رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ}
{مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ}: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ
وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ
{مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ}: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ
وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ
النَّارِ}: {أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ
الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ
الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ
وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ}: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}: {وأحسن كل
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ
الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} بل هو في غاية التناسب واقع على أكمل الوجوه
وأقربها إلى حصول الغايات المحمودة والحكم المطلوبة فلم يكن تحصل تلك الحكم
والغايات التي انفرد الله سبحانه بعلمها على التفصيل وأطلع من شاء من
عباده على أيسر اليسير منها إلا بهذه الأسباب والبدايات وقد سأله الملائكة
المقربون عن جنس هذه الأسئلة وأصلها فقال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ} وأقروا له بكمال العلم والحكمة وأنه في جميع أفعاله على صراط
مستقيم وقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ولما
ظهر لهم ببعض حكمته فيما سألوا عنه وأنهم لم يكونوا يعلمون قال: {قَالَ
أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}.
فصل: ونحن نذكر
أصولا مهمة نبين بها جواب هذه الأسئلة وقد اعترف كثير من المتكلمين ممن له
نظر في الفلسفة والكلام أنه لا يمكن الجواب عنها إلا بالتزام القول
بالموجب
بالذات أو القول بإبطال الحكمة والتعليل وأنه سبحانه لا يفعل شيئا لشيء
ولا يأمر بشيء لحكمة ولا جعل شيئا من الأشياء سببا لغيره وما ثم إلا مشيئة
محضة وقدرة ترجح مثلا على مثل بلا سبب ولا على وأنه لا يقال
ص -186-
في فعله لم ولا كيف ولا لأي سبب وحكمة ولا هو معلل بالمصالح قال الرازي في
مباحثه: "فإن قيل فلم لم يخلق الخالق هذه الأشياء عرية عن كل الشرور فنقول
لأنه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الأول وذلك مما خرج عنه" يعني كان
ذلك هو القسم الذي هو خير محض لا شر فيه قال: "وبقي في الفعل قسم آخر وهو
الذي يكون خيره غالبا على شره" وقد بينا أن الأولى بهذا القسم أن يكون
موجودا قال وهذا الجواب لا يعجبني لأن لقائل أن يقول أن جميع هذه الخيرات
والشرور إنما توجد باختيار الله سبحانه وإرادته فالاحتراق الحاصل عقيب
النار ليس موجبا عن النار بل الله اختار خلقه عقيب مماسة النار وإذا كان
حصول الاحتراق عقيب مماسة النار باختيار الله وإرادته فكان يمكنه أن يختار
خلق الإحراق عندما يكون خيرا ولا يختار خلقه عندما يكون شرا ولا خلاص عن
هذه المطالبة إلا ببيان كونه فاعلا بالذات لا بالقصد والاختيار ويرجع حاصل
الكلام في هذه المسألة إلى مسألة القدم والحدوث فانظر كيف اعترف بأنه لا
خلاص عن هذه الأسئلة إلا بتكذيب جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم وإبطال جميع
الكتب المنزلة من عند الله ومخالفة صريح العقل في أن خالق العالم سبحانه
مريد مختار ما شاء كان بمشيئته وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته وأنه ليس في
الكون شيء حاصل بدون مشيئته البتة فأقر على نفسه أنه لا خلاص له في تلك
الأسئلة إلا بالتزام طريقة أعداء الرسل والملل القائلين بأن الله لم يخلق
السماوات والأرض في ستة أيام ولا أوجد العالم بعد عدمه ولا يفنيه بعد
إيجاده وصدور ما صدر عنه بغير اختياره ومشيئته فلم يكن مختارا مريدا للعالم
وليس عنده إلا هذا القول أو قول
الجبرية منكري الأسباب والحكم
والتعليل أو قول المعتزلة الذين أثبتوا حكمة لا ترجع إلى الفاعل وأوجبوا
رعاية مصالح شبهوا فيها الخالق بالمخلوق وجعلوا له بعقولهم شريعة أوجبوا
عليه فيها وحرموا وحجروا عليه فالأقوال الثلاثة تتردد في صدره وتتقاذف به
أمواجها تقاذف السفينة إذا لعبت بها الرياح الشديدة والعاقل لا يرضى لنفسه
بواحد من هذه الأقوال لمنافاتها العقل والنقل والفطرة والقول الحق في هذه
الأقوال كيوم الجمعة في الأيام أضل الله عنه أهل الكتابين قبل هذه الأمة
وهداهم إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة: "أضل الله عنها
من كان قبلنا فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى" ونحن هكذا نقول بحمد
الله ومنه القول الوسط الصواب لنا وإنكار الفاعل بالمشيئة والاختيار
لأعداء الرسول وإنكار الحكمة والمصلحة والتعليل والأسباب للجهمية والجبرية
وإنكار عموم القدرة والمشيئة العائدة إلى الرب سبحانه من محبته وكراهته
وموجب حمده ومقتضى أسمائه وصفاته ومعانيها وآثارها للقدرية المجوسية ونحن
نبرأ إلى الله من هذه الأقوال وقائلها إلا من حق تتضمنه مقالة كل فرقة منهم
فنحن به قائلون وإليه منقادون وله ذاهبون.
فصل: الأصل الأول: إثبات
عموم علمه سبحانه وإحاطته بكل معلوم وأنه لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه
مثقال ذرة في السماوات والأرض بل قد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا
والخلاف في هذا الأصل مع فرقتين إحداهما أعداء الرسل كلهم وهم الذين ينفون
علمه بالجزئيات وحاصل قولهم أنه لا يعلم موجودا البتة فإن كل موجود جزئي
معين فإذا لم يعلم الجزئيات لم يكن عالما بشيء من العالم العلوي والسفلي
والفرقة الثانية غلاة القدرية الذين اتفق السلف على كفرهم وحكموا بقتلهم
الذين يقولون لا يعلم أعمال العباد حتى يعلموها ولم يعلمها قبل ذلك ولا
كتبها ولا قدرها فضلا
ص -187- عن أن يكون شاءها وكونها وقول هؤلاء
معلوم البطلان بالضرورة من أديان جميع المرسلين وكتب الله المنزلة وكلام
الرسول صلى الله عليه وسلم مملوءة بتكذيبهم وإبطال قولهم وإثبات عموم علمه
الذي لا يشاركه فيه خلقه ولا يحيطون بشيء منه إلا بما شاء أن يطلعهم عليه
ويعلمهم به وما أخفاه عنهم ولم يطلعهم عليه لا نسبة لما عرفوه إليه إلا دون
نسبة قطرة واحدة إلى البحار كلها كما قال الخضر لموسى وهما أعلم أهل الأرض
حينئذ ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر
ويكفي أن ما يتكلم به من علمه لو قدر أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مداد
وأشجار الأرض كلها من أول الدهر إلى آخره أقلام يكتب به ما يتكلم به مما
يعلمه لنفدت البحار وفنيت الأقلام ولم تنفذ كلماته فنسبة علوم الخلائق إلى
علمه سبحانه كنسبة قدرتهم إلى قدرته وغناهم إلى غناه وحكمتهم إلى حكمته
وإذا كان أعلم الخلق به على الإطلاق يقول: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما
أثنيت على نفسك" ويقول في دعاء الاستخارة: "فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا
أعلم وأنت علام الغيوب" ويقول سبحانه للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ} ويقول سبحانه لأعلم الأمم وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً
وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ويقول
لأهل الكتاب: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً} وتقول رسله
يوم القيامة حين يسألهم: {مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا
إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} وهذا هو الأدب المطابق للحق في نفس
الأمر فإن علومهم وعلوم الخلائق تضمحل وتتلاشى في علمه سبحانه كما يضمحل
ضوء السراج الضعيف في عين الشمس فمن أظلم الظلم وأبين الجهل وأقبح القبيح
وأعظم
القحة والجراءة أن يعترض من لا نسبة لعلمه إلى علوم الناس التي لا نسبة
لها إلى علوم الرسل التي لا نسبة لها إلى علم رب العالمين عليه ويقدح في
حكمته ويظن أن الصواب والأولى أن يكون غير ما جرى به قلمه وسبق به علمه وأن
يكون الأمر بخلاف ذلك فسبحان الله رب العالمين تنزيها لربوبيته وإلهيته
وعظمته وجلاله عما لا يليق به من كل ما نسبه إليه الجاهلون الظالمون فسبحان
الله كلمة يحاشى الله بها عن كل ما يخالف كماله من سوء ونقص وعيب فهو
المنزه التنزيه التام من كل وجه وبكل اعتبار عن كل نقص متوهم وإثبات عموم
حمده وكماله وتمامه ينفي ذلك واتصافه بصفات الإلهية التي لا تكون لغيره
وكونه أكبر من كل شيء في ذاته وأوصافه وأفعاله ينفي ذلك لمن رسخت معرفته في
معنى سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وسافر قلبه في
منازلها وتلقى معانيها من مشكاة النبوة لا من مشكاة الفلسفة والكلام الباطل
وآراء المتكلمين فهذا أصل يجب التمسك به في هذا المقام وأن يعلم أن عقول
العالمين ومعارفهم وعلومهم وحكمهم تقصر عن الإحاطة بتفاصيل حكمة الرب
سبحانه في أصغر مخلوقاته، الأصل الثاني: أنه سبحانه حي حقيقة وحياته أكمل
الحياة وأتمها وهي حياة تستلزم جميع صفات الكمال ونفي أضدادها من جميع
الوجوه ومن لوازم الحياة الفعل الاختياري فإن كل حي فعال وصدور الفعل عن
الحي بحسب كمال حياته ونقصها وكل من كانت حياته أكمل من غيره كان فعله أقوى
وأكمل وكذلك قدرته ولذلك كان الرب سبحانه على كل شيء قدير وهو فعال لما
يريد وقد ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال عن نعيم بن حماد أنه قال: "الحي
هو الفعال" وكل حي فعال فلا فرق بين الحي والميت إلا بالفعل والشعور وإذا
كانت الحياة مستلزمة للفعل وهو الأصل الثالث فالفعل
ص -188- الذي لا
يعقل الناس سواه هو الفعل الاختياري الإرادي الحاصل بقدرة الفاعل وإرادته
ومشيئته وما يصدر عن الذات من غير سفير قدرة منها ولا إرادة لا يسميه أحد
من العقلاء فعلا وإن كان أثرا من آثارها ومتولدا عنها كتأثير النار في
الإحراق والماء في الإغراق والشمس في الحرارة فهذه آثار صادرة عن هذه
الأجسام وليست أفعالا لها وإن كانت بقوى وطبائع جعلها الله فيها فالفعل
والعمل من الحي العالم لا يقع إلا بمشيئته وقدرته وكون الرب سبحانه حيا
فاعلا مختارا مريدا مما اتفقت عليه الرسل والكتب ودل عليه العقل والفطرة
وشهدت به الموجودات ناطقها وصامتها جمادها وحيوانها علويها وسفليها فمن
أنكر فعل الرب الواقع بمشيئته واختياره وفعله فقد جحد ربه وفاطره وأنكر أن
يكون للعامل رب، الأصل الرابع: أنه سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعا
وقدرا وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني والشرعي وأمره الكوني القدري
ومحل ملكه وتصرفه فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات وقدح في
العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء فقد جعل سبحانه مصالح
العباد في معاشهم ومعادهم والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر
والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائما بها بل العبد نفسه
وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه بل الموجودات كلها أسباب ومسببات والشرع
كله أسباب ومسببات والمقادير أسباب ومسببات والقدر جار عليها متصرف فيها
فالأسباب محل الشرع والقدر والقرآن مملوء من إثبات الأسباب كقوله: {بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}: {ذَلِكَ بِمَا
قَدَّمَتْ يَدَاكَ}: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}: {كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}: {جَزَاءً
وِفَاقاً}: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ
كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ
أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ
وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} إلى قوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ
عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا
الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} وقوله:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ
اللَّهُ} وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ
الرِّبا} وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ
وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} وقوله:
{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} وقوله:
{فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ}: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ
الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً}: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا
فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} وقوله:
{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} وقوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ
الْحَصِيدِ} وقوله: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ
لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ
كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} وقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ
بِأَيْدِيكُمْ
وَيُخْزِهِمْ} الآية وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً
ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} وكل
موضع رتب فيه الحكم الشرعي أو الجزائي على الوصف أفاد كونه سببا له كقوله:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا
كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وقوله:
{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا
يُفْسِدُونَ} وهذا أكثر من أن يستوعب وكل موضع تضمن الشرط والجزاء أفاد
سببية
ص -189- الشرط والجزاء وهو أكثر من أن يستوعب كقوله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ
فُرْقَاناً} وقوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ
كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} وكل موضع رتب فيه الحكم على ما قبله
بحرف أفاد التسبب وقد تقدم وكل موضع تقدم ذكرت فيه الباء تعليلا لما قبلها
بما بعدها أفاد التسبب وكل موضع صرح فيه بأن كذا جزاء لكذا أفاد التسبيب
فإن العلة الغائية عله للعلة الفاعلية ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من
القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة ويكفي
شهادة الحس والعقل والفطر ولهذا قال من قال من أهل العلم تكلم قوم في
إنكار الأسباب فأضحكوا ذوي العقول على عقولهم وظنوا أنهم بذلك ينصرون
التوحيد فشابهوا المعطلة الذين أنكروا صفات الرب ونعوت كماله وعلوه على
خلقه واستواءه على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لملائكته وعباده وظنوا أنهم
بذلك ينصرون التوحيد فما أفادهم إلا تكذيب الله ورسله وتنزيهه عن كل كمال
ووصفه بصفات المعدوم والمستحيل ونظير من نزه الله في أفعاله وأن يقوم به
فعل البتة وظن أنه ينصر بذلك حدوث العالم وكونه مخلوقا بعد أن لم يكن وقد
أنكر أصل الفعل والخلق جملة ثم من أعظم الجناية على الشرائع والنبوات
والتوحيد إيهام الناس أن التوحيد لا يتم إلا بإنكار الأسباب فإذا رأى
العقلاء أنه لا يمكن إثبات توحيد الرب سبحانه إلا بإبطال الأسباب ساءت
ظنونهم بالتوحيد وبمن جاء به وأنت لا تجد كتابا من الكتب أعظم إثباتا
للأسباب من القرآن ويا لله العجب إذا كان الله خالق السبب والمسبب وهو الذي
جعل هذا سببا لهذا والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته منقادة لحكمه إن
شاء أن يبطل سببية الشيء أبطلها كما أبطل إحراق النار على خليله إبراهيم
وإغراق الماء على كليمه وقومه وإن شاء أقام لتلك الأسباب موانع تمنع
تأثيرها مع بقاء
قواها وإن شاء خلى بينها وبين اقتضائه لآثارها فهو
سبحانه يفعل هذا وهذا وهذا فأي قدح يوجب ذلك في التوحيد وأي شرك يترتب على
ذلك بوجه من الوجوه ولكن ضعفاء العقول إذا سمعوا أن النار لا تحرق والماء
لا يغرق والخبر لا يشبع والسيف لا يقطع ولا تأثير لشيء من ذلك البتة ولا هو
سبب لهذا الأثر وليس فيه قوة وإنما الخالق المختار يشاء حصول كل أثر من
هذه الآثار عند ملاقاة كذا لكذا قالت هذا هو التوحيد وإفراد الرب بالخلق
والتأثير ولم يدر هذا القائل أن هذا إساءة ظن بالتوحيد وتسليط لأعداء الرسل
على ما جاؤوا به كما تراه عيانا في كتبهم ينفرون به الناس عن الإيمان ولا
ريب أن الصديق الجاهل قد يضر مالا يضره العدو العاقل قال تعالى عن ذي
القرنين: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} قال علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس: "علما" قال قتادة وابن زيد وابن جريج والضحاك: "علما تسبب به
إلى ما يريد" وكذلك قال إسحاق: "علما يوصله إلى حيث يريد" وقال المبرد:
"وكل ما وصل شيئا بشيء فهو سبب" وقال كثير من المفسرين: "آتيناه من كل ما
بالخلق إليه حاجة علما ومعونة له وقد سمى الله سبحانه الطريق سببا في قوله
فأتبع سببا" قال مجاهد: "طريقا" وقيل السبب الثاني هو الأول أي أتبع سببا
من تلك الأسباب التي أوتيها مما يوصله إلى مقصوده وسمى سبحانه أبواب السماء
أسبابا إذ منها يدخل إلى السماء قال تعالى عن فرعون: {لَعَلِّي أَبْلُغُ
الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي أبوابها التي أدخل منها إليها
وقال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم
ص
-190- وسمى الحبل سببا لإيصاله إلى المقصود قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ
بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} قال بعض أهل اللغة السبب من الحبال القوي
الطويل قال ولا يدعى الحبل سببا حتى يصعد به وينزل ثم قيل لكل شيء وصلت به
إلى موضع أو حاجة تريدها سبب يقال ما بيني وبين فلان سبب أي أصرة رحم أو
عاطفة مودة وقد سمى تعالى وصل الناس بينهم أسبابا وهي التي يتسببون بها إلى
قضاء حوائجهم بعضهم من بعض قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ
اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ
بِهِمُ الأَسْبَابُ} يعني الواصلات التي كانت بينهم في الدنيا وقال ابن
عباس وأصحابه: "يعني أسباب المودة الواصلات التي كانت بينهم في الدنيا"
وقال ابن زيد: "هي الأعمال التي كانوا يؤملون أن يصلوا بها إلى ثواب الله"
وقيل هي الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها وبالجملة فسمى الله سبحانه ذلك
أسبابا لأنها كانت يتوصل بها إلى مسبباتها وهذا كله عند نفاة الأسباب ومجاز
لا حقيقة له وبالله التوفيق.
فصل: الأصل الخامس: أنه سبحانه حكيم لا
يفعل شيئا عبثا ولا لغير معنى ومصلحة وحكمه هي الغاية المقصودة بالفعل بل
أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل كما هي ناشئة عن أسباب بها
فعل وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى ولا سبيل
إلى استيعاب أفرادها فنذكر بعض أنواعها، النوع الأول: التصريح بلفظ الحكمة
وما تصرف منه كقوله: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} وقوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ
عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وقوله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً} والحكمة هي العلم النافع والعمل الصالح وسمي حكمة
لأن العلم والعمل قد تعلقا بمتعلقهما وأوصلا إلى غايتيهما وكذلك لا يكون
الكلام حكمة حتى يكون موصلا إلى الغايات المحمودة والمطالب النافعة فيكون
مرشدا إلى العلم النافع والعمل الصالح فتحصل الغاية
المطلوبة فإذا
كان المتكلم به لم يقصد مصلحة المخاطبين ولا هداهم ولا إيصالهم إلى سعادتهم
ودلالتهم على أسبابها وموانعها ولا كان ذلك هو الغاية المقصودة المطلوبة
ولا تكلم لأجلها ولا أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجلها ولا نصب الثواب والعقاب
لأجلها لم يكن حكيما ولا كلامه حكمة فضلا عن أن تكون بالغة، النوع الثاني:
إخباره أنه فعل كذا لكذا وأنه أمر بكذا لكذا كقوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} وقوله:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}
وقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً
لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقوله: {رُسُلاً
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} وقوله:
{لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ
فَضْلِ اللَّهِ} وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ
عَلَيْهَا إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ
عَلَى عَقِبَيْهِ} وقوله: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ}
أي ليتمكنوا بهذا الحفظ والرصد من تبليغ رسالاته فيعلم الله ذلك واقعا
وقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً
لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ
وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} وقوله:
{وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} وقوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاّ بُشْرَى
لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ
الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله:
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا
عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ
ص -191- وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا
إِيمَاناً} وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وقوله: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ
وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو
الأَلْبَابِ} وقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ
وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}
وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} وقوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ
وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}
وهذا في القرآن فإن قيل اللام في هذا كله لام العاقبة كقوله:
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}
وقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} وقوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي
الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وقوله:
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ
بَيِّنَةٍ} وقوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ
مُقْتَرِفُونَ} فإن ما بعد اللام في هذا ليس هو الغاية المطلوبة ولكن لما
كان الفعل منتهيا إليه وكان عاقبة الفعل دخلت عليه لام التعليل وهي في
الحقيقة لام العاقبة، فالجواب من وجهين، أحدهما: أن لام العاقبة إنما
تكون
في حق من هو جاهل أو هو عاجز عن دفعها فالأول: كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} والثاني: كقول الشاعر:
لدوا
للموت وابنوا للخراب فكلكم يصير إلى ذهاب
وأما من هو بكل شيء عليم وعلى
كل شيء قدير فيستحيل في حقه دخول هذه اللام وإنما اللام الواردة في أفعاله
وأحكامه لام الحكمة والغاية المطلوبة، الجواب الثاني: إفراد كل موضع من
تلك المواضع بالجواب أما قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ
لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} فهو تعليل لقضاء الله سبحانه بالتقاطه وتقديره
له فإن التقاطهم له إنما كان بقضائه وقدره فهو سبحانه قدر ذلك وقضى به
ليكون لهم عدوا وحزنا وذكر فعلهم دون قضائه لأنه أبلغ في كونه حزنا لهم
وحسرة عليهم فإن من اختار أخذ ما يكون هلاكه على يديه إذا أصيب به كان أعظم
لحزنه وغمه وحسرته من أن لا يكون فيه صنع ولا اختيار فإنه سبحانه أراد أن
يظهر لفرعون وقومه ولغيرهم من خلقه كمال قدرته وعلمه وحكمته الباهرة وأن
هذا الذي يذبح فرعون إلا بناء في طلبه هو الذي يتولى تربيته في حجره وبيته
باختياره وإرادته ويكون في قبضته وتحت تصرفه فذكر فعلهم به في هذا أبلغ
وأعجب من أن يذكر القضاء والقدر وقد أعلمنا سبحانه أن أفعال عباده كلها
واقعة بقضائه وقدره وأما قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ
بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا}
فلا ريب أن هذا تعليل لفعله المذكور وهو امتحان بعض خلقه ببعض كما امتحن
السادات والأشراف بالعبيد والضعفاء والموالي فإذا نظر الشريف والسيد إلى
العبد والضعيف والمسكين قد أسلم أنف وحمى أن يسلم معه أو بعده ويقول هذا
يسبقني إلى الخير والفلاح وأتخلف أنا فلو كان ذلك خيرا وسعادة ما سبقنا
هؤلاء إليه فهذا القول منهم هو بعض الحكم والغاية المطلوبة بهذا الامتحان
فإن هذا القول دال على إباء
واستكبار وترك الانقياد للحق بعد المعرفة
التامة به وهذا وإن كان علة فهو مطلوب لغيره والعلل الغائية تارة تطلب
لنفسها وتارة تطلب لغيرها فتكون وسيلة إلى مطلوب لنفسه وقول هؤلاء ما قالوه
وما يترتب عليه هذا القول موجب لآثار مطلوبة للفاعل من إظهار عدله وحكمته
وعزه وقهره وسلطانه وعطائه من يستحق
ص -192- عطاءه ويحسن وضعه عنده
ومنعه من يستحق المنع ولا يليق به غيره ولهذا قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ
بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} الذين يعرفون قدر النعمة ويشكرون المنعم
عليهم فيما من عليهم من بين من لا يعرفها ولا يشكر ربه عليها وكانت فتنة
بعضهم ببعض لحصول هذا التمييز الذي ترتب عليه شكر هؤلاء وكفر هؤلاء.
فصل:
وأما قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ} فهي على بابها وهي لام الحكمة
والتعليل أخبر الله سبحانه أنه جعل ما ألقاه الشيطان في أمنية الرسول محنة
واختبارا لعباده فافتتن به فريقان وهم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم
وعلم المؤمنين أن القرآن والرسول حق وأن إلقاء الشيطان باطل فآمنوا بذلك
وأخبتت له قلوبهم فهذه غاية مطلوبة مقصودة بهذا القضاء والقدر والله سبحانه
جعل القلوب على ثلاثة أقسام مريضة وقاسية ومخبتة وذلك لأنها إما أن تكون
يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافا وإذعانا أو لا تكون كذلك فالأول حال
القلوب القاسية الحجرية التي لا تقبل ما يبث فيها ولا ينطبع فيها الحق ولا
ترتسم فيها العلوم النافعة ولا تلين لإعطاء الأعمال الصالحة وأما النوع
الثاني فلا يخلوا إما أن يكون الحق ثابتا فيه لا يزول عنه لقوته مع لينه أو
يكون ثابتا مع ضعف وانحلال والثاني هو القلب المريض والأول هو الصحيح
المخبت وهو جمع الصلابة والصفاء واللين فيبصر الحق بصفائه ويشتد فيه
بصلابته ويرحم الخلق بلينه كما في أثر مروي: "القلوب آنية الله في أرضه
فأحبها إلى الله
أصلبها وأرقها وأصفاها" كما قال تعالى في أصحاب هذه
القلوب: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} فهذا وصف منه
للمؤمنين الذين عرفوا الإيمان بصفاء قلوبهم واشتدوا على الكفار بصلابتها
وتراحموا فيما بينهم بلينها وذلك أن القلب عضو من أعضاء البدن وهو أشرف
أعضائه وملكها المطاع وكل عضو كاليد مثلا إما أن تكون جامدة ويابسة لا
تلتوي ولا تبطش أو تبطش بضعف فذلك مثل القلب القاسي أو تكون مريضة ضعيفة
عاجزة ولضعفها ومرضها فذلك مثل الذي فيه مرض أو تكون باطشة بقوة ولين فذلك
مثل القلب العليم الرحيم فبالعلم خرج عن المرض الذي ينشأ من الشهوة والشبهة
وبالرحمة خرج عن القسوة ولهذا وصف سبحانه من عدا أصحاب القلوب المريضة
والقاسية بالعلم والإيمان والإخبات فتأمل ظهور حكمته سبحانه في أصحاب هذه
القلوب وهم كل الأمة فأخبر أن الذين أوتوا العلم علموا أنه الحق من ربهم
كما أخبر أنهم في المتشابه يقولون آمنا به كل من عند ربنا وكلا الوصفين
موضع شبهة فكان حظهم منه الإيمان وحظ أرباب القلوب المنحرفة عن الصحة
الافتتان ولهذا جعل سبحانه أحكام آياته في مقابلة ما يلقي الشيطان بإزاء
الآيات المحكمات في مقابلة المتشابهات فالأحكام ههنا بمنزلة إنزال المحكمات
هناك ونسخ ما يلقي الشيطان ههنا في مقابلة رد المتشابه إلى المحكم هناك
والنسخ ههنا رفع ما ألقاه الشيطان لا رفع ما شرعه الرب سبحانه وللنسخ معنى
آخر هو النسخ من أفهام المخاطبين ما فهموه مما لم يرده ولا دل اللفظ عليه
وإن أوهمه كما أطلق الصحابة النسخ على قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي
أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشَاءُ} قالوا نسختها قوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا} الآية فهذا نسخ من الفهم لا نسخ للحكم الثابت فإن المحاسبة
لا تستلزم العقاب في الآخرة ولا في الدنيا أيضا ولهذا عمهم بالمحاسبة ثم
أخبر
بعدها أنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ففهم
ص -193- المؤاخذة التي
هي المعاقبة من الآية تحميل لها فوق وسعها فرفع هذا المعنى من فهمه بقوله:
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخرها
فهذا رفع لفهم غير المراد من إلقاء الملك وذاك رفع لما ألقاه غير الملك في
أسماعهم أو في التمني وللنسخ معنى ثالث عند الصحابة والتابعين وهو ترك
الظاهر إما بتخصيص عام أو بتقييد مطلق وهذا كثير في كلامهم جدا وله معنى
رابع وهو الذي يعرفه المتأخرون وعليه اصطلحوا وهو رفع الحكم بجملته بعد
ثبوته بدليل رافع له فهذه أربعة معان للنسخ والإحكام له ثلاثة معان، أحدها:
الإحكام الذي في مقابلة المتشابه كقوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ
أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} والثاني: الإحكام في مقابلة
نسخ ما يلقي الشيطان كقوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ
ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} وهذا الإحكام يعم جميع آياته وهو إثباتها
وتقريرها وبيانها ومنه قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}، الثالث:
إحكام في مقابلة الآيات المنسوخة كما يقوله السلف كثيرا هذه الآية محكمة
غير منسوخة وذلك لأن الإحكام تارة يكون في التنزيل فيكون في مقابلة ما
يلقيه الشيطان في أمنيته ما يلقيه المبلغ أو في سمع المبلغ فالحكم هنا هو
المنزل من عند الله أحكمه الله أي فصله من اشتباهه بغير المنزل وفصل منه ما
ليس منه بإبطاله وتارة يكون في إبقاء المنزل واستمراره فلا ينسخ بعد ثبوته
وتارة يكون في معنى المنزل وتأويله وهو تمييز المعنى المقصود من غيره حتى
لا يشتبه به والمقصود أن قوله: {ليجعل ما يلقى لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي
الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هي لام التعليل
على بابها وهذا الاختبار والامتحان مظهر لمختلف القلوب الثلاثة فالقاسية
والمريضة ظهر خبؤها من الشك والكفر والمخبتة
ظهر خبؤها من الإيمان
والهدى وزيادة محبته وزيادة بغض الكفر والشرك والنفرة عنه وهذا من أعظم
حكمة هذا الإلقاء.
فصل: وأما اللام في قوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ
عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} فلام التعليل على
بابها فإنها مذكورة في بيان حكمته في جمع أوليائه وأعدائه على غير ميعاد
ونصرة أوليائه مع قلتهم ورقتهم وضعف عددهم وعدتهم على أصحاب الشوكة والعدد
والحد والحديد الذي لا يتوهم بشر أنهم ينصرون عليهم فكانت تلك آية من أعظم
آيات الرب سبحانه صدق بها رسوله وكتابه ليهلك بعدها من اختار لنفسه الكفر
والعناد عن بينة فلا يكون له على الله حجة ويحيي من حي بالإيمان بالله
ورسوله عن بينة فلا يبقى عنده شك ولا ريب وهذا من أعظم الحكم ونظير هذا
قوله: {إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ
حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
فصل: وأما اللام في
قوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَةِ} فهي على بابها للتعليل فإنها إن كانت تعليلا لفعل العدو وهو
إيحاء بعضهم إلى بعض فظاهر وعلى هذا فيكون عطفا على قوله: {غُرُوراً} فإنه
مفعول لأجله أي ليغروهم بهذا الوحي ولتصغى إليه أفئدة من يلقى إليه فيرضاه
ويعمل بموجبه فيكون سبحانه قد أخبر بمقصودهم من الإيحاء المذكور وهو أربعة
أمور غرور من يوحون إليه وإصغاء أفئدتهم إليهم ومحبتهم لذلك وانفعالهم عنده
بالاقتراف وإن كان ذلك تعليلا لجعله سبحانه لكل نبي عدوا فيكون هذا الحكم
من جملة الغايات والحكم المطلوبة بهذا الجعل وهي غاية وحكمة مقصودة لغيرها
لأنها مفضية إلى أمور هي محبوبة مطلوبة للرب سبحانه وفواتها يستلزم فوات ما
هو أحب إليه من حصولها وعلى التقديرين فاللام لام التعليل والحكمة.
ص
-194- فصل: النوع الثالث الإتيان بكي الصريحة في التعليل كقوله تعالى:
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} فعلل
سبحانه تسمية الفيء بين هذه الأصناف كي لا يتداوله الأغنياء دون الفقراء
والأقوياء دون الضعفاء وقوله سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي
الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى
مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} فأخبر سبحانه أنه قدر ما
يصيبهم من البلاء في أنفسهم قبل أن يبرأ الأنفس أو المصيبة أو الأرض أو
المجموع وهو الأحسن ثم أخبر أن مصدر ذلك قدرته عليه وأنه يسير عليه وحكمته
البالغة التي منها أن لا يحزن عباده على ما فاتهم إذا علموا أن المصيبة فيه
بقدره وكتابته ولا بد قد كتبت قبل خلقهم هان عليهم الفائت فلم يأسوا عليه
ولم يفرحوا بالحاصل لعلهم أن المصيبة مقدرة في كل ما على الأرض فكيف يفرح
بشيء قد قدرت المصيبة فيه قبل خلقه ولما كانت المصيبة تتضمن فوات محبوب أو
خوف فواته أو حصول مكروه أو خوف حصوله نبه بالأسى على الفائت على مفارقة
المحبوب بعد حصوله وعلى فوته حيث لم يحصل ونبه بعدم الفرح به إذا وجد على
توطين النفس لمفارقته قبل وقوعها وعلى الصبر على مرارتها بعد الوقوع وهذه
هي أنواع المصائب فإذا تيقن العبد أنها مكتوبة مقدرة وأن ما أصابه منها لم
يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه هانت عليه وخف حملها وأنزلها منزلة
الحر والبرد.
فصل: النوع الرابع ذكر المفعول له وهو علة للفعل المعلل به
كقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ
وَهُدىً وَرَحْمَةً} ونصب ذلك على المفعول له أحسن
من غيره كما صرح
به في قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وفي قوله:
{وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} فإتمام
النعمة هو الرحمة وقوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا
مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي لأجل الذكر كما قال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ
بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} وقوله فالملقيات ذكرا عذرا أو
نذرا أي للإعذار والإنذار وقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً
وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} فهذا كله مفعول
لأجله وقوله: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً} إلى قوله: {مَتَاعاً
لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} والمتاع واقع موقع التمتيع كما يقع السلام موقع
التسليم والعطاء موضع الإعطاء وأما قوله: {رِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً
وَطَمَعاً} فيحتمل أن يكون من ذلك أي إخافة لكم وإطماعا وهو أحسن ويحتمل أن
يكون معمول فعل محذوف أي فيرونهما خوفا وطمعا فيكونان حالا وقوله:
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا}
إلى قوله: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أي لأجل التبصرة
والذكرى والفرق بينهما أن التبصرة توجب العلم والمعرفة والذكرى توجب
الإنابة والانقياد وبهما تتم الهداية.
فصل: النوع الخامس الإتيان بأن
والفعل المستقبل بعدها تعليلا لما قبله كقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا
أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} وقوله أن:
{تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى} وقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} ونظائره وفي ذلك طريقان أحدهما
للكوفيين والمعنى لئلا تقولوا ولئلا تقول نفس والثاني للبصريين أن المفعول
له
محذوف أي كراهة أن تقولوا أو حذار أن تقولوا فإن قيل كيف يستقيم
الطريقان في قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ
إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} فإنك إن
الطريقان في قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ
إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} فإنك إن
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ص -195- قدرت لئلا تضل إحداهما لم يستقم العطف فتذكر إحداهما عليه وأن
قدرت حذار أن تضل إحداهما لم يستقم العطف أيضا وإن قدرت إرادة أن تضل لم
تصح أيضا، قيل هذا من الكلام الذي ظهور معناه مزيل للإشكال فإن المقصود
إذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت ونسيت فلما كان الضلال سببا للإذكار جعل موضع
العلة كما تقول أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه بها فإنما أعددتها
للدعم لا للميل وأعددت هذا الدواء أن أمرض فأتداوى به ونحوه وهذا قول
سيبويه والبصريين قال أهل الكوفة تقديره كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت
فلما تقدم الجزاء اتصل بما قبله ففتحت أن قال الفراء ومثله قوله ليعجبني أن
يسأل السائل فيعطي معناه ليعجبني أن يعطي السائل إن سأل لأنه إنما يعجبه
الإعطاء لا السؤال من ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي
آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ألست بربكم قالوا بل
شهدنا أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا
ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} فذكر سبحانه من حكم أخذ الميثاق عليهم أن لا
يحتجوا يوم القيامة بغفلتهم عن هذا الأمر ولا بتقليد الأسلاف ومنه قوله:
{وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} فالضمير في به
للقرآن وأن تبسل في محل نصب على أنه مفعول له أي حذار أن تسلم نفس إلى
الهلكة والعذاب وترتهن بسوء عملها.
فصل: النوع السادس ذكر ما هو من
صرائح التعليل وهو من أجل كقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى
بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً
قدرت حذار أن تضل إحداهما لم يستقم العطف أيضا وإن قدرت إرادة أن تضل لم
تصح أيضا، قيل هذا من الكلام الذي ظهور معناه مزيل للإشكال فإن المقصود
إذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت ونسيت فلما كان الضلال سببا للإذكار جعل موضع
العلة كما تقول أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه بها فإنما أعددتها
للدعم لا للميل وأعددت هذا الدواء أن أمرض فأتداوى به ونحوه وهذا قول
سيبويه والبصريين قال أهل الكوفة تقديره كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت
فلما تقدم الجزاء اتصل بما قبله ففتحت أن قال الفراء ومثله قوله ليعجبني أن
يسأل السائل فيعطي معناه ليعجبني أن يعطي السائل إن سأل لأنه إنما يعجبه
الإعطاء لا السؤال من ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي
آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ألست بربكم قالوا بل
شهدنا أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا
ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} فذكر سبحانه من حكم أخذ الميثاق عليهم أن لا
يحتجوا يوم القيامة بغفلتهم عن هذا الأمر ولا بتقليد الأسلاف ومنه قوله:
{وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} فالضمير في به
للقرآن وأن تبسل في محل نصب على أنه مفعول له أي حذار أن تسلم نفس إلى
الهلكة والعذاب وترتهن بسوء عملها.
فصل: النوع السادس ذكر ما هو من
صرائح التعليل وهو من أجل كقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى
بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً
بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ
فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} وقد ظنت
طائفة أن قوله من أجل ذلك تعليل لقوله فأصبح من النادمين أي من أجل قتله
لأخيه وهذا ليس بشيء لأنه يشوش صحة النظم وتقل الفائدة بذكره ويذهب شأن
التعليل بذلك للكتابة المذكورة وتعظيم شأن القتل حين جعل علة لهذا الكتابة
فتأمله، فإن قلت كيف يكون قتل أحد بني آدم للآخر علة لحكمه على أمة أخرى
بذلك الحكم وإذا كان علة فكيف كان قاتل نفس واحدة بمنزلة قاتل الناس كلهم،
قلت الرب سبحانه يجعل أقضيته وأقداره عللا وأسبابا لشرعة وأمره فجعل حكمه
الكوني القدري علة لحكمه الديني الأمري وذلك أن القتل عنده لما كان من أعلى
أنواع الظلم والفساد فخم أمره وعظم شأنه وجعل إثمه أعظم من إثم غيره ونزل
قاتل النفس الواحدة منزلة قاتل الأنفس كلها ولا يلزم من التشبيه أن يكون
المشبه بمنزلة المشبه به من كل الوجوه فإذا كان قاتل الأنفس كلها يصلى
النار وقاتل النفس الواحدة يصلاها صح تشبيهه به كما يأثم من شرب قطرة واحدة
من الخمر ومن شرب عدة قناطير وإن اختلف مقدار الإثم وكذلك من زنى مرة
واحدة وآخر زنى مرارا كثيرة كلاهما آثم وإن اختلف قدر الإثم وهذا معنى قول
مجاهد: "من قتل نفسا واحدة يصلى النار بقتلها كما يصلاها من قتل الناس
جميعا} وعلى هذا فالتشبيه في أصل العذاب لا في وصفه وإن شئت قلت التشبيه في
أصل العقوبة الدنيوية وقدرها فإنه لا يختلف بقلة القتل وكثرته كما لو شرب
قطرة فإن حده حد من شرب راوية ومن زنى بامرأة واحدة حده حد من زنى بألف
وهذا تأويل الحسن وابن زيد قالا: "يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي يجب
عليه لو قتل الناس جميعا" ولك أن تجعل التشبيه في الأذى والغم الواصل إلى
المؤمنين بقتل الواحد منهم فقد جعلهم كلهم خصماءه وأوصل إليهم من الأذى
والغم ما يشبه القتل وهذا تأويل ابن الأنباري وفي الآية تأويلات أخر.
ص
-196- فصل: النوع السابع التعليل بلعل وهي في كلام الله سبحانه وتعالى
للتعليل مجردة عن معنى الترجي فإنها إنما يقارنها معنى الترجي إذا كانت من
المخلوق وأما في حق من لا يصح عليه الترجي فهي للتعليل المحض كقوله:
{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فقيل هو تعليل لقوله أعبدوا ربكم وقيل تعليل لقوله
خلقكم والصواب أنه تعليل للأمرين لشرعه وخلقه ومنه قوله: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقوله: {إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقوله:
{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} فلعل في
هذا كله قد أخلصت للتعليل والرجاء الذي فيها متعلق بالمخاطبين.
فصل:
النوع الثامن ذكر الحكم الكوني والشرعي عقيب الوصف المناسب له وتارة يذكر
بأن وتارة يقرن بالفاء وتارة يذكر مجردا فالأول كقوله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ
نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ
إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً
وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا
قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} وقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} وقوله:
{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} والثاني كقوله: {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا}:
{الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَةٍ}: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}
والثالث كقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}: {إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وهذا في التنزيل
يزيد على عدة آلاف موضع بل القرآن مملوء منه فإن قيل هذا إنما يفيد كون تلك
الأفعال أسبابا لما رتب عليها لا يقتضي إثبات التعليل في فعل الرب وأمره
فأين هذا من هذا قيل لما جعل الرب سبحانه هذه الأوصاف عللا لهذه الأحكام
وأسبابا لها دل ذلك على أنه حكم بها شرعا وقدرا لأجل تلك الأوصاف وأنه لم
يحكم بها لغير علة ولا حكمة ولهذا كان كل من نفى التعليل والحكم نفى
الأسباب ولم يجعل لحكم الرب الكوني والديني سببا ولا حكمة هي العلة الغائية
وهؤلاء ينفون الأسباب والحكم ومن تأمل شرع الرب وقدره وجزاءه جزم جزما
ضروريا ببطلان قول النفاة والله سبحانه قد رتب الأحكام على أسبابها وعللها
وبين ذلك خبرا وحسا وفطرة وعقلا ولو ذكرنا ذلك على التفصيل لقام منه عدة
أسفار.
فصل: النوع التاسع تعليله سبحانه عدم الحكم القدري والشرعي بوجود
المانع منه كقوله: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ
فِضَّةٍ} {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي
الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ
خَبِيرٌ بَصِيرٌ} وقوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إِلاّ
أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} أي آيات الاقتراح لا الآيات الدالة على
صدق الرسل التي يقيمها هو سبحانه ابتداء وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ
قُرْآناً أَعْجَمِيّاً
لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} وقوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا
عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} فأخبر سبحانه عن المانع الذي منع من إنزال
الملك عيانا بحيث يشاهدونه وأن حكمته وعنايته بخلقه منعت من ذلك فإنه لو
أنزل الملك ثم عاينوه ولم يؤمنوا لعوجلوا
ص -197- بالعقوبة ولم
ينظروا وأيضا فإنه جعل الرسول بشرا ليمكنهم التلقي عنه والرجوع إليه ولو
جعله ملكا فإما أن يدعه على هيئة الملائكة أو يجعله على هيئة البشر والأول
يمنعهم من التلقي عنه والثاني لا يحصل مقصودهم إذ كانوا يقولون هو بشر لا
ملك وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ
الْهُدَى إِلاّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً قُلْ لَوْ
كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا
عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} فأخبر سبحانه عن المانع من
إنزال الملائكة وهو أنه لم يجعل الأرض مسكنا لهم ولا يستقرون فيها مطمئنين
بل يكون نزولهم لينفذوا أوامر الرب سبحانه ثم يعرجون إليه ومن هذا قوله:
{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إِلاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا
الأَوَّلُونَ} فأخبر سبحانه عن حكمته في الامتناع من إرسال رسله بآيات
الاقتراح والتشهي وهي أنها لا توجب الإيمان فقد سألها الأولون فلما أوتوها
كذبوا بها فأهلكوا فليس لهم مصلحة في الإرسال بها بل حكمته سبحانه تأبى ذلك
كل الإباء ثم نبه على ما أصاب ثمود من ذلك فإنهم اقترحوا الناقة فلما
أعطوا ما سألوا ظلموا ولم يؤمنوا فكان في إجابتهم إلى ما سألوا هلاكهم
واستئصالهم ثم قال: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلاّ تَخْوِيفاً} أي لأجل
التخويف فهو منصوب نصب المفعول لأجله قال قتادة: "إن الله يخوف الناس بما
شاء من آياته لعلهم يعتبون أو يذكرون أو يرجعون" وهذا يعم آياته التي تكون
مع الرسل والتي تقع بعدهم في كل زمان فإنه سبحانه لا يزال يحدث لعباده من
الآيات ما يخوفهم بها ويذكرهم بها ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا
نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى
أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون
حكمته تعالى ومصلحة عباده
في الامتناع من إنزال الآيات التي يقترحها
الناس على الأنبياء وليس المراد أن أكثر الناس لا يعلمون أن الله قادر
فإنه لم ينازع في قدرة الله أحد من المقرين بوجوده سبحانه ولكن حكمته في
ذلك لا يعلمها أكثر الناس.
فصل: النوع العاشر إخباره عن الحكم والغايات
التي جعلها في خلقه وأمره كقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ
مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ
مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلْنَا
نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا
النَّهَارَ مَعَاشاً} إلى قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً
ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً}
وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً
فُرَاتاً} وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا
يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا
وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ وَاللَّهُ
جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ
أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ
تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} وقوله: {فلينظر الإنسان فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ
إِلَى طَعَامِهِ} إلى قوله: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} وقوله:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً
لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ
مِنَ
الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي
الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ} وقوله: {الله الذي سخر
البحر لتجري اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ
الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} إلى أضعاف أضعاف ذلك في القرآن مما يفيد من له أدنى تأمل
القطع بأنه سبحانه فعل ذلك للحكم والمصالح التي ذكرها وغيرها مما لم يذكره
وقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ
ص
-198- بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ
كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ
بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا
مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وقوله: {وَالأَنْعَامَ
خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ
أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ
الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ
وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} فهل
يستقيم ذلك ويصح فيمن لا يفعل لحكمة ولا لمصلحة ولا لغاية هي مقصودة
بالفعل ومعلوم بالضرورة أن هذا الإثبات وهذا النفي متقابلان أعظم التقابل.
فصل:
النوع الحادي عشر إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لغاية ولا
لحكمة كقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} وقوله:
{أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا
إِلاّ بِالْحَقِّ} والحق هو الحكم والغايات المحمودة التي لأجلها خلق ذلك
كله وهو أنواع كثيرة منها أن يعرف الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله
وآياته ومنها أن يحب ويعبد ويشكر ويذكر ويطاع ومنها أن يأمر وينهى ويشرع
الشرائع ومنها أن يدبر الأمر ويبرم القضاء ويتصرف في المملكة بأنواع
التصرفات ومنها أن يثيب ويعاقب فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته
فيوجد أثر عدله وفضله موجودا مشهودا فيحمد على ذلك ويشكر ومنها أن
يعلم
خلقه أنه لا إله غيره ولا رب سواه ومنها أن يصدق الصادق فيكرمه ويكذب
الكاذب فيهينه ومنها ظهور آثار أسمائه وصفاته على تنوعها وكثرتها في الوجود
الذهني والخارجي فيعلم عباده ذلك علما مطابقا لما في الواقع ومنها شهادة
مخلوقاته كلها بأنه وحده ربها وفاطرها ومليكها وأنه وحده إلهها ومعبودها
ومنها ظهور أثر كماله المقدس فإن الخلق والصنع لازم كماله فإنه حي قدير ومن
كان ذلك كذلك لم يكن إلا فاعلا مختارا ومنها أن يظهر أثر حكمته في
المخلوقات بوضع كل منها في موضعه الذي يليق به ومحبته على الوجه الذي تشهد
العقول والفطر بحسنه فتشهد حكمته الباهرة ومنها أنه سبحانه يحب أن يجود
وينعم ويعفو ويغفر ويسامح ولا بد من لوازم ذلك خلقا وشرعا ومنها أنه يحب أن
يثنى عليه ويمدح ويمجد ويسبح ويعظم ومنها كثرة شواهد ربوبيته ووحدانيته
وإلهيته إلى غير ذلك من الحكم التي تضمنها الخلق فخلق مخلوقاته بسبب الحق
ولأجل الحق وخلقها ملتبس بالحق وهو في نفسه حق فمصدره حق وغايته حق وهو
يتضمن للحق وقد أثنى على عباده المؤمنين حيث نزهوه عن إيجاد الخلق لا لشيء
ولا لغاية فقال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} وأخبر أن
هذا ظن أعدائه لا ظن أوليائه فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ
وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وكيف يتوهم
أنه عرفه من يقول أنه لم يخلق لحكمة مطلوبة له ولا أمر لحكمة ولا نهى لحكمة
وإنما يصدر الخلق والأمر عن مشيئة وقدرة محضة لا لحكمة ولا لغاية مقصودة
وهل هذا إلا إنكار لحقيقة حمده بل الخلق والأمر إنما قام بالحكم والغايات
فهما مظهران بحمده وحكمته فإنكار الحكمة إنكار لحقيقة خلقه وأمره فإن الذي
أثبته المنكرون من ذلك ينزه عنه الرب ويتعالى عن نسبته إليه فإنهم أثبتوا
خلقا وأمرا لا رحمة فيه ولا مصلحة ولا حكمة بل
يجوز عندهم أو يقع أن
يأمر بما لا مصلحة للمكلف فيه البتة وينهى عما فيه مصلحة والجميع بالنسبة
إليه سواء ويجوز
ص -199- عندهم أن يأمر بكل ما نهى عنه وينهى عن
جميع ما أمر به ولا فرق بين هذا وهذا إلا لمجرد الأمر والنهي ويجوز عندهم
أن يعذب من لم يعصه طرفة عين بل أفنى عمره في طاعته وشكره وذكره وينعم على
من لم يطعه طرفة عين بل أفنى عمره في الكفر به والشرك والظلم والفجور فلا
سبيل إلى أن يعرف خلاف ذلك منه إلا بخبر الرسول وإلا فهو جائز عليه وهذا من
أقبح الظن وأسوئه بالرب سبحانه وتنزيهه عنه كتنزيهه عن الظلم والجور بل
هذا هو عين الظلم الذي يتعالى الله عنه والعجب العجاب أن كثيرا من أرباب
هذا المذهب ينزهونه عما وصف به نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال ويزعمون
أن إثباتها تجسيم وتشبيه ولا ينزهونه عن هذا الظلم والجور ويزعمون أنه عدل
وحق وأن التوحيد عندهم لا يتم إلا به كما لا يتم إلا بإنكار استوائه على
عرشه وعلوه فوق سماواته وتكلمه وتكليمه وصفات كماله فلا يتم التوحيد عند
هذه الطائفة إلا بهذا النفي وذلك الإثبات والله ولي التوفيق.
فصل: النوع
الثاني عشر إنكاره سبحانه أن يسوى بين المختلفين أو يفرق بين المتماثلين
وأن حكمته وعدله يأبى ذلك أما الأول فكقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ
كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فأخبر أن هذا حكم باطل
جائر يستحيل نسبته إليه كما يستحيل نسبة الفقر والحاجة والظلم إليه ومنكرو
الحكمة والتعليل يجوزون نسبة ذلك إليه بل يقولون بوقوعه وقال تعالى: {أَمْ
نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وقال: {أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ
مَا يَحْكُمُونَ}
فجعل سبحانه ذلك حكما سيئا يتعالى ويتقدس عن أن
يجوز عليه فضلا عن أن ينسب إليه بل أبلغ من هذا أنه أنكر على من حسب أن
يدخل الجنة بغير امتحان له وتكليف يبين به صبره وشكره وأن حكمته تأبى ذلك
كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا
يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}
وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ
مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ
وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا
وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ
يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ
وَلِيجَةً} فأنكر عليهم هذا الظن والحسبان لمخالفته بحكمته وأما الثاني وهو
أن لا يفرق بين المتماثلين فكقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
أُولَئِكَ رَفِيقاً} وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وقوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} وقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا
أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ} وقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وقوله: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ
أُولَئِكُمْ} وقوله: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ
أَمْثَالُهَا} وقوله: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ
رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلاً} وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ}
فسنته سبحانه عادته المعلومة في أوليائه وأعدائه بإكرام هؤلاء وإعزازهم
ونصرتهم وإهانة أولئك وإذلالهم وكبتهم وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ} والقرآن مملوء من هذا يخبر تعالى أن حكم الشيء في حكمته وعدله
حكم نظيره ومماثله وضد حكم مضاده ومخالفه وكل نوع من هذه
ص -200-
الأنواع لو استوعبناه لجاء كتابا مفردا.
فصل: النوع الثالث عشر أمره
سبحانه بتدبر كلامه والتفكر فيه وفي أوامره ونواهيه وزواجره ولولا ما تضمنه
من الحكم والمصالح والغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي هي محل الفكر
لما كان للتفكير فيه معنى وإنما دعاهم إلى التفكر والتدبر ليطلعهم ذلك على
حكمته البالغة وما فيه من الغايات والمصالح المحمودة التي توجب لمن عرفها
إقراره بأنه تنزيل من حكيم حميد فلو كان الحق ما يقوله النفاة وأن مرجع ذلك
وتصوره مجرد القدرة والمشيئة التي يجوز عليها تأييد الكاذب بالمعجزة ونصره
وإعلائه وإهانة الحق وإذلاله وكسره لما كان في التدبر والتفكر مما يدلهم
على صدق رسله ويقيم عليهم حجته وكان غاية ما دعوا إليه القدر المحض وذلك
مشترك بين الصادق والكاذب والبر والفاجر فهؤلاء بإنكارهم الحكمة والتعليل
سدوا على نفوسهم باب الإيمان والهدى وفتحوا عليهم باب المكابرة وجحد
الضروريات فإن ما في خلق الله وأمره من الحكم والمصالح المقصودة بالخلق
والأمر والغايات الحميدة أمر تشهد به الفطرة والعقول ولا ينكره سليم الفطرة
وهم لا ينكرون ذلك وإنما يقولون وقع بطريق الاتفاق لا بالقصد كما تسقط
خشبة عظيمة فيتفق عبور حيوان مؤذ تحتها فتهلكه ولا ريب أن هذا ينفي حمد
الرب سبحانه على حصول هذه المنافع والحكم لأنها لم تحصل بقصده وإرادته بل
بطريق الاتفاق الذي لا يحمد عليه صاحبه ولا يثنى عليه بل هو عندهم بمثابة
ما لو رمى رجل درهما لا لغرض ولا لفائدة بل لمجرد قدرته ومشيئته على طرحه
فاتفق أن وقع في يد محتاج انتفع به فهذا من شأنه الحكم والمصالح عند
المنكرين.
فصل: النوع الرابع عشر إخباره عن صدور الخلق والأمر عن حكمته
وعلمه فيذكر هذين الاسمين عند ذكر مصدر خلقه وشرعه تنبيها على أنهما إنما
صدرا عن حكمة مقصودة مقارنة للعلم المحيط التام لقوله: {وَإِنَّكَ
لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ
عَلِيمٍ} وقوله:
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} فذكره العزة
المتضمنة لكمال القدرة والتصرف والحكمة المتضمنة لكمال الحمد والعلم وقوله:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا
كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وسمع بعض
الأعراب قارئا يقرأها والله غفور رحيم فقال ليس هذا كلام الله فقال أتكذب
بالقرآن فقال لا ولكن لا يحسن هذا فرجع القارئ إلى خطئه فقال عزيز حكيم
فقال صدقت وإذا تأملت ختم الآيات بالأسماء والصفات وجدت كلامه مختتما بذكر
الصفة التي يقتضيها ذلك المقام حتى كأنها ذكرت دليلا عليه وموجبة له وهذا
كقوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ
فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي فإن مغفرتك لهم مصدر عن عزة هي
كمال القدرة لا عن عجز وجهل وقوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ} في عدة مواضع من القرآن يذكر ذلك عقيب ذكره الإجرام العلوية
وما تضمنه من فلق الإصباح وجعل الليل مسكنا وإجراء الشمس والقمر بحساب لا
يعدوانه وتزيين السماء الدنيا بالنجوم وحراستها وأخبر أن هذا التقدير
المحكم المتقن صادر عن عزته وعلمه ليس أمرا اتفاقيا لا يمدح به فاعله ولا
يثنى عليه به كسائر الأمور الاتفاقية ومن هذا ختمه سبحانه قصص الأنبياء
وأممهم في سورة الشعراء عقيب كل قصة: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ} فإن ما حكم به لرسله وأتباعهم ولأعدائهم صادر عن عزة ورحمة
فوضع الرحمة في محلها وانتقم من أعدائه بعزته ونجى رسله وأتباعهم برحمته
والحكمة
ص -201- الحاصلة من ذلك أمر مطلوب مقصود وهي غاية الفعل لا
أنها أمر اتفاقي.
فصل: النوع الخامس عشر إخباره بأن حكمه أحسن الأحكام
وتقديره أحسن التقادير ولولا مطابقته للحكمة والمصلحة المقصودة المرادة لما
كان كذلك إذ لو كان حسنه لكونه مقدورا معلوما كما يقوله النفاة لكان هو
وضده سواء فإنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فكان كل معلوم مقدور أحسن
الأحكام وأحسن التقادير وهذا ممتنع قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً
مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} فجعل هذا أن يختار لهم دينا سواه
ويرتضي دينا غيره كما يمتنع عليه العيب والظلم وقال تعالى: {مَنْ أَحْسَنُ
قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} وقال: {وَقَالَ
إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وقال: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ}
وقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} فلا أحسن من تقديره
وخلقه لوقوعه على الوجه الذي اقتضته حكمته ورحمته وعلمه وقال تعالى: {مَا
تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} ولولا مجيئه على أكمل الوجوه
وأحسنها ومطابقتها للغايات المحمودة والحكم المطلوبة لكان كله متفاوتا أو
كان عدم تفاوته أمرا اتفاقيا لا يحمد فاعله لأنه لم يرده ولم يقصده وإنما
اتفق أن صار كذلك.
فصل: النوع السادس عشر إخباره سبحانه أنه على صراط
مستقيم في موضعين من كتابه أحدهما قوله حاكيا عن نبيه هود: {إِنِّي
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا
هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
والثاني قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ
لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا
يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ
وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال أبو إسحاق: "أخبر أنه وإن كانت
قدرته تنالهم بما شاء فهو لا يشاء إلا العدل" قال ابن الأنباري: "لما قال
إلا هو آخذ بناصيتها كان في معنى لا تخرج عن قبضته" قاهر بعظيم سلطانه كل
دابة فأتبع ذلك قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي أنه على
الحق قال وهذا نحو كلام العرب إذا وصفوا رجلا حين السيرة والعدل والإنصاف
قالوا فلان طريقه حسنة وليس ثم طريق وذكر في معنى الآية أقوال أخر هي من
لوازم هذا المعنى وآثاره كقول بعضهم إن ربي يدل على صراط مستقيم فدلالته
على الصراط من موجبات كونه في نفسه على صراط مستقيم فإن تلك الدلالة
والتعريف من تمام رحمته وإحسانه وعدله وحكمته وقال بعضهم معناه لا يخفى
عليه شيء ولا يعدل عنه هارب وقال بعضهم المعنى لا مسلك لأحد ولا طريق له
إلا عليه كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} وهذا المعنى حق ولكن
كونه هو المراد بالآية ليس بالبين فإن الناس كلهم لا يسلكون الصراط
المستقيم حتى يقال أنهم يصلون سلوكه إليه ولما أراد سبحانه هذا المعنى قال:
{إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ}: {إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصَادِ}: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} وأما وصفه
سبحانه بأنه على صراط مستقيم فهو كونه يقول الحق ويفعل الصواب فكلماته صدق
وعدل كله صواب وخير والله يقول الحق وهو يهدي السبيل فلا يقول إلا ما يحمد
عليه لكونه حقا وعدلا وصدقا وحكمة في نفسه وهذا معروف في كلام للعرب قال
جرير يمدح عمر بن عبد العزيز:
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد
مستقيم
وإذا عرف هذا فمن ضرورة كونه على صراط مستقيم أنه لا يفعل شيئا
إلا بحكمة يحمد عليها وغاية هي
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ص -202- أولى بالإرادة من غيرها فلا تخرج أفعاله عن الحكمة و المصلحة
والإحسان والرحمة و العدل والصواب كما لا تخرج أقواله عن العدل والصدق.
فصل:
النوع السابع عشر حمده سبحانه لنفسه على جميع ما يفعله وأمره عباده بحمده
وهذا لما في أفعاله من الغايات والعواقب الحميدة التي يستحق فاعلها الحمد
فهو يحمد على نفس الفعل وعلى قصد الغاية الحميدة به وعلى حصولها فههنا ثلاث
أمور ومنكرو الحكم والتعليل ليس عندهم محمود على قصد الغاية ولا على
حصولها إذ قصدها عندهم مستحيل عليه وحصولها عندهم أمر اتفاقي غير مقصود كما
صرحوا به فلا يحمد على ما لا يجوز قصده ولا على حصوله فلم يبق إلا نفس
الفعل ومعلوم أن الفاعل لا يحمد على فعله إن لم يكن له فيه غاية مطلوبة هي
أولى به من عدمها وإلا فمجرد الفعل الصادر عن الفاعل إذا لم يكن له غاية
يقصده بها لا يحمد عليه بل وقوع هذا الفعل من القادر المختار الحكيم محال
ولا يقع الفعل على هذا الوجه إلا من عائب والله منزه من العيب فحمده سبحانه
من أعظم الأدلة على كمال حكمته وقصده بما فعل يقع خلفه والإحسان إليهم
ورحمتهم وإتمام نعمته عليهم وغير ذلك من الحكم والغايات التي تعطيلها تعطيل
لحقيقة حمده.
فصل: النوع الثامن عشر إخباره بإنعامه على خلقه وإحسانه
إليهم وأنه خلق لهم ما في السماوات وما في الأرض وأعطاهم الأسماع والأبصار
والأفئدة ليتم نعمته عليهم ومعلوم أن المنعم المحسن لا يكون كذلك ولا يستحق
هذا الاسم حتى يقصد الإنعام على غيره والإحسان إليه فلو لم يفعل سبحانه
لغرض الإنعام والإحسان لم يكن منعما في الحقيقة ولا محسنا إذ يستحيل أن
يكون كذلك من لم يقصد الإنعام والإحسان وهذا غني عن التقرير يوضحه أنه
سبحانه حيث ذكر إنعامه وإحسانه فإنما يذكره مقرونا بالحكم والمصالح
والمنافع التي خلق الخلق وشرع الشرائع لأجلها كقوله في آخر سورة النحل:
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً
وَجَعَلَ لَكُمْ
مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ
وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} فهذا في الخلق وقال في الشرع في أمره
باستقبال الكعبة: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي
عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وقال في أمره بالوضوء والتيمم: {مَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} فجعل تمام نعمته في أن خلق ما خلق للإحسان وأمر بما أمر لذلك.
فصل:
النوع التاسع عشر اتصافه بالرحمة وأنه أرحم الراحمين وأن رحمته وسعت كل
شيء وذلك لا يتحقق إلا بأن تقصد رحمة خلقه بما خلقه لهم وبما أمرهم به فلو
لم تكن أوامره لأجل الرحمة والحكمة والمصلحة وإرادة الإحسان إليهم لما كان
رحمة ولو حصلت بها الرحمة لكانت اتفاقية لا مقصودة وذلك لا يوجب أن يكون
الآمر سبحانه أرحم الراحمين فتعطيل حكمته والغاية المقصودة التي لأجلها
يفعل إنكار لرحمته في الحقيقة وتعطيل لها وكان شيخ هذا المذهب جهم بن صفوان
يقف على الجذامى ويشاهد ما هم فيه من البلايا ويقول أرحم الراحمين يفعل
مثل هذا يعني أنه ليس ثم رحمة في الحقيقة وأن الأمر راجع إلى محض المشيئة
الخالية عن الحكمة والرحمة ولا حكمة
ص -203- عنده ولا رحمة فإن
الرحمة لا تعقل إلا من فعل من يفعل الشيء لرحمة غيره ونفعه والإحسان إليه
فإذا لم يفعل لغرض ولا غاية ولا حكمة لم يفعل الرحمة والإحسان.
فصل:
النوع العشرون جوابه سبحانه لمن سأل عن التخصيص والتمييز الواقع في أفعاله
بأنه لحكمة يعلمها هو سبحانه وإن كان السائل لا يعلمها كما أجاب الملائكة
لما قال لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فقالوا: {تَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فأجابهم بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا
تَعْلَمُونَ} ولو كان فعله مجردا عن الحكم والغايات والمصالح لكان الملائكة
أعلم به أن سألوا هذا السؤال ولم يصح جوابهم بتفرده بعلم مالا يعلمونه من
الحكم والمصلحة التي في خلق هذه الخليفة ولهذا كان سؤالهم إنما وقع عن وجه
الحكمة لم يكن اعتراضا على الرب تعالى ولو قدر أنه على وجه الاعتراض فهو
دليل على علمهم أنه لا يفعل شيئا إلا لحكمة فلما رأوا أن خلق هذا الخليفة
مناف للحكمة في الظاهر سألوه عن ذلك ومن هذا قوله تعالى: {وَإِذَا
جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا
أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}
فأجابهم بأن حكمته وعلمه يأبى أن يضع رسالاته في غير محلها وعند غير أهلها
ولو كان الأمر راجعا إلى محض المشيئة لم يكن في هذا جوابا بل كان الجواب أن
أفعاله لا تعلل وهو يرجح مثلا على مثل بغير مرجح والأمر عائد إلى مجرد
القدرة كما يقوله المنكرون وكذلك قوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ
بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} فلما سألوا عن التخصيص
بمشيئة الله وأنكروا ذلك أجيبوا بأن الله أعلم بمن يصلح لمشيئته وهو أهل
لها وهم الشاكرون الذين يعرفون
قدر النعمة ويشكرون عليها المنعم
فهؤلاء يصلحون بمشيئته ولو كان الأمر عائدا إلى محض المشيئة لم يحسن هذا
الجواب ولهذا يذكر سبحانه صفة العلم حيث يذكر التخصيص والتفصيل بينهما على
أنه إنما حصل بعلمه سبحانه بما في التخصيص المفصل مما يقتضي تخصيصه وتفصيله
وهو الذي جعله أهلا لذلك كما قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ
عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} فذكر علمه عقيب تخصيصه سليمان بتسخير
الريح له وتخصيصه الأرض المذكورة بالبركة ومنه قوله: {جَعَلَ اللَّهُ
الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ
الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فذكر صفة العلم التي اقتضت تخصيص هذا المكان وهذا
الزمان بأمر اختصا به دون سائر الأمكنة والأزمنة ومن ذلك قوله سبحانه:
{أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا
وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} فأخبر أنه وضع هذه الكلمة عند
أهلها ومن هم أحق بها وأنه أعلم بمن يستحقها من غيرهم فهل هذا وصف من يخص
بمحض المشيئة لا بسبب وغاية.
فصل: النوع الحادي والعشرون إخباره سبحانه
عن تركه بعض مقدوره لما يستلزمه من المفسدة وأن المصلحة في تركه ولو كان
الأمر راجعا إلى محض المشيئة لم يكن ذلك علة للحكم كقوله تعالى: {إِنَّ
شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا
يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ
أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فعلل سبحانه عدم إسماعهم
السماع الذي ينتفعون بهو وهو سماع الفهم
بأنهم لا خير فيهم يحسن معه
أن يسمعهم وبأن فيهم مانعا آخر يمنع من الانتفاع بالمسموع لو سمعوه وهو
الكبر
ص -204- والإعراض فالأول من باب تعليل عدم الحكم بعدم ما
يقتضيه والثاني من باب تعليله بوجود مانعه وهذا إنما يصح ممن يأمر وينهى
ويفعل للحكم والمصالح وأما من يجرد فعله عن ذلك فإنه لا يضاف عدم الحكم إلا
إلى مجرد مسببه فقط ومن هذا تنزيه نفسه عن كثير مما يقدر عليه فلا يفعله
لمنافاته لحكمته وحمده كقوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ
مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}
وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ
اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وقوله: {وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ
مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقوله: {وَمَا كَانَ
رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} وقوله:
{مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا
رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى
إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} فنزه نفسه عن هذه الأفعال لأنه لا يليق
بكماله وينافي حكمته وحمده وعند النفاة أنها ليست مما ينزه الرب عنه لأنها
مقدورة له وهو إنما ينزه عما لا يقدر عليه ولكن علمنا أنها لا تقع لعدم
مسببه لها لا لقبحها في نفسها.
فصل: النوع الثاني والعشرون أن تعطيل
الحكمة والغاية المطلوبة بالفعل إما أن يكون لعدم علم الفاعل بها أو
تفاصلها وهذا محال في حق من هو بكل شيء عليم وإما لعجزه عن تحصيلها وهذا
ممتنع في حق من هو على كل شيء قدير وإما لعدم إرادته ومشيئته الإحسان إلى
غيره وإيصال النفع إليه وهذا مستحيل في حق أرحم
الراحمين ومن إحسانه
من لوازم ذاته فلا يكون إلا محسنا منعما منانا وإما لمانع يمنع من إرادتها
وقصدها وهذا مستحيل في حق من لا يمنعه مانع عن فعل ما يريد وإما لاستلزامها
نقصا ومنافاتها كمالا وهذا باطل بل هو قلب للحقائق وعكس للفطر ومناقضة
لقضايا العقول فإن من يفعل لحكمة وغاية مطلوبة يحمد عليها أكمل ممن يفعل لا
لشيء البتة كما أن من يخلق أكمل ممن لا يخلق ومن يعلم أكمل ممن لا يعلم
ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ومن يقدر ويريد أكمل ممن لا يتصف بذلك وهذا
مركوز في الفطر مستقر في العقول فنفي حكمته بمنزلة نفي هذه الأوصاف عنه
وذلك يستلزم وصفه بأضدادها وهي أنقص النقائص ولهذا صرح كثير من النفاة
كالجويني والرازي بأنه لم يقم على نفي النقائض عن الله دليل عقلي إلا مستند
النفي السمع والإجماع وحينئذ فيقال لهؤلاء إن لم يكن في إثبات الحكمة نقص
لم يجز نفيها وإن كانت نقصا فأين في السمع أو في الإجماع نفي هذا النقص
وجمهور الأمة يثبت حكمته سبحانه والغايات المحمودة في أفعاله فليس مع
النفاة سمع ولا عقل ولا إجماع بل السمع والعقل والإجماع والفطرة تشهد
ببطلان قولهم والله الموفق للصواب وجماع ذلك أن كمال الرب تعالى وجلاله
وحكمته وعدله ورحمته وقدرته وإحسانه وحمده ومجده وحقائق أسمائه الحسنى تمنع
كون أفعاله صادرة منه لا لحكمة ولا لغاية مطلوبة وجميع أسمائه الحسنى تنفي
ذلك وتشهد ببطلانه وإنما نبهنا على بعض طرق القرآن وإلا فالأدلة التي
تضمنها إثبات ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وبالله التوفيق.
فصل: وكيف يتوهم
ذو الفطرة صحيحة خلاف ذلك وهذا الوجود شاهد بحكمته وعنايته بخلقه أتم
عناية وما في مخلوقاته من الحكم والمصالح والمنافع والغايات المطلوبة
والعواقب الحميدة أعظم من أن يحيط به وصف أو يحصره عقل ويكفي الإنسان فكره
وخلقه وأعضائه ومنافعها وقواه وصفاته وهيأته فإنه لو استنفد عمره لم يحط
علما بجميع ما تضمنه خلقه من الحكم والمنافع
على التفصيل والعالم كله
علويه وسفليه بهذه المثابة ولكن لشدة ظهور الحكمة ووضوحها وجد الجاحد
ص
-205- السبيل إلى إنكارها و هذا شأن النفوس الجاهلة الظالمة كما أنكرت
وجود الصانع تعالى مع فرط ظهور آياته ودلائل ربوبيته بحيث استوعبت كل موجود
ومع هذا فسمحت بالمكابرة في إنكاره وهكذا أدلة علوه سبحانه فوق مخلوقاته
مع شدة ظهورها وكرتها سمحت نفوس الجهمية بإنكارها و هكذا سواها كصدق
أنبيائه ورسله ولا سيما خاتمهم صلوات الله وسلامه عليه فإن أدلة صدقه في
الوضوح للعقول كالشمس في دلالتها على النهار ومع هذا فلم يأنف الجاحدون
والمكابرون من الإنكار وهكذا أدلة ثبوت صفات الكمال لمعطي الكمال هي من
أظهر الأشياء وأوضحها وقد أنكرها من أنكرها ولا يستنكر هذا فإنك تجد الرجل
منغمسا في النعم وقد أحاطت به من كل جانب وهو يشكي حاله ويسخط مما هو فيه
وربما أنكر النعمة فضلال النفوس وغيها لا حد له تنتهي إليه ولا سيما النفوس
الجاهلة الظالمة ومن أعجب العجب أن تسمح نفس بإنكار الحكم والعلل الغائية
والمصالح التي تضمنها هذه الشريعة الكاملة التي هي من أدل الدلائل على صدق
من جاء بها وأنه رسول الله حقا ولو لم يأت بمعجزة سواها لكانت كافية شافية
فإن ما تضمنته من الحكم والمصالح والغايات الحميدة والعواقب السديدة شاهدة
بأن الذي شرعها وأنزلها أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وشهود ذلك في
نضاعيفها ومضمونها كشهود الحكم والمصالح والمنافع في المخلوقات العلوية
والسفلية وما بينهما من الحيوان والنبات والعناصر والآثار التي بها انتظام
مصالح المعاش فكيف يرضى أحد لنفسه إنكار ذلك وجحده وإن تجمل واستحى من
العقلاء قال ذلك أمر اتفاقي غير مقصود بالأمر والخلق وسبحان الله كيف
يستجيز أحد أن يظن برب العالمين وأحكم الحاكمين أنه يعذب كثيرا من خلقه أشد
العذاب الأبدي لغير غاية ولا حكمة ولا سبب وإنما هو محض مشيئة مجردة عن
الحكمة والسبب فلا سبب هناك
ولا حكمة ولا غاية وهل هذا إلا من أسوء
الظن بالرب تعالى وكيف يستجيز أن يظن بربه أنه أمر ونهى وأباح وحرم وأحب
وكره وشرع الشرائع وأمر بالحدود لا لحكمة ولا لمصلحة يقصدها بل ما ثم إلا
مشيئة محضة رجحت مثلا على مثل بغير مرجح وأي رحمة تكون في هذه الشريعة وكيف
يكون المبعوث بها رحمة مهداة للعالمين لو كان الأمر كما يقول النفاة وهل
يكون الأمر والنهي إلا عقوبة وكلفة وعبثا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ولو
ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالنا من حكمة الله في خلقه وأمره لزاد ذلك على
عشرة آلاف موضع مع قصور أذهاننا ونقص عقولنا ومعارفنا وتلاشيها وتلاشي
علوم الخلائق جميعهم في علم الله كتلاشي ضوء السراج في عين الشمس وهذا
تقريب وإلا فالأمر فوق ذلك وهل إبطاله الحكم والمناسبات والأوصاف التي شرعت
الأحكام لأجلها إلا إبطال للشرع جملة وهل يمكن فقيها على وجه الأرض أن
يتكلم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل وقصد الشارع
بالأحكام مصالح العباد وجناية هذا القول على الشرائع من أعظم الجنايات فإن
العقلاء لا يمكنهم إنكار الأسباب والحكم والمصالح والعلل الغائية فإذا رأوا
أن هذا لا يمكن القول به مع موافقة الشرائع ولا يمكنهم رفعه عن نفوسهم
خلوا الشرائع وراء ظهورهم وأساؤا بها الظن وقالوا لا يمكننا الجمع بينها
وبين عقولنا ولا سبيل لنا إلى الخروج عن عقولنا ورأوا أن القول بالفاعل
المختار لا يمكن إلا مع نفي الأسباب والحكم والقوى والطبائع ولا سبيل إلى
نفيها فنفوا الفاعل وأولئك لم يمكنهم القول بنفي الفاعل المختار ورأوا أنه
لا يمكنهم إثباته مع إثبات الأسباب والحكم والقوى
ص -206- والعلل
فنفوها وبين الطائفتين بعد المشرقين ولا تستهن بأمر هذه المسألة فإن شأنها
أعظم وخطرها أجل وفروعها كثيرة ومن فروعها أنهم لما تكلموا فيما يحدثه الله
تعالى من المطر والنبات والحيوان والحر والبرد والليل والنهار والإهلال
والإبدار والكسوف والاستسرار وحوادث الجو وحوادث الأرض انقسموا قسمين
وصاروا طائفتين فطائفة جعلت الموجب لذلك مجرد ما رأوه علة وسببا من الحركات
الفلكية والقوى الطبيعية والنفوس والعقول فليس عندهم لذلك فاعل مختار مريد
وقابلهم طائفة من المتكلمين فلم يسببوا لذلك سببا إلا مجرد المشيئة
والقدرة وأن الفاعل المختار يرجح مثلا على مثل بلا مرجح ولا سبب ولا حكمة
ولا غاية يفعل لأجلها ونفوا الأسباب والقوى والطبائع والقرائن والحكم
والغايات حتى يقول من أثبت الجوهر الفرد منهم أن الفلك والرحا ونحوهما مما
يدور متفكك دائما عند الدوران والقادر المختار يعيده كل وقت كما كان وأن
الألوان والمقادير والأشكال والصفات تعدم على تعاقب الآنات والقادر المختار
يعيدها كل وقت وأن ملوحة ماء البحر كل لحظة تعدم وتذهب ويعيدها القادر
المختار كل ذلك بلا سبب ولا حكمة ولا علة غائية ورأوا أنهم لا يمكنهم
التخلص من قول الفلاسفة أعداء الرسل إلا بذلك ورأى أعداء الرسل أنهم لا
يمكنهم الدخول في الشريعة إلا بالتزام أصول هؤلاء ولم يهتد الطائفتان للحق
الذي لا يجوز غيره وهو انه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته ويفعل ما
يفعله بأسباب وحكم وغايات محمودة وقد أودع العالم من القوى والطبائع
والغرائز والأسباب والمسببات ما به قام الخلق والأمر وهذا قول جمهور أهل
الإسلام وأكثر طوائف النظار وهو قول الفقهاء قاطبة إلا من خلى الفقه ناحية
وتكلم بأصول النفاة فعادى فقهه أصول دينه.
شفاء العليل
الباب
الثاني والعشرون: في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره واثبات
الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فعل وأمر لأجلها
الباب الثاني
والعشرون: في استيفاء شبه النافعين للحكمة والتعليل وذكر الأجوبة عنها
قالت
النفاة قد أجلبتم علينا بما استطعتم من خيل الأدلة ورجلها فاسمعوا الآن ما
يبطله ثم أجيبوا عنه إن أمكنكم الجواب فنقول ما قاله أفضل متأخريهم محمد
بن عمر الرازي: "كل من فعل فعلا لأجل تحصيل مصلحة أو لدفع مفسدة فإن كان
تحصيل تلك المصلحة أولى من عدم تحصيلها كان ذلك الفاعل قد استفاد بذلك
الفعل تحصيل ذلك" ومن كان كذلك كان ناقصا بذاته مستكملا بغيره وهو في حق
الله محال وإن كان تحصيلها وعدمه بالنسبة إليه سواء فمع ذلك لا يحصل
الرجحان فامتنع تحصيلها ثم أورد سؤالا وهو لا يقال حصولها واللاحصولها
بالنسبة إليه وإن كان على التساوي إلا أن حصولها للعبد أولى من عدم حصولها
له فلأجل هذه الأولوية العائدة إلى العبد يرجح الله سبحانه الوجود على
العدم ثم أجاب بأنا نقول تحصيل تلك المصلحة وعدم تحصيلها له إما أن يكونا
متساويين بالنسبة إلى الله أو لا يستويان وحينئذ يعود التقسيم المذكور قال
المثبتون الجواب عن هذه الشبهة من وجوه أحدها أن قولك أن كل من فعل لغرض
يكون ناقصا بذاته مستكملا بغيره ما تعني بقولك أنه يكون ناقصا بذاته أتعني
به أنه يكون عادما لشيء من الكمال الذي لا يجب أن يكون له قبل حدوث ذلك
المراد أم تعني به أن يكون عادما لما ليس كمالا قبل وجوده أم تعني به معنى
ثالثا
ص -207- فإن عنيت الأول فالدعوى باطلة فإنه لا يلزم من فعله
لغرض حصوله أولى من عدمه أن يكون عادما لشيء من الكمال الواجب قبل حدوث
المراد فإنه يمتنع أن يكون كمالا قبل حصوله وإن عنيت الثاني لم يكن عدمه
نقصا فإن الغرض ليس كمالا قبل وجوده وما ليس بكمال في وقت لا يكون عدمه
نقصا فيه فما كان قبل وجوده عدمه أولى من وجوده وبعد وجوده وجوده أولى من
عدمه لم يكن عدمه قبل وجوده نقصا ولا وجوده بعد عدمه نقصا بل الكمال عدمه
قبل وقت وجوده وجوده وقت ووجوده وإذا كان كذلك فالحكم المطلوبة والغايات من
هذا النوع وجودها وقت وجودها هو الكمال وعدمها حينئذ نقص وعدمها وقت عدمها
كمال ووجودها حينئذ نقص وعلى هذا فالنافي هو الذي نسب النقص إلى الله لا
المثبت وإن عنيت به أمرا ثالثا فلا بد من بيانه حتى ننظر فيه الجواب الثاني
إن قولك يلزم أن يكون ناقصا بذاته مستكملا بغيره أتعني به أن الحكمة التي
يجب وجودها إنما حصلت له من شيء خارج عنه أم تعني أن تلك الحكمة نفسها غير
له وهو مستكمل بها فإن عنيت الأول فهو باطل فإنه لا رب غيره ولا خالق سواه
ولم يستفد سبحانه من غيره كمالا بوجه من الوجوه بل العالم كله إنما استفاد
الكمال الذي فيه منه سبحانه وهو لم يستفد كماله من غيره كما لم يستفد وجوده
من غيره وإن عنيت الثاني فتلك الحكمة صفته سبحانه وصفاته ليست غيرا له فإن
حكمته قائمة به وهو الحكيم الذي له الحكمة كما أنه العليم الذي له العلم
والسميع الذي له السمع والبصير الذي له البصر فثبوت حكمته لا يستلزم
استكماله بغير منفصل عنه كما أن كماله سبحانه بصفاته وهو لم يستفدها من
غيره الجواب الثالث أنه سبحانه إذا كان إنما يفعل لأجل أمر هو أحب إليه من
عدمه كان اللازم من ذلك حصول مراده الذي يحبه وفعل لأجله وهذا غاية الكمال
وعدمه هو النقص فإن من كان قادرا على تحصيل ما يحبه وفعله في الوقت الذي
يحب على الوجه الذي يحب فهو الكامل حقا لا من لا
محبوب له أو له
محبوب لا يقدر على فعله الجواب الرابع أن يقال أنت ذكرت في كتبك أنه لم يقم
على نفي النقص عن الله دليل عقلي واتّبعت في ذلك الجويني وغيره وقلتم إنما
ينفى النقص عنه عز وجل بالسمع وهو الإجماع فلم تنفوه عن الله عز وجل
بالعقول ولا بنص منقول عن الرسول بل بما ذكرتموه من الإجماع وحينئذ فإنما
ينفى بالإجماع ما انعقد الإجماع على نفيه والفعل بحكمه لم ينعقد الإجماع
على نفيه فلم تجمع الأمة على انتفاء التعليل لأفعال الله فإذا سميت أنت ذلك
نقصا لم تكن هذه التسمية موجبة لانعقاد الإجماع على نفيها فإن قلت أهل
الإجماع أجمعوا على نفي النقص وهذا نقص قيل نعم الأمة مجمعة على ذلك ولكن
الشأن في هذا الوصف المعني أهو نقص فيكون قد أجمعت على نفيه فهذا أول
المسألة والقائلون بإثباته ليس هو عندهم نقصا بل هو عين الكمال ونفيه عين
النقص وحينئذ فنقول في الجواب الخامس أن إثبات الحكمة كمال كما تقدم تقريره
ونفيه نقص والأمة مجمعة على انتفاء النقص عن الله بل العلم بانتفائه عن
الله تعالى من أعلى العلوم الضرورية المستقرة في فطر الخلق فلو كانت أفعاله
معطلة عن الحكم والغايات المحمودة لزم النقص وهو محال ولزوم النقص من
انتفاء الحكم أظهر في العقول والفطر والعلوم الضرورية والنظرية من لزوم
النقص من إثبات ذلك وحينئذ فتقول في الجواب السادس النقص إما أن يكون جائزا
أو ممتنعا فإن كان جائزا بطل دليلك وإن كان ممتنعا بطل دليلك أيضا فبطل
الدليل على التقديرين الجواب السابع أن النقص منتف عن الله عز
ص
-208- وجل عقلا كما هو منتف عنه سمعا والعقل والنقل يوجب اتصافه بصفات
الكمال والنقص هو ما يضاد صفات الكمال فالعلم والقدرة والإرادة والسمع
والبصر والكلام والحياة صفات كمال وأضدادها نقص فوجب تنزيهه عنها لمنافاتها
لكماله وأما حصول ما يحبه الرب تعالى في الوقت الذي يحبه فإنما يكون كمالا
إذا حصل على الوجه الذي يحبه فعدمه قبل ذلك ليس نقصا إذ كان لا يحب وجوده
قبل ذلك الجواب الثامن أن يقال الكمال الذي يستحقه سبحانه وتعالى هو الكمال
الممكن أو الممتنع فالأول مسلم والثاني باطل قطعا فلم قلت أن وجود الحادث
في غير وقته الذي وجد فيه ممكن بل وجود الحادث في الأزل ممتنع فعدمه لا
يكون نقصا الجواب التاسع أن عدم الممتنع لا يكون كمالا فإن الممتنع ليس
بشيء في الخارج وما ليس بشيء لا يكون عدمه نقصا فإنه إن كان في المقدور ما
لا يحدث إلا شيئا بعد شيء كان وجوده في الأزل ممتنعا فلا يكون عدمه نقصا
وإنما يكون الكمال وجوده حين يمكن وجوده، الجواب العاشر أن يقال أنه تعالى
أحدث أشياء بعد أن لم يكن محدثا لها كالحوادث المشهودة حتى أن القائلين
بكون الفلك قديما عن عله موجبة يقرون بذلك ويقولون أنه يحدث الحوادث
بواسطته وحينئذ فنقول هذا الإحداث إما أن يكون صفة كمال وإما أن لا يكون
فإن كان صفة كمال فقد كان فاقدا لها قبل ذلك وإن لم يكن صفة كمال فقد اتصف
بالنقص فإن قلت نحن نقول بأنه ليس صفة كمال ولا نقص قيل فهلا قلتم ذلك في
التعليل وأيضا فهذا محال في حق الرب تعالى فإن كل ما يفعله يستحق عليه
الحمد وكل ما يقوم من صفاته فهو صفة كمال وضده نقص وقد ينازع النظار في
الفاعلية هل هي صفة كمال أم لا وجمهور المسلمين من جميع الفرق يقولون هي
صفة كمال وقالت طائفة ليست صفة كمال ولا نقص وهو قول أكثر الأشعرية فإذا
التزم له هذا القول قيل له الجواب من وجهين أحدهما أن من المعلوم تصريح
العقل أن من يخلق أكمل ممن لا يخلق كما قال تعالى:
{أَفَمَنْ
يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وهذا استفهام إنكار
يتضمن الإنكار على من سوى بين الأمرين يعلم أن أحدهما أكمل من الآخر قطعا
ولا ريب أن تفضيل من يخلق على من لا يخلق في الفطر والعقول كتفضيل من يعلم
على من لا يعلم ومن يقدر على من لا يقدر ومن يسمع ويبصر على من لا يسمع ولا
يبصر ولما كان هذا مستقرا في فطر بني آدم جعله الله تعالى من آلة توحيده
وحججه على عباده قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا
يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ
يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى
مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ
وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال
تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا
يَعْلَمُون} وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا
الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي
الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} وقال تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ
كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ
مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ} فمن سوى بين صفة الخالقية وعدمها فلم يجعل
وجودها كمالا ولا عدمها نقصا فقد أبطل حجج الله وأدلة توحيده وسوى بين ما
جعل بينهما أعظم التفاوت وحينئذ فنقول في الجواب الحادي عشر إذا كان الأمر
كما ذكرتم فلم لا يجوز أن يفعل لحكمة يكون وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء
كما أنه عندكم لم يحدث ما يحدثه مع كون الإحداث والخلق وعدمه بالنسبة إليه
سواء مع أن هذه إرادة لا تعقل في
ص -209- الشاهد فقولوا مثل ذلك في
الحكمة وأن ذلك لا يعقل لا سيما والفعل عندكم هو المفعول المنفصل فجوزوا
أيضا أن يفعل لحكمة منفصلة وأنتم إنما قلتم ذلك فرارا من قيام الحوادث به
ومن التسلسل فكذلك قولوا بنظير ذلك في الحكمة والذي يلزم أولئك فهو نظير ما
يلزمكم سواء، الجواب الثاني عشر أن يقال العقل الصريح يقضي بأن من لا حكمة
لفعله ولا غاية يقصدها به أولى بالنقص ممن يفعل لحكمة كانت معدومة ثم صارت
موجودة في الوقت الذي اقتضت حكمته إحداث الفعل فيه فكيف يسوغ لعاقل أن
يقول فعله للحكمة يستلزم النقص وفعله لا لحكمة لا نقص فيه، الجواب الثالث
عشر أن هؤلاء النفاة يقولون أنه سبحانه يفعل ما يشاء من غير اعتبار حكمة
فيجوزون عليه كل ممكن حتى الأمر بالشرك والكذب والظلم والفواحش والنهي عن
التوحيد والصدق والعدل والعقاب وحينئذ فنقول إذا جازت عليه هذه المرادات
وليس في إرادتها نقص وهذا مراد فلا نقص فيه فقولهم من فعل شيئا لشيء كان
ناقصا بدونه قضية كلية ممنوعة العموم وعمومها أولى بالمنع من قول القائل من
أكرم أهل الجهل والظلم والفساد وأهان أهل العلم والعدل والبر كان سفيها
جائرا وهذا عند النفاة جائز على الله ولم يكن به سفيها جائرا وكذلك قول
القائل من أرسل إماءه وعبيده يفجر بعضهم ببعض ويقتل بعضهم بعضا وهو قادر
على أن يكفيهم كان سفيها والله قد فعل ذلك ولم يدخل في عموم هذه القضية
فكذا القضية الكلية التي ادعوا ثبوتها في محل النزاع أولى أن تكون باطلة
منتقضة، الجواب الرابع عشر أنه لو سلم لهم أنه مستكمل بأمر حادث لكان هذا
من الحوادث المرادات وكل ما هو حادث مراد عندهم فليس بقبيح فإن القبيح
عندهم ليس إلا مخالفة الأمر والنهي والله ليس فوقه آمر ولا ناه فلا ينزه
عندهم عن شيء من الممكنات البتة إلا ما أخبر بأنه لا يكون فإنهم ينزهونه عن
كونه لمخالفة حكمته والقبيح عندهم هو الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة وما
دخل تحت
القدرة لم يكن قبيحا ولا مستلزما نقصا عندهم وجماع ذلك
بالجواب الخامس عشر أنه ما من محذور يلزم من تجويز فعله لحكمة إلا
والمحاذير التي يلزم من كونه يفعل لا لحكمة أعظم امتناعا فإن كانت تلك
المحاذير غير ممتنعة كانت محاذير إثبات الحكمة أولى بعدم الامتناع وإن كانت
محاذير إثبات الحكمة ممتنعة فمحاذير نفيها أولى بالامتناع، الجواب السادس
عشر أن فعل الحي العالم الاختياري لا لغاية ولا لغرض يدعوه إلى فعله لا
يعقل بل هو من الممتنعات لهذا لا يصدر إلا من مجنون أو نائم أو زائل العقل
فإن الحكمة والعلة الغائية هي التي تجعل المريد مريدا فإنه إذا علم بمصلحة
الفعل ونفعه وغايته انبعثت إرادته إليه فإذا لم يعلم في الفعل مصلحة ولا
كان له فيه غرض صحيح ولا داع يدعوه إليه فلا يقع منه إلا على سبيل العبث
هذا الذي لا يعقل العقلاء سواه وحينئذ فنفي الحكمة والعلة والغاية عن فعل
أحكم الحاكمين نفي لفعله الاختياري في الحقيقة وذلك أنقص النقص وقد تقدم
تقرير ذلك وبالله التوفيق.
فصل: قال نفاة الحكمة هب أن الحجة بطلت فلا
يلزم من بطلان دليل بطلان الحكم فنحن نذكر حجة غيرها فنقول لو كان فعله
تعالى معللا بعلة فتلك العلة إن كانت قديمة لزم من قدمها قدم الفعل وهو
محال وإن كانت محدثة افتقر كونه موجودا لتلك العلة إلى علة أخرى وهو محال
وهذا معنى قول القائل علة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه قالوا ونحن نقرر هذه
الحجة تقريرا
ص -210- أبسط من هذا فنقول لو كان فعله تعالى لحكمة
فتلك الحكمة إما قديمة أو محدثة فإن كانت قديمة فإما أن يلزم من قدمها
الفعل قدم الفعل أو لا يلزم فإن لزم فهو محال وإن لم يلزم القدم والفعل
موجود بدونها فالحكمة غير حاصلة من ذلك الفعل لحصوله دونها وما لا يكون
الحكمة متوقفة على حصوله لا يكون متوقفا عليها وهو المطلوب وإن كانت الحكمة
حادثة بحدوث الفعل فإما أن تفتقر إلى فاعل أو لا تفتقر إلى فاعل فإن لم
تفتقر لزم حدوث من غير فاعل وهو محال وإن افتقرت إلى فاعل فذلك الفاعل إما
أن يكون هو الله أو غيره لا يجوز أن يكون غيره لأنه لا خالق إلا الله وإن
كان هو الله فإما أن يكون له في فعله غرض أو لا غرض له فيه فإن كان الأول
فالكلام فيه كالكلام في الأول ويلزم التسلسل وإن كان الثاني فقد خلا فعله
عن الغرض وهو المطلوب فإن قلت فعله لذلك الغرض لغرض هو نفسه فما خلا عن غرض
ولم يلزم التسلسل قلنا فيلزم مثله في كل مفعول مخلوق وهو أن يكون الغرض
منه هو نفسه من غير حاجة إلى غرض آخر وهو المطلوب فهذه حجة باهرة وافية
بالغرض قال أهل الحكمة بل هي حجة داحضة باطلة من وجوه والجواب عنها من وجوه
الجواب الأول أن نقول لا يخلو إما أن يمكن أن يكون الفعل قديم العين أو
قديم النوع أو لا يمكن واحد منهما فإن أمكن أن يكون قديم العين أو النوع
أمكن في الحكمة التي يكون الفعل لأجلها أن تكون كذلك وإن لم يمكن أن يكون
الفعل قديم العين ولا النوع فيقال إذا كان فعله حادث العين أو النوع كانت
الحكمة كذلك فالحكمة يحذى بها حذو الفعل فما جاز عليه جاز عليها وما امتنع
عليه امتنع عليها الجواب الثاني أن من قال أنه خالق مكون في الأزل لما لم
يكن بعد قال قولي هذا كقول من قال هو مريد في الأزل لما لم يكن بعد فقولي
بقدم كونه فاعلا كقول هؤلاء بقدم كونه مريدا وعلى هذا فيمكنني أن أقول بقدم
الحكمة التي يخلق ويريد لأجلها ولا يلزم من قدم الحكمة قدم
الفعل
كما لم يلزم من قدم الإرادة قدم المراد وكما يلزم من قدم صفة التكوين قدم
المكون فقولي في قدم الحكمة مع حدوث الفعل التي فعل لأجلها كقولكم في قدم
الإرادة والتكوين سواء وما لزمني لزمكم مثله وجوابكم هو جوابي بعينه ولا
يمتنع ذلك على أصول طائفة من الطوائف فإن من قال من الفلاسفة أن فعله قديم
للمفعول المعني يقول أن الحكمة قديمة ومن قال بحدوث أعيان الفعل ودوام نوعه
يقول ذلك في الحكمة سواء ومن قال بحدوث نوع الفعل وقيامه بالرب قال ذلك في
الحكمة أيضا كما يقوله كثير من النظار فلا يمتنع على أصل طائفة من الطوائف
إثبات الحكمة في فعله سبحانه الجواب الثالث قولك يفتقر كونه محدثا لتلك
العلة إلى علة أخرى ممنوع فإن هذا إنما يلزم أن لو قيل كل حادث فلا بد له
من علة ونحن لا نقول هذا بل نقول يفعله لحكمة ومعلوم أن المفعول لأجله مراد
للفاعل محبوب له والمراد المحبوب تارة يكون مرادا لنفسه وتارة يكون مرادا
لغيره والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى المراد لنفسه قطعا للتسلسل وهذا
كما نقوله في خلقه بالأسباب أنه يخلق كذا بسبب كذا وكذا بسبب كذا حتى ينتهي
الأمر إلى أسباب لا سبب لها سوى مشيئة الرب فكذلك يخلق لحكمة وتلك الحكمة
لحكمة حتى ينتهي الأمر إلى حكمة لا حكمة فوقها الجواب الرابع أن النفاة
يقولون كل مخلوق فهو مراد لنفسه لا لغيره وحينئذ فلا يمتنع أن يكون بعض
المخلوقات مرادا لغيره وينتهي الأمر إلى مراد لنفسه بل هذا أولى بالجواز من
جعل كل مخلوق مرادا لنفسه وكذلك في الأمر يكون مرادا لغيره حتى
ص
-211- ينتهي إلى أمر مراد لنفسه الجواب الخامس أن يقال غاية ما ذكرتم أنه
يستلزم التسلسل ولكن أي نوعي التسلسل هو اللازم التسلسل الممتنع أو الجائز
فإن عنيتم الأول منع اللزوم وإن عنيتم الثاني منع انتفاء اللازم فإن
التسلسل في الآثار المستقبلة ممكن بل واجب وفي الآثار الماضية فيه قولان
للناس والتسلسل في العلل والفاعلين محال باتفاق العقلاء بأن يكون لهذا
الفاعل فاعل قبله وكذلك ما قبله إلى غير نهاية وأما أن يكون الفاعل الواحد
القديم الأبدي لم يزل يفعل ولا يزال فهذا غير ممتنع إذا عرف هذا فالحكمة
التي لأجلها يفعل الفعل تكون حاصلة بعده فإذا كان بعدها حكمة أخرى فغاية
ذلك أن يلزم حوادث لا نهاية لها وهذا جائز بل واجب باتفاق المسلمين ولم
ينازع إلا بعض أهل البدع من الجهمية والمعتزلة فإن قيل فيلزم من هذا أن لا
تحصل الغاية المطلوبة أبدا قيل بل اللازم أن لا تزال الغاية المطلوبة حاصلة
دائما وهذا أمر معقول في الشاهد فإن الواحد من الناس يفعل الشيء لحكمة
يحصل بها محبوبه ثم يلزم من حصول محبوبه محبوب آخر يفعل لأجله وهلم جرا حتى
لو تصور دوامه أبدا لكانت هذه حاله وكماله فلم تزل محبوباته تحصل شيئا بعد
شيء وهذا هو الكمال الذي يريده مع غناه التام الكامل عن كل ما سواه وفقر
ما سواه إليه من جميع الوجوه وهل الكمال إلا ذلك وفواته هو النقص وهو
سبحانه كتب على نفسه الرحمة والإحسان فرحمته وإحسانه من لوازم ذاته فلا
يكون إلا رحيما محسنا وهو سبحانه إنما أمر العباد بما يحبه ويرضاه وأراد
لهم من إحسانه ورحمته ما يحبه ويرضاه لكن فرق بين ما يريد هو سبحانه أن
يخلقه ويفعله لما يحصل به من الحكمة التي يحبها فهذا يفعله سبحانه ولا بد
من وجوده وبين ما يريد من العباد أن يفعلوه ويأمرهم بفعله ويحب أن يقع منهم
ولا يشاء خلقه وتكوينه ففرق بين ما يريد خلقه وما يأمر به ولا يريد خلقه
فإن الفرق بين ما يريد الفاعل أن يفعله وما يريد
من المأمور أن يفعله
فرق واضح والله سبحانه له الخلق والأمر فالخلق فعله والأمر قوله ومتعلقه
أفعال عباده وهو سبحانه قد يأمر عبده ويريد من نفسه أن يعين عبده على فعل
ما أمره لتحصل حكمته ومحبته من ذلك المأمور به وقد يأمره ولا يريد من نفسه
إعانته على فعل المأمور لما له من الحكمة الثابتة في هذا الأمر وهذا الترك
يأمره لئلا يكون له عليه حجة ولئلا يقول ما جاءني من نذير ولو أمرتني
لبادرت إلى طاعتك ولم يرد من نفسه إعانته لأن محله غير قابل لهذه النعمة
والحكمة التامة تقتضي أن لا توضع النعم عند غير أهلها وأن تمنع من أهلها
قال تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا
وَأَهْلَهَا} وقال: {لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وقال:
{لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} ولا يقال فهلا سوى
بين خلقه في جعلهم كلهم أهلا لذلك فإن هذا ممكن له ولا أن يقال فهلا سوى
بين صورهم وأشكالهم وأعمارهم وأرزاقهم ومعاشهم وهذا وإن كان ممكنا فالذي
وقع من التفاوت بينهم هو مقتضى حكمته البالغة وملكه التام وربوبيته فاقتضت
حكمته أن سوى بينهم في الأمر وفاوت بينهم في الإعانة عليه كما فاوت بينهم
في العلوم والقدر والغنى والحسن والفصاحة وغير ذلك والتخصيصات الواقعة في
ملكه لا تناقض حكمته بل هي من أدل شيء على كمال حكمته ولولاها لم يظهر فضله
ومنه قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ
وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ
وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} فضلا من الله ونعمة والله
عليم بمن يصلح لهذه النعمة حكيم في وضعها عند أهلها ومنعها غير أهلها وقال
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ص -212- اتَّقُوا اللَّهَ
وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي
بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا
مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا
بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي
اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وقالت الرسل لقومهم: {نْ نَحْنُ
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ} وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ
عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ
رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} الآية وفي
حديث مثل المؤمنين واليهود والنصارى قال تعالى لأهل الكتاب هل ظلمتكم من
حقكم من شيء قالوا لا قال فهو فضلي أوتيه من أشاء وقال تعالى: {وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ
اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} أي يعلم أين يضع فضله ومن يصلح له ممن
لا يصلح بل يمنعه غير أهله ولا يضعه عند غير أهله وهذا كثير في القرآن
يذكر أن تخصيصه هو فضله ورحمته فلو ساوى بين الخلائق لم يعرف قدر فضله
ونعمته ورحمته فهذا بعض ما في تخصيصه من الحكمة وفي كتاب الزهد للإمام
أحمد: "أن موسى قال يا رب هلا سويت بين عبادك قال إني أحببت أن أشكر"
فمواضع التحصل ومواقع الفصل التي يقدح بها نفاة الحكمة هي من أدل شيء على
كمال حكمته سبحانه ووضعه للفضل مواضعه وجعله عند أهله الذين هم أحق به
وأولى من غيرهم وهو الذي جعلهم كذلك بحكمته وعلمه وعزته وملكه فتبارك الله
رب العالمين وأحكم الحاكمين ولا يجب بل لا يمكن المشاركة في حكمته بل ما
حصل للخلائق كلهم من العلم بها كنقرة عصفور في البحر المحيط وأي نقص في
دوام حكمته شيئا بعد شيء كما تدوم إرادته وكلامه وأفعاله وإحسانه وجوده
وإنعامه وهل الكمال إلا في هذا التسلسل فماذا نفر النفاة منه أنفرهم أن
يقال لم يزل ولا يزال حيا عليما قديرا حكيما متكلما محسنا جوادا ملكا
موصوفا بكل كمال غنيا عن كل ما سواه لا تنفد كلماته ولا تتناهى حكمته ولا
تعجز قدرته ولا يبيد ملكه ولا تنقطع إرادته ومشيئته بل لم يزل ولا يزال له
الخلق والأمر والحكمة والحكم وهل النقص إلا سلب ذلك عنه والله الموفق بفضله
وإعانته الجواب السادس إن الرب تبارك وتعالى إذا خلق شيئا فلا بد من وجود
لوازمه ولا بد من عدم أضداده فوجود الملزوم بدون لازمه محال ووجود الضد مع
ضده ممتنع والمحال ليس بشيء ولا يتصور العقل وجوده في الخارج وإذا كان هذا
التسلسل الجائز من لوازم خلقه وحكمته لم يكن في القول محذور بل كان المحذور
في نفيه توضيحه الجواب
السابع أنه لم يقم دليل عقلي ولا سمعي على
امتناع دوام أفعال الرب في الماضي والمستقبل أصلا وكل أدلة النفاة من أولها
إلى آخرها باطلة وقد كفى مؤنة إبطالها الرازي والآمدي في أكثر كتبهما
وغيرها وأما إثبات الحكمة فقد قام على صحته العقل والسمع والفطرة وسائر
أنواع الأدلة مما تقدمت الإشارة إلى بعض
ص -213- ذلك فكيف يقدح في
هذا المعلوم الصحيح بذلك النفي الذي لم يقم على صحته دليل البتة الجواب
الثامن أن التسلسل إما أن يكون ممكنا أو ممتعنا فإن كان ممكنا بطل
استدلالكم وإن كان ممتنعا أمكن أن يقال في دفعه تنتهي المرادات إلى مراد
لنفسه لا لغيره وينقطع التسلسل الجواب التاسع أن يقال ما المانع أن تكون
الفاعلية معللة بعلة قديمة قولكم يلزم من قدمها قدم المعلول ينتقص عليكم
بالإرادة فإنها قديمة ولم يلزم من قدمها قدم المراد فإن قلتم الإرادة
القديمة تعلقت بالمراد الحادث في وقت حدوثه واقتضت وجوده حينئذ فهلا قلتم
أن الحكمة القديمة تعلقت بالمراد وقت حدوثه كما قلتم في الإرادة فإن قلتم
شأن الإدارة التخصيص قيل لكم وكذلك الحكمة شأنها تخصيص الشيء بزمانه ومكانه
وصفته فالتخصيص مصدره الحكمة والإرادة والعلم والقدرة فإن لزم من قدم
الحكمة قدم الفعل لزم من قدم الإرادة قدمه وإن لم يلزم ذلك لم يلزم هذا
الجواب العاشر أن يقال لو لم يكن فعله لحكمة وغاية مطلوبة لم يكن مريدا فان
المريد لا يعقل كونه مريدا إلا إذا كان يريد لغرض وحكمة فإذا انتفت الحكمة
والغرض انتفت الإرادة ويلزم من انتفاء الإرادة أن يكون موجبا بالذات وهو
علة تامة في الأزل لمعلوله فيلزم أن يقارنه جميع معلوله ولا يتأخر فيلزم من
ذلك قدم الحوادث المشهودة وإنما لزم ذلك من انتفاء الحكمة والغرض
المستلزمة لنفي الإرادة المستلزمة للإيمان الذاتي المستلزم لقدم الحوادث
وتقرير هذا وبسطه في غير هذا الموضع.
فصل: قال نفاة الحكمة جميع الأغراض
يرجع حاصلها إلى شيئين
تحصيل اللذة والسرور ودفع الألم والحزن والغم
والله سبحانه قادر على تحصيل هذين المطلوبين ابتداء من غير شئ من الوسائط
ومن كان قادرا على تحصيل المطلوب ابتداء بغير واسطة كان توسله إلى تحصيله
بالوسائط عبثا وهو على الله محال قال أصحاب الحكمة عن هذه الشبهة أجوبة
الجواب الأول أن يقال لا ريب إن الله على كل شئ قدير لكن لا يلزم إذا كان
الشيء مقدورا ممكنا أن تكون الحكمة المطلوبة لوجوده يمكن تحصيلها مع عدمه
فإن الموقوف على الشيء يمتنع حصوله بدونه كما يمتنع حصول الابن بكونه ابنا
بدون الأب فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال والجمع بين الضدين محال ولا
يقال فيلزم العجز لأن المحال ليس بشيء فلا تتعلق به القدرة والله على كل شئ
قدير فلا يخرج ممكن عن قدرته البتة، الجواب الثاني أن دعوى كون توسط أحد
الأمرين إذا كان شرطا أو سببا له عبث دعوى كاذبة باطلة فإن العبث هو الذي
لا فائدة فيه وأما توسط الشرط أو السبب أو المادة التي يحدث في
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ص -215- عنهم وبغضه لهؤلاء وسخطه عليهم ومعلوم قطعا أن من يحب ويبغض
أكمل محبة وبغض وهو قادر على تحصيل محابه فإن حكمته فيما يفعله ويتركه أتم
حكمة وأكملها فهو يفعل ما يفعله لأنه يوصل إلى محابه ويترك ما يتركه لأنه
لا يحبه وإذا فعل ما يكرهه لم يفعله إلا لإفضائه إلى ما يحب وإن كان مكروها
في نفسه فإن أردت باللذة والسرور والهم والحزن الحب والبغض فالرب تعالى
يحب ويبغض لم يلزم من كونه يفعل لحكمة أن يتصف بذلك، الجواب العاشر أنه
سبحانه إذا كان قادرا على تحصيل ذلك بدون الوسائط وهو قادر على تحصيله بها
كان فعل النوعين أكمل وأبلغ في القدرة وأعظم في ملكه وربوبيته من كونه لا
يفعل إلا بأحد النوعين والرب تعالى تتنوع أفعاله لكمال قدرته وحكمته
وربوبيته فهو سبحانه قادر على تحصيل تلك الحكمة بواسطة إحداث مخلوق من فصل
وبدون إحداثه بل بما يقوم به من أفعاله اللازمة وكلماته وثنائه على نفسه
وحمده لنفسه فمحبوبه يحصل بهذا وهذا وذلك أكمل ممن لا يحصل محبوبه إلا بأحد
النوعين، الجواب العاشر أن الرب سبحانه كامل في أوصافه وأسمائه وأفعاله
فلا بد من ظهور آثارها في العالم فإنه محسن ويستحيل وجود الإحسان بدون من
يحسن إليه ورزاق فلا بد من وجود من يرزقه وغفار وحليم وجواد ولطيف بعباده
ومنان ووهاب وقابض وباسط وخافض ورافع ومعز ومذل وهذه الأسماء تقتضي متعلقات
تتعلق بها وآثارا تتحقق بها فلم يكن بد من وجود متعلقاتها وإلا تعطلت تلك
الأوصاف وبطلت تلك الأسماء فتوسط تلك الآثار لا بد منه في تحقق معاني تلك
الأسماء والصفات فكيف يقال أنه عبث لا فائدة فيه وبالله التوفيق.
فصل:
قال نفاة الحكمة لو وجب أن يكون خلقه وأمره معللا بحكمة وغرض لكان خلق الله
العالم في وقت معين دون ما قبله ودون ما بعده معللا برعاية غرض ومصلحة ثم
تلك المصلحة والغرض إما أن يقال كان حاصلا قبل ذلك الوقت أو لم يكن حاصلا
قبله فإن كان ما لأجله أوجد الله العالم في
ذلك الوقت حاصلا قبل أن
أوجده فيلزم أن يقال أنه كان موجدا له قبل أن لم يكن موجدا له وذلك محال
وإن قلنا أن ذلك الغرض والمصلحة لم يكن حاصلا قبل ذلك الوقت وإنما حدث في
ذلك الوقت فنقول حصول ذلك الغرض في ذلك الوقت إما أن يكون مفتقرا إلى
المحدث أو لا يفتقر فإن لم يفتقر فقد حدث الشيء لا عن موجد ومحدث وهو محال
وأن افتقر إلى محدث فإن افتقر تخصص إحداث ذلك الغرض بذلك الوقت إلى غرض آخر
عاد التقسيم الأول فيه ولزم التسلسل وإن لم يفتقر إلى رعاية غرض آخر
فحينئذ تكون موجدية الله سبحانه وخالقيته غنية عن الأغراض والمصالح وهذا هو
المطلوب قالوا وهذه الحجة كما أنها قائمة في اختصاص العالم بذلك الوقت
المعين فهي قائمة في اختصاص كل حادث من الحوادث بوقته المعين وملخصها أن
إحداث الحادث في وقته إن كان لغرض فإن كان ذلك الغرض حاصلا قبله لزم حدوثه
قبل حدوثه وإلا افتقر إلى الإحداث فإحداثه إن كان لغرض تسلسل وإلا ثبت
المطلوب قال أهل الحكمة هذه الحجة بعينها مذكورة في ضمن الحجة الثانية التي
تقدمت وكأنكم يعجبكم التشييع بكره الباطل وجميع ما أجبناكم به هناك فهو
الجواب ههنا بعينه فغاية هذا أنه تسلسل في الآثار لا في المؤثرات وتسلسل في
الحوادث المستقبلة وذلك جائز بل واجب باتفاق المسلمين سوى قول حبهم
والعلاف وغاية الأمر أن يكون في الحوادث
ص -216- ما يراد لنفسه وفيها
ما يراد لغيره والحكمة المطلوبة لنفسها لا تفتقر إلى أخرى تراد لأجلها وأن
هذا الدليل لو صحت مقدماته وهيهات فإنما يدل على أن أفعاله تعالى لا يجب
تعليلها ولا يلزم من ذلك أن لا يجوز تعليلها فنفي الوجوب شيء ونفي الجواز
شيء فهب أنا سلمنا الأول فأين دليل الثاني وغايتها أنها تدل على عدم تعليل
بعض الحوادث لا على عدم تعليل جميعها وبالجملة فما تقدم هناك مغزاها عن
الإطالة في الأجوبة وسر المسألة أن دوام فاعليته في المستقبل متفق عليه
والسلف على دوامها في الماضي وإنما خالف في ذلك كثير من أهل الكلام.
فصل:
قال نفاة الحكمة قد قام الدليل على أنه سبحانه خالق كل شيء فأي حكمة أو
مصلحة في خلق الكفر والفسوق والعصيان وأي حكمة في خلق من علم أنه يكفر
ويفسق ويظلم ويفسد الدنيا والدين وأي حكمة في خلق كثير من الجمادات التي
وجودها وعدمها سواء وكذلك كثير من الأشجار والنبات والمعادن المعطلة
والحيوانات المهملة بل العادية المؤذية وأي حكمة في خلق السموم والأشياء
المضرة وأي حكمة في خلق إبليس والشياطين وإن كان في خلقهم حكمة فأي حكمة في
بقائه إلى آخر الدهر وإماتة الرسل والأنبياء وأي حكمة في إخراج آدم وحواء
من الجنة وتعريض الذرية لهذا البلاء العظيم وقد أمكن أن يكونوا في أعظم
العافية وأي حكمة في إيلام الحيوانات وإن كان في إيلام المكلفين منها حكمة
فما الحكمة في إيلام غير المكلف كالبهائم والأطفال والمجانين وأي حكمة له
في خلقه خلقا يعذبهم بأنواع العذاب الدائم الذي لا ينقطع وأي حكمة في تسليط
أعدائه على أوليائه يسومونهم سوء العذاب قتلا وأسرا وعقوبة واستبعادا وأي
حكمة في تكليف الثقلين وتعريضهما بالتكليف لأنواع المشاق والعذاب قالوا
ونحن والعقلاء نعلم علما ضروريا إن خلود أهل النار فيها فعل الله ونعلم
ضرورة أنه لا فائدة في ذلك تعود إليه ولا إلى المعذبين ولا إلى غيرهم قالوا
ويكفينا في ذلك
مناظرة الأشعري لأبي هاشم الجبائي حين سأله عن ثلاثة
إخوة مات أحدهم مسلما قبل البلوغ وبلغ الآخران فمات أحدهما مسلما والآخر
كافرا فاجتمعوا عند رب العالمين فبلغ المسلم البالغ المرتبة العليا بعمله
وإسلامه فقال أخوه يا رب هلا رفعتني إلى منزلة أخي المسلم فقال إنه عمل
أعمالا لم تعملها فقال يا رب فهلا أحييتني حتى أعمل مثل عمله قال علمت أن
موتك صغيرا خير لك إذ لو بلغت لكفرت فصاح الأخ الثالث من أطباق الجحيم وقال
يا رب فهلا أمتني صغيرا قبل البلوغ كما فعلت بأخي فما جوابه قال فانقطع
الشيخ ولم يذكر جوابا قال نفاة الحكمة وهذا قاطع في المسألة لا غبار عليه
وقال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} وقال:
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا
فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ
لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِير}ٌ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} فرد الأمر إلى محض مشيئته وأخبر أن
صدور الأشياء كلها عنها وقالوا وأصل ضلال الخلق هو طلب تعليل أفعال الرب
كما قال شيخ الإسلام في تائيته:
وأصل ضلال الخلق من كل فرقة هو الخوض في
فعل الإله بعلة
فإنهم لما طلبوا علة أفعاله فأعجزهم العلم بها افترقوا
بعد ذلك فطائفة ردت الأمر إلى الطبيعة والأفلاك التزمت مكابرة الحس والعقل
وقالوا أن أهل خلود النار في النار أنفع لهم وأصلح
ص -217- من كونهم
في الجنة وأن إبقاء إبليس يغوي الخلق ويضلهم أنفع لهم من إماتته وإن إماتة
الأنبياء أصلح للأمم من إبقائهم بينهم وأن تعذيب الأطفال خير لهم من رحمتهم
إلى غير ذلك من المحالات التي قادهم إليها الخوض في تعليل أفعال من لا
يسأل عما يفعل فلذلك قلنا أن الصواب القول بعدم التعليل وتخلصنا من الحبائل
والإشراك التي وقعتم فيها قال أهل الحكمة ليست هذه الأسئلة والاعتراضات
التي قد جئتم بها في حكمة أحكم الحاكمين بأقوى من الأسئلة والاعتراضات التي
قدح بها أهل الإلحاد في وجوده سبحانه وقد أقاموا أربعين شبهة تنفي وجوده
وكذلك اعتراضات المكذبين لرسله وقد حكيتم أنتم عنهم ثمانين اعتراضا وكذلك
الاعتراضات التي قدح بها المعطلة في إثبات صفات كماله قد علمتم شأنها
وكبرها وكذلك الاعتراضات التي نفي بها الجهمية علوه على خلقه واستواءه على
عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لعباده وقد علمتم الاعتراضات التي اعترض بها أهل
الفلسفة على كونه خالقا للعالم في ستة أيام وعلى كونه يقيم الناس من
قبورهم ويبعثهم إلى دار السعادة أو الشقاء ويبدل هذا العالم ويأتي بغيره
واعتراضات هؤلاء وأسئلتهم أضعاف اعتراضات نفاة الحكمة وغايات أفعاله
المقصودة وكذلك اعتراضات نفاة القدر وأسئلتهم إلى غير ذلك وقد اقتضت حكمة
أحكم الحاكمين أن أقام في هذا العالم لكل حق جاحدا ولكل صواب معاندا كما
أقام لكل نعمة حاسدا ولكل شر رائدا وهذا من تمام حكمته الباهرة وقدرته
القاهرة ليتم عليهم كلمته وينفذ فيهم مشيئته ويظهر فيهم حكمته ويقضي بينهم
بحكمه ويفاضل بينهم بعلمه ويظهر فيهم آثار صفاته العليا وأسمائه الحسنى
ويتبين لأوليائه وأعدائه يوم القيامة أنه لم يخل لحكمة ولم يخلق خلقه عبثا
ولا يتركهم سدا وأنه لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا وأن له
الحمد التام الكامل على جميع ما خلقه وقدره وقضاه وعلى ما أمر به ونهى عنه
وعلى ثوابه وعقابه وأنه لم يضع من
ذلك شيئا إلا في محله الذي لا يليق
به سواه قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا
يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا
كَاذِبِينَ} وإذا تبين لأهل الموقف ونفذ فيهم قضاؤه الفصل وحكمه العدل نطق
الكون أجمعه بحمده كما قال تعالى: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وجواب هذه الأسئلة من وجوه أحدها
أن الحكمة إنما تتعلق بالحدوث والوجود والكفر والشرور وأنواع المعاصي راجعة
إلى مخالفة نهي الله ورسوله وترك ما أمر به وليس ذلك من متعلق الإيجاد في
شيء ونحن إنما التزمنا أن ما فعله الله وأوجده فله فيه حكمة وغاية مطلوبة
وأما ما تركه سبحانه ولم يفعله فإنه وإن كان إنما تركه لحكمة في ذلك فلم
يدخل في كلامنا فلا يرد علينا وقد قيل أن الشر ليس إليه بوجه فإنه عدم
الخير وأسبابه والعدم ليس بشيء كاسمه فإذا قلنا أن أفعال الرب تعالى واقعة
وغاية محمودة لم يرد علينا تركه يوضحه الجواب الثاني وهو أنه سبحانه قد
يترك ما لو خلقه لكان في خلقه له حكمة فيتركه لعدم محبته لوجوده أو لكون
وجوده يضاد ما هو أحب أو لاستلزام وجوده فوات محبوب له آخر وعلى هذا فتكون
حكمته في عدم خلقه أرجح من حكمته في خلقه والجمع بين الضدين مستحيل فرجح
سبحانه أعلى الحكمتين بتفويت أدناهما وهذا غاية الحكمة فخلقه وأمره مبني
على تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بتفويت المرجوحة التي لا يمكن الجمع
بينها وبين تلك الراجحة وعلى دفع المفاسد
ص -218- الخالصة أو الراجحة
وإن وجدت المفاسد المرجوحة التي لا يمكن الجمع بين عدمها وعدم تلك الراجحة
وخلاف هذا هو خلاف الحكمة والصواب الجواب الثالث أن يقال غاية ذلك انتفاء
الحكمة في هذا النوع من المقدورات فيلزم من ذلك انتفاؤها في جميع خلقه
وحكمه فهب أن هذا النوع لا حكمة فيه فمن أين يستلزم ذلك نفي الحكمة والغرض
في كل شيء كيف وفيه من الحكم والغايات المحمودة ما هو معلوم لأهل البصائر
الراسخين في العلم كما سننبه على ذلك منه إن شاء الله، الجواب الرابع أنا
لم ندع حكمة يجب أو يمكن اطّلاع الخلق على تفاصيلها فإن حكمة الله أعظم
وأجل من ذلك فما المانع من اشتمال ما ذكرتم من الصور وغيرها على الحكم حجة
ينفرد الله بعلمها كما قال للملائكة وقد سألوه عن ذلك أني أعلم ما لا
تعلمون فمن يقول بلزوم الحكمة لأفعاله وأحكامه مطلقا لا يوجب مشاركة خلقه
له في العلم بها، الجواب الخامس أن الله سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته ولا
في صفاته ولا في أفعاله وله في جميع ما ذكرتم وغيره حكمة ليست من جنس
الحكمة التي للمخلوقين كما أن فعله ليس مماثلا فعلهم ولا قدرته وإرادته
ومشيئته ومحبته ورضاه وغضبه مماثلا لصفات المخلوقين، الجواب السادس أن
الحكمة تابعة للعلم والقدرة فمن كان أعلم وأقدر كانت أفعاله أحكم وأكمل
والرب منفرد بكمال العلم والقدرة فحكمته بحسب علمه وقدرته كما تقدم تقريره
فحكمته متعلقة بكل ما تعلق به علمه وقدرته، الجواب السابع أن الأدلة
القاطعة قد قامت على أنه حكيم في أفعاله وأحكامه فيجب القول بموجبها وعدم
العلم بحكمته في الصور المذكورة لا يكون مسوغا لمخالفة تلك الأدلة القاطعة
لا سيما وعدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه، الجواب الثامن أن كماله
المقدس يمنع خلو هذه الصور التي تقصيتم عن الحكمة وكماله أيضا يأبى إطلاع
خلقه على جميع حكمته فحكمته تمنع إطلاع خلقه على جميع حكمته بل الواحد منا
لو أطلع غيره على جميع
شأنه وأمره عد سفيها جاهلا وشأن الرب أعظم من
أن يطلع كل واحد من خلقه على تفاصيل حكمته، الجواب التاسع أنكم إما أن
تعترفوا بأن له حكمة في شيء من خلقه وأمره أو تنكروا أن يكون له في شيء من
خلقه وأمره حكمة فإن أنكرتم ذلك وما هو من الظالمين ببعيد كذبتم جميع كتب
الله ورسوله والعقل والفطرة والحسن وكذبتم عقولكم قبل تكذيب العقلاء فإن
جحد حكمة الله الباهرة في خلقه وأمره بمنزلة جحد الشمس والقمر والليل
والنهار وغير مستنكر لكثير من الطوائف أهل الكلام المكابرة في جحد
الضروريات وإن أقررتم بحكمة في بعض خلقه وأمره قيل لكم فأي الأمرين أولى به
وجود تلك الحكمة أم عدمها فإن قلتم عدمها أولى من وجودها كان هذا غاية
الكذب والبهت والمحال وإن قلتم وجودها أكمل قيل فهل هو قادر على تحصيلها في
جميع خلقه وأحكامه أم غير قادر فإن قلتم غير قادر جئتم بالعظيمة في العقل
والدين وانسلختم من عقولكم وأذهانكم وإن قلتم بل هو قادر على ذلك قيل فإذا
كان قادرا على شيء وهو كمال في نفسه ووجوده خير من عدمه وهو أولى به فكيف
يجوز نفيه عنه فإن قلتم إنما نفياه لأنا لم نطلع على حقيقته قيل صدقتم
والله سائلكم في جميع ما تنفونه عن الله إنما مستندكم في نفيه عدم الاطّلاع
على حقيقته ولم تكتفوا بقبول قول الرسل فصرتم إلى النفي، الجواب العاشر أن
العقلاء قاطبة متفقون على أن الفاعل إذا فعل أفعالا ظهرت فيها حكمته ووقعت
على أتم الوجوه وأوفقها للمصالح المقصودة بها ثم إذا رأوا أفعاله قد تكررت
كذلك ثم جاءهم من أفعاله ما لا يعلمون وجه حكمته فيه لم يسعهم غير التسليم
ص
-219- لما عرفوا من حكمته واستقر في عقولهم منها وردوا منها ما جهلوه إلى
محكم ما علموه هكذا نجد أرباب كل صناعة مع أستاذهم حتى أن النفاة يسلكون
هذا المسلك بعينه مع أئمتهم وشيوخهم فإذا جاءهم إشكال على قواعد أئمتهم
ومذاهبهم قالوا هم أعلم منا وهم فوقنا في كل علم ومعرفة وحكمة ونحن معهم
كالصبي مع معلمه وأستاذه فهلا سلكوا هذا السبيل مع ربهم وخالقهم الذي بهرت
حكمته العقول وكان نسبتها إلى حكمته أولى من نسبة عين الخفاش إلى جرم الشمس
ولو أن العالم الفاضل المبرز في علوم كثيرة أعرض على من لا يشاركه في
صنعته ولا هو من أهلها وقدح في أوضاعها لخرج عن موجب العقل والعلم وعد ذلك
نقصا وسفها فكيف بأحكم الحاكمين وأعلم العالمين وأقدر القادرين، الجواب
الحادي عشر أن الحكمة إنما تتم بخلق المتضادات والمتقابلات كالليل والنهار
والعلو والسفل والطيب والخبيث والخفيف والثقيل والحلو والمر والبرد والألم
واللذة والحياة والموت والداء والدواء فخلق هذه المتقابلات هو محل ظهور
الحكمة الباهرة ومحل ظهور القدرة القاهرة والمشيئة النافذة والملك الكامل
التام فتوهم تعطيل خلق هذه المتضادات تعطيل لمقتضيات تلك الصفات وأحكامها
وآثارها وذلك عين المحال فإن لكل صفة من الصفات العليا حكما ومقتضيات وأثرا
هو مظهر كمالها وإن كانت كاملة في نفسها لكن ظهور آثارها وأحكامها من
كمالها فلا يجوز تعطيله فإن صفة القادر تستدعي مقدورا وصفة الخالق تستدعي
مخلوقا وصفة الوهاب الرازق المعطي المانع الضار النافع المقدم المؤخر المعز
المذل العفو الرءوف تستدعي آثارها وأحكامها فلو عطلت تلك الصفات عن
المخلوق المرزوق المغفور له المرحوم المعفو عنه لم يظهر كمالها وكانت معطلة
عن مقتضياتها وموجباتها فلو كان الخلق كلهم مطيعون عابدون حامدون لتعطل
أثر كثير من الصفات العلى والأسماء الحسنى وكيف كان يظهر أثر صفة العفو
والمغفرة والصفح والتجاوز والانتقام والعز
والقهر والعدل والحكمة
التي تنزل الأشياء منازلها وتضعها مواضعها فلو كان الخلق كلهم أمة واحدة
لفاتت الحكم والآيات والعبر والغايات المحمودة في خلقهم على هذا الوجه وفات
كمال الملك والتصرف فإن الملك إذا اقتصر تصرفه على مقدور واحد من مقدوراته
فإما أن يكون عاجزا عن غيره فيتركه عجزا أو جاهلا بما في تصرفه في غيره من
المصلحة فيتركه جهلا وأما أقدر القادرين وأعلم العالمين وأحكم الحاكمين
فتصرفه في مملكته لا يقف على مقدور واحد لأن ذلك نقص في ملكه فالكمال كل
الكمال في العطاء والمنع والخفض والرفع والثواب والعقاب والإكرام والإهانة
والإعزاز والإذلال والتقديم والتأخير والضر والنفع وتخصيص هذا على هذا
وإيثار هذا على هذا ولو فعل هذا كله بنوع واحد متماثل الأفراد لكان ذلك
منافيا لحكمته وحكمته تأباه كل الإباء فإنه لا يفرق بين متماثلين ولا يسوى
بين مختلفين وقد عاب على من يفعل ذلك وأنكر على من نسبه إليه والقرآن مملوء
من عيبه على من يفعل ذلك فكيف يجعل له العبيد ما يكرهون ويضربون له مثل
السوء وقد فطر الله عباده على إنكار ذلك من بعضهم على بعض وطعنهم على من
يفعله وكيف يعيب الرب سبحانه من عباده شيئا ويتصف به وهو سبحانه إنما عابه
لأنه نقص فهو أولى أن يتنزه عنه وإذا كان لا بد من ظهور آثار الأسماء
والصفات ولا يمكن ظهور آثارها إلا في المتقابلات والمتضادات لم يكن في
الحكمة بد من إيجادها إذ لو فقدت لتعطلت الأحكام بتلك الصفات وهو محال
يوضحه الوجه الثاني عشر أن من أسمائه الأسماء المزدوجة
ص -220-
كالمعز المذل والخافض الرافع والقابض الباسط والمعطي المانع ومن صفاته
الصفات المتقابلة كالرضا والسخط والحب والبغض والعفو والانتقام وهذه صفات
كمال وإلا لم يتصف بها ولم يتسم بأسمائها وإذا كانت صفات كمال فإما أن
يتعطل مقتضاها وموجبها وذلك يستلزم تعطيلها في أنفسها وإما أن تتعلق بغير
محلها الذي يليق بأحكامها وذلك نقص وعيب يتعالى عنه فيتعين تعلقها بمحالها
التي تليق بها وهذا وحده كاف في الجواب لمن كان له فقه في باب الأسماء
والصفات ولا غيره يغيره يوضحه الوجه الثالث عشر أن من أسمائه الملك ومعنى
الملك الحقيقي ثابت له سبحانه بكل وجه وهذه الصفة تستلزم سائر صفات الكمال
إذ من المحال ثبوت الملك الحقيقي التام لمن ليس له حياة ولا قدرة ولا إرادة
ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا فعل اختياري يقوم به وكيف يوصف بالملك من لا
يأمر ولا ينهى ولا يثيب ولا يعاقب ولا يعطي ولا يمنع ولا يعز ويذل ويهين
ويكرم وينعم وينتقم ويخفض ويرفع ويرسل الرسل إلى أقطار مملكته ويتقدم إلى
عبيده بأوامره ونواهيه فأي ملك في الحقيقة لمن عدم ذلك وهذا يبين أن
المعطلين لأسمائه وصفاته جعلوا مماليكه أكمل منه ويأنف أحدهم أن يقال في
أمره وملكه ما يقوله هو في ربه فصفة ملكية الحق مستلزمة لوجود ما لا يتم
التصرف إلا به والكل منه سبحانه فلم يتوقف كمال ملكه على غيره فإن كل ما
سواه مسند إليه متوقف في وجوده على مشيئته وخلقه يوضحه الوجه الرابع عشر أن
كمال ملكه بأن يكون مقارنا بحمده فله الملك وله الحمد والناس في هذا
المقام ثلاث فرق فالرسل وأتباعهم أثبتوا له الملك والحمد وهذا مذهب من أثبت
له القدر والحكمة وحقائق الأسماء والصفات ونزهه عن النقائص ومشابهة
المخلوقات ويوحشك في هذا المقام جميع الطوائف غير أهل السنة الذين لم
يتحيزوا إلى نحلة ولا مقالة ولا متبوع من أهل الكلام الفرقة الثانية الذين
أثبتوا له الملك وعطلوا حقيقة الحمد وهم الجبرية
نفاة الحكمة
والتعليل القائلين بأنه يجوز عليه كل ممكن ولا ينزه عن فعل قبيح بل كل ممكن
فإنه لا يقبح منه وإنما القبيح المستحيل لذاته كالجمع بين النقيضين فيجوز
عليه تعذيب ملائكته وأنبيائه ورسله وأهل طاعته وإكرام إبليس وجنوده وجعلهم
فوق أوليائه في النعيم المقيم أبدا ولا سبيل لنا إلى العلم باستحالة ذلك
إلا من نفى الخلف في خبره فقط فيجوز أن يأمر بمشيئته ومشيئة أنبيائه
والسجود للأصنام وبالكذب والفجور وسفك ونهب الأموال وينهى عن البر والصدق
والإحسان والعفاف ولا فرق في نفس الأمر بين ما أمر به ونهى عنه إلا التحكم
بمحض المشيئة وأنه أمر بهذا ونهى عن هذا من غير أن يكون فيما أمر به صفة
حسن تقتضي محبته والأمر به ولا فيما نهى عنه صفة قبح تقتضي كراهته والنهي
عنه فهؤلاء عطلوا حمده في الحقيقة وأثبتوا له ملكا بلا حمد مع أنهم في
الحقيقة لم يثبتوا له ملكا فإنهم جعلوه معطلا في الأزل والأبد لا يقوم به
فعل البتة وكثير منهم عطله عن صفات الكمال التي لا يتحقق كونه ملكا وربا
وإلها إلا بها فلا ملكا أثبتوا ولا حمدا الفرقة الثالثة أثبتوا له نوعا من
الحمد وعطلوا كمال ملكه وهم القدرية الذين أثبتوا نوعا من الحكمة ونفوا
لأجلها كمال قدرته فحافظوا على نوع من الحمد عطلوا له كمال الملك وفي
الحقيقة لم يثبتوا لا هذا ولا هذا فإن الحكمة التي أثبتوها جعلوها راجعة
إلى المخلوق لا يعود إليه سبحانه حكمها والملك الذي أثبتوه فإنهم في
الحقيقة إنما قرروا نفيه لنفي قيام الصفات التي لا يكون ملكا حقا إلا بها
ونفي قيام الأفعال
ص -221- الاختيارية فلم يقم به عندهم وصف ولا فعل
ولا له إرادة ولا كلام ولا سمع ولا بصر ولا فعل ولا له حب ولا بغض معطل عن
حقيقة الملك والحمد والمقصود أن عموم ملكه يستلزم إثبات القدر وأن لا يكون
في ملكه شيء بغير مشيئته فالله أكبر من ذلك وأجل وعموم حمده يستلزم أن لا
يكون في خلقه وأمره ما لا حكمة فيه ولا غاية محمودة يفعل لأجلها ويأمر
لأجلها فالله أكبر وأجل من ذلك يوضحه الوجه الخامس عشر أن مجرد الفعل من
غير قصد ولا حكمة ولا مصلحة يقصده الفاعل لأجلها لا يكون متعلقا للحمد فلا
يحمد عليه حتى لو حصلت به مصلحة من غير قصد الفاعل لحصولها لم يستحق الحمد
عليها كما تقدم تقريره بل الذي يقصد الفعل لمصلحة وحكمة وغاية محمودة وهو
عاجز عن تنفيذ مراده أحق بالحمد من قادر لا يفعل لحكمة ولا لمصلحة ولا لقصد
الإحسان هذا المستقر في فطر الخلق والرب سبحانه حمده قد ملأ السماوات
والأرض وما بينهما وما بعد ذلك فملأ العالم العلوي والسفلي والدنيا والآخرة
ووسع حمده ما وسع علمه فله الحمد التام على جميع خلقه ولا حكم يحكم إلا
بحمده ولا قامت السماوات والأرض إلا بحمده ولا يتحول شيء في العالم العلوي
والسفلي من حال إلى حال إلا بحمده ولا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار
النار إلا بحمده كما قال الحسن رحمة الله عليه: "لقد دخل أهل النار النار
وأن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلا" وهو سبحانه إنما أنزل الكتاب
بحمده وأرسل الرسل بحمده وأمات خلقه بحمده ويحييهم بحمده ولهذا حمد نفسه
على ربوبيته الشاملة لذلك كله فالحمد لله رب العالمين وحمد نفسه على إنزال
كتبه فالحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب وحمد نفسه على خلق السماوات
والأرض: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وحمد نفسه على كمال ملكه: {الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَلَهُ
الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} فحمد ملأ الزمان
والمكان والأعيان وعم الأقوال كلها: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ
وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} وكيف لا يحمد على خلقه كله وهو الذي أحسن
كل شيء خلقه وعلى صنعه وقد أتقنه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ
شَيْءٍ} وعلى أمره وكله حكمة ورحمة وعدل ومصلحة وعلى نهيه وكل ما نهى عنه
شر وفساد وعلى ثوابه وكله رحمة وإحسان وعلى عقابه وكله عدل وحق فلله الحمد
كله وله الملك كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله والمقصود أنه كلما
كان الفاعل أعظم حكمة كان أعظم حمدا وإذا عدم الحكمة ولم يقصدها بفعله
وأمره عدم الحمد الوجه السادس عشر أنه سبحانه يجب أن يشكر ويحب أن يشكر
عقلا وشرعا وفطرة فوجوب شكره أظهر من وجوب شكره أظهر من وجوب كل واجب وكيف
لا يجب على العباد حمده وتوحيده ومحبته وذكر آلائه وإحسانه وتعظيمه وتكبيره
والخضوع له والتحدث بنعمته والإقرار بها بجميع طرق الوجوب فالشكر أحب شيء
إليه وأعظم ثوابا وأنه خلق الخلق وأنزل الكتب وشرع الشرائع وذلك يستلزم خلق
الأسباب التي يكون الشكر بها أكمل ومن جملتها أن فاوت بين عباده في صفاتهم
الظاهرة والباطنة في خلقهم وأخلاقهم وأديانهم وأرزاقهم ومعايشهم وآجالهم
فإذا رأى المعافى المبتلى والغني الفقير والمؤمن الكافر عظم شكره لله وعرف
قدر نعمته عليه وما خصه به وفضله به على غيره فازداد شكرا وخضوعا واعترافا
بالنعمة، وفي أثر ذكره الإمام أحمد في الزهد: "أن موسى قال يا رب هلا سويت
بين عبادك قال إني أحببت أن أشكر" فإن قيل فقد كان
ص -222- من الممكن
أن يسوى بينهم في النعم ويسوى بينهم في الشكر كما فعل بالملائكة قيل لو
فعل ذلك لكان الحاصل من الشكر نوع آخر غير النوع الحاصل منه على هذا الوجه
والشكر الواقع على التفضيل والتخصيص أعلى وأفضل من غيره ولهذا كان شكر
الملائكة وخضوعهم وذلهم لعظمته وجلاله بعد أن شاهدوا من إبليس ما جرى له
ومن هاروت وماروت ما شاهدوه أعلى وأكمل مما كان قبله وهذه حكمة الرب ولهذا
كان شكر الأنبياء وأتباعهم بعد أن عاينوا هلاك أعدائهم وانتقام الرب منهم
وما أنزل بهم من بأسه أعلى وأكمل وكذلك شكر أهل الجنة في الجنة وهم يشاهدون
أعداءه المكذبين لرسله المشركين به في ذلك العذاب فلا ريب أن شكرهم حينئذ
ورضاهم ومحبتهم لربهم أكمل وأعظم مما لو قدر اشتراك جميع الخلق في النعيم
فالمحبة الحاصلة من أوليائه له والرضا والشكر وهم يشاهدون بين جنسهم في ضد
ذلك من كل وجه أكمل وأتم، فالضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتبين الأشياء،
ولولا خلق القبيح لما عرفت فضيلة الجمال والحسن ولولا خلق الظلام لما عرفت
فضيلة النور ولولا خلق أنواع البلاء لما عرف قدر العافية ولولا الجحيم لما
عرف قدر الجنة ولو جعل الله سبحانه النهار سرمدا لما عرف قدره ولو جعل
الليل سرمدا لما عرف قدره وأعرف الناس بقدر النعمة من ذاق البلاء وأعرفهم
بقدر الفقر من قاسى مرائر الفقر والحاجة ولو كان الناس كلهم على صورة واحدة
من الجمال لما عرف قدر الجمال وكذلك لو كانوا كلهم مؤمنين لما عرف قدر
الإيمان والنعمة به فتبارك من له في خلقه وأمره الحكم البوالغ والنعم
السوابغ يوضحه الوجه السابع عشر أنه سبحانه يجب أن يعبد بأنواع العبودية
ومن أعلاها وأجلها عبودية الموالاة فيه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه
والجهاد في سبيله وبذل مهج النفوس في مرضاته ومعارضة أعدائه وهذا النوع هو
ذروة سنام العبودية وأعلى مراتبها وهو أحب أنواعها إليه وهو موقوف على ما
لا يحصل بدونه من خلق
الأرواح التي تواليه وتشكره وتؤمن به والأرواح
التي تعاديه وتكفر به ويسلط بعضها على بعض لتحصل بذلك محابه على أتم الوجوه
وتقرب أوليائه إليه لجهاد أعدائه ومعارضتهم فيه وإذلالهم وكبتهم ومخالفة
سبيلهم فتعلو كلمته ودعوته على كلمة الباطل ودعوته ويتبين بذلك شرف علوها
وظهورها ولو لم يكن للباطل والكفر والشرك وجود فعلي أي شيء كانت كلمته
ودعوته تعلو فإن العلو أمر لشيء يستلزم غالبا ما يعلى عليه وعلو الشيء على
نفسه محال والوقوف على الشيء لا يحصل بدونه يوضحه الوجه الثامن عشر أن من
عبوديته العتق والصدقة والإيثار والمواساة والعفو والصفح والصبر وكظم الغيظ
واحتمال المكاره ونحو ذلك مما لا يتم إلا بوجود متعلقه وأسبابه فلولا لم
تحصل عبودية العتق فالرق من أثر الكفر ولولا الظلم والإساءة والعدوان لم
تحصل عبودية الصبر والمغفرة وكظم الغيظ ولولا الفقر والحاجة لم تحصل عبودية
الصدقة والإيثار والمواساة فلو سوى بين خلقه جميعهم لتعطلت هذه العبوديات
التي هي أحب شيء إليه ولأجلها خلق الجن والإنس ولأجلها شرع الشرائع وأنزل
الكتب وأرسل الرسل وخلق الدنيا والآخرة وكما أن ذلك من صفات كماله فلو لم
يقدر الأسباب التي يحصل بها ذلك لغاب هذا الكمال وتعطلت أحكام تلك الصفات
كما مر توضيحه الوجه التاسع عشر أنه سبحانه يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه
أعظم فرح يقدر أو يخطر ببال أو يدور في خلد وحصول هذا الفرح موقوف على
التوبة الموقوفة على وجود ما يتاب منه
ص -223- وما يتوقف عليه الشيء
لا يوجد بدونه فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال ولا ريب أن وجود الفرح
أكمل من عدمه فمن تمام الحكمة تقدير أسبابه ولوازمه وقد نبه أعلم الخلق
بالله على هذا المعنى بعينه حيث يقول في الحديث الصحيح: "لو لم تذنبوا لذهب
الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم" فلو لم يقدر الذنوب
والمعاصي فلمن يغفر وعلى من يتوب وعمن يعفو ويسقط حقه ويظهر فضله وجوده
وحلمه وكرمه وهو واسع المغفرة فكيف يعطل هذه الصفة أم كيف يتحقق بدون ما
يغفر ومن يغفر له ومن يتوب وما يتاب عنه فلو لم يكن في تقدير الذنوب
والمعاصي والمخالفات إلا هذا وحده لكفى به حكمة وغاية محمودة فكيف والحكم
والمصالح والغايات المحمودة التي في ضمن هذا التقدير فوق ما يخطر بالبال
وكان بعض العباد يدعو في طوافه اللهم اعصمني من المعاصي ويكرر ذلك فقيل له
في المنام أنت سألتني العصمة وعبادي يسألوني العصمة فإذا عصمتكم من الذنوب
فلمن أغفر وعلى من أتوب وعمن أعفو ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما
ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه يوضحه الوجه العشرون أنه قد يترتب على خلق من
يكفر به ويشرك به ويعاديه من الحكم الباهرة والآيات الظاهرة ما لم يكن
يحصل بدون ذلك فلولا كفر قوم نوح لما ظهرت آية الطوفان وبقيت يتحدث بها
الناس على ممر الزمان ولولا كفر عاد لما ظهرت آية الريح العقيم التي دمرت
ما مرت عليه ولولا كفر قوم صالح لما ظهرت آية إهلاكهم بالصيحة ولا كفر
فرعون لما ظهرت تلك الآيات والعجائب يتحدث بها الأمم أمة بعد أمة واهتدى من
شاء الله فهلك بها من هلك عن بينه وحي بها من حي عن بينة وظهر بها فضل
الله وعدله وحكمته وآيات رسله وصدقهم فمعارضة الرسل وكسر حججهم ودحضها
والجواب عنها وإهلاك الله لهم من أعظم أدلة صدقهم وبراهينه ولولا مجيء
المشركين بالحد والحديد والعدد والشوكة يوم بدر لما حصلت تلك الآية العظيمة
التي يترتب عليها من
الإيمان والهدى والخير ما لم يكن حاصلا مع
عدمها وقد بينا أن الموقوف على الشيء لا يوجد بدونه ووجود الملزوم بدون
لازمه ممتنع فلله كم عمرت قصة بدر من ربع أصبح آهلا بالإيمان وقد فتحت
لأولي النهى من باب وصلوا منه إلى الهدى والإيقان وكم حصل بها من محبوب
للرحمن وغيظ للشيطان وتلك المفسدة التي حصلت في ضمنها للكفار مغمورة جدا
بالنسبة إلى مصالحها وحكمها وهي كمفسدة المطر إذا قطع المسافر وبل الثياب
وخرب بعض البيوت بالنسبة إلى مصلحة العامة وتأمل ما حصل بالطوفان وغرق آل
فرعون للأمم من الهدى والإيمان الذي غمر مفسدة من هلك به حتى تلاشت في جنب
مصلحته وحكمته فكم لله من حكمة في آياته التي ابتلى بها أعداءه وأكرم فيها
أولياءه وكم له فيها من آية وحجة وتبصرة وتذكرة ولهذا أمر سبحانه رسوله أن
يذكر بها أمته فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ
أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ
بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ
بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} فذكرهم بأيامه وإنعامه ونجاتهم من عدوهم
وإهلاكهم وهم ينظرون فحصل بذلك من ذكره وشكره ومحبته وتعظيمه وإجلاله ما
تلاشت فيه مفسدة إهلاك الأبناء وذبحهم واضمحلت فإنهم صاروا إلى النعيم
وخلصوا من مفسدة العبودية لفرعون إذ كبروا وسومهم له سوء العذاب وكان الألم
الذي
ص -224- ذاقه الأبوان عند الذبح أيسر من الآلام التي كانوا
تجرعوها باستعباد فرعون وقومه لهم بكثير فحظي بذلك الآباء والأبناء وأراد
سبحانه أن يرى عباده ما هو من أعظم آياته وهو أن يربي هذا المولود الذي ذبح
فرعون ما شاء الله من الأولاد في طلبه في حجر فرعون وفي بيته وعلى فراشه
فكم في ضمن هذه الآية من حكمة ومصلحة ورحمة وهداية وتبصرة وهي موقوفة على
لوازمها وأسبابها ولم تكن لتوجد بدونها فإنه ممتنع فمصلحة تلك الآية
وحكمتها غمرت مفسدة ذبح الأبناء وجعلتها كأن لم تكن وكذلك الآيات التي
أظهرها سبحانه على يد الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم والعجائب
والحكم والمصالح والفوائد التي في تلك القصة التي تزيد على الألف لم تكن
لتحصل بدون ذلك السبب الذي كان فيه مفسدة حزونة يعقوب ويوسف ثم انقلبت تلك
المفسدة مصالح اضمحلت في جنبها تلك المفسدة بالكلية وصارت سببا لأعظم
المصالح في حقه وحق يوسف وحق الإخوة وحق امرأة العزيز وحق أهل مصر وحق
المؤمنين إلى يوم القيامة فكم جنى أهل المعرفة بالله وأسمائه وصفاته ورسله
من هذه القصة من ثمرة وكم استفادوا بها من علم وحكمة وتبصرة وكذلك المفسدة
التي حصلت لأيوب من مس الشيطان به بنصب وعذاب اضمحلت وتلاشت في جنب المصلحة
والمنفعة التي حصلت له ولغيره عند مفارقة البلاء وتبدله بالنعماء بل كان
ذلك السبب المكروه هو الطريق الموصل إليها والشجرة التي جنيت ثمار تلك
النعم منها وكذلك الأسباب التي أوصلت خليل الرحمن إلى أن صارت النار عليه
بردا وسلاما من كفر قومه وشركهم وتكسيره أصنامهم وغضبهم لها وإيقاد النيران
العظيمة له وإلقائه فيها بالمنجنيق حتى وقع في روضة خضراء في وسط النار
وصارت آية وحجة وعبرة ودلالة للأمم قرنا بعد قرن فكم لله سبحانه في ضمن هذه
الآية من حكمة بالغة ونعمة سابغة ورحمة وحجة وبينة لو تعطلت تلك الأسباب
لتعطلت هذه الحكم والمصالح والآيات وحكمته وكماله المقدس يأبى
ذلك
وحصول الشيء بدون لازمه ممتنع وكم بين ما وقع من المفاسد الجزئية في هذه
القصة وبين جعل صاحبها إماما للحنفاء إلى يوم القيامة وهل تلك المفاسد
الجزئية إلا دون مفسدة الحر والبرد والمطر والثلج بالنسبة إلى مصالحها
بكثير ولكن الإنسان كما قال الله تعالى: {ظَلُوماً جَهُولاً} ظلوم لنفسه
جهول بربه وعظمته وجلاله وحكمته وإتقان صنعه وكم بين إخراج رسول الله صلى
الله عليه وسلم من مكة على تلك الحال ودخوله إليها ذلك الدخول الذي لم يفرح
به بشر حبورا لله وقد اكتنفه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله
والمهاجرون والأنصار قد أحدقوا به والملائكة من فوقهم والوحي من الله ينزل
عليه وقد أدخله حرمه ذلك الدخول فأين مفسدة ذلك الإخراج الذي كان كأن لم
يكن ولولا معارضة السحرة لموسى بإلقاء العصي والحبال حتى أخذوا أعين الناس
واسترهبوهم لما ظهرت آية عصا موسى حتى ابتلعت عصيهم وحبالهم ولهذا أمرهم
موسى أن يلقوا أولا ثم يلقي هو بعدهم ومن تمام ظهور آيات الرب تعالى وكمال
اقتداره وحكمته أن يخلق مثل جبريل صلوات الله وسلامه عليه الذي هو أطيب
الأرواح العلوية وأزكاها وأطهرها وأشرفها وهو السفير في كل خير وهدى وإيمان
وصلاح ويخلق مقابله مثل روح اللعين إبليس الذي هو أخبث الأرواح وأنجسها
وشرها وهو الداعي إلى كل شر وأصله ومادته وكذلك من تمام قدرته وحكمته أن
خلق الضياء والظلام والأرض والسماء والجنة والنار
ص -225- وسدرة
المنتهى وشجرة الزقوم وليلة القدر وليلة الوباء والملائكة والشياطين
والمؤمنين والكفار والأبرار والفجار والحر والبرد والداء والدواء والآلام
واللذات والأحزان والمسرات واستخرج سبحانه من بين ما هو من أحب الأشياء
إليه من أنواع العبوديات والتعرف إلى خلقه بأنواع الدلالات ولولا خلق
الشياطين والهوى والنفس الأمارة لما حصلت عبودية الصبر ومجاهدة النفس
والشيطان ومخالفتهما وترك ما يهواه العبد ويحبه لله فإن لهذه العبودية شأنا
ليس لغيرها ولولا وجود الكفار لما حصلت عبودية الجهاد ولما نال أهله درجة
الشهادة ولما ظهر من يقدم محبة فاطره وخالقه على نفسه وأهله وولده ومن يقدم
أدنى حظ من الحظوظ عليه فأين صبر الرسل وأتباعهم وجهادهم وتحملهم لله
أنواع المكاره والمشاق وأنواع العبودية المتعلقة بالدعوة وإظهارها لولا
وجود الكفار وتلك العبودية تقتضي علمه وفضله وحكمته ويستخرج منه حمده وشكره
ومحبته والرضا عنه يوضحه الوجه الحادي والعشرون أنه قد استقرت حكمته
سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة
والتعب ولا يدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق ولذلك حف
الجنة بالمكاره والنار بالشهوات ولذلك أخرج صفيه آدم من الجنة وقد خلقها له
واقتضت حكمته أن لا يدخلها دخول استقرار إلا بعد التعب والنصب فما أخرجه
منها إلا ليدخله إليها أتم دخول فلله كم بين الدخول الأول والدخول الثاني
من التفاوت وكم بين دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في جواد المطعم
بن عدي ودخوله إليها يوم الفتح وكم بين راحة المؤمنين ولذتهم في الجنة بعد
مقاساة ما قبلها وبين لذتهم لو خلقوا فيها وكم بين فرحة من عافاه بعد
ابتلائه وأغناه بعد فقره وهداه بعد ضلاله وجمع قلبه بعد شتاته وفرحة من لم
يذق تلك المرارات وقد سبقت الحكمة الإلهية أن المكاره أسباب اللذات
والخيرات كما قال تعالى: {تِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ
لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ
تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ}.
وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب
يوضحه
الوجه الثاني والعشرون أن العقلاء قاطبة متفقون على استحسان أتعاب النفوس
في تحصيل كمالاتها من العلم والعمل الصالح والأخلاق الفاضلة وطلب محمدة من
ينفعهم حمده وكل من كان أتعب في تحصيل ذلك كان أحسن حالا وأرفع قدرا وكذلك
يستحسنون أتعاب النفوس في تحصيل الغنى والعز والشرف ويذمون القاعد عن ذلك
وينسبونه إلى دناءة الهمة وخسة النفس وضعة القدر:
دع المكارم لا تنهض
لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وهذا التعب والكد يستلزم آلاما
وحصول مكاره ومشاق هي الطريق إلى تلك الكمالات ولم يقدحوا بتحمل تلك في
حكمة من يحملها ولا يعدونه عائبا بل هو العقل الوافر ومن أمر غيره به فهو
حكيم في أمره ومن نهاه عن ذلك فهو سفيه عدو له هذا في مصالح المعاش فكيف
بمصالح الحياة الأبدية الدائمة والنعيم المقيم كيف لا يكون الآمر بالتعب
القليل في الزمن اليسير الموصل إلى الخير الدائم حكيما رحيما محسنا ناصحا
لمن يأمره وينهاه عن ضده من الراحة واللذة التي تقطعه عن كماله ولذته
ومسرته الدائمة هذا إلى ما في أمره ونهيه من المصالح العاجلة التي بها
سعادته وفلاحه وصلاحه ونهيه عما فيه
- كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الجزء الثانى
- كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الجزء الثالث
- كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الجزء الرابع
- كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الجزء الخامس
- كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الجزء السادس
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى