رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
التناول لا سبيل إلى الصحة إلا بتكرير تناوله مرارا كثيرة العدد جدا
يزيل ذلك المرض العارض فيظهر أثر الفطرة الأولى فلا يحتاج بعده إلى الدواء
هذا سر المسألة ومن يذهب إلى هذا التقدير الثاني فإنه يقول العقل لا يدل
على امتناع ذلك إذ ليس فيه ما يحيله ونقول بل قد دل العقل والنقل والفطرة
على أن الرب تعالى حكيم رحيم والحكمة والرحمة تأبى بقاء هذه النفوس في
العذاب سرمدا أبد الآباد بحيث يدوم عذابها بدوام الله فهذا ليس من الحكمة
والرحمة قالوا وقد دلت الدلائل الكثيرة من النصوص والاعتبار على أن ما شرعه
الله في هذه الدار وقدره من العذاب والعقوبات فإنما هو لتهذيب النفوس
وتصفيتها من الشر الذي فيها ولحصول مصلحة الزجر والاتعاظ وفطما للنفوس عن
المعاودة وغير ذلك من الحكم التي إذا حصلت خلا التعذيب عن الحكمة والمصلحة
فيبطل فإنه تعذيب عليم حكيم رحيم لا يعذب سدى ولا لنفع يعود إليه بالتعذيب
بل كلا الأمرين محال وإذا لا يقع التعذيب إلا لمصلحة المعذب أو مصلحة غيره
ومعلوم أنه لا مصلحة له ولا لغيره في بقائه في العذاب سرمدا أبد الآباد
قالوا فمما دل عليه القرآن والسنة أن جنس الآلام لمصلحة بني آدم قوله
تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا
مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ
الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ
بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}
وقوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ
الْكَافِرِينَ} فأخبر أن ألم القتل والجراح في سبيله تمحيص أي تطهير وتصفية
للمؤمنين وبشر الصابرين على ألم الجوع والخوف والفقر وفقد الأحباب وغيرهم
بصلاته عليهم ورحمته وهدايته وقال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ
بِهِ}
ص -255- قال أبو بكر الصديق: "يا رسول الله جاءت قاصمة الظهر
وإننا لم نعمل سوأ فقال: يا أبا بكر ألست تنصب ألست تحزن أليس يصبك الأذى
قال: بلى قال: فذلك مما تجزون به" وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وفي هذا تبشير وتحذير إذ أعلمنا
أن مصائب الدنيا عقوبات لذنوبنا وهو أرحم أن يثني العقوبة على عبده بذنب قد
عاقبه به في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: "من بلي بشيء من هذه
القاذورات فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ومن عوقب
به في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده" وفي الحديث: "الحدود
كفارات لأهلها" وفي الصحيحين من حديث عبادة: "ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب
به في الدنيا فهو كفارة له" وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب
المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر
الله بها من خطاياه" وقال: "لا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده
حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة" وفي حديث آخر: "إن المؤمن إذا مرض خرج
مثل البردة في صفائها ولونها" وفي الحديث الآخر: "إن الحمى تنفي الذنوب كما
ينفي الكير الخبيث الحديد" وفي حديث آخر: "لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا
بني آدم" ومن أسماء الحمى مكفرة الذنوب وفي الحديث الصحيح: "يقول الله عز
وجل يوم القيامة عبدي مرضت فلم تعدني قال كيف أعودك وأنت رب العالمين قال
مرض عبدي فلان فلم تعده أما لو عدته لوجدتني عنده" وهذا أبلغ من قوله في
الإطعام والإسقاء لوجدت ذلك عندي فهو سبحانه عند المبتلى بالمرض رحمة منه
له وخيرا وقربا منه لكسر قلبه بالمرض فإنه عند المنكسرة قلوبهم وهذا أكبر
من أن يذكر ورب الدنيا والآخرة واحد وحكمته ورحمته موجودة في الدنيا
والآخرة بل ظهور رحمته في الآخرة أعظم فعذاب المؤمنين بالنار في الآخرة هو
من هذا الباب كعذابهم في الدنيا بالمصائب والحدود
وكذلك حبسهم بين
الجنة والنار حتى يهذبوا وينقوا وقد علم بالنصوص الصحيحة الصريحة أن عذابهم
في النار متفاوت قدرا ووقتا بحسب ذنوبهم وأنهم لا يخرجون منها جملة واحدة
بل شيئا بعد شيء حتى يبقى رجل هو آخرهم خروجا وكذلك عذاب الكفار فيها
متفاوت تفاوتا عظيما فالمنافقون في دركها الأسفل وأبو طالب أخف أهلها عذابا
في ضحضاح من بئر يغلي منه دماغه وآل فرعون في أشد العذاب قالوا فإذا كان
العذاب في الدار التي فيها رحمة واحدة من مائة رحمة هو رحمة بأهله ومصلحة
لهم ولطف بهم فكيف في الدار التي يظهر فيها مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما
بين السماء والأرض وقد قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ
الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فأخبر
أنه يعذبهم رحمة بهم ليردهم العذاب إليه كما يعذب الأب الشفيق ولده إذا فر
منه إلى عدوه ليرجع إلى بره وكرامته وقال الله تعالى: {مَا يَفْعَلُ
اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ
شَاكِراً عَلِيماً} وأنت تجد تحت هذه الكلمات أن تعذيبه لكم لا يزيد في
ملكه ولا ينتفع به ولا هو سدى خال من حكمة ومصلحة وأنكم إذا بدلتم الشكر
والإيمان بالكفر كان عذابكم منكم وكان كفركم هو الذي عذبتم به وإلا فأي شيء
يلحقه من عذابكم وأي نفع يصل إليه منه قالوا وحينئذ فالحكمة تقتضي أن
النفوس الشريرة لا بد لها من عذاب يهذبها بحسب وقوعها كما دل على ذلك السمع
والعقل وذلك يوجب الانتهاء لا الدوام قالوا والله تعالى لم يخلق الإنسان
عبثا وإنما خلقه ليرحمه لا ليعذبه وإنما اكتسب موجب العذاب بعد خلقه له
فرحمته له سبقت غضبه وموجب الرحمة فيما سابق على موجب الغضب وغالب له
وتعذيبه ليس
شفاء العليل
الباب الثالث والعشرون: في استيفاء
شبه نفاة الحكمة وذكر الأجوبة المفصلة عنها
ص -256- هو الغاية لخلقه
وإنما تعذيبه لحكمة ورحمة والحكمة والرحمة تأبى أن يتصل عذابه سرمدا إلى
غير نهاية أما الرحمة فظاهر وأما الحكمة فلأنه إنما عذب على أمر طرأ على
الفطرة وغيرها ولم يخلق عليه من أصل الخلقة ولا خلق له فهو لم يخلق للإشراك
ولا للعذاب وإنما خلق للعبادة والرحمة ولكن طرأ عليه موجب العذاب فاستحق
عليه العذاب وذلك الموجب لا دوام له فإنه باطل بخلاف الحق الذي هو موجب
الرحمة فإنه دائم بدوام الحق سبحانه وهو الغاية وليس موجب العذاب غاية كما
أن العذاب ليس بغاية بخلاف الرحمة فإنها غاية وموجبها غاية فتأمله حق
التأمل فإنه سر المسألة، قالوا والرب تعالى تسمى بالغفور الرحيم ولم يتسمى
بالمعذب ولا بالمعاقب بل جعل العذاب والعقاب في أفعاله كما قال تعالى:
{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي
هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} وقال تعالى: {نَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ
وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} وقال: {حم
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ
الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} وهذا كثير في القرآن
فإنه سبحانه يتمدح بالعفو والمغفرة والرحمة والكرم والحلم ويتسمى ولم يتمدح
بأنه المعاقب ولا الغضبان ولا المعذب ولا المسقم إلا في الحديث الذي فيه
تعديد الأسماء الحسنى ولم يثبت وقد كتب على نفسه كتابا أن رحمته سبقت غضبه
وكذلك هو في أهل النار فإن رحمته فيهم سبقت غضبه فإنه رحمهم أنواعا من
الرحمة قبل أن
أغضبوه بشركهم ورحمهم في حال شركهم ورحمهم بإقامة
الحجة عليهم ورحمهم بدعوتهم إليه بعد أن أغضبوه وآذوا رسله وكذبوهم وأمهلهم
ولم يعاجلهم بل وسعتهم رحمته فرحمته غلبت غضبه ولولا ذلك لخرب العالم
وسقطت السماوات على الأرض وخرت الجبال وإذا كانت الرحمة غالبة للغضب سابقة
عليه امتنع أن يكون موجب الغضب دائما بدوامه غالبا لرحمته قالوا والتعذيب
إما أن يكون عبثا أو لمصلحة وحكمة وكونه عبثا مما ينزه أحكم الحاكمين عنه
ونسبته إليه نسبة لما هو من أعظم النقائص إليه وإن كان لمصلحة فالمصلحة هي
المنفعة ولوازمها وملزوماتها وهي إما أن تعود على الرب تعالى وهو يتعالى عن
ذلك ويتقدس عنه وإما أن تعود إلى المخلوق إما نفس المعذب وإما غيره أوهما
والأول ممتنع ولا مصلحة له في دوام العقوبة بلا نهاية وأما مصلحة غيره فإن
كانت هي الاتعاظ والانزجار فقد حصلت وإن كانت تكميل لذته وبهجته وسروره بأن
يرى عدوه في تلك الحال وهو في غاية النعيم فهذا لو كان أقسى الخلق لرق
لعدوه من طول عذابه ودوام ما يقاسيه فلم يبق إلا كسر تلك النفوس الجبارة
العتيدة ومداواتها كيما تصل إلى مادة أدوائها وأمراضها فتحسمها وتلك المادة
شر طارئ على خير خلقت عليه في ابتداء فطرتها قالوا والأقسام الممكنة في
الخلق خمسة لا مزيد عليها خير محض ومقابله وخير راجح ومقابله وخير وشر
متساويان والحكمة تقتضي إيجاد قسمين منها وهما الخير الخالص والراجح وأما
الشر الخالص أو الراجح فإن الحكمة لا تقتضي وجوده بل تأبى ذلك فإن كل ما
خلقه الله سبحانه فإنما خلقه لحكمة وجودها أولى من عدمها وخلق الدواب
الشريرة والأفعال التي هي شر لما يترتب على خلقها من الخير المحبوب فلم
يخلق لمجرد الشر الذي لا يستلزم خيرا بوجه ما هذا غاية المحال فالخير هو
المقصود بالذات بالقصد الأول والشر إنما قصد قصد الوسائل والمبادئ لا قصد
الغايات والنهايات وحينئذ فإذا حصلت الغاية المقصودة بخلقه بطل وزال كما
تبطل
الوسائل عند الانتهاء إلى غاياتها كما هو معلوم بالحس والعقل وعلى هذا
فالعذاب شر وله غاية تطلب به
ص -257- وهو وسيلة إليها فإذا حصلت غايته
كان بمنزلة الطريق الموصلة إلى القصد فإذا وصل بها السائر إلى مقصده لم يبق
لسلوكها فائدة وسر المسألة أن الرحمة غاية الخلق والأمر لا العذاب فالعذاب
من مخلوقاته وذلك مقتضى أنه خلقه لغاية محمودة ولا بد من ظهور أسمائه وأثر
صفاته عموما وإطلاقا فإن هذا هو الكمال والرب جل جلاله موصوف بالكمال منزه
عن النقص قالوا وقد قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقال: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} قال أبو سعيد الخدري: "هذه تقضي على كل آية في
القرآن" ذكره البيهقي وحرب وغيرهما وقال عبد الله بن مسعود: "ليأتين على
جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا" وعن عمر بن الخطاب
وأبي هريرة مثله ذكره جماعة من المصنفين في السنة وهذا يقتضي أن الدار
التي لا يبقى فيها أحد هي التي يلبث فيها أهلها أحقابا وقال عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم: "أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنة فقال تعالى: {عَطَاءً
غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار" قالوا ويكفينا ما في
سورة الأنعام من قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ
الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ
مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا
أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ
فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} إلى قوله:
{ا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ
رُسُلٌ
مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ
يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا
كَافِرِينَ} وهذا خطاب للكفار من الجن والإنس من وجوه، أحدها استكبارهم
منهم أي من إغوائهم وإضلالهم وإنما استكبروا من الكفار، الثاني قوله:
{وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ} وأولياؤهم هم الكفار كما قال
تعالى: {إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} فحزب الشيطان هم
أولياؤه والثالث قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} ومع هذا فقال: {لنَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ
فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} ثم ختم الآية بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ} فتعذيبهم متعلق بعلمه وحكمته وكذلك الاستثناء صادر عن علم
وحكمة فهو عليم بما يفعل بهم حكيم في ذلك قالوا وقد ورد في القرآن أنه
سبحانه إذا ذكر جزاء أهل رحمته وأهل غضبه معا أبّد جزاء أهل الرحمة وأطلق
جزاء أهل الغضب كقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ
فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا
يُرِيدُ َأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا
مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً
غَيْرَ مَجْذُوذٍ} وقوله: {نَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ
شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ
عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً
رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} وقوله:
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ
اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا
الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ
وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقد يقرن
بينهما في الذكر ويقضي لهم بالخلود كقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}
وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ
يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} ولكن مجرد ذكر
الخلود والتأبيد لا يقتضي عدم النهاية بل الخلود هو المكث الطويل كقولهم
قيد مخلد وتأبيد كل شيء بحسبه فقد يكون التأبيد لمدة الحياة وقد يكون لمدة
الدنيا قال تعالى عن اليهود: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ
ص -258- أَبَداً
بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} ومعلوم
أنهم يتمنونه في النار حيث يقولون يا مالك ليقض علينا ربك وإنما استفيد عدم
انتهاء نعيم الجنة بقوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ
نَفَادٍ} وقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} وقوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ} أي مقطوع ومن قال لا يمن به عليهم فقد أخطأ أقبح الخطأ ولم يجيء
مثل ذلك في عذاب أهل النار وقوله عز وجل: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ
النَّار}ِ {َمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} وقوله: {لا يُقْضَى
عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وقوله
تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} في
موضعين من القرآن وقوله: {لَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ
جُلُوداً غَيْرَهَا} غير مصروف عن ظاهره وحقيقته على الصحيح وقد زعمت طائفة
أن إطلاق هذه الآيات مقيد بآيات التقييد بالاستثناء بالمشيئة فيكون من باب
تخصيص العموم وهذا كأنه قول من قال من السلف في آية الاستثناء أنها تقضي
على كل وعيد في القرآن والصحيح أن هذه الآيات على عمومها وإطلاقها ولكن ليس
فيها ما يدل على أن نفس النار دائمة بدوام الله لا انتهاء لها هذا ليس في
القرآن ولا في السنة ما يدل عليه بوجه ما وفرق بين أن يكون عذاب أهلها
دائما بدوامها وبين أن يكون هي أبدية لا انقطاع لها فلا تستحيل ولا تضمحل
فهذا شيء وهذا شيء لا يقال فلا فرق على هذا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة
إذ كان كل منهما يضمحل وينقطع قيل ما أظهر الفروق بينهما والأمر أبين من أن
يحتاج إلى فرق وأيضا فعذاب الدنيا ينقطع بموت المعذب وإقلاع العذاب عنه
وأما عذاب الآخرة فلا يموت من استحق الخلود فيه
ولا يقلع العذاب عنه
ولا يدفعه عنه أحد كما قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا
لَهُ مِنْ دَافِعٍ} وهو لازم لا يفارق قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ
غَرَاماً} أي لازما ومنه سمى الغريم غريما لملازمة غريمه.
فصل: وأما
الآثار في هذه المسألة فقال الطبراني حدثنا عبد الرحمن بن سلم حدثنا سهل بن
عثمان حدثنا عبد الله بن مسعر بن كدام عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي
أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على جهنم يوم كأنها ورق هاج
واحمر تخفق أبوابها" وقال حرب في مسائله: "سألت إسحاق قلت قول الله عز وجل:
{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا
شَاءَ رَبُّكَ} قال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن" حدثنا عبد الله
بن معاذ حدثنا معتمر بن سليمان قال قال أبي حدثنا أبو نصرة عن جابر أو أبي
سعيد أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذه الآية تأتي على
القرآن كله إلا ما شاء ربك إنه فعال لما يريد قال المعتمر: "قال أي كل وعيد
في القرآن" ثم تأول حرب ذلك فقال: "معناه عندي والله أعلم أنها تأتي على
كل وعيد في القرآن لأهل التوحيد وكذلك قوله إلا ما شاء ربك استثنى من أهل
القبلة الذين يخرجون من النار" وهذا التأويل لا يصح لأن الاستثناء إنما هو
في وعيد الكفار فإنه سبحانه قال: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ
إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا
فَفِي النَّارِ} الآية ثم قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي
الْجَنَّةِ} فأهل التوحيد من الذين سعدوا شقوا وآية الأنعام صريحة في حق
الكفار كما تقدم بيانه قال حرب وحدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي ثنا
شعبة عن أبي حدثنا مليح سمع عمر بن ميمون يحدث عن عبد الله بن عمرو قال:
"ليأتين على جهنم يوم تصطفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون
فيها أحقابا" حدثنا عبيد الله ثنا
أبي ثنا شعبة عن يحيى بن أيوب عن
أبي زرعة عن أبي هريرة قال: "أما الذي أقول أنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى
فيها أحد وقرأ فأما الذين شقوا ففي النار" الآية قال عبيد الله: "كان
أصحابنا يقولون يعني بها
ص -259- الموحدين" وقد تقدم أن هذا التأويل لا
يصح وقال عبد بن حميد في تفسيره أخبرنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة
عن ثابت عن الحسن قال قال عمر: "لو لبث أهل النار في النار بقدر رمل عالج
لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه" وقال أخبرنا حجاج بن منهال عن حماد بن
سلمة عن حميد عن الحسن أن عمر بن الخطاب قال: "لو لبث أهل النار في النار
عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه" ورواة هذا الأثر أئمة ثقات كلهم
والحسن سمعه من بعض التابعين ورواه غير منكر له فدل هذا الحديث أنه كان
متداولا بين هؤلاء الأئمة لا ينكرونه وقد كانوا ينكرونه على من خرج عن
السنة أدنى شيء ويروون الأحاديث المبطلة لفعله وكان الإمام أحمد يقول
أحاديث حماد بن سلمة هي الشجا في حلوق المبدعة فلو كان هذا القول عندهم من
البدع المخالفة للسنة والإجماع لسارعوا إلى رده وإنكاره وفي تفسير علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ
فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} قال: "لا
ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا" قال الطبري:
"وروي عن ابن عباس أنه كان يتأول في هذا الاستثناء أن الله جعل أمر هؤلاء
في مبلغ عذابه إياهم إلى مشيئته" وهذا التفسير من ابن عباس يبطل قول من
تأول الآية على أن معناها سوى ما شاء الله من أنواع العذاب أو قال المعنى
إلا مدة مقامهم قبل الدخول من حين بعثوا إلى أن دخلوا أو أنها في أهل
القبلة وما يعني من أو أنها يعني الواو
أي وما شاء الله وهذه كلها
تأويلات باردة ركيكة لا تليق بالآية ومن تأملها جزم ببطلانها وقال السدي في
قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} قال سبعمائة حقب كل حقب سبعون
سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما كل يوم كألف سنة مما تعدون وتقييد لبثهم
فيها بالأحقاب يدل على مدة مقدرة يحصرها العدد هذا قول الأكثرين ولهذا تأول
الزجاج الآية على أن الأحقاب تقييد لقوله لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا
وأما مدة مكثهم فيها فلا يتقدر بالأحقاب وهذا تأويل فاسد فإنه يقتضي أن
يكونوا بعد الأحقاب ذائقين للبرد والشراب وقالت طائفة أخرى الآية منسوخة
بقوله: {مَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} وقوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
وهذا فاسد أيضا إن أرادوا بالنسخ الرفع فإنه لا يدخل في الخبر إلا إذا كان
بمعنى الطلب وإن أرادوا بالنسخ البيان فهو صحيح وهو إنما يدل على أن عذابهم
دائم مستمر ما دامت باقية فهم فيها خالدون وما هم بمخرجين وهذا حق معلوم
دلالة القرآن والسنة عليه لكن الشأن في أمر آخر وهو أن النار أبدية دائمة
بدوام الرب فأين الدليل على هذا من القرآن أو السنة بوجه من الوجوه وقالت
طائفة هي في أهل التوحيد وهذا أقبح مما قبله وسياق الآيات يرده ردا صريحا
ولما رأى غيرهم بطلان هذه التأويلات قال لا يدل ذكر الأحقاب على النهاية
فإنها غير مقدرة بالعدد فإنه لم يقل عشرة ولا مائة ولو قدرت بالعدد لم يدل
على النهاية إلا بالمفهوم فكيف إذا لم يقدر قالوا ومعنى الآية أنه كلما مضى
حقب تبعه حقب لا إلى نهاية وهذا الذي قالوه لا تدل الآية عليه بوجه وقولهم
أن الأحقاب فيها غير مقدرة فيقال لو أريد بالآية بيان عدم انتهاء مدة
العذاب لم يقيد بالأحقاب فإن ما لا نهاية له لا يقال هو باق أحقابا ودهورا
وأعصارا أو نحو ذلك ولهذا لا يقال ذلك في نعيم أهل الجنة ولا يقال للأبدي
الذي لا يزول هو باق أحقابا أو آلافا من السنين فالصحابة أفهم الآية لمعاني
القرآن
وقد فهم منها عمر بن الخطاب خلاف فهم هؤلاء كما فهم ابن عباس
من آية الاستثناء خلاف فهم أولئك وفهم الصحابة في
ص -260- القرآن هو
الغاية التي عليها المعول وقد قال ابن مسعود: "ليأتين على جهنم زمان تخفق
أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا" وقال ابن جرير حديث
عن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا
ما شاء ربك قال: "أمر الله النار أن تأكلهم" قال وقال ابن مسعود فذكره وقال
حدثنا محمد بن حميد ثنا جرير عن بيان عن الشعبي قال: "جهنم أسرع الدارين
عمرانا وأسرعهما خرابا" قلت لا يدل قوله أسرعهما خرابا على خراب الدار
الأخرى كما في قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ
مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} وقوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا
يُشْرِكُونَ} وقوله في الحديث: "الله أعلا وأجل" وقوله: "أسرعهما عمرانا"
يحتمل معنيين أحدهما مسارعة الناس إلى الأعمال التي يدخلون بها جهنم
وإبطاؤهم عن أعمال الدار الأخرى والثاني أن أهلها يدخلونها قبل دخول أهل
الجنة إليها فإن أهل الجنة إنما يدخلونها بعد عبورهم على الصراط وبعد حبسهم
على القنطرة التي وراءه وأهل النار قد تبوءوا منازلهم منها فإنهم لا
يجوزون على الصراط ولا يحبسون على تلك القنطرة وأيضا ففي الحديث الصحيح:
"أنه لما ينادي المنادى لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فتتبع المشركون أوثانهم
وآلهتهم فتتساقط بهم في النار وتبقى هذه الأمة في الموقف حتى يأتيها ربها
عز وجل ويقول ألا تنطلقون حيت انطلق الناس" وقد ذكر الخطيب في تاريخه في
ترجمة سهل بن عبيد الله بن داود ابن سليمان أبو نصر البخاري حدثنا محمد بن
نوح الجند سابوري حدثنا جعفر بن محمد بن عيسى الناقد حدثنا سهل بن عثمان
ثنا عبد الله بن
مسعر بن كدام عن جعفر بن الزبير عن القاسم بن عبد
الرحمن عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على جهنم
يوما ما فيها من بني آدم أحد تخفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين" وليس
العمدة على هذا وحده فإن إسناده ضعيف وقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود وقد
تقدم.
فصل: والذين قطعوا بأبدية النار وأنها لا تفنى لهم طرق، أحدها
الآيات والأحاديث الدالة على خلودهم فيها وأنهم لا يموتون وما هم منها
بمخرجين وأن الموت يذبح بين الجنة والنار وأن الكفار لا يدخلون الجنة حتى
يلج الجمل في سم الخياط وأمثال هذه النصوص وهذه الطريق لا تدل على ما ذكروه
وإنما يدل على أنها ما دامت باقية فهم فيها فأين فيها ما يدل على عدم
فنائها، الطريق الثاني دعوى الإجماع على ذلك وقد ذكرنا من أقوال الصحابة
والتابعين ما يدل على أن الأمر بخلاف ما قالوا حتى لقد ادعى إجماع الصحابة
من هذا الجانب استنادا إلى تلك النقول التي لا يعلم عنهم خلافها، الطريق
الثالث أنه كالمعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الجنة والنار لا تفنيان بل
هما باقيتان ولهذا أنكر أهل السنة كلهم على أبي الهذيل وجهم وبشيعتهما ممن
قال بفنائها وعدوا أقوالهم من أقوال أهل البدع المخالفة لما جاء به الرسول
ولا ريب أن هذا من أقوال أهل البدع التي خرجوا بها عن السنة ولكن من أين
تصح دعوى العلم النظري أن النار باقية ببقاء الله دائمة بدوامه فضلا عن
العلم الضروري فأين في الأدلة الشرعية أو العقلية دليل واحد يقتضي ذلك،
الطريق الرابع أن السنة المستفيضة أو المتواترة أخبرت بخروج أهل التوحيد من
النار دون الكفار وهذا معلوم من السنة قطعا وهذا الذي قالوه حق لا ريب فيه
ولكن أهل التوحيد خرجوا منها وهي باقية لم تفن ولم تعدم والكفار لا يحصل
لهم ذلك بل هم باقون فيها ما بقيت، الطريق الخامس أن العقل يدل على
ص
-261- خلود الكفار فيها وعدم خروجهم منها فإن نفوسهم غير قابلة للخير
فإنهم لو خرجوا منها لعادوا كفارا كما كانوا وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله:
{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} وهذا يدل على غاية عتوهم
وإصرارهم وعدم قبول الخير فيهم بوجه من الوجوه فلا تصلح نفوسهم الشريرة
الخبيثة إلا للعذاب ولو صلحت لصلحت على طول العذاب فحيث لم يؤثر عذابهم تلك
الأحقاب الطويلة في نفوسهم ولم يطيبها علم أنه لا قابلية فيهم للخير أصلا
وأن أسباب العذاب لم يطف من نفوسهم فلا يطفى العذاب المترتب عليها وهذه
الطريق وإن أنكرت ببادئ الرأي فهي طريق قوية وهي ترجع إلى طريق الحكمة وأن
الحكمة التي اقتضت دخولهم هي التي اقتضت خلودهم ولكن هذه الطريق محرم
سلوكها على نفاة الحكمة وعلى مثبتيها من المعتزلة والقدرية أما النفاة
فظاهر وأما المثبتة فالحكمة عندهم أن عذابهم لمصلحتهم وهذا إنما يصح إذا
كان لهم حالتان حالة يعذبون فيها لأجل مصلحتهم وحالة يزول عنهم العذاب
لتحصل لهم تلك المصلحة وإلا فكيف تكون مصلحتهم في عذاب لا انقطاع له أبدا
وأما من يثبت حكمة راجعة إلى الرب تعالى فيمكنهم سلوك هذه الطريق لكن يقال
الحكمة لا تقتضي دوام عذابهم بدوام بقائه سبحانه وهو لم يخبر أنه خلقهم
لذلك وإنما يعذبون لغاية محمودة إذا حصلت حصل المقصود من عذابهم وهو سبحانه
لا يعذب خلقه سدى وهو قادر على أن ينشئهم بعد العذاب الطويل نشأة أخرى
مجردة عن تلك الشرور والخبائث التي كانت في نفوسهم وقد أزالها طول العذاب
فإنهم خلقوا قابلين للخير على الفطرة وهذا القبول لازم لخلقتهم وبه أقروا
بصانعهم وفاطرهم وإنما طرأ عليه ما أبطل مقتضاه فإذا زال ذلك الطارئ
بالعذاب الطويل بقي أصل القبول بلا معارض وأما قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا
لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه} فهذا قبل مثابرتهم للعذاب قال تعالى:
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا
يَا لَيْتَنَا
نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا
لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فتلك الخبائث
والشرور قائمة بنفوسهم لم تزلها النار فلو ردوا لعادوا لقيام المقتضى للعود
ولكن أين أخبر سبحانه أنه لو ردهم بعد العذاب الطويل السرمدي لعادوا لما
نهوا عنه وسر المسألة أن الفطرة الأصلية لا بد أن تعمل عملها كما عمل
الطارئ عليها عمله وهذه الفطرة عامة لجميع بني آدم كما في الصحيحين من حديث
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على
الفطرة" وفي لفظ "على هذه الملة" وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حماد
المجاشعي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه: "قال إني خلقت
عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم وأمرتهم أن
يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" فأخبر أن الأصل فيهم الحنيفية وأنهم خلقوا
عليها وأن صدها عارض فيهم باقتطاع الشياطين لهم عنها فمن الممتنع أن يعمل
أثر اقتطاع الشياطين ولا يعمل أثر خلق الرحمن جل جلاله عمله والكل خلقه
سبحانه فلا خالق سواه ولكن ذاك خلق يحبه ويرضاه ويضاف أثره إليه وهذا خلق
يبغضه ويسخطه ولا يضاف أثره إليه فإن الشر ليس إليه والخير كله في يديه فإن
قيل فقد قال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً
لأسْمَعَهُمْ} وهذا يقتضي أنه لا قابلية فيهم ولا خير عندهم البتة ولو كان
عندهم لخرجوا به من النار مع الموحدين فإنه سبحانه يخرج من النار من في
قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من خير فعلم أن هؤلاء ليس معهم هذا القدر اليسير
من الخير قيل الخير في هذا الحديث هو الإيمان
ص -262- بالله ورسله
كما في اللفظ الآخر أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان وهو تصديق رسله
والانقياد لهم بالقلب والجوارح وأما الخير في الآية فالمراد به القبول
والزكاة ومعرفة قدر النعمة وشكر المنعم عليها فلو علم الله سبحانه ذلك فيهم
لأسمعهم إسماعا ينتفعون به فإنهم قد سمعوا سماعا تقوم به عليهم الحجة فتلك
القابلية ذهب أثرها وتعطلت بالكفر والجحود وعادت كالشيء المعدوم الذي لا
ينتفع به وإنما ظهر أثرها في قيام الحجة عليهم ولم يظهر أثرها في انتفاعهم
بما عملوه وتيقنوه فإن قيل فالغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا وقال
نوح عن قومه ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد
والترمذي مرفوعا: "إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى فمنهم من يولد مؤمنا
ويحيي مؤمنا ويموت مؤمنا ومنهم من يولد كافرا ويحي كافرا ويموت كافرا"
الحديث قيل هذا لا يناقض كونه مولودا على الفطرة فإنه طبع وولد مقدرا كفره
إذا عقل وإلا ففي حال ولادته لا يعرف كفرا ولا إيمانا فهي حال مقدرة لا
مقارنة للعامل فهو مولود على الفطرة ومولود كافرا باعتبارين صحيحين ثابتين
له هذا بالقبول وإيثار الإسلام لو خلى وهذا بالفعل والإرادة إذا عقل فإذا
جمعت بين الفطرة السابقة والرحمة السابقة العالية والحكمة البالغة والغنى
التام وقرنت بين فطرته ورحمته وحكمته وغناه تبين لك الأمر، الطريق السادس
قياس دار العدل على دار الفضل وأن هذه كما أنها أبدية فالأخرى كذلك لأن هذه
توجب عدله وعدله ورحمته من لوازم ذاته وهذه الطريق غير نافذة فإن العدل
حقه سبحانه لا يجب عليه أن يستوفيه ولا يلحقه بتركه نقص ولا ذم بوجه من
الوجوه والفضل وعده الذي وعد به عباده وأحقه على نفسه والفرق بين الدارين
من وجوه عديدة شرعا وعقلا، أحدها أن الله سبحانه أخبر بأن نعيم الجنة ماله
من نفاد وأن عطاء أهلها غير مجذوذ وأنه غير ممنون ولم يجيء ذلك في عذاب أهل
النار، الثاني أنه
أخبر بما يدل على انتهاء عذاب أهل النار في عدة
آيات كما تقدم ولم يخبر بما يدل على انتهاء نعيم أهل الجنة ولهذا احتاج
القائلون بالتأبيد الذي لا انقطاع له إلى تأويل تلك الآيات ولم يجئ في نعيم
أهل الجنة ما يحتاجونه إلى تخصيصه بالتأويل، الثالث أن الأحاديث التي جاءت
في انتهاء عذاب النار لم يجيء شيء منها في انتهاء نعيم الجنة، الرابع أن
الصحابة والتابعين إنما ذكروا انقطاع العذاب ولم يذكر أحد منهم انقطاع
النعيم، الخامس أنه قد ثبت أن الله سبحانه يدخل الجنة بلا عمل أصلا بخلاف
النار، السادس أنه سبحانه ينشئ في الجنة خلقا ينعمهم فيها ولا ينشئ في
النار خلقا يعذبهم بها، السابع أن الجنة من مقتضى رحمته والنار من مقتضى
غضبه وأن الذين يدخلون النار أضعاف أضعاف الذين يدخلون الجنة فلو دام عذاب
هؤلاء كدوام نعيم هؤلاء لغلب غضبه رحمته فكان الغضب هو الغالب السابق وهذا
ممتنع، الثامن أن الجنة دار فضله والنار دار عدله وفضله يغلب عدله، التاسع
أن النار دار استيفاء حقه الذي له والجنة دار وفاء حقه الذي أحقه هو على
نفسه وهو سبحانه يترك حقه ولا يترك الحق الذي أحقه على نفسه، العاشر أن
الجنة هي الغاية التي خلقوا لها في الآخرة وأعمالها هي الغاية التي خلقوا
لها في الدنيا بخلاف النار فإنه سبحانه لم يخلق خلقه للكفر به والإشراك
وإنما خلقهم لعبادته وليرحمهم، الحادي عشر أن النعيم من موجب أسمائه وصفاته
والعذاب إنما هو من أفعاله قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} وقال:
{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال:
{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
ص -263- وَأَنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وما كان من مقتضى أسمائه وصفاته فإنه يدوم بدوامه
فإن قيل فإن العذاب صادر عن عزته وحكمته وعدله وهذه أسماء حسنى وصفات كمال
فيدوم ما صدر عنها بدوامها قيل لعمر الله أن العذاب صدر عن عزة وحكمة وعدل
وانتهاؤه عند حصول المقصود منه يصدر عن عزة وحكمة وعدل فلم يخرج العذاب
ولا انقطاعه عن عزته وحكمته وعدله ولكن عند انتهائه يكون عزة مقرونة برحمة
وحكمة مقرونة بجود وإحسان وعفو وصفح فالعزة والحكمة لم يزالا ولم ينقص بل
صدر جميع ما خلقه ويخلقه وأمر به ويأمر به عن عزته وحكمته، الثاني عشر أن
العذاب مقصود لغيره لا لنفسه وأما الرحمة والإحسان والنعيم فمقصود لنفسه
فالإحسان والنعيم غاية والعذاب والألم وسيلة فكيف يقاس أحدهما بالآخر،
الثالث عشر أنه سبحانه أخبر أن رحمته وسعت كل شيء وأن رحمته سبقت غضبه وأنه
كتب على نفسه الرحمة فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين فلو بقوا في
العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته وهذا ظاهر جدا فإن قيل فقد قال سبحانه
عقيبها: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى آخر الآية يخرج غيرهم
منها لخروجهم من الوصف الذي يستحق به قيل الرحمة المكتوبة لهؤلاء هي غير
الرحمة الواسعة لجميع الخلق بل هي رحمة خاصة خصهم بها دون غيرهم وكتبها لهم
دون من سواهم وهم أهل الفلاح الذين لا يعذبون بل هم أهل الرحمة والفوز
والنعيم وذكر الخاص بعد العام استطرادا وهو كثير في القرآن بل قد يستطرد من
الخاص إلى العام كقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا
حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا
اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} فهذا استطراد من ذكر الأبوين
إلى ذكر الذرية ومن استطراد قوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ
الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً
لِلشَّيَاطِينِ} فالتي جعلت رجوما ليست هي التي زينت بها السماء ولكن
استطرد من ذكر النوع إلى نوع آخر وأعاد ضمير الثاني على الأول لدخولهما تحت
جنس واحد فهكذا قوله: {رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فالمكتوب للذين يتقون نوع خاص من الرحمة الواسعة
والمقصود أن الرحمة لا بد أن تسع أهل النار ولا بد أن تنتهي حيث ينتهي
العلم كما قالت الملائكة ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما، الرابع عشر أنه قد
صح عنه صلى الله عليه وسلم حديث الشفاعة "قول أولي العزم إن ربي قد غضب
اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله" وهذا صريح في أن ذلك
الغضب العظيم لا يدوم ومعلوم أن أهل النار إنما دخلوها بذلك الغضب فلو دام
ذلك الغضب لدام عذابهم إذ هو موجب ذلك الغضب فإذا رضي الرب تبارك وتعالى
وزال ذلك الغضب زال موجبه وهذا كما أن عقوبات الدنيا العامة وبلاؤها آثار
غضبه فإذا استمر غضبه استمر ذلك البلاء فإذا رضي وزال غضبه زال البلاء
وخلفته الرحمة، الخامس عشر أن رضاه أحب إليه من غضبه وعفوه أحب إليه من
عقوبته ورحمته أحب إليه من عذابه وعطاؤه أحب إليه من منعه وإنما يقع الغضب
والعقوبة والمنع بأسباب تناقص موجب تلك الصفات والأسماء وهو سبحانه كما يحب
أسماءه وصفاته ويحب آثارها وموجبها كما في الحديث: "أنه وتر يحب الوتر
جميل يحب الجمال نظيف يحب النظافة عفو يحب العفو" وهو شكور يحب الشاكرين
عليم يحب العالمين جواد يحب أهل الجود حي ستير يحب أهل الحياء والستر صبور
يحب الصابرين رحيم يحب الرحماء فهو
ص -264- يكره ما يضاد ذلك وكذلك
كره الكفر والعصيان والفسوق والظلم والجهل لمضادة هذه الأوصاف لأوصاف كماله
الموافقة لأسمائه وصفاته ولكن يريده سبحانه لاستلزامه ما يحبه ويرضاه فهو
مراد له إرادة اللوازم المقصودة لغيرها إذ هي معصية إلى ما يحب فإذا حصل
بها ما يحبه وأدت إلى الغاية المقصودة له سبحانه لم تبق مقصودة لا لنفسها
ولا لغيرها فتزول ويخلفها أضدادها التي هي أحب إليه سبحانه منها وهي موجب
أسمائه وصفاته فإن فهمت سر هذا الوجه وإلا فجاوزه إلى ما قبله ولا تعجل
بإنكاره هذا وسر المسألة أنه سبحانه حكيم رحيم إنما يخلق بحكمة ورحمة فإذا
عذب من يعذب لحكمة كان هذا جاريا على مقتضاها كما يوجد في الدنيا من
العقوبات الشرعية والقدرية من التهذيب والتأديب والزجر والرحمة واللطف ما
يزكي النفوس ويطيبها ويمحصها ويخلصها من شرها وخبثها والنفوس الشريرة
الظالمة التي لو ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهت عنه لا يصلح أن
تسكن دار السلام التي تنافي الكذب والشر والظلم فإذا عذبت هذه النفوس
بالنار عذابا يخلصها من ذلك الشر ويخرج خبثها كان هذا معقولا في الحكمة كما
يوجد في عذاب الدنيا وخلق من فيه شر يزول بالتعذيب من تمام الحكمة أما خلق
نفوس شريرة لا يزول شرها البتة وإنما خلقت للشر المحض وللعذاب السرمد
الدائم بدوام خالقها سبحانه فهذا لا يظهر موافقته للحكمة والرحمة وإن دخل
تحت القدرة فدخوله تحت الحكمة والرحمة ليست بالبين فهذا ما وصل إليه النظر
في هذه المسألة التي تكع فيها عقول العقلاء وكنت سألت عنها شيخ الإسلام قدس
الله روحه فقال لي هذه المسألة عظيمة كبيرة ولم يجب فيها بشيء فمضى على
ذلك زمن حتى رأيت في تفسير عبد بن حميد الكثي بعض تلك الآثار التي ذكرت
فأرسلت إليه الكتاب وهو في مجلسه
الأخير وعلمت على ذلك الموضع وقلت
للرسول قل له هذا الموضع يشكل عليه ولا يدري ما هو فكتب فيها مصنفه المشهور
رحمة الله عليه فمن كان عنده فضل علم فليحدثه فإن فوق كل ذي علم عليم وأنا
في هذه المسألة على قول أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه
ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ووصف ذلك أحسن صفة ثم قال
"ويفعل الله بعد ذلك في خلقه ما يشاء" وعلى مذهب عبد الله بن عباس رضي الله
عنهما حيث يقول: "لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة
ولا نارا" وذكر ذلك في تفسير قوله: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ
فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} وعلى مذهب أبي سعيد الخدري حيث يقول:
"انتهى القرآن كله إلى هذه الآية: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} "
وعلى مذهب قتادة حيث يقول: "في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} الله
أعلم بتبينه على ما وقعت" وعلى مذهب ابن زيد حيث يقول: "أخبرنا الله بالذي
يشاء لأهل الجنة" فقال عطاء: "غير مجذوذ ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار"
والقول بأن النار وعذابها دائم بدوام الله خبر عن الله بما يفعله فإن لم
يكن مطابقا لخبره عن نفسه بذلك وإلا كان قولا عليه بغير علم والنصوص لا
تفهم ذلك والله أعلم.
فصل: وها هنا مذاهب أخرى باطله منها قول من قال
أنهم يعذبون في النار مدة لبثهم في الدنيا وقول من قال تنقلب عليهم طبيعة
نارية يلتذون بها كما يلتذ صاحب الجرب بالحك وقول من يقول أنها تفنى هي
والجنة جميعا ويعودان عدما وقول من يقول تفنى حركاتها وتبقى أهلها في سكون
دائم ولم يوفق للصواب في هذا الباب غير الصحابة ومن سلك سبيلهم
ص
-265- وبالله التوفيق.
فصل: فإن قيل فما الحكمة في كون الكفار أكثر من
المؤمنين وأهل النار أضعاف أضعاف أهل الجنة كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ
النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ
الشَّكُورُ} وقال: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ
يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وبعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة
وتسعون وواحد إلى الجنة وكيف نشأ هذا عن الرحمة الغالبة وعن الحكمة البالغة
وهلا كان الأمر بالضد من ذلك، قيل هذا السؤال من أظهر الأدلة على قول
الصحابة والتابعين في هذه المسألة وأن الأمر يعود إلى الرحمة التي وسعت كل
شيء وسبقت الغضب وغلبته وعلى هذا فاندفع السؤال بالكلية ثم نقول المادة
الأرضية اقتضت حصول التفاوت في النوع الإنساني كما في المسند والترمذي عنه
صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فكان
منهم الخبيث والطيب والسهل والحزن وغير ذلك" فاقتضت مادة النوع الإنساني
تفاوتهم في أخلاقهم وإراداتهم وأعمالهم ثم اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن
ابتلى المخلوق من هذه المادة بالشهوة والغضب والحب والبغض ولوازمها وابتلاه
بعدوه الذي لا يألوه خبالا ولا يغفل عنه ثم ابتلاه مع ذلك بزينة الدنيا
وبالهوى الذي أمر بمخالفته هذا على ضعفه وحاجته وزين له حب الشهوات من
النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة
والأنعام والحرث وأمره بترك قضاء أوطاره وشهواته في هذه الدار الحاضرة
العتيدة المشاهدة إلى دار أخرى غايته إنما تحصل فيها بعد طي الدنيا والذهاب
بها وكان مقتضى الطبيعة الإنسانية أن لا يثبت على هذا الابتلاء أحد وأن
يذهب
كلهم مع ميل الطبع ودواعي الغضب والشهوة فلم يحل بينهم وبين ذلك خالقهم
وفاطرهم بل أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وبين لهم مواقع رضاه وغضبه
ووعدهم على مخالفة هواهم وطبائعهم أكمل اللذات في دار النعيم فلم تقو عقول
الأكثرين على إيثار الآجل المنتظر بعد زوال الدنيا على هذا العاجل الحاضر
المشاهد وقالوا كيف يباع نقد حاضر وهو قبض باليد بنسيئة مؤخرة وعدنا
بحصولها بعد طي الدنيا وخراب العالم ولسان حال أكثرهم يقول "خذ ما تراه ودع
شيئا سمعت به" فساعد التوفيق الإلهي من علم أنه يصلح لمواقع فضله فأمده
بقوة إيمان وبصيرة رأى في ضوءها حقيقة الآخرة ودوامها وما أعد الله فيها
لأهل طاعته وأهل معصيته ورأى حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها وقله وفائها وظلم
شركائها وأنها كما وصفها الله سبحانه لعب ولهو وتفاخر بين أهلها وتكاثر في
الأموال والأولاد وأنها كغيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم
يكون حطاما فنشأنا في هذه الدار ونحن منها وبنوها لا نألف غيرها وحكمت
العادات وقهر السلطان الهوى وساعده داعي النفوس وتقاضاه موجب الطباع وغلب
الحس على العقل وكانت الدولة له والناس على دين الملك ولا ريب أن الذي يخرق
هذه الحجب ويقطع هذه العلائق ويخالف العوائد ولا يستجيب لدواعي الطبع
ويعصي سلطان الهوى لا يكون إلا الأقل ولهذا كانت المادة النارية أقل اقتضاء
لهذا الصنف من المادة الترابية لخفة النار وطيشها وكثرة نقلتها وسرعة
حركتها وعدم ثباتها والماء المادة الملكية فتر به من ذلك فلذلك كان المخلوق
خيرا كله فالعقلاء المخاطبون مخلوقون من هذه المواد الثلاث واقتضت الحكمة
أن يكونوا على هذه الصفة والخلقة
ص -266- ولو كانوا على غير ذلك لم
يحصل مقصود الامتحان والابتلاء وتنوع العبودية وظهور آثار الأسماء والصفات
فلو كان أهل الإيمان والخير هم الأكثرين الغالبين لفاتت مصلحة الجهاد
وتوابعه التي هي من أجل أنواع العبودية وفات الكمال المترتب على ذلك فلا
أحسن مما اقتضاه حكمة أحكم الحاكمين في المخلوق من هذه المواد ثم أنه
سبحانه يخلص ما في المخلوق من تينك المادتين من الخبث والشر ويمحصه ويستخرج
طيبه إلى دار الطيبين ويلقي خبثه حيث تلقى الخبائث والأوساخ وهذا غاية
الحكمة كما هو الواقع في جواهر المعادن المنتفع بها من الذهب والفضة
والحديد والصفر فخلاصة هذه المواد وطيبها أقل من وسخها وخبثها والناس زرع
الأرض والخير الصافي من الزرع بعد زوانه وقصله وعصفه وتبنه أقل من بقية
الأجزاء وتلك الأجزاء كالصور له والوقاية كالحطب والشوك للثمر والتراب
والحجارة للمعادن النفيسة.
فصل: الوجه السابع والثلاثون قوله وأي حكمة
في تسليط أعدائه على أوليائه يسومونهم سوء العذاب فكم لله في ذلك من حكم
باهرة منها حصول محبوبة من عبودية الصبر والجهاد وتحمل الأذى فيه والرضى
عنه في السراء والضراء والثبات على عبوديته وطاعته مع قوة المعارض وغلبته
وشوكته وتمحيص أوليائه من أحكام البشرية ودواعي الطباع ببذل نفوسهم له وأذى
أعدائه لهم وتميز الصادق من الكاذب ومن يريده ويعبده على جميع الحالات ممن
يعبده على حرف وليحصل له مرتبة الشهادة التي هي من أعلى المراتب ولا شيء
أبر عند الحبيب من بذل محبة نفسه في مرضاته ومجاهدة عدوه فكم لله في هذا
التسليط من نعمة ورحمة وحكمة وإذا شئت أن تعلم ذلك فتأمل الآيات من أواخر
آل عمران من قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} إلى قوله: {نَّمَا
ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ
أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ
وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ
لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فكان هذا التمييز من بعض حكم ذلك التسليط
ولولا ذلك التسليط لم تظهر فضيلة الصبر والعفو والحكم وكظم الغيظ ولا حلاوة
النصر والظفر والقهر فإن الأشياء يظهر حسنها بأضدادها ولولا ذلك التسليط
لم تستوجب الأعداء المحق والإهانة والكبت فاستخرج ذلك التسليط من القوة إلى
الفعل ما عند أوليائه فاستحقوا كرامتهم عليه وما عند أعدائه فاستحقوا
عقوبتهم عليه فكان هذا التسليط مما أظهر حكمته وعزته ورحمته ونعمته في
الفريقين وهو العزيز الحكيم، الوجه الثامن والثلاثون قوله وأي حكمة في
تكليف الثقلين وتعريضهم بذلك العقوبة وأنواع المشاق، فاعلم أنه لولا
التكليف لكان خلق الإنسان عبثا وسدى والله يتعالى عن ذلك وقد نزه نفسه عنه
كما نزه نفسه عن العيوب والنقائص قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا
خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} وقال:
{أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} قال الشافي لا يؤمر ولا
ينهى ومعلوم أن ترك الإنسان كالبهائم مهملا معطلا مضاد للحكمة فإنه خلق
لغاية كماله وكماله أن يكون عارفا بربه محبا له قائما بعبوديته قال تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وقال:
{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ
قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وقال: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فهذه المعرفة وهذه العبودية هما غاية
الخلق والأمر وهما أعظم كمال الإنسان والله تعالى من عنايته به ورحمته له
عرضه لهذا الكمال وهيأ له أسبابه الظاهرة والباطنة
ومكنه منها
ص
-267- ومدار التكليف على الإسلام والإيمان والإحسان وهي ترجع إلى شكر
المنعم كلها دقيقها وجليلها منه وتعظيمه وإجلاله ومعاملته بما يليق أن
يعامل به فتذكر آلاؤه وتشكر فلا يكفر ويطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى هذا مع
تضمن التكليف لإيصاف العبد بكل خلق جميل وإثباته بكل فعل جميل وقول سديد
واجتنابه لكل خلق سيئ وترك كل فعل قبيح وقول زور فتكليفه متضمن لمكارم
الأخلاق ومحاسن الأفعال وصدق القول والإحسان إلى الخليقة وتكميل نفسه
بأنواع الكمالات وهجر أضداد ذلك والتنزه عنها مع تعريضه بذلك التكليف
للثواب الجزيل الدائم ومجاورة ربه في دار البقاء فأي الأمرين أليق بالحكمة
هذا أو إرساله هملا كالخيل والبغال والحمير يأكل ويشرب وينكح كالبهائم
أيقتضي كماله المقدس ذلك فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش
الكريم وكيف يليق بذلك الكمال طي بساط الأمر والنهي والثواب والعقاب وترك
إرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع وتقرير الأحكام وهل عرف الله من جوز
عليه خلاف ذلك وهل ذلك إلا من سوء الظن به قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ
مِنْ شَيْءٍ} فحسن التكليف في العقول كحسن الإحسان والإنعام والتفضل والطول
بل هو من أبلغ أنواع الإحسان والإنعام ولهذا سمى سبحانه ذلك نعمة ومنة
وفضلا ورحمة وأخبر أن الفرح به خير من الفرح بالنعم المشتركة بين الأبرار
والفجار قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ
اللَّهِ كُفْراً} فنعمة الله هاهنا نعمته بمحمد صلى الله عليه وسلم وما
بعثه به من الهدى ودين الحق وقال: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ
كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي
بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا
مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا
بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} و قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وقال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}
وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} وقال: {وَاذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ
وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ} وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ
اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ
وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي
قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ
أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وقال لرسوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} وهل النعمة والفضل في الحقيقة إلا ذلك وتوابعه
وثمرته في القلوب والأبدان في الدنيا والآخرة وهل في العقول السليمة
والفطرة المستقيمة أحسن من ذلك وأليق بكمال الرب وأسمائه وصفاته، الوجه
التاسع والثلاثون قوله في مناظرة الأشعري للجبائي في الإخوة الثلاثة
الذين
مات أحدهم صغيرا وبلغ الآخر كافرا والثالث مسلما أنها مناظرة كافية في
إبطال الحكمة والتعليل ورعاية الأصلح، فلعمر الله أنها مبطلة لطريقة أهل
البدع من المعتزلة والقدرية الذين يوجبون على ربهم مراعاة الأصلح لكل عبد
وهو الأصلح عندهم فيشرعون له شريعة بعقولهم ويحجرون عليه ويحرمون عليه أن
يخرج عنها ويوجبون عليه القيام بها وكذلك كانوا من أحمق الناس وأعظمهم
تشبيها للخالق بالمخلوق في أفعاله وأعظمهم تعطيلا عن صفات كماله فنزهوه عن
صفات الكمال وشبهوه بخلقه في الأفعال وأدخلوه تحت الشريعة الموضوعة
ص
-268- بآراء الرجال وسموا ذلك عدلا وتوحيدا بالزور والبهتان وتلك التسمية
ما أنزل الله بها من سلطان فالعدل قيامه بالقسط في أفعاله والتوحيد وإثبات
صفات كماله شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما
بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام فهذا العدل
والتوحيد الذي جاء به المرسلون وذلك التوحيد والعدل الذي جاء به المعطلون،
والمقصود أن هذه المناظرة وإن أبطلت قول هؤلاء وزلزلت قواعدهم فإنها لا
تبطل حكمة الله التي اختص بها دون خلقه وطوى بساط الإحاطة بها عنهم ولم
يطلعهم منها إلا على ما نسبته إلى ما خفي عنهم كقطرة من بحار الدنيا فكم
لله سبحانه من حكمة في ذلك الذي أخرمه صغيرا وحكمة في الذي مد له في العمر
حتى بلغ وأسلم وحكمة في الذي أبقاه حتى بلغ وكفر ولو كان كل من علم أنه إذا
بلغ يكفر يخترمه صغيرا لتعطل الجهاد والعبودية التي يحبها الله ويرضاها
ولم يكن هناك معارض وكان الناس أمة واحدة ولم تظهر آياته وعجائبه في الأمم
ووقائعه وأيامه في أعدائه وإقامة الحجج وجدال أهل الباطل بما يدحض شبهتهم
وينصر الحق ويظهره على الباطل إلى أضعاف أضعاف ذلك من الحكم التي لا يحصيها
إلا الله والله سبحانه يحب ظهور أسمائه وصفاته في الخليقة فلو اخترم كل من
علم أنه يكفر إذا بلغ لفات ذلك وفواته مناف لكمال تلك الأسماء والصفات
واقتضائها لآثارها وقد تقدم بسط ذلك أتم من هذا، الوجه الأربعون قوله أنه
سبحانه رد الأمر إلى محض مشيئة بقوله: { يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ
مَنْ يَشَاءُ } وقوله: { فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ } وقوله: { فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } وقوله: { لا
يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } فهذا كله حق ولكن أين فيه إبطال حكمته وحمده
والغايات المحمودة المطلوبة بفعله وأنه لا يفعل شيئا لشيء ولا يأمر بشيء
لأجل شيء ولا سبب لفعله ولا غاية أفترى
أصحاب الحكمة والتعليل يقولون
أنه لا يفعل بمشيئته أو أنه يسئل عما يفعل بل يقولون أنه يفعل بمشيئته
مقارنا للحكمة والمصلحة ووضع الأشياء مواضعها وأنه يفعل ما يشاء بأسباب
وحكم ولغايات مطلوبة وعواقب حميدة فهم مثبتون لملكه وحده وغيرهم يثبت ملكا
بلا حمد أو نوعا من الحمد ومع هضم الملك إذ الرب تعالى له كمال وكمال الحمد
فكونه يفعل ما يشاء يمنع من أن يشاء بأسباب وحكم وغايات وأنه لا يشاء إلا
ذلك وأما قوله: { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } فهذا
لكمال علمه وحكمته لا لعدم ذلك وأيضا فسياق الآية في معنى آخر وهو إبطال
إلهية من سواه وإثبات الألوهية له وحده فإنه سبحانه قال: { أَمِ اتَّخَذُوا
آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ
إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا
يَصِفُونَ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } فأين في هذا
ما يدل على إبطال التعليل بوجه من الوجوه ولكن أهل الباطل يتعلقون بألفاظ
نزلوها على باطلهم لا تنزل عليه وبمعان متشابهة يشتبه فيها الحق بالباطل
فعمدتهم المتشابه من الألفاظ والمعاني فإذا فصلت وبينت يتبين أنها لا دلالة
فيها وأنها مع ذلك قد تدل على نقيض مطلوبهم وبالله التوفيق.
شفاء
العليل
الباب الرابع والعشرون: في معنى قول السلف في الإيمان بالقدر
خيره وشره وحلوه ومره
الباب الرابع والعشرون: في قول السلف من أصول
الإيمان الإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره.
قد تقدم أن القدر لا شر
فيه بوجه من الوجوه فإنه علم الله وقدرته وكتابه ومشيئته وذلك خير محض
ص
-269- وكمال من وجه فالشر ليس إلى الرب تعالى بوجه من الوجوه لا في ذاته
ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله وإنما يدخل الشر الجزئي الإضافي
في المقضي المقدر ويكون شرا بالنسبة إلى محل وخيرا بالنسبة إلى محل آخر وقد
يكون خيرا بالنسبة إلى المحل القائم به من وجه كما هو شر له من وجه بل هذا
هو الغالب وهذا كالقصاص وإقامة الحدود وقتل الكفار فإنه شر بالنسبة إليهم
لا من كل وجه بل من وجه دون وجه وخير بالنسبة إلى غيرهم لما فيه من مصلحة
الزجر والنكال ودفع الناس بعضهم ببعض وكذلك الآلام والأمراض وإن كانت شرورا
من وجه فهي خيرات من وجوه عديدة وقد تقدم تقرير ذلك فالخير والشر من جنس
اللذة والألم والنفع والضرر وذلك في المقضي المقدر لا في نفس صفة الرب
وفعله القائم به فإن قطع يد السارق شر مؤلم ضار له وأما قضاء الرب ذلك
وتقديره عليه فعدل خير وحكمة ومصلحة كما يأتي في الباب الذي بعد هذا إن شاء
الله، فإن قيل فما الفرق بين كون القدر خيرا وشرا وكونه حلوا ومرا، قيل
الحلاوة والمرارة تعود إلى مباشرة الأسباب في العاجل والخير والشر يرجع إلى
حسن العاقبة وسوئها فهو حلو ومر في مبدأه وأوله وخير وشر في منتهاه
وعاقبته وقد أجرى الله سبحانه سنته وعادته أن حلاوة الأسباب في العاجل تعقب
المرارة في الآجل ومرارتها تعقب الحلاوة فحلو الدنيا مر الآخرة ومر الدنيا
حلو الآخرة وقد اقتضت حكمته سبحانه أن جعل اللذات تثمر الآلام والآلام
تثمر اللذات والقضاء والقدر منتظم لذلك انتظاما لا يخرج عنه شئ البتة والشر
مرجعه إلى اللذات وأسبابها والخير
المطلوب هو اللذات الدائمة والشر
المرهوب هو الآلام الدائمة فأسباب هذه الشرور وإن اشتملت على لذة ما وأسباب
تلك خيرات وإن اشتملت على ألم ما فألم يعقب اللذة الدائمة أولى بالإيثار
والتحمل من لذة تعقب الألم الدائم فلذة ساعة في جنب ألم طويل كلا لذة وألم
ساعة في جنب لذة طويلة كلا ألم.
شفاء العليل
الباب الخامس
والعشرون: في بيان بطلان قول من قال إن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له
وامتناع إطلاق ذلك نفيا وإثباتا
الباب الخامس والعشرون: في امتناع إطلاق
القول نفيا وإثباتا أن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له.
هذا موضع خلاف
اختلف فيه مثبتو القدر ونفاته فقال النفاة لا يجوز أن يقال أن الله سبحانه
مريد للشر أو فاعل له قالوا لا يريد الشر وفاعله شرير هذا هو المعروف لغة
وعقلا وشرعا كما أن الظالم فاعل الظلم والفاجر فاعل الفجور ومريده والرب
يتعالى ويتنزه عن ثبوت معاني أسماء السوء له فإن أسماءه كلها حسنى وأفعاله
كلها خير فيستحيل أن يريد الشر فالشر ليس بإرادته ولا بفعله قالوا وقد قام
الدليل على أن فعله سبحانه غير مفعوله والشر ليس بفعل له فلا يكون مفعولا
له وقابلهم الجبرية فقالوا بل الرب سبحانه يريد الشر ويفعله قالوا لأن الشر
موجود فلا بد له من خالق ولا خالق إلا الله وهو سبحانه إنما يخلق بإرادته
فكل مخلوق فهو مراد له وهو فعله ووافقوا إخوانهم على أن الفعل عين المفعول
والخلق نفس المخلوق ثم قالوا والشر مخلوق له ومفعول فهو فعله وخلقه وواقع
بإرادته قالوا وإنما لم يطلق القول أنه يريد الشر ويفعل الشر أدبا لفظيا
فقط كما لا يطلق القول بأنه رب الكلاب والخنازير ويطلق القول بأنه رب كل
شيء وخالقه قالوا وأما قولكم أن الشرير مريد الشر وفاعله فجوابه من وجهين،
أحدهما إنما يمنع ذلك بأن الشرير من قام به الشر وفعل الشر لم يقم بذات
الرب فإن أفعاله
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ص -270- لا تقوم به إذ هي نفس مفعولاته وإنما هي قائمة بالخلق وكذلك
اشتقت لهم منها الأسماء كالفاجر والفاسق والمصلي والحاج والصائم ونحوها،
الجواب الثاني أن أسماء الله تعالى توقيفية ولم يسم نفسه إلا بأحسن الأسماء
قالوا والرب تعالى أعظم من أن يكون في ملكه مالا يريده ولا يخلقه فإنه
الغالب غير المغلوب، وتحقيق القول في ذلك أنه يمتنع إطلاق إرادة الشر عليه
وفعله نفيا وإثباتا في إطلاق لفظ الإرادة والفعل من إبهام المعنى الباطل
ونفي المعنى الصحيح فإن الإرادة تطلق بمعنى المشيئة وبمعنى المحبة والرضا
فالأول كقوله: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وقوله:
{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ
قَرْيَةً} والثاني كقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}
وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
فالإرادة بالمعنى الأول تستلزم وقوع المراد ولا تستلزم محبته والرضا به
وبالمعنى الثاني لا تستلزم وقوع المراد وتستلزم محبته فإنها لا تنقسم بل كل
ما أراده من أفعاله فهو محبوب مرضي له ففرق بين إرادة أفعاله وإرادة
مفعولاته فإن أفعاله خير كلها وعدل ومصلحة وحكمة لا شر فيها بوجه من الوجوه
وأما مفعولاته فهي مورد الانقسام وهذا إنما يتحقق على قول أهل السنة أن
الفعل غير المفعول والخلق غير المخلوق كما هو الموافق للعقول والفطر واللغة
ودلالة القرآن والحديث وإجماع أهل السنة كما حكاه البغوي في شرح السنة
عنهم وعلى هذا فهاهنا إرادتان ومرادان إرادة أن يفعل ومرادها فعله القائم
به وإرادة أن يفعل عبده ومرادها مفعوله المنفصل عنه وليسا بمتلازمين فقد
يريد من عبده أن يفعل ولا يريد من نفسه إعانته على الفعل وتوفيقه له
وصرف
موانعه عنه كما أراد من إبليس أن يسجد لآدم ولم يرد من نفسه أن يعينه على
السجود ويوفقه له ويثبت قلبه عليه ويصرفه إليه ولو أراد ذلك منه لسجد له لا
محالة وقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} إخباره عن إرادته لفعله لا لأفعال
عبيده وهذا الفعل والإرادة لا ينقسم إلى خير وشر كما تقدم وعلى هذا فإذا
قيل هو مريد للشر أوهم أنه محب له راض به وإذا قيل أنه لم يرده أوهم أنه لم
يخلقه ولا كونه وكلاهما باطل ولذلك إذا قيل أن الشر فعله أو أنه يفعل الشر
أوهم أن الشر فعله القائم به وهذا محال وإذا قيل لم يفعله أو ليس بفعل له
أوهم أنه لم يخلقه ولم يكونه وهذا محال فانظر ما في إطلاق هذه الألفاظ في
النفي والإثبات من الحق والباطل الذي يتبين بالاستفصال والتفصيل وأن الصواب
في هذا الباب ما دل عليه القرآن والسنة من أن الشر لا يضاف إلى الرب تعالى
لا وصفا ولا فعلا ولا يتسمى باسمه بوجه من الوجوه وإنما يدخل في مفعولاته
بطريق العموم كقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا
خَلَقَ} فما هاهنا موصولة أو مصدرية والمصدر بمعنى المفعول أي من شر الذي
خلقه أو من شر مخلوقه وقد يحذف فاعله كقوله حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا
لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ
رَبُّهُمْ رَشَداً} وقد يسند إلى محله القائم به كقول إبراهيم الخليل الذي
خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين وقول الخضر
أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وقال في بلوغ
الغلامين فأراد ربك أن يبلغا أشدهما وقد جمع الأنواع الثلاثة في الفاتحة في
قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} والله تعالى
إنما نسب إلى نفسه الخير دون الشر فقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ
الْمُلْكِ تُؤْتِي
الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ
مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ
الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى
ص -271- كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} وأخطأ من قال
المعنى بيدك الخير و الشر لثلاثة أوجه، أحدها أنه ليس في اللفظ ما يدل على
إرادة هذا المحذوف بل ترك ذكره قصدا أو بيانا أنه ليس بمراد، الثاني أن
الذي بيد الله تعالى نوعان فضل وعدل كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى
الله عليه وسلم: "يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم
ما أنفق منذ خلق الخلق فإنه لم يغض ما في يمينه وبيده الأخرى القسط يخفض
ويرفع" فالفضل لإحدى اليدين والعدل للأخرى وكلاهما خير لا شر فيه بوجه،
الثالث أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لبيك وسعديك والخير في يديك والشر
ليس إليك كالتفسير للآية ففرق بين الخير والشر وجعل أحدهما في يدي الرب
سبحانه وقطع إضافة الآخر إليه مع إثبات عموم خلقه لكل شيء.
فصل: والرب
تعالى يشتق له من أوصافه وأفعاله أسماء ولا يشتق له من مخلوقاته وكل اسم من
أسمائه فهو مشتق من صفة من صفاته أو فعل قائم به فلو كان يشتق له اسم
باعتبار المخلوق المنفصل يسمى متكونا ومتحركا وساكنا وطويلا وأبيض وغير ذلك
لأنه خالق هذه الصفات فلما لم يطلق عليه اسم من ذلك مع أنه خالقه علم إنما
يشتق أسماءه من أفعاله وأوصافه القائمة به وهو سبحانه لا يتصف بما هو
مخلوق منفصل عنه ولا يتسمى باسمه ولهذا كان قول من قال أنه يسمى متكلما
بكلام منفصل عنه وخلقه في غيره ومريد بإرادة منفصلة عنه وعادلا بعدل مخلوق
منفصل عنه وخالقا بخلق منفصل عنه هو المخلوق قولا باطلا مخالفا للعقل
والنقل واللغة مع تناقضه في نفسه فإن اشتق له اسم باعتبار مخلوقاته لزم طرد
ذلك في كل صفة أو فعل
خلقه وإن خص ذلك ببعض الأفعال والصفات دون بعض
كان تحكما لا معنى له وحقيقة قول هؤلاء أنه لم يقم به عدل ولا إحسان ولا
كلام ولا إرادة ولا فعل البتة ومن تجهم منهم نفى حقائق الصفات وقال لم تقم
به صفة ثبوتية فنفوا صفاته وردوها إلى السلوب والإضافات ونفوا أفعاله
وردوها إلى المصنوعات المخلوقات وحقيقة هذا أن أسماءه تعالى ألفاظ فارغة عن
المعاني لا حقائق لها وهذا من الإلحاد فيها وإنكار أن يكون حسنا وقد قال
تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ} وقد دل القرآن والسنة على إثبات مصادر هذه الأسماء له سبحانه
وصفا كقوله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} وقوله: {إِنَّ
اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وقوله: {فَاعْلَمُوا
أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "لأحرقت
سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" وقول عائشة: "الحمد لله الذي وسع
سمعه الأصوات" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ برضاك من سخطك" وقوله:
"أسألك الغيب وقدرتك على الخلق" وقوله: "أعوذ بعزتك أن تضلني" ولولا هذه
المصادر لانتفت حقائق الأسماء والصفات والأفعال فإن أفعاله غير صفاته
وأسماءه غير أفعاله وصفاته فإذا لم يقم به فعل ولا صفة فلا معنى للاسم
المجرد وهو بمنزلة صوت لا يفيد شيئا وهذا غاية الإلحاد
شفاء العليل
الباب
السادس والعشرون: فيما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ برضاك من
سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك" من تحقيق القدر وإثباته وأسرار
هذا الدعاء
ص -272- الباب السادس والعشرون: فيما دل عليه قوله صلى الله
عليه وسلم اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك
منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك من تحقيق القدر وإثباته وما
تضمنه الحديث من الأسرار العظيمة.
قد دل هذا الحديث العظيم القدر على
أمور، منها أنه يستعاذ بصفات الرب كما يستغاث بذاته وكذلك يستعاذ بصفاته
كما يستغاث بذاته كما في الحديث: "يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض
يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا
تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك" وكذلك قوله في الحديث الآخر:
"أعوذ بعزتك أن تضلني" وكذلك استعاذته بكلمات الله التامات وبوجهه الكريم
وتعظيمه وفي هذا ما يدل على أن هذه صفات ثابتة وجودية إذ لا يستعاذ بالعدم
وأنها قائمة به غير مخلوقة إذ لا يستعاذ بالمخلوق وهو احتجاج صحيح فإن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق ولا يستغيث به ولا يدل أمته على
ذلك، ومنها أن العفو من صفات الفعل القائمة به وفيه رد على من زعم أن فعله
عين مفعوله فإن المفعول مخلوق ولا يستعاذ به، ومنها أن بعض صفاته وأفعاله
سبحانه أفضل من بعض فإن المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه وهذا كما أن صفة
الرحمة أفضل من صفة الغضب ولذلك كان لها الغلبة والسبق ولذلك كلامه سبحانه
هو صفته ومعلوم أن كلامه الذي يثني على نفسه به ويذكر فيه أوصافه وتوحيده
أفضل من كلامه الذي يذم به أعداءه ويذكر أوصافهم ولهذا كانت سورة الإخلاص
أفضل من سورة تبت وكانت تعدل ثلث القرآن دونها وكانت آية الكرسي أفضل آية
في القرآن ولا تصغ إلى قول من غلظ حجابه أن الصفات قديمة والقديم لا
يتفاضل
فإن الأدلة السمعية والعقلية تبطل قوله وقد جعل سبحانه ما كان من الفضل
والعطاء والخير وأهل السعادة بيده اليمنى وما كان من العدل والقبض بيده
الأخرى ولهذا جعل أهل السعادة في قبضة اليمنى وأهل الشقاوة في القبضة
الأخرى والمقسطون على منابر من نور عن يمينه والسماوات مطويات بيمينه
والأرض بالأرض ومنها أن الغضب والرضاء والعفو والعقوبة لما كانت متقابلة
استعاذ بأحدهما من الآخر فلما جاء إلى الذات المقدسة التي لا ضد لها ولا
مقابل قال وأعوذ بك منك فاستعاذ بصفة الرضى من صفة الغضب وبفعل العفو من
فعل العقوبة وبالموصوف بهذه الصفات والأفعال منه وهذا يتضمن كمال الإثبات
للقدر والتوحيد بأوجز لفظ وأخصره فإن الذي يستعاذ منه من الشر وأسبابه هو
واقع بقضاء الرب تعالى وقدره وهو المنفرد بخلقه وتقديره وتكوينه فما شاء
كان وما لم يشاء لم يكن فالمستعاذ منه إما وصفه وإما فعله وإما مفعوله الذي
هو أثر فعله والمفعول ليس إليه نفع ولا ضر ولا يضر إلا بإذن خالقه كما قال
تعالى في أعظم ما يتضرر به العبد وهو السحر: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ
مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} فالذي يستعاذ منه هو بمشيئته وقضائه
وقدرته وإعاذته منه وصرفه عن المستعيذ إنما هو بمشيئته أيضا وقضائه وقدره
فهو المعيذ من قدره بقدره ومن ما يصدره عن مشيئة وإرادته بما يصدره عن
ص
-273- مشيئته وإرادته والجميع واقع بإرادته الكونية القدرية فهو يعيذ من
إرادته بإرادته إذ الجميع خلقه وقدره وقضاء فليس هناك خلق لغيره فيعيذ منه
هو بل المستعاذ منه خلق له فهو الذي يعيذ عبده من نفسه بنفسه فيعيذه مما
يريده به بما يريده به فليس هناك أسباب مخلوقة لغيره يستعيذ منها المستعيذ
به كما يستعيذ من رجل ظلمه وقهره برجل أقوى أو نظيره فالمستعاذ منه هو
الذنوب وعقوباتها والآلام وأسبابها والسبب من قضائه والمسبب من قضائه
والإعاذة بقضائه فهو الذي يعيذ من قضائه بقضائه فلم يعذ إلا بما قدره وشاءه
وذلك الاستعاذة منه وشاءها وقدر الإعاذة وشاءها فالجميع قضاؤه وقدره وموجب
مشيئته فنتجت هذه الكلمة التي لو قالها غير الرسول لبادر المتكلم الجاهل
إلى إنكارها وردها أنه لا يملك الضر والنفع والخلق والأمر والإعاذة غيرك
وأن المستعاذ منه هو بيدك وتحت تصرفك ومخلوق من خلقك فما استعذت إلا بك ولا
استعذت إلا منك وهذا نظير قوله في الحديث الآخر: "لا ملجأ ولا منجا منك
إلا إليك" فهو الذي ينجي من نفسه بنفسه ويعيذ من نفسه بنفسه وكذلك الفرار
يفر عبده منه إليه وهذا كله تحقيق للتوحيد والقدر وأنه لا رب غيره ولا خالق
سواه ولا يملك المخلوق لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة
ولا نشورا بل الأمر كله لله ليس لأحد سواه منه شيء كما قال تعالى لأكرم
خلقه عليه وأحسنهم إليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وقال جوابا
لمن قال هل لنا من الأمر شيء: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}
فالملك كله له والأمر كله له والحمد كله له والشفاعة كلها له والخير كله في
يديه وهذا تحقيق تفرده بالربوبية والألوهية فلا إله غيره ولا رب سواه:
{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ
اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ
هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ
حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ
يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا
كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ}: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا
مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فاستعذ به منه وفر منه إليه واجعل لجاك منه إليه
فالأمر كله له لا يملك أحد معه منه شيئا فلا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب
بالسيئات إلا هو ولا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه ولا يضر سم ولا سحر
ولا شيطان ولا حيوان ولا غيره إلا بإذنه ومشيئته يصيب بذلك من يشاء ويصرفه
عمن يشاء فأعرف الخلق به وأقواهم بتوحيده من قال في دعائه وأعوذ بك منك
فليس للخلق معاذ سواه ولا مستعاذ منه إلا وهو ربه وخالقه ومليكه وتحت قهره
وسلطانه ثم ختم الدعاء بقوله لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
اعترافا بأن شأنه وعظمته ونعوت كماله وصفاته أعظم وأجل من أن يحصيها أحد من
الخلق أو بلغ أحد حقيقة الثناء عليه غيره سبحانه فهو توحيد في الأسماء
والصفات والنعوت وذاك توحيد في العبودية والتأله وإفراده تعالى بالخوف
والرجاء والاستعاذة وهذا مضاد الشرك وذاك مضاد التعطيل وبالله التوفيق.
شفاء
العليل
الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر
والعدل والتوحيد تحت قوله: "ماض في حكمك عدل في قضاؤك" وما تضمنه الحديث من
قواعد الدين
ص -274- الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء
والقدر والعدل والتوحيد والحكمة تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم ماض في
حكمك عدل في قضاؤك وبيان ما في هذا الحديث من القواعد.
ثبت عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "ما أصاب عبدا قط هم ولا غم ولا حزن فقال: اللهم
إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك
بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو
استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء
حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا قالوا: يا
رسول الله أفلا نتعلمهن قال: بلى ينبغي لمن يسمعهن أن يتعلمهن" فقد دل هذا
الحديث الصحيح منها أنه استوعب أقسام المكروه الواردة على القلب فالهم يكون
على مكروه يتوقع في المستقبل يهتم به القلب والحزن على مكروه ماض من فوات
محبوب أو حصول مكروه إذا تذكره أحدث له حزنا والغم يكون على مكروه حاصل في
الحال يوجب لصاحبه الغم فهذه المكروهات هي من أعظم أمراض القلب وأدوائه وقد
تنوع الناس في طرق أدويتها والخلاص منها وتباينت طرقهم في ذلك تباينا لا
يحصيه إلا الله بل كل أحد يسعى في التخلص منها بما يظن أو يتوهم أنه يخلصه
منها وأكثر الطرق والأدوية التي يستعملها الناس في الخلاص منها لا يزيدها
إلا شدة لمن يتداوى منها بالمعاصي على اختلافها من أكبر كبائرها إلى أصغرها
وكمن يتداوى منها باللهو واللعب والغناء وسماع الأصوات المطربة وغير ذلك
فأكثر سعي بني آدم أو كله إنما هو لدفع هذه الأمور والتخلص منها وكلهم قد
أخطأ الطريق إلا من سعى في إزالتها بالدواء الذي وصفه الله لإزالتها وهو
دواء مركب من مجموع أمور
متى نقص منها جزء نقص من الشفاء بقدره وأعظم
أجزاء هذا الدواء هو التوحيد والاستغفار قال تعالى: {اعْلَمْ أَنَّهُ لا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ} وفي الحديث: "فإن الشيطان يقول أهلك بني آدم بالذنوب
وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء
فهم يذنبون ولا يتوبون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا" ولذلك كان الدعاء
المفرج للكرب محض التوحيد وهو لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا هو
رب العرش العظيم لا إله إلا هو رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم وفي
الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوة أخي ذي النون ما دعاها
مكروب إلا فرج الله كربه لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"
فالتوحيد يدخل العبد على الله على والاستغفار والتوبة يرفع المانع ويزيل
الحجاب الذي يحجب القلب عن الوصول إليه فإذا وصل القلب إليه زال عنه همه
وغمه وحزنه وإذا انقطع عنه حصرته الهموم والغموم والأحزان وأتته من كل طريق
ودخلت عليه من كل باب فلذلك صدر هذا الدعاء المذهب للهم والغم والحزن
بالاعتراف له بالعبودية حقا منه ومن آياته ثم أتبع ذلك باعترافه بأنه في
قبضته وملكه وتحت تصرفه بكون ناصيته في يده يصرفه كيف يشاء كما يقاد من
أمسك بناصيته شديد القوى
ص -275- لا يستطيع إلا الانقياد له ثم أتبع
ذلك بإقراره له بنفاذ حكمه فيه وجريانه عليه شاء أم أبى وإذا حكم فيه بحكم
لم يستطع غيره برده أبدا وهذا اعتراف لربه بكمال القدرة عليه واعتراف من
نفسه بغاية العجز والضعف فكأنه قال أنا عبد ضعيف مسكين يحكم فيه قوى قاهر
غالب وإذا حكم فيه بحكم مضى حكمه فيه ولا بد ثم أتبع ذلك باعترافه بأن كل
حكم وكل قضية ينفذها فيه هذا الحاكم فهي عدل محض منه لا جور فيها ولا ظلم
بوجه من الوجوه فقال ماض في حكمك عدل في قضاؤك وهذا يعم جميع أقضيته سبحانه
في عبده قضائه السابق فيه قبل إيجاده وقضائه فيه المقارن لحياته وقضائه
فيه بعد مماته وقضائه فيه يوم معاده ويتناول قضاءه فيه بالذنب وقضائه فيه
بالجزاء عليه ومن لم يثلج صدره لهذا ويكون له كالعلم الضروري لم يعرف ربه
وكماله ونفسه وعينه ولا عدل في حكمه بل هو جهول ظلوم فلا علم ولا إنصاف وفي
قوله ماض في حكمك عدل في قضاؤك رد على طائفتي القدرية والجبرية وإن
اعترفوا بذلك بألسنتهم فأصولهم تناقضه فإن القدرية تنكر قدرته سبحانه على
خلق ما به يهتدي العبد غير ما خلقه فيه وجبله عليه فليس عندهم لله حكم نافذ
في عبده غير الحكم الشرعي بالأمر والنهي ومعلوم أنه لا يصح حمل الحديث على
هذا الحكم فإن العبد يطيعه تارة ويعصيه تارة بخلاف الحكم الكوني القدري
فإنه ماض في العبد و لا بد قائمة بكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا
فاجر ثم قوله بعد ذلك عدل في قضاؤك دليل على أن الله سبحانه عادل في كل ما
يفعله بعبده من قضائه كله خيره وشره حلوه ومره فعله وجزائه فدل الحديث على
الإيمان بالقدر والإيمان بأن الله عادل فيما قضاه فالأول التوحيد والثاني
العدل وعند القدرية النفاة لو كان حكمه فيه ماضيا لكان ظالما له بإضلاله
وعقوبته أما القدرية الجبرية فعندهم الظلم لا حقيقة له بل هو الممتنع لذاته
الذي لا يدخل تحت القدرة فلا يقدر الرب تعالى عندهم على ما يسمى
ظلما
حتى يقال ترك الظلم وفعل العدل فعلى قولهم لا فائدة في قوله عدل في قضاؤك
بل هو بمنزلة أن يقال نافذ في قضاؤك ولا بد وهو معنى قوله ماض في حكمك
فيكون تكريرا لا فائدة فيه وعلى قولهم فلا يكون ممدوحا بترك الظلم إذ لا
يمدح بترك المستحيل لذاته ولا فائدة في قوله أني حرمت الظلم على نفسي أو
يظن معناه أني حرمت على نفسي ما لا يدخل تحت قدرتي وهو المستحيلات ولا
فائدة في قوله: {فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} فإن كل أحد لا يخاف من
المستحيل لذاته أن يقع ولا فائدة في قوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً
لِلْعِبَادِ} ولا في قوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فنفوذ
حكمه في عباده بملكه وعدله فيهم بحمده وهو سبحانه له الملك وله الحمد وهو
على كل شيء قدير ونظير هذا قوله سبحانه حكاية عن نبيه هود أنه قال: {إِنِّي
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا
هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فقوله:
{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} مثل قوله ناصيتي
بيدك ماض في حكمك وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} مثل
قوله عدل في قضاؤك أي لا يتصرف في تلك النواصي إلا بالعدل والحكمة والمصلحة
والرحمة لا يظلم أصحابها ولا يعاقبهم بما لم يعلموه ولا يهضمهم حسنات ما
عملوه فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله يقول الحق ويفعل الخير
والرشد وقد أخبر سبحانه أنه على الصراط المستقيم في سورة هود وفي سورة
النحل فأخبر في هود أنه على صراط مستقيم في تصرفه في النواصي التي هي في
قبضته وتحت يده وأخبر في النحل أنه يأمر بالعدل ويفعله وقد زعمت الجبرية أن
العدل هو المقدور وزعمت القدرية
ص -276- أن العدل إخراج أفعال
الملائكة والجن والإنس عن قدرته وخلقه وأخطأ الطائفتان جميعا في ذلك
والصواب أن العدل وضع الأشياء في مواضعها التي تليق بها وإنزالها منازلها
كما أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وقد تسمى سبحانه بالحكم العدل
والقدرية تنكر حقيقة اسم الحكم وترده إلى الحكم الشرعي الديني وتزعم أنها
تثبت حقيقة العدل والعدل عندهم إنكار القدر ومع هذا فينسبونه إلى غاية
الظلم فإنهم يقولون أنه يخلد في العذاب الأليم من أفنى عمره في طاعته ثم
فعل كبيرة ومات عليها فإن قيل فالقضاء بالجزاء عدل إذ هو عقوبة على الذنب
فيكون القضاء بالذنب عدلا على أصول أهل السنة وهذا السؤال لا يلزم القدرية
ولا الجبرية أما القدرية فعندهم أنه لم يقض المعصية وأما الجبرية فعندهم أن
كل مقدور عدل وإنما يلزمكم أنتم هذا السؤال قيل نعم كل قضائه عدل في عبده
فإنه وضع له في موضعه الذي لا يحسن في غيره فإنه وضع العقوبة ووضع القضاء
بسببها وموجبها في موضعه فإنه سبحانه كما يجازي بالعقوبة فإنه يعاقب بنفس
قضاء الذنب فيكون حكمه بالذنب عقوبة على ذنب سابق فإن الذنوب تكسب بعضها
بعضا وذلك الذنب السابق عقوبة على غفلته عن ربه وإعراضه عنه وتلك الغفلة
والإعراض هي في أصل الجبلة والنشأة فمن أراد أن يكلمه أقبل بقلبه إليه
وجذبه إليه وألهمه رشده وألقى فيه أسباب الخير ومن لم يرد أن يكمله تركه
وطبعه وخلى بينه وبين نفسه لأنه لا يصلح للتكميل وليس محله أهلا ولا قابلا
لما وضع فيه من الخير وها هنا انتهى علم العباد بالقدر وأما كونه تعالى جعل
هذا يصلح وأعطاه ما يصلح له وهذا لا يصلح فمنعه مالا يصلح له فذاك موجب
ربوبيته وإلهيته وعلمه وحكمته فإنه سبحانه خالق الأشياء وأضدادها وهذا
مقتضى كماله وظهور أسمائه وصفاته كما تقدم تقريره والمقصود أنه أعدل
العادلين في قضائه بالسبب وقضائه بالمسبب فما قضى في عبده بقضاء إلا وهو
واقع في محله الذي لا يليق به
غيره إذ هو الحكم العدل الغني الحميد.
فصل:
وقوله أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من
خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك إن كانت الرواية محفوظة هكذا ففيها
إشكال فإنه جعل ما أنزله في كتابه أو علمه أحدا من خلقه أم استأثر به في
علم الغيب عنده قسيما لما سمى به نفسه ومعلوم أن هذا تقسيم وتفصيل لما سمى
به نفسه فوجه الكلام أن يقال سميت به نفسك فأنزلته في كتابك أو علمته أحدا
من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك فإن هذه الأقسام الثلاثة تفصيل
لما سمى به نفسه وجواب هذا الإشكال أن أو حرف عطف والمعطوف بها أخص مما
قبله فيكون من باب عطف الخاص على العام فإن ما سمى به نفسه يتناول جميع
الأنواع المذكورة بعده فيكون عطف كل جملة منها من باب عطف الخاص على العام
فإن قيل المعهود من عطف الخاص على العام أن يكون بالواو دون سائر حروف
العطف قيل المسوغ لذلك في الواو وهو تخصيص المعطوف بالذكر لمرتبته من بين
الجنس واختصاصه بخاصة غيره منه حتى كأنه غيره أو إرادتين لذكره مرتين باسمه
الخاص وباللفظ العام وهذا لا فرق فيه بين العطف بالواو أو بأو مع أن في
العطف بأو على العام فائدة أخرى وهي بناء الكلام على التقسيم والتنويع كما
بنى عليه تاما فيقال سميت به نفسك فإما أنزلته في كتابك وإما علمته أحدا من
خلقك وقد دل الحديث على أن أسماء الله غير مخلوقة بل
ص -277- هو
الذي تكلم بها وسمى بها نفسه ولهذا لم يقل بكل اسم خلقته لنفسك ولو كانت
مخلوقة لم يسأله بها فإن الله يقسم عليه بشيء من خلقه فالحديث صريح في أن
أسماءه ليست من فعل الآدميين وتسمياتهم وأيضا فإن أسماءه مشتقة من صفاته
وصفاته قديمة به فأسماؤها غير مخلوقة فإن قيل فالاسم عندكم هو المسمى أو
غيره قيل طالما غلط الناس في ذلك وجهلوا الصواب فيه فالاسم يراد به المسمى
تارة ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى فإذا قلت قال الله كذا واستوى الله
على عرشه وسمع الله ورأى وخلق فهذا المراد به المسمى نفسه وإذا قلت الله
اسم عربي والرحمن اسم عربي والرحمان من أسماء الله والرحمان وزنه فعلان
والرحمن مشتق من الرحمة ونحو ذلك فالاسم ههنا للمسمى ولا يقال غيره لما في
لفظ الغير من الإجمال فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق وإن أريد
أن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه اسما أو حتى سماه خلقه
بأسماء من صنعهم فهذا من أعظم الضلال والإلحاد فقوله في الحديث: "سميت به
نفسك" ولم يقل خلقته لنفسك ولا قال سماك به خلقك دليل على أنه سبحانه تكلم
بذلك الاسم وسمى به نفسه كما سمى نفسه في كتبه التي تكلم بها حقيقة بأسمائه
وقوله أو استأثرت به في علم الغيب عندك دليل على أن أسماءه أكثر من تسعة
وتسعين وأن له أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره
وعلى هذا فقوله أن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة لا ينفي أن
يكون له غيرها والكلام جملة واحدة أي له أسماء موصوفة بهذه الصفة كما يقال
لفلان مائة عبدا أعدهم للتجارة وله مائة فرس أعدها للجهاد وهذا قول الجمهور
وخالفهم ابن حزم فزعم أن أسماءه تنحصر في هذا العدد وقد دل الحديث على أن
التوسل إليه سبحانه بأسمائه وصفاته أحب إليه
وأنفع للعبد من التوسل
إليه بمخلوقاته وكذلك سائر الأحاديث كما في حديث الاسم الأعظم: "اللهم أني
أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا
الجلال والإكرام يا حي يا قيوم" وفي الحديث الآخر: "أسألك بأني أشهد أنك
أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له
كفوا أحد" وفي الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على
الخلق" وكلها أحاديث صحاح رواها ابن حبان والإمام أحمد والحاكم وهذا تحقيق
لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وقوله
أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري يجمع أصلين الحياة والنور فإن الربيع
هو المطر الذي يحيي الأرض فينبت الربيع فيسأل الله بعبوديته وتوحيده
وأسمائه وصفاته أن يجعل كتابه الذي جعله روحا للعالمين ونورا وحياة لقلبه
بمنزلة الماء الذي يحيي به الأرض ونورا له بمنزلة الشمس التي تستنير بها
الأرض والحياة والنور جماع الخير كله قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ
مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا
الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ
عِبَادِنَا} فأخبر أنه روح تحصل به الحياة ونور تحصل به الهداية فأتباعه
لهم الحياة والهداية ومخالفوه لهم الموت والضلال وقد ضرب سبحانه المثل
لأوليائه وأعدائه بهذين الأصلين في أول سورة البقرة وفي وسط سورة النور وفي
سورة الرعد وهما المثل المائي والمثل الناري وقوله وجلاء حزني وذهاب همي
وغمي إن جلاء هذا يتضمن إزالة المؤذي الضار وذلك يتضمن تحصيل النافع السار
فتضمن
ص -278- الحديث طلب أصول الخير كله ودفع الشر وبالله التوفيق.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
شفاء العليل
الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء
واختلاف الناس في ذلك وتحقيق القول فيه
الباب الثامن والعشرون: في أحكام
الرضا بالقضاء واختلاف الناس في ذلك وتحقيق القول فيه
هذا الباب من
تمام الإيمان بالقضاء والقدر وقد تنازع الناس فيه هل هو واجب أو مستحب على
قولين وهما وجهان لأصحاب أحمد فمنهم من أوجبه واحتج على وجوبه بأنه من
لوازم الرضا بالله ربا وذلك واجب واحتج بأثر إسرائيلي من لم يرض بقضائي ولم
يصبر على بلائي فليتخذ له ربا سواي ومنهم من قال هو مستحب غير واجب فإن
الإيجاب يستلزم دليلا شرعيا ولا دليل يدل على الوجوب وهذا القول أرجح فإن
الرضا من مقامات الإحسان التي هي من أعلى المندوبات وقد غلط في هذا الأصل
طائفتان أقبح غلط فقالت القدرية النفاة الرضا بالقضاء طاعة وقربة والرضا
بالمعاصي لا يجوز فليست بقضائه وقدره وقالت غلاة الجبرية الذين طووا بساط
الأمر والنهي المعاصي بقضاء الله وقدره والرضاء بالقضاء قربة وطاعة فنحن
نرضى بها ولا نسخطها واختلفت طرق أهل الإثبات في جواب الطائفتين فأجابهم
طائفة بأن لها وجهين وجها يرضى بها منه وهو إضافتها إلى الله سبحانه خلقا
ومشيئة ووجه يسخط منه وهو إضافتها إلى العبد فعلا واكتسابا وهذا جواب جيد
لو وفوا به فإن الكسب الذي أثبته كثير منهم لا حقيقة له إذ هو عندهم مقارنة
الفعل للإرادة والقدرة إيجاد به من غير أن يكون لهما تأثير بوجه ما وقد
تقدم الكلام في ذلك بما فيه كفاية وأجابهم طائفة أخرى بأنا نرضى بالقضاء
الذي هو فعل الرب ونسخط المقضي الذي هو فعل العبد وهذا جواب جيد لو لم
يعودوا عليه بالنقض وبالإبطال فإنهم قالوا الفعل غير المفعول فالقضاء عندهم
نفس المقضي فلو قال الأولون بأن للكسب تأثير في إيجاد الفعل وأنه سبب
لوجوده وقال الآخرون بأن الفعل غير المفعول لأصابوا في الجواب وأجابتهم
طائفة أخرى بأن من القضاء ما يؤمر بالرضا به ومنه ما ينهى
عن الرضا
به فالقضاء الذي يحبه الله ويرضاه نرضى به والذي يبغضه ويسخطه لا نرضى به
وهذا كما أن من المخلوقات ما يبغضه ويسخطه وهو خالقه كالأعيان المسخوطة له
فهكذا الكلام في الأفعال والأقوال سواء وهذا جواب جيد غير أنه يحتاج إلى
تمام فنقول الحكم والقضاء نوعان ديني وكوني فالديني يجب الرضا به وهو من
لوازم الإسلام والكوني منه ما يجب الرضا به كالنعم التي يجب شكرها ومن تمام
شكرها الرضا بها ومنه ما لا يجوز الرضا به كالمعايب والذنوب التي يسخطها
الله وإن كانت بقضائه وقدره ومنه ما يستحب الرضا به كالمصائب وفي وجوبه
قولان هذا كله في الرضا بالقضاء الذي هو المقضي وأما القضاء الذي هو وصفه
سبحانه وفعله كعلمه وكتابه وتقديره ومشيئته فالرضا به من تمام الرضا بالله
ربا وإلها ومالكا ومدبرا فبهذا التفصيل يتبين الصواب ويزول اللبس في هذه
المسألة العظيمة التي هي مفرق طرق بين الناس فإن قيل فكيف يجتمع الرضا
بالقضاء بالمصائب مع شدة الكراهة والنفرة منها وكيف يكلف العبد أن يرضى بما
هو مؤلم له وهو كاره له وإلا لم يقتض الكراهة والبغض المضاد للرضا
ص
-279- واجتماع الضدين محال قيل الشيء قد يكون محبوبا مرضيا من جهة ومكروها
من جهة أخرى كشرب الدواء النافع الكريه فإن المريض يرضى به مع شدة كراهته
له وكصوم اليوم الشديد الحر فإن الصائم يرضى به مع شدة كراهته له وكالجهاد
للأعداء قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فالمجاهد المخلص
يعلم أن القتال خير له فرضي به وهو يكرهه لما فيه من التعرض لإتلاف النفس
وألمها ومفارقة المحبوب ومتى قوي الرضا بالشيء وتمكن انقلبت كراهته محبة
وإن لم يخل من الألم فالألم بالشيء لا ينافي الرضا به وكراهته من وجه لا
ينافي محبته وإرادته والرضا به من وجه آخر فإن قيل فهذا في حكم رضا العبد
بقضاء الرب فهل يرضى سبحانه ما قضى به من الكفر والفسوق والعصيان بوجه من
الوجوه قيل هذا الموضع أشكل من الذي قبله قال كثير من الأشعرية بل جمهورهم
ومن اتّبعهم أن الرضا والمحبة والإرادة في حق الرب تعالى بمعنى واحد وأن كل
ما شاءه وأراده فقد أحبه ورضيه ثم أوردوا على أنفسهم هذا السؤال وأجابوا
بأنه لا يمتنع أن يقال أنه يرضى بها ولكن لا على وجه التخصيص بل يقال يرضى
بكل ما خلقه وقضاه وقدره ولا نفرد من ذلك الأمور المذمومة كما يقال هو رب
كل شيء ولا يقال رب كذا وكذا للأشياء الحقيرة الخسيسة وهذا تصريح منهم بأنه
راض بها في نفس الأمر وإنما امتنع الإطلاق أدبا واحتراما فقط فلما أورد
عليهم قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أجابوا عنه بجوابين
أحدهما ممن لم يقع منه وأما من وقع منه فهو يرضاه إذ هو بمشيئته وإرادته
والثاني لا يرضاه لهم دينا أي لا يشرعه لهم ولا يأمرهم به ويرضاه منهم كونا
وعلى قولهم فيكون معنى الآية ولا يرضى لعباده الكفر حيث لم يوجد منهم فلو
وجد منهم أحبه ورضيه وهذا في البطلان والفساد كما تراه وقد أخبر سبحانه أنه
لا يرضى ما وجد من ذلك وإن وقع
بمشيئته كما قال تعالى: {وَهُوَ
مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} فهذا قول واقع
بمشيئته وتقديره وقد أخبر سبحانه أنه لا يرضاه وكذلك قوله سبحانه:
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} فهو سبحانه لا يحبه كونا ولا دينا وإن
وقع بتقديره كما لا يحب إبليس وجنوده وفرعون وحزبه وهو ربهم وخالقهم فمن
جعل المحبة والرضا بمعنى الإرادة والمشيئة لزمه أن يكون الله سبحانه محبا
لإبليس وجنوده وفرعون وهامان وقارون وجميع الكفار وكفرهم والظلمة وفعلهم
وهذا كما أنه خلاف القرآن والسنة والإجماع المعلوم بالضرورة فهو خلاف ما
عليه فطر العالمين التي لم تغير بالتواطي والتواصي بالأقوال الباطلة وقد
أخبر سبحانه أنه يمقت أفعالا كثيرة ويكرهها ويبغضها ويسخطها فقال: {وَلا
تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ
إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً} وقال: {ذَلِكَ
بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} وقال: {كَبُرَ مَقْتاً
عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} وقال: {وَلَكِنْ كَرِهَ
اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} ومحال حمل هذه الكراهة على غير
الكراهة الدينية الأمرية لأنه أمرهم بالجهاد وقال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ
سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} فأخبر أنه يكره ويبغض ويمقت ويسخط
ويعادي ويذم ويلعن ومحال أنه يحب ذلك ويرضى به وهو سبحانه يكره ويتقدس عن
محبة ذلك وعن الرضا به بل لا يليق ذلك بعبده فإنه نقص وعيب في المخلوق أن
يحب الفساد والشر والظلم والبغي والكفر ويرضاه فكيف يجوز نسبة ذلك إلى الله
تبارك وتعالى وهذا الأصل من أعظم ما غلط فيه كثير من مثبتي القدر وغلطهم
فيه يوازن غلط النفاة في إنكار القدر أو هو أقبح منه وبه وتسلط عليهم
النفاة وتمادوا على قبح قولهم وأعظموا الشناعة
ص -280- عليهم به
فهؤلاء قالوا يحب الكفر والفسوق والعصيان والظلم والبغي والفساد وأولئك
قالوا لا يدخل تحت مشيئته وقدرته وخلقه وأولئك قالوا لا يكون في ملكه إلا
ما يحبه ويرضاه وهؤلاء قالوا يكون في ملكه ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون
فسبحان الله وتعالى عما يقول الفريقان علوا كبيرا والحمد لله الذي هدانا
لما أرسل به رسوله وأنزل به كتابه وفطر عليه عباده وبرأنا من بدع هؤلاء
وهؤلاء فله الحمد والمنة والفضل والنعمة والثناء الحسن ونسأله التوفيق لما
يحبه يرضاه وان يجنبنا مضلات البدع والفتن.
شفاء العليل
الباب
التاسع والعشرون: في انقسام القضاء والقدر والإرادة والكتابة والحكم
والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والعطاء والمنع
إلى كوني يتعلق بخلقه وديني يتعلق بأمره
الباب التاسع والعشرون: في
انقسام القضاء والحكم والإرادة والكتابة والأمر والإذن والجعل والكلمات
والبعث والإرسال والتحريم والانتباه إلى كوني متعلق بخلقه وإلى ديني متعلق
بأمره وما يحقق ذلك من إزالة اللبس والإشكال.
هذا الباب متصل بالباب
الذي قبله وكل منهما يقرر لصاحبه فما كان من كوني فهو متعلق بربوبيته وخلقه
وما كان من الديني فهو متعلق بإلهيته وشرعه وهو كما أخبر عن نفسه سبحانه
له الخلق والأمر فالخلق قضاؤه وقدره وفعله والأمر شرعه ودينه فهو الذي خلق
وشرع وأمر وأحكامه جارية على خلقه قدرا وشرعا ولا خروج لأحد عن حكمه الكوني
القدري وأما حكمه الديني الشرعي فيعصيه الفجار والفساق والأمران غير
متلازمين فقد يقضي ويقدر ما لا يأمر به ولا شرعه وقد يشرع ويأمر بما لا
يقضيه ولا يقدره ويجتمع الأمران فيما وقع من طاعات عبادة وإيمانهم وينتفي
الأمران عما لم يقع من المعاصي والفسق والكفر وينفرد القضاء الديني والحكم
الشرعي في ما أمر به وشرعه ولم يفعله المأمور وينفرد الحكم الكوني فيما وقع
من المعاصي إذا عرف ذلك فالقضاء في كتاب الله نوعان كوني قدري كقوله:
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} وقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْحَقِّ} وشرعي ديني كقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ} أي أمر وشرع ولو كان قضاء كونيا لما عبد غير الله والحكم أيضا
نوعان فالكوني كقوله: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أي افعل ما تنصر به
عبادك وتخذل به أعداءك والديني كقوله: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} وقد يرد
بالمعنيين معا كقوله: {وَلا يُشْرِكُ
فِي حُكْمِهِ أَحَداً} فهذا
يتناول حكمه الكوني وحكمه الشرعي والإرادة أيضا نوعان فالكونية كقوله
تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ
قَرْيَةً} وقوله: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وقوله:
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ}
والدينية كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ} وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} فلو كانت
هذه الإرادة كونية لما حصل العسر لأحد منا ولو وقعت التوبة من جميع
المكلفين وبهذا التفصيل يزول الاشتباه في مسألة الأمر والإرادة هل هما
متلازمان أم لا فقالت القدرية الأمر يستلزم الإرادة واحتجوا بحجج لا تندفع
وقالت المثبتة الأمر لا يستلزم الإرادة واحتجوا بحجج لا تندفع والصواب أن
الأمر يستلزم الإرادة الدينية ولا يستلزم الإرادة الكونية فإنه لا يأمر إلا
بما يريده شرعا ودينا وقد يأمر بما لا يريده كونا وقدرا كإيمان
ص
-281- من أمره ولم يوفقه للإيمان مراد له دينا لا كونا وكذلك أمر خليله
بذبح ابنه ولم يرده كونا وقدرا وأمر رسوله بخمسين صلاة ولم يرد ذلك كونا
وقدرا وبين هذين الأمرين وأمر من لم يؤمن بالإيمان فرق فإنه سبحانه لم يحب
من إبراهيم ذبح ولده وإنما أحب منه عزمه على الامتثال وأن يوطن نفسه عليه
وكذلك أمره محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بخمسين صلاة وأما أمر من
علم أنه لا يؤمن بالإيمان فإنه سبحانه يحب من عباده أن يؤمنوا به وبرسله
ولكن اقتضت حكمته أن أعان بعضهم على فعل ما أمره ووفقه له وخذل بعضهم فلم
يعنه ولم يوفقه فلم تحصل مصلحة الأمر منهم وحصلت من الأمر بالذبح.
فصل:
وأما الكتابة فالكونية كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي} وقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ
الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} وقوله:
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ
إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} والشرعية الأمرية كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ} وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله:
{كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} فالأولى كتابة بمعنى القدر والثانية كتابة بمعنى
الأمر.
فصل: والأمر الكوني كقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له
كن فيكون} وقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}
وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} وقوله: {وَكَانَ أَمْراً
مَقْضِيّاً} وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} فهذا أمر تقدير كوني لا أمر ديني شرعي فإن
الله لا يأمر بالفحشاء والمعنى قضينا ذلك وقدرناه وقالت طائفة بل هو أمر
ديني والمعنى أمرناهم بالطاعة فخالفونا وفسقوا والقول
الأول أرجح
لوجوده، أحدها أن الإضمار على خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا إذا لم يكن
تصحيح الكلام بدونه، الثاني أن ذلك يستلزم إضمارين أحدهما أمرناهم بطاعتنا
الثاني فخالفونا أو عصونا ونحو ذلك، الثالث أن ما بعد الفاء في مثل هذا
التركيب هو المأمور به نفسه كقولك أمرته ففعل وأمرته فقام وأمرته فركب لا
يفهم المخاطب غير هذا، الرابع أنه سبحانه جعل سبب هلاك القرية أمره المذكور
ومن المعلوم أن أمره بالطاعة والتوحيد لا يصلح أن يكون سبب الهلاك بل هو
سبب للنجاة والفوز فإن قيل أمره بالطاعة مع الفسق هو سبب الهلاك قيل هذا
يبطل بالوجه الخامس وهو أن هذا الأمر لا يختص بالمترفين بل هو سبحانه يأمر
بطاعته واتّباع رسله المترفين وغيرهم فلا يصح تخصيص الأمر بالطاعة
بالمترفين يوضحه، الوجه السادس أن الأمر لو كان بالطاعة لكان هو نفس إرسال
رسله إليهم ومعلوم أنه لا يحسن أن يقال أرسلنا رسلنا إلى مترفيها ففسقوا
فيها فإن الإرسال لو كان إلى المترفين لقال من عداهم نحن لم يرسل إلينا،
السابع أن إرادة الله سبحانه لإهلاك القرية إنما يكون بعد إرسال الرسل
إليهم وتكذيبهم وإلا فقبل ذلك هو لا يريد إهلاكهم لأنهم معذورون بغفلتهم
وعدم بلوغ الرسالة إليهم قال تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ
مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} فإذا أرسل الرسل
فكذبوهم أراد إهلاكها فأمر رؤسائها ومترفيها أمرا كونيا قدريا لا شرعيا
دينيا بالفسق في القرية فاجتمع أهلها على تكذيبهم وفسق رؤسائهم فحينئذ
جاءها أمر الله وحق عليها قوله بالإهلاك والمقصود ذكر الأمر الكوني والديني
ومن الديني قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ}
وقوله: {نَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا} وهو كثير
ص -282- فصل: وأما الإذن الكوني فكقوله تعالى:
{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي
بمشيئته وقدره وأما الديني فكقوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ
وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} أي بأمره ورضاه وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً
وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}
وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ
يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}.
فصل: وأما الجعل الكوني فكقوله: {إِنَّا
جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ
مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ
سَدّاً} وقوله: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}
وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} وهو كثير
وأما الجعل الديني فكقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا
سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} أي ما شرع ذلك ولا أمر به وإلا فهو
مخلوق له واقع بقدره ومشيئته وأما قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ
الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} فهذا يتناول الجعلين فإنها جعلها
كذلك بقدره وشرعه وليس هذا استعمالا للمشترك في معنييه بل إطلاق اللفظ
وإرادة القدر المشترك بين معنييه فتأمله.
فصل: وأما الكلمات الكونية
فكقوله: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا
أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وقوله
صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بكلمات ا لله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا
فاجر من شر ما خلق" فهذه كلماته الكونية التي يخلق
بها ويكون ولو
كانت الكلمات الدينية هي التي يأمر بها وينهى لكانت مما يجاوزهن الفجار
والكفار وأما الديني فكقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} والمراد به
القرآن وقوله صلى الله عليه وسلم في النساء واستحللتم فروجهن بكلمة الله أي
بإباحته ودينه وقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقد
اجتمع النوعان في قوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ}
فكتبه كلماته التي يأمر بها وينهى ويحل ويحرم وكلماته التي يخلق بها ويكون
فأخبر أنها ليست جهمية تنكر كلمات دينه وكلمات تكوينه وتجعلها خلقا من جملة
مخلوقاته.
فصل: وأما البعث الكوني فكقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}
وقوله: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} وأما البعث
الديني فكقوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً
مِنْهُمْ} وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}.
فصل: وأما الإرسال الكوني
فكقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى
الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
الرِّيَاحَ} وأما الديني فكقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ
رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ
رَسُولاً}.
فصل: وأما التحريم الكوني فكقوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ
الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} وقوله: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ
عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ
أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} وأما التحريم الديني فكقوله:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}
و{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ}: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ
حُرُماً}: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}.
فصل: وأما
الإيتاء الكوني فكقوله: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} وقوله:
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}
وقوله: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} وأما الإيتاء الديني فكقوله:
{وَمَا آتَاكُمُ
ص -283- الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وقوله: {خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} وأما قوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ
وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} فهذا يتناول
النوعين فإنه يؤتيها من يشاء أمرا ودينا وتوفيقا وإلهاما.
فصل: وأنبياؤه
ورسله وأتباعهم حظهم من هذه الأمور الديني منها وأعداؤه واقفون مع القدر
الكوني فحيث ما مال القدر مالوا معه فدينهم دين القدر ودين الرسل وأتباعهم
دين الأمر فهم يدينون بأمره ويؤمنون بقدره وخصماء الله يعصون أمره ويحتجون
بقدره لا يقولون نحن واقفون مع مراد الله نعم مع مراده الديني أو الكوني
ولا ينفعكم وقوفكم مع المراد الكوني ولا يكون ذلكم عذرا لكم عنده إذ لو عذر
بذلك لم يذم أحدا من خلقه ولم يعاقبه ولم يكن في خلقه عاص ولا كافر ومن
زعم ذلك فقد كفر بالله وكتبه كلها وجميع رسله وبالله التوفيق.
شفاء
العليل
الباب الموفي ثلاثين: في الفطرة الأولى التي فطر الله عباده
عليها وبيان أنها لا تنافي القضاء والعدل بل توافقه وتجامعه
الباب
الموفي ثلاثين: في ذكر الفطرة الأولى ومعناها واختلاف الناس في المراد بها
وأنها لا تنافي القضاء والقدر بالشقاوة والضلال.
قال تعالى: {فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ
وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل
مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما ينتج البهيمة
جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها" ثم قرأ أبو هريرة:
{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ} وفي لفظ آخر: "ما من مولود إلا يولد على هذه الملة" وقد
اختلف في معنى هذه الفطرة والمراد بها فقال القاضي أبو يعلي في معنى
الفطرة: "ها هنا روايتان عن أحمد أحدهما الإقرار بمعرفة الله تعالى وهو
العهد الذي أخذه الله عليهم في أصلاب آبائهم حتى مسح ظهر آدم فأخرج من
ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى
فليس أحد إلا وهو يقر بأن له صانعا ومدبرا وإن سماه بغير اسمه قال تعالى:
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فكل مولود
يولد على ذلك الإقرار الأول" قال وليس الفطرة هنا الإسلام لوجهين أحدهما أن
معنى الفطرة ابتداء الخلقة ومنه قوله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ} أي مبتدئها وإذ كانت الفطرة هي الابتداء وجب أن تكون تلك هي
التي وقعت لأول الخليقة وجرت في فطرة المعقول وهو استخراجهم
ذرية لأن
تلك حالة ابتدائهم ولأنها لو كانت الفطرة هنا الإسلام لوجب إذا ولد بين
أبوين كافرين أن لا يرثهما ولا يرثانه ما دام طفلا لأنه مسلم واختلاف الدين
يمنع الإرث ولوجب أن لا يصح استرقاقه ولا يحكم بإسلامه بإسلام أبيه لأنه
مسلم" قال وهذا تأويل ابن قتيبة وذكره ابن بطة في الإبانة قال وليس كل من
تثبت له المعرفة حكم بإسلامه كالبالغين من الكفار فإن المعرفة حاصلة وليسوا
بمسلمين قال وقد أومأ أحمد إلى هذا التأويل وفي رواية الميموني
ص
-284- فقال الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها فقال له الميموني الفطرة
الدين قال نعم قال القاضي وأراد أحمد بالدين المعرفة التي ذكرناها" قال
والرواية الثانية: "الفطرة هنا ابتداء خلقه في بطن أمه لأن حمله على العهد
الذي أخذه عليهم وهو الإقرار بمعرفته حمل للفطرة على الإسلام لأن الإقرار
بالمعرفة إقرار بالإيمان والمؤمن مسلم ولو كانت الفطرة الإسلام لوجب إذا
ولد بين أبوين كافرين أن لا يرثانه ولا يرثهما قال ولأن ذلك يمنع أن يكون
الكفر خلقا لله وأصول أهل السنة بخلافه قال وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية
على بن سعيد وقد سأله عن قوله كل مولود يولد على الفطرة فقال على الشقاوة
والسعادة ولذلك نقل محمد بن يحيى الكحال أنه سأله فقال هي التي فطر الناس
عليها شقي أو سعيد وكذلك نقل جبيل عنه قال الفطرة التي فطر الله عليها
العباد من الشقاوة والسعادة قال وهذا كله يدل من كلامه على أن المراد
بالفطرة ها هنا ابتداء خلقه في بطن أمه" قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية
أحمد: "لم يذكر العهد الأول وإنما قال الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها
وهي الدين وقال في غير موضع أن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلامه
واستدل بهذا الحديث فدل على أنه فسر الحديث بأنه يولد على فطرة الإسلام
كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث ولو لم تكن الفطرة عنده الإسلام لما صح
استدلاله بالحديث" وقوله في موضع آخر: "يولد على ما فطر عليه من شقاوة
وسعادة لا ينافي ذلك فإن الله سبحانه قدر السعادة والشقاوة وكتبهما وقدر
أنها تكون بالأسباب التي تحصل بها كفعل الأبوين فتهويد الأبوين وتنصيرهما
وتمجيسهما هو مما قدره الله أنه يفعل بالمولود والمولود ولد على الفطرة
سليما وولد على أن هذه الفطرة السليمة يغيرها الأبوان كما قدر سبحانه ذلك
وكتبه كما مثل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله كما ينتج البهيمة جمعاء
هل تحسون فيها من جدعاء فبين أن البهيمة تولد
سليمة ثم يجدعها
الإنسان وذلك بقضاء الله وقدره فكذلك المولود يولد على الفطرة سليما ثم
يفسده أبواه وذلك أيضا بقضاء الله وقدره وإنما قال أحمد وغيره من الأئمة
على ما فطر عليه من شقاوة أو سعادة لأن القدرية يحتجون بهذا الحديث على أن
الكفر والمعاصي ليس بقضاء الله وقدره بل مما ابتدأ الناس إحداثه ولهذا
قالوا لمالك بن أنس أن القدرية يحتجون علينا بأول الحديث فقال احتجوا عليهم
بآخره وهو قول الله أعلم بما كانوا عاملين فبين الإمام أحمد وغيره أنه لا
حجة فيه للقدرية فإنهم لا يقولون أن نفس الأبوين خلقا تهويده وتنصيره بل هو
تهود وتنصر باختياره ولكن كانا سببا في حصول ذلك بالتعليم والتلقين فإذا
أضيف إليهما هذا الاعتبار فلأن يضاف إلى الله الذي هو خالق كل شيء بطريق
الأولى لأنه سبحانه وإن كان خلقه مولودا على الفطرة سليما فقد قدر عليه ما
سيكون بعد ذلك من تغييره وعلم ذلك كما في الحديث الصحيح "أن الغلام الذي
قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا" فقوله طبع
يوم طبع أي قدر وقضى في الكتاب أنه يكفر لا أن كفره كان موجودا قبل أن
يولد ولا في حال ولادته فإنه مولود على الفطرة السليمة وعلى أنه بعد ذلك
يتغير ويكفر من ظن أن الطبع على قلبه وهو الطبع المذكور على قلب الكفار فهو
غالط فإن ذلك لا يقال فيه طبع يوم طبع إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد
بعد كفره وقد ثبت في صحيح مسلم عن عياض بن حماد عن النبي صلى الله عليه
وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "خلقت عبادي حنفاء كلهم
فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم
أنزل به سلطانا" وهذا
ص -285- صريح في أنه خلقهم على الحنيفية وأن
الشياطين اجتالتهم بعد ذلك وكذلك في حديث الأسود بن سريع الذي رواه احمد
وغيره قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فأفضى بهم القتل إلى الذرية
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حملكم على قتل الذرية قالوا يا
رسول الله أليسوا أولاد المشركين قال أوليس خياركم أولاد المشركين ثم قام
النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال ألا إن كل مولود يولد على الفطرة حتى
يعرب عنه لسانه" فخطبته لهم بهذا الحديث عقيب نهيه لهم عن قتل أولاد
المشركين وقوله لهم أو ليس خياركم أولاد المشركين نص أنه أراد بهم ولدوا
غير كفار ثم الكفر طرأ بعد ذلك ولو أراد أن المولود حين يولد يكون إما
مسلما وإما كافرا على ما سبق له به القدر لم يكن فيما ذكر حجة على ما قصد
من نهيه عن قتل أولاد المشركين وقد ظن بعضهم أن معنى قوله أو ليس خياركم
أولاد المشركين أنه قد يكون في علم الله أنهم لو بقوا لآمنوا فيكون النهي
راجعا إلى هذا المعنى من التجويز وليس هذا معنى الحديث لكن معناه أن خياركم
هم السابقون الأولون وهؤلاء من أولاد المشركين فإن آباءهم كانوا كفارا ثم
أن البنين أسلموا بعد ذلك فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كان
مؤمنا فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه وهو سبحانه يخرج المؤمن من
الكافر والكافر من المؤمن كما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
فصل:
وهذا الحديث قد روي بألفاظ تفسر بعضها بعضا ففي الصحيحين واللفظ للبخاري
عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو
يمجسانه كما ينتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة
اقرؤوا: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} قالوا يا رسول الله
أفرأيت
من يموت صغيرا قال الله أعلم بما كانوا عاملين" وفي الصحيح قال الزهري:
"نصلي على مولود يتوفى وإن كان من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام إذا استهل
صارخا ولا نصلي على من لم يستهل من أجل أنه سقط" فإن أبا هريرة كان يحدث أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه
يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من
جدعاء ثم يقول أبو هريرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا}" وفي الصحيحين من رواية الأعمش: "ما من مولود إلا وهو على
الملة" وفي رواية ابن معاوية عنه: "إلا على هذه الملة" حتى يعرب عنه لسانه
فهذا صريح بأنه يولد على ملة الإسلام كما فسره ابن شهاب راوي الحديث
واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك قال ابن عبد البر وقد سئل ابن شهاب
عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزي أن يعتقه وهو رضيع قال نعم لأنه ولد على
الفطرة وقال أبو عمر وقد ذكر النزاع في تفسير الحديث وقال آخرون الفطرة ها
هنا الإسلام قالوا وهو المعروف عند عامة السلف أهل التأويل قد أجمعوا في
تأويل قول الله عز وجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا} قالوا فطرة الله دين الله الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة في
هذا الحديث اقرؤا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها وذكروا عن عكرمة
ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قوله عز وجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قالوا: "فطرة الله دين الله الإسلام لا
تبديل لخلق الله قالوا لدين الله" واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق عن ثور بن
يزيد عن يحيى بن جابر عن عبد الرحمن بن عابد الأزدي عن عياض بن حماد
المجاشعي أن رسول الله
ص -286- صلى الله عليه وسلم قال: "للناس يوما
ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين
وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيها فجعلوا ما أعطاهم الله حراما وحلالا"
الحديث قال وكذلك روى بكر بن مهاجر عن ثور بن يزيد بإسناده مثله في هذا
الحديث حنفاء مسلمين قال أبو عمر روى هذا الحديث قتادة عن مطرف بن عبد الله
عن عياض ولم يسمعه قتادة من مطرف ولكن قال حدثني ثلاثة عقبة بن عبد الغافر
ويزيد بن عبد الله بن الشخير والعلاء بن زياد كلهم يقول حدثني مطرف عن
عياض عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه: "وأنى خلقت عبادي حنفاء كلهم"
لم يقل مسلمين وكذلك رواه الحسن عن مطرف ورواه ابن إسحاق عمن لا يتهم عن
قتادة بإسناده قال فيه: "وأنى خلقت عبادي حنفاء كلهم" ولم يقل مسلمين قال
فدل هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه لأنه ذكر مسلمين في روايته عن
ثور بن يزيد لهذا الحديث وأسقطه من رواية قتادة وقصر فيه عن قوله مسلمين
وزاده ثور بإسناده فالله أعلم قال والحنيف في كلام العرب المستقيم المخلص
ولا استقامة أكثر من الإسلام قال وقد روي عن الحسن الحنيفية: "حج البيت"
وهذا يدل أنه أراد الإسلام وكذلك روى عن الضحاك والسدي قال: "حنفاء حجاجا"
وعن مجاهد: "حنفاء متبعين" قال وهذا كله يدل على أن الحنيفية الإسلام قال
وقال أكثر العلماء الحنيف المخلص وقال الله عز وجل: {مَا كَانَ
إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً
مُسْلِماً} وقال تعالى: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} وقال: {مِلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} وقال
الشاعر وهو الراعي:
أخليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب
نرى لله في أموالنا حق الزكاة منزلا تنزيلا
قال فهذا وصف الحنيفية
بالإسلام وهو أمر واضح لا خفاء به قال ومما احتج به من ذهب في هذا الحديث
إلى أن الفطرة في هذا الحديث الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم: "خمس من
الفطرة" ويروى "عشر من الفطرة" قال شيخنا: "والدلائل على ذلك كثيرة ولو لم
يكن المراد بالفطرة الإسلام لما سألوا عقيب ذلك أرأيت من يموت من أطفال
المشركين لأنه لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لما سألوه والعلم القديم وما
يجرى مجراه لا يتغير" وقوله فأبواه يهودانه بين فيه أنهم يغيرون الفطرة
التي فطر عليها وأيضا فإنه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص
فيها ثم تجدع بعد ذلك فعلم أن التغير وأرد على الفطرة السليمة التي ولد
العبد عليها وأيضا فان الحديث مطابق للقرآن كقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وهذا يعم جميع الناس فعلم أن الله
سبحانه فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة وأيضا فإنه أضاف الفطرة إليه
إضافة مدح لا إضافة ذم فعلم أنها فطرة محمودة لا مذمومة كدين الله وبيته
وناقته وأيضا فإنه قال فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس
عليها وأيضا فإن هذا تفسير السلف قال ابن جرير: "يقول فسدد وجهك نحو الوجه
الذي وجهك الله يا محمد بطاعته وهي الدين حنيفا" يقول مستقيما لدينه وطاعته
فطرة الله يقول صنعة الله خلق الناس عليها ونصب فطرة على المصدر معنى قوله
فأقم وجهك للدين حنيفا لأن المعنى فطر الله الناس على ذلك فطرة قال وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ثم روى عن ابن زيد قال: "فطرة الله التي
فطر الناس عليها قال الإسلام منذ خلقهم الله من آدم جميعا يقرون بذلك" وعن
مجاهد: "فطرة الله قال
ص -287- الدين الإسلام" ثم روى عن يزيد بن أبي
مريم قال عمر لمعاذ بن جبل فقال ما قوام هذه الأمة قال معاذ ثلاث وهن
المنجيات الإخلاص وهو الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها والصلاة وهي
الملة والطاعة وهي العصمة فقال عمر صدقت وقوله لا تبديل لخلق الله يقول لا
تغيير لدين الله أي لا يصلح ذلك ولا ينبغي أن يفعل قال ابن أبي نجيح عن
مجاهد: "لا تبديل لخلق الله أي لدين الله" ثم ذكر أن مجاهدا أرسل إلى عكرمة
يسأله عن قوله لا تبديل لخلق الله قال: "هو الخصا" فقال مجاهد: "أخطأ لا
تبديل لخلق الله إنما هو الدين" ثم قال: "لا تبديل لخلق الله ذلك الدين
القيم" وروى عن عكرمة: "لا تبديل الخلق الله قال لدين الله" هو قول سعيد بن
جبير والضحاك وإبراهيم النخعي وابن زيد وعن ابن عباس وعكرمة ومجاهد: "هو
الخصا" ولا منافاة بين القولين كما قال تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ
خَلْقَ اللَّهِ} فتغيير ما فطر الله عباده من الدين تغيير لخلقه والخصا
وقطع آذان الأنعام تغيير لخلقه أيضا ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم
أحدهما بالآخر فأولئك يغيرون الشريعة وهؤلاء يغيرون الخلقة فذلك يغير ما
خلقت عليه نفسه وروحه وهذا يغير ما خلق عليه بدنه.
فصل: ولما صار
القدرية يحتجون بهذا الحديث على قولهم صار الناس يتأولونه على تأويلات
يخرجونه بها عن مقتضاه فقالت القدرية كل مولود يولد على الإسلام والله
سبحانه لا يضل أحدا وإنما أبواه يضلانه قال لهم أهل السنة أنتم لا تقولون
بأول الحديث ولا بآخره أما أوله فإنه لم يولد أحد عندكم على الإسلام أصلا
ولا جعل الله أحدا مسلما ولا كافرا عندكم وهذا أحدث لنفسه الكفر وهذا أحدث
لنفسه الإسلام والله لم يخلق واحدا منهما ولكن دعاهما إلى الإسلام وأزاح
عللهما وأعطاهما قدرة مماثلة فهما يصلح للضدين ولم يخص المؤمن بسبب يقتضي
حصول الإيمان فإن
- كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الجزء الثانى
- كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الجزء الثالث
- كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الجزء الرابع
- كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الجزء الخامس
- كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الجزء السادس
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى