانه في كتابه إنما أمر بعمارة المساجد لا المشاهد
فقال تعالى ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ولم يقل مشاهد الله
وقال تعالى قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ولم يقل عند كل مشهد
وقال تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم
بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر واقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ولم يقل مشاهد الله
بل المشاهد إنما يعمرها من يخشى غير الله ولا يعمرها إلا من فيه نوع من الشرك
وقال تعالى في بيوت اذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو
والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء
الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا
ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب
وقال تعالى ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ولم يقل وأن المشاهد لله
وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم الثابتة بقوله في الحديث الصحيح من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة ولم يقل مشهدا
وقال أيضا في الحديث صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين صلاة
وقال أيضا في الحديث الصحيح من تطهر
في بيته فأحسن الطهور ثم خرج إلى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة كانت خطواته
إحداها ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة فإذا جلس ينتظر الصلاة فالعبد في صلاة
ما دام ينتظر الصلاة والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى
فيه اللهم اغفر له اللهم ارحمه مالم يحدث
وهذا مما علم بالتواتر والضرورة من دين
الرسول صلى الله عليه و سلم فإنه أمر بعمارة المساجد والصلاة فيها ولم
يأمرنا ببناء مشهد لا على قبر نبي ولا على غير قبر نبي ولا على مقام نبي
ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في بلاد الإسلام لا الحجاز ولا
الشام ولا اليمن ولا العراق ولا خراسان ولا مصر ولا المغرب مسجد مبني على قبر ولا مشهد يقصد للزيارة أصلا ولم يكن أحد
من السلف يأتي قبر نبي أو غير نبي لأجل الدعاء عنده ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم ولا عند قبر غيره من الأنبياء وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي صلى الله عليه و سلم وعلى صاحبيه
واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه و سلم لا يستقبل
قبره وتنازعوا عند السلام عليه فقال مالك وأحمد وغيرهما يستقبل قبره ويسلم
عليه
وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي وأظنه منصوصا عنه وقال أبو حنيفة بل يستقبل القبلة ويسلم عليه وهكذا في كتاب أصحابه
وقال مالك فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في المبسوط والقاضي عياض وغيرهما لا
أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم ويدعو ولكن يسلم ويمضي
وقال أيضا في المبسوط لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم فيصلي عليه ويدعو لأبي بكر وعمر
فقيل له فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه إلا يفعلون ذلك في اليوم مرة وأكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة فقال لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده
وقد تقدم في ذلك من الآثار عن السلف والأئمة ما يوافق هذا ويؤيده من أنهم كانوا إنما يستحبون عند قبره ما هو من جنس الدعاء والتحية كالصلاة والسلام ويكرهون قصده للدعاء والوقوف عنده للدعاء ومن يرخص منهم في
شيء من ذلك فإنه يرخص فيما إذا سلم عليه ثم أراد الدعاء أن يدعو مستقبل القبلة إما مستدبر القبر أو منحرفا عنه وهو أن يستقبل القبلة ويدعو ولا يدعو مستقبل القبر وهكذا المنقول عن سائر الأئمة
ليس في ائمة المسلمين من استحب للمار أن يستقبل قبر النبي صلى الله عليه و سلم ويدعو عنده
وهذا الذي ذكرناه عن مالك والسلف يبين حقيقة الحكاية المأثورة عنه وهي
الحكاية التي ذكرها القاضي عياض عن محمد بن حميد قال ناظر أبو جعفر أمير
المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له مالك يا أمير المؤمنين
لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوما فقال لا ترفعوا
أصواتكم فوق صوت النبي الآية ومدح قوما فقال إن الذين يغضون أصواتهم عند
رسول الله وذم قوما فقال إن الذن ينادونك من وراء
الحجرات أكثرهم لا يعقلون الآية وإن حرمته ميتا كحرمته حيا فاستكان لها
أبو جعفر وقال يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله
صلى الله عليه و سلم فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم
إلى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله فيك قال الله تعالى ولو
أنهم ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله الآية
فهذه الحكاية على هذا الوجه إما أن تكون ضعيفة أو مغيرة وإما أن تفسر بما يوافق مذهبه إذ قد يفهم منها ما هو خلاف مذهبه المعروف بنقل الثقات من أصحابه فانه لا يختلف مذهبه أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء وقد نص على أنه لا يقف عند الدعاء مطلقا وذكر طائفة من أصحابه أنه يدنو من القبر ويسلم على النبي صلى الله عليه و سلم ثم يدعو مستقبل القبلة ويوليه ظهره وقيل لا يوليه ظهره
فاتفقوا في استقبال القبلة وتنازعوا في تولية القبر ظهره وقت الدعاء
ويشبه والله أعلم أن يكون مالك رحمه الله سئل عن استقبال القبر عند السلام وهو يسمي ذلك دعاء فإنه قد كان من فقهاء العراق من يرى
أنه عند السلام عليه يستقبل القبلة أيضا ومالك يرى استقبال القبر في هذه
الحال كما تقدم وكما قال في رواية ابن وهب عنه إذا سلم على النبي صلى الله
عليه و سلم يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ويدعو ولا يمس
القبر بيده
وقد تقدم قوله إنه يصلي عليه ويدعو له
ومعلوم أن الصلاة عليه والدعاء له يوجب شفاعته للعبد يوم القيامة كما قال
صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول
ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة
فقول مالك في هذه الحكاية ان كان ثابتا عنه معناه أنك إذا استقبلته وصليت
عليه وسلمت عليه وسألت الله له الوسيلة يشفع فيك يوم القيامة فإن الأمم يوم
القيامة يتوسلون إلى الله بشفاعته واستشفاع العبد به في الدنيا هو بطاعته
وفعل ما يشفع له به يوم القيامة كسؤال الله له الوسيلة ونحو ذلك
وكذلك ما نقل عنه من رواية
ابن وهب إذا سلم على النبي صلى الله عليه و سلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر
لا إلى القبلة ويدعو ويسلم يعني دعاءه للنبي صلى الله عليه و سلم وصاحبيه
فهذا الدعاء المشروع هناك كالدعاء عند زيارة قبور سائر المؤمنين وهو الدعاء لهم فإنه أحق الناس أن يصلي عليه ويسلم ويدعي له بأبي هو وأمي صلى الله عليه و سلم
وبهذا تتفق أقوال مالك ويفرق بين الدعاء الذي أحبه والدعاء الذي كرهه وذكر أنه بدعة
وأما الحكاية في تلاوة مالك هذه الآية ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية فهي والله أعلم باطلة فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلمه ولم يذكر أحد منهم أنه استحب أن يسأل النبي صلى الله عليه و سلم بعد الموت لا استغفارا ولا غيره وكلام مالك المنصوص عنه وعن أمثاله ينافي هذا
وإنما يعرف مثل هذا في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلا هذه الآية وأنشد بيتين ... يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم ... نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم ...
ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي واحمد مثل ذلك واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعا مندوبا لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم بل قضاء حاجة مثل هذا الأعرابي وأمثاله لها أسباب قد بسطت في غير هذا الموضع
وليس كل من قضيت
حاجته لسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعا مأمورا به فقد كان صلى الله عليه و
سلم يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلا وتكون المسألة محرمة في
حق السائل حتى قال إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا قالوا يا
رسول الله فلم تعطيهم قال يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل
وقد يعمل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا ولا يكون عالما أنه منهي عنه فيثاب على حسن قصده ويعفى عنه لعدم علمه وهذا باب واسع
وعاما العبادات المبتدعة المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس ويحصل له بها
نوع من الفائدة وذلك لا يدل على أنها مشروعة بل لو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها لما نهى عنها
ثم هذا الفاعل قد يكون متأولا أو مخطئا مجتهدا أو مقلدا فيغفر له خطؤه ويثاب على ما فعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع كالمجتهد المخطئ وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أنه قد علم أن مالكا من أعلم
الناس بمثل هذه الأمور فإنه مقيم بالمدينة يرى ما يفعله التابعون وتابعوهم
ويسمع ما ينقلونه عن الصحابة وأكابر التابعين وهو ينهى عن الوقوف عند
القبر للدعاء ويذكر أنه لم يفعله السلف وقد أجدب الناس على عهد عمر رضي
الله عنه فاستسقى بالعباس
ففي صحيح البخاري عن أنس أن عمر
استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك
بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون
فاستسقوا به كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه و سلم في حياته وهو
أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم فيدعو لهم ويدعون معه كالإمام والمأمومين من غير
أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض
بمخلوق ولما مات النبي صلى الله عليه و سلم توسلوا بدعاء العباس واستسقوا
به
ولهذا قال الفقهاء يستحب الاستسقاء بأهل الخير والدين والأفضل أن يكونوا من أهل
بيت النبي صلى الله عليه و سلم وقد استسقى معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي
وقال اللهم إنا نستسقي بيزيد بن الأسود يا يزيد ارفع يديك فرفع يديه ودعا
ودعا الناس حتى أمطروا وذهب الناس ولم يذهب أحد من الصحابة إلى قبر نبي ولا غيره يستسقي عنده ولا به
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
والعلماء استحبوا السلام على النبي صلى الله عليه و سلم للحديث
الذي في سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال
ما من رجل
يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام هذا مع ما في النسائي
وغيره عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني
عن أمتي السلام وفي سنن أبي داود وغيره عنه أنه قال أكثروا من الصلاة
علي يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي فقالوا يا رسول الله
كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي بليت فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل
لحوم الأنبياء
فالصلاة عليه بأبي هو وأمي والسلام عليه مما أمر الله به ورسوله
وقد ثبت في الصحيح أنه قال من صلى علي مرة صلى الله عليه و سلم بها عشرا
والمشروع لنا عند زيارة قبور الأنبياء والصالحين وسائر المؤمنين هو من جنس
المشروع عند جنائزهم فكما أن المقصود بالصلاة على الميت الدعاء له
فالمقصود بزيارة قبره الدعاء له كما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم في
الصحيح والسنن والمسند أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول
قائلهم السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم
فهذا دعاء خاص للميت كما في دعاء الصلاة على الجنازة الدعاء العام والخاص
اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا
إنك تعلم متقلبنا ومثوانا أي ثم يخص الميت بالدعاء قال الله تعالى في حق المنافقين ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية
فلما نهى الله نبيه صلى الله عليه و سلم عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم
لأجل كفرهم دل ذلك بطريق التعليل والمفهوم على أن المؤمن يصلي عليه ويقام على قبره ولهذا جاء في السنن أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا دفن الرجل من أصحابه يقوم على قبره ثم يقول سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل
وأما أن يقصد بالزيارة سؤال الميت أو الإقسام على الله به أو استجابة الدعاء عند تلك البقعة فهذا لم يكن من فعل أحد من سلف الأمة ولا الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان وإنما حدث ذلك بعد ذلك بل قد كره مالك وغيره من العلماء أن يقول القائل زرنا قبر النبي صلى الله عليه و سلم
وقال القاضي عياض كره مالك أن يقال زرنا قبر النبي صلى الله عليه و سلم
وذكرنا عن بعضهم أنه علله بلعنه صلى الله عليه و سلم زوارات القبور
قال القاضي عياض وهذا يرده قوله كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها
وعن بعضهم أن ذلك لما قيل إن الزائر أفضل من المزور قال وهذا أيضا ليس بشيء إذ ليس كل زائر بهذه الصفة وقد ورد في حديث زيارة أهل الجنة لربهم ولم يمنع هذا اللفظ في حقه
قال والأولى أن يقال في ذلك إنما
كراهة مالك له لإضافة الزيارة إلى قبر النبي صلى الله عليه و سلم وأنه لو
قال زرنا النبي صلى الله عليه و سلم لم يكرهه لقوله اللهم لا تجعل قبري
وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبه بأولئك قطعا للذريعة وحسما للباب
قلت غلب في عرف كثير من الناس
استعمال لفظ زرنا في زيارة قبور الأنبياء والصالحين على استعمال لفظ زيارة
القبور في الزيارة البدعية الشركية لا في الزيارة الشرعية ولم يثبت عن
النبي صلى الله عليه و سلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص ولا روى أحد في ذلك شيئا لا أهل الصحيح ولا السنن
ولا أئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره
وأجل حديث روي في ذلك ما رواه الدارقطني وهو ضعيف باتفاق أهل العلم بل الأحاديث المروية في زيارة قبره كقوله من زارني وزار أبي إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة و من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي و من حج ولم يزرني فقد جفاني ونحو هذه الأحاديث كلها مكذوبة موضوعة
لكن النبي صلى الله عليه و سلم رخص في زيارة القبور مطلقا بعد أن كان قد
نهى عنها كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور
فزوروها وفي الصحيح عنه أنه قال استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي
واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة
فهذه زيارة لأجل تذكير الآخرة ولهذا يجوز زيارة قبر الكافر لأجل ذلك وكان
صلى الله عليه و سلم يخرج إلى البقيع فيسلم على موتى المسلمين ويدعو لهم
فهذه زيارة مختصة بالمسلمين كما أن الصلاة على الجنازة تختص بالمؤمنين
وقد استفاض عنه صلى الله عليه و سلم في الصحيح أنه قال لعن الله اليهود
والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا
وفي الصحيح أنه ذكرت له أم سلمة كنيسة بأرض الحبشة وذكرت من حسنها
وتصاوير فيها فقال أولئك إذا مات فيها الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا
وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة وهذه في
الصحيح
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك
وفي السنن عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني
وفي الموطأ وغيره عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
وفي المسند وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد
ومعنى هذه الأحاديث متواتر عنه صلى الله عليه و سلم بأبي هو وأمي وكذلك عن أصحابه
فهذا الذي نهى عنه من اتخاذ القبور مساجد مفارق لما أمر به وشرعه من السلام على الموتى والدعاء لهم فالزيارة المشروعة من جنس الثاني والزيارة المبتدعة من جنس الأول
فإن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد يتضمن النهي عن بناء المساجد عليها وعن قصد الصلاة عندها وكلاهما منهي عنه باتفاق العلماء فإنهم قد نهوا عن بناء المساجد على القبور بل صرحوا بتحريم ذلك كما دل عليه النص
واتفقوا أيضا على أنه لا يشرع قصد الصلاة والدعاء عند القبور ولم يقل أحد من أئمة المسلمين إن الصلاة عندها والدعاء عندها أفضل منه في المساجد الخالية عن القبور بل اتفق علماء المسلمين على أن الصلاة والدعاء في المساجد
التي لم تبن على القبور أفضل من الصلاة والدعاء في المساجد التي بنيت على القبور بل الصلاة والدعاء في هذه منهي عنه مكروه باتفاقهم وقد صرح كثير منهم بتحريم ذلك بل وبإبطال الصلاة فيها وإن كان في هذا نزاع
والمقصود هنا أن هذا ليس بواجب ولا مستحب باتفاقهم بل هو مكروه باتفاقهم والفقهاء قد ذكروا في تعليل كراهة الصلاة في المقبرة علتين
إحداهما نجاسة التراب باختلاطه بصديد الموتى وهذه علة من يفرق بين القديمة والحديثة وهذه العلة في صحتها نزاع لاختلاف العلماء في نجاسة تراب القبور وهي من مسائل
الاستحالة وأكثر علماء المسلمين يقولون إن النجاسة تطهر بالاستحالة وهو
مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد وقد ثبت في
الصحيح أن مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان
حائطا لنبي النجار وكان فيه قبور من قبور
المشركين ونخل وخرب فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالنخيل فقطعت وبالخرب
فسويت وبالقبور فنبشت وجعل النخل في صف القبلة فلو كان تراب القبور نجسا
لكان ترب قبور المشركين نجسا ولأمر النبي صلى الله عليه و سلم بنقل ذلك التراب فإنه لا بد أن يختلط ذلك التراب بغيره
والعلة الثانية ما في ذلك من مشابهة الكفار بالصلاة عند القبور لما يفضي إليه ذلك من الشرك وهذه العلة صحيحة باتفاقهم
والمعللون بالأولى كالشافعي وغيره عللوا بهذه أيضا وكرهوا ذلك لما فيه من الفتنة وكذلك الأئمة من أصحاب أحمد ومالك كأبي بكر الأثرم صاحب أحمد وغيره وعلله بهذه الثانية أيضا وإن كان منهم من قد يعلل بالأولى
وقد قال تعالى وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ذكر ابن عباس وغيره من السلف
أن هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم
وصوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم قد ذكر هذا البخاري في صحيحه
وأهل التفسير كابن جرير وغيره وأصحاب قصص الأنبياء كوثيمة وغيره
ويبين صحة هذه العلة أنه صلى الله عليه و سلم لعن من يتخذ
قبور الأنبياء مساجد ومعلوم أن قبور الأنبياء لا تنبش ولا يكون ترابها
نجسا وقد قال صلى الله عليه و سلم عن نفسه اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد
وقال صلى الله عليه و سلم لا تتخذوا قبري عيدا
فعلم أن نهيه عن ذلك من جنس
نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لأن الكفار يسجدون للشمس حينئذ
فسد صلى الله عليه و سلم الذريعة وحسم المادة بأن لا يصلى في هذه الساعة
وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله
ولا يدعو إلا الله وكذلك نهى عن اتخاذ القبور مساجد وإن كان المصلي عندها لا يصلي إلا لله لئلا يفضي ذلك إلى دعاء المقبورين والصلاة لهم وكلا الأمرين قد وقع
فإن من الناس من يسجد للشمس وغيرها من الكواكب ويدعو لها بأنواع الأدعية والتعزيمات ويلبس لها من اللباس والخواتم ما يظن مناسبته لها ويتحرى الأوقات والأمكنة والأبخرة المناسبة لها في زعمه وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام وصنف فيه بعض المشهورين كتابا سماه السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم على مذهب المشركين من الهند والصابئين والمشركين من العرب وغيرهم مثل طمطم الهندي وملكوشا البابلي وابن وحشية وأبي معشر البلخي وثابت بن قرة وأمثالهم ممن دخل في الشرك وآمن بالجبت والطاغوت وهم منتسبون إلى أهل الإسلام كما قال تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا وقد قال غير واحد من السلف الجبت السحر والطاغوت الأوثان وبعضهم قال الشيطان وكلاهما حق
وهؤلاء يجمعون بين الجبت الذي هو السحر و الشرك الذي هو عبادة الطاغوت كما يجمعون بين السحر وعبادة الكواكب وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام بل ودين جميع الرسل أنه شرك محرم بل هذا من أعظم أنواع الشرك الذي بعثت الرسل بالنهي عنه ومخاطبة إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه لقومه كانت في نحو هذا الشرك وكذلك قوله تعالى
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض إلى قوله تعالى إن ربك عليم حكيم
فإن إبراهيم عليه السلام سلك هذه السبيل لأن قومه كانوا يتخذون الكوكب أربابا يدعونها ويسألونها ولم يكونوا هم ولا أحد من العقلاء يعتقد أن كواكبا من الكواكب خلق السموات والأرض وإنما كانوا يدعونها من دون
الله على مذهب هؤلاء المشركين ولهذا قال الخليل عليه السلام أفرأيتم ما
كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين وقال
الخليل أيضا إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين والخليل
صلوات الله عليه أنكر شركهم بعبادة الكواكب العلوية وشركهم بعبادة الأوثان
التي هي تماثيل وطلاسم لتلك الكواكب أو هي تماثيل لمن مات من الأنبياء والصالحين وغيرهم وكسر الأصنام كما قال تعالى عنه فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون
والمقصود هنا أن الشرك بعبادة الكواكب وقع كثيرا وكذلك الشرك بالمقبورين من دعائهم والتضرع إليهم والرغبة إليهم ونحو ذلك
فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم قد نهى عن الصلاة التي تتضمن الدعاء لله وحده خالصا عند القبور لئلا يفضي ذلك إلى نوع من الشرك بربهم فكيف إذا وجد ما هو عين الشرك من الرغبة إليهم سواء طلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات أو طلب منهم أن يطلبوا ذلك من الله بل لو أقسم على الله ببعض خلقه من الأنبياء والملائكة وغيرهم لنهي عن ذلك ولو لم يكن عند قبره كما لا يقسم بمخلوق مطلقا وهذا القسم منهي عنه غير منعقدباتفاق
الأئمة وهل هو نهي تحريم أو تنزيه على قولين أصحهما أنه نهي تحريم ولم
يتنازع العلماء إلا في الحلف بالنبي صلى الله عليه و سلم خاصة فإن فيه
قولين في مذهب
أحمد وبعض أصحابه كابن عقيل طرد
الخلاف في الحلف بسائر الأنبياء لكن القول الذي عليه جمهور الأئمة كمالك
والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم أنه لا ينعقد اليمين بمخلوق ألبته ولا يقسم
بمخلوق ألبته وهذا هو الصواب
والإقسام على الله بنبيه محمد صلى الله عليه و سلم ينبني على هذا الأصل ففيه هذا النزاع
وقد نقل عن أحمد في التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم في منسك المروزي ما يناسب قوله بانعقاد اليمين به لكن الصحيح أنه لا تنعقد اليمين به فكذلك هذا
وأما غيره فما علمت بين الأمة فيه نزاعا بل قد صرح العلماء بالنهي عن ذلك واتفقوا على أن الله تعالى هو الذي يسأل وحده ويقسم عليه بأسمائه وصفاته كما يقسم على غيره بذلك كالأدعية المعروفة في السنن اللهم إني أسألك بأن لك الحمد أنت الله الحنان المنان
بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام وفي الحديث الآخر اللهم إني
أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
وفي الحديث الآخر أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو
علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك فهذه الأدعية ونحوها هي المشروعة باتفاق العلماء
وأما إذا قال أسألك بمعاقد العز من عرشك فهذا فيه نزاع رخص فيه غير واحد لمجيء الأثر به ونقل عن أبي حنيفة كراهته
قال أبو الحسن القدوري في شرح الكرخي قال بشر بن الوليد سمعت ابا يوسف قال
أبو حنيفة رحمه الله لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن يقول
بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك وهو قول لأبي يوسف قال أبو يوسف بمعقد العز من عرشه هو الله فلا أكره هذا
وأكره بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت والمشعر الحرام بهذا الحق يكره
فقد قالوا جميعا فالمسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق للمخلوق على الخالق فلا يجوز أن يسأل بما ليس مستحقا عليه ولكن معقد العز من عرشك هل هو سؤال بمخلوق أو بالخالق فيه نزاع بينهم فلذلك تنازعوا فيه وأبو يوسف بلغه الأثر فيه أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وكلماتك التامة فجوزه لذلك
وقد نازع في هذا بعض الناس وقالوا في حديث أبي سعيد الذي رواه ابن ماجه عن
النبي صلى الله عليه و سلم في الدعاء الذي يقوله الخارج إلى الصلاة اللهم
إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فاني لم أخرج اشرا ولا بطرا
ولا رياء ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي وقد قال تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام على قراءة حمزة وغيره ممن خفض الأرحام وقال تفسيرها أي تساءلون به والأرحام كما يقال سألتك بالله وبالرحم
ومن زعم من النحاة أنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا باعادة الجار فإنما قاله لما رأى غالب الكلام بإعادة الجار وإلا فقد سمع من الكلام العربي نثره ونظمه العطف بدون ذلك كما حكى سيبويه ما فيها غيره وفرسه ولا ضرورة هنا كما يدعى مثل ذلك في
الشعر ولأنه قد ثبت في الصحيح أن عمر قال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل
إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون
وفي النسائي والترمذي وغيرهما حديث الأعمى الذي صححه الترمذي أنه جاء إلى
النبي صلى الله عليه و سلم فسأله أن يدعو الله أن يرد بصره فأمره أن يتوضأ
فيصلي ركعتين ويقول اللهم أني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة
يا محمد يا نبي الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضيها اللهم فشفعه في ودعا الله فرد الله عليه بصره
والجواب عن هذا أن يقال
أولا لا ريب أن الله جعل على نفسه حقا لعباده المؤمنين كما قال تعالى وكان حقا علينا نصر المؤمنين وكما قال تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه و سلم قال لمعاذ بن جبل وهو رديفه يا معاذ
أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حقه عليهم أن يعبدوه
ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال حقهم عليه أن لا يعذبهم فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق
وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعد الله الصادق وتنازعوا هل يوجب الله بنفسه على نفسه ويحرم بنفسه على نفسه على قولين
ومن جوز ذلك احتج
بقوله سبحانه كتب ربكم على نفسه الرحمة وبقوله في الحديث القدسي الصحيح
إني حرمت الظلم على نفسي الخ والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر
وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خلقه فهذا قول القدرية وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول
وصريح المعقول وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه
وأنه ما شاء كان وما شاء لم يكن وأن العباد لا يوجبون عليه شيئا ولهذا كان من قال من أهل
السنة بالوجوب قال إنه كتب على نفسه الرحمة وحرم الظلم على نفسه لا أن
العبد نفسه مستحق على الله شيئا كما يكون للمخلوق على المخلوق فإن الله هو
المنعم على العباد بكل خير فهو الخالق لهم وهو المرسل إليهم الرسل وهو الميسر لهم الإيمان
والعمل الصالح ومن توهم من القدرية والمعتزلة ونحوهم أنهم يستحقون عليه من جنس ما يستحقه الأجير على المستأجر فهو جاهل في ذلك
وإذا كان كذلك لم تكن الوسيلة إليه إلا بما من به من فضله وإحسانه والحق الذي لعباده هو من فضله وإحسانه ليس من باب المعاوضة ولا من باب ما أوجبه غيره عليه فإنه سبحانه يتعالى عن ذلك
وإذا سئل بما جعله سببا للمطلوب من التقوى والأعمال الصالحة التي وعد أصحابها بكرامته وأنه يجعل لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون فيستجيب دعاءهم ومن أدعية عباده الصالحين ومن شفاعة ذوي الوجاهة عنده فهذا سؤال وتسبب بما جعله هو سببا
وأما إذا سئل بشيء ليس هو سببا للمطلوب فإما أن يكون إقساما به عليه فلا
يقسم على الله بمخلوق وإما أن يكون سؤالا بما لا يقتضي المطلوب فيكون عديم
الفائدة
فالأنبياء والمؤمنون لهم حق على الله بوعده الصادق لهم وبكلماته التامة ورحمته لهم أن ينصرهم ولا يخذلهم وأن يمنعهم ولا يعذبهم وهم وجهاء عنده يقبل من شفاعتهم ودعائهم مالا يقبله من دعاء غيرهم
فإذا قال الداعي أسألك بحق فلان وفلان لم يدع ربه وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص ومحبته وطاعته بل بنفس ذاته وما جعله له ربه من الكرامة فهو لم يسأله بسبب يوجب المطلوب
وحينئذ فيقال أما نفس التوسل والتوجه إلى الله ورسوله بالأعمال الصالحة
التي أمر بها كدعاء الثلاثة الذين آووا إلى الغار بأعمالهم الصالحة وبدعاء
الأنبياء والصالحين وشفاعتهم فهذا مما لا نزاع فيه بل هو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وقوله سبحانه
أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه
فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو طلب ما يتوسل به أي يتوصل ويتقرب به إليه
سبحانه سواء كان على وجه العبادة والطاعة وامتثال الأمر أو كان على وجه
السؤال له والاستعاذة به رغبة إليه في جلب المنافع ودفع المضار ولفظ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا هو الدعاء بمعنى العبادة والدعاء بمعنى المسألة وإن كان كل منهما يستلزم الآخر لكن العبد قد تنزل به النازلة فيكون مقصوده طلب حاجاته وتفريج كربته فيسعى في ذلك بالسؤال والتضرع وإن كان ذلك من العبادة والطاعة ثم يكون في أول الأمر قصده حصول ذلك المطلوب من الرزق والنصر والعافية مطلقا ثم الدعاء والتضرع يفتح له من أبواب الإيمان بالله عز و جل ومعونته ومحبته والتنعم بذكره ودعائه ما يكون هو أحب إليه وأعظم قدرا عنده من تلك الحاجة التي همته وهذا من رحمة الله بعباده يسوقهم بالحاجات الدنيوية إلى المقاصد العلية الدينية
وقد يفعل العبد ابتداء ما أمر به لأجل العبادة لله والطاعة له ولما عنده من محبته والإنابة إليه وخشيته وامتثال أمره وإن كان ذلك يتضمن حصول الرزق والنصر والعافية
وقد قال تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم وقال النبي صلى الله عليه و سلم
في الحديث الذي رواه أهل السنن أبو داود وغيره الدعاء هو العبادة ثم قرأ
قوله تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم وقد فسر هذا الحديث مع القرآن بكلا
النوعين
قيل ادعوني أي اعبدوني وأطيعوا أمري استجب دعاءكم وقيل سلوني أعطكم وكلا النوعين حق
وفي الصحيحين في قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث النزول ينزل
ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له حتى يطلع الفجر
فذكر أولا إجابته الدعاء ثم ذكر إعطاء المغفرة للمستغفر
فهذا جلب المنفعة وهذا دفع المضرة وكلاهما مقصود الداعي المجاب
وقال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون وقد روى أن بعض الصحابة قال يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله هذه الآية
فأخبر سبحانه أنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ثم أمرهم بالاستجابة له وبالإيمان به كما قال بعضهم فليستجيبوا لي إذا دعوتهم وليؤمنوا بي إذا دعوتهم
قالوا وبهذين الشيئين تحصل إجابة الدعوة بكمال الطاعة لألوهيته وبصحة الإيمان بربوبيته فمن استجاب لربه بامتثال أمره ونهيه حصل مقصوده من الدعاء وأجيب دعاؤه كما قال تعالى ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله أي يستجيب لهم يقال استجابه واستجاب له
فمن دعاه
موقنا أن يجيب دعوة الداعي إذا دعاه أجابه وقد يكون مشركا وفاسقا فإنه
سبحانه هو القائل وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما
كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه وهو القائل سبحانه وإذا مسكم
الضر في البحر ضل من تدعون
إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا وهو القائل
سبحانه قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى