رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ص -109- البحر وكذلك علم الخلائق إذا نسب إلى علمه كان كنقرة عصفور من
البحر وكذلك سائر صفاته كحياته وسمعه وبصره وإرادته فلو فرض البحر المحيط
بالأرض مدادا تحيط به سبعة أبحر وجميع أشجار الأرض شيئا بعد شيء أقلام لفني
ذلك المداد والأقلام ولا تفنى كلماته ولا تنفد فهو أكبر في علمه من كل
عالم وفي قدرته من كل قادر وفي وجوده من كل جواد وفي غناه من كل غني وفي
علوه من كل عال وفي رحمته من كل رحيم استوى على عرشه واستولى على خلقه
متفرد بتدبير مملكته فلا قبض ولا بسط ولا منع ولا ضلال ولا سعادة ولا شقاوة
ولا موت ولا حياة ولا نفع ولا ضر إلا بيده لا مالك غيره ولا مدبر سواه لا
يستقل أحد معه بملك مثقال ذرة في السماوات والأرض ولا له شركة في ملكها ولا
يحتاج إلى وزير ولا ظهير ولا معين ولا يغيب فيخلفه غيره ولا يعي فيعينه
سواه ولا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه لمن شاء وفيمن شاء
فهو أول مشاهد المعرفة ثم يترقى منه إلى مشهد فوقه لا يتم إلا به وهو مشهد
الإلهية فيشهده سبحانه متجليا في كماله بأمره ونهيه ووعده ووعيده وثوابه
وعقابه وفضله في ثوابه فيشهد ربا قيوما متكلما آمرا ناهيا يحب ويبغض ويرضى
ويغضب قد أرسل رسله وأنزل كتبه وأقام على عباده الحجة البالغة وأتم عليهم
نعمته السابغة يهدى من يشاء منه نعمة وفضلا ويضل من يشاء حكمة منه وعدلا
ينزل إليهم أوامره وتعرض عليه أعمالهم لم يخلقهم عبثا ولم يتركهم سدى بل
أمره جار عليهم في حركاتهم وسكناتهم وظواهرهم وبواطنهم فلله عليهم حكم وأمر
في كل تحريكة وتسكينة ولحظة ولفظة وينكشف له في هذا النور عدله وحكمته
ورحمته ولطفه وإحسانه وبره في شرعه وأحكامه وأنها أحكام رب رحيم محسن لطيف
حكيم قد بهرت حكمته العقول وأقرت بها الفطر وشهدت لمنزلها بالوحدانية ولمن
جاء بها بالرسالة والنبوة وينكشف له في ضوء ذلك النور إثبات صفات الكمال
وتنزيهه سبحانه عن النقص والمثال وأن كل
كمال في الوجود فمعطيه
وخالقه أحق به وأولى وكل نقص وعيب فهو سبحانه منزه متعال عنه وينكشف له في
ضوء هذا النور حقائق المعاد واليوم الآخر وما أخبر به الرسول عنه حتى كأنه
يشاهده عيانا وكأنه يخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأمره ونهيه ووعده ووعيده
إخبار من كأنه قد رأى وعاين وشاهد ما أخبر به فمن أراد سبحانه هدايته شرح
صدره لهذا فاتسع له وانفسح ومن أراد ضلالته جعل صدره من ذلك في ضيق وحرج لا
يجد فيه مسلكا ولا منفذا والله الموفق المعين وهذا الباب يكفي اللبيب في
معرفة القدر والحكمة ويطلعه على العدل والتوحيد الذي تضمنهما قوله: {شَهِدَ
اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو
الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}.
شفاء العليل
الباب
السادس عشر: في تفرد الرب بالخلق للذات والصفات والأفعال
الباب السادس
عشر: فيما جاء في السنة من تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو منفرد
بخلق ذواتهم وصفاتهم
قال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد حدثنا علي
بن عبد الله ثنا مروان بن معاوية ثنا أبو مالك
ص -110- عن ربعي بن
حراش عن حذيفة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يصنع كل صانع
وصنعته" قال البخاري: "وتلا بعضهم عند ذلك: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا
تَعْمَلُونَ}" حدثنا محمد أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن حذيفة نحوه
موقوفا عليه وأما استشهاد بعضهم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا
تَعْمَلُونَ} بحمل ما على المصدر أي خلقكم وأعمالكم فالظاهر خلاف هذا وأنها
موصولة أي خلقكم وخلق الأصنام التي تعملونها فهو يدل على خلق أعمالهم من
جهة اللزوم فإن الصنم اسم للآلة التي حل فيها العمل المخصوص فإذا كان
مخلوقا لله كان خلقه متناولا لمادته وصورته قال البخاري: وحدثنا عمرو بن
محمد حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن طاووس عن ابن عمر: "كل شيء بقدر حتى وضعك
يدك على خدك" قال البخاري: وحدثني إسماعيل قال حدثني مالك عن زياد بن سعد
عن عمرو بن مسلم عن طاووس قال: "أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" ورواه مسلم في صحيحه عن
طاووس وقال سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" قال البخاري: وقال ليث عن طاووس عن ابن
عباس ": {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} حتى العجز والكيس" قال
البخاري: سمعت عبيد الله بن سعيد يقول سمعت يحيى بن سعيد يقول: "ما زلت
أسمع أصحابنا يقولون أفعال العباد مخلوقة" قال البخاري: "حركاتهم وأصواتهم
وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة" وقال جابر بن عبد الله: "كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يعلمنا
الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن
يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني
أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر
وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في
ديني ومعاشي وعاقبة أمري فيسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا
الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي
الخير حيث كان ثم رضني به قال: ويسمى حاجته" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
فقوله: "إذا هم أحدكم بالأمر" صريح في أنه الفعل الاختياري المتعلق بإرادة
العبد وإذا علم ذلك فقوله "أستقدرك بقدرتك" أي أسألك أن تقدرني على فعله
بقدرتك ومعلوم أنه لم يسأل القدرة المصححة التي هي سلامة الأعضاء وصحة
البنية وإنما سأل القدرة التي توجب الفعل فعلم أنها مقدورة لله ومخلوقة له
وأكد ذلك بقوله: "فإنك تقدر ولا أقدر" أي تقدر أن تجعلني قادرا فاعلا ولا
أقدر أن أجعل نفسي كذلك وكذلك قوله: "تعلم ولا أعلم" أي حقيقة العلم بعواقب
الأمور ومآلها والنافع منها والضار عندك وليس عندي وقوله يسره لي أو اصرفه
عني فإنه طلب من الله تيسيره إن كان له فيه مصلحة وصرفه عنه إن كان فيه
مفسدة وهذا التيسير والصرف متضمن إلقاء داعية الفعل في القلب أو إلقاء
داعية الترك فيه ومتى حصلت داعية الفعل حصل الفعل وداعية الترك امتنع الفعل
وعند القدرية ترجيح فاعلية العبد على الترك منه ليس للرب فيه صنع ولا
تأثير فطلب هذ التيسير منه لا معنى له عندهم فإن تيسير الأسباب التي لا
قدرة للعبد عليها موجود ولم يسأله العبد وقوله: "ثم رضني به" يدل على أن
حصول الرضا وهو فعل اختياري من أفعال القلوب أمر وقدور للرب تعالى وهو الذي
يجعل نفسه راضيا وقوله: "فاصرفه عني واصرفني عنه" صريح في أنه سبحانه هو
الذي يصرف عبده عن فعله الاختياري إذا شاء صرفه عنه كما قال تعالى
في
حق يوسف الصديق: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ
ص -111- السُّوءَ
وَالْفَحْشَاء} وصرف السوء والفحشاء هو صرف دواعي القلب وميله إليهما
فينصرفان عنه بصرف دواعيهما وقوله "وأقدر لي الخير حيث كان" يعم الخير
المقدور للعبد من طاعته وغير المقدور له فعلم أن فعل العبد للطاعة والخير
أمر مقدور لله إن لم يقدره الله لعبده لم يقع من العبد ففي هذا الحديث
الشفاء في مسألة القدر وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الداعي به أن يقدم
بين يدي هذا الدعاء ركعتين عبودية منه بين يدي نجواه وإن يكونا من غير
الفريضة ليتجرد فعلهما لهذا الغرض المطلوب ولما كان الفعل الاختياري متوقفا
على العلم والقدرة والإرادة لا يحصل إلا بها توسل الداعي إلى الله بعلمه
وقدرته وإرادته التي يؤتيه بها من فضله وأكد هذا المعنى بتجرده وبراءته من
ذلك فقال "إنك تعلم ولا أعلم وتقدر ولا أقدر" وأمر الداعي أن يعلق التيسير
بالخير والصرف بالشر وهو علم الله سبحانه تحقيقا للتفويض إليه واعترافا
بجهل العبد بعواقب الأمور كما اعترف بعجزه ففي هذا الدعاء إعطاء العبودية
حقها وإعطاء الربوبية حقها وبالله المستعان، وفي الترمذي وغيره من حديث
الحسن بن علي قال: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في
الوتر اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي
فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت
تباركت وتعاليت" فقوله: "اهدني" سؤال للهداية المطلقة التي لا يتخلف عنها
الاهتداء وعند القدرية أن الرب سبحانه وتعالى عن قولهم لا يقدر علة هذه
الهداية وإنما يقدر على هداية البيان والدلالة المشتركة بين المؤمنين
والكفار وقوله "فيمن هديت" فيه فوائد أحدها: أنه سؤال له أن يدخله في جملة
المهديين وزمرتهم ورفقتهم الثانية: توسل إليه بإحسانه وإنعامه أي يا ربي قد
هديت من عبادك بشرا كثيرا فضلا منك وإحسانا فأحسن إليّ
كما أحسنت
إليهم كما يقول الرجل للملك اجعلني من جملة من أغنيته وأعطيته وأحسنت إليه
الثالثة: إن ما حصل لأولئك من الهدى لم يكن منهم ولا بأنفسهم وإنما كان منك
فأنت الذي هديتهم وقوله "وعافني فيمن عافيت" إنما يسأل ربه العافية
المطلقة وهي العافية من الكفر والفسوق والعصيان والغفلة والإعراض وفعل ما
لا يحبه وترك ما يحبه فهذا حقيقة العافية ولهذا ما سئل الرب شيئا أحب إليه
من العافية لأنها كلمة جامعة للتخلص من الشر كله وأسبابه وقوله "وتولني
فيمن توليت" سؤال للتولي الكامل ليس المراد به ما فعله بالكافرين من خلق
القدرة وسلامة الآلة وبيان للطريق فإن كان هذا هو ولايته للمؤمنين فهو ولي
الكفار كما هو ولي المؤمنين وهو سبحانه يتولى أولياءه بأمور لا توجد في حق
الكفار من توفيقهم وإلهامهم وجعلهم مهديين مطيعين ويدل عليه قوله "إنه لا
يذل من واليت" فإنه منصور عزيز غالب بسبب توليك له وفي هذا تنبيه على أن من
حصل له ذل في الناس فهو بنقصان ما فاته من تولي الله وإلا فمع الولاية
الكاملة ينتفي الذل كله ولو سلط عليه بالأذى من في أقطارها فهو العزيز غير
الذليل وقوله "وقني شر ما قضيت" يتضمن أن الشر بقضائه فإنه هو الذي يقي منه
وفي المسند وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: "يا
معاذ والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك
وشكرك وحسن عبادتك" وهذه أفعال اختيارية وقد سأل الله أن يعينه على فعلها
وهذا الطلب لا معنى له عند القدرية فإن الإعانة عندهم الإقدار والتمكين
وإزاحة الأعذار وسلامة الآلة وهذا حاصل للسائل وللكفار أيضا والإعانة التي
سألها أن يجعله ذاكرا شاكرا محسنا لعبادته كما في حديث ابن
ص -112-
عباس عنه صلى الله عليه وسلم في دعائه المشهور: "رب أعني ولا تعن علي
وانصرني ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر علي واهدني ويسر الهدى لي وانصرني
علي من بغى علي رب اجعلني لك شكارا لك ذكارا لك رهابا لك مطواعا لك مخبتا
إليك أواها منيبا رب تقبل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي وثبت حجتي واهد
قلبي وسدد لساني واسلل سخيمة صدري" رواه الإمام أحمد في المسند وفيه أحد
وعشرون دليلا فتأملها وفي الصحيحين أنه صلى الله عيه وسلم كان يقول بعد
انقضاء صلاته: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو
على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا
الجد منك الجد" وكان يقول ذلك الدعاء عند اعتداله من الركوع ففي هذا نفي
الشريك عنه بكل اعتبار وإثبات عموم الملك له بكل اعتبار وإثبات عموم الحمد
وإثبات عموم القدرة وأن الله سبحانه إذا أعطى عبدا فلا مانع له وإذا منعه
فلا معطي له، وعند القدرية أن العبد قد يمنع من أعطى الله ويعطي من منعه
فإنه يفعل باختياره عطاء ومنعا لم يشأه الله ولم يجعله معطيا مانعا فيتصور
أن يكون لمن أعطى مانع ولمن منع معط وفي الصحيح أن رجلا سأله أن يدله على
عمل يدخل به الجنة فقال: "إنه ليسير على من يسره الله عليه" فدل على أن
التيسير الصادر من قبله سبحانه يوجب اليسر في العمل وعدم التيسير يستلزم
عدم العمل لأنه ملزومه والملزوم ينتفي لانتفاء لازمه والتيسير بمعنى
التمكين وخلق الفعل وإزاحة الأعذار وسلامة الأعضاء حاصل للمؤمن والكافر
والتيسير المذكور في الحديث أمر آخر وراء ذلك وبالله التوفيق والتيسير وفي
الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي موسى: "ألا أدلك على كنز من
كنوز الجنة لا حول ولا قوة إلا بالله" وقد أجمع المسلمون على هذه الكلمة
وتلقيها بالقبول وهي شافية كافية في إثبات القدر وإبطال قول القدرية وفي
بعض الحديث "إذا قالها العبد قال الله أسلم عبدي
واستسلم وفي بعضه
فوض إليّ عبدي" قال بعض المنتسبين للقدر لما كانت القدرة بالنسبة إلى الفعل
وإلى الترك بحصول الدواعي على التسوية وما دام الأمر كذلك امتنع صدور
الفعل فإذا رجح جانب الفعل على الترك بحصول الدواعي وإزالة الصوارف حصل
الفعل وهذه القوة هي المشار إليها بقولنا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم وشأن الكلمة أعظم مما قال فإن العالم العلوي والسفلي له تحول من حال
إلى حال وذلك التحول لا يقع إلا بقوة يقع بها التحول فكذلك الحول وتلك
القوة قائمة بالله وحده ليست بالتحويل فيدخل في هذا كل حركة في العالم
العلوي والسفلي وكل قوة على تلك الحركة سواء كانت الحركة قسرية أو إرادية
أو طبيعية وسواء كانت من الوسط أو إلى الوسط أو على الوسط وسواء كانت في
الكم أو الكيف أو في الأين كحركة النبات وحركة الطبيعة وحركة الحيوان وحركة
الفلك وحركة النفس والقلب والقوة على هذه الحركات التي هي حول فلا حول ولا
قوة إلا بالله ولما كان الكنز هو المال النفيس المجتمع الذي يخفى على أكثر
الناس وكان هذا شأن هذه الكلمة كانت كنزا من كنوز الجنة فأوتيها النبي صلى
الله عليه وسلم من كنز تحت العرش وكان قائلها أسلم واستسلم لمن أزمة
الأمور بيديه وفوض أمره إليه وفي المسند والسنن عن أبي الديلمي قال: "أتيت
أبي كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله يذهبه عني من
قلبي فقال: إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم
ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله
الله
ص -113- منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك
وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير ذلك كنت من أهل النار قال فأتيت
عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت فكل منهم حدثني بمثل ذلك
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهذا الحديث حديث صحيح رواه الحاكم في
صحيحه وله شأن عظيم وهو دال على أن من تلكم به أعرف الخلق بالله وأعظمهم له
توحيدا وأكثرهم له تعظيما وفيه الشفاء التام في باب العدل والتوحيد فإنه
لا يزال يجول في نفوس كثير من الناس كيف يجتمع القضاء والقدر والأمر والنهي
وكيف يجتمع العدل والعقاب على المقضي المقدر الذي لا بد للعبد من فعله ثم
سلك كل طائفة في هذا المقام واديا وطريقا فسلك الجبرية وادي الجبر وطريق
المشيئة المحضة الذي يرجح مثلا على مثل من غير اعتبار علة ولا غاية ولا
حكمة قالوا وكل ممكن عدل والظلم هو الممتنع لذاته فلو عذب أهل سماواته وأهل
أرضه لكان متصرفا في ملكه والظلم تصرف القادر في غير ملكه وذلك مستحيل
عليه سبحانه قالوا ولما كان الأمر راجعا إلى محض المشيئة لم تكن الأعمال
سببا للنجاة فكانت رحمته للعباد هي المستقلة بنجاتهم فكانت رحمته خيرا من
أعمالهم وهؤلاء راعوا جانب الملك وعطلوا جانب الحمد والله سبحانه له الملك
وله الحمد وسلكت القدرية وادي العدل والحكمة ولم يوفوه حقه وعطلوا جانب
التوحيد وحاروا في هذا الحديث ولم يدروا ما وجهه وربما قابله كثير منهم
بالتكذيب والرد له وأن الرسول لم يقل ذلك قالوا وأي ظلم يكون أعظم من تعذيب
من استنفذ أوقات عمره كلها واستفرغ قواه في طاعته وفعل ما يحبه ولم يعصه
طرفة عين وكان يعمل بأمره دائما فكيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم أن
تعذيب هذا يكون عدلا لا ظلما ولا يقال أن حقه عليهم وما ينبغي له أعظم من
طاعاتهم فلا تقع تلك الطاعات في مقابلة نعمه وحقوقه فلو عذبهم لعذبهم بحقه
عليهم لأنهم إذا فعلوا مقدورهم من طاعته لم يكلفوا
بغيره فكيف يعذبون
على ترك ما لا قدرة لهم عليه وهل ذلك إلا بمنزلة تعذيبهم على كونهم لم
يخلقوا السماوات والأرض ونحو ذلك مما لا يدخل تحت مقدورهم قالوا فلا وجه
لهذا الحديث إلا رده أو تأويله وحمله على معنى يصح وهو أنه لو أراد تعذيبهم
جعلهم أمة واحدة على الكفر فلو عذبهم في هذه الحال لكان غير ظالم لهم وهو
لم يقل لو عذبهم مع كونهم مطيعين له عابدين له لعذبهم وهو غير ظالم لهم ثم
أخبر أنه لو عمهم بالرحمة لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم ثم أخبر أنه لا
يقبل من العبد عمل حتى يؤمن بالقدر والقدر هو علم الله بالكائنات وحكمه
فيها ووقفت طائفة أخرى في وادي الحيرة بين القدر والأمر والثواب والعقاب
فتارة يغلب عليهم شهود القدر فيغيبون به عن الأمر وتارة يغلب عليهم شهود
الأمر فيغيبون عن القدر وتارة يبقون في حيرة وعمى وهذا كله إنما سببه
الأصول الفاسدة والقواعد الباطلة التي بنوا عليها ولو جمعوا بين الملك
والحمد والربوبية والإلهية والحكمة والقدرة وأثبتوا له الكمال المطلق
ووصفوه بالقدرة التامة الشاملة والمشيئة العامة النافذة التي لا يوجد كائن
إلا بعد وجودها والحكمة البالغة التي ظهرت في كل موجود لعلموا حقيقة الأمر
وزالت عنهم الحيرة ودخلوا إلى الله سبحانه من باب أوسع من السماوات السبع
وعرفوا أنه لا يليق بكماله المقدس إلا ما أخبر به عن نفسه على ألسنة رسله
وأن ما خالفه ظنون كاذبة وأوهام باطلة تولدت بين أفكار باطلة وآراء مظلمة
فنقول وبالله التوفيق وهو المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا
بالله، الرب تبارك اسمه وتعالى جده ولا إله
ص -114- غيره هو المنعم
على الحقيقة بصنوف النعم التي لا يحصيها أهل سماواته وأرضه فإيجادهم نعمة
منه وجعلهم أحياء ناطقين نعمة منه وإعطائهم الأسماع والأبصار والعقول نعمة
منه وإدرار الأرزاق عليهم على اختلاف أنواعها وأصنافها نعمة منه وتعريفهم
نفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله نعمة منه وإجراء ذكره على ألسنتهم ومحبته
ومعرفته على قلوبهم نعمة منه وحفظهم بعد إيجادهم نعمة منه وقيامه بمصالحهم
دقيقها وجليلها نعمة منه وهدايتهم إلى أسباب مصالحهم ومعايشهم نعمة منه
وذكر نعمه على سبيل التفصيل لا سبيل إليه ولا قدرة للبشر عليه ويكفي أن
النفس من أدنى نعمه التي لا يكادون يعدونها وهو أربعة وعشرون ألف نفس في كل
يوم وليلة فلله على العبد في النفس خاصة أربعة وعشرون ألف نعمة كل يوم
وليلة دع ما عدا ذلك من أصناف نعمه على العبد ولكل نعمة من هذه النعم حق من
الشكر يستدعيه ويقتضيه فإذا وزعت طاعات العبد كلها على هذه النعم لم يخرج
قسط كل نعمة منها إلا جزء يسير جدا لا نسبة له إلى قدر تلك النعمة بوجه من
الوجوه قال أنس بن مالك ينشر للعبد يوم القيامة ثلاثة دواوين ديوان فيه
ذنوبه وديوان فيه العمل الصالح فيأمر الله تعالى أصغر نعمة من نعمه فتقوم
فتستوعب عمله كله ثم تقول أي رب وعزتك وجلالك ما استوفيت ثمني وقد بقيت
الذنوب والنعم فإذا أراد الله بعبد خيرا قال ابن آدم ضعفت حسناتك وتجاوزت
عن سيئاتك ووهبت لك نعمي فما بيني وبينك وفي صحيح الحاكم حديث "صاحب
الرمانة الذي عبد الله خمسمائة سنة يأكل كل يوم رمانة تخرج له من شجرة ثم
يقوم إلى صلاته فسأل ربه وقت الأجل أن يقبضه ساجدا وأن لا يجعل للأرض عليه
سبيلا حتى يبعث وهو ساجد فإذا كان يوم القيامة وقف بين يدي الرب فيقول
تعالى أدخلوا عبدي الجنة برحمتي فيقول رب بل بعملي فيقول الرب جل جلاله
قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله فتؤخذ نعمة البصر بعبادة خمسمائة سنة وبقيت
نعمة الجسد فضلا عليه
فيقول أدخلوا عبدي النار فيجر إلى النار
فينادي رب برحمتك رب برحمتك أدخلني الجنة فيقول ردوه فيوقف بين يديه فيقول
يا عبدي من خلقك ولم تكن شيئا فيقول أنت يا رب فيقول من قواك على عبادة
خمسمائة سنة فيقول أنت يا رب فيقول من أنزلك في جبل وسط اللجة وأخرج لك
الماء العذب من الماء المالح وأخرج لك كل يوم رمانة وإنما تخرج مرة في
السنة وسألتني أن أقبضك ساجدا ففعلت ذلك بك فيقول أنت يا رب فيقول الله
فذلك برحمتي وبرحمتي أدخلك الجنة" رواه من طريق يحيى بن بكير حدثنا الليث
بن سعد عن سليمان بن هرم عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم والإسناد صحيح ومعناه صحيح لا ريب فيه فقد صح عنه صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "لن ينجو أحد منكم بعمله وفي لفظ لن يدخل احد منكم
الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله
برحمة منه وفضل" فقد أخبر صلى الله عليه وسلم: "أنه لا ينجي أحدا عمله من
الأولين ولا من الآخرين إلا أن يرحمه ربه سبحانه" فتكون رحمته خير له من
عمله لأن رحمته تنجيه وعمله لا ينجيه فعلم أنه سبحانه لو عذب أهل سماواته
وأرضه لعذبهم ببعض حقه عليهم ومما يوضحه أنه كلما كملت نعمة الله على العبد
عظم حقه عليه وكان ما يطالب به من الشكر أكثر مما يطالب من دونه فيكون حق
الله عليه أعظم وأعماله لا تفي بحقه عليه وهذا إنما يعرفه حق المعرفة من
عرف الله وعرف نفسه هذا كله لو لم يحصل للعبد من الغفلة والإعراض والذنوب
ما يكون في قبالة طاعاته فكيف إذا حصل له من ذلك ما يوازي طاعاته أو يزيد
عليها فإن من حق الله على عبده أن يعبده لا يشرك به
ص -115- شيئا وأن
يذكره ولا ينساه وأن يشكره ولا يكفره وأن يرضى به ربا وبالإسلام دينا
وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وليس الرضا بذلك مجرد إطلاق هذا اللفظ
وحاله وإرادته وتكذيبه وتخالفه فكيف يرضى به ربا من يسخط ما يقضيه له إذا
لم يكن موافقا لإرادته وهواه فيظل ساخطا به متبرما يرضى وربه غضبان ويغضب
وربه راض فهذا إنما رضي من ربه حظا لم يرض بالله ربا وكيف يدعي الرضا
بالإسلام دينا من ينبذ أصوله خلف ظهره إذا خالفت بدعته وهواه وفروعه وراءه
إذا لم يوافق غرضه وشهوته وكيف يصح الرضا بمحمد رسولا من لم يحكمه على
ظاهره وباطنه ويتلق أصول دينه وفروعه من مشكاته وحده وكيف يرضى به رسولا من
يترك ما جاء به لقول غيره ولا يترك قول غيره لقوله ولا يحكمه ويحتج بقوله
إلا إذا وافق تقليده ومذهبه فإذا خالفه لم يلتفت إلى قوله والمقصود أن من
حقه سبحانه على كل أحد من عبيده أن يرضى به ربا وبالإسلام دينا وبمحمد
رسولا وأن يكون حبه كله لله وبغضه في الله وقوله لله وتركه لله وأن يذكره
ولا ينساه ويطيعه ولا يعصيه ويشكره ولا يكفره وإذا قام بذلك كله كانت نعم
الله عليه أكثر من عمله بل ذلك نفسه من نعم الله عليه حيث وفقه له ويسره
وأعانه عليه وجعله من أهله واختصه به على غيره فهو يستدعي شكرا آخر عليه
ولا سبيل له إلى القيام بما يجب لله من الشكر أبدا فنعم الله تطالبه بالشكر
وأعماله لا تقابلها وذنوبه وغفلته وتقصيره قد تستنفد عمله فديوان النعم
وديوان الذنوب يستنفدان طاعاته كلها هذا وأعمال العبد مستحقة عليه بمقتضى
كونه عبدا مملوكا مستعملا فيما يأمره به سيده فنفسه مملوكة وأعماله مستحقة
بموجب العبودية فليس له شيء من أعماله كما أنه ليس له ذرة من نفسه فلا هو
مالك لنفسه ولا صفاته ولا أعماله ولا لما بيده من المال في الحقيقة بل كل
ذلك مملوك عليه مستحق عليه لمالكه أعظم استحقاقا من سيد اشترى عبدا بخالص
ماله ثم قال اعمل وأد إليّ
فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء فلو عمل
هذا العبد من الأعمال ما عمل فإن ذلك كله مستحق عليه لسيده وحق من حقوقه
عليه فكيف بالمنعم المالك على الحقيقة الذي لا تعد نعمه وحقوقه على عبده
ولا يمكن أن تقابلها طاعاته بوجه فلو عذبه سبحانه لعذبه وهو غير ظالم له
وإذا رحمه فرحمته خير له من أعماله ولا تكون أعماله ثمنا لرحمته البتة
فلولا فضل الله ورحمته ومغفرته ما هنا أحدا عيش البتة ولا عرف خالقه ولا
ذكره ولا آمن به ولا أطاعه فكما أن وجود العبد محض وجوده وفضله ومنته عليه
وهو المحمود على إيجاده فتوابع وجوده كلها كذلك ليس للعبد منها شيء كما ليس
له في وجوده شيء فالحمد كله لله والفضل كله له والإنعام كله له والحق له
على جميع خلقه ومن لم ينظر في حقه عليه وتقصيره وعجزه عن القيام به فهو من
أجهل الخلق بربه وبنفسه ولا تنفعه طاعاته ولا يسمع دعاؤه قال الإمام أحمد
حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال: "بلغني أن نبي الله موسى مر
برجل يدعو ويتضرع فقال يا رب ارحمه فإني قد رحمته فأوحى الله تعالى إليه لو
دعاني حتى ينقطع فؤاده ما استجبت له حتى ينظر في حقي عليه" والعبد يسير
إلى الله سبحانه بين مشاهدة منته عليه ونعمه وحقوقه وبين رؤية عيب نفسه
وعمله وتفريطه وإضاعته فهو يعلم أن ربه لو عذبه أشد العذاب لكان قد عدل فيه
وأن أقضيته كلها عدل فيه وأن ما فيه من الخير فمجرد فضله ومنته وصدقته
عليه ولهذا كان في حديث سيد الاستغفار "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي"
فلا يرى نفسه إلا مقصرا مذنبا ولا يرى ربه إلا محسنا
ص -116- متفضلا
وقد قسم الله خلقه إلى قسمين لا ثالث لهما تائبين وظالمين فقال: {وَمَنْ
لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وكذلك جعلهم قسمين معذبين
وتائبين فمن لم يتب فهو معذب ولا بد قال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ
الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ
وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وأمر جميع
المؤمنين من أولهم إلى أخرهم بالتوبة ولا يستثنى من ذلك أحد وعلق فلاحهم
بها قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وعدد سبحانه من جملة نعمه على خير خلقه وأكرمهم
عليه وأطوعهم له وأخشاهم له أن تاب عليه وعلى خواص أتباعه فقال: {لَقَدْ
تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ
يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} ثم كرر توبته عليهم فقال: {ثُمَّ تَابَ
عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وقدم توبته عليهم على توبة
الثلاثة الذين خلفوا وأخبر سبحانه أن الجنة التي وعدها أهلها في التوراة
والإنجيل أنها يدخلها التائبون فذكر عموم التائبين أولا ثم خص النبي
والمهاجرين والأنصار بها ثم خص الثلاثة الذين خلفوا فعلم بذلك احتياج جميع
الخلق إلى توبته عليهم ومغفرته لهم وعفوه عنهم وقد قال تعالى لسيد ولد آدم
وأحب خلقه إليه عفا الله عنك فهذا خبر منه وهو أصدق القائلين أو دعاء
لرسوله بعفوه عنه وهو طلب من نفسه وكان صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده
أقرب ما يكون من ربه: "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك
منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وقال لأطوع نساء الأمة
وأفضلهن وخيرهن الصديقة بنت الصديق وقد قالت له يا رسول الله لئن وافقت
ليلة القدر فما أدعو به قال: "قولي اللهم إنك عفو تحب
العفو فاعف
عني" قال الترمذي حديث حسن صحيح وهو سبحانه لمحبته للعفو والتوبة خلق خلقه
على صفات وهيئات وأحوال تقتضي توبتهم إليه واستغفارهم وطلبهم عفوه ومغفرته
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم و لجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله
فيغفر لهم" و الله تعالى يحب التوابين و التوبة من أحب الطاعات إليه و يكفي
في محبتها شدة فرحه بها كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله
صلى الله عليه و سلم: "قال الله عز و جل: أنا عند ظن عبدي بي و أنا معه حين
يذكرني و الله للهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في الفلاة" و في
الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم:
"للهُ أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية مهلكة معه راحلته
عليها طعامه و شرابه فنام فاستيقظ و قد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش ثم قال
أرجع إلى المكان الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت
فاستيقظ و عنده راحلته عليها زاده و طعامه و شرابه فالله أشد فرحا بتوبة
العبد المؤمن من هذا براحلته و زاده" و في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير
يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال: "للهُ أشد فرحا بتوبة عبده من
رجل حمل زاده و مزاده على بعير ثم سار حتى كان بفلاة فأدركته القائلة فنزل
فقال تحت شجرة فغلبته عينه و انسل بعيره فاستيقظ فسعى شرفا فلم ير شيئا ثم
سعى شرفا ثانيا ثم سعى شرفا ثالثا فلم ير شيئا فأقبل حتى أتى إلى مكانه
الذي قال فيه فبينا هو قاعد فيه إذ جاء بعيره يمشي حتى وضع خطامه في يده"
فالله أشد فرحا بتوبة العبد من هذا حين وجد بعيره فتأمل محبته سبحانه لهذه
الطاعة التي هي أصل الطاعات و أساسها فإن من زعم أن أحدا من الناس يستغني
عنها ولا حاجة
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ص -117- به إليها فقد جهل حق الربوبية و مرتبة العبودية و ينتقص بمن
أغناه بزعمه عن التوبة من حيث زعم أنه معظم له إذ عطله عن هذه الطاعة
العظيمة التي هي من أجل الطاعات و القربة الشريفة التي هي من أجل القربات
وقال لست من أهل هذه الطاعة و لا حاجة بك إليها فلا قدر الله حق قدره و لا
قدر العبد حق قدره و قد جعل بعض عباده غنيا عن مغفرة الله و عفوه و توبته
إليه و زعم أنه لا يحتاج إلى ربه في ذلك و في الصحيحين من حديث أنس بن مالك
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للهُ أشد فرحا بتوبة عبده حين
يتوب عن أحدكم من رجل كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه
وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع وقد يئس من راحلته فبينا هو كذلك إذ هو
بها قائمة عنده ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة
الفرح" وأكمل الخلق أكملهم توبة وأكثرهم استغفارا وفي صحيح البخاري عن أبي
هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والله إني لأستغفر
الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" ولما سمع أبو هريرة هذا من
النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد عنه:
"إني لأستغفر الله في اليوم والليلة اثني عشر ألف مرة بقدر ديتي" ثم ساقه
من طريق آخر وقال: "بقدر ذنبه" وقال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا يزيد بن
هارون أنبأنا محمد بن راشد عن مكحول عن رجل عن أبي هريرة قال: "ما جلست
إلى أحد أكثر استغفارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال الرجل: "وما
جلست إلى أحد أكثر استغفارا من أبي هريرة" وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر
الله في اليوم مائة مرة" وفي السنن والمسند من حديث ابن عمر قال: "كنا نعد
لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب
علي إنك أنت التواب الرحيم" قال الترمذي
هذا حديث حسن صحيح وقال
الإمام أحمد حدثنا إسماعيل ثنا يونس عن حميد بن هلال عن أبي بردة قال جلست
إلى الشيخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الكوفة فحدثني
قال: سمعت رسول الله أو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها
الناس توبوا إلى الله عز وجل واستغفروه فإني أتوب إلى الله وأستغفره كل يوم
مائة مرة" قال الإمام أحمد وثنا يحيى عن شعبة ثنا عمرو بن مرة قال سمعت
أبا بردة قال سمعت الأغر يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: "يا أيها الناس توبوا إلى ربكم عز وجل فإني أتوب إليه في اليوم
مائة مرة" وقال أحمد ثنا يزيد أنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان
النهدي عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اجعلني
من الذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساؤا استغفروا" وكان من دعائه صلى الله
عليه وسلم في أول الصلاة عند الاستفتاح بعد التكبير: "اللهم أنت ربي وأنا
عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني
لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت لبيك وسعديك والخير في يديك وأنا بك
وإليك تباركت وتعاليت استغفرك وأتوب إليك" رواه مسلم وفي الصحيحين عنه أنه
كان يقول في دعائه: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق
والمغرب اللهم نقني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" وكان يقول هذا سرا لم
يعلم به من خلفه حتى سأله عنه أبو هريرة وروى عنه علي بن أبي طالب أنه كان
إذا استفتح الصلاة قال لا إله إلا أنت ظلمت نفسي وعملت سوأ فاغفر لي إنه لا
يغفر
ص -118- الذنوب إلا أنت وفي الصحيحين أنه كان يقول في ركوعه
وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" وفي صحيح مسلم من حديث
عبد الله بن أبي أوفى: "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع
قال: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملأ السماوات وملأ الأرض وملأ
ما شئت من شيء بعد اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد اللهم طهرني
من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ" وفي صحيح مسلم من حديث
أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: "اللهم
اغفر لي ذنبي كله دقه وجله أوله وآخره علانيته وسره" وفي مسند الإمام أحمد
أنه كان يقول في صلاته: "اللهم اغفر لي ووسع عليّ في ذاتي وبارك لي فيما
رزقتني" وفي صحيح مسلم عن فروة بن نوفل قال: قلت لعائشة حدثيني بشيء كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به في صلاته قالت: نعم كان يقول: "اللهم
إني أعوذ بك من شر ما علمت ومن شر ما لم أعلم وكان يقول بين السجدتين
اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني" وكان يقول في قيامه إلى
الصلاة بالليل: "اللهم لك الحمد" الحديث وفيه "فاغفر لي ما قدمت وما أخرت
وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر
لا إله إلا أنت" وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يدعو بهذا الدعاء: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري
وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير"، وحقيقة
الأمر أن العبد فقير إلى الله من كل وجه وبكل اعتبار فهو فقير إليه من جهة
ربوبيته له وإحسانه إليه وقيامه بمصالحه وتدبيره له وفقير إليه من جهة
إلهيته وكونه معبوده وإلهه ومحبوبه الأعظم الذي لا صلاح له ولا فلاح ولا
نعيم ولا سرور إلا بأن يكون أحب شيء إليه فيكون أحب إليه من نفسه وأهله
وماله ووالده وولده ومن الخلق كلهم وفقير إليه من
جهة معافاته له من
أنواع البلاء فإنه إن لم يعافيه منها هلك ببعضها وفقير إليه من جهة عفوه
عنه ومغفرته له فإن لم يعف عن العبد ويغفر له فلا سبيل إلى النجاة فما نجى
أحد إلا بعفو الله ولا دخل الجنة إلا برحمة الله وكثير من الناس ينظر إلى
نفس ما يتاب منه فيراه نقصا ولا ينظر إلى كمال الغاية الحاصلة بالتوبة وأن
العبد بعد التوبة النصوح خير منه قبل الذنب ولا ينظر إلى كمال الربوبية
وتفرد الرب بالكمال وحده وأن لوازم البشرية لا ينفك منها البشر وأن التوبة
غاية كل أحد من ولد آدم وكماله كما كانت هي غايته وكماله فليس للعبد كمال
بدون التوبة البتة كما أنه ليس له انفكاك عن سببها فإنه سبحانه هو المتفرد
المستأثر بالغنى والحمد من كل وجه وبكل اعتبار والعبد هو الفقير المحتاج
إليه المضطر إليه بكل وجه وبكل اعتبار فرحمته للعبد خير له من عمله فإن
عمله لا يستقل بنجاته ولا سعادته ولو وكل إلى عمله لم ينج به البتة فهذا
بعض ما يتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل
أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم" ومما يوضحه أن شكره سبحانه مستحق عليهم بجهة
ربوبيته لهم وكونهم عبيده ومماليكه وذلك يوجب عليهم أن يعرفوه ويعظموه
ويوحدوه ويتقربوا إليه تقرب العبد المحب الذي يتقلب في نعمه ولا غناء به
عنه طرفة عين فهو يدأب في التقرب إليه بجهده ويستفرغ في ذلك وسعه وطاقته
ولا يعدل به سواه في شيء من الأشياء ويؤثر رضا سيده على إرادته وهواه بل لا
هوى له ولا إرادة إلا فيما يريد سيده ويحبه وهذا يستلزم علوما وأعمالا
وإرادات وغرائم لا يعارضها غيرها ولا يبقى له معها التفات إلى
ص
-119- غيره بوجه ومعلوم أن ما يطبع عليه البشر لا يفي بذلك وما يستحقه الرب
تعالى لذاته وأنه أهل أن يعبد أعظم مما يستحقه لإحسانه فهو المستحق لنهاية
العبادة والخضوع والذل لذاته ولإحسانه وإنعامه وفي بعض الآثار "لو لم أخلق
جنة ولا نارا لكنت أهلا أن أعبد" ولهذا يقول أعبد خلقه له يوم القيامة وهم
الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك فمن كرمه وجوده ورحمته أن رضي من
عباده بدون اليسير مما ينبغي أن يعبد به ويستحقه لذاته وإحسانه فلا نسبة
للواقع منهم إلى ما يستحقه بوجه من الوجوه فلا يسعهم إلا عفوه وتجاوزه وهو
سبحانه أعلم بعباده منهم بأنفسهم فلو عذبهم لعذبهم بما يعلمه منهم وإن لم
يحيطوا به علما ولو عذبهم قبل أن يرسل رسله إليهم على أعمالهم لم يكن ظالما
لهم كما أنه سبحانه لم يظلمهم بمقته لهم قبل إرسال رسوله على كفرهم وشركهم
وقبائحهم فإنه سبحانه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من
أهل الكتاب ولكن أوجب على نفسه إذ كتب عليها الرحمة أنه لا يعذب أحدا إلا
بعد قيام الحجة عليه برسالته وسر المسألة أنه لما كان شكر المنعم على قدره
وعلى قدر نعمه ولا يقوم بذلك أحد كان حقه سبحانه على كل أحد وله المطالبة
به وإن لم يغفر له ويرحمه وإلا عذبه فحاجتهم إلى مغفرته ورحمته وعفوه
كحاجتهم إلى حفظه وكلاءته ورزقه فإن لم يحفظهم هلكوا وإن لم يرزقهم هلكوا
وإن لم يغفر لهم ويرحمهم هلكوا وخسروا ولهذا قال أبوهم آدم وأمهم حواء:
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وهذا شأن ولده من بعده وقد قال موسى
كليمه سبحانه: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وقال:
{سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال:
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وقال: {أَنْتَ
وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} وقال خليله إبراهيم: {رَبِّ
اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ
دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ
يَقُومُ الْحِسَابُ} وقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} إلى قوله:
{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} وقال
أول رسله إلى أهل الأرض: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا
لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ
الْخَاسِرِينَ} وقال لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه: {وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَق} إلى قوله: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} وقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً
مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا
تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً
مُسْتَقِيماً} وقد تقدم حديث ابن عباس في دعائه صلى الله عليه وسلم: "رب
أعني ولا تعن عليّ" وفيه "رب تقبل توبتي واغسل حوبتي" الحديث وقد أخبر
سبحانه عن أعبد البشر داود أنه استغفر ربه راكعا وأناب وقال تعالى:
{فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِك} وقال عن نبيه سليمان: {وَلَقَدْ فَتَنَّا
سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ قَالَ
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} وقال عن نبيه يونس أنه ناداه في الظلمات: {لا
إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وقال
صديق الأمة وخيرها وأبرها وأتقاها لله بعد رسوله: يا رسول الله علمني دعاء
أدعو به في صلاتي فقال: "قل اللهم إني ظلمت
نفسي ظلما كبيرا ولا يغفر
الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني أنك أنت الغفور الرحيم"
فاستفتح الخبر عن نفسه بأداة التوكيد التي تقتضي تقرير ما بعدها ثم ثنى
بالإخبار عن ظلمه لنفسه ثم وصف ذلك الظلم بكونه ظلما كبيرا ثم طلب من ربه
أن يغفر له مغفرة من عنده أي لا يبلغها
ص -120- علمه ولا سعيه بل هي
محض منته وإحسانه وأكبر من عمله فإذا كان هذا شأن من وزن بالأمة فرجح بهم
فكيف بمن دونه.
شفاء العليل
الباب السابع عشر: في الكتب
والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا
الباب السابع عشر:
في الكسب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا
وما دل
عليه السمع والعقل من ذلك، أما الكسب فأصله في اللغة الجمع قاله الجوهري
وهو طلب الرزق يقال كسبت شيئا واكتسبته بمعنى وكسبت أهلي خيرا وكسبت الرجل
مالا فكسبه وهذا مما جاء على فعلته ففعل والكواسب الجوارح وتكسب تكلف الكسب
انتهى والكسب قد وقع في القرآن على ثلاثة أوجه أحدها عقد القلب وعزمه
كقوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي بما عزمتم عليه
وقصدتموه وقال الزجاج: "أي يؤاخذكم بعزمكم" على أن لا تبروا وأن لا تتقوا
وأن تعتلوا في ذلك بأنكم حلفتم وكأنه التفت إلى لفظ المؤاخذة وأنها تقتضي
تعذيبا فجعل كسب قلوبهم عزمهم على ترك البر والتقوى لمكان اليمين والقول
الأول أصح وهو قول جمهور أهل التفسير فإنه قابل به لغو اليمين وهو أن لا
يقصد اليمين فكسب القلب المقابل للغو اليمين هو عقده وعزمه كما قال في
الآية الأخرى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ}
فتعقيد الإيمان هو كسب القلب الوجه الثاني من الكسب: كسب المال من التجارة
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ
مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} فالأول للتجار
والثاني للزراع والوجه الثالث من الكسب: السعي والعمل كقوله تعالى: {لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}:
{وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} فهذا كله للعمل
واختلف الناس في الكسب والاكتساب هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق فقالت
طائفة معناهما واحد
قال أبو الحسن علي بن أحمد وهو الصحيح عند أهل
اللغة: "ولا فرق بينهما" قال ذو الرمة:
ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب
وقال
الآخرون الاكتساب أخص من الكسب لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره ولا
يقال يكتسب قال الحطيئة:
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر هداك مليك
الناس يا عمر
قلت: والاكتساب افتعال وهو يستدعي اهتماما وتعملا واجتهادا
وأما الكسب فيصح نسبته بأدنى شيء ففي جانب الفضل جعل لها ما لها فيه أدنى
سعى وفي جانب العدل لم يجعل عليها إلا مالها فيه اجتهاد واهتمام وأما الجبر
فيرجع في اللغة إلى ثلاثة أصول أحدها: أن يغنى الرجل من فقر أو يجبر عظمه
من كسر وهذا من الإصلاح وهذا الأصل يستعمل لازما ومتعديا يقول جبرت العظم
وجبر وقد جمع العجاج بينهما في قوله:
قد جبر الدين الإله فجبر الأصل
الثاني: الإكراه والقهر وأكثر ما يستعمل هذا على أفعل يقال أجبرته على كذا
إذا أكرهته عليه ولا يكاد يجيء جبرته عليه إلا قليلا والأصل الثالث: من
العز والامتناع ومنه نخلة جبارة قال الجوهري: "والجبار من النخل ما طال
وفات اليد" قال الأعشى:
طريق وجبار رواء أصوله عليه أبابيل من الطير
تنعب
ص -121- وقال الأخفش في قوله تعالى: {إِنَّ فِيهَا قَوْماً
جَبَّارِينَ} قال: "أراد الطول والقوة والعظم" ذهب في هذا إلى الجبار من
النخل وهو الطويل الذي فات الأيدي ويقال رجل جبار إذا كان طويلا عظيما قويا
تشبيها بالجبار من النخل قال قتادة: "كانت لهم أجسام وخلق عجيبة ليست
لغيرهم" وقيل الجبار ههنا من جبره على الأمر إذا أكرهه عليه قال الأزهري:
"وهي لغة معروفة كثير من الحجازيين يقولونها" وكان الشافعي رحمه الله يقول:
"جبره السلطان" ويجوز أن يكون الجبار من أجبره على الأمر إذا أكرهه قال
الفراء: "لم أسمع فعالا من أفعل إلا في حرفين وهما جبار من أجبر ودراك من
أدرك" وهذا اختيار الزجاج قال الجبار من الناس العاتي الذي يجبر الناس على
ما يريد وأما الجبار من أسماء الرب تعالى فقد فسره بأنه الذي يجبر الكسير
ويغني الفقير والرب سبحانه كذلك ولكن ليس هذا معنى اسمه الجبار ولهذا قرنه
باسمه المتكبر وإنما هو الجبروت وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة" فالجبار اسم من أسماء
التعظيم كالمتكبر والملك والعظيم والقهار قال ابن عباس في قوله تعالى:
{الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} هو العظيم وجبروت الله عظمته والجبار من
أسماء الملوك والجبر الملك والجبابرة الملوك قال الشاعر:
وأنعم صباحا
أيها الجبر
أي أيها الملك وقال السدي: "هو الذي يجبر الناس ويقهرهم على
ما يريد وعلى هذا فالجبار معناه القهار وقال محمد بن كعب: "إنما سمي الجبار
لأنه جبر الخلق على ما أراد والخلق أدق شأنا من أن يعصوا ربهم طرفة عين
إلا بمشيئته" قال الزجاج: "الجبار الذي جبر الخلق على ما أراد" وقال ابن
الأنباري: "الجبار في صفة الرب سبحانه الذي لا ينال" ومنه قولهم نخلة جبارة
إذا فاتت يد المتناول فالجبار في صفة الرب سبحانه ترجع إلى ثلاثة معان
الملك والقهر والعلو فإن النخلة إذا طالت وارتفعت وفاتت الأيدي سميت
جبارة
ولهذا جعل سبحانه اسمه الجبار مقرونا بالعزيز والمتكبر وكل واحد من هذه
الأسماء الثلاثة تضمن الاسمين الآخرين وهذه الأسماء الثلاثة نظير الأسماء
الثلاثة وهي الخالق البارئ المصور فالجبار المتكبر يجريان مجرى التفصيل
لمعنى اسم العزيز كما أن البارئ المصور تفصيل لمعنى اسم الخالق فالجبار من
أوصافه يرجع إلى كمال القدرة والعزة والملك ولهذا كان من أسمائه الحسنى
وأما المخلوق فاتصافه بالجبار ذم له ونقص كما قال تعالى: {كَذَلِكَ
يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وقال تعالى
لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّار} أي مسلط
تقهرهم وتكرههم على الإيمان وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه
وسلم: "يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطأهم الناس".
فصل:
إذا عرف هذا فلفظ الكسب تطلقه القدرية على معنى والجبرية على معنى وأهل
السنة والحديث على معنى فكسب القدرية هو وقوع الفعل عندهم بإيجاد العبد
وإحداثه ومشيئته من غير أن يكون الله شاءه أو أوجده وكسب الجبرية لفظ لا
معنى له ولا حاصل تحته وقد اختلفت عباراتهم فيه وضربوا له الأمثال وأطالوا
فيه المقال فقال القاضي: "الكسب ما وجدوا عليه قدرة محدثة" وقيل: أنه
المتعلق بالقادر على غير جهة الحدوث وقيل: أنه المقدور بالقدرة الحادثة
قالوا: ولسنا نريد بقولنا ما وجدوا عليه قدرة محدثة أنها قدرة على وجوده
فإن القادر على وجوده هو الله وحده وإنما نعني بذلك أن للكسب تعلقا بالقدرة
الحادثة لا من باب الحدوث والوجود وقال الأسفرائيني: "حقيقة الخلق من
الخالق وقوعه بقدرته من حيث صح انفراده به وحقيقة الفعل وقوعه بقدرته
وحقيقة
ص -122- الكسب من المكتسب وقوعه بقدرته مع انفرداه به ويختص
القديم تعالى بالخلق ويشترك القديم والمحدث في الفعل ويختص المحدث بالكسب"
قلت: مراده أن إطلاق لفظ الخلق لا يجوز إلا على الله وحده وإطلاق لفظ الكسب
يختص بالمحدث وإطلاق لفظ الفعل يصح على الرب سبحانه والعبد وقال أيضا: "كل
فعل يقع على التعاون كان كسبا من المستعين" قلت: يريد أن الخالق يستقل
بالخلق والإيجاد والكاسب إنما يقع منه الفعل على وجهه المعاونة والمشاركة
منه ومن غيره لا يمكنه أن يستقل بإيجاد شيء البتة وقال آخرون: قدرة المكتسب
تتعلق بمقدوره على وجه ما وقدرة الخالق تتعلق به من جميع الوجوه قالوا
وليس كون الفعل كسبا من حقائقه التي تخصه بل هو معنى طرأ عليه كما يقول
منازعونا من المعتزلة إن هذه الحركة لطف وهذا الفعل لطف وصيغة أفعل تصير
أمرا بالإرادة لأنها حدثت بالإرادة واعتقاد الشيء على ما هو به يصير علما
بسكون النفس إليه لا أنه يحدث كذلك به والأشياء قد تقترن في الوجود فتتغير
أوصافها وأحكامها قالوا فالحركة إذا صادفت المتحرك بها على وجه مخصوص تسمى
سباحة مثلا ولطما ومشيا ورقصا وقال الأشعري و ابن الباقلاني: "الواقع
بالقدرة الحادثة هو كون الفعل كسبا دون كونه موجودا أو محدثا فكونه كسبا
وصف للوجود بمثابة كونه معلوما" ولخص بعض متأخريهم هذه العبارات بأن قال:
"الكسب عبارة عن الاقتران العادي بين القدرة المحدثة والفعل" فإن الله
سبحانه أجرى العادة بخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته لا بهما فهذا
الاقتران هو الكسب ولهذا قال كثير من العقلاء إن هذا من محالات الكلام وإنه
شقيق أحوال أبي هاشم وطفرة النظام والمعنى القائم بالنفس الذي يسميه
القائلون به كلاما وشيء من ذلك غير معقول ولا متصور والذي استقر عليه قول
الأشعري: "أن القدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها ولم يقع المقدور ولا صفة
من صفاته بل المقدور بجميع صفاته واقع بالقدرة القديمة ولا تأثير
للقدرة
الحادثة فيه" وتابعه على ذلك عامة أصحابه والقاضي أبو بكر يوافقه مرة ومرة
يقول: "القدرة الحادثة لا تؤثر في إثبات الذات وأحداثها ولكنها تقتضي صفة
للمقدور زائدة على ذاته تكون حالا له" ثم تارة يقول: "تلك الصفة التي هي من
أثر القدرة الحادثة مقدورة لله تعالى ولم يمتنع من إثبات هذا المقدور بين
قادرين على هذا الوجه" وقد اضطربت آراء أتباع الأشعري في الكسب اضطرابا
عظيما و اختلفت عباراتهم فيه اختلافا كثيرا وقد ذكره كله أبو القاسم سليمان
بن ناصر الأنصاري في شرح الإرشاد وذكر اختلاف طرائقهم واضطرابهم فيه ثم
قال: "وقد قال الأستاذ في المختصر قول أهل الحق في الكسب لا يرجع إلى إثبات
قدرة للعبد عليه" كما يقال أنه معلوم له إلا أن الإمام ادعى على الأستاذ
أنه أثبت للقدرة الحادثة أثرا في الحدوث فإنه لما نفي الأحوال وأثبت للقدرة
الحادثة أثرا فلا يعقل الجمع بينهما إلا أن يكون الأثر في الحدوث ثم ذكر
لنفسه مذهبا ذكره في الكتاب المترجم بالنظامية وانفرد به عن الأصحاب وهو
قريب من مذهب المعتزلة والخلاف بينه وبينهم فيه في الاسم قال: "وهذه العقدة
التي تورط الأصحاب فيها في الكسب شبيهة بالعقدة التي وقعت بين الأئمة في
القراءة والمقروء "قالك "وما ذكره الإمام في النظامية له وجه غير أنه مما
انفرد بإطلاقه" ولكل ناظر نظره والله يرحمنا وإياه قلت: الذي قاله الإمام
في النظامية أقرب إلى الحق مما قاله الأشعري وابن الباقلاني ومن تابعهما
ونحن نذكر كلامه بلفظه قالك "قد تقرر عند كل حاظ! بعقله مترق عن مراتب
التقليد في قواعد التوحيد أن الرب سبحانه يطالب عباده
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ص -123- بأعمالهم في حياتهم ودواعيهم إليها ومثيبهم ومعاقبهم عليها في
مآلهم" وتبين بالنصوص التي لا تتعرض للتأويلات أنه أقدرهم على الوفاء بما
طالبهم به ومكنهم من التوصل إلى امتثال الأمر والانكفاف عن مواقع الزجر ولو
ذهبت أتلو الآي المتضمنة لهذه المعاني لطال المرام ولا حاجة إلى ذلك مع
قطع اللبيب المنصف به ومن نظر في كليات الشرائع وما فيها من الاستحثاث
والزواجر عن الفواحش الموبقات وما نيط ببعضها من الحدود والعقوبات ثم تلفت
على الوعد والوعيد وما يجب عقده من تصديق المرسلين في الأنباء عما يتوجه
على المردة العتاة من الحساب والعقاب وسوء المنقلب والمآب وقول الله لهم لم
تعديتم وعصيتم وأبيتم وقد أرخيت لكم الطول وفسحت لكم المهل وأرسلت الرسل
وأوضحت المحجة لئلا يكون للناس علي حجة وأحاط بذلك كله ثم استراب في أن
أفعال العباد واقعة على حسب إيثارهم واختيارهم واقتدارهم فهو مصاب في عقله
أو مستقر على تقليده مصمم على جهله ففي المصير إليه أنه لا أثر لقدرة العبد
في فعله قطع طلبات الشرائع والتكذيب بما جاء به المرسلون فإن زعم من لم
يوفق لمنهج الرشاد أنه لا أثر لقدرة العبد في مقدوره أصلا وإذا طولب بمتعلق
طلب الله بفعل العبد تحريما وفرضا ذهب في الجواب طولا وعرضا وقال لله أن
يفعل ما يشاء ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون لا يسئل عما يفعل وهم
يسئلون قيل له ليس لما جئت به حاصل كلمة حق أريد بها باطل نعم يفعل الله ما
يشاء ويحكم ما يريد ولكن يتقدس عن الخلف ونقيض الصدق وقد فهمنا بضرورات
المعقول من الشرع المنقول أنه عزت قدرته طالب عباده بما أخبر أنهم ممكنون
من الوفاء به فلم يكلفهم إلا على مبلغ الطاقة والوسع في موارد الشرع ومن
زعم أنه لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر للعلم في معلومة فوجه
مطالبة العبد بأفعاله عنده كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه ألوانا وإدراكات
وهذا خروج عن حد الاعتدال إلى التزام
الباطل والمحال وفيه إبطال
الشرع ورد ما جاء به النبيون فإذا لزم المصير بأن القدرة الحادثة تؤثر في
مقدورها واستحال إطلاق القول بأن العبد خالق أعماله فإن فيه الخروج عما درج
عليه سلف الأمة واقتحام ورطات الضلال ولا سبيل إلى المصير إلى وقوع فعل
العبد بقدرته الحادثة والقدرة القديمة فإن الفعل الواحد يستحيل حدوثه
بقادرين إذ الواحد لا ينقسم فإن وقع بقدرة الله استقل بها وأسقط أثر القدرة
الحادثة ويستحيل أن يقع بعضه بقدرة الله تعالى فإن الفعل الواحد لا بعض له
وهذه مهواة لا يسلم من غوائلها إلا مرشد موفق إذ المرء بين أن يدعى
الاستبداد وبين أن يخرج نفسه عن كونه مطالبا بالشرائع وفيه أبطال دعوة
المرسلين وبين أن يثبت نفسه شريكا لله في إيجاد الفعل الواحد وهذه الأقسام
بجملتها باطلة ولا ينجى من هذه الملتطم ذكر اسم محض ولقب مجرد من غير تحصيل
معنى وذلك أن قائلا لو قال العبد يكتسب وأثر قدرته الاكتساب والرب سبحانه
خالق لما العبد مكتسب له قيل له فما الكسب وما معناه وأديرت الأقسام
المتقدمة على هذا القائل فلا يجد عنه مهربا ثم قال فنقول قدرة العبد مخلوقة
لله تعالى باتفاق القائلين بالصانع والفعل المقدور بالقدرة الحادثة واقع
بها قطعا ولكنه يضاف إلى الله سبحانه تقديرا وخلقا فإنه وقع بفعل الله وهو
القدرة فعلا للعبد وإنما هي صفته وهي ملك لله وخلق له فإذا كان موقع الفعل
خلقا لله فالواقع به مضاف خلقا إلى الله تعالى وتقديرا وقد ملك الله تعالى
العبد اختيارا يصرف به القدرة فإذا أوقع بالقدرة شيئا آل الواقع إلى حكم
الله
ص -124- من حيث أنه وقع بفعل الله ولو اهتدت إلى هذا الفرقة
الضالة لم يكن بيننا وبينهم خلاف ولكنهم ادعوا استبدادا بالاختراع وانفراد
بالخلق والابتداع فضلوا وأضلوا وتبين تميزنا عنهم بتفريع المذهبين فإنا لما
أضفنا فعل العبد إلى تقدير الإله سبحانه قلنا أحدث الله تعالى القدرة في
العبد على أقدار أحاط بها علمه وهيأ أسباب الفعل وسلب العبد العلم
بالتفاصيل وأراد من العبد أن يفعل فأحدث فيه دواع مستحثة وخيرة وإرادة وعلم
أن الأفعال ستقع على قدر معلوم فوقعت بالقدرة التي اخترعها العبد على ما
علم وأراد فاختيارهم واتصافهم بالاقتداء والقدرة خلق الله ابتداء ومقدورها
مضاف إليه مشيئة وعلما وقضاء وخلقا من حيث أنه نتيجة ما انفرد بخلقه وهو
القدرة ولو لم يرد وقوع مقدورها لما أقدره عليه ولما هيأ أسباب وقوعه ومن
هدي لهذا استمر له الحق المبين فالعبد فاعل مختار مطالب مأمور منهي وفعله
تقدير لله من أدلة خلق مقضي ونحن نضرب في ذلك مثلا شرعيا يستروح إليه
الناظر في ذلك فنقول: العبد لا يملك آن يتصرف في مال سيده ولو استبد
بالتصرف فيه لم ينفذ تصرفه فإذا أذن له في بيع ماله فباعه نفذ والبيع في
التحقيق معزو إلى السيد من حيث أن سببه إذنه ولولا إذنه لم ينفذ التصرف
ولكن العبد يؤمر بالتصرف وينهى ويوبخ على المخالفة ويعاقب فهذا والله الحق
الذي لا غطاء دونه ولا مراء فيه لمن وعاه حق وعيه وأما الفرقة الضالة فإنهم
اعتقدوا انفراد العبد بالخلق ثم صاروا إلى أنه إذا عصى فقد انفرد بخلق
فعله والرب كاره له فكان العبد على هذا الرأي الفاسد مزاحما لربه في
التدبير موقعا ما أراد إيقاعه شاء الرب أو كره, فإن قيل على ماذا تحملون
آيات الطبع والختم والإضلال في القرآن وهي متضمنة اضطرار الرب سبحانه
للأشقياء إلى ضلالتهم, قلنا إذا أباح الله حل هذا الإشكال والجواب عن هذا
السؤال لم يبق على ذوي البصائر بعده غموض فنقول أولا من أنبأ الله سبحانه
عن
الطبع على قلوبهم كانوا مخاطبين بالإيمان مطالبين بالإسلام والتزام
الأحكام مطالبة تكاليف ودعاء مع وصفهم بالتمكن والاقتدار والإيثار كما سبق
تقريره ومن اعتقد أنهم كانوا ممنوعين مأمورين مصدودين قهرا مدعوين فالتكليف
عنده إذا بمثابة ما لو شد من الرجل يداه ورجلاه رباطا وألقي في البحر ثم
قيل له لا تبتل وهذا أمر لا يحمل شرائع الرسل عليه إلا عائب بنفسه مجترئ
على ربه ولا فرق عند هذا القائل بين أمر التسخير والتكوين في قوله:
{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وبين أمر التكليف فإذا بطل ذلك
فالوجه في الكلام على هذه الآي وقد غوى في حقائقها أكثر الفرق أن يقول إذا
أراد الله بعبد خيرا أكمل عقله وأتم بصيرته ثم صرف عنه العوائق والدوافع
وأزاح عنه الموانع ووفق له قرناء الخير وسهل له سبله وقطع عنه الملهيات
وأسباب الغفلات وقيض له ما يقربه إلى القربات فيوافيها ثم يعتادها ويمرن
عليها وإذا أراد الله بعبده شرا قدر له مما يبعده عن الخير ويقصيه وهيأ له
أسباب تماديه في الغي وحبب إليه التشوف إلى الشهوات وعرضه للآفات وكلما
غلبت عليه دواعي النفس خنست دواعي الخير ثم يستمر على الشرور على مر الدهور
ويأتي مهاويها ويتعاون عليه الوسواس ونزعات الشيطان ونزفات النفس الإمارة
بالسوء فتنسخ الغفلة على قلبه غشاوة بقضاء الله وقدره فذلكم الطبع والختم
والأكنة وأنا أضرب في ذلك مثلا فأقول لو فرضنا شابا حديث العهد بحلمه لم
تهذبه المذاهب ولم تحنكه التجارب وهو على نهاية في غلمته وشهوته وقد استمكن
من بلغة من الحطام
ص -125- وخص بمسحة من الجمال ولم يقم عليه قوام
يزعه عن ورطات الردى ويمنعه عن الارتباك في شبكات الهوى ووافاه أخدان
الفساد وهو في غلواء شبابه يحدث نفسه بالبقاء أمدا بعيدا فما أقرب من هذا
وصفه من خلع العذار والبدار إلى شيم الأشرار وهو مع ذلك كله مؤثر مختار ليس
مجبرا على المعاصي والزلات ولا مصدودا عن الطاعات ومعه من العقل ما يستوجب
به اللائمة إذا عصى فمن هذا سبيله لا يستحيل في العقل تكليفه فإنه ليس
ممنوعا ولكن إن سبق له من الله سوء القضاء فهو صائر إلى حكم الله الجزم
وقضائه الفصل محجوج بحجة الله ألا أن يتغمده الله برحمته وهو أرحم الراحمين
وهذا الذي ذكرته بين في معاني الآيات لا يتمارى فيه موفق قال الله تعالى:
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} أراد
أنهم استمروا على المخالفات وأصرا بانتهاك الحرمات فقست قلوبهم وقال
تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} فقد جمعت
بين تفويض الأمور كلها نفعها وضرها خيرها وشرها إلى الإله جلت قدرته وبين
إثبات حقائق التكليف وتقرير قواعد الشرع على الوجه المعقول ألست في هذا
أهدى سبيلا وأقوم قيلا ممن يقدر الطبع منعا والختم صدا ودفعا ثم ينفي
التكاليف بزعمه وقد افترق الخلق في هذا المقام فرقا فذهب ذاهبون إلى أن
المخذولين ممنوعون مدفوعون لا اقتدار لهم على إجابة دعاة الحق وهم مع ذلك
ملزمون وهذا خطب جسيم وأمر عظيم وهو طعن في الشرائع وإبطال للدعوات وقد قال
تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى}
وقال إبليس:: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُد} نعوذ بالله من سوء النظر في
مواقع الخطر وذهب طوائف من الضلال إلى أن العبد يعصي والرب لما يأتي به
كاره فهذا خبط في الأحكام الإلهية ومزاحمة في الربوبية ولو لم يرد الرب من
الفجار ما علمه منهم في أزليته لما فطرهم مع علمه بهم كيف وقد أكمل قواهم
وأمدهم
بالعدد والعدد والعتاد وسهل لهم طريق الحيد عن السداد, فإن قيل: فعل ذلك
بهم ليطيعوه, قلنا أنى يستقيم ذلك وقد علم أنهم يعصونه ويهلكون أنفسهم
ويهلكون أولياءه وأنبيائه ويشقون شقاوة لا يسعدون بها أبدا ولو علم سيد عن
وحي أو أخبار نبي أنه لو أمد عبده بالمال لطغى وأبق وقطع الطريق فأمده
بالمال زاعما أنه يريد منه ابتناء القناطر والمساجد وهو مع ذلك يقول أعلم
أنه لا يفعل ذلك قطعا فهذا السيد مفسد عبده وليس مصلحا له باتفاق من أرباب
الألباب فقد زاغت الفئتان وضلت الفرقتان واعترضت إحداهما على القواعد
الشرعية وزاحمت الأخرى أحكام الربوبية واقتصد الموفقون فقالوا مراد الله من
عباده ما علم أنهم إليه يصيرون ولكنه لم يسلبهم قدرتهم ولم يمنعهم مراشدهم
فقرت الشريعة في نصابها وجرت العقيدة في الأحكام الإلهية على صوابها, فإن
قيل كيف يريد الحكيم السفه فقد أوضحنا أن الأفعال متساوية في حق من لا
ينتفع ولا يتضرر ولكن إذا أخبر أنه مكلف مطالب عباده مزيح عللهم فقوله الحق
وكلامه الصدق وأقرب أمر يعارضون به أن الحكيم منا إذا رأى جواريه وعبيده
يمرج بعضهم في بعض وهم على محارمهم بمرأى منه ومسمع فلا يحسن تركهم على ما
هم عليه والرب سبحانه يطلع على سوء أفعالهم ويستدرجهم من حيث لا يعلمون ثم
قال قد أطلقت أنفاسي ولكن لو وجدت في اقتباس هذا العلم من يسرد لي هذا
الفصل لكان وحق القائم على كل نفس بما كسبت أحب إلي من ملك الدنيا
بحذافيرها أطول أمدها" انتهى كلامه بلفظه وهذا توسط حسن بين الفريقين وقد
أنكره عليه عامة أصحابه منهم الأنصاري شارح الإرشاد وغيره وقالوا هو أقرب
من مذهب
ص -126- المعتزلة ولا يرجع الخلاف بينه وبينهم إلا إلى الاسم
فقط وأن هذا مما انفرد به ولكن بقي عليه فيه أمور منها أنه نفى كراهة الله
لما قدره من المعاصي بناء على أصله أن كل مراد له فهو محبوب له وأنه إذا
كان قد قدر الكفر والفسوق والعصيان فهو يريده ويحبه ولا يكرهه وإن كانت
قدرة العبد واختياره مؤثرة في إيجاد الفعل عنده بأقدار الرب سبحانه وقد
أصاب في هذا وأجاد ولكن القول بأن الله سبحانه يحب الكفر والفسوق والعصيان
ولا يكرهه إذا كان واقعا قول في غاية البطلان وهو مخالف لصريح العقل والنقل
والذي قاده إلى ذلك قوله أن المحبة هي الإرادة والمشيئة وأن كل ما شاءه
فقد أراده وأحبه ومن لم يفرق بين المشيئة والمحبة لزمه أحد أمرين باطلين لا
بد له من التزامه أما القول بأن الله سبحانه يحب الكفر والفسوق والعصيان
أو القول بأنه ما شاء ذلك ولا قدره ولا قضاه وقد قال بكل من المتلازمين
طائفة قالت طائفه لا يحبها ولا يرضاها فما شاءها ولا قضاها وقالت طائفة هي
واقعة بمشيئته وإرادته فهو يحبها ويرضاها فاشترك الطائفتان في هذا الأصل
وتباينا في لازمه وقد أنكر الله سبحانه على من احتج على محبته بمشيئته في
ثلاثة مواضع من كتابه في سورة الأنعام والنحل والزخرف فقال تعالى:
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا
آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ
فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ
إِلاَّ تَخْرُصُونَ} وكذلك حكى عنهم في النحل ثم قال: {كَذَلِكَ فَعَلَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ
الْمُبِينُ} وقال في الزخرف: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا
عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ
يَخْرُصُونَ}
فاحتجوا على محبته لشركهم ورضاه به بكونه أقرهم عليه وأنه لولا محبته له
ورضاه به لما شاءه منهم وعارضوا بذلك أمره ونهيه ودعوة الرسل قالوا كيف
يأمر بالشيء قد شاء منا خلافه وكيف يكره منا شيئا قد شاء وقوعه ولو كرهه لم
يمكنا منه ولحال بيننا وبينه فكذبهم سبحانه في ذلك وأخبر أن هذا تكذيب
منهم لرسله وأن رسله متفقون على أنه سبحانه يكره شركهم ويبغضه ويمقته وأنه
لولا بغضه وكراهته لما أذاق المشركين بالله عذابه فإنه لا يعذب عبده على ما
يحبه ثم طالبهم بالعلم على صحة مذهبهم بأن الله أذن فيه وأنه يحبه ويرضى
به ومجرد إقراره لهم قدرا لا يدل على ذلك عند أحد من العقلاء وإلا كان
الظلم والفواحش والسعي في الأرض بالفساد والبغي محبوبا له مرضيا ثم أخبر
سبحانه أن مستندهم في ذلك إنما هو الظن وهو أكذب الحديث وأنهم لذلك كانوا
أهل الخرص والكذب ثم أخبر سبحانه أن له الحجة عليهم من جهتين إحداهما ما
ركبّه فيهم من العقول التي يفرقون بها بين الحسن والقبيح والباطل والأسماع
والأبصار التي هي آلة إدراك الحق والتي يفرق بها بينه وبين الباطل والثانية
إرسال رسله وإنزال كتبه وتمكينهم من الإيمان والإسلام ولم يؤاخذهم بأحد
الأمرين بل بمجموعها لكمال عدله وقطعا لعذرهم من جميع الوجوه ولذلك سمى
حجته عليهم بالغة أي قد بلغت غاية البيان وأقصاه بحيث لم يبق معها مقال
لقائل ولا عذر لمعتذر ومن اعتذر إليه سبحانه بعذر صحيح قبله ثم ختم الآية
بقوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وأنه لا يكون شيء إلا
بمشيئته وهذا من تمام حجته البالغة فإنه إذا امتنع الشيء لعدم مشيئته لزم
وجوده عند مشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن كان هذا من أعظم أدلة
التوحيد ومن أبين أدلة بطلان ما أنتم عليه من الشرك واتخاذ الأنداد من دونه
فما احتججتم به من المشيئة على ما أنتم عليه من الشرك هو من
ص -127-
أظهر الأدلة على بطلانه وفساده فلو أنهم ذكروا القدر والمشيئة توحيدا له
وافتقارا والتجاء إليه وبراءة من الحول والقوة إلا به ورغبة إليه أن يقيلهم
مما لو شاء أن لا يقع منهم لما وقع لنفعهم ذلك ولفتح لهم باب الهداية ولكن
ذكروه معارضين به أمره ومبطلين به دعوة الرسل فما ازدادوا به إلا ضلالا
والمقصود أنه سبحانه قد فرق بين حجته ومشيئته وقد حكى أبو الحسن الأشعري في
مقالاته اتفاق أهل السنة والحديث على ذلك والذي حكى عنه ابن فورك في كتاب
تجريده لمقالاته أنه كان يفرق بين ذلك قال: "وكان لا يفرق بين الود والحب
والإرادة والمشيئة والرضا وكان لا يقول أن شيئا منها يخص بعض المردات دون
بعض بل كان يقول أن كل واحد منها بمعنى صاحبه على جهة التقييد الذي يزول
معه الإبهام وهو أن المؤمن محبوب لله أن يكون مؤمنا من أهل الخير كما علم
والكافر أيضا مراد أن يكون كافرا كما علم من أهل الشر ويحب أن يكون ذلك
كذلك كما علم وكذلك كان يقول في الرضا والاصطفاء والاختيار ويقيد اللفظ
بذلك حتى لا يتوهم فيه الخطأ" انتهى والذي عليه أهل الحديث والسنة قاطبه
والفقهاء كلهم وجمهور المتكلمين والصوفية أنه سبحانه يكره بعض الأعيان
والأفعال والصفات وإن كانت واقعة بمشيئته فهو يبغضها ويمقتها كما يبغض ذات
إبليس وذوات جنوده ويبغض أعمالهم ولا يحب ذلك وإن وجد بمشيئته قال الله
تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وقال: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ} وقال:: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}
وقال:: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا
مَنْ ظُلِمَ} وقال:: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ} وقال:: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ
وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} فهذا إخبار عن عدم محبته لهذه الأمور
ورضاه بها بعد وقوعها فهذا صريح في إبطال
قول من تأول النصوص على
أنه لا يحبها ممن لم تقع منه ويحبها إذا وقعت فهو يحبها ممن وقعت منه ولا
يحبها ممن لم تقع منه وهذا من أعظم الباطل والكذب على الله بل هو سبحانه
يكرهها ويبغضها قبل وقوعها وحال وقوعها وبعد وقوعها فإنها قبائح وخبائث
والله منزه عن محبة القبيح والخبيث بل هو أكره شيء إليه قال الله تعالى:
{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} وقد أخبر سبحانه
أنه يكره طاعات المنافقين ولأجل ذلك يثبطهم عنها فكيف يحب نفاقهم ويرضاه
ويكون أهله محبوبين له مصطفين عنده مرضيين ومن هذا الأصل الباطل نشأ قولهم
باستواء الأفعال بالنسبة إلى الرب سبحانه وأنها لا تنقسم في نفسها إلى حسن
وقبيح فلا فرق بالنسبة إليه سبحانه بين الشكر والكفر ولذلك قالوا لا يجب
شكره على نعمه عقلا فعن هذا الأصل قالوا أن مشيئته هي عين محبته وإن كل ما
شاءه فهو محبوب له ومرضى له ومصطفى ومختار فلم يمكنهم بعد تأصل هذا الأصل
أن يقولوا أنه يبغض الأعيان والأفعال التي خلقها ويحب بعضها بل كل ما فعله
وخلقه فهو محبوب له والمكروه المبغوض ما لم يشأه ولم يخلقه وإنما أصلوا هذا
الأصل محافظة منهم على القدر فحثوا به على الشرع والقدر والتزموا لأجله
لوازم شوشوا بها على القدر والحكمة وكابروا لأجلها صريح العقل وسووا بين
أقبح القبائح وأحسن الحسنات في نفس الأمر وقالوا هما سواء لا فرق بينهما
إلا بمجرد الأمر والنهي فالكذب عندهم والظلم والبغي والعدوان مساو للصدق
والعدل والإحسان في نفس الأمر ليس في هذا ما يقتضي حسنه ولا في هذا ما
يقتضي قبحه وجعلوا هذا المذهب شعارا لأهل السنة والقول بخلافه قول أهل
البدع من المعتزلة وغيرهم ولعمر الله أنه لمن أبطل الأقوال وأشدها منافاة
ص
-128- للعقل والشرع ولفطرة الله التي فطر عليها خلقه وقد بينا بطلانه من
أكثر من خمسين وجها في كتاب المفتاح والمقصود أنه لما انضم القول به إلى
القول بأنه سبحانه لا يحب شيئا ويبغض شيئا بل كل موجود فهو محبوب له وكل
معدوم فهو مكروه له وانضم إلى هذين الآخرين إنكار الحكم والغايات المطلوبة
في أفعاله سبحانه وأنه لا يفعل شيئا لمعنى ألبتة وانضم إلى ذلك إنكار
الأسباب وأنه لا يفعل شيئا بشيء وإنكار القوى والطبائع والغرائز وأن تكون
أسبابا أو يكون لها أثر انسد عليهم باب الصواب في مسائل القدر والتزموا
لهذه الأصول الباطلة لوازم هي أظهر بطلانا و فسادا و هي من أول شيء على
فساد هذه الأصول وبطلانها فإن فساد اللازم من فساد ملزومه فإن قيل الكراهة
والمحبة ترجع إلى المنافرة والملائمة للطبع وذلك محال في حق من لا يصف بطبع
ولا منافرة ولا ملائمة قيل قد دلت النصوص التي لا تدفع على وصفه تعالى
بالمحبة و الكراهة فتبينكم حقائق ما دلت عليه بالتعبير عنها بملائمة الطبع
ومنافرته باطل وهو كنفي كل مبطل حقائق أسمائه وصفاته بالتعبير عنها بعبارات
اصطلاحية توصل بها إلى نفي ما وصف به نفسه كتسمية الجهمية المعطلة صفاته
أعراضا ثم توصلوا بهذه التسمية إلى نفيها وسموا أفعاله القائمة به حوادث ثم
توصلوا بهذه التسمية إلى نفيها وقالوا لا تحله الحوادث كما قالت المعطلة
لا تقوم به الأعراض وسموا علوه على خلقه واستواءه على عرشه وكونه قاهرا فوق
عباده تحيزا وتجسما ثم توصلوا بنفي ذلك إلى نفي علوه عن خلقه واستوائه على
عرشه وسموا ما أخبر به عن نفسه من الوجه واليدين والأصبع جوارح وأعضاء ثم
نفوا ما أثبته لنفسه بتسميتهم له بغير تلك الأسماء: {إِنْ هِيَ
إِلاَّأَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّالظَّنَّ وَمَا
تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ
رَبِّهِمُ الْهُدَى}
فتوصلوا بالتشبيه والتجسيم والتركيب والحوادث والأعراض والتحيز إلى تعطيل
صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأخلوا تلك الأسماء من معانيها وعطلوها من
حقائقها فيقال لمن نفى محبته وكراهته لاستلزامهما ميل الطبع ونفرته ما
الفرق بينك وبين من نفى كونه مريدا لاستلزام الإرادة حركة النفس إلى جلب ما
ينفعها ودفع ما يضرها ونفى سمعه وبصره لاستلزام ذلك تأثر السمع والبصر
بالمسموع والمبصر وانطباع صورة المرئي في الرائي وحمل الهواء الصوت المسموع
إلى إذن السامع ومن نفى علمه لاستلزامه انطباع صورة المعلوم في النفس
الناطقة ونفي غضبه ورضاه لاستلزام ذلك حركة القلب وانفعاله بما يرد عليه من
المؤلم والسار ونفي كلامه لاستلزام الكلام محلا يقوم به ويظهر منه من شفة
ولسان ولهوات ولما لم يكن أحدا أقر بوجود رب العالمين طرد ذلك وقع في
التناقض ولا بد فإنه أي شيء أثبته لزمه فيه ما التزم كمن أثبت ما نفاه هو
من غير فرق البتة ولهذا قال الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة: "لا نزيل عن
الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين" والمقصود أنا لا نجحد محبته تعالى
لما يحبه وكراهته لما يكرهه لتسمية النفاة ذلك ملائمة ومنافرة وينبغي
التفطن لهذا الموضع فإنه من أعظم أصول الضلال فلا نسمي العرش حيزا ولا نسمي
الاستواء تحيزا ولا نسمي الصفات إعراضا ولا الأفعال حوادث ولا الوجه
واليدين والأصابع جوارح وأعضاء ولا إثبات صفات كماله التي وصف بها نفسه
تجسيما وتشبيها فنجني جنايتين عظيمتين جناية على اللفظ وجناية على المعنى
فنبدل الاسم ونعطل معناه ونظير هذا تسمية خلقه سبحانه لأفعال عباده وقضائه
السابق جبرا ولذلك أنكر أئمة ألسنة كالأوزاعي
ص -129- وسفيان الثوري
وعبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد وغيرهم هذا اللفظ قال الأوزاعي والزبيدي:
"ليس في الكتاب والسنة لفظ جبر وإنما جاءت السنة بلفظ الجبر كما في الصحيح
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأشج عبد القيس إن فيك خلقين يحبهما
الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم جبلت عليهما فقال: بل جبلت
عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على ما يحب" فأخبر النبي صلى الله عليه
وسلم أن الله جبله على الحلم والأناة وهما من الأفعال الاختيارية وإن كانا
خلقين قائمين بالعبد فإن من الأخلاق ما هو كسبي ومنها ما لا يدخل تحت الكسب
والنوعان قد جبل الله العبد عليهما وهو سبحانه يهب ما جبل عبده عليه من
محاسن الأخلاق ويكره ما جبله عليه من مساويها فكلاهما بجبله وهذا محبوب له
وهذا مكروه كما أن جبريل صلوات الله عليه مخلوق له وإبليس عليه لعائن الله
مخلوق له وجبريل محبوب له مصطفى عنده وإبليس أبغض خلقه إليه ومما يوضح ذلك
أن لفظ الجبر لفظ مجمل فإنه يقال أجبر الأب ابنته على النكاح وجبر الحاكم
الرجل على البيع ومعنى هذا الجبر أكرهه عليه ليس معناه أنه جعله محبا لذلك
راضيا به مختارا له والله تعالى إذا خلق فعل العبد جعله محبا له مختارا
لإيقاعه راضيا به كارها لعدمه فإطلاق لفظ الجبر على ذلك فاسد لفظا ومعنى
فإن الله سبحانه أجل وأعز من أن يجبر عبده بذلك المعنى وإنما يجبر العاجز
عن أن يجعل غيره فاعلا بإرادته ومحبته ورضاه وأما من جعل فعل العبد مريدا
محبا مؤثرا لما يفعله فكيف يقال أنه جبره عليه فهو سبحانه أجل وأعظم وأقدر
من أن يجبر عبده ويكرهه على فعل يشاؤه منه بل إذا شاء من عبده أن يفعل فعلا
جعله قادرا عليه مريدا له محبا مختارا لإيقاعه وهو أيضا قادر على أن يجعله
فاعلا له باختياره مع كراهته له وبغضه ونفرته عنه فكل ما يقع من العباد
بإرادتهم ومشيئاتهم فهو سبحانه الذي جعلهم فاعلين له سواء أحبوه و أبغضوه
وكرهوه
وهو سبحانه لم يجبرهم في النوعين كما يجبر غيره من لا يقدر على جعله فاعلا
بإرادته ومشيئته نعم نحن لا ننكر استعمال لفظ الجبر فيما هو أعم من ذلك
بحيث يتناول من قهر غيره وقدر على جعله فاعلا لما يشاء فعله وتاركا لما لا
يشاء فعله فإنه سبحانه المحدث لإرادته له وقدرته عليه قال محمد بن كعب
القرطبي في اسم الجبار: "أنه سبحانه هو الذي جبر العباد على ما أراد" وفي
الدعاء المعروف عن علي رضي الله عنه: "اللهم داحي المدحوات وبارئ المسموكات
جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها" فالجبر بهذا المعنى معناه القهر
والقدرة وأنه سبحانه قادر على أن يفعل بعبده ما شاء وإذا شاء منه شيئا وقع
ولا بد وإن لم يشأ لم يكن ليس كالعاجز الذي يشاء ما لا يكون ويكون ما لا
يشاء والفرق بين هذا الجبر وجبر المخلوق لغيره من وجوه، أحدها أن المخلوق
لا قدرة له على جعل الغير مريدا للفعل محبا له والرب تعالى قادر على جعل
عبده كذلك، الثاني أن المخلوق قد يجبر غيره إجبارا يكون به ظالما معتديا
عليه والرب أعدل من ذلك فإنه لا يظلم أحدا من خلقه بل مشيئته نافذة فيهم
بالعدل والإحسان بل عدله فيهم من إحسانه إليهم كما سنبينه إن شاء الله
تعالى، الثالث أن المخلوق يكون في جبره لغيره سفيها أو عائبا أو جاهلا
والرب تعالى إذا جبر عبده على أمر من الأمور كان له في ذلك من الحكمة
والعدل والإحسان والرحمة ما هو محمود عليه بجميع وجوه الحمد، الرابع أن
المخلوق يجبر غيره لحاجته إلى ما جبره عليه ولانتفاعه بذلك وهذا لأنه فقير
بالذات وأما الرب تعالى فهو الغني بذاته الذي كل ما سواه محتاج إليه وليس
به حاجة إلى أحد، الخامس أن المخلوق يجبر غيره
ص -130- لنقصه فيجبره
ليحصل له الكمال بما أجبره عليه والرب له الكمال المطلق من جميع الوجوه
وكماله من لوازم ذاته لم يستفده من خلقه بل هو الذي أعطاهم من الكمال ما
يليق بهم فالمخلوق يجبر غيره ليتكمل والرب تعالى منزه عن كل نقص فكماله
المقدس ينفي الجبر، السادس أن المخلوق يجبر غيره على فعل يعينه به على غرضه
لعجزه عن التوصل إليه إلا بمعاونته له فصار الفعل من هذا والقهر والإكراه
من هذا محصلا لغرض المكره كما أن المعين لغيره باختياره شريك له في الفعل
والرب تعالى غني عما سواه بكل وجه فيستحيل في حقه الجبر، السابع أن المجبور
على ما لا يريد فعله يجد من نفسه فرقا ضروريا بينه وبين ما يريد فعله
باختياره ومحبته فالتسوية بين الأمرين تسوية بين ما علم بالحس والاضطرار
الفرق بينهما وهو كالتسوية بين حركة المرتعش وحركة الكاتب وهذا من أبطل
الباطل، الثامن أن الله سبحانه قد فطر العباد على أن المجبور المكره على
الفعل معذور لا يستحق الذم والعقوبة ويقولون قد أكره على كذا وجبره السلطان
عليه وكما أنهم مفطورون على هذا فهم مفطورون أيضا على ذم من فعل القبائح
باختياره وشريعته سبحانه موافقة لفطرته في ذلك فمن سوى بين الأمرين فقد خرج
عن موجب الشرع والعقل والفطرة، التاسع أن من أمر غيره بمصلحة المأمور وما
هو محتاج إليه ولا سعادة له ولا فلاح إلا به لا يقال جبره على ذلك وإنما
يقال نصحه وأرشده ونفعه وهداه ونحو ذلك وقد لا يختار المأمور المنهي ذلك
فيجبره الناصح له على ذلك من له ولاية الإجبار وهذا جبر الحق وهو جائز بل
واقع في شرع الرب وقدره وحكمته ورحمته وإحسانه لا نمنع هذا الجبر، العاشر
أن الرب ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فجعله العبد
فاعلا لقدرته ومشيئته واختياره أمر يختص به تبارك وتعالى والمخلوق لا يقدر
أن يجعل غيره فاعلا إلا بإكراهه له على ذلك فإن لم يكرهه لم يقدر على غير
الدعاء والأمر بالفعل
وذلك لا يصير العبد فاعلا فالمخلوق هو يجبر
غيره على الفعل ويكرهه عليه فنسبه ذلك إلى الرب تشبيه له في أفعاله
بالمخلوق الذي لا يجعل غيره فاعلا إلا بجبره له وإكراهه فكمال قدرته تعالى
وكمال علمه وكمال مشيئته وكمال عدله وإحسانه وكمال غناه وكمال ملكه وكمال
حجته على عبده تنفي الجبر.
فصل: فالطوائف كلها متفقة على الكسب ومختلفون
في حقيقته فقالت القدرية هو إحداث العبد لفعله بقدرته ومشيئته استقلالا
وليس للرب صنع فيه ولا هو خالق فعله ولا مكونه ولا مريدا له وقالت الجبرية
الكسب اقتران الفعل بالقدرة الحادثه من غير أن يكون لها فيه أمر وكلا
الطائفتين فرق بين الخلق والكسب ثم اختلفوا فيما وقع به الفرق فقال الأشعري
في عامة كتبه: "معنى الكسب أن يكون الفعل بقدرة محدثة فمن وقع منه الفعل
بقدرة قديمة فهو فاعل خالق ومن وقع منه بقدرة محدثة فهو مكتسب" وقال قائلون
من يفعل بغير آلة ولا جارحة فهو خالق ومن يحتاج في فعله إلى الآلات
والجوارح فهو مكتسب وهذا قول الإسكافي وطوائف من المعتزلة قال واختلفوا هل
يقال أن الإنسان فاعل على الحقيقة فقالت المعتزلة كلها إلا الناشئ: "أن
الإنسان فاعل محدث ومخترع ومنشئ على الحقيقة دون المجاز" وقال الناشئ:
"الإنسان لا يفعل في الحقيقة ولا يحدث في الحقيقة" وكان يقول: "أن البارئ
أحدث كسب الإنسان قال فلزمه محدث لا لمحدث في الحقيقة ومفعول لا لفاعل في
الحقيقة" قلت وجه إلزامه ذلك أنه قد أعطى أن الإنسان غير فاعل
ص
-131- لفعله وفعله مفعول وليس هو فعلا لله ولا فعلا للعبد فلزمه مفعول من
غير فاعل ولعمر الله أن هذا الإلزام لازم لأبي الحسن وللجبرية فإن عندهم
الإنسان ليس بفاعل حقيقة والفاعل هو الله وأفعال الإنسان قائمة لم تقم
بالله فإذا لم يكن الإنسان فاعلها مع قيامها به فكيف يكون الله سبحانه هو
فاعلها ولو كان فاعلها لعادت أحكامها عليه واشتقت له منها أسماء وذلك
مستحيل على الله فيلزمك أن تكون أفعالا لا فاعل لها فإن العبد ليس بفاعل
عندك ولو كان الرب فاعلا لها لاشتقت له منها أسماء وعاد حكمها عليه، فإن
قيل فما تقولون أنتم في هذا المقام، قلنا لا نقول بواحد من القولين بل نقول
هي أفعال للعباد حقيقة ومفعولة للرب فالفعل عندنا غير المفعول وهو إجماع
من أهل السنة حكاه الحسين بن مسعود البغوي وغيره فالعبد فعلها حقيقة والله
خالقه وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة وخالق فاعليته وسر المسألة أن
العبد فاعل منفعل باعتبارين هل هو منفعل في فاعليته فربه تعالى هو الذي
جعله فاعلا بقدرته ومشيئته وأقدره على الفعل وأحدث له المشيئة التي يفعل
بها قال الأشعري وكثير من أهل الإثبات يقولون: "أن الإنسان فاعل في الحقيقة
بمعنى مكتسب" ويمنعون أنه محدث قلت هؤلاء وقفوا عند ألفاظ الكتاب والسنة
فإنهما مملوآن من نسبة الأفعال إلى العبد باسمها العام وأسمائها الخاصة
فالاسم العام كقوله تعالى: {تَعْمَلُونَ}: {تَفْعَلُونَ}: {تَكْسِبُونَ}
والأسماء الخاصة: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ}: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}:
{وَيُؤْمِنُونَ}: {وَيَخَافُونَ}: {يَتُوبُونَ}: {يُجَاهِدُونَ} وأما لفظ
الإحداث فلم يجيء إلا في الذم كقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من أحدث
حدثا أو آوى محدثا" فهذا ليس بمعنى الفعل والكسب وكذلك قول عبد الله بن
مغفل لابنه: "إياك والحدث في الإسلام" ولا يمتنع إطلاقه على فعل الخير مع
التقييد قال بعض السلف: "إذا أحدث الله لك نعمة
فأحدث لها شكرا وإذا
أحدثت ذنبا فأحدث له توبة" ومنه قوله هل أحدثت توبة وأحدث للذنب استغفارا
ولا يلزم من ذلك إطلاق اسم المحدث عليه والإحداث على فعله قال الأشعري
وبلغني أن بعضهم أطلق في الإنسان أنه محدث في الحقيقة بمعنى مكتسب قلت ههنا
ألفاظ وهي فاعل وعامل ومكتسب وكاسب وصانع ومحدث وجاعل ومؤثر ومنشئ وموجد
وخالق وبارئ ومصور وقادر ومريد وهذه الألفاظ ثلاثة أقسام قسم لم يطلق إلا
على الرب سبحانه كالبارئ والبديع والمبدع وقسم لا يطلق إلا على العبد
كالكاسب والمكتسب وقسم وقع إطلاقه على الرب والعبد كاسم صانع وفاعل وعامل
ومنشئ ومريد وقادر وأما الخالق والمصور فإن استعملا مطلقين غير مقيدين لم
يطلقا إلا على الرب كقوله الخالق البارئ المصور وإن استعملا مقيدين أطلقا
على العبد كما يقال لمن قدر شيئا في نفيه أنه خلقه قال:
ولأنت تفري ما
خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفر
أي لك قدرة تمضي وتنفذ بها ما قدرته في
نفسك وغيرك يقدر أشياء وهو عاجز عن إنفاذها وإمضائها وبهذا الاعتبار صح
إطلاق خالق على العبد في قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ} أي أحسن المصورين والمقدرين والعرب تقول قدرت الأديم وخلقته
إذا قسته لتقطع منه مزادة أو قربة ونحوها قال مجاهد: "يصنعون ويصنع الله
والله خير الصانعين" وقال الليث: "رجل خالق أي صانع وهن الخالقات للنساء"
وقال مقاتل: "يقول تعالى هو أحسن خلقا من الذين يخلقون التماثيل وغيرها
التي لا يتحرك منها شيء وأما البارئ فلا يصح إطلاقه إلا عليه سبحانه فإنه
الذي برأ الخليقة وأوجدها بعد عدمها
ص -132- والعبد لا تتعلق قدرته
بذلك إذ غاية مقدوره التصرف في بعض صفات ما أوجده الرب تعالى وبراه
وتغييرها من حال إلى حال على وجه مخصوص لا تتعداه قدرته ليس من هذا بريت
القلم لأنه معتل لا مهموز ولا برأت من المرض لأنه فعل لازم غير متعد وكذلك
مبدع الشيء وبديعه لا يصح إطلاقه إلا على الرب كقوله: {بَدِيعُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} والإبداع إيجاد المبدع على غير مثال سبق والعبد
يسمى مبتدعا لكونه أحدث قولا لم تمض به سنة ثم يقال لمن اتبعه عليه مبتدع
أيضا وأما لفظ الموجد فلم يقع في أسمائه سبحانه وإن كان هو الموجد على
الحقيقة ووقع في أسمائه الواجد وهو بمعنى الغنى الذي له الوجد وأما الموجد
فهو مفعل من أوجد وله معنيان أحدهما: أن يجعل الشيء موجودا وهو تعدية وجده
وأوجده قال الجوهري: "وجد الشيء عن عدم فهو موجد مثل حم فهو محموم" وأوجده
الله ولا يقال وجدوه والمعنى الثاني: أوجده جعل له جدة وغنى وهذا يتعدى إلى
مفعولين قال في الصحاح: "أوجده الله مطلوبه أي أظفره به وأوجده أي أغناه"
قلت وهذا يحتمل أمرين أحدهما: أن يكون من باب حذف أحد المفعولين أي أوجده
مالا وغنى وأن يكون من باب صيره واجدا مثل أغناه وأفقره إذا صيره غنيا
وفقيرا فعلى التقدير الأول يكون تعديه وجد مالا وغنى وأوجده الله إياه وعلى
الثاني يكون تعديه وجد وجدا إذا استغنى ومصدر هذا الوجد بالضم والفتح
والكسر قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ
وُجْدِكُمْ} فغير ممتنع أن يطلق على من يفعل بالقدرة المحدثة أنه أوجد
مقدوره كما يطلق عليه أنه فعله وعمله وصنعه وأحدثه لا على سبيل الاستقلال
وكذلك لفظ المؤثر لم يرد إطلاقه في أسماء الرب وقد وقع إطلاق الأثر
والتأثير! على فعل العبد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى
وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} قال ابن عباس: "ما أثروا من خير أو
شر فسمى ذلك آثارا لحصوله بتأثيرهم" ومن
العجب أن المتكلمين يمتنعون
من إطلاق التأثير والمؤثر على من أطلق عليه في القرآن والسنة كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة: "دياركم تكتب آثاركم" أي الزموا
دياركم ويخصونه بمن لم يقع إطلاقه عليه في كتاب ولا سنة وإن استعمل في حقه
الإيثار والاستئثار كما قال أخو يوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ
عَلَيْنَا} وفي الأثر: "إذا استأثر الله بشيء فاله عنه" وقال الناظم:
استأثر
الله بالثناء وبالحمد وولى الملامة الرجلا
ولما كان التأثير تفعيلا من
أثرت في كذا تأثير فأنا مؤثر لم يمتنع إطلاقه على العبد قال في الصحاح
التأثير إبقاء الأثر في الشيء وأما لفظ الصانع فلم يرد في أسماء الرب
سبحانه ولا يمكن ورودها فإن الصانع من صنع شيئا عدلا كان أو ظلما سفها أو
حكمة جائزا أو غير جائز وما انقسم مسماه إلى مدح وذم لم يجئ اسمه المطلق في
الأسماء الحسنى كالفاعل والعامل والصانع والمريد والمتكلم لانقسام معاني
هذه الأسماء إلى محمود ومذموم بخلاف العالم والقادر والحي والسميع والبصير
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم العبد صانعا قال البخاري حدثنا علي بن
عبد الله ثنا مروان بن معاوية ثنا أبو مالك عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته" وقد أطلق
سبحانه على فعله اسم الصنع فقال: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ
شَيْءٍ} وهو منصوب على المصدر لأن قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ
تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} يدل على الصنعة
وقيل هو نصب على المفعولية أي انظروا صنع الله فعلى الأول يكون صنع الله
مصدرا بمعنى الفعل وعلى الثاني يكون
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ص -133- بمعنى المصنوع المفعول فإنه الذي يمكن وقوع النظر والرؤية عليه
وأما الإنشاء فإنما وقع إطلاقه عليه سبحانه فعلا كقوله: {وَيُنْشِئُ
السَّحَابَ الثِّقَالَ} وقوله: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ}
وقوله: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} وهو كثير ولم يرد لفظ
المنشئ وأما العبد فيطلق عليه الإنشاء باعتبار آخر وهو شروعه في الفعل
وابتداؤه له يقول أنشأ يحدثنا وأنشأ السير فهو منشأ لذلك وهذا إنشاء مقيد
وإنشاء الرب إنشاء مطلق وهذه اللفظة تدور على معنى الابتداء أنشأه الله أي
ابتدأ خلقه وأنشأ يفعل كذا ابتداء وفلان ينشئ الأحاديث أي يبتدئ وضعها
والناشئ أول ما ينشأ من السحاب قال الجوهري: "وناشئة الليل أول ساعاته" قلت
هذا قد قاله غير واحد من السلف إن ناشئة الليل أوله التي منها ينشأ الليل
والصحيح أنها لا تختص بالساعة الأولى بل هي ساعاته ناشئة بعد ناشئة كلما
انقضت ساعة نشأت بعدها أخرى وقال أبو عبيدة: "ناشئة الليل ساعاته وآناؤه
ناشئة بعد ناشئة" قال الزجاج: "ناشئة الليل كلما نشأ منه أي حدث منه فهو
ناشئة" قال ابن قتيبة: "هي آناء الليل وساعاته" مأخوذة من نشأت تنشأ نشأ أي
ابتدأت وأقبلت شيئا بعد شيء وأنشأها الله فنشأت والمعنى أن ساعات الليل
الناشئة وقول صاحب الصحاح منقول عن كثير من السلف قال علي بن الحسين:
"ناشئة الليل ما بين المغرب إلى العشاء" وهذا قول أنس وثابت وسعيد بن جبير
والضحاك والحكم واختيار الكسائي قالوا: "ناشئة الليل أوله" وهؤلاء راعوا
معنى الأولية في الناشة وفيها قول ثالث أن الليل كله ناشئة وهذا قول عكرمة
وأبي مجلز ومجاهد والسدي وابن الزبير وابن عباس في رواية قال ابن أبي مليكة
سألت ابن الزبير وابن عباس عن ناشئة الليل فقالا: "الليل كله ناشئة" فهذه
أقوال من جعل ناشئة الليل زمانا وأما من جعلها فعلا ينشأ بالليل فالناشئة
عندهم اسم لما يفعل بالليل من القيام وهذا قول ابن
مسعود ومعاوية بن
قرة وجماعة قالوا: "ناشئة الليل قيام الليل" وقال آخرون منهم عائشة إنما
يكون القيام ناشئة إذا تقدمه نوم قالت عائشة: "ناشئة الليل القيام بعد
النوم" وهذا قول ابن الأعرابي قال: "إذا نمت من أول الليل نومة ثم قمت فتلك
النشأة" ومنه ناشئة الليل فعلى قول الأولين ناشئة الليل بمعنى من إضافة
نوع إلى جنسه أي ناشئة منه وعلى قول هؤلاء إضافة بمعنى في أي طاعة ناشئة
فيه والمقصود أن الإنشاء ابتداء سواء تقدمه مثله كالنشأة الثانية أو لم
يتقدمه كالنشأة الأولى وأما الجعل فقد أطلق على الله سبحانه بمعنيين
أحدهما: الإيجاد والخلق والثاني: التصيير فالأول يتعدى إلى مفعول كقوله
وجعلنا الظلمات والنور والثاني: أكثر ما يتعدى إلى مفعولين كقوله: {إِنَّا
جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} وأطلق على العبد بالمعنى الثاني خاصة
كقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ
نَصِيباً} وغالب ما يستعمل في حق العبد في جعل التسمية والاعتقاد حيث لا
يكون له صنع في المجعول كقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ
عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً} وهذا
يتعدى إلى واحد وهو جعل اعتقاد وتسمية وأما الفعل والعمل فإطلاقه على العبد
كثير: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ}: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وأطلقه على نفسه فعلا واسما
فالأول كقوله: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} والثاني كقوله: {فَعَّالٌ
لِمَا يُرِيدُ} وقوله: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} في موضعين من كتابه أحدهما
قوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ
وَكُنَّا فَاعِلِينَ} والثاني قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ
السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ
خَلْقٍ نُعِيدُهُ
وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} فتأمل قوله كنا فاعلين في
هذين الموضعين
ص -134- المتضمن للصنع العجيب الخارج عن العادة كيف
تجده كالدليل على ما أخبر به وأنه لا يستعصي على الفاعل حقيقة أي شأننا
الفعل كما لا يخفى الجهر والإسرار بالقول على من شأنه العلم والخبرة ولا
تصعب المغفرة على من شأنه أن يغفر الذنوب ولا الرزق على من شأنه أن يرزق
العباد وقد وقع الزجاج على هذا المعنى بعينه فقال: "وكنا فاعلين قادرين على
فعل ما نشاء".
شفاء العليل
الباب الثامن عشر: في فعل وافعل
في القضاء والقدر وذكر الفعل والانفعال
الباب الثامن عشر: في فعل وافعل
في القضاء والقدر والكسب وذكر الفعل والانفعال
ينبغي الاعتناء بكشف هذا
الباب وتحقيق معناه فبذلك ينحل عن العبد أنواع من ضلالات القدرية والجبرية
حيث لم يعطوا هذا الباب حقه من العرفان، اعلم أن الرب سبحانه فاعل غير
منفعل والعبد فاعل منفعل وهو في فاعليته منفعل للفاعل الذي لا ينفعل بوجه
فالجبرية شهدت كونه منفعلا يجري عليه الحكم بمنزلة الآلة والمحل وجعلوا
حركته بمنزلة حركات الأشجار ولم يجعلوه فاعلا إلا على سبيل المجاز فقام
وقعد وأكل وشرب وصلى وصام عندهم بمنزلة مرض وألم ومات ونحو ذلك مما هو فيه
منفعل محض والقدرية شهدت كونه فاعلا محضا غير منفعل في فعله وكل من
الطائفتين نظر بعين عوراء وأهل العلم والاعتدال أعطوا كلا المقامين حقه ولم
يبطلوا أحد الأمرين بالآخر فاستقام لهم نظرهم ومناظرتهم واستقر عندهم
الشرع والقدر في نصابه ومهدوا وقوع الثواب والعقاب على من هو أولى به
فأثبتوا نطق العبد حقيقة وإنطاق الله له حقيقة قال تعالى: {وَقَالُوا
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ
الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} فالإنطاق فعل الله الذي لا يجوز تعطيله
والنطق فعل العبد الذي لا يمكن إنكاره كما قال تعالى: {فَوَرَبِّ
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}
فعلم أن كونهم ينطقون هو أمر حقيقي حتى شبه به في تحقيق كون ما أخبر به وأن
هذا حقيقة لا مجاز ومن جعل إضافة نطق العبد إليه مجازا لم يكن ناطقا عنده
حقيقه فلا يكون التشبيه بنطقه محققا لما أخبر به فتأمله ونظير هذا قوله
تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} فهو المضحك المبكي حقيقة
والعبد الضاحك الباكي حقيقة كما قال تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً
وَلْيَبْكُوا كَثِيراً}
وقال: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ
تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} فلولا المنطق الذي أنطق والمضحك
المبكي الذي أضحك وأبكى لم يوجد ناطق ولا ضاحك ولا باك فإذا أحب عبدا
أنطقه بما يحب وأثابه عليه وإذا أبغضه أنطقه بما يكرهه فعاقبه عليه وهو
الذي أنطق هذا وهذا وأجرى ما يحب على لسان هذا وما يكره على لسان هذا كما
أنه أجرى على قلب هذا ما أضحكه وعلى قلب هذا ما أبكاه وكذلك قوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وقوله: {قُلْ
سِيرُوا فِي الأَرْضِ} فالتسيير فعله حقيقة والسير فعل العبد حقيقة
فالتسيير فعل محض والسير فعل وانفعال ومن هذا قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى
زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} فهو سبحانه المزوج ورسوله المتزوج
وكذلك قوله: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} فهو المزوج وهم المتزوجون
وقد جمع سبحانه بين الأمرين في قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ
قُلُوبَهُمْ} فالإزاغة فعله والزيغ فعلهم فإن قيل أنتم قررتم أنه لم يقع
منهم الفعل إلا بعد فعله وأنه لولا إنطاقه لهم وإضحاكه وإبكاؤه لما نطقوا
ولا ضحكوا ولا بكوا وقد دلت هذه الآية على أن فعله بعد فعلهم وأنه أزاغ
قلوبهم بعد أن
ص -135- زاغوا وهذا يدل على أن إزاغة قلوبهم هو حكمه
عليها بالزيغ لا جعلها زائغة وكذلك قوله أنطقنا الله المراد جعل لنا آلة
النطق وأضحك وأبكى جعل لهم آلة الضحك والبكاء قيل أما الإزاغة المترتبة على
زيغهم فهي إزاغة أخرى غير الإزاغة التي زاغوا بها أولا عقوبة لهم على
زيغهم والرب تعالى يعاقب على السيئة بمثلها كما يثيب على الحسنة بمثلها
فحدث لهم زيغ آخر غير الزيغ الأول فهم زاغوا أولا فجازاهم الله بإزاغة فوق
زيغهم، فإن قيل فالزيغ الأول من فعلهم وهو مخلوق لله فيهم على غير وجه
الجزاء وإلا تسلسل الأمر، قيل بل الزيغ الأول وقع جزاء لهم وعقوبة على
تركهم الإيمان والتصديق لما جاءهم من الهدى وهذا الترك أمر عدمي لا يستدعي
فاعلا فإن تأثير الفاعل إنما هو في الوجود لا في العدم، فإن قيل فهذا الترك
العدمي له سبب أو لا سبب له، قيل سببه عدم سبب ضده فبقي على العدم الأصلي
ويشبه هذا قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ
أَنْفُسَهُمْ} عاقبهم على نسيانهم له بأن أنساهم أنفسهم فنسوا مصالحها أن
يفعلوها وعيوبها أن يصلحوها وحظوظها أن يتناولوها ومن أعظم مصالحها وأنفع
حظوظها ذكرها لربها وفاطرها وهي لا نعيم لها ولا سرور ولا فلاح ولا صلاح
إلا بذكره وحبه وطاعته والإقبال عليه والإعراض عما سواه فأنساهم ذلك لما
نسوه وأحدث لهم هذا النسيان نسيانا آخر وهذا ضد حال الذين ذكروه ولم ينسوه
فذكرهم مصالح نفوسهم ففعلوها وأوقفهم على عيوبها فأصلحوها وعرفهم حظوظها
العالية فبادروا إليها فجازى أولئك على نسيانهم بأن أنساهم الإيمان ومحبته
وذكره وشكره فلما خلت قلوبهم من ذلك لم يجدوا عن ضده محيصا وهذا يبين لك
كمال عدله سبحانه في تقدير الكفر والذنوب عليها وإذا كان قضاؤه عليها
بالكفر والذنوب عدلا منه عليها فقضاؤه عليها بالعقوبة أعدل وأعدل فهو
سبحانه ماض في عبده حكمه عدل فيه قضاؤه وله فيها قضاآن قضاء السبب
وقضاء
المسبب وكلاهما عدل فيه فإنه لما ترك ذكره وترك فعل ما يحبه عاقبه بنسيان
نفسه فأحدث له هذا النسيان ارتكاب ما يبغضه ويسخطه بقضائه الذي هو عدل
فترتب له على هذا الفعل والترك عقوبات وآلام لم يكن له منها بد بل هي
مترتبة عليه ترتب المسببات على أسبابها فهو عدل محض من الرب تعالى فعدل في
العبد أولا وآخرا فهو محسن في عدله محبوب عليه محمود فيه يحمده من عدل فيه
طوعا وكرها قال الحسن: "لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه
سبيلا" وستزيد هذا الموضع بسطا وبيانا في باب دخول الشر في القضاء الإلهي
إن شاء الله إذ المقصود ههنا بيان كون العبد فاعلا منفعلا والفرق في هذا
الباب بين فعل وافعل وأن الله سبحانه أفعل والعبد فعل فهو الذي أقام العبد
وأضله وأماته والعبد هو الذي قام وضل ومات وأما قولكم أن معنى أنطقه وأضحكه
وأبكاه جعل له آلة ينطق بها ويضحك ويبكي فإعطاؤه الآلة وحدها لا يكفي في
صدق الفعل بأنه أنطقه وأضحكه فلو أن رجلا صمت يوما كاملا فحلف حالف أن الله
أنطقه لكان كاذبا حانثا ولو دعوت كافرين إلى الإسلام فنطق أحدهما بكلمة
الشهادة وسكت الآخر لم يقل أحد قط إن الله قد أنطق الساكت كما أنطق المتكلم
وكلاهما قد أعطى آلة النطق ومتعلق الأمر والنهي والثواب والعقاب الفعل لا
الأفعال، فإن قيل هل تطردون هذا في جميع أفعال العبد من كفره وزناه وسرقته
فتقولون أن الله أفعله وهو الذي فعل أو تخصون ذلك ببعض الأفعال فيظهر
تناقضكم، قيل ههنا أمران أمر لغوي وأمر معنوي فأما اللغوي فإن ذلك لا يطرد
في لغة
ص -136- العرب لا يقولون أزنى الله الرجل وأسرقه وأشربه
وأقتله إذا جعله يزني ويسرق ويشرب ويقتل وإن كان في لغتها أقامه وأقعده
وأنطقه وأضحكه وأبكاه وأضله وقد يأتي هذا مضاعفا كفهمه وعلمه وسيره وقال
تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} فالتفهيم منه سبحانه والفهم من نبيه
سليمان وكذلك قوله: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} فالتعليم منه
سبحانه وكذلك التسيير والسير والتعلم من العبد فهذا المعنى ثابت في جميع
الأفعال فهو سبحانه هو الذي جعل العبد فاعلا كما قال: {وَجَعَلْنَاهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ} فهو سبحانه الذي جعل أئمة الهدى يهدون بأمره وجعل أئمة
الضلال والبدع يدعون إلى النار فامتناع إطلاق أكلمه فتكلم لا يمنع من إطلاق
أنطقه فنطق وكذلك امتناع إطلاق أهداه بأمره وادعاه إلى النار لا يمنع من
إطلاق جعله يهدي بأمره ويدعو إلى النار، فإن قيل ومع ذلك كله هل تقولون أن
الله سبحانه هو الذي جعل الزانيين يزنيان وهو الذي جمع بينهما على الفعل
وساق أحدهما إلى صاحبه، قيل أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة
التي تشتمل على حق وباطل فيطلقها من يريد حقها فينكرها من يريد باطلها فيرد
عليه من يريد حقها وهذا باب إذا تأمله الذكي الفطن رأى منه عجائب وخلصه من
ورطات تورط فيها أكثر الطوائف فالجعل المضاف إلى الله سبحانه يراد به
الجعل الذي يحبه ويرضاه والجعل الذي قدره وقضاه قال الله: {مَا جَعَلَ
اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} فهذا
نفي لجعله الشرعي الديني أي ما شرع ذلك ولا أمر به ولا أحبه ورضيه وقال
تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} فهذا جعل
كوني قدري أي قدرنا ذلك وقضيناه وجعل العبد إماما يدعو إلى النار أبلغ من
جعله يزني ويسرق ويقتل وجعله كذلك أيضا لفظ مجمل يراد به أنه جبره
وأكرهه
عليه واضطره إليه وهذا محال في حق الرب تعالى وكماله المقدس يأبى ذلك
وصفات كماله تمنع منه كما تقدم ويراد به أنه مكنه من ذلك وأقدره عليه من
غير أن يضطره إليه ولا أكرهه ولا أجبره فهذا حق ،فإن قيل هذا كله عدول عن
المقصود فمن أحدث معصية وأوجدها وأبرزها من العدم إلى الوجود، قيل الفاعل
لها هو الذي أوجدها وأحدثها وأبرزها من العدم إلى الوجود بأقدار الله له
على ذلك وتمكينه منه من غير إلجاء له ولا اضطرار منه إلى فعلها، فإن قيل
فمن الذي خلقها إذا، قيل لكم ومن الذي فعلها فإن قلتم الرب سبحانه هو
الفاعل للفسوق والعصيان أكذبكم العقل والفطرة وكتب الله المنزلة وإجماع
رسله وإثبات حمده وصفات كماله فإن فعله سبحانه كله خير وتعالى أن يفعل شرا
بوجه من الوجوه فالشر ليس إليه والخير هو الذي إليه ولا يفعل إلا خيرا ولا
يريد إلا خيرا ولو شاء لفعل غير ذلك ولكنه تعالى تنزه عن فعل مالا ينبغي
وإرادته ومشيئته كما هو منزه عن الوصف به والتسمية به، وإن قلتم العبد هو
الذي فعلها بما خلق فيه من الإرادة والمشيئة، قيل فالله سبحانه خالق أفعال
العباد كلها بهذا الاعتبار ولو سلك الجبري مع القدري هذا المسلك لاستراح
معه وأراحه وكذلك القدري معه ولكن انحرف الفريقان عن سواء السبيل كما قال:
سارت
مشرقة وسرت مغربا شتان بين مشرق ومغرب
فإن قيل فهل يمكنه الامتناع منها
وقد خلقت فيه نفسها أو أسبابها الموجبة لها وخلق السبب الموجب خلق لمسببه
وموجبه قيل هذا السؤال يورد على وجهين أحدهما أن يراد به أنه يصير مضطرا
إليها
ص -137- ملجأ إلى فعلها بخلقها أو خلق أسبابها بحيث لا يبقى له
اختيار في نفسه ولا إرادة وتبقى حركته قسرية لا إرادية الثاني أنه هل
لاختياره وإرادته وقدرته تأثير فيها أو التأثير لقدرة الرب ومشيئته فقط
وذلك هو السبب الموجب للفعل فإن أوردتموه على الوجه الأول فجوابه أنه يمكنه
أن يفعل وأن لا يفعل ولا يصير مضطرا ملجأ بخلقها فيه ولا بخلق أسبابها
ودواعيها فإنها إنما خلقت فيه على وجه يمكنه فعلها وتركها ولو لم يمكنه
الترك لزم اجتماع النقيضين وأن يكون مريدا غير مريد فاعلا غير فاعل ملجأ
غير ملجأ وأن أوردتموه على الوجه الثاني فجوابه أن لإرادته واختياره وقدرته
أثرا فيها وهي السبب الذي خلقها الله به في العبد فقولكم أنه لا يمكنه
الترك مع الاعتراف بكونه متمكنا من الفعل جمع بين النقيضين فإنه إذا تمكن
من الفعل كان الفعل اختياريا إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله فكيف يصح أن
يقال لا يمكنه ترك الفعل الاختياري الممكن هذا خلف من القول وحقيقة الأمر
أنه يمكنه الترك لو أراده لكنه لا يريده فصار لازما بالإرادة الجازمة، فإن
قيل فهذا يكفي في كونه مجبورا عليه، قيل هذا من أدل شيء على بطلان الجبر
فإنه إنما لزم بإرادته المنافية للجبر ولو كان وجوب الفعل بالإرادة يقتضي
الجبر لكان الرب تعالى وتقدس مجبورا على أفعاله لوجوبها بإرادته ومشيئته
وذلك محال، فإن قيل الفرق أن إرادة الرب تعالى من نفسه لم يجعله غيره مريدا
والعبد إرادته من ربه إذ هي مخلوقة له فإنه هو الذي جعله مريدا، قيل هذا
موضع اضطرب فيه الناس فسلكت فيه القدرية واديا وسلكت الجبرية واديا فقالت
القدرية العبد هو الذي يحدث إرادته وليست مخلوقة لله والله مكنه من إحداث
إرادته بأن خلقه كذلك وقالت الجبرية بل الله هو الذي يحدث إرادات العبد
شيئا بعد شيء فإحداث الإرادات فيه كإحداث لونه وطوله وقصره وسواده وبياضه
مما لا صنع له فيه البتة فلو أراد أن لا يريد لما أمكنه ذلك
وكان كما
لو أراد أن يكون طوله وقصره ولونه على غير ما هو عليه فهو مضطر إلى
الإرادة وكل إرادة من إراداته فهي متوقفة على مشيئة الرب لها بخصوصها فهي
مرادة له سبحانه كما هي معلومة مقدورة فلزمهم القول بالجبر من هذه الجهة
ومن جهة تفيهم أن يكون لإرادة العبد وقدرته أثر في الفعل، فإن قيل فأي واد
تسلكونه غير هذين الواديين وأي طريق تمرون فيها سوى هذين الطريقين، قيل نعم
ههنا طريقة ثالثة لم يسلكها الفريقان ولم يهتد إليها الطائفتان ولو حكمت
كل طائفة ما معها من الحق والتزمت لوازمه وطردته لساقها إلى هذه الطريق
ولأوقعها على المحجة المستقيمة فنقول وبالله التوفيق وهو المستعان وعليه
التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله، العبد بجملته مخلوق لله جسمه وروحه
وصفاته وأفعاله وأحواله فهو مخلوق من جميع الوجوه وخلق على نشأة وصفة يتمكن
بها من إحداث إرادته وأفعاله وتلك النشأة بمشيئة الله وقدرته وتكوينه فهو
الذي خلقه وكونه كذلك وهو لم يجعل نفسه كذلك بل خالقه وباريه جعله محدثا
لإرادته وأفعاله وبذلك أمره ونهاه وأقام عليه حجته وعرضه للثواب والعقاب
فأمره بما هو متمكن من إحداثه ونهاه عما هو متمكن من تركه ورتب ثوابه
وعقابه على هذه الأفعال والتروك التي مكنه منها وأقدره عليها وناطها به
وفطر خلقه على مدحه وذمه عليها مؤمنهم وكافرهم المقر بالشرائع منهم والجاحد
لها فكان مريدا شائيا بمشيئة الله له ولولا مشيئة الله أن يكون شائيا لكان
أعجز وأضعف من أن يجعل نفسه شائيا فالرب سبحانه أعطاه مشيئة وقدره وإرادة
وعرفه ما ينفعه وما يضره وأمره أن يجري مشيئته وإرادته
ص -138-
وقدرته في الطريق التي يصل بها إلى غاية صلاحه فإجراؤها في طريق هلاكه
بمنزلة من أعطى عبده فرسا يركبها وأوقفه على طريق نجاة وهلكة وقال أجرها في
هذه الطريق فعدل بها إلى الطريق الأخرى وأجراها فيها فغلبته بقوة رأسها
وشدة سيرها وعز عليه ردها عن جهة جريها وحيل بينه وبين إدارتها إلى ورائها
مع اختيارها وإرادتها فلو قلت كان ردها عن طريقها ممكنا له مقدورا أصبت وإن
قلت لم يبق في هذه الحال بيده من أمرها شيء ولا هو متمكن أصبت بل قد حال
بينه وبين ردها من يحول بين المرء وقلبه ومن يقلب أفئدة المعاندين وأبصارهم
وإذا أردت فهم هذا على الحقيقة فتأمل حال من عرضت له سورة بارعة الجمال
فدعاه حسنها إلى محبتها فنهاه عقله وذكره ما في ذلك من التلف والعطب وأراه
مصارع العشاق عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه فعاد يعاود النظر
مرة مرة ويحث نفسه على التعلق وقوة الإرادة ويحرض على أسباب المحبة ويدني
الوقود من النار حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ورمت بشررها وقد أحاطت به طلب
الخلاص قال له القلب هيهات لات حين مناص وأنشده:
تولع بالعشق حتى عشق
فلما استقل به لم يطق
رأى لجة ظنها موجة فلما تمكن منها غرق
فكان
الترك أولا مقدورا له لما لم يوجد السبب التام والإرادة الحازمة الموجبة
للفعل فلما تمكن الداعي واستحكمت الإرادة قال المحب لعاذله:
يا عاذلي
والأمر في يده هلا عذلت وفي يدي الأمر
فكان أول الأمر إرادة واختيار
ومحبة ووسطه اضطرارا وآخره عقوبة وبلاء ومثل هذا برجل ركب فرسا لا يملكه
راكبه ولا يتمكن من رده وأجراه في طريق ينتهي به إلى موضع هلاك فكان الأمر
إليه قبل ركوبها فلما توسطت به الميدان خرج الأمر عن يده فلما وصلت به إلى
الغاية حصل على الهلاك ويشبه هذا حال السكران الذي قد زال عقله إذا جني
عليه في حال سكره لم يكن معذورا لتعاطيه السبب اختيارا فلم يكن معذورا بما
ترتب عليه اضطرارا وهذا مأخذ من أوقع طلاقه من الأئمة ولهذا قالوا إذا زال
عقله بسبب يعذر فيه لم يقع طلاقه فجعلوا وقوع الطلاق عليه من تمام عقوبته
والذين لو يوقعوا الطلاق قولهم أفقه كما أفتى به عثمان بن عفان ولم يعلم له
في الصحابة مخالف ورجع عليه الإمام أحمد واستقر عليه قوله فإن الطلاق ما
كان عن وطر والسكران لا وطر له في الطلاق وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم
بعدم عدم الطلاق في حال الغلق والسكر من الغلق كما أن الإكراه والجنون من
الغلق بل قد نص الإمام أحمد وأبو عبيد وأبو داود على أن الغضب إغلاق وفسر
به الإمام أحمد الحديث في رواية أبي طالب وهذا يدل على أن مذهبه أن طلاق
الغضبان لا يقع وهذا هو الصحيح الذي يفتى به إذا كان الغضب شديدا قد أغلق
عليه قصده فإنه يصير بمنزلة السكران والمكره بل قد يكونان أحسن حالا منه
فإن العبد في حال شدة غضبه يصدر منه ما لا يصدر من السكران من الأقوال
والأفعال وقد أخبر الله سبحانه أنه لا يجيب دعاءه على نفسه وولده في هذا
الحال ولو أجابه لقضى إليه أجله وقد عذر سبحانه من اشتد به الفرح بوجود
راحلته في الأرض المهلكة بعدما يأس منها فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك ولم
يجعله بذلك كافرا لأنه أخطأ بهذا القول من شدة الفرح فكمال
ص -139-
رحمته وإحسانه وجوده يقتضي أن لا يؤاخذ من اشتد غضبه بدعائه على نفسه وأهله
وولده ولا بطلاقه لزوجته وأما إذا زال عقله بالغضب فلم يعقل ما يقول فإن
الأمة متفقة على أنه لا يقع طلاقه ولا عتقه ولا يكفر بما يجري على لسانه من
كلمة الكفر
شفاء العليل
الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة بين
جبري وسني
الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة جرت بين جبري وسني جمعهما
مجلس مذاكرة
قال الجبري: القول بالجبر لازم لصحة التوحيد ولا يستقيم
التوحيد إلا به لأنا إن لم نقل بالجبر أثبتنا فاعلا للحوادث مع الله إن شاء
فعل وإن شاء لم يفعل وهذا شرك ظاهر لا يخلص منه إلا القول بالجبر قال
السني: بل القول بالجبر مناف للتوحيد ومع منافاته للتوحيد فهو مناف للشرائع
ودعوة الرسل والثواب والعقاب فلو صح الجبر لبطلت الشرائع وبطل الأمر
والنهي ويلزم من بطلان ذلك بطلان الثواب والعقاب قال الجبري: ليس من العجب
دعواك منافاة الجبر للأمر والنهي والثواب والعقاب فإن هذا لم يزل يقال
وإنما العجب دعواك منافاته للتوحيد وهو من أقوى أدلة التوحيد فكيف يكون
المصور للشيء المقوي له منافيا له قال السني: منافاته للتوحيد من أظهر
الأمور ولعلها أطهر من منافاته الأمر والنهي وبيان ذلك أن أصل عقد التوحيد
وإثباته هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والجبر ينافي
الكلمتين فإن الإله هو المستحق لصفات الكمال المنعوت بنعوت الجلال وهو الذي
تألهه القلوب وتصمد إليه بالحب والخوف والرجاء فالتوحيد الذي جاءت به
الرسل هو إفراد الرب بالتأله الذي هو كمال الذل والخضوع والانقياد له مع
كمال المحبة والإثابة وبذل الجهد في طاعته ومرضاته وإيثار محابه ومراده
الديني على محبة العبد ومراده فهذا أصل دعوة الرسل وإليه دعوا الأمم وهو
التوحيد الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه لا من الأولين ولا من الآخرين
وهو الذي أمر به رسله وأنزل به كتبه ودعا إليه عباده ووضع لهم دار الثواب
والعقاب لأجله وشرع الشرائع لتكميله وتحصيله وكان من قولك أيها الجبري أن
العبد لا قدرة له على هذا البتة ولا أثر له فيه ولا هو فعله وأمره بهذا أمر
له بما لا يطيق بل أمر له بإيجاد فعل الرب وأن الرب سبحانه أمره بذلك
وأجبره
على ضده وحال بينه وبين ما أمره به ومنعه منه وصده عنه ولم يجعل له إليه
سبيلا بوجه من الوجوه مع قولك أنه لا يحب ولا يحب فلا تتألهه القلوب
بالمحبة والود والشوق والطلب وإرادة وجهه والتوحيد معنى ينتظم من إثبات
الإلهية واثبات العبودية فرفعت معنى الإلهية بإنكار كونه محبوبا مودودا
تتنافس القلوب في محبته وإرادة وجهه والشوق إلى لقائه ورفعت حقيقة العبودية
بإنكار كون العبد فاعلا وعابدا ومحبا فإن هذا كله مجاز لا حقيقة له عندك
فضاع التوحيد بين الجبر وإنكار محبته وإرادة وجهه لا سيما والوصف الذي
وصفته به منفر للقلوب عنه حائل بينها وبين محبته فإنك وصفته بأنه يأمر عبده
بما لا قدرة له على فعله وينهاه عما لا يقدر على تركه بل يأمره بفعله هو
سبحانه وينهاه عن فعله هو سبحانه ثم يعاقبه أشد العقوبة على ما لم يفعله
البتة بل يعاقبه على أفعاله هو سبحانه وصرحت بأن عقوبته على ترك ما أمره
وفعل ما نهاه بمنزلة عقوبته على ترك طيرانه إلى السماء وترك تحويله للجبال
عن أماكنها ونقله مياه البحار عن مواضعها وبمنزلة عقوبته له على ما لا صنع
له فيه من لونه وطوله وقصره وصرحت بأنه يجوز عليه أن يعذب أشد العذاب لمن
لم يعصه طرفة عين وأن حكمته ورحمته
ص -140- لا تمنع ذلك بل هو جائز
عليه ولولا خبره عن نفسه بأنه لا يفعل ذلك لم ننزهه عنه وقلت أن تكليفه
عباده بما كلفهم بمنزلة تكليف الأعمى للكتابة والزمن للطيران فبغضت الرب
إلى من دعوته إلى هذا الاعتقاد ونفرته عنه وزعمت أنك تقرر بذلك توحيده وقد
قلعت شجرة التوحيد من أصلها وأما منافاة الجبر للشرائع فأمر ظاهر لا خفاء
به فإن مبنى الشرائع على الأمر والنهي وأمر الآمر لغيره بفعل نفسه لا بفعل
المأمور ونهيه عن فعله لا فعل المنهي عبث ظاهر فإن متعلق الأمر والنهي فعل
العبد وطاعته ومعصيته فمن لا فعل له كيف يتصور أن يوقعه بطاعة أو معصية
وإذا ارتفعت حقيقة الطاعة والمعصية ارتفعت حقيقة الثواب والعقاب وكان ما
يفعله الله بعباده يوم القيامة من النعيم والعذاب أحكاما جارية بمحض
المشيئة والقدرة لا أنها بأسباب طاعاتهم ومعاصيهم بل ههنا أمر آخر وهو أن
الجبر مناف للخلق كما هو مناف للأمر فإن الله سبحانه له الخلق والأمر وما
قامت السماوات إلا بعدله فالخلق قام بعدله وبعدله ظهر كما أن الأمر بعدله
وبعدله وجد فالعدل سبب وجود الخلق والأمر وغايته فهو علية الفاعلية الغائية
والجبر لا يجامع العدل ولا يجامع الشرع والتوحيد قال الجبري: لقد نطقت
أيها السني بعظيم وفهمت بكبير وناقضت بين متوافقين وخالفت بين متلازمين فإن
أدلة العقول والشرع المنقول قائمة على الجبر وما دل عليه العقل والنقل كيف
ينافي موجب العقل والشرع فاسمع الآن الدليل الباهر والبرهان القاهر على
الجبر ثم نتبعه بأمثال فنقول صدور الفعل عند حصول القدرة والداعي إما أن
يكون واجبا أولا يكون واجبا فإن كان واجبا كان فعل العبد اضطراريا وذلك عين
الجبر لأن حصول القدرة والداعي ليس بالعبد والإلزام التسلسل وهو ظاهر وإذا
كان كذلك فعند حصولهما يكون واجبا وعند عدم حصولهما يكون الفعل ممتنعا
فكان الجبر لازما لا محالة وأما إن لم يكن حصول الفعل عند حصول القدرة
والداعي واجبا
فإما أن يتوقف رجحان الفعل على رجحان الترك على مرجح
أولا يتوقف فإن توقف كان حصول ذلك الفعل عند حصول المرجح واجبا وإلا عاد
الكلام ولزم التسلسل وإذا كان واجبا كان اضطراريا وهو عين الجبر وإن لم
يتوقف على مرجح كان جائز الوقوع وجائز العدم فوقوعه بغير مرجح يستلزم حصول
الأثر بلا مؤثر وذلك محال، فإن قلت المرجح هو إرادة العبد، قلت لك إرادة
العبد حادثة والكلام في حدوثها كالكلام في حدوث المراد بها ويلزم التسلسل
قال السني: هذا أحد سهم في كنانتك وهو بحمد الله سهم لا ريش له ولا نصل مع
عوجه وعدم استقامته وأنا أستفسرك عما في هذه الحجة من الألفاظ المجملة
المستعملة على حق وباطل وأبين فسادها فما تعني بقولك إن كان الفعل عند
القدرة والداعي واجبا كان فعل العبد اضطراريا وهو عين الجبر أتعني به أن
يكون مع القدرة والداعي بمنزلة حركة المرتعش وحركة من نفضته الحمى وحركة من
رمي به من مكان عال فهو يتحرك في نزوله اضطرارا منه أم تعني به أن الفعل
عند اجتماع القدرة والداعي يكون لازم الوقوع بالقدرة فإن أردت بكونه
اضطراريا المعنى الأول كذبتك العقول والفطر والحس والعيان فإن الله فطر
عباده على التفريق بين حركة من رمي به من شاهق فهو يتحرك إلى أسفل وبين
حركة من يرقى في الجبل إلى علوه وبين حركة المرتعش وبين حركة المصفق وبين
حركة الزاني والسارق والمجاهد والمصلي وحركة المكتوف الذي قد أوثق رباطا
وجر على الأرض فمن سوى بين الحركتين فقد خلع ربقة العقل والفطرة
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ص -141- والشرعة من عنقه وإن أردت المعنى الثاني وهو كون العقل لازم
الوجود عند القدرة والداعي كان لازم الوجود وهذا لا فائدة فيه وكونه لازما
وواجبا بهذا المعنى لا ينافي كونه مختارا مرادا له مقدورا له غير مكره عليه
ولا مجبور فهذا الوجوب واللزوم لا ينافي الاختيار ثم نقول لو صحت هذه
الحجة لزم أن يكون الرب سبحانه مضطرا على أفعاله مجبورا عليها بمعنى ما
ذكرت من مقدماتها وأنه سبحانه يفعل بقدرته ومشيئته وما ذكرت من وجوب الفعل
عند القدرة والداعي وامتناعه عند عدمهما ثابت في حقه سبحانه وقد اعترف
أصحابك بهذا الإلزام وأجابوا عنه بما لا يجدي شيئا قال ابن الخطيب عقيب ذكر
هذه الشبهة: "فإن قلت هذا ينفي كونه فاعلا مختارا قلت الفرق أن إرادة
العبد محدثة فافتقرت إلى إرادة يحدثها الله دفعا للتسلسل وإرادة الباري
قديمة فلم يفتقر إلى إرادة أخرى" ورد هذا الفرق صاحب التحصيل فقال: "ولقائل
أن يقول هذا لا يدفع التقسيم المذكور" قلت فإن التقسيم متردد بين لزوم
الفعل عند الداعي وامتناعه عند عدمه وهذا التقسيم ثابت في حق الغائب
والشاهد وكون إرادة الرب سبحانه قديمة من لوازم ذاته لا فاعل لها لا يمنع
هذا الترديد والتقسيم فإن عند تعلقها بالمراد يلزم وقوعه وعند عدم تعلقها
به يمتنع وقوعه وهذا اللزوم والامتناع لا يخرجه سبحانه عن كونه فاعلا
مختارا ثم نقول هذا المعنى لا يسمى جبرا ولا اضطرارا فإن حقيقة الجبر ما
حصل بإكراه غير الفاعل له على الفعل وحمله على إيقاعه بغير رضاه واختياره
والرب سبحانه هو الخالق للإرادة والمحبة والرضا في قلب العبد فلا يسمى ذلك
جبرا لا لغة ولا عقلا ولا شرعا ومن العجب احتجاجك بالقدرة والداعي على أن
الفعل الواقع بهما اضطراري من العبد والفعل عندكم لم يقع بهما ولا هو فعل
العبد بوجه وإنما هو عين فعل الله وذلك لا يتوقف على قدرة من العبد ولا داع
منه ولا هناك ترجيح له عند وجودهما ولا عدم ترجيح عند
عدمهما بل
نسبة الفعل إلى القدرة والداعي كنسبته إلى عدمهما فالفعل عندك غير فعل الله
فلا ترجيح هناك من العبد ولا مرجح ولا تأثير ولا أثر قال السني: وقد أجابك
إخوانك من القدرية عن هذه الحجة بأجوبة أخرى فقال أبو هاشم وأصحابه لا
يتوقف فعل القادر على الداعي بل يكفي في فعله مجرد قدرته قالوا فقولك عند
حصول الداعي إما أن يجب الفعل أو لا يجب عندنا لا يجب الفعل بالداعي ولا
يتوقف عليه ولا يمكنك أيها الجبري الرد على هؤلاء فإن الداعي عندك لا تأثير
له في الفعل البتة ولا هو متوقف عليه ولا على القدرة فإن القدرة الحادثة
عندك لا تؤثر في مقدورها فكيف يؤثر الداعي في الفعل فهذه الحجة لا تتوجه
على أصولك البتة وغايتها إلزام خصومك بها على أصولهم وقال أبو الحسين
البصري وأصحابه: "يتوقف الفعل على الداعي" ثم قال أبو الحسين: "إذا تجرد
الداعي وجب وقوع الفعل ولا يخرج بهذا الوجوب عن كونه اختياريا" وقال محمود
الخوارزمي صاحبه: "لا ينتهي بهذا الداعي إلى حد الوجوب بل يكون وجوده أولى"
قالوا فنجيبك عن هذه الشبهة على الرأيين جميعا أما على رأي أبي هاشم فنقول
صدور إحدى الحركتين عنه دون الأخرى لا يحتاج إلى مرجح بل من شأن القادر أن
يوقع الفعل من غير مرجح لجانب وجوده على عدمه قالوا ولا استبعاد في العقل
في وجود مخلوق متمكن من الفعل بدلا عن الترك وبالضد من غير مرجح كما أن
النائم والساهي يتحركان من غير داع وإرادة فإن قلتم بل هناك داع وإرادة لا
يذكرها النائم والناسي كان ذلك مكابرة قلت وأصحاب هذا القول يقولون أن
ص
-142- القادر هو الذي يفعل مع جواز أن لا يفعل وأصحاب القول الأول يقولون
بل يفعل مع وجوب أن يفعل ومحمود الخوارزمي توسط بين المذهبين وقال: "بل
يفعل مع أولوية أن يفعل" ولا ينتهي الترجيح إلى حد الوجوب فالأقوال خمسة
أحدها أن الفعل موقوف على الداعي فإذا انضمت القدرة إليه وجب الفعل بمجموع
الأمرين وهذا قول جمهور العقلاء ولم يصنع ابن الخطيب شيئا في نسبته له إلى
الفلاسفة وأبي الحسين البصري من المعتزلة الثاني أن الفعل يجب بقدرة الله
وقدرة العبد وهذا قول من يقول أن قدرة العبد مؤثرة في مقدوره مع قدرة الله
على عين مقدور العبد وهذا قول أبي إسحق واختيار الجويني في النظامية الثالث
قول من يقول يجب بقدرة الله فقط وهذا قول الأشعري والقاضي أبي بكر ثم
إختلفا فقال القاضي: "كونه فعلا واقع بقدرة الله وكونه صلاة أو حجا أو زنا
أو سرقة واقع بقدرة العبد فتأثير قدرة الله في ذات الفعل وتأثير قدرة العبد
في صفة الفعل" وقال الأشعري: "أصل الفعل ووصفه واقعان بقدرة الله ولا
تأثير لقدرة العبد في هذا ولا هذا" الرابع قول من يقول لا يجب الفعل من
القادر البتة بل القادر هو الذي يفعل مع جواز أن لا يفعل فلا ينتهي فعل
القادر المختار إلى الوجوب أصلا وهذا قول أبي هاشم وأصحابه الخامس أن يكون
عند الداعي أولى بالوقوع ولا ينتهي إلى حد الوجوب وهذا قول الخوارزمي وقد
سلم أبو الحسين أن الفعل يجب مع الداعي وسلم أن الداعي مخلوق لله وقال أن
العبد مستقل بإيجاد فعله قال: "والعلم بذلك ضروري" قال ابن الخطيب: "وهذا
غلو منه في القدر" وقوله أنه يتوقف على الداعي والداعي خلق لله غلو في
الجبر فجمع بين القدر والجبر مع غلوه فيهما ولم ينصفه فليس ما ذهب إليه غلو
في قدر ولا جبر فإن توقف الفعل على الداعي ووجوبه عنده بقدرة العبد ليس
جبرا فضلا أن يكون غلوا فيه وكون العبد محدثا لفعله ضرورة بما خلقه الله
فيه من القدرة والاختيار ليس قولا بمذهب
القدرية فضلا عن كونه غلوا
فيه.
فصل: قال الجبري: إذا كان الداعي ليس من أفعالنا وهو علم القادر أن
في ذلك الفعل مصلحة له وذلك أمر مركوز في طبيعته التي خلق عليها وذلك
مفعول لله فيه والفعل واجب عنده فلا معنى للجبر إلا هذا، قال له السني:
أخوك القدري يجيبك عن هذا بأن ذلك الداعي قد يكون جهلا وغلطا وهذه أمور
يحدثها الإنسان في نفسه فيفعل على حسب ما يتوهم أن فيه مصلحته صادفها أو لم
يصادفها فالداعي لا ينحصر في العلم خاصة، قال الجبري: لا يساوي هذا الجواب
شيئا فإن العطشان مثلا يدعوه الداعي إلى شرب الماء لعلمه بنفعه وشهوته
وميله إلى شربه وذلك العلم وتلك الشهوة والميل إلى الشرب من فعل الله فيجب
على القدري أن يترك مذهبه صاغرا داخرا ويعترف بأن ذلك الفعل مضاف إلى من
خلق فيه الداعي المقتضى، قال القدري: ذلك الداعي وإن كان من فعل الله إلا
أنه جار مجرى فعل المكلف لأنه قادر على أن يبطل أثره بأن يستحضر صارفا عن
الشرب مثل أن يحجم عن الشراب تجربة هل يقدر على مخالفة الداعي أم لا
فإحجامه لأجل التجربة أثر داع ثان هو الصارف يعارض الداعي فالحي قادر على
تحصيله وقادر على إبقاء الداعي الأول بحاله فإبقاؤه الداعي الأول بحاله
وإعراضه عن إحضار المعارض له أمر لولاه ما حصل الشرب فمن هذا الوجه كان
الشرب فعلا له لأنه قادر على تحصيل الأسباب المختلفة التي تصدر عنها الآثار
ويصير هذا
ص -143- كمن شاهد إنسانا في نار متأججة وهو قادر على
إطفائها عنه من غير مشقة ولا مانع فإنه إن لم يطفئها استحق الذم وإن كان
الإحراق من أثر النار وقد أجاب ابن أبي الحديد بجواب آخر فقال ويمكن أن
يقال إذا تجرد الداعي كما ذكرتم في صورة العطشان فإن التكليف بالفعل والترك
يسقط لأنه يصير أسوأ حالا من الملجأ وهذا من أفسد الأجوبة على أصول جميع
الفرق فإن مقتضى التكليف قائم فكيف يسقط مع حضور الفعل والقدرة وهذا قسم
رابع من الذين رفع عنهم التكليف أثبته هذا القدري زائدا على الثلاثة الذين
رفع عنهم القلم وهذا خرق منه لإجماع الأمة المعلوم بالضرورة ولو سقط
التكليف عند تجرد الداعي لكان كل من تجرد داعيه إلى فعل ما أمر به قد سقط
عنه التكليف وهذا القول أقبح من القول بتكليف ما لا يطاق ولهذا كان
القائلون به أكثر من هذا القائل وقولهم يحكى ويناظر عليه، قال الجبري: إذا
كان الداعي من الله وهو سبب الفعل والفعل واجب عنده كان خالق الفعل هو خالق
الداعي أي خالق السبب، قال السني: هذا حق فإن الداعي مخلوق لله في العبد
وهو سبب الفعل والفعل يضاف إلى الفاعل لأنه صدر منه ووقع بقدرته ومشيئته
واختياره وذلك لا يمنع إضافته بطريق العموم إلى من هو خالق كل شيء وهو على
كل شيء قدير وأيضا فالداعي ليس هو المؤثر بل هو شرط في تأثير القادر في
مقدوره وكون الشرط ليس من العبد لا يخرجه عن كونه فاعلا وغاية قدرة العبد
وإرادته الجازمة أن يكون شرطا أو جزء سبب والفعل موقوف على شروط وأسباب لا
صنع للعبد فيها البتة وأسهل الأفعال رفع العين لرؤية الشيء فهب أن فتح
العين فعل العبد إلا أنه لا يستقل بالإدراك فإن تمام الإدراك موقوف على خلق
الدرك وكونه قابلا للرؤية وخلق آلة الإدراك وسلامتها وصرف الموانع عنها
فما تتوقف عليه الرؤية من الأسباب والشروط التي لا تدخل تحت مقدور العبد
أضعاف أضعاف ما يقدر عليه من تقليب حدقته نحو المرئي فكيف يقول عاقل أن
جزء
السبب أو الشرط موجب مستقل لوجود الفعل وهذا الموضع مما ضل فيه الفريقان
حيث زعمت القدرية أنه موجب للفعل وزعمت الجبرية أنه لا أثر له فيه فخالفت
الطائفتان صريح المعقول والمنقول وخرجت عن السمع والعقل والتحقيق أن قدرة
العبد وإرادته ودواعيه جزء من أجزاء السبب التام الذي يجب به الفعل فمن زعم
أن العبد مستقل بالفعل مع أن أكثر أسبابه ليست إليه فقد خرج عن موجب العقل
والشرع فهب أن دواعي حركة الضرب منك مستقلا بها فهل سلامة الآلة منك وهل
وجود المحل المنفعل وقبوله منك وهل خلق الفضاء بينك وبين المضروب وخلوه عن
المانع منك وهل إمساك قدرته عن مضاربتك وغلبك منك وهل القوة التي في اليد
والرباطات والاتصالات التي بين عظامها وشد أسرها منك ومن زعم أنه لا أثر
للعبد بوجه ما في الفعل وأن وجود قدرته وإرادته وعدمهما بالنسبة إلى الفعل
على السواء فقد كابر العقل والحس، قال الجبري: إن انتهت سلسلة الترجيحات
إلى مرجح من العبد فذلك المرجح ممكن لا محالة فإن ترجح بلا مرجح انسد عليكم
باب إثبات الصانع إذا جوزتم رجحان أحد طرفي الممكن وإن توقف على مرجح آخر
لزم التسلسل فلا بد من انتهائه إلى مرجح من الله لا صنع للعبد فيه قال
السني: أما إخوانك القدرية فإنهم يقولون القادر المختار يحدث إرادته
وداعيته بلا مرجح من غيره قالوا والفطرة شاهدة بذلك فإنا لا نفعل ما لم نرد
ولا نريد ما لم نعلم إن في الفعل منفعة لها أو دفع مضرة ولا نجد لهذه
الإرادة إرادة
ص -144- أحدثتها ولا لعلمنا بأن لك نافع علما آخر
أحدثه فالمرجح هو ما خلق عليه العبد وفطر عليه من صفاته القائمة به فالله
سبحانه أنشأ العبد نشأة يتحرك فيها بالطبع فحركته بالإرادة والمشيئة من
لوازم نشئه وكونه حيوانا فإرادته وميله من لوازم كونه حيا فأفعال العبد
الخاصة به هي الدواعي والإرادات لا غير وما يقع بها من الأفعال شبيه بالفعل
المتولد من حيث كان المتولد سببا وهذه الأفعال صادرة عن الدواعي التي
عرفها العبد ابتداء من غير واسطة فاشتراكهما في أن كل واحد منهما مستند إلى
فعل خاص بالعبد فهما متماثلان من هذه الجهة قال السني وهذا جواب باطل
بأبطل منه ورد فاسد بأفسد منه ومعاذ الله والله أكبر وأجل وأعظم وأعز أن
يكون في عبده شيء غير مخلوق له ولا هو داخل تحت قدرته ومشيئته فما قدر الله
حق قدره من زعم ذلك ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظيمه بل العبد جسمه
وروحه وصفاته وأفعاله ودواعيه وكل ذرة فيه مخلوق لله خلقا تصرف به في عبده
وقد بينا أن قدرته وإرادته ودواعيه جزء من أجزاء سبب الفعل غير مستقل
بإيجاده ومع ذلك فهذا الجزء مخلوق لله فيه فهو عبد مخلوق من كل وجه وبكل
اعتبار وفقره إلى خالقه وبارئه من لوازم ذاته وقلبه بيد خالقه وبين أصبعين
من أصابعه يقلبه كيف يشاء فيجعله مريدا لما شاء وقوعه منه كارها لما لم يشأ
وقوعه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ونعم والله سلسلة المرجحات تنتهي إلى
أمر الله الكوني ومشيئته النافذة التي لا سبيل لمخلوق إلى الخروج عنها
ولكن الجبر لفظ مجمل يراد به حق وباطل كما تقدم فإن أردتم به أن العبد مضطر
في أفعاله وحركته في الصعود في السلم كحركته في وقوعه منه فهذا مكابرة
للعقول والفطر وإن أردتم به أنه لا حول له ولا قوة إلا بربه وفاطره فنعم لا
حول ولا قوة إلا بالله وهي كلمة عامة لا تخصيص فيها بوجه ما فالقوة
والقدرة والحول بالله فلا قدرة له ولا فعل إلا بالله فلا ننكر هذا ولا
نجحده
لتسمية القدري له جبرا فليس الشأن في الأسماء: {إِنْ هِيَ إِلاَّ
أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} فلا نترك لهذه الأسماء مقتضى العقل والإيمان
والمحذور كل المحذور أن نقول أن الله يعذب عبده على ما لا صنع له فيه ولا
قدرة له عليه ولا تأثير له في فعله بوجه ما بل يعذبه على فعله هو سبحانه
وعلى حركته إذا سقط من علو إلى سفل نعم لا يمتنع أن يعذبه على ذلك إذ كان
قد تعاطي أسبابه بإرادته ومحبته كما يعاقب السكران على ما جناه في حال سكره
لتفريطه وعدوانه بارتكاب السبب وكما يعاقب العاشق الذي غلب على صبره وعقله
وخرج الأمر عن يده لتفريطه السابق بتعاطي أسباب العشق وكما يعاقب الذي آل
به إعراضه وبغضه للحق إلى أن صار طبعا وقفلا ورينا على قلبه فخرج الأمر عن
يده وحيل بينه وبين الهدى فيعاقبه على ما لم يبق له قدرة عليه ولا إرادة بل
هو ممنوع منه وعقوبته عليه عدل محض لا ظلم فيه بوجه ما، فإن قيل فهل يصير
في هذه الحال مكلفا وقد حيل بينه وبين ما أمر به وصد عنه ومنع منه أم يزول
التكليف، قيل ستقف على الجواب الشافي إن شاء الله عن هذا السؤال في باب
القول في تكليف ما لا يطاق قريبا فإنه سؤال جيد إذ المقصود ههنا الكلام في
الجبر وما في لفظه من الإجمال وما في معناه من الهدى والضلال.
فصل: قال
الجبري: إذا صدر من العبد حركة معينة فإما أن تكون مقدورة للرب وحده أو
العبد وحده أو للرب والعبد أو لا للرب ولا للعبد وهذا القسم الأخير باطل
قطعا والأقسام
ص -145- الثلاثة قد قال بكل واحد منها طائفة فان كانت
مقدورة للرب وحده فهو الذي يقوله وذلك عين الجبر وان كانت مقدورة للعبد
وحده فذلك إخراج لبعض الأشياء عن قدرة الرب تعالى فلا يكون على كل شيء قدير
ويكون العبد المخلوق الضعيف قادرا على ما لم يقدر عليه خالقه وفاطره وهذا
هو الذي فارقت به القدرية للتوحيد وضاهت به المجوس وإن كانت مقدورة للرب
والعبد لزمت الشركة ووقوع مفعول بين فاعلين ومقدور بين قادرين وأثر بين
مؤثرين وذلك محال لأن المؤثرين إذا اجتمعا استقلالا على أثر واحد فهو غني
عن كل منهما بكل منهما فيكون محتاجا إليهما مستغنيا عنهما قال السني: قد
افترق الناس في هذا المقام فرقا شتى ففرقة قالت إنما تقع الحركة بقدرة الله
وحده لا بقدرة العبد وتأثير قدرة العبد في كونها طاعة أو معصية فقدرة الرب
وحده اقتضت وجودها وقدرة العبد اقتضت صفتها وهذا قول القاضي أبي بكر ومن
اتبعه ولعمر الله أنه لغير شاف ولا كاف فإن صفة الحركة إن كان أثرا وجوديا
فقد أثرت قدرته في أمر موجود فلا يمتنع تأثيرها في نفس الحركة وإن كان
صفتها أمرا عدميا كان متعلق قدرته عدما لا وجودا وذلك ممتنع إذ أثر القدرة
لا يكون عدما صرفا وفرقة أخرى قالت بل الفعل وصفته واقع بمحض قدرة الله
وحده ولا تأثير لقدرة العبد في هذا ولا هذا وهذا قول الأشعري ومن اتبعه
وفرقة قالت بل المؤثر قدرة العبد وحده دون قدرة الرب ثم انقسمت هذه الفرقة
إلى فرقتين فرقة قالت أن قدرة العبد هي المؤثرة مع كون الرب قادرا على
الحركة وقالت أن مقدورات العباد مقدورة لله تعالى وهذا قول أبي الحسين
البصري وأتباعه الحسينية وفرقة قالت أن قدرة العبد هي المؤثرة والله سبحانه
غير قادر على مقدور وهذا قول المشايخية أتباع أبي على وأبي هاشم وليس عند
ابن الخطيب وجمهور المتكلمين غير هذه الأقوال التي لا تشفي عليلا ولا تروي
غليلا وليس عند أربابها إلا مناقضة بعضهم بعضا وقد أجاب بعض
أصحاب
أبي الحسين عن هذا السؤال انه كان يقول بمقدور بين قادرين فله أن يقول في
هذا المقام ان كان الدليل الذي ذكرته دليلا صحيحا على استحالة اجتماعهما
على فعل واحد فإنما يدل على استحالته على فعلهما على سبيل الجمع ولا يستحيل
على سبيل البدل كما يستحيل حصول جوهرين في مكان واحد ولا يستحيل حصولهما
فيه على البدل وهذا جواب باطل قطعا فإن مضمونه أن أحدهما لا يقدر عليه إلا
إذا تركه الآخر فحال تلبس العبد بالفعل بقدرته وإرادته إن كان مقدورا لله
فهو القول بمقدور بين قادرين وان لم يكن مقدورا له لزم إخراج بعض الممكنات
عن قدرته فإن قلت هو قادر عليه بشرط أن لا يقدر عليه العبد قيل لك فهذا
تصريح منك بأنه في حال قدرة العبد عليه لا يقدر عليه الرب فلا ينفعك القول
بأنه قادر عليه على البدل وأيضا فإن قدر عليه بشرط أن لا يقدر عليه العبد
فإذا قدر العبد عليه انتفت قدرة الرب لانتفاء شرطها وهذا مما صاح به عليكم
أهل التوحيد من أقطار الأرض ورموكم به عن قوس واحدة وإنما صانعتم به أهل
السنة مصانعة وإلا فحقيقة هذا القول أن العبد يقدر عليه على مالا يقدر عليه
الرب وحكاية هذا الرأي الباطل كافية في فساده فإن قلت كما لا يمتنع معلوم
واحد بين عالمين ومراد واحد بين مريدين قيل هذا من أفسد القياس لأن المعلوم
لا يتأثر بالعالم والمراد لا يتأثر بالمريد فيصح الاشتراك في المعلوم
والمراد كما يصح الاشتراك في المرئي والمسموع وأما المقدور فيجوز اشتراك
القادرين فيه بالقدرة المصححة
ص -146- وهي صحة وقوعه من كل واحد
منهما وصحة التأثير من أحدهما لا تنافي صحته من الأخر أما اشتراكهما فيه
بالقدرة الموجبة المقارنة لمقدورها فهو عين المحال إلا أن يراد الاشتراك
على البدل فيكون تأثير أحدهما فيه شرطا في تأثير الآخر ولما تفطن أبو
الحسين لهذا قال: "لست أقول أن إضافته إلى أحدهما هي إضافته إلى الآخر كما
أن الشيء الواحد يكون معلوما لعالمين ويمتنع أن يكون علم أحدهما به هو علم
الآخر فهكذا أقول في المقدور بين قادرين ليست قدرة أحدهما عليه هي قدرة
الآخر والمفعول بين فاعلين ليس فعل أحدهما فيه هو فعل الآخر وإنما معنى
قولي هذا أنه فعل لهذا وتأثير له أنه لقدرته وداعيته وجد وليس معنى كونه
وجد لقدرة هذا وداعيته هو معنى كونه وجد لقدرة الآخر وداعيته" قال وليس
يمتنع في العقل إضافة شيء واحد إلى شيئين لكنه يمتنع أن يكون إضافته إلى
أحدهما هي عين إضافته إلى الآخر، وهذا لا يجدي عنه شيئا فإن التقسيم
المذكور دائر فيه ونحن نقول قد دل الدليل على شمول قدرة الرب سبحانه لكل
ممكن من الذوات والصفات والأفعال وأنه لا يخرج شيء عن مقدوره البتة ودل
الدليل أيضا على أن العبد فاعل لفعله بقدرته وإرادته وأنه فعل له حقيقة
يمدح ويذم به عقلا وعرفا وشرعا وفطرة فطر الله عليها العباد حتى الحيوان
البهيم ودل الدليل على استحالة مفعول واحد بالعين بين فاعلين مستقلين وأثر
واحد بين مؤثرين فيه على سبيل الاستقلال ودل الدليل أيضا على استحالة وقوع
حادث لا محدث له ورجحان راجح لا مرجح له، وهذه أمور كتبها الله سبحانه في
العقول وحجج العقل لا تتناقض ولا تتعارض ولا يجوز أن يضرب بعضها ببعض بل
يقال بها كلها ويذهب إلى موجبها فإنها يصدق بعضها بعضا وإنما يعارض بينهما
من ضعفت بصيرته وإن كثر كلامه وكثرت شكوكه والعلم أمر آخر وراء الشكوك
والإشكالات ولهذا تناقض الخصوم، وهذا رأس مال المتكلمين والقول الحق لم
ينحصر في هذه الأقوال التي
حكوها في المسألة، والصواب أن يقال تقع
الحركة بقدرة العبد وإرادته التي جعلها الله فيه فالله سبحانه إذا أراد فعل
العبد خلق له القدرة والداعي إلى فعله فيضاف الفعل إلى قدرة العبد إضافة
السبب إلى مسببه ويضاف إلى قدرة الرب إضافة المخلوق إلى الخالق فلا يمتنع
وقوع مقدور بين قادرين قدرة أحدهما أثر لقدرة الآخر وهي جزء سبب وقدرة
القادر الآخر مستقلة بالتأثير والتعبير عن هذا المعنى بمقدور بين قادرين
تعبير فاسد وتلبيس فإنه يوهم أنهما متكافئان في القدرة كما تقول هذا الثوب
بين هذين الرجلين وهذه الدار بين هذين الشريكين وإنما المقدور واقع بالقدرة
الحادثة وقوع المسبب بسببه والسبب أو المسبب والفاعل والآلة كله أثر
القدرة القديمة ولا نعطل قدرة الرب سبحانه عن شمولها وكمالها وتناولها لكل
ممكن ولا نعطل قدرة الرب التي هي سبب عما جعلها الله سببا له ومؤثرة فيه
وليس في الوجود شيء مستقل بالتأثير سوى مشيئة الرب سبحانه وقدرته وكل ما
سواه مخلوق له وهو أثر قدرته ومشيئته ومن أنكر ذلك لزمه إثبات خالق سوى
الله أو القول بوجود مخلوق لا خالق له فإن فعل العبد إن لم يكن مخلوقا لله
كان مخلوقا للعبد إما استقلالا وإما على سبيل الشركة وإما أن يقع بغير خالق
ولا مخلص عن هذه الأقسام لمنكر دخول الأفعال تحت قدرة الرب ومشيئته وخلقه
وإذا عرف هذا فنقول الفعل وقع بقدرة الرب خلقا وتكوينا كما وقعت سائر
المخلوقات بقدرته وتكوينه وبقدرة العبد سببا ومباشرة والله خلق الفعل
ص
-147- والعبد فعله وباشره والقدرة الحادثة وأثرها واقعان بقدرة الرب
ومشيئته.
فصل: قال الجبري: لو كان العبد فاعلا لأفعاله لكان عالما
بتفاصيلها لأنه يمكن أن يكون الفعل أزيد مما فعله أو أنقص فوقوعه على ذلك
الوجه مشروط بالعلم بتفصيله ومعلوم أن النائم والغافل قد يفعل الفعل ولا
يشعر بكيفية ولا قدرة وأيضا فالمتحرك يقطع المسافة ولا شعور له بتفاصيل
الحركة ولا أجزاء المسافة ومحرك أصبعه لأجزائها ولا يشعر بعدد أجزائها ولا
بعدد أحيازها والمنفس يتنفس باختياره ولا يشعر في الغالب بنفسه فضلا عن أن
يشعر بكميته وكيفيته ومبدئه ونهايته والغافل قد يتكلم بالكلمة ويفعل الفعل
باختياره ثم بعد فراغه منه يعلم أنه لم يكن قاصدا له فنحن نعلم علما ضروريا
من أنفسنا عدم علمنا بوجود أكثر حركاتنا وسكناتنا في حالة المشي والقيام
والقعود ولو أردنا فصل كل جزء من أجزاء حركاتنا في حالة إسراعنا بالمشي
والحركة والإحاطة به لم يمكنا ذلك بل ونعلم ذلك من حال أكمل العقلاء فما
الظن بالحيوانات العجم في مشيها وطيرانها وسباحتها حتى الذر والبعوض وهنا
مشاهد في السكران ومن اشتد به الغضب ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى
تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فدل على أن السكران يصدر منه أقوال لا يعلم بها
فكيف يكون هو المحدث لتلك الأقوال وهو لا يشعر بها والإرادة فرع الشعور
ولهذا أفتى الصحابة بأنه لا يقع طلاق السكران نزلوا حركة لسانه منزلة تحريك
غيره له بغير إرادته ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق في
الإغلاق" لأن الإغلاق يمنع العلم والإرادة فكيف يكون التطليق فعله وهو غير
عالم به ولا مريد له وأيضا فقد قال جمهور الفقهاء أن الناسي غير مكلف لأن
فعله لا يدخل تحت الاختيار ففعله غير مضاف إليه مع أنه وقع باختياره وقد
أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه
في قوله: "من
أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" فأضاف فعله إلى الله
لا إليه فلم يكن له فعل في الأكل والشرب فلم يفطر به قال السني: هذا موضع
تفصيل لا يليق به الإجمال فنقول ما يصدر من العبد من الأفعال ينقسم أقساما
متعددة بحسب قدرته وعلمه وداعيته وإرادته فتارة يكون ملجأ إلى الفعل لا
إرادة له فيه بوجه ما كمن أمسكت يده وضرب بها غيره أو أمسكت أصبعه وقلع بها
عين غيره فهذا فعله بمنزلة حركات الأشجار بالريح ولهذا لا يترتب عليه حكم
البتة ولا يمدح عليه ولا يذم ولا يثاب ولا يعاقب وهذا لا يسمى فاعلا عقلا
ولا شرعا ولا عرفا وتارة يكون مكرها على أن يفعل فهذا فعله يضاف إليه وليس
كالملجأ الذي لا فعل له واختلف الناس هل يقال أنه فعل باختياره وأنه يختار
ما فعله أو لا يطلق عليه ذلك على قولين والتحقيق أن النزاع لفظي فإنه فعل
بإرادة هو محمول عليها مكره عليها فهو مكره مختار مكره على أن يفعل بإرادته
مريد ليفعل ما أكره عليه فإن أريد بالمختار من يفعل بإرادته وإن كان كارها
للفعل فالمكره مختار وأيضا فهو مختار ليفعل ما أكره لتخلصه به مما هو أكره
إليه من الفعل فلما عرض له مكروهان أحدهما أكره إليه من الآخر اختار
أيسرهما دفعا لأشقهما ولهذا يقتل قصاصا إذا قتل عند الجمهور والملجأ لا
يقتل باتفاق الناس ومما يوضح هذا أن المكره على التكلم لا يتأتى منه التكلم
إلا باختياره وإرادته ولهذا أوقع طلاقه وعتاقه بعض العلماء والجمهور قالوا
لا يقع لأن الله جعل كلام المكره على كلمة الكفر لغو لا يترتب عليه أثره
لأنه وإن قصد التكلم باللفظ دفعا عن نفسه فلم يقصد معناه وموجبه حتى قال
بعض الفقهاء لو قصد الطلاق بقلبه مع الإكراه لم
ص -148- يقع طلاقه
لأن قوله هدر ولغو عند الشارع فوجوده كعدمه في حكمه فبقي مجرد القصد وهو
غير موجب للطلاق وهذا ضعيف فإن الشارع إنما ألغى قول المكره إذا تجرد عن
القصد وكان قلبه مطمئنا بضده فأما إذا قارن اللفظ القصد واطمأن القلب
بموجبه فإنه لا يعذر، فإن قيل فما تقولون فيمن ظن أن الإكراه لا يمنع وقوع
الطلاق فقصده جاهلا بأن الإكراه مانع من وقوعه، قيل هذا لا يقع طلاقه لأنه
لما ظن أن الإكراه على الطلاق يوجب وقوعه إذا تكلم به كان حكم قصده حكم
لفظه فإنه إنما قصده دفعا عن نفسه لما علم أنه لا يتخلص إلا به ولم يظن أن
الكلمة بدون القصد لغوا ودهش عن ذلك ولا وطر له في الطلاق فهذا لا يقع
بخلاف الأول فإنه لما أكره على الطلاق نشأ له قصد طلاقها إذ لا غرض له أن
يقيم مع امرأة أكره على طلاقها وإن كان لو لم يكره لم يبتدي طلاقها
والمقصود أن المكره مريد لفعله غير ملجأ إليه.
فصل: وأما أفعال النائم
فلا ريب في وقوع الفعل القليل منه والكلام المفيد واختلف الناس هل تلك
الأفعال مقدورة له أو مكتسبة أو ضرورية بعد اتفاقهم على أنها غير داخلة تحت
التكليف فقالت المعتزلة وبعض الأشعرية هي مقدورة له والنوم لا يضاد القدرة
وإن كان يضاد العلم وغيره من الإدراكات وذهب أبو إسحاق إلى أن ذلك الفعل
غير مقدور له وأن النوم يضاد القدرة كما يضاد العلم وذهب القاضي أبو بكر
وكثير من الأشعرية إلى أن فعل النائم لا يقطع بكونه مكتسبا ولا بكونه
ضروريا وكل من الأمرين ممكن قال أصحاب القدرة كان النائم قادرا في يقظته
وقدرته باقية والنوم لا ينافيها فوجب استصحاب حكمها قالوا وأيضا فالنائم
إذا انتبه فهو على ما كان عليه في نومه ولا يتجدد أمر وراء زوال النوم وهو
قادر بعد الانتباه وزوال النوم غير موجب للاقتدار ولا وجوده نافيا لقدرة
قالوا وأيضا قد يوجد من النائم ما لو وجد منه في حال اليقظة لكان واقعا على
حسب الداعي والاختيار والنوم وإن نافى
القصد فلا ينافي القدرة قال
النافون للقدرة قولكم النوم لا ينافي القدرة دعوى كاذبة فإن النائم منفعل
محض متأثر صرف ولهذا لا يمتنع ممن يؤثر فيه وقولكم لم يتجدد له أمر غير
زوال النوم فالتجدد زوال المانع من القدرة فعاد إلى ما كان عليه كمن أوثق
غيره رباطا ومنعه من الحركة فإذا حل رباطه تجدد زوال المانع قالوا نجد
تفرقة ضرورية بين حركة النائم وحركة المرتعش والمفلوج وما ذاك إلا أن حركته
مقدورة له وحركة المرتعش غير مقدورة له والتحقيق أن حركة النائم ضرورية له
غير مكتسبة وكما فرقنا في حق المستيقظ بين حركة ارتعاشه وحركة تصفيقه كذلك
نجد تفرقه ضرورية بين حركة النائم وحركة المستيقظ.
فصل: وأما زائل
العقل بجنون أو سكر فليست أفعاله اضطرارية كأفعال الملجأ ولا اختيارية
بمنزلة أفعال العامل العالم بما يفعله بل هي قسم آخر من الاضطرارية وهي
جارية مجرى أفعال الحيوان وفعل الصبي الذي لا تمييز له بل لكل واحد من
هؤلاء داعية إلى الفعل يتصورها وله إرادة يقصد بها وقدرة ينفذ بها وإن كان
داعية نوع آخر غير داعي العاقل العالم بما يفعله فلا بد أن يتصور ما في
الفعل من الغرض ثم يريده ويفعله وهذه أفعال طبيعية واقعة بالداعي والإرادة
والقدرة والدواعي والإرادات تختلف ولهذا لا يكلف أحد هؤلاء بالفعل فأفعاله
لا تدخل تحت التكليف وليست كأفعال الملجأ ولا المكره وهي مضافة إليهم
مباشرة وإلى خالق ذواتهم وصفاتهم خلقا فهي مفعولة وأفعال
ص -149- لهم
والساهي الذي يفعل الفعل مع غفلته وذهوله فهو إنما يفعله بقدرته إذ لو كان
عاجزا لما تأتى منه الفعل وله إرادة لكنه غافل عنها فالإرادة شيء والشعور
بها شيء آخر فالعبد قد يكون له إرادة وهو ذاهل عن شعوره بها لاشتغال محل
التصور منه بأمر آخر منعه من الشعور بالإرادة فعملت عملها وهي غير مشعور
بها وإن كان لا بد من الشعور عند كل جزء من أجزائه وبالله التوفيق وبالجملة
فالفعل الاختياري يستلزم الشعور بالفعل في الجملة وأما الشعور به على
التفصيل فلا يستلزمه.
فصل: قال الجبري: ضلال الكافر وجهله عند القدري
مخلوق له موجود بإيجاده اختيارا وهذا ممتنع فإنه لو كان لكان كذلك قاصدا له
إذا القصد من لوازم الفعل اختيارا واللازم ممتنع فإن عاقلا لا يريد لنفسه
الضلال والجهل فلا يكون فاعلا له اختيارا، قال السني: عجبا لك أيها الجبري
تنزه العبد أن يكون فاعلا للكفر والجهل والظلم ثم تجعل ذلك كله فعل الله
سبحانه ومن العجب قولك أن العاقل لا يقصد لنفسه الكفر والجهل وأنت ترى
كثيرا من الناس يقصد لنفسه ذلك عنادا وبغيا وحسدا مع علمه بأن الرشد والحق
في خلافه فيطيع دواعي هواه وغيه وجهله ويخالف داعي رشده وهداه ويسلك طرق
الضلال ويتنكب عن طريق الهدى وهو يراهما جميعا، قال أصدق القائلين:
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا
سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ
الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا
وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}، وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وقال تعالى عن
قوم فرعون: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا
سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا
أَنْفُسُهُمْ
ظُلْماً وَعُلُوّاً} وقال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}
وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ
مِنْ خَلاقٍ} وقال: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ
يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقال تعالى: {يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ
تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً
وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} وهذا في القرآن كثير يبين سبحانه فيه اختيارهم
الضلال والكفر عمدا على علم! هذا وكم من قاصد أمرا يظن أنه رشد وهو ضلال
وغي.
فصل: قال الجبري: لو جاز تأثير قدرة العبد في القول بالإيجاد لجاز
تأثيرها في إيجاد كل موجود لأن الوجود قضية واحدة مشتركة بين الموجودات
الممكنة وإن اختلفت محاله وجهاته ويلزم من صحة تأثير القدرة في بعضه صحة
تأثيرها في جميعه لاتحاد المتعلق وإن ما ثبت لأحد المثلين ثبت للآخر وأيضا
فالمصحح للتأثير هو الإمكان ويلزم من الاشتراك في المصحح للتأثير الاشتراك
في الصحة ومعلوم قطعا أن قدرة العبد لا تتعلق بإيجاد الأجسام وأكثر الأعراض
إنما تتعلق ببعض الأعراض القائمة لمحل قدرته، قال السني: لقد كشف الله
عوار مذهب يكون إثباته مستندا إلى مثل هذه الخرافات التي حاصلها أنه يلزم
من صحة قدرة العبد على قلع حصاة من الأرض صحة قدرته على قلع الجبل ومن
إمكان حمله لرطل إمكان حمله لمائة ألف رطل ومن إيجاده للفعل القائم به من
الأكل والشرب والصلاة وغيرها صحة إيجاده لخلق السماوات والأرض
وما
بينهما وهل سمع في الهذيان
بينهما وهل سمع في الهذيان
- كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الجزء السادس
- كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الجزء السابع
- كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الجزء الثامن
- كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الجزء التاسع
- كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الجزء الثانى
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى