رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
اللذة التي تطيقها الشريعة
ذلك أن الخروج إلى أحد الطرفين إن كان إلى جانب
الزيادة سمى مجونا وفسقا وخلاعة وما أشبهها من أسماء الذم. وإن كان إلى
جانب النقصان سمى فدامة وعبوسا وشكاسة وما أشبهها من أسماء الذم أيضا.
والمتوسط بينهما هوالظريف الذي يوسف بالهشاشة والطلاقة وحسن العشرة ويعرض
من الصعوبة في وجود هذا الوسط ما يعرض في سائر الفضائل الخلقية. ومما يؤخذ
به من يحفظ صحة نفسه أن يلتزم وظيفة من الجزء النظري والعملي لا يسوغ له
الإخلال بها البتة لتجري النفس مجرى الرياضة التي تلزم في حفظ صحة البدن
وأطباء النفوس أشد تعظيما لها في حفظ صحة النفس. وذلك أن النفس متى تعطلت
من النظر وعدمت الفكر والغوص على المعاني تبلدت وتبلهت وانقطت عنها مادة
كل خير. وإذا ألفت الكسل وتبرمت بالروية واختارت العطلة قرب هلاكها لأن في
عطلتها هذه إنسلاخا من صورتها الخاصة بها ورجعوعا منها إلى رتبة البهائم.
وهذا هو الإنتكاس في الخلق نعوذ بالله منه. وإذا تعود الحديث الناشء من
مبدء تكوينه الإرتياض بالأمور الفكرية ولازم التعاليم الأربعة ألف الصدق
واحتمل ثقل الروية والنظر وأنس بالحق ونبا طبعه عن الباطل وسمعه عن الكذب
فإذا بلغ أشده وانتقل إلى مطالعة الحكمة استمر طبعه فيها وتشرب ما يستودع
منها ولا يرد عليه أمر غريب ولا يحتاج إلى كثير تعب في فهم غوامضها
وإستخراج دفائنها فيصل إلى سعادتها التي ذكرناها سريعا. وإن كان حافظ هذه
الصحة قد توحد في العلم لا نهاية له وفوق كل ذي علم عليم. ولا يتكاسلن عن
معاودة ما علمه والدرس له فإن النسيان آفة العلم وليتذكر قول الحسن البصري
رحمة الله عليه (اقدعوا هذه النفوس فإنها طائعة وحادثوها فإنها سريعة
الدثور) واعلم أن هذه الكلمات مع قلة حروفها كثيرة المعاني وهي مع ذلك
فصيحة واستوفت شروط البلاغة. وليعلم أيضا حافظ هذه الصحة على نفسه أنه
إنما يحفظ عليها نعما شريفة جليلة موهوبة لها وكنوزا عظيمة مدخرة فيها
وملابس فاخرة مفرغة عليها. وإن من كانت هذه المواهب الجليلة موجودة له في
ذاته لا يحتاج إلى تطليها من خارج ولا إلى بذل الأموال فيها لغيره ولا
يكلف العناء والمؤمن الثقال في تحصيلها ثم أعرض عنها وأهمل أمرها حتى
انسلخ عنها وعرى منها لملوم في فعله مغبون في رأيه غير رشيد ولا موفق.
لا
سيما
وهو يرى طالبي النعم الخارجة كيف يتجشمون الأسفار البعيدة الخطرة
ويقطعون السبل المخوفة الوعرة ويتعرضون لضروب المكاره وأنواع التلف من
السباع العادية وطبقات الشرار الباغية وهم يخيبون في أكثر الأحوال مع
مقاسات هذه الأهوال. وربما عرضت لهم الندامات المفرطة والحسرات المعطبة
التي تقطع أنفساهم وتفصل أعضاءهم فإن ظفروا بشيء من مطالبهم كان لا محالة
زائلا عن قرب أو معرضا للزوال وغير مطموع في بقائه لأنه منخارج وما كان
خارجا عنها فهو غير ممتنع عما يطرقه من الحوادث التي لا تحصى كثرة. وصاحبه
مع هذه الحال شديد الوجل دائم الإشفاق متعب الجسم والنفس يحفظ ما لا يجد
إلى حفظه سبيلا والحذر على مالا يغني فيه الحذر فتيلا.
وإن كان طالب
هذه الأشياء الخارجة عنا سلطانا أو صاحب سلطان تضاعفت عليه هذه المكاره
أضعافا كثيرة بقدر ما يلابسه وبحسب ما يقاسيه من الأضداد والحساد على
البعد ومن القرب وبكثرة ما يحتاج إليه من المؤن في إستصلاح من يليه ويلي
من يليه من مدارة من يواليه ويعاديه. وهو في كل ذلك ملوم مستبطأ ومعتب
مستقصر ويستزيده جميع أهله والمتصلين به ولا سبيل له إلى إرضاء واحد منهم
فضلا عن جميعهم. ولا يزال يبلغه عن أخص الناس به من أولاده وحرمه ومن يجري
مجراهم من حاشيته وخوله ما يملأه غيظا وحنقا وهو غير آمن على نفسه من
جهتهم مع التحاسد الذي بينهم من مكاتبة الأعداء إياهم ومواطأة الحساد لهم.
وكلما ازداد من الأعوان والأعضاد والأنصار زادوه في شغل القلب وجلبوا إليه
من المكاره ما لم يكن عنده فهو غنى عند الناس وهو أشدهم فقرا ومحسود وهو
أكثرهم حسدا. وكيف لا يكون فقيرا وحدا الفقر هو هو كثرة الحاجة فأكثر
الناس حاجة أشدهم فقرا كما أن أغنى الناس أقلهم حاجة. ولذلك حكمنا حكما
صادقا بأن الله تعالى أغنى الأغنياء لأنه لا حاجة له إلى شيء من الأشياء.
الملوك
وقد
حكمنا
أيضا أن الملوك مناهم أشد الناس فقرا لكثرة حاجتهم إلى الشياء ولقد
صدق أبو بكر الصديق في خطبته حيث قال (اشقىالناس في الدنيا والآخرة
الملوك) ثم وصفهم فقال (إنالملك إذا ملك زهده الله فيما في يده ورغبه فيما
في يد غيره وانتقصه شطر أجله وأشرب قلبه الإشفاق فهو يحسد على القليل
ويتخسط بالكثير ويسأم الرخاء وإن انقطعت عنه اللذة لا يستعمل الغيرة ولا
يسكن إلى الثقة فهو كالدرهم الغش والسراب الخادع جلد الظاهر حزين الباطن
فإذا وجبت نفسه ونضب عمره ومحي ظله حاسبه فأشد حسابه وأقل عفوه ألا أن
الملوك هم المرحومون) فهذه صفة الملك إذا تمكن من ملكه لا يغادر منه شيئا
ولقد سمعت أعظم من شاهدت من الملوك يستعيد هذا الكلام ثم يستعبر لموافقته
ما في قلبه وصدقه عن حاله وصورته. ولعل من يرى ظاهر الملوك من الأسرة
والفرش والزينة والأثاث ويشاهدهم في مواكبهم محفوفين محشودين بين أيديهم
الجنائب والمراكب والعبيد والخدم والحجاب والحشم يروعه ذلك فيظن أنهم
مسرورون بما يراه لهم. لا والذي خلقهم وكفانا شغلهم أنهم لفي هذه الأحوال
ذاهلون عما يراه البعيد لهم مشغولون بالأفكار التي تعتورهم وتعتريهم فيما
قلناه من ضروراتهم وقد جربنا ذلك في اليسير مما ملكناه فدلنا على الكثير
مما وصفناه. ولعل بعض من يصل إلى الملك أو السلطان فيلتذ في المبدء مدة
يسيرة جدا بمقدار ما يتمكن منه وتنفتح عينه فيه. لكنه بعد ذلك يصير جميع
ما ملكه كالشيء الطبيعي له لا يلتذ به ولا يفكر فيه ويمد عينه إلى مالا
يملكه. فلو ملك الدنيا بحذافيرها لتمنى دنيا أخرى أو نزقت همته إلى البقاء
الأبدي والملك الحقيقي حتى تتبرم بجميع ما وصل إليه وبلغته قدرته. ذلك أن
حفظ الدنيا صعب جدا لما في طبيعتها من الإخلال والتلاشي ولما يضطر الملك
إليه من الأمور التي وصفناها والأموال الجمة المصروفة إلى الجند المرتبطين
والخدم المتسومين والذخائر والكنوز المعدة للآفات والحوادث التي لا يؤمن
طروقها.
فهذه حال طلاب النعم الخارجة عنا وأما تلك النعم التي في
ذواتنا فإنها موجودة عندنا وفينا وهي غير مفارقة لنا لأنها موهبة الخالق
جل وعلا وقد أمرنا باستثمارها والترقي فيها فإذا قبلنا أمره أثمرت لنا
نعما بعد نعم ورقينا درجة بعد درجة حتى تؤدينا إلى النعم الأبدية التي
وصفناها فيما تقدم وهو الملك الحقيقي الذي لا يزول والغبطة الأبدية
الصافية التي لا تحول. فمن أخسر صفقة وأظهر سقطة ممن أضاع جواهر نفيسة
باقية عنده وموجودة له وطلب أعراضا خسيسة فانية ليست عنده ولا موجودة له.
فإن اتفق أن يجدها لم تبق له ولم تترك عليه وذلك أنها تنقل عنه أو ينقل
عنها لا محالة.
القناعة
فينبغي أن ننظر إلى أقواتنا بهذه العين
وننزلها منزلة الحش الذي نضطر إلى ملابسته لإخراج ما كنا نحرص على الوصول
إليه فلا نبعدها من هذا الآخر لأنهما ضرورتان لنا فنحن نلابسهما لأجل
الضرورة ولا نشغل عقلنا باختيارهما والتمتع بهما وإفناء أعمارنا في التأنق
لهما والتوصل إليهما ولا نتكاسل أيضا عن إعداد ضروراتنا منهما. وإنما يفضل
أحدهما علىالآخر ويستحسن السعي في طلب الدخل ولا يستحسن السعي في طلب
الخرج لأن الأول منهما هو غذاء موافق لنا يخلف علينا ماتحلل من أبداننا
ولا نستقذره كذلك لا ننفر مما نضعه مكان ما ينقص منه وينوب عنه. وأما
الثاني منهما فهو عصارة ذلك الغذاء وما نفقته الطبيعة وأخذت حاجتها منه
أعني الذي أحالته دما صافيا وفرقته في العروق على الأعضاء وأطرحت التفل
الذي لا حاجة بها إليه وهو في غاية المخالفة والبعد من أمزجتنا فنحن
نستوحش منه وننفر عنه لأجل الضدية والمخالفة إلا أننا مضطرون إلى إخراجه
وتنحيته ونفضه عنا بالآلات الموهوبة المستعملة في ذلك ليفرغ مكانه لما
يأتي بعده ويجري مجراه. وينبغي لحافظ الصحة علىنفسه أن لا يحرك قوته
الشهوانية وقوته الغضبية بتذكر ما أصاب منهما موجدا لذته بل يتركهما حتى
يتحركا بأنفسهما وذلك أن الإنسان ربما تذكر لذاته في غصابة الشهوات وطيبها
ومراتب كرامته من السلطان وغيرها فاشتاق إليها وإذا اشتلق إليها تحرك
نحوها فقد جعلها غرضا له فيضطر إلى استعمال الروية واستخدام النفس الناطقة
فيها لتدبر له الوصول إليها. وهذه صورة من يثير بهائم عادية ويهيج سباعا
ضاربة ثم يلتمس معالجتها والخلاص منها.
وليس يختار العاقل فنسه هذه
الحال بل هي من أفعال المجانين الذين لا يميزون بين الخير والشر ولا بين
الصواب والخطأ. ولذلك يحب أن لا يتذكر أعمال هاتين القوتين لئلا يشتاق
إليهما ويتحرك نحوهما بل يتركهما فإنهما سيثوران لأنفسهما ويهيجان عند
حاجتهما ويلتمسان ما يحتاج البدن إليه ويتخذان من باعث الطبيعة ما يغنيك
عن بعثهما بالفكر والروية والتمييز فيكون حينئذ فكرك وتمييزك في إزاحة
علتهما وتقدير ما تطلقه لهما في الأمر الضروري الواجب لأبداننا الحافظ
لصحتها.
وهذا هو إمضاء مشيئة الله تعالى وإتمام سياسته لأنه تعالى
إنماوهب هاتين القوتين لنا لنستخدمهما عند حاجتنا إليهما لا لنخدمهما
ونتعبد لهما.
فكل من استعمل النفس الناطقة في خدمة عبدها فقد تجاوز أمر
الله وتعدة حدوده وعكس سياسته وتقديره. وذلك أن خالقنا عز وجل رتب لنا هذه
القوى بتدبيره وتقديره ولا عدل اشرف وأفضل من ترتيبه وتقديره وكل من خالفه
وعدل عنه فهو أعظم على ذاته وأكبر ظالم لنفسه.
حافظ الصحة على
نفسه
ينبغي
لحافظ الصحة علىنفسه أن يلطف نظره في كل ما يعمل ويدربر ويستعمل فيه آلات
بدنه ونفسه لئلا يجري فيها على عادة تقدمت له مخالفة لما يوجب تمييزه
ورويته فما أكثر ما يعرض للإنسان من بدو أفعال تخالف ما قدم فيه عزيمته
وعقد عليه رأيه. فمن عرض له مثل هذا فيجب عليه أن يضع لنفسه عقوبات يقابل
بها أمثال هذه الذنوب فإذا أنكر من نفسه مبادرة إلى طعام ضار وترك حمية قد
كان استشعرها أو تناول فاكهة غير موافقة أو حلواء كذلك عاقب نفسه بصوم لا
يفطر فيه إلا على ألطف مما يقدر عليه وأقله وإن أمكنه الطى فليطو ويزيد في
الحمية من غير حاجة إليها ويمكن في توبيخه لنفسه أن يقول لها إنك قصدت
تناول النافع فتناولت الضار وهذا فعل من لا عقل له ولعل كثيرا من البهائم
أحسن حالا منك لأنه ليس فيها ما تقصد لذة لها ثم تتناول ما يؤلمها
فاستمسكي الآن للعقوبة. وإن أنكر من نفسه مبادرة إلى غضب في غير موضعه أو
على من لا يستحقه أو زيادة على ما يجب منه فليقابل ذلك بالتعرض لسفيه
يعرفه بالبذاء ثم ليحتمله وليتذلل لمن يعرفه بالخيرية ممن كان لا يتواضع
له قبل ذلك أو ليفرض على نفسه مالا يخرجه صدقة وليجعل ذلك نذرا عليه لا
يخل به. وإن أنكر من نفسه كسلا وتوانيا في مصلحة له فليعاقب نفسه بسعي فيه
مشقة أو صلاة فيها طول أو بعض الأعمال الصالحة التي فيها كد وتعب وبالجملة
فليرسم علىنفسه رسوما تصير عليها فرائض وحدودا لا يخل بها ولا يترخص فيها
إذا أنكر من نفسه مخالفة لعقله وتجاوزا لمرسومه. وليحذر في جميع أوقاته
ملابسة رذيلة أو مساعدة رفيق عليها أو مخالفة صواب ولا يستحقرن شيئا مما
يأتيه من صغار السيئات ولا يطلبن رخصة فيها فإن ذلك يدعوه إلى أعظم منها.
ومن
تعود
في أول نشوه وحدثان شبابه ضبط النفس عن شهواتها عند ثورة غضبه وحفظ
لسانه وإحتمال أقرانه خف عليهما يثقل على غيره ممن لم يتأدب بهذه الآداب.
وبيان ذلك أنا نجد العبيد وأشباههم إذا بلوا بموالي سوء يسفهون عليهم
ويسبون أعراضهم هان عليهم الخطب فيما يسمعونه حتى لا يؤثر فيهم وربما
تضاحكوا عند سماع مكروه شديد ضحكا غير متكلف ويعملون عند ذلك أعمالهم
ودعين طلقين غير قلقين وقد كانوا قبل ذلك شرسين غضوبين غير محتملين ولا
ممسكين عن الأجوبة والإنتقام بالكلام وطلب التشقي بالخصام. وهذه سبيلنا
إذا ألفنا الفضائل وتجنبنا الرذائل وأمسكنا عن مقابلة السفهاء ومجاراتهم
والإنتقام منهم. ويجب على حافظ الصحة على نفسه أن يتشبه بالملوك الموصوفين
بالحزم فإنهم يستعدون للأعداء بالعدة والعتاد والتحصن قبل هجوم العدو وهم
في مهلة من زمانهم وفي إتساع من نظرهم ولو أغفلوا ذلك إلى أن تحل بهم
المكاره وتطرقهم الشدائد لأذهلهم الأمر عن الحيلةوعن الرأي السديد. فعلى
هذا الأصل يجب أن تبنى أمورنا في الإستعداد لأعدائنا من الشره والغضب
وسائر ما يزيلنا عن أغراضنا من الفضائل بأن نتعود الصبر على ما يجب الصبر
عليه والحلم عمن ينبغي أن يحلم عنه ونضبط النفس عن الشهوات الرديئة ولا
ننظر دفع هذه الرذائل وقت هيجانها فإن الأمر عند ذلك صعب جدا ولعله غير
ممكن ألبتة.
معرفة المرء عيوب نفسه
وهذا الذي أشار به جالينوس معوز غير
موجود ولا مطموع فيه. وفلعل العدو في هذا الموضع أنفع من الصديق فإن العدو
لا يحتشمنا في إظهار عيوبنا بل يتجاوز ما يعرف منا إلى التحرض والكذب فيها.
فلنتنبه
على
كثير من عيوبنا من جهتها بل نتجاوز إلى ذلك أن نتهم نفوسنا بما ليس
فيها. ولجالينوس أيضا مقالة يقول فيها أن خيار الناس ينتفعون بأعدائهم
وهذا صحيح لا يخالفه فيه أحد وذلك لما ذكرناهز فأما ما اختاره أبو يوسف بن
إسحاق الكندي في ذلك فهو ماحكاه بألفاظه وهو هذا قال: (ينبغي لطالب
الفضيلة لنفسه أن يتخذ صور جميع معارفه من الناس مرآة له تريه صور كل واحد
منهم عندما تعرض له آلام الشهوات التي تثمر السيئات حتىلا يغيب عنه شيء من
السيئات التي له. وذلك أنه يكون متفقدا سيئات الناس فمتى رأى سيئة بادية
من أحد ذم فنسه عليها كأنه هو فعلها وأكثر عتبه على نفسه من أجلها ويعرض
عليها كل يوم وليلة جميع أفعاله حتى لا يشذ عنه شيء منها فإنه قبيح بنا أن
نجتهد في حفظ ما نقضناه من الحجارة الدنيئة والأرمد الهامدة الغريبة منا
التي لا ينقصنا عدمها ألبتة في كل يوم ولا نحفظ ما ينفق من ذواتنا التي
بتوفيرها بقاؤنا وبنقصانها فناؤنا. فإذا وقفنا على سيئة من أفعالنا اشتد
عذلنا لأنفسنا عليها ثم لنقيم عليها حدا نفرضه ولا نضيعه. وإذا تصفحنا
أفعال غيرنا ووجدنا فيها سيئة عاتبنا أيضا نفوسنا عليها فإن نفوسنا ترتدع
حينئذ عن المساوي وتألف الحسنات وتكون المساوي أبدا ببالنا لا ننساها ولا
يأتي عليها زمان طويل فيعفى ذكرها.
ولذلك ينبغي أن نعمل في الحسنات
لنفرغ إليها ولا يفوتنا منها شيء. قال: وينبغي أن لا نقطع بأن نصير أشباه
الدفاتر والكتب التي تفيد غيرها معاني الحكمة وهي عادمة اقتنائها أو
كالمسن يشحذ ولا يقطع بل نكون كالشمس التي تفيد القمر كلنا أشرقت عليه
إنارة من ذلتها فتفعل له تماما حتى يكون له شبهها وإن قصر عن نورها. فهكذا
ينبغي أن يكون حالنا إذا أفدنا غيرنا الفضائل) وهذا الذي ذكره الكندي في
ذلك أبلغ مما قاله من تقدمه.
المقالة السابعة
رد الصحة
على النفس
وذلك
إذا تصورنا الفضيلة مركزا وأخرجنا منه خطا مستقيما فحصلت له نهاية أمكننا
أن نخرج من الجانب الآخر المقابل له خطا آخر على استقامته فتصير له نهاية
أخرى ويصيران جميعا مقابلين للمركز الذي فرضناه فضيلة إلا ان أحدهما يجري
مجرى الأفراط والغلو والآخر يجري مجرى التفريط والتقتير. وإذا قد فُهم ذلك
فليعلم أن لكل فضيلة طرفين محدودين يمكن الإشارة إليهما وأوساط بينهما
كثيرة لا نهاية لها ولا يمكن الإشارة إليها. إلا أن الوسط الحقيقي هو واحد
الذي سميناه فضيلة.
ثم ليعلم أننا بحسب هذا البيان نجعل أجناس الشرور
والرذائل ثمانية لأنها ضعف الفضائل الأربع التي تقدم شرحها وهي هذه:
التهور والجبن طرفان للوسط الذي هو الشجاعة. والشره والخمود طرفان للوسط
الذي هو العفة. والسفه والبله طرفان للوسط الذي هو الحكمة. والجور
والمهانة (أعني الظلم والإنظلام) طرفان للوسط الذي هو العدالة.
فهذه
أجناس الأمراض التي تقابل الفضائل التي هي صحة النفس وتحت هذه الأجناس
أنواع لا نهاية لها ونبدأ بذكر التهور والجبن اللذين هما طرفا الشجاعة وهي
فضيلة النفس وصحتها فنقول:
التهور والجبن
أما العجب فحقيقته إذا حددناه أنه ظن
كاذب بالنفس في استحقاق مرتبة هي غير مستحقة لها. وحقيق على من عرف نفسه
أن يعرف كثرة العيوب والنقائص التي تعتورها فإن الفضل مقسوم بين البشر
وليس يكمل الواحد منهم إلا بفضائل غيره. وكل من كانت فضيلته عند غيره
فواجب عليه أن لا يعجب بنفسه. وكذلك الإفتخار فإن الفخر هو المباهات
بالأشياء الخارجة عنا ومن باهي بما هوخارج عنه فقد باهى بمالا يملكه. وكيف
يملك ما هو معرض للآفات والزوال في كل ساعة وفي كل لحظة ولسنا على ثقة منه
في شيء من الأوقات وأصح الأمثال وأصدقها فيه ما قاله الله عز وجل:
(وَاضرِب لَهُم مَثلاٌ رَجُلَين جَعَلنا لأَحَدِهِما جَنَتينِ مِن
أَعنابٍ) إلى قوله: (فَأَصبَحَ يُقَلِبُ كَفَيهِ عَلى ما أَنفَقَ فيها
وَهيَ خاوِيةٌ عَلى عُرُوشِها) وقال تعالى: (وَاضرِب لَهُم مَثَلَ
الحَياةِ الدُنيا كَمَاءٍ أَنزَلَناهُ مِنَ السَماءِ فاختلَطَ بِهِ نَباتُ
الأَرضِ فَأَصبَحَ هَشيماً تَذرُوهُ الرِياح وَكانَ الله عَلى كُلِ شَيءٍ
مُقتَدِراً) وفي القرآن من هذه الأمثال شيء كثير وكذلك في الأخبار المروية
عن النبي عليه الصلاة والسلام. وأما المفتخر بنسبة فأكثر ما يدعيه إذا كان
صادقا أن أباه كان فاضلا فلو حضر ذلك الفاضل وقال أن الفضل الذي تدعيه لي
أنا مستبد به دونك فما الذي عندك منه مما ليس عند غيرك لأفحمه وأسكته.
وقد
روى
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى أخبار كثيرة صحيحة
منها أنه قال: (لا تأتوني بأنسابكم وائتوني بأعمالكم) أو ما هذا معناه.
ويحكى عن مملوك كان لبعض الفلاسفة أنه افتخر عليه بعض رؤساء زمانه فقال له
إن افتخرت علىَّ بفرسك فالحسن والفراهة للفرس لا لك. وإن افتخرت بثيابك
وآلاتك فالحسن لها دونك. وإن افتخرت بآبائك فالفضل كان فيهم دونك. فإذا
كانت الفضائل والمحاسن خارجة عنك وأنت منسلخ عنها وقد رددناها على أصحابها
بل لم تخرج عنهم فترد عليهم وأنت ممن يحقق ذلك إن شاء الله تعالى. وحكي عن
بعض الفلاسفة أنه دخل على بعض أهل اليسار والثروة وكان يحتشد في الزينة
ويفتخر بكثرة آلاته وقد حضرت الفيلسوف بصقة فتنخع لها والتفت في البيت
يمينا وشمالا ثم بصق في وجه صاحب البيت فلما عوتب على ذلك قال: (إني نظرت
إلى البيت وجميع ما فيه فلم أجد هناك أقبح منه فبصقت عليه) وهكذا يستحق من
كان خاليا من فصائل نفسه وافتخر بالخارجات عنه.
فأما المراء واللجاج.
فقد ذكرنا قبح صورتهما في المقالة التي قبل هذه وما يولدانه من الشتات
والفرقة والتباغض بين الإخوان.
المزاح والتيه والإستهزاء
وأما الغدر
فوجوهه كثيرة اعني أنه يستعمل في المال وفي الجاه وفي الحرم وفي المودة
وهو على كثرة وجوهه مذموم بكل لسان ومعيب عند كل أحد ينفر السماع من ذكره
ولا يعترف به إنسان وإن قل حظه من الإنسانية وليس يوجد غلا في جنس من
أجناس العبيد فيتوقاهم الناس ويأنف منهم سائر أجناس العبيد.
ذلك أن
الوفاء الذي هو ضده موجود في جنس الحبشة والروم والنوبة وقد شاهدنا من حسن
وفاء كثير من العبيد ما لم نشاهده في كثير من المتسمين بالأحرار. ومن عرف
قبح الغدر باسمه ونفور العقلاء منه ثم عرف معناه فليس يستعمله وبالأخص من
له طبيعة جيدة أو قرأ ما تقم في هذا الكتاب وتخلق به وانتهى في قراءته إلى
هذا الموضع. وأما الضيم فهو تكليف إحتمال الظلم والغضب وربما يعرض منه
شهوة الإنتقام وقد ذكرنا فيما تقدم الظلم والإنظلام وشرحنا الحال فيهما.
فيبنبغي
أن
لا نسرع إلى الإنتقام عند ضيم يلحقنا حتى ننظر فيه ونحذر أن لا يعود
علينا الإنتقام بضرر أعظم من إحتمال ذلك الضيم. وهذا النظر والحذر هو
استشارة العقل وهو الحلم بعينه.
المقتنيات والجواهر النفيسة
فهذه أسباب الغضب والأمراض الحادثة
منها ومن عرف العدالة وتخلق بها كما قدمناه فيما تقدم سهل عليه علاج هذا
المرض لأنه جورو خروج عن الإعتدال. ولذلك لا ينبغي أن نسميه بأسماء
المديح. وأعني بذلك أن قوما يسمون هذا النوع من الجور أعني الغضب في غير
موضعه رجزلية وشدة شكيمة ويذهبون به مذهب الشجاعة التي هي بالحقيقة اسم
للمدح وشتان ما بين المذهبين. فإن صاحب هذا الخلق الذي ذممناه تصدر عنه
أفعال رديئة كثيرة يجور فيها على نفسه ثم على إخوانه ثمعلى الأقرب فالأقرب
من معامليه حتى ينتهي إلى عبيده وإلى حرمه فيكون عليهم سوط عذاب ولا
يقيلهم عثرة ولا يرحم لهم عبرة وإن كانوا برآء من الذنوب غير مجترمين ولا
مكتسبين سواء بل يتجرم عليهم ويهيج من أدنى سبب يجد به طريقا إليهم حتى
يبسط لسانه ويده وهم لا يمتنعون منه ولا يتجاسرون على رده عن أنفسهم بل
يذعنون له ويقرون بذنوب لم يقترفوها إستكفافا لشره وتسكينا لغضبه وهو مع
ذلك مستمر على طريقته لا يكف يدا ولا لسانا وربما تجاوز في هذه المعاملة
الناس إلى البهائم التي لا تعقل وإلى الأواني التي لا تحس. فإن صاحب
هذاالخلق الردىء ربما قام إلى الحمار والبرذون أو إلى الحمار والعصفور
فيتناولها بالضرر والمكروه وربما عض القفل إذا تعسر عليه وكسر الآنية التي
لا يجد فيها طاعة لأمره.
وهذا النوع من رداءة الخلق مشهور في كثير من
الجهال يستعملونه في الثوب والزجاج والحديد وسائر الآلات، أماالملوك من
هذه الطائفة فإنهم يغضبون على الهواء إذا هب مخالفا لهواهم وعلى القلم إذا
لم يجر على رضاهم فيسبون ذاك ويكسرون هذا. وكان بعض من تقدم عهده من
الملوك يغضب على البحر إذا تأخرت سفينة فيه لاضطرابه وحركة الأمواج حتى
يهدهه بطرح الجبال فيه وطمّه بها. وكان بعض السفهاء في عصرنا بغضب على
القمر ويسبه ويهجوه بشعر له مشهور. وذلك أنه كان يتأذى به إذا نام فيه.
وهذه
الأفعال
كلها قبيحة وبعضها مع قبحه مضحك يهزأ بصاحبه. فكيف يمدح بالرجولية
والشدة وشرف النفس وعزتها وهي بالمذمة والفضيحة أولى منها بالمديح؟ وأي حظ
لها في العزة والشدة ونحن نجدها في النساء أكثر منها في الرجال وفي المرضى
أقوى منها في الأصحاء ونجد الصبيان أسرع غضبا وضجرا من الرجال.
والشيوخ
أكثر من الشبان ونجد رذيلة الشره. فإن الشره إذا تعذر عليه ما يشتهيه غضب
وشجر على من يهىء طعامه وشرابه من نسائه وأولاده وخدمه وسائر من يلابس
أمره. والبخيل إذا فقد شيئا من ماله تسرع بالغضب على أصدقائه ومخالطيه
وتوجهت تهمته إلى أهل الثقة من خدمه ومواليه. وهؤلاء الطبقة لا يحصلون من
أخلاقهم إلا على فقد الصديق وعدم النصيح وعلى الذم السريع واللوم الوجيع.
وهذه
حال لا تتم معها غبطة ولا سرور وصاحبها أبدا محزون كئيب متنغص بعيشه متبرم
بأموره وهي حال الشقي المحروم.
أما
الشجاع العزيز النفس فهوالذي يقهر بحلمه غضبه ويتمكن من التمييز والنظر
فيما يدهم ولا يستفزه ما يرد عليه من المحركات لغضبه حتى يتورى وينظر كيف
ينتقم ممن وعلى أي قدر. وكيف يصفح ويغضي عمن وفي أي ذنب. حكي عن الإسكندر
أنه نمى إليه عن بعض أصحابه أنه يعيبه وينتقصه فقال له بعض أصحابه لو
أدبته أيهاالملك بعقوبة تنهكه بها.
فقال له وكيف يكون انهاكه بعد عقوبتي
إياه في ثلبي وطلب معايب لأنه حيئنذ أبسط لسانا وأعذر عند الناس.
وأتى
يوما ببعض أعدائه من المتغلبين الخارجين عليه وكان قد عاث في أطرافه بلاده
عيثا كثيرا فصفح عنه، فقال له بعض جلسائه: لو كنت أنا أنت لقتلته. فقال له
الإسكندر ولكن لم أكن أنا أنت فلست بقاتله.
ولا بد في ذلك
من المزاح المستعذب والأحاديث المستطابة والفكاهة المحبوبة وإصابة اللذة
التي تطيقها الشريعة ويقدرها العقل حتى لا يتجلوزها إلى الإسراف فيها ولا
يقصرعنها تهاونا بها.
من المزاح المستعذب والأحاديث المستطابة والفكاهة المحبوبة وإصابة اللذة
التي تطيقها الشريعة ويقدرها العقل حتى لا يتجلوزها إلى الإسراف فيها ولا
يقصرعنها تهاونا بها.
ذلك أن الخروج إلى أحد الطرفين إن كان إلى جانب
الزيادة سمى مجونا وفسقا وخلاعة وما أشبهها من أسماء الذم. وإن كان إلى
جانب النقصان سمى فدامة وعبوسا وشكاسة وما أشبهها من أسماء الذم أيضا.
والمتوسط بينهما هوالظريف الذي يوسف بالهشاشة والطلاقة وحسن العشرة ويعرض
من الصعوبة في وجود هذا الوسط ما يعرض في سائر الفضائل الخلقية. ومما يؤخذ
به من يحفظ صحة نفسه أن يلتزم وظيفة من الجزء النظري والعملي لا يسوغ له
الإخلال بها البتة لتجري النفس مجرى الرياضة التي تلزم في حفظ صحة البدن
وأطباء النفوس أشد تعظيما لها في حفظ صحة النفس. وذلك أن النفس متى تعطلت
من النظر وعدمت الفكر والغوص على المعاني تبلدت وتبلهت وانقطت عنها مادة
كل خير. وإذا ألفت الكسل وتبرمت بالروية واختارت العطلة قرب هلاكها لأن في
عطلتها هذه إنسلاخا من صورتها الخاصة بها ورجعوعا منها إلى رتبة البهائم.
وهذا هو الإنتكاس في الخلق نعوذ بالله منه. وإذا تعود الحديث الناشء من
مبدء تكوينه الإرتياض بالأمور الفكرية ولازم التعاليم الأربعة ألف الصدق
واحتمل ثقل الروية والنظر وأنس بالحق ونبا طبعه عن الباطل وسمعه عن الكذب
فإذا بلغ أشده وانتقل إلى مطالعة الحكمة استمر طبعه فيها وتشرب ما يستودع
منها ولا يرد عليه أمر غريب ولا يحتاج إلى كثير تعب في فهم غوامضها
وإستخراج دفائنها فيصل إلى سعادتها التي ذكرناها سريعا. وإن كان حافظ هذه
الصحة قد توحد في العلم لا نهاية له وفوق كل ذي علم عليم. ولا يتكاسلن عن
معاودة ما علمه والدرس له فإن النسيان آفة العلم وليتذكر قول الحسن البصري
رحمة الله عليه (اقدعوا هذه النفوس فإنها طائعة وحادثوها فإنها سريعة
الدثور) واعلم أن هذه الكلمات مع قلة حروفها كثيرة المعاني وهي مع ذلك
فصيحة واستوفت شروط البلاغة. وليعلم أيضا حافظ هذه الصحة على نفسه أنه
إنما يحفظ عليها نعما شريفة جليلة موهوبة لها وكنوزا عظيمة مدخرة فيها
وملابس فاخرة مفرغة عليها. وإن من كانت هذه المواهب الجليلة موجودة له في
ذاته لا يحتاج إلى تطليها من خارج ولا إلى بذل الأموال فيها لغيره ولا
يكلف العناء والمؤمن الثقال في تحصيلها ثم أعرض عنها وأهمل أمرها حتى
انسلخ عنها وعرى منها لملوم في فعله مغبون في رأيه غير رشيد ولا موفق.
لا
سيما
وهو يرى طالبي النعم الخارجة كيف يتجشمون الأسفار البعيدة الخطرة
ويقطعون السبل المخوفة الوعرة ويتعرضون لضروب المكاره وأنواع التلف من
السباع العادية وطبقات الشرار الباغية وهم يخيبون في أكثر الأحوال مع
مقاسات هذه الأهوال. وربما عرضت لهم الندامات المفرطة والحسرات المعطبة
التي تقطع أنفساهم وتفصل أعضاءهم فإن ظفروا بشيء من مطالبهم كان لا محالة
زائلا عن قرب أو معرضا للزوال وغير مطموع في بقائه لأنه منخارج وما كان
خارجا عنها فهو غير ممتنع عما يطرقه من الحوادث التي لا تحصى كثرة. وصاحبه
مع هذه الحال شديد الوجل دائم الإشفاق متعب الجسم والنفس يحفظ ما لا يجد
إلى حفظه سبيلا والحذر على مالا يغني فيه الحذر فتيلا.
وإن كان طالب
هذه الأشياء الخارجة عنا سلطانا أو صاحب سلطان تضاعفت عليه هذه المكاره
أضعافا كثيرة بقدر ما يلابسه وبحسب ما يقاسيه من الأضداد والحساد على
البعد ومن القرب وبكثرة ما يحتاج إليه من المؤن في إستصلاح من يليه ويلي
من يليه من مدارة من يواليه ويعاديه. وهو في كل ذلك ملوم مستبطأ ومعتب
مستقصر ويستزيده جميع أهله والمتصلين به ولا سبيل له إلى إرضاء واحد منهم
فضلا عن جميعهم. ولا يزال يبلغه عن أخص الناس به من أولاده وحرمه ومن يجري
مجراهم من حاشيته وخوله ما يملأه غيظا وحنقا وهو غير آمن على نفسه من
جهتهم مع التحاسد الذي بينهم من مكاتبة الأعداء إياهم ومواطأة الحساد لهم.
وكلما ازداد من الأعوان والأعضاد والأنصار زادوه في شغل القلب وجلبوا إليه
من المكاره ما لم يكن عنده فهو غنى عند الناس وهو أشدهم فقرا ومحسود وهو
أكثرهم حسدا. وكيف لا يكون فقيرا وحدا الفقر هو هو كثرة الحاجة فأكثر
الناس حاجة أشدهم فقرا كما أن أغنى الناس أقلهم حاجة. ولذلك حكمنا حكما
صادقا بأن الله تعالى أغنى الأغنياء لأنه لا حاجة له إلى شيء من الأشياء.
الملوك
وقد
حكمنا
أيضا أن الملوك مناهم أشد الناس فقرا لكثرة حاجتهم إلى الشياء ولقد
صدق أبو بكر الصديق في خطبته حيث قال (اشقىالناس في الدنيا والآخرة
الملوك) ثم وصفهم فقال (إنالملك إذا ملك زهده الله فيما في يده ورغبه فيما
في يد غيره وانتقصه شطر أجله وأشرب قلبه الإشفاق فهو يحسد على القليل
ويتخسط بالكثير ويسأم الرخاء وإن انقطعت عنه اللذة لا يستعمل الغيرة ولا
يسكن إلى الثقة فهو كالدرهم الغش والسراب الخادع جلد الظاهر حزين الباطن
فإذا وجبت نفسه ونضب عمره ومحي ظله حاسبه فأشد حسابه وأقل عفوه ألا أن
الملوك هم المرحومون) فهذه صفة الملك إذا تمكن من ملكه لا يغادر منه شيئا
ولقد سمعت أعظم من شاهدت من الملوك يستعيد هذا الكلام ثم يستعبر لموافقته
ما في قلبه وصدقه عن حاله وصورته. ولعل من يرى ظاهر الملوك من الأسرة
والفرش والزينة والأثاث ويشاهدهم في مواكبهم محفوفين محشودين بين أيديهم
الجنائب والمراكب والعبيد والخدم والحجاب والحشم يروعه ذلك فيظن أنهم
مسرورون بما يراه لهم. لا والذي خلقهم وكفانا شغلهم أنهم لفي هذه الأحوال
ذاهلون عما يراه البعيد لهم مشغولون بالأفكار التي تعتورهم وتعتريهم فيما
قلناه من ضروراتهم وقد جربنا ذلك في اليسير مما ملكناه فدلنا على الكثير
مما وصفناه. ولعل بعض من يصل إلى الملك أو السلطان فيلتذ في المبدء مدة
يسيرة جدا بمقدار ما يتمكن منه وتنفتح عينه فيه. لكنه بعد ذلك يصير جميع
ما ملكه كالشيء الطبيعي له لا يلتذ به ولا يفكر فيه ويمد عينه إلى مالا
يملكه. فلو ملك الدنيا بحذافيرها لتمنى دنيا أخرى أو نزقت همته إلى البقاء
الأبدي والملك الحقيقي حتى تتبرم بجميع ما وصل إليه وبلغته قدرته. ذلك أن
حفظ الدنيا صعب جدا لما في طبيعتها من الإخلال والتلاشي ولما يضطر الملك
إليه من الأمور التي وصفناها والأموال الجمة المصروفة إلى الجند المرتبطين
والخدم المتسومين والذخائر والكنوز المعدة للآفات والحوادث التي لا يؤمن
طروقها.
فهذه حال طلاب النعم الخارجة عنا وأما تلك النعم التي في
ذواتنا فإنها موجودة عندنا وفينا وهي غير مفارقة لنا لأنها موهبة الخالق
جل وعلا وقد أمرنا باستثمارها والترقي فيها فإذا قبلنا أمره أثمرت لنا
نعما بعد نعم ورقينا درجة بعد درجة حتى تؤدينا إلى النعم الأبدية التي
وصفناها فيما تقدم وهو الملك الحقيقي الذي لا يزول والغبطة الأبدية
الصافية التي لا تحول. فمن أخسر صفقة وأظهر سقطة ممن أضاع جواهر نفيسة
باقية عنده وموجودة له وطلب أعراضا خسيسة فانية ليست عنده ولا موجودة له.
فإن اتفق أن يجدها لم تبق له ولم تترك عليه وذلك أنها تنقل عنه أو ينقل
عنها لا محالة.
القناعة
لذلك قال الحيكم لمن زرق
الكفاية ووجد القصد من السعادة الخارجة أن لا يشتغل بفضول العيش فإنها بلا
نهاية. ومن طلبها أوقعته في مهالك لا نهاية لها. وقد أعلمناك فيما تقدم ما
الكفاية وما القصد وإن الغرض الصحيح بينهما هو مداواة الآلآم والتحرز من
الوقوع فيها لا التمتع وطلب اللذة.
وإن من عالج الجوع والعطش اللذين
هما مرضان مؤلمان حادان لا ينبغي له أن يقصد لذة البدن بل صحته وسيلتذ لا
محالة. فإن من طلب بالعلاج اللذة لا الصحة لم تحصل له الصحة ولم تبق له
اللذة.
وأما من لم يرزق الكفاية واحتاج إلى السعي والإضطراب في تحصيلها
فيجب أن لا يتجاوز القصد وقدر حاجته منها إلى ما يصطر معه إلى السعي
الحثيث والحرص الشديد والتعرض لقبيح المكاسب أو ضروب المهالك والمعاطب. بل
يجمل في طلبها إجمال العارف بخساستها وأنه يضطر إليها لنقصانه فيطلب منها
كسائر الحيوانات في ضروراتها.
فإن العاقل إذا تصفح أحوالها وجد منها ما
يأكل الميتة ومنها ما يأكل الروث وما في الحش وهي مسرورة بما تجده من
أقواتها قريرة العين بها. وليست تحس من نفوسها نفورا ولا تنصرف نفوسها
عنها كما تنصرف نفوس الحيوانات المضادة لها بل إنما تنصرف من أقوات تلك
الأخر التي تضادها في النظافة. مثال ذلك الجعل والخنافس إذا قيست إلى
النحل فإذا تلك تهرب من الروائح الطيبة والأقوات النظيفة وهذا يطلبها ويسر
بها. فإن نسبة كل حيوان إلى قوته الخاص به ككل مقتنع بما يحفظ بقاءه
وحياته فهو طالب مسرور به.
الكفاية ووجد القصد من السعادة الخارجة أن لا يشتغل بفضول العيش فإنها بلا
نهاية. ومن طلبها أوقعته في مهالك لا نهاية لها. وقد أعلمناك فيما تقدم ما
الكفاية وما القصد وإن الغرض الصحيح بينهما هو مداواة الآلآم والتحرز من
الوقوع فيها لا التمتع وطلب اللذة.
وإن من عالج الجوع والعطش اللذين
هما مرضان مؤلمان حادان لا ينبغي له أن يقصد لذة البدن بل صحته وسيلتذ لا
محالة. فإن من طلب بالعلاج اللذة لا الصحة لم تحصل له الصحة ولم تبق له
اللذة.
وأما من لم يرزق الكفاية واحتاج إلى السعي والإضطراب في تحصيلها
فيجب أن لا يتجاوز القصد وقدر حاجته منها إلى ما يصطر معه إلى السعي
الحثيث والحرص الشديد والتعرض لقبيح المكاسب أو ضروب المهالك والمعاطب. بل
يجمل في طلبها إجمال العارف بخساستها وأنه يضطر إليها لنقصانه فيطلب منها
كسائر الحيوانات في ضروراتها.
فإن العاقل إذا تصفح أحوالها وجد منها ما
يأكل الميتة ومنها ما يأكل الروث وما في الحش وهي مسرورة بما تجده من
أقواتها قريرة العين بها. وليست تحس من نفوسها نفورا ولا تنصرف نفوسها
عنها كما تنصرف نفوس الحيوانات المضادة لها بل إنما تنصرف من أقوات تلك
الأخر التي تضادها في النظافة. مثال ذلك الجعل والخنافس إذا قيست إلى
النحل فإذا تلك تهرب من الروائح الطيبة والأقوات النظيفة وهذا يطلبها ويسر
بها. فإن نسبة كل حيوان إلى قوته الخاص به ككل مقتنع بما يحفظ بقاءه
وحياته فهو طالب مسرور به.
فينبغي أن ننظر إلى أقواتنا بهذه العين
وننزلها منزلة الحش الذي نضطر إلى ملابسته لإخراج ما كنا نحرص على الوصول
إليه فلا نبعدها من هذا الآخر لأنهما ضرورتان لنا فنحن نلابسهما لأجل
الضرورة ولا نشغل عقلنا باختيارهما والتمتع بهما وإفناء أعمارنا في التأنق
لهما والتوصل إليهما ولا نتكاسل أيضا عن إعداد ضروراتنا منهما. وإنما يفضل
أحدهما علىالآخر ويستحسن السعي في طلب الدخل ولا يستحسن السعي في طلب
الخرج لأن الأول منهما هو غذاء موافق لنا يخلف علينا ماتحلل من أبداننا
ولا نستقذره كذلك لا ننفر مما نضعه مكان ما ينقص منه وينوب عنه. وأما
الثاني منهما فهو عصارة ذلك الغذاء وما نفقته الطبيعة وأخذت حاجتها منه
أعني الذي أحالته دما صافيا وفرقته في العروق على الأعضاء وأطرحت التفل
الذي لا حاجة بها إليه وهو في غاية المخالفة والبعد من أمزجتنا فنحن
نستوحش منه وننفر عنه لأجل الضدية والمخالفة إلا أننا مضطرون إلى إخراجه
وتنحيته ونفضه عنا بالآلات الموهوبة المستعملة في ذلك ليفرغ مكانه لما
يأتي بعده ويجري مجراه. وينبغي لحافظ الصحة علىنفسه أن لا يحرك قوته
الشهوانية وقوته الغضبية بتذكر ما أصاب منهما موجدا لذته بل يتركهما حتى
يتحركا بأنفسهما وذلك أن الإنسان ربما تذكر لذاته في غصابة الشهوات وطيبها
ومراتب كرامته من السلطان وغيرها فاشتاق إليها وإذا اشتلق إليها تحرك
نحوها فقد جعلها غرضا له فيضطر إلى استعمال الروية واستخدام النفس الناطقة
فيها لتدبر له الوصول إليها. وهذه صورة من يثير بهائم عادية ويهيج سباعا
ضاربة ثم يلتمس معالجتها والخلاص منها.
وليس يختار العاقل فنسه هذه
الحال بل هي من أفعال المجانين الذين لا يميزون بين الخير والشر ولا بين
الصواب والخطأ. ولذلك يحب أن لا يتذكر أعمال هاتين القوتين لئلا يشتاق
إليهما ويتحرك نحوهما بل يتركهما فإنهما سيثوران لأنفسهما ويهيجان عند
حاجتهما ويلتمسان ما يحتاج البدن إليه ويتخذان من باعث الطبيعة ما يغنيك
عن بعثهما بالفكر والروية والتمييز فيكون حينئذ فكرك وتمييزك في إزاحة
علتهما وتقدير ما تطلقه لهما في الأمر الضروري الواجب لأبداننا الحافظ
لصحتها.
وهذا هو إمضاء مشيئة الله تعالى وإتمام سياسته لأنه تعالى
إنماوهب هاتين القوتين لنا لنستخدمهما عند حاجتنا إليهما لا لنخدمهما
ونتعبد لهما.
فكل من استعمل النفس الناطقة في خدمة عبدها فقد تجاوز أمر
الله وتعدة حدوده وعكس سياسته وتقديره. وذلك أن خالقنا عز وجل رتب لنا هذه
القوى بتدبيره وتقديره ولا عدل اشرف وأفضل من ترتيبه وتقديره وكل من خالفه
وعدل عنه فهو أعظم على ذاته وأكبر ظالم لنفسه.
حافظ الصحة على
نفسه
ينبغي
لحافظ الصحة علىنفسه أن يلطف نظره في كل ما يعمل ويدربر ويستعمل فيه آلات
بدنه ونفسه لئلا يجري فيها على عادة تقدمت له مخالفة لما يوجب تمييزه
ورويته فما أكثر ما يعرض للإنسان من بدو أفعال تخالف ما قدم فيه عزيمته
وعقد عليه رأيه. فمن عرض له مثل هذا فيجب عليه أن يضع لنفسه عقوبات يقابل
بها أمثال هذه الذنوب فإذا أنكر من نفسه مبادرة إلى طعام ضار وترك حمية قد
كان استشعرها أو تناول فاكهة غير موافقة أو حلواء كذلك عاقب نفسه بصوم لا
يفطر فيه إلا على ألطف مما يقدر عليه وأقله وإن أمكنه الطى فليطو ويزيد في
الحمية من غير حاجة إليها ويمكن في توبيخه لنفسه أن يقول لها إنك قصدت
تناول النافع فتناولت الضار وهذا فعل من لا عقل له ولعل كثيرا من البهائم
أحسن حالا منك لأنه ليس فيها ما تقصد لذة لها ثم تتناول ما يؤلمها
فاستمسكي الآن للعقوبة. وإن أنكر من نفسه مبادرة إلى غضب في غير موضعه أو
على من لا يستحقه أو زيادة على ما يجب منه فليقابل ذلك بالتعرض لسفيه
يعرفه بالبذاء ثم ليحتمله وليتذلل لمن يعرفه بالخيرية ممن كان لا يتواضع
له قبل ذلك أو ليفرض على نفسه مالا يخرجه صدقة وليجعل ذلك نذرا عليه لا
يخل به. وإن أنكر من نفسه كسلا وتوانيا في مصلحة له فليعاقب نفسه بسعي فيه
مشقة أو صلاة فيها طول أو بعض الأعمال الصالحة التي فيها كد وتعب وبالجملة
فليرسم علىنفسه رسوما تصير عليها فرائض وحدودا لا يخل بها ولا يترخص فيها
إذا أنكر من نفسه مخالفة لعقله وتجاوزا لمرسومه. وليحذر في جميع أوقاته
ملابسة رذيلة أو مساعدة رفيق عليها أو مخالفة صواب ولا يستحقرن شيئا مما
يأتيه من صغار السيئات ولا يطلبن رخصة فيها فإن ذلك يدعوه إلى أعظم منها.
ومن
تعود
في أول نشوه وحدثان شبابه ضبط النفس عن شهواتها عند ثورة غضبه وحفظ
لسانه وإحتمال أقرانه خف عليهما يثقل على غيره ممن لم يتأدب بهذه الآداب.
وبيان ذلك أنا نجد العبيد وأشباههم إذا بلوا بموالي سوء يسفهون عليهم
ويسبون أعراضهم هان عليهم الخطب فيما يسمعونه حتى لا يؤثر فيهم وربما
تضاحكوا عند سماع مكروه شديد ضحكا غير متكلف ويعملون عند ذلك أعمالهم
ودعين طلقين غير قلقين وقد كانوا قبل ذلك شرسين غضوبين غير محتملين ولا
ممسكين عن الأجوبة والإنتقام بالكلام وطلب التشقي بالخصام. وهذه سبيلنا
إذا ألفنا الفضائل وتجنبنا الرذائل وأمسكنا عن مقابلة السفهاء ومجاراتهم
والإنتقام منهم. ويجب على حافظ الصحة على نفسه أن يتشبه بالملوك الموصوفين
بالحزم فإنهم يستعدون للأعداء بالعدة والعتاد والتحصن قبل هجوم العدو وهم
في مهلة من زمانهم وفي إتساع من نظرهم ولو أغفلوا ذلك إلى أن تحل بهم
المكاره وتطرقهم الشدائد لأذهلهم الأمر عن الحيلةوعن الرأي السديد. فعلى
هذا الأصل يجب أن تبنى أمورنا في الإستعداد لأعدائنا من الشره والغضب
وسائر ما يزيلنا عن أغراضنا من الفضائل بأن نتعود الصبر على ما يجب الصبر
عليه والحلم عمن ينبغي أن يحلم عنه ونضبط النفس عن الشهوات الرديئة ولا
ننظر دفع هذه الرذائل وقت هيجانها فإن الأمر عند ذلك صعب جدا ولعله غير
ممكن ألبتة.
معرفة المرء عيوب نفسه
ويجب علىحافظ الصحة
علىنفسه ان يطلب عيوب نفسه باستقصاء شديد ولا يقنع بما قاله جالينوس في
ذلك فإنه ذكر في كتابه المعروف بتعرف المرء عيوب نفسه " أنه لما كل إنسان
يجب نفسه خفيت عليه معايبهولم يرها وإن كانت ظاهرة " وأشار في كتابه هذا
بان يختار من يحب أن يبرأ من العيوب صديقا كاملا فاضلا فيخبره بعد طول
المؤانسة إنه إنما يعرف صدق مودته إذا أصدقه عن عيوبه حتى يتجنبها ويأخذ
عهده على ذلك ولا يرضى منه إذا قال له لا أعرف لك عيبا بل ينكر عليه
ويعلمه أنه قد أتهمه بالخيانة ويعاود مسئلته والإلحاح عليه.
فإذا لم
يخبره من عيوبه زاد في العتب الصريح وافلحاح قليلا فإذا أخبره ببعض ما
يعثر عليه منه فلا يظهر له في وجهه أو كلامه نكرة ولا انقباضا بل يبسط له
وجهه ويظهر السرور بما أخرجه إليه ونبهه عليه ويشكره على الأيام وفي أوقات
المؤانسة ليتطرق له إلى إهداء مثله إليه ثم يعالج ذلك العيب بما يزيل أثره
ويمحو ظله ليعلم ذلك المهدي إليك عيبك أنك من وراء نفسك وفي طريق علاج
مرضك فلا ينقض عن معادوتك ونصيحتك.
علىنفسه ان يطلب عيوب نفسه باستقصاء شديد ولا يقنع بما قاله جالينوس في
ذلك فإنه ذكر في كتابه المعروف بتعرف المرء عيوب نفسه " أنه لما كل إنسان
يجب نفسه خفيت عليه معايبهولم يرها وإن كانت ظاهرة " وأشار في كتابه هذا
بان يختار من يحب أن يبرأ من العيوب صديقا كاملا فاضلا فيخبره بعد طول
المؤانسة إنه إنما يعرف صدق مودته إذا أصدقه عن عيوبه حتى يتجنبها ويأخذ
عهده على ذلك ولا يرضى منه إذا قال له لا أعرف لك عيبا بل ينكر عليه
ويعلمه أنه قد أتهمه بالخيانة ويعاود مسئلته والإلحاح عليه.
فإذا لم
يخبره من عيوبه زاد في العتب الصريح وافلحاح قليلا فإذا أخبره ببعض ما
يعثر عليه منه فلا يظهر له في وجهه أو كلامه نكرة ولا انقباضا بل يبسط له
وجهه ويظهر السرور بما أخرجه إليه ونبهه عليه ويشكره على الأيام وفي أوقات
المؤانسة ليتطرق له إلى إهداء مثله إليه ثم يعالج ذلك العيب بما يزيل أثره
ويمحو ظله ليعلم ذلك المهدي إليك عيبك أنك من وراء نفسك وفي طريق علاج
مرضك فلا ينقض عن معادوتك ونصيحتك.
وهذا الذي أشار به جالينوس معوز غير
موجود ولا مطموع فيه. وفلعل العدو في هذا الموضع أنفع من الصديق فإن العدو
لا يحتشمنا في إظهار عيوبنا بل يتجاوز ما يعرف منا إلى التحرض والكذب فيها.
فلنتنبه
على
كثير من عيوبنا من جهتها بل نتجاوز إلى ذلك أن نتهم نفوسنا بما ليس
فيها. ولجالينوس أيضا مقالة يقول فيها أن خيار الناس ينتفعون بأعدائهم
وهذا صحيح لا يخالفه فيه أحد وذلك لما ذكرناهز فأما ما اختاره أبو يوسف بن
إسحاق الكندي في ذلك فهو ماحكاه بألفاظه وهو هذا قال: (ينبغي لطالب
الفضيلة لنفسه أن يتخذ صور جميع معارفه من الناس مرآة له تريه صور كل واحد
منهم عندما تعرض له آلام الشهوات التي تثمر السيئات حتىلا يغيب عنه شيء من
السيئات التي له. وذلك أنه يكون متفقدا سيئات الناس فمتى رأى سيئة بادية
من أحد ذم فنسه عليها كأنه هو فعلها وأكثر عتبه على نفسه من أجلها ويعرض
عليها كل يوم وليلة جميع أفعاله حتى لا يشذ عنه شيء منها فإنه قبيح بنا أن
نجتهد في حفظ ما نقضناه من الحجارة الدنيئة والأرمد الهامدة الغريبة منا
التي لا ينقصنا عدمها ألبتة في كل يوم ولا نحفظ ما ينفق من ذواتنا التي
بتوفيرها بقاؤنا وبنقصانها فناؤنا. فإذا وقفنا على سيئة من أفعالنا اشتد
عذلنا لأنفسنا عليها ثم لنقيم عليها حدا نفرضه ولا نضيعه. وإذا تصفحنا
أفعال غيرنا ووجدنا فيها سيئة عاتبنا أيضا نفوسنا عليها فإن نفوسنا ترتدع
حينئذ عن المساوي وتألف الحسنات وتكون المساوي أبدا ببالنا لا ننساها ولا
يأتي عليها زمان طويل فيعفى ذكرها.
ولذلك ينبغي أن نعمل في الحسنات
لنفرغ إليها ولا يفوتنا منها شيء. قال: وينبغي أن لا نقطع بأن نصير أشباه
الدفاتر والكتب التي تفيد غيرها معاني الحكمة وهي عادمة اقتنائها أو
كالمسن يشحذ ولا يقطع بل نكون كالشمس التي تفيد القمر كلنا أشرقت عليه
إنارة من ذلتها فتفعل له تماما حتى يكون له شبهها وإن قصر عن نورها. فهكذا
ينبغي أن يكون حالنا إذا أفدنا غيرنا الفضائل) وهذا الذي ذكره الكندي في
ذلك أبلغ مما قاله من تقدمه.
المقالة السابعة
رد الصحة
على النفس
رد
الصحة على النفس إذا لم تكن حاضرة وهو القول في علاج أمراضها ونبتدىء
بمعونة الله تعالى بذكر أجناس هذه الأمراض الغالبة ثم بمداواة الأعظم
فالأعظم منها نكاية والأكثر فالأكثر جناية فنقول: أما أجناسها الغالبة فهي
مقابلات الفضائل الأربع التي أحصيناها في مبدأ الكتاب.
ولما كانت
الفضائل أوساطا محمودة وأعيانا موجودة أمكن أن تطلب وتقصدن وتنتهي إليها
الحركة والسعي والإجتهاد.
وأما
سائر النقد التي ليست بأوساط فإنها غير محودة ولا أعيانها موجودة ووجودها
بالعرض لا بالذات. ومثال ذلك أن الدائرة لها مركز واحد ولها نقطة واحدة
ولها وجود في ذاتها يقصد ويشار إليها فإن لم نجدها حسا أو لم يمكننا
الإشارة إليها أمكننا أن نستخرجها ونقيم البرهان على أنها هي المركز دون
غيرها من النقط. وأما النقط التي ليست بمركز فإنها لا نهاية لها ولا وجود
لها بالذات وإنما توجد إذا فرضت فرضا وليست لها عين قائمة فلذلك لا تقصد
ولا يمكن استخراجها لأنها مجهولة ولأنها شائعا في جميع الدائرة.
وأما
الطرفان اللذان يسميان متضادين فهما موجودان معينان لأنهما طرفا خط مستقيم
معين والبعد بينهما غاية البعد. مثال ذلك أنا إذا أخرجنا من مركز الدائرة
خطا مستقيما إلى المحيط صار طرفاه محدودين أحدهما المركز والآخر نهايته
عند المحيط والبعد بينهما غاية البعد. ومثاله من المحسوس البياض
والسوادفان أحدهما يضاد الآخر وهما محدودان موجودان والبعد بين الضدين
غاية البعد فأما التي بينهما فهي بلا نهاية وكذلك الألوان هي بلا نهاية.
وأما أطراف الفضيلة فلما كانت أكثر من واحد لمتسم ضدا لأن لكل ضد ضدا
واحدا ولا يمكن أن توجد أضداد كثيرة لضد واحد.
والسبب في ذلك أن البعد
بينهما غاية البعد وقد نجد للفضيلة الواحدة أكثر من واحد.
الصحة على النفس إذا لم تكن حاضرة وهو القول في علاج أمراضها ونبتدىء
بمعونة الله تعالى بذكر أجناس هذه الأمراض الغالبة ثم بمداواة الأعظم
فالأعظم منها نكاية والأكثر فالأكثر جناية فنقول: أما أجناسها الغالبة فهي
مقابلات الفضائل الأربع التي أحصيناها في مبدأ الكتاب.
ولما كانت
الفضائل أوساطا محمودة وأعيانا موجودة أمكن أن تطلب وتقصدن وتنتهي إليها
الحركة والسعي والإجتهاد.
وأما
سائر النقد التي ليست بأوساط فإنها غير محودة ولا أعيانها موجودة ووجودها
بالعرض لا بالذات. ومثال ذلك أن الدائرة لها مركز واحد ولها نقطة واحدة
ولها وجود في ذاتها يقصد ويشار إليها فإن لم نجدها حسا أو لم يمكننا
الإشارة إليها أمكننا أن نستخرجها ونقيم البرهان على أنها هي المركز دون
غيرها من النقط. وأما النقط التي ليست بمركز فإنها لا نهاية لها ولا وجود
لها بالذات وإنما توجد إذا فرضت فرضا وليست لها عين قائمة فلذلك لا تقصد
ولا يمكن استخراجها لأنها مجهولة ولأنها شائعا في جميع الدائرة.
وأما
الطرفان اللذان يسميان متضادين فهما موجودان معينان لأنهما طرفا خط مستقيم
معين والبعد بينهما غاية البعد. مثال ذلك أنا إذا أخرجنا من مركز الدائرة
خطا مستقيما إلى المحيط صار طرفاه محدودين أحدهما المركز والآخر نهايته
عند المحيط والبعد بينهما غاية البعد. ومثاله من المحسوس البياض
والسوادفان أحدهما يضاد الآخر وهما محدودان موجودان والبعد بين الضدين
غاية البعد فأما التي بينهما فهي بلا نهاية وكذلك الألوان هي بلا نهاية.
وأما أطراف الفضيلة فلما كانت أكثر من واحد لمتسم ضدا لأن لكل ضد ضدا
واحدا ولا يمكن أن توجد أضداد كثيرة لضد واحد.
والسبب في ذلك أن البعد
بينهما غاية البعد وقد نجد للفضيلة الواحدة أكثر من واحد.
وذلك
إذا تصورنا الفضيلة مركزا وأخرجنا منه خطا مستقيما فحصلت له نهاية أمكننا
أن نخرج من الجانب الآخر المقابل له خطا آخر على استقامته فتصير له نهاية
أخرى ويصيران جميعا مقابلين للمركز الذي فرضناه فضيلة إلا ان أحدهما يجري
مجرى الأفراط والغلو والآخر يجري مجرى التفريط والتقتير. وإذا قد فُهم ذلك
فليعلم أن لكل فضيلة طرفين محدودين يمكن الإشارة إليهما وأوساط بينهما
كثيرة لا نهاية لها ولا يمكن الإشارة إليها. إلا أن الوسط الحقيقي هو واحد
الذي سميناه فضيلة.
ثم ليعلم أننا بحسب هذا البيان نجعل أجناس الشرور
والرذائل ثمانية لأنها ضعف الفضائل الأربع التي تقدم شرحها وهي هذه:
التهور والجبن طرفان للوسط الذي هو الشجاعة. والشره والخمود طرفان للوسط
الذي هو العفة. والسفه والبله طرفان للوسط الذي هو الحكمة. والجور
والمهانة (أعني الظلم والإنظلام) طرفان للوسط الذي هو العدالة.
فهذه
أجناس الأمراض التي تقابل الفضائل التي هي صحة النفس وتحت هذه الأجناس
أنواع لا نهاية لها ونبدأ بذكر التهور والجبن اللذين هما طرفا الشجاعة وهي
فضيلة النفس وصحتها فنقول:
التهور والجبن
إن سببهما
ومبدأهما النفس الغضبية ولذلك صارت الثلاثة بأسرها من علائق الغضب. والغضب
في الحقيقة هو حركة للنفس يحدث بها غليان دم القلب شهوة للإنتقام. فإذا
كانت هذه الحركة عنيفة أججت نار الغضب وأضرمتها فاحتد غليان دم القلب
وامتلأت الشرايين والدماغ دخانا مظلما مضطربا يسوء منه حال العقل ويضعف
فعله ويصير مثل الإنسان عند ذلك على ما حكته الحكماء مثل كهف ملىء حريقا
وأضرم نارا فاختنق فيه اللهيب والدخان وعلا التأجج والصوت المسمى وحي
النار فيصعب علاجه ويتعذر إطفاؤه ويصير كل ما يدنيه للإطفاء سببا لزيادته
ومادة لقوته.
فلذلك يعمى الإنسان عن الرشد ويصمعن الموعظة بل تصير
المواعظ في تلك الحال سببا للزيادة في الغضب ومادة اللهب والتأجج وليس له
في تلك الحال حيلة. وإنما يتفاوت الناس في ذلك بحسب المزاج حارا يابسا كان
قريب الحال من حال الكبريت الذي إذا أدنيت منه الشرارة الضعيفة التهب، وإن
كان بالضد فحاله بالضد وهذا في مبدأ أمره وعنفوان حركة الغضب به. فأما إذا
احتدم فيكاد الحال يتقارب فيه وتصور ذلك من الحطب اليابس والرطب ومبدأ
إشتعال النار بسرعة وشدة من الكبريت والنقط. ثم انحدر منهما إلى الإدهان
المتوسطة إلى أن تنتهي إلى الإحتكاك فإن الإحتكاك وإن كان ضعيفا في توليد
النار فربما قوى حتى تلتهب منه الإجمة العظيمة. وكفاك مثل السحاب الذي هو
من البخارين كيف يحتك حتى تنقدح بينهما النيران وينزل منهما الصواعق التي
لا يثبت أثرها شيء من المواد ولا يفارق ما يتعلق به حتى يصير رميما وإن
كان جبلا أطلسا وحجرا أصم.
وأما بقراطس فإنه قال إني للسفينة إذا عصفت
الرياح وتلاطمت عليها الأمواج وقذفت بها إلى اللجج التي كالجبال أرجى مني
للغضبان الملتهب.
وذلك أن السفينة في تلك الحال يلطف لها الملاحون
ويخلصونها بضروب الحيل وأما النفس إذا استشاطت غضبا فليس يرجى لها حيلة
ألبتة.
وذلك
أن كل ما رجة به الضغب من التضرع والمواعظ والخضوع يصير له بمنزلة الجزل
من الحطب يوهجه ويزيده إشتعالا. أما أسبابه المولدة له فيه العجب.
والإفتخار. والمراء. واللجاج. والمزاح. والتيه. والإستهزاء. والغدر.
والضيم. وطلب الأمور التي فيها لذة ويتنافس فيها الناس ويتحاسدون عليها.
وشهوة الإنتقام غاية لجميعها لأنها بأجمعها تنتهي إليه ومن لواحقه الندامة
وتوقع المجازاة بالعقاب عاجلا وآجلا وتغير المزاج وتعجل الألم. وذلك أن
الغضب جنون ساعة وربما أدى إلى التلف بإختناق لحرارة القلب وربما كان سببا
لأمراض صعبة مؤدية إلى التلف. ثم من لواحقه مقت الأصدقاء وشماتة الأعداء
وإستهزاء الحساد والأردال من الناس. ولكل واحد من هذه الأسباب وإماطتها
فقد أوهنا قوة الغضب وقطعنا مادتها وأمنا غائلتها. فإن عرض لنا منها عارض
كان بحيث نطيع العقل ونلتزم شرائطه وحدثت فضيلته أعني الشجاعة فيكون حينئذ
أقدامنا على ما نقدم عليه كما يجب وبحيث يجب وبالمقدار الذي يجب وعلى من
يحب.
العجب والإفتخار
ومبدأهما النفس الغضبية ولذلك صارت الثلاثة بأسرها من علائق الغضب. والغضب
في الحقيقة هو حركة للنفس يحدث بها غليان دم القلب شهوة للإنتقام. فإذا
كانت هذه الحركة عنيفة أججت نار الغضب وأضرمتها فاحتد غليان دم القلب
وامتلأت الشرايين والدماغ دخانا مظلما مضطربا يسوء منه حال العقل ويضعف
فعله ويصير مثل الإنسان عند ذلك على ما حكته الحكماء مثل كهف ملىء حريقا
وأضرم نارا فاختنق فيه اللهيب والدخان وعلا التأجج والصوت المسمى وحي
النار فيصعب علاجه ويتعذر إطفاؤه ويصير كل ما يدنيه للإطفاء سببا لزيادته
ومادة لقوته.
فلذلك يعمى الإنسان عن الرشد ويصمعن الموعظة بل تصير
المواعظ في تلك الحال سببا للزيادة في الغضب ومادة اللهب والتأجج وليس له
في تلك الحال حيلة. وإنما يتفاوت الناس في ذلك بحسب المزاج حارا يابسا كان
قريب الحال من حال الكبريت الذي إذا أدنيت منه الشرارة الضعيفة التهب، وإن
كان بالضد فحاله بالضد وهذا في مبدأ أمره وعنفوان حركة الغضب به. فأما إذا
احتدم فيكاد الحال يتقارب فيه وتصور ذلك من الحطب اليابس والرطب ومبدأ
إشتعال النار بسرعة وشدة من الكبريت والنقط. ثم انحدر منهما إلى الإدهان
المتوسطة إلى أن تنتهي إلى الإحتكاك فإن الإحتكاك وإن كان ضعيفا في توليد
النار فربما قوى حتى تلتهب منه الإجمة العظيمة. وكفاك مثل السحاب الذي هو
من البخارين كيف يحتك حتى تنقدح بينهما النيران وينزل منهما الصواعق التي
لا يثبت أثرها شيء من المواد ولا يفارق ما يتعلق به حتى يصير رميما وإن
كان جبلا أطلسا وحجرا أصم.
وأما بقراطس فإنه قال إني للسفينة إذا عصفت
الرياح وتلاطمت عليها الأمواج وقذفت بها إلى اللجج التي كالجبال أرجى مني
للغضبان الملتهب.
وذلك أن السفينة في تلك الحال يلطف لها الملاحون
ويخلصونها بضروب الحيل وأما النفس إذا استشاطت غضبا فليس يرجى لها حيلة
ألبتة.
وذلك
أن كل ما رجة به الضغب من التضرع والمواعظ والخضوع يصير له بمنزلة الجزل
من الحطب يوهجه ويزيده إشتعالا. أما أسبابه المولدة له فيه العجب.
والإفتخار. والمراء. واللجاج. والمزاح. والتيه. والإستهزاء. والغدر.
والضيم. وطلب الأمور التي فيها لذة ويتنافس فيها الناس ويتحاسدون عليها.
وشهوة الإنتقام غاية لجميعها لأنها بأجمعها تنتهي إليه ومن لواحقه الندامة
وتوقع المجازاة بالعقاب عاجلا وآجلا وتغير المزاج وتعجل الألم. وذلك أن
الغضب جنون ساعة وربما أدى إلى التلف بإختناق لحرارة القلب وربما كان سببا
لأمراض صعبة مؤدية إلى التلف. ثم من لواحقه مقت الأصدقاء وشماتة الأعداء
وإستهزاء الحساد والأردال من الناس. ولكل واحد من هذه الأسباب وإماطتها
فقد أوهنا قوة الغضب وقطعنا مادتها وأمنا غائلتها. فإن عرض لنا منها عارض
كان بحيث نطيع العقل ونلتزم شرائطه وحدثت فضيلته أعني الشجاعة فيكون حينئذ
أقدامنا على ما نقدم عليه كما يجب وبحيث يجب وبالمقدار الذي يجب وعلى من
يحب.
العجب والإفتخار
أما العجب فحقيقته إذا حددناه أنه ظن
كاذب بالنفس في استحقاق مرتبة هي غير مستحقة لها. وحقيق على من عرف نفسه
أن يعرف كثرة العيوب والنقائص التي تعتورها فإن الفضل مقسوم بين البشر
وليس يكمل الواحد منهم إلا بفضائل غيره. وكل من كانت فضيلته عند غيره
فواجب عليه أن لا يعجب بنفسه. وكذلك الإفتخار فإن الفخر هو المباهات
بالأشياء الخارجة عنا ومن باهي بما هوخارج عنه فقد باهى بمالا يملكه. وكيف
يملك ما هو معرض للآفات والزوال في كل ساعة وفي كل لحظة ولسنا على ثقة منه
في شيء من الأوقات وأصح الأمثال وأصدقها فيه ما قاله الله عز وجل:
(وَاضرِب لَهُم مَثلاٌ رَجُلَين جَعَلنا لأَحَدِهِما جَنَتينِ مِن
أَعنابٍ) إلى قوله: (فَأَصبَحَ يُقَلِبُ كَفَيهِ عَلى ما أَنفَقَ فيها
وَهيَ خاوِيةٌ عَلى عُرُوشِها) وقال تعالى: (وَاضرِب لَهُم مَثَلَ
الحَياةِ الدُنيا كَمَاءٍ أَنزَلَناهُ مِنَ السَماءِ فاختلَطَ بِهِ نَباتُ
الأَرضِ فَأَصبَحَ هَشيماً تَذرُوهُ الرِياح وَكانَ الله عَلى كُلِ شَيءٍ
مُقتَدِراً) وفي القرآن من هذه الأمثال شيء كثير وكذلك في الأخبار المروية
عن النبي عليه الصلاة والسلام. وأما المفتخر بنسبة فأكثر ما يدعيه إذا كان
صادقا أن أباه كان فاضلا فلو حضر ذلك الفاضل وقال أن الفضل الذي تدعيه لي
أنا مستبد به دونك فما الذي عندك منه مما ليس عند غيرك لأفحمه وأسكته.
وقد
روى
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى أخبار كثيرة صحيحة
منها أنه قال: (لا تأتوني بأنسابكم وائتوني بأعمالكم) أو ما هذا معناه.
ويحكى عن مملوك كان لبعض الفلاسفة أنه افتخر عليه بعض رؤساء زمانه فقال له
إن افتخرت علىَّ بفرسك فالحسن والفراهة للفرس لا لك. وإن افتخرت بثيابك
وآلاتك فالحسن لها دونك. وإن افتخرت بآبائك فالفضل كان فيهم دونك. فإذا
كانت الفضائل والمحاسن خارجة عنك وأنت منسلخ عنها وقد رددناها على أصحابها
بل لم تخرج عنهم فترد عليهم وأنت ممن يحقق ذلك إن شاء الله تعالى. وحكي عن
بعض الفلاسفة أنه دخل على بعض أهل اليسار والثروة وكان يحتشد في الزينة
ويفتخر بكثرة آلاته وقد حضرت الفيلسوف بصقة فتنخع لها والتفت في البيت
يمينا وشمالا ثم بصق في وجه صاحب البيت فلما عوتب على ذلك قال: (إني نظرت
إلى البيت وجميع ما فيه فلم أجد هناك أقبح منه فبصقت عليه) وهكذا يستحق من
كان خاليا من فصائل نفسه وافتخر بالخارجات عنه.
فأما المراء واللجاج.
فقد ذكرنا قبح صورتهما في المقالة التي قبل هذه وما يولدانه من الشتات
والفرقة والتباغض بين الإخوان.
المزاح والتيه والإستهزاء
وأما
المزاح
فإن المعتدل منه محمود وكان رسول الله صلى الله عليه يمزح ولا يقول
غلا حقا. وكان أمير المؤمنين كثير المزاح حتى عابه بعض الناس فقال لولا
دعاية فيه. ولكن الوقوف على المقدار المعتدل منه صعب وأكثر الناس يبتدىء
ولا يدري أين يقف منه فيخرج عن حده ويروم الزيادة فيه على صاحبه حتى يصير
سببا للوحشة فيثير غضبا كامنا ويزرع حقدا باقيا فلذلك عددناه في الأسباب
فينبغي أن يحذره من لا يعرف حده ويذكر قول القائل:
رب جد جره اللعب ...
وبعض الحرب أوله مزاح
ثم
يهيج فتنة لا يهتدي لعلاجها. وأما التيه فهو قريب من العجب والفرق بينهما
أن المعجب يكذب نفسه فيما يظن لها والتياه يتيه على غيره ولا يكذب نفسه
غلا أن علاجه علاج المعجب بنفسه. وذلك بأن يعرف أن ما يتيه به لا مقدار له
عند العقلاء وأنهم لا يعتدون به لخساسة قدره ونزارة حظه من السعادة ولأنه
متغير زائل غير موثوق ببقاءه ولأن المال والأثاث وسائر الأعراض قد توجد
عند كل صنف من الناس الأراذل والأشراف والجهال.
فأما الحكمة فليست توجد
إلا عند الحكماء خاصة. وأما الإستهزاء فإنه يستعمله المجّان من الناس
والمساخر ومن لا يبالي بما يقابل به لأنه قد وضع في نفسه إحتمال مثل ذلك
وإضعافه فهو ضاحك قرير العين بضروب الإستخفافات التي تلحقه وإنما يتعيش
بالدخول تحت المذلة والصغار بل إنما يتعرض بقليل ما يبتدىء به لكثير ما
يعامل به ليضحك غيره وينال اليسير من بره. والحر الفاضل بعيد من هذا
المقام جدا لأنه يكرم نفسه وعرضه عن تعريضهما للسفها وبيعهما بجميع خزائن
الملوك فضلا عن الحقير التافه.
الغدر والضيم
المزاح
فإن المعتدل منه محمود وكان رسول الله صلى الله عليه يمزح ولا يقول
غلا حقا. وكان أمير المؤمنين كثير المزاح حتى عابه بعض الناس فقال لولا
دعاية فيه. ولكن الوقوف على المقدار المعتدل منه صعب وأكثر الناس يبتدىء
ولا يدري أين يقف منه فيخرج عن حده ويروم الزيادة فيه على صاحبه حتى يصير
سببا للوحشة فيثير غضبا كامنا ويزرع حقدا باقيا فلذلك عددناه في الأسباب
فينبغي أن يحذره من لا يعرف حده ويذكر قول القائل:
رب جد جره اللعب ...
وبعض الحرب أوله مزاح
ثم
يهيج فتنة لا يهتدي لعلاجها. وأما التيه فهو قريب من العجب والفرق بينهما
أن المعجب يكذب نفسه فيما يظن لها والتياه يتيه على غيره ولا يكذب نفسه
غلا أن علاجه علاج المعجب بنفسه. وذلك بأن يعرف أن ما يتيه به لا مقدار له
عند العقلاء وأنهم لا يعتدون به لخساسة قدره ونزارة حظه من السعادة ولأنه
متغير زائل غير موثوق ببقاءه ولأن المال والأثاث وسائر الأعراض قد توجد
عند كل صنف من الناس الأراذل والأشراف والجهال.
فأما الحكمة فليست توجد
إلا عند الحكماء خاصة. وأما الإستهزاء فإنه يستعمله المجّان من الناس
والمساخر ومن لا يبالي بما يقابل به لأنه قد وضع في نفسه إحتمال مثل ذلك
وإضعافه فهو ضاحك قرير العين بضروب الإستخفافات التي تلحقه وإنما يتعيش
بالدخول تحت المذلة والصغار بل إنما يتعرض بقليل ما يبتدىء به لكثير ما
يعامل به ليضحك غيره وينال اليسير من بره. والحر الفاضل بعيد من هذا
المقام جدا لأنه يكرم نفسه وعرضه عن تعريضهما للسفها وبيعهما بجميع خزائن
الملوك فضلا عن الحقير التافه.
الغدر والضيم
وأما الغدر
فوجوهه كثيرة اعني أنه يستعمل في المال وفي الجاه وفي الحرم وفي المودة
وهو على كثرة وجوهه مذموم بكل لسان ومعيب عند كل أحد ينفر السماع من ذكره
ولا يعترف به إنسان وإن قل حظه من الإنسانية وليس يوجد غلا في جنس من
أجناس العبيد فيتوقاهم الناس ويأنف منهم سائر أجناس العبيد.
ذلك أن
الوفاء الذي هو ضده موجود في جنس الحبشة والروم والنوبة وقد شاهدنا من حسن
وفاء كثير من العبيد ما لم نشاهده في كثير من المتسمين بالأحرار. ومن عرف
قبح الغدر باسمه ونفور العقلاء منه ثم عرف معناه فليس يستعمله وبالأخص من
له طبيعة جيدة أو قرأ ما تقم في هذا الكتاب وتخلق به وانتهى في قراءته إلى
هذا الموضع. وأما الضيم فهو تكليف إحتمال الظلم والغضب وربما يعرض منه
شهوة الإنتقام وقد ذكرنا فيما تقدم الظلم والإنظلام وشرحنا الحال فيهما.
فيبنبغي
أن
لا نسرع إلى الإنتقام عند ضيم يلحقنا حتى ننظر فيه ونحذر أن لا يعود
علينا الإنتقام بضرر أعظم من إحتمال ذلك الضيم. وهذا النظر والحذر هو
استشارة العقل وهو الحلم بعينه.
المقتنيات والجواهر النفيسة
وأما
طلب
الأمور التي فيها عزة وتتنافس فيها الناس فهو خطأ من الملوك والعظماء
فضلا عن أوساط الناس. وذلك أن الملك إذا حصل في خزانته علق كريم أو جوهر
نفيس فهو متعرض به للجزع عند فقده ولا بد من حلول الآفات به لما عليه
طبيعة عالم الكون والفساد من تغيير الأمور وإحالتها وإدخال الفساد على كل
ما يدخر ويقتني. فإذا فقد الملك ذخيرة عزيزة الوجود ظهر عليه ما يظهر على
المفجوع المصاب بما يعز عليه وتبين فقره إلى نظيره الذي لا يجده فيطلع
الصديق والعدو على حزنه وكآبته.
وحكى عن بعض الملوك أنه أهدى إليه قبة
بلور صافية عجيبة النقاء والصفاء محكمة الخرط قد استخرج منها أساطين وصور
خاطر بها صانعها مرة بعد مرة في تلخيص النقوش والخروق والتجاويف التي بين
الصور والأوراق فلما حصلت بين يديه كثر عجبه منها وإعجابه بها وأمر فرفعت
في خاص خزائنه فلم يأت عليها كثير زمان حتى أصابها ما يصيب أمثالها من
المتالف وبلغ الملك ذلك فظهر عليه من الأسف والجزع ما منعه من التصرف في
أموره والنظر في مهماته والجلوس لجنده وحاشيته واجتهد الناس في وجود شيء
شبيه بها فتعذر عليهم فظهر أيضا من عجزه وامتناع مطلوبه عليه ما تضاف به
جزعه وحزنه.
وأما أوساط الناس فإنهم متى أدخروا آلة كريمة أو جوهرا
نفيسا أو اتخذوا مركوبا فارها أو ما أشبه هذه الشياء التمسها منه من لا
يمكنه رده عنها فإن حجزه عنها وبخل عليه بها فقد عرض نفسه ونعمته للبوار.
وإن
سمح بها لحقه من الغم والجزع ما كان مستغنيا عنه.
وأما
الأحجار المتنافس فيها من اليواقيت وأشباهها مما تبعد عنها الآفات في
أنفسها فليس تبعد عنها الآفات الخارجة عنها من السرقة ووجوه الحيل فيها
وإذا أدخرها الملك قل انتفاعه بها عند حاجته إليها وربما عدم الإنتفاع بها
دفعة.
ذلك أنه إذا اضطر إليها لم تنفعه في عاجل أمره وحاضر ضرورة
الملك. وقد شاهدنا أعظم الملوك خطرا في عصرنا لما احتاج إليها بعد فناء
أموال ونفاد ما في خزائنه وقلاعه لم يجد ثمنها ولا قريبا من ثمنها عند أحد
ولم يتحصل منها غلا على الفضيحة في حاجته إلى رعيته في بعض قيمتها وهو لا
يقدر على قليل ولا كثير من أثمانها وهي مبذولة مبتذلة في أيدي الدلاين
والتجار والسوقة يتعجبون منها ولا يقدرون عليها. ومن قدر منهم على ثمن شيء
منها لم يتجاسر عليها خوفا من تتبعه بعد ذلك وظهور أمرة وإنتزاعها منه.
فهذه
حال
هذه الذخائر عند الملوك. أما التجار الموسومون بهذه الصناعة فربما
اتفق لهم زمان صلاح وسكون من الرؤساء وأمن في السرب وحينئذ تكون بضاعتهم
شبيهة بالكاسدة لأنها لا تنفق إلا على الملوك الودعين الذين لا يحزمنهم
شيء من نوائب الدهر وقد استمر بهم الخفض وفضلت أموالهم عن الخزائن والقلاع
فحينئذ يغترون بالزمان فيقعون في مثل هذه الخدائع ثم تؤول عاقبتهم إلى ما
حذرنا منه.
أسباب الغضب
طلب
الأمور التي فيها عزة وتتنافس فيها الناس فهو خطأ من الملوك والعظماء
فضلا عن أوساط الناس. وذلك أن الملك إذا حصل في خزانته علق كريم أو جوهر
نفيس فهو متعرض به للجزع عند فقده ولا بد من حلول الآفات به لما عليه
طبيعة عالم الكون والفساد من تغيير الأمور وإحالتها وإدخال الفساد على كل
ما يدخر ويقتني. فإذا فقد الملك ذخيرة عزيزة الوجود ظهر عليه ما يظهر على
المفجوع المصاب بما يعز عليه وتبين فقره إلى نظيره الذي لا يجده فيطلع
الصديق والعدو على حزنه وكآبته.
وحكى عن بعض الملوك أنه أهدى إليه قبة
بلور صافية عجيبة النقاء والصفاء محكمة الخرط قد استخرج منها أساطين وصور
خاطر بها صانعها مرة بعد مرة في تلخيص النقوش والخروق والتجاويف التي بين
الصور والأوراق فلما حصلت بين يديه كثر عجبه منها وإعجابه بها وأمر فرفعت
في خاص خزائنه فلم يأت عليها كثير زمان حتى أصابها ما يصيب أمثالها من
المتالف وبلغ الملك ذلك فظهر عليه من الأسف والجزع ما منعه من التصرف في
أموره والنظر في مهماته والجلوس لجنده وحاشيته واجتهد الناس في وجود شيء
شبيه بها فتعذر عليهم فظهر أيضا من عجزه وامتناع مطلوبه عليه ما تضاف به
جزعه وحزنه.
وأما أوساط الناس فإنهم متى أدخروا آلة كريمة أو جوهرا
نفيسا أو اتخذوا مركوبا فارها أو ما أشبه هذه الشياء التمسها منه من لا
يمكنه رده عنها فإن حجزه عنها وبخل عليه بها فقد عرض نفسه ونعمته للبوار.
وإن
سمح بها لحقه من الغم والجزع ما كان مستغنيا عنه.
وأما
الأحجار المتنافس فيها من اليواقيت وأشباهها مما تبعد عنها الآفات في
أنفسها فليس تبعد عنها الآفات الخارجة عنها من السرقة ووجوه الحيل فيها
وإذا أدخرها الملك قل انتفاعه بها عند حاجته إليها وربما عدم الإنتفاع بها
دفعة.
ذلك أنه إذا اضطر إليها لم تنفعه في عاجل أمره وحاضر ضرورة
الملك. وقد شاهدنا أعظم الملوك خطرا في عصرنا لما احتاج إليها بعد فناء
أموال ونفاد ما في خزائنه وقلاعه لم يجد ثمنها ولا قريبا من ثمنها عند أحد
ولم يتحصل منها غلا على الفضيحة في حاجته إلى رعيته في بعض قيمتها وهو لا
يقدر على قليل ولا كثير من أثمانها وهي مبذولة مبتذلة في أيدي الدلاين
والتجار والسوقة يتعجبون منها ولا يقدرون عليها. ومن قدر منهم على ثمن شيء
منها لم يتجاسر عليها خوفا من تتبعه بعد ذلك وظهور أمرة وإنتزاعها منه.
فهذه
حال
هذه الذخائر عند الملوك. أما التجار الموسومون بهذه الصناعة فربما
اتفق لهم زمان صلاح وسكون من الرؤساء وأمن في السرب وحينئذ تكون بضاعتهم
شبيهة بالكاسدة لأنها لا تنفق إلا على الملوك الودعين الذين لا يحزمنهم
شيء من نوائب الدهر وقد استمر بهم الخفض وفضلت أموالهم عن الخزائن والقلاع
فحينئذ يغترون بالزمان فيقعون في مثل هذه الخدائع ثم تؤول عاقبتهم إلى ما
حذرنا منه.
أسباب الغضب
فهذه أسباب الغضب والأمراض الحادثة
منها ومن عرف العدالة وتخلق بها كما قدمناه فيما تقدم سهل عليه علاج هذا
المرض لأنه جورو خروج عن الإعتدال. ولذلك لا ينبغي أن نسميه بأسماء
المديح. وأعني بذلك أن قوما يسمون هذا النوع من الجور أعني الغضب في غير
موضعه رجزلية وشدة شكيمة ويذهبون به مذهب الشجاعة التي هي بالحقيقة اسم
للمدح وشتان ما بين المذهبين. فإن صاحب هذا الخلق الذي ذممناه تصدر عنه
أفعال رديئة كثيرة يجور فيها على نفسه ثم على إخوانه ثمعلى الأقرب فالأقرب
من معامليه حتى ينتهي إلى عبيده وإلى حرمه فيكون عليهم سوط عذاب ولا
يقيلهم عثرة ولا يرحم لهم عبرة وإن كانوا برآء من الذنوب غير مجترمين ولا
مكتسبين سواء بل يتجرم عليهم ويهيج من أدنى سبب يجد به طريقا إليهم حتى
يبسط لسانه ويده وهم لا يمتنعون منه ولا يتجاسرون على رده عن أنفسهم بل
يذعنون له ويقرون بذنوب لم يقترفوها إستكفافا لشره وتسكينا لغضبه وهو مع
ذلك مستمر على طريقته لا يكف يدا ولا لسانا وربما تجاوز في هذه المعاملة
الناس إلى البهائم التي لا تعقل وإلى الأواني التي لا تحس. فإن صاحب
هذاالخلق الردىء ربما قام إلى الحمار والبرذون أو إلى الحمار والعصفور
فيتناولها بالضرر والمكروه وربما عض القفل إذا تعسر عليه وكسر الآنية التي
لا يجد فيها طاعة لأمره.
وهذا النوع من رداءة الخلق مشهور في كثير من
الجهال يستعملونه في الثوب والزجاج والحديد وسائر الآلات، أماالملوك من
هذه الطائفة فإنهم يغضبون على الهواء إذا هب مخالفا لهواهم وعلى القلم إذا
لم يجر على رضاهم فيسبون ذاك ويكسرون هذا. وكان بعض من تقدم عهده من
الملوك يغضب على البحر إذا تأخرت سفينة فيه لاضطرابه وحركة الأمواج حتى
يهدهه بطرح الجبال فيه وطمّه بها. وكان بعض السفهاء في عصرنا بغضب على
القمر ويسبه ويهجوه بشعر له مشهور. وذلك أنه كان يتأذى به إذا نام فيه.
وهذه
الأفعال
كلها قبيحة وبعضها مع قبحه مضحك يهزأ بصاحبه. فكيف يمدح بالرجولية
والشدة وشرف النفس وعزتها وهي بالمذمة والفضيحة أولى منها بالمديح؟ وأي حظ
لها في العزة والشدة ونحن نجدها في النساء أكثر منها في الرجال وفي المرضى
أقوى منها في الأصحاء ونجد الصبيان أسرع غضبا وضجرا من الرجال.
والشيوخ
أكثر من الشبان ونجد رذيلة الشره. فإن الشره إذا تعذر عليه ما يشتهيه غضب
وشجر على من يهىء طعامه وشرابه من نسائه وأولاده وخدمه وسائر من يلابس
أمره. والبخيل إذا فقد شيئا من ماله تسرع بالغضب على أصدقائه ومخالطيه
وتوجهت تهمته إلى أهل الثقة من خدمه ومواليه. وهؤلاء الطبقة لا يحصلون من
أخلاقهم إلا على فقد الصديق وعدم النصيح وعلى الذم السريع واللوم الوجيع.
وهذه
حال لا تتم معها غبطة ولا سرور وصاحبها أبدا محزون كئيب متنغص بعيشه متبرم
بأموره وهي حال الشقي المحروم.
أما
الشجاع العزيز النفس فهوالذي يقهر بحلمه غضبه ويتمكن من التمييز والنظر
فيما يدهم ولا يستفزه ما يرد عليه من المحركات لغضبه حتى يتورى وينظر كيف
ينتقم ممن وعلى أي قدر. وكيف يصفح ويغضي عمن وفي أي ذنب. حكي عن الإسكندر
أنه نمى إليه عن بعض أصحابه أنه يعيبه وينتقصه فقال له بعض أصحابه لو
أدبته أيهاالملك بعقوبة تنهكه بها.
فقال له وكيف يكون انهاكه بعد عقوبتي
إياه في ثلبي وطلب معايب لأنه حيئنذ أبسط لسانا وأعذر عند الناس.
وأتى
يوما ببعض أعدائه من المتغلبين الخارجين عليه وكان قد عاث في أطرافه بلاده
عيثا كثيرا فصفح عنه، فقال له بعض جلسائه: لو كنت أنا أنت لقتلته. فقال له
الإسكندر ولكن لم أكن أنا أنت فلست بقاتله.
فقد ذكر معظم أسباب
الغضب ودللنا على معالجتها وحسمها وهو النوع الأعظم من أمراض النفس وإذا
تقدم الإنسان في حسم سببه لم يخش تمكنه منه، وكان ما يعرض له سهل العلاج
قريب الزوال لا مادة له تلهبه وتمده ولأسباب يسعره ويوقده. وتجد الروية
موضعا لإجالة النظر والفكر في فضيلة الحلم وإستعمال المكافأة إن كان صوابا
أوالتغافل إن كان حزما. والذي يتلو معالجة هذا من أمراض النفس معالجة
الجبن الذي هو الطرف الآخر من صحتها. ولما كانت الأضداد يعرف بعضها من بعض
وقد عرفنا الطرف الذي حددناه بحركة للنفس عنيفة قوية يحدث منها غليان دم
القلب شهوة للإنتقام فقد عرفنا إذا مقابله أعني الطرف الآخر الذي هو سكون
للنفس عندما يجب أن تتحرك فيه وبطلان شهوة الإنتقام وهذا هو سبب الجبن
والخور.
الغضب ودللنا على معالجتها وحسمها وهو النوع الأعظم من أمراض النفس وإذا
تقدم الإنسان في حسم سببه لم يخش تمكنه منه، وكان ما يعرض له سهل العلاج
قريب الزوال لا مادة له تلهبه وتمده ولأسباب يسعره ويوقده. وتجد الروية
موضعا لإجالة النظر والفكر في فضيلة الحلم وإستعمال المكافأة إن كان صوابا
أوالتغافل إن كان حزما. والذي يتلو معالجة هذا من أمراض النفس معالجة
الجبن الذي هو الطرف الآخر من صحتها. ولما كانت الأضداد يعرف بعضها من بعض
وقد عرفنا الطرف الذي حددناه بحركة للنفس عنيفة قوية يحدث منها غليان دم
القلب شهوة للإنتقام فقد عرفنا إذا مقابله أعني الطرف الآخر الذي هو سكون
للنفس عندما يجب أن تتحرك فيه وبطلان شهوة الإنتقام وهذا هو سبب الجبن
والخور.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الجبن والخور
وذلك أنه إذا أتى ذنبا أو جنى جناية قدر
في نفسه أنه يخفى ولا يظهر أو لا يخفى فيظهر إلا أنه يتجاوز عنه أولا تكون
له غائلة. وكأنه يجعل طبيعة الممكن واجبا كما أن صاحب القسم الأول يجعل
أيضا الممكن واجبا إلا أن هذا يأمن الجانب المحذور خاصة وأعني بهذا أن
الممكن لما كان متوسطا بين الجانب الواجب والجانب الممتنع صار كالشيء الذي
له جهتان إحداهما تلي الواجب والأخرى تلي الممتنع. ومثال ذلك خط ا ج ب
فنقطة ا هي الجانب الواجب. ونقطة ب هي الجانب الممتنع. وموضع ج هوالممكن
وبعده من الجانبين بعد واحد. فله إلى نقطة (1) جهة. وله إلى نقطة (ب) جهة.
فإذا صار مستقبله ماضيا بطل إسم الممكن عنه وحصل إما في جانب الواجب وأما
في جانب الممتنع وليس يصح ما دام ممكنا أن يحسب لا من من هذا الجانب ولا
من ذاك الجانب بل يعتقد فيه طبيعته الخاصة به وهو أنه يمكن أن يصير إلى
ههنا أو إلى هناك. ولهذا قال الحكيم وجوه الأمور الممكنة في أعقابها. وأما
الأمور الضرورية كالهرم وتوابعه فعلاج الخوف منه أن نعلم أن الإنسان إذا
حب طول الحياة فقد أحب لا محالة الهرم واستشعره إستشعار ما لا بد منه. ومع
الهرم يحدث نقصان الحرارة الغريزية والرطوبة الأصلية التابعة لها وغلبة
ضديهما من البرد واليبس وضعف الأعضاء الأصلية كلها. ويتبع ذلك قلة الحركة
وبطلان النشاط وضعف آلات الهضم وسقوط آلات الطحن ونقصان القوى المدبرة
للحيا، أعني القوة الجاذبة والقوة الممسكة والهاضمة والدافعة وسائر ما
يتبعها من مواد الحيابة. وليست الأمراض والآلام شيأ غير هذه الأشيأ ثم
يتبع ذلك موت الأحياء وفقد الأعزاء والمستشعر لهذه الأشياء الملتزم
لشرائطها في مبدأ كونه لا يخاف منها بل ينتظرها ويرجوها ويدعي له بها
ويرغب إلى الله فيها.
فهذه جملة الكلام على الخوف المطلق ولما كان أعظم
ما يلحق الإنسان منه هو خوف الموت وكان هذا الخوف عاما وهو مع عمومه أشد
وأبلغ من جميع المخاوف وجب أن نبدأ بالكلام فيه فنقول:
علاج
الخوف من الموت
وإن أنت تأملت الجوهر الجسماني الذي أخس من ذلك الجوهر الكريم
واستقرت حاله وجدته غير فإن ولامتلاش من حيث هو جوهر إنما يستحيل بعضه إلى
بعض فتبطل خواصه شيئا فشيئا منه وأعراضه. فأما الجوهر نفسه فهو باق لا
سبيل إلى عدمه وبطلانه. مثال ذلك الماء فإنه يستحيل بخارا وهواء وكذلك
الهواء يستحيل ماء ونارا فتبطل عن لجوهر أعراضه وخواصه وأما الجوهر من حيث
هو جوهر فإنه لا سبيل إلى عدمه هذا في الجوهر الجسماني القابل للإستحالة
والتغير. فأما الجوهر الروحاني الذي لا يقبل الإستحالة ولا التغير في ذاته
وإنما يقبل كمالاته وتمامات صورة فكيف يتوهم فيه العدم والتلاشي. وأما من
يخاف الموت لأنه لا يعلم إلى أين تصير نفسه أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل
وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه وجهل بقاء النفس وكيفية المعاد
فليس يخاف الموت على الحقيقة وإنما يجهل ما ينبغي أن يعلمه. فالجهل إذا هو
المخوف إذ هو سبب الخوف. وهذا الجهل هو الذي حمل الحكماء على طلب العلم
والتعب به وتركوا لأجله اللذات الجسمانية وراحات البدن وأختاروا عليه
النصب والسهر ورأوا أن الراحة التي تكون من الجهل هي الراحة الحقيقية. وأن
التعب الحقيقي هو تعب الجهل لأنه مرض مزمن للنفس والبرء منه خلاص لها
وراحة سرمدية ولذة أبدية. ولما تيقن الحكماء ذلك وأستبصروا فيه وهجموا على
حقيقته ووصلوا إلى الروح والراحة منه هانت عليهم أمور الدنيا كلها
واستحقروا جميع ما يستعظمه الجمهور من المال والثروة واللذات الحسية
والمطالب التي تؤدي غليها إذ كانت قليلة الثبات والبقاء سريعة الزوال
والفناء كثيرة الهموم إذا وجدت. عظيمة الغموم إذ فقدت. واقتصروا منها على
المقدار الضروري في الحياة وتسلوا عن فضول العيش الذي فيه ما ذكرت من
العيوب وما لم أذكره ولأنها مع ذلك بلا نهاية ذلك أن الإنسان إذا بلغ منها
إلى غاية تاقت نفسه إلى غاية أخرى منغير وقوف على حد ولا إنتهاء إلى
الأمد. وهذا هو الموت لا ما يخاف منه والحرص عليه هو الحرص على الزائل
والشغل به هو الشغل بالباطل. ولذلك جزم الحكماء بأن الموت موتان موت إرادي
وموت طبيعي.
وكذلك الحياة حياتان حياة إرادية وحياة طبيعية وعنوا
بالموت الإرادي إماتة الشهوات وترك التعرض لها وبالموت الطبيعي مفارقة
النفس البدن.
وعنوا بالحياة الإرادية ما يسعى له الإنسان لحياته الدنيا
من المآكل والمشارب والشهوات. وبالحياة الطبيعية بقاء النفس السرمدي بما
تستفيده من العلوم الحقيقية وتبرأ به من الجهل. ولذلك وصى أفلاطون طالب
الحكمة بأن قال له مت بالإرادة تحي بالطبيعة. على أن من خاف الموت الطبيعي
للإنسان فقد خاف ما ينبغي أن يرجوه. ذلك أن هذا الموت هو تمام حد الإنسان
لأنه حي ناطق ميت. فالموت تمامه وكما له وبه يصير إلى أفقه الأعلى. ومن
علم أن كل شيء هو مركب من حد وحدّه مركب من جنسه وفصوله. وأن جنس الإنسان
هو الحي وفصلاه الناطق والمايت علم أنه سينحل إلى جنسه وفصوله لأن مركب لا
محالة منحل إلى ما تركب منه. فمن أجهل ممن يخاف تمام ذاته ومن أسوء حالا
ممن يظن أن فناءه بحياته ونقصانه بتمامه.
ذلك أن لاناقص إذا خاف أن يتم
فقد دل من نفسه على غاية الجهل. فإذا الواجب على العاقل أن يستوحش من
النقصان ويأنس بالتمام ويطلب كل ما يتممه ويكمله ويشرفه ويعلى منزلته
ويخلي رباطه من الوجه الذي يأمن به الوقوع في الأسر لا من الوجه الذي يشدو
وثاقه ويزيده تركيبا وتعقيدا ويثق بأن الجوهر الشريف الإلهي إذا تخلص من
الجوهر الكثيف الجسماني خلاص بقاء وصفو لاخلاص مزاج وكدر فقد سعد وعاد إلى
ملكوته وقرب من بارئه وفاز بجوار رب العالمين وخالط الأرواح الطيبة من
أشكاله وأشباهه ونجا من أضداده وأغياره، ومن ههنا يعلم أن من فارقت نفسه
بدنه وهي مشتاقة إليه مشفقة عليه خائفة من فراقه فهي في غاية الشقاء
والبعد من ذاتها وجوهرها سالكة إلى أبعد جهاتها من مستقرها طالبة قرار ما
لا قرار له. أما من ظن أن للموت ألما عظيما غير ألم الأمراض التي ربما
اتفق أن تتقدم الموت وتؤدي إليه فعلاجه أن يبين له أن هذا ظن كاذب لأن
الألم إنما يكون للحيّ والحي هو القابل أثر النفس.
وأما الجسم الذي
ليس فيهأثر النفس فإنه لا يألم ولا يحس فإذا الموت الذي هو مفارقة النفس
البدن لا ألم له لأن البدن إنما كان يألم ويحس بأثر النفس فيه فإذا صار
جسما لا أثر فيه للنفس فلا حس له ولا ألم.
فقد تبين أن الموت حال للبدن
غير محسوس عنده ولا مؤلم لأنه فراق ما به كان يحس ويتألم فأما من خاف
الموت لأجل العقاب الذي يوعد به بعد. فينبغي أن نبين له أنه ليس يخاف
الموت بل يخاف العقاب والعقاب إنما يكون على شيء باق بعد البدن الدائر.
ومن اعترف بشيء باق منه بعد البدن وهو لا محالة معترف بذنوب له وأفعال
سيئة يستحق عليها العقاب ومع ذلك هو معترف بحاكم عدل يعاقب على السيئات لا
على الحسنات فهو إذا خائف من ذنوبه لا من الموت.
ومن خاف عقوبة على ذنب
فالواجب عليه أن يحذر ذلك الذنب ويجتنبه.
وقد
بينا فيما تقدم أن الأفعال الرديئة التي تسمى ذنوبا إنما تصدر عن هيئات
رديئة والهئيات هي للنفس وهي الرذائل التي أحصيناها وعرفناك أضدادها من
الفضائل. فإذا الخائف من الموت على هذه الطريقة ومن هذه الجهة جاهل بما
ينبغي أن يخاف منه وخائف بما لا أثر له ولا خوف منه وعلاج الجهل هو العلم
فإذا الحكمة هي التي تخلصنا من هذه الآلام والظنون الكاذبة التي هي نتائج
الجهالات والله الموفق لما فيه الخير، وكذلك نقول لمن خاف الموت لأنه لا
يدري على ما يقدم بعد الموت لأن هذه حال الجاهل الذي يخاف بجهله فعلاجه أن
يتعلم ليعلم ويشتاق.
وذلك ان من أثبت لنفسه حالا بعد الموت ثم لم يعلم
ما هي تلك الحال فقد أقر بالجهل وعلاج الجهل العلم. ومن علم فقد وثق ومن
وثق فقد عرف سبيل السعادة فهو يسلكها لا محالة ومن سلك طريقا مستقيما إلى
غرض صحيح أفضى إليه بلا شك ولا مرية. وهذه الثقة التي تكون بالعلم هي
اليقين وهي حال المستبصر في دينه المستمسك بحكمته وقد عرفناك مرتبته
ومقامه فيما سلف من القول، اما من زعم أنه ليس يخاف الموت وإنما يحزن على
ما يخلف من أهله وولده وماله ونشبه ويأسف على ما يفوته من ملاذ الدنيا
وشهواتها.
فينبغي أن نبين له أن الحزن تعجل ألم ومكروه على ما لا
يجدي الحزن إليه بطائل وسنذكر علاج الحزن في باب مفرد له خاص لأنا في هذا
الباب إنما نذكر علاج الخوف وقد أتينا منه على ما فيه مقتنع وكفاية إلا
أنا نزيده بيانا ووضوحا فنقول: أن الإنسان من جملة الأمور الكائنة وقد
تبين في الآراء الفلسفية أن كل كائن فاسد لا محالة فمن أحب أن لا يفسد فقد
أحب أن لا يكون. ومن أحب أن لا يكون فقد أحب فساد ذاته فكأنه يحب أن يفسد
ويحب أن لا يفسد ويحب أن يكون ويحب أن لا يكون وهذا محال لا يخطر ببال
عاقل. وأيضا فإنه لو لم يمت أسلافنا وآباؤنا لم ينته الوجود إلينا ولو جاز
أن يبقى الإنسان لبقي من تقدمنا ولو بقي من تقدمنا من الناس على ما هم
عليه من التناسل ولم يموتوا لما وسعتهم الأرض. وأنت تتبين ذلك مما أقول.
هب أن رجلا واحدا ممن كان منذ أربعمائة سنة هو موجود الآن وليكن من مشاهير
الناس حتى يمكن أن يحصل أولاده موجودين معروفين كعلي بن أبي طالب كرم الله
وجهه مثلا. تم ولد له اولاد ولأولاده أولاد وبقوا كذلك يتناسلون ولا يموت
منهم أحد. كم يكون مقدار من يجتمع منهم في وقتنا فإنك تجدهم أكثر من عشرة
آلاف ألف رجل وذلك أن بقيتهم الآن مع ما قدر فيهم من الموت والقتل الذريع
أكثر من مائة ألف نسمة في جميع الأرض وأحسب لمن كان في ذلك العصر من الناس
على بسيد الأرض مثل هذا الحساب فإنهم إذا تضاعفوا هذا التضاعف لم تضبطهم
كثرة ولم تحصهم عددا. ثم امسح بسيط الأرض فإنه محدود معروف لتعلم أن الأرض
حينئذ لا تسعهم قياما فكيف قعودا أومنصرفين ولا يبقى موضع عمارة يفضل عنهم
ولا مكان رزاعة ولا مسير لأحد ولا حركة فضلا عن غيرها وهذه مدة يسيرة من
الزمان فكيف إذا امتد الزمان وتضاعف الناس على هذه النسبة. فهذه حال من
يتمنى الحياة الأبدية للبدن ويكره الموت ويظن أن ذلك ممكن أو مطموع فيه من
الجهل والغباوة فإذا الحكمة البالغة والعدل المبسوط بالتدبير الإلهي هو
الصواب الذي لا معدل عنه ولا محيص منه وهو غاية الجود الذي ليس وراءه غاية
أخرى لطالب مستزيدا وراغب مستفيد. والخائف منه هو الخائف من عدل الباري
وحكمته بل هو الخائف من وجوده وعطائه. فقد ظهر ظهورا حسيا أن الموت ليس
بردىء كما يظنه جمهو الناس وإنما الردىء هو الخوف منه وأن الذي يخاف هو
الجاهل به وبذاته. وقد ظهر أيضا فيما تقدم من قولنا أن حقيقة الموت هي
مفارقة النفس البدن وهذه المفارقة ليست فسادا للنفس وإنما هي فساد
المتركب. وأما جوهر النفس الذي هو ذات الإنسان ولبه وخلاصته فهو باق وليس
بجسم فيلزم فيه ما لزم في الأجسام مما أوردناه قبيل. بل لا يلزمه شيء من
أعراض الأجسام أي لا يتزاحف في المكان لإستغنائه عن المكان ولا يحرص على
البقاء الزماني لاستغنائه عن الزمان وإنما استفاد بالحواس والأجسام كمالا
فإذا كمل بها ثم خلص منها صار إلى عالمه الشريف القريب إلى بارئه ومنشئه
تعالى وتقدس.
وهذا الكمال الذي يستفيده في هذا العالم الحسي قد بيناه
وعرفناك الطريق إليه بما سلف من القول في هذا الباب وأنه السعادة القصوى
للإنسان وأعلمناك ضده الذي هو الشقاسء الأقصى له وبينا مع ذلك مراتب
السعادة ومنازل الأبرار ودرجاتهم من رضوان الله وجنته التي هي دار القرار
كما بينا لك أضدادها من سخطه ودركاتهم من النار التي هي الهاوية بلا قرار
نسأل الله حسن المعونة على ما يقربنا منه ويبعدنا من سخطه إنه جواد كريم
رؤوف رحيم.
علاج الحزن
الحزن ألم نفساني يعرض لفقد
محبوب أو فوت مطلوب. وسببه الحرص على القنيات الجسمانية والشره إلى
الشهوات البدنية والحسرة على ما يفقده أو يفوته منها. وإنما يحزن ويجزع
على فقد محبوباته وفوت مطلوباته من يظن أن ما يحصل له من محبوبات الدنيا
يجوز أن يبقى ويثبت عنده أو أن جميع ما يطلبه من مفقوداتها لا بد أن يحصل
له ويصير في ملكه فإذا انصف نفسه وعلم أن جميع ما في عالم الكون والفساد
غير ثابت ولا باق وإنما الثابت الباقي هو ما يكون في عالم العقل لم يطمع
في المحال ولم يطلبه وإذا لم يطمع فيه لم يحزن لفقده ما يهواه ولا لفوت ما
يتمناه في هذا العالم وصرف سعيه إلى المطلوبات الضافية واقتصر بهمته على
طلب المحبوبات الباقية وأعرض عما ليس في طبعه أن يثبت ويبقى وإذا حصل له
منه شيء بادر إلى وضعه في موضعه وأخذ منه مقدار الحاجة إلى دفع الآلام
التي أحصيناها من الجوع والعرى والضرورات التي تشبهها وترك الإدخار
والإستكثار والتماس المباهات والإفتخار ولم يحدث نفسه بالمكاثرة بها
والتمني لها. وإذا فارقته لم يأسف عليها ولم يبال بها. فإن من فعل ذلك أمن
فلم يجزع وفرح فلم يحزن وسعد فلم يشق. ومن لم يقبل هذه الوصية ولما يعالج
نفسه بهذا العلاج لم يزل في جزع دائم وحزن غير منتقص.
وذلك أنه لا يعدم
في كل حال فوت مطلوب أو فقد محبوب وهذا لازم لعالمنا هذا لأنه عالم الكون
والفساد. ومن طمع من الكائن الفاسد أن لا يكون ولا يفسد فقد طمع في المحال
لم يزل خائبا والخائب أبدا محزون والمحزون شقي. ومن استشعر بالعادة
الجميلة ورضى بكل ما يجده ولا يحزن لشيء يفقده لم يزل مسرورا سعيدا. فإن
ظن ظان أن هذا الإستشعار لا يتم له أو لا ينتفع به فلينظر إلى استشعارات
الناس في مطالبهم ومعايشهم وإختلافهم فيها بحسب قوة الإسشعار. فإنه سيرى
رؤية بينة ظاهرة فرح المتعيشين بمعايشهم على تفاوتها. وسرور أصحاب الحرف
المختلفة بمذاهبهم على تباينها. وليتصفح ذلك في طبقة طبقة من طبقات
الدهماء فإنه لا يخفى عليه فرح التاجر بتجارته والجندي بشجاعته والمقامر
بقماره والشاطر بشطارته والمخنث بتخنثه حتى يظن كل واحد منهم أن المغبون
من عدم تلك الحالة حتى فقد بهجتها والمجنون من غبي عنها فحرم لذتها. وليس
ذلك إلا لقوة إستشعار كل طائفة بحسن مذهبها ولزومها إياه بالعادة الطويلة.
وإذا لزم طالب الفضيلة مذهبه وقوى إستشعاره وحسن رأيه وطالت عادته كان
أولى بالسرور ومن هذه الطبقات الذين يخبطون في جهالاتهم وكان أحظاهم
بالنعيم المقيم لأنه محق وهم مبطلون. وهو متيقن وهم ظانون. ثم هو صحيح وهم
مرضى. وهو سعيد وهم أشقياء. وهو ولي الله عزوجل وهم أعداؤه وقد قال الله
عز منقائل (أَلاَ إنَّ أَولِياءَ الله لا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم
يَحزَنُونَ) وقال الكندي في كتاب دفع الأحزان. مما يدلك دلالة واضحة أن
الحزن شيء يجلبه الإنسان ويضعه وضعا وليس هو من الأشياء الطبيعية أن من
فقد ملكا أو طلب أمرا فلم يجده فلحقه حزن ثم نظر في حزنه ذلك نظرا حكيما
وعرف أن أسباب حزنه هي أسباب غير ضرورية وان كثيرا من الناس ليس لهم
ذلكالملك وهم غير محزونين بل فرحون مغبوطون علم علما لا ريب فيه أن الحزن
ليس بضروري ولا طبيعي.
وأن من حزن من الناس وجلب لنفسه هذا العارض فهو
لامحالة سيسلو ويعود إلى حاله الطبيعي. فقد شاهدنا قوما فقدوت من الأولاد
والأعزة والأصدقاء ما إشتد حزنهم عليه ثم لم يلبثوا أن يعودا إلى حالة
المسرة والضحك والغبطة ويصيرون إلى حال من لم يحزن قط.
ولذلك نشاهد من
يفقد المال والضياع وجميع ما يقتنيه الإنسان مما يعز عليه ويحزنه فإنه لا
محالة يتسلى ويزول حزنه ويعاود أنسه وإغتباطه. فالعاقل إذا نظر إلى أحوال
الناس في الحزن وأسبابه. علم أن ليس يختص من بينهم بمصيبة غريبة ولا يتميز
عنهم بمحنة بديعة وأن غايته من مصيبته السلوة. وأن الحزن هو مرض عارض يجري
مجرى سائر الرداآت فلم يضع لنفسه عارضا رديئا ولم يكتسب مرضا وضيعا أعني
مجتلبا غير طبيعي. وينبغي أن نتذكر ما قدمنا ذكره من حال من يحيا بتحية
على أن يشمها ويتمتع بهائم ثم يردها ليشمها غيره ويتمتع بها سواه فأطمعته
نفسه فيها وظن أنها موهوبة له هبة أبدية فلما أخذت منه حزن وأسف وغضب فإن
هذه حال من عدم عقله وطمع فيما لا مطمع فيه.
وهذه حالة الحسود لأنه
يحب أن يسيد بالخيرات من غير مشاركة الناس.
والحسد
أقبح الأمراض وأشنع الشرور. لذلك قالت الحكماء من أحب أن ينال الشر أعدائه
فهو محب للشر ومحب الشر شرير. وشر من هذا من أحب الشر لمن ليس له بعدو.
وأسوأ من هذا حالا من أحب أن لا ينال أصدقاءه خير.
ومن أحب أن يحرم
صديقه الخير فقد أحب له الشر ويجب له من هذه الرداآت الحزن على ما يتناوله
الناس من الخيرات من قنياتنا وما ملكناه أو مما لم نقتنه ولم نملكه لأن
الجميع مشترك للناس وهي ودائع الله عند خلقه. وله أن يرتجع العارية متى
شاء على يد من شاء. ولا سيئة علينا ولا عار إذا رددنا الودائع وإنما العار
والسيئة أن نحزن إذا ارتجعت منا. وهو مع ذلك كفر للنعمة لأن أقل ما يجب من
الشكر للمنعم أن نرد عليه عاريته عن طيب نفس وتسرع إلى إجابته إذا إستردها
ولا سيما إذا ترك المعير علينا أفضل ما أعارنا وأرتجع أخسه.
قال وأعني
بالأفضل ما لا تصل إليه يد ولا يشركنا فيه أحد أعني النفس والعقل والفضائل
الموهوبة لنا هبه لا تسترد ولا ترتجع ويقول إن كان ارتجع الأقل الأخس كما
اقتضاه العدل فقد أبقى الأكثر الأفضل وأنه لو كان واجبا إن نحزن في
الأشياء الضارة المؤلمة وأن يقل القنية ما استطاع إذ كان فقدها سببا
للأحزان.
وقد حكى عن سقراط أنه سئل عن سبب نشاطه وقلة حزنه فقال: لأنني
لا أقتني ما إذا فقدته حزنت عليه. وإذ قد ذكرنا أجناس الأمراض الغالبة
التي تخص لنفسه الساعي لها فيما يخلصها من الآمها وينجيها من مهالكها أن
يتصفح الأمراض التي تحت هذه الأجناس من أنواعها وأشخاصها فيداوي بنفسه
منها ويعالجها بمقابلاتها من العلاجات الراغبة إلى الله عز وجل بعد ذلك في
التوفيق فإن التوفيق مقرون بالإجتهاد وليس يتم أحدهما إلا بالآخر.
هذا
آخر المقالة السادسة وهي تمام الكتاب والحمد لله رب العالمين والصلاة على
النبي محمد وآله وأصحابه أجمعين. وحسبنا الله ونعم المعين.
وتتبعهما إهانة النفس وسوء العيش
وطمع طبقات الأنذال وغيرهم من الأهل والأولاد والمعاملين وقلة الثبات
والصبر في المواطن التي يجب فيها الثبات وهما أيضا سبب الكسل ومحبة الراحة
اللذين هما سببا كل رذيلة ومن لواحقهما الإستحذاء لكل أحد والرضى بكل
رذيلة وضيم. والدخول تحت كل فضيحة في النفس والأهل والمال وسماع كل قبيحة
فاحشة من الشتم والقذف وإحتمال كل ظلم من كل معامل وقلة الأنفة مما يأنف
منه الناس. وعلاج هذه الأسباب واللواحق يكون بأضدادها.وذلك بأن توقظ النفس
التي تمرض هذا المرض بالهز والتحريك. فإن الإنسان لا يخلو من القوة
الغضبية رأسا حتى تجلب إليه من مكان آخر ولكنها تكون ناقصة عن الواجب فهي
بمنزلة النار الخامدة التي فيها بقية لقبول الترويح والنفخ فهي تتحرك لا
محالة إذا حركت بما يلائمها وتبعث ما في طبيعتها من التوقد والتلهب. وقد
حكي عن بعض المتفلسفين أنه كان يتعمد مواطن الخوف فيقف فيها ويحمل نفسه
على المخاطرات العظيمة بالتعرض لها ويركب البحر عند اضطرابه وهيجانه ليعود
نفسه الثبات في المخاوف ويحرك منها القوة التي تسكن عند الحاجة إلى حركتها
ويخرجها عن رذيلة الكسل ولواحقه ولا يكره لمثل صاحب هذا المرض بعض المراء
والتعرض للملاحاة وخصومة من يأمن غائلته حتى يقرب من الفضيلة التي هي وسط
بين الرذيلتين أعني الشجاعة التي هي صحة النفس المطلوبة فإذا وجدها وأحس
بها من نفسه كف ووقف ولم يتجاوزها حذرا من الوقوع في الجانب الآخر الذي
علمناك علاجه.
الخوف وأسبابه وعلاجهولما كان الخوف الشديد
غير موضعه من أمراض النفس وكان متصلا بهذه القوة وجب أن نذكره ونذكر
أسبابه وعلاجه فنقول: إن الخوف يعرض من توقع مكروه وانتظار محذور والتوقع
والإنتظار إنما يكونان للحوادث في الزمان المستقبل.
وهذه الحوادث ربما
كانت عظيمة وربما كانت يسيرة وربما كانت ضرورية وربماكانت ممكنة، والأمور
الممكنة ربما كنا نحن أسبابها وربما كان غيرنا سببها وجميع هذه الأقسام لا
ينبغي للعاقل أن يخاف منها.
أما الأمور الممكنة فهي بالجملة مترددة بين
أن تكون وبين أن لا تكون ولا يجب أن يصمم على أنها تكون فيستشعر الخوف
منها ويتعجل مكروه التألم بها وهي لم تقع بعد ولعلها لا تقع وقد أحسن
الشاعر في قوله:
وقل للفؤاد أن ترى بك نزوة ... من الروع أفرج أكثر
الروع باطله
فهذه
حال ما كان منها عن سبب خارج وقد أعلمناك أنها ليست من الواجبات التي لا
بد من وقوعها. وما كان كذلك فالخوف من مكروهه يجب أن يكون على قدر حدوثة.
وإنما يحسن العيش وتطيب الحياة بالظن الجميل والأمل القوي وترك الفكر في
كل ما يمكن أن لا يقع من المكاره وأما ما كان سببه سوء اختيارنا وجنايتنا
على أنفسنا فينبغي أن نحترز منه بترك الذنوب والجنايات التي نخاف عواقبها
ولا نقدم على أمر لا تؤمن غائلته فإن هذا فعل من نسى أن الممكن هو الذي
يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون.
وطمع طبقات الأنذال وغيرهم من الأهل والأولاد والمعاملين وقلة الثبات
والصبر في المواطن التي يجب فيها الثبات وهما أيضا سبب الكسل ومحبة الراحة
اللذين هما سببا كل رذيلة ومن لواحقهما الإستحذاء لكل أحد والرضى بكل
رذيلة وضيم. والدخول تحت كل فضيحة في النفس والأهل والمال وسماع كل قبيحة
فاحشة من الشتم والقذف وإحتمال كل ظلم من كل معامل وقلة الأنفة مما يأنف
منه الناس. وعلاج هذه الأسباب واللواحق يكون بأضدادها.وذلك بأن توقظ النفس
التي تمرض هذا المرض بالهز والتحريك. فإن الإنسان لا يخلو من القوة
الغضبية رأسا حتى تجلب إليه من مكان آخر ولكنها تكون ناقصة عن الواجب فهي
بمنزلة النار الخامدة التي فيها بقية لقبول الترويح والنفخ فهي تتحرك لا
محالة إذا حركت بما يلائمها وتبعث ما في طبيعتها من التوقد والتلهب. وقد
حكي عن بعض المتفلسفين أنه كان يتعمد مواطن الخوف فيقف فيها ويحمل نفسه
على المخاطرات العظيمة بالتعرض لها ويركب البحر عند اضطرابه وهيجانه ليعود
نفسه الثبات في المخاوف ويحرك منها القوة التي تسكن عند الحاجة إلى حركتها
ويخرجها عن رذيلة الكسل ولواحقه ولا يكره لمثل صاحب هذا المرض بعض المراء
والتعرض للملاحاة وخصومة من يأمن غائلته حتى يقرب من الفضيلة التي هي وسط
بين الرذيلتين أعني الشجاعة التي هي صحة النفس المطلوبة فإذا وجدها وأحس
بها من نفسه كف ووقف ولم يتجاوزها حذرا من الوقوع في الجانب الآخر الذي
علمناك علاجه.
الخوف وأسبابه وعلاجهولما كان الخوف الشديد
غير موضعه من أمراض النفس وكان متصلا بهذه القوة وجب أن نذكره ونذكر
أسبابه وعلاجه فنقول: إن الخوف يعرض من توقع مكروه وانتظار محذور والتوقع
والإنتظار إنما يكونان للحوادث في الزمان المستقبل.
وهذه الحوادث ربما
كانت عظيمة وربما كانت يسيرة وربما كانت ضرورية وربماكانت ممكنة، والأمور
الممكنة ربما كنا نحن أسبابها وربما كان غيرنا سببها وجميع هذه الأقسام لا
ينبغي للعاقل أن يخاف منها.
أما الأمور الممكنة فهي بالجملة مترددة بين
أن تكون وبين أن لا تكون ولا يجب أن يصمم على أنها تكون فيستشعر الخوف
منها ويتعجل مكروه التألم بها وهي لم تقع بعد ولعلها لا تقع وقد أحسن
الشاعر في قوله:
وقل للفؤاد أن ترى بك نزوة ... من الروع أفرج أكثر
الروع باطله
فهذه
حال ما كان منها عن سبب خارج وقد أعلمناك أنها ليست من الواجبات التي لا
بد من وقوعها. وما كان كذلك فالخوف من مكروهه يجب أن يكون على قدر حدوثة.
وإنما يحسن العيش وتطيب الحياة بالظن الجميل والأمل القوي وترك الفكر في
كل ما يمكن أن لا يقع من المكاره وأما ما كان سببه سوء اختيارنا وجنايتنا
على أنفسنا فينبغي أن نحترز منه بترك الذنوب والجنايات التي نخاف عواقبها
ولا نقدم على أمر لا تؤمن غائلته فإن هذا فعل من نسى أن الممكن هو الذي
يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون.
وذلك أنه إذا أتى ذنبا أو جنى جناية قدر
في نفسه أنه يخفى ولا يظهر أو لا يخفى فيظهر إلا أنه يتجاوز عنه أولا تكون
له غائلة. وكأنه يجعل طبيعة الممكن واجبا كما أن صاحب القسم الأول يجعل
أيضا الممكن واجبا إلا أن هذا يأمن الجانب المحذور خاصة وأعني بهذا أن
الممكن لما كان متوسطا بين الجانب الواجب والجانب الممتنع صار كالشيء الذي
له جهتان إحداهما تلي الواجب والأخرى تلي الممتنع. ومثال ذلك خط ا ج ب
فنقطة ا هي الجانب الواجب. ونقطة ب هي الجانب الممتنع. وموضع ج هوالممكن
وبعده من الجانبين بعد واحد. فله إلى نقطة (1) جهة. وله إلى نقطة (ب) جهة.
فإذا صار مستقبله ماضيا بطل إسم الممكن عنه وحصل إما في جانب الواجب وأما
في جانب الممتنع وليس يصح ما دام ممكنا أن يحسب لا من من هذا الجانب ولا
من ذاك الجانب بل يعتقد فيه طبيعته الخاصة به وهو أنه يمكن أن يصير إلى
ههنا أو إلى هناك. ولهذا قال الحكيم وجوه الأمور الممكنة في أعقابها. وأما
الأمور الضرورية كالهرم وتوابعه فعلاج الخوف منه أن نعلم أن الإنسان إذا
حب طول الحياة فقد أحب لا محالة الهرم واستشعره إستشعار ما لا بد منه. ومع
الهرم يحدث نقصان الحرارة الغريزية والرطوبة الأصلية التابعة لها وغلبة
ضديهما من البرد واليبس وضعف الأعضاء الأصلية كلها. ويتبع ذلك قلة الحركة
وبطلان النشاط وضعف آلات الهضم وسقوط آلات الطحن ونقصان القوى المدبرة
للحيا، أعني القوة الجاذبة والقوة الممسكة والهاضمة والدافعة وسائر ما
يتبعها من مواد الحيابة. وليست الأمراض والآلام شيأ غير هذه الأشيأ ثم
يتبع ذلك موت الأحياء وفقد الأعزاء والمستشعر لهذه الأشياء الملتزم
لشرائطها في مبدأ كونه لا يخاف منها بل ينتظرها ويرجوها ويدعي له بها
ويرغب إلى الله فيها.
فهذه جملة الكلام على الخوف المطلق ولما كان أعظم
ما يلحق الإنسان منه هو خوف الموت وكان هذا الخوف عاما وهو مع عمومه أشد
وأبلغ من جميع المخاوف وجب أن نبدأ بالكلام فيه فنقول:
علاج
الخوف من الموت
إن
الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري ما الموت على الحقيقة أولا يعلم
إلى أين تصير نفسه أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت
ذاته وبطلت نفسه بطلان عدم ودثور وأن العالم سيبقى موجود أو ليس هو بموجود
فيه كما يظنه من يجهل بقاء النفس وكيفية المعاد. أو لأنه يظن أن للموت
ألما عظيما غير ألم لأمراض التي ربما تقدمته وأدت إليه وكانت سبب حلوله أو
لأنه يعتقد عقوبة تحل به بعد الموت. أو لأنه متحير لا يدري على أي شيء
يقدم بعد الموت. أو لأنه يأسف على ما يخلفه من المال والمقتنيات وهذه كلها
ظنون باطلة لا حقيقة لها. أما من جهل الموت ولا يدري ماهو على الحقيقة
فإنا نبين له أن الموت ليس بشيء أكثر من ترك النفس استعمال آلاتها وهي
الأعضاء التي يسمى مجموعها بدنا كما يترك الصانع إستعمال آلاته. وأن النفس
جوهر غير جسامني وليست عرضا وإنها غير قابلة للفساد وهذا البيان يحتاج فيه
إلى علوم تتقدمه وهو مبرهن مشروح على الإستقصاء في موضعه الخاص به. من
تطلع إليه ونشط للوقوف عليه لم يبعد مرامه ومن قع بما ذكرته في صدر هذا
الكتاب وسكنت نفسه إليه علم أن ذلك الجوهر مفارق لجوهر البدن مباين له كل
المبانية بذاته وخواصه وأفعاله وآثاره فإذا فارق البدن كما قلنا وعلى
الشريطة التي شرطنا بها البقاء الذي يخصه ونقى من كدر الطبيعة وسعد
السعادة التامة ولا سبيل إلى فنائه وعدمه.
فإن الجوهر لا يفنى من حيث
هو جوهر ولا تبطل ذاته وإنما تبطل الأعراض والنسب والإضافات التي بينه
وبين الأجسام بأضدادها. فأما الجوهر فلا شد له ولك شيء يفسد فإنما فساده
من ضده وقد يمكنك أن تقف على ذلك بسهولة من أوائل المنطق قبل أن تصل إلى
براهينه.
الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري ما الموت على الحقيقة أولا يعلم
إلى أين تصير نفسه أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت
ذاته وبطلت نفسه بطلان عدم ودثور وأن العالم سيبقى موجود أو ليس هو بموجود
فيه كما يظنه من يجهل بقاء النفس وكيفية المعاد. أو لأنه يظن أن للموت
ألما عظيما غير ألم لأمراض التي ربما تقدمته وأدت إليه وكانت سبب حلوله أو
لأنه يعتقد عقوبة تحل به بعد الموت. أو لأنه متحير لا يدري على أي شيء
يقدم بعد الموت. أو لأنه يأسف على ما يخلفه من المال والمقتنيات وهذه كلها
ظنون باطلة لا حقيقة لها. أما من جهل الموت ولا يدري ماهو على الحقيقة
فإنا نبين له أن الموت ليس بشيء أكثر من ترك النفس استعمال آلاتها وهي
الأعضاء التي يسمى مجموعها بدنا كما يترك الصانع إستعمال آلاته. وأن النفس
جوهر غير جسامني وليست عرضا وإنها غير قابلة للفساد وهذا البيان يحتاج فيه
إلى علوم تتقدمه وهو مبرهن مشروح على الإستقصاء في موضعه الخاص به. من
تطلع إليه ونشط للوقوف عليه لم يبعد مرامه ومن قع بما ذكرته في صدر هذا
الكتاب وسكنت نفسه إليه علم أن ذلك الجوهر مفارق لجوهر البدن مباين له كل
المبانية بذاته وخواصه وأفعاله وآثاره فإذا فارق البدن كما قلنا وعلى
الشريطة التي شرطنا بها البقاء الذي يخصه ونقى من كدر الطبيعة وسعد
السعادة التامة ولا سبيل إلى فنائه وعدمه.
فإن الجوهر لا يفنى من حيث
هو جوهر ولا تبطل ذاته وإنما تبطل الأعراض والنسب والإضافات التي بينه
وبين الأجسام بأضدادها. فأما الجوهر فلا شد له ولك شيء يفسد فإنما فساده
من ضده وقد يمكنك أن تقف على ذلك بسهولة من أوائل المنطق قبل أن تصل إلى
براهينه.
وإن أنت تأملت الجوهر الجسماني الذي أخس من ذلك الجوهر الكريم
واستقرت حاله وجدته غير فإن ولامتلاش من حيث هو جوهر إنما يستحيل بعضه إلى
بعض فتبطل خواصه شيئا فشيئا منه وأعراضه. فأما الجوهر نفسه فهو باق لا
سبيل إلى عدمه وبطلانه. مثال ذلك الماء فإنه يستحيل بخارا وهواء وكذلك
الهواء يستحيل ماء ونارا فتبطل عن لجوهر أعراضه وخواصه وأما الجوهر من حيث
هو جوهر فإنه لا سبيل إلى عدمه هذا في الجوهر الجسماني القابل للإستحالة
والتغير. فأما الجوهر الروحاني الذي لا يقبل الإستحالة ولا التغير في ذاته
وإنما يقبل كمالاته وتمامات صورة فكيف يتوهم فيه العدم والتلاشي. وأما من
يخاف الموت لأنه لا يعلم إلى أين تصير نفسه أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل
وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه وجهل بقاء النفس وكيفية المعاد
فليس يخاف الموت على الحقيقة وإنما يجهل ما ينبغي أن يعلمه. فالجهل إذا هو
المخوف إذ هو سبب الخوف. وهذا الجهل هو الذي حمل الحكماء على طلب العلم
والتعب به وتركوا لأجله اللذات الجسمانية وراحات البدن وأختاروا عليه
النصب والسهر ورأوا أن الراحة التي تكون من الجهل هي الراحة الحقيقية. وأن
التعب الحقيقي هو تعب الجهل لأنه مرض مزمن للنفس والبرء منه خلاص لها
وراحة سرمدية ولذة أبدية. ولما تيقن الحكماء ذلك وأستبصروا فيه وهجموا على
حقيقته ووصلوا إلى الروح والراحة منه هانت عليهم أمور الدنيا كلها
واستحقروا جميع ما يستعظمه الجمهور من المال والثروة واللذات الحسية
والمطالب التي تؤدي غليها إذ كانت قليلة الثبات والبقاء سريعة الزوال
والفناء كثيرة الهموم إذا وجدت. عظيمة الغموم إذ فقدت. واقتصروا منها على
المقدار الضروري في الحياة وتسلوا عن فضول العيش الذي فيه ما ذكرت من
العيوب وما لم أذكره ولأنها مع ذلك بلا نهاية ذلك أن الإنسان إذا بلغ منها
إلى غاية تاقت نفسه إلى غاية أخرى منغير وقوف على حد ولا إنتهاء إلى
الأمد. وهذا هو الموت لا ما يخاف منه والحرص عليه هو الحرص على الزائل
والشغل به هو الشغل بالباطل. ولذلك جزم الحكماء بأن الموت موتان موت إرادي
وموت طبيعي.
وكذلك الحياة حياتان حياة إرادية وحياة طبيعية وعنوا
بالموت الإرادي إماتة الشهوات وترك التعرض لها وبالموت الطبيعي مفارقة
النفس البدن.
وعنوا بالحياة الإرادية ما يسعى له الإنسان لحياته الدنيا
من المآكل والمشارب والشهوات. وبالحياة الطبيعية بقاء النفس السرمدي بما
تستفيده من العلوم الحقيقية وتبرأ به من الجهل. ولذلك وصى أفلاطون طالب
الحكمة بأن قال له مت بالإرادة تحي بالطبيعة. على أن من خاف الموت الطبيعي
للإنسان فقد خاف ما ينبغي أن يرجوه. ذلك أن هذا الموت هو تمام حد الإنسان
لأنه حي ناطق ميت. فالموت تمامه وكما له وبه يصير إلى أفقه الأعلى. ومن
علم أن كل شيء هو مركب من حد وحدّه مركب من جنسه وفصوله. وأن جنس الإنسان
هو الحي وفصلاه الناطق والمايت علم أنه سينحل إلى جنسه وفصوله لأن مركب لا
محالة منحل إلى ما تركب منه. فمن أجهل ممن يخاف تمام ذاته ومن أسوء حالا
ممن يظن أن فناءه بحياته ونقصانه بتمامه.
ذلك أن لاناقص إذا خاف أن يتم
فقد دل من نفسه على غاية الجهل. فإذا الواجب على العاقل أن يستوحش من
النقصان ويأنس بالتمام ويطلب كل ما يتممه ويكمله ويشرفه ويعلى منزلته
ويخلي رباطه من الوجه الذي يأمن به الوقوع في الأسر لا من الوجه الذي يشدو
وثاقه ويزيده تركيبا وتعقيدا ويثق بأن الجوهر الشريف الإلهي إذا تخلص من
الجوهر الكثيف الجسماني خلاص بقاء وصفو لاخلاص مزاج وكدر فقد سعد وعاد إلى
ملكوته وقرب من بارئه وفاز بجوار رب العالمين وخالط الأرواح الطيبة من
أشكاله وأشباهه ونجا من أضداده وأغياره، ومن ههنا يعلم أن من فارقت نفسه
بدنه وهي مشتاقة إليه مشفقة عليه خائفة من فراقه فهي في غاية الشقاء
والبعد من ذاتها وجوهرها سالكة إلى أبعد جهاتها من مستقرها طالبة قرار ما
لا قرار له. أما من ظن أن للموت ألما عظيما غير ألم الأمراض التي ربما
اتفق أن تتقدم الموت وتؤدي إليه فعلاجه أن يبين له أن هذا ظن كاذب لأن
الألم إنما يكون للحيّ والحي هو القابل أثر النفس.
وأما الجسم الذي
ليس فيهأثر النفس فإنه لا يألم ولا يحس فإذا الموت الذي هو مفارقة النفس
البدن لا ألم له لأن البدن إنما كان يألم ويحس بأثر النفس فيه فإذا صار
جسما لا أثر فيه للنفس فلا حس له ولا ألم.
فقد تبين أن الموت حال للبدن
غير محسوس عنده ولا مؤلم لأنه فراق ما به كان يحس ويتألم فأما من خاف
الموت لأجل العقاب الذي يوعد به بعد. فينبغي أن نبين له أنه ليس يخاف
الموت بل يخاف العقاب والعقاب إنما يكون على شيء باق بعد البدن الدائر.
ومن اعترف بشيء باق منه بعد البدن وهو لا محالة معترف بذنوب له وأفعال
سيئة يستحق عليها العقاب ومع ذلك هو معترف بحاكم عدل يعاقب على السيئات لا
على الحسنات فهو إذا خائف من ذنوبه لا من الموت.
ومن خاف عقوبة على ذنب
فالواجب عليه أن يحذر ذلك الذنب ويجتنبه.
وقد
بينا فيما تقدم أن الأفعال الرديئة التي تسمى ذنوبا إنما تصدر عن هيئات
رديئة والهئيات هي للنفس وهي الرذائل التي أحصيناها وعرفناك أضدادها من
الفضائل. فإذا الخائف من الموت على هذه الطريقة ومن هذه الجهة جاهل بما
ينبغي أن يخاف منه وخائف بما لا أثر له ولا خوف منه وعلاج الجهل هو العلم
فإذا الحكمة هي التي تخلصنا من هذه الآلام والظنون الكاذبة التي هي نتائج
الجهالات والله الموفق لما فيه الخير، وكذلك نقول لمن خاف الموت لأنه لا
يدري على ما يقدم بعد الموت لأن هذه حال الجاهل الذي يخاف بجهله فعلاجه أن
يتعلم ليعلم ويشتاق.
وذلك ان من أثبت لنفسه حالا بعد الموت ثم لم يعلم
ما هي تلك الحال فقد أقر بالجهل وعلاج الجهل العلم. ومن علم فقد وثق ومن
وثق فقد عرف سبيل السعادة فهو يسلكها لا محالة ومن سلك طريقا مستقيما إلى
غرض صحيح أفضى إليه بلا شك ولا مرية. وهذه الثقة التي تكون بالعلم هي
اليقين وهي حال المستبصر في دينه المستمسك بحكمته وقد عرفناك مرتبته
ومقامه فيما سلف من القول، اما من زعم أنه ليس يخاف الموت وإنما يحزن على
ما يخلف من أهله وولده وماله ونشبه ويأسف على ما يفوته من ملاذ الدنيا
وشهواتها.
فينبغي أن نبين له أن الحزن تعجل ألم ومكروه على ما لا
يجدي الحزن إليه بطائل وسنذكر علاج الحزن في باب مفرد له خاص لأنا في هذا
الباب إنما نذكر علاج الخوف وقد أتينا منه على ما فيه مقتنع وكفاية إلا
أنا نزيده بيانا ووضوحا فنقول: أن الإنسان من جملة الأمور الكائنة وقد
تبين في الآراء الفلسفية أن كل كائن فاسد لا محالة فمن أحب أن لا يفسد فقد
أحب أن لا يكون. ومن أحب أن لا يكون فقد أحب فساد ذاته فكأنه يحب أن يفسد
ويحب أن لا يفسد ويحب أن يكون ويحب أن لا يكون وهذا محال لا يخطر ببال
عاقل. وأيضا فإنه لو لم يمت أسلافنا وآباؤنا لم ينته الوجود إلينا ولو جاز
أن يبقى الإنسان لبقي من تقدمنا ولو بقي من تقدمنا من الناس على ما هم
عليه من التناسل ولم يموتوا لما وسعتهم الأرض. وأنت تتبين ذلك مما أقول.
هب أن رجلا واحدا ممن كان منذ أربعمائة سنة هو موجود الآن وليكن من مشاهير
الناس حتى يمكن أن يحصل أولاده موجودين معروفين كعلي بن أبي طالب كرم الله
وجهه مثلا. تم ولد له اولاد ولأولاده أولاد وبقوا كذلك يتناسلون ولا يموت
منهم أحد. كم يكون مقدار من يجتمع منهم في وقتنا فإنك تجدهم أكثر من عشرة
آلاف ألف رجل وذلك أن بقيتهم الآن مع ما قدر فيهم من الموت والقتل الذريع
أكثر من مائة ألف نسمة في جميع الأرض وأحسب لمن كان في ذلك العصر من الناس
على بسيد الأرض مثل هذا الحساب فإنهم إذا تضاعفوا هذا التضاعف لم تضبطهم
كثرة ولم تحصهم عددا. ثم امسح بسيط الأرض فإنه محدود معروف لتعلم أن الأرض
حينئذ لا تسعهم قياما فكيف قعودا أومنصرفين ولا يبقى موضع عمارة يفضل عنهم
ولا مكان رزاعة ولا مسير لأحد ولا حركة فضلا عن غيرها وهذه مدة يسيرة من
الزمان فكيف إذا امتد الزمان وتضاعف الناس على هذه النسبة. فهذه حال من
يتمنى الحياة الأبدية للبدن ويكره الموت ويظن أن ذلك ممكن أو مطموع فيه من
الجهل والغباوة فإذا الحكمة البالغة والعدل المبسوط بالتدبير الإلهي هو
الصواب الذي لا معدل عنه ولا محيص منه وهو غاية الجود الذي ليس وراءه غاية
أخرى لطالب مستزيدا وراغب مستفيد. والخائف منه هو الخائف من عدل الباري
وحكمته بل هو الخائف من وجوده وعطائه. فقد ظهر ظهورا حسيا أن الموت ليس
بردىء كما يظنه جمهو الناس وإنما الردىء هو الخوف منه وأن الذي يخاف هو
الجاهل به وبذاته. وقد ظهر أيضا فيما تقدم من قولنا أن حقيقة الموت هي
مفارقة النفس البدن وهذه المفارقة ليست فسادا للنفس وإنما هي فساد
المتركب. وأما جوهر النفس الذي هو ذات الإنسان ولبه وخلاصته فهو باق وليس
بجسم فيلزم فيه ما لزم في الأجسام مما أوردناه قبيل. بل لا يلزمه شيء من
أعراض الأجسام أي لا يتزاحف في المكان لإستغنائه عن المكان ولا يحرص على
البقاء الزماني لاستغنائه عن الزمان وإنما استفاد بالحواس والأجسام كمالا
فإذا كمل بها ثم خلص منها صار إلى عالمه الشريف القريب إلى بارئه ومنشئه
تعالى وتقدس.
وهذا الكمال الذي يستفيده في هذا العالم الحسي قد بيناه
وعرفناك الطريق إليه بما سلف من القول في هذا الباب وأنه السعادة القصوى
للإنسان وأعلمناك ضده الذي هو الشقاسء الأقصى له وبينا مع ذلك مراتب
السعادة ومنازل الأبرار ودرجاتهم من رضوان الله وجنته التي هي دار القرار
كما بينا لك أضدادها من سخطه ودركاتهم من النار التي هي الهاوية بلا قرار
نسأل الله حسن المعونة على ما يقربنا منه ويبعدنا من سخطه إنه جواد كريم
رؤوف رحيم.
علاج الحزن
الحزن ألم نفساني يعرض لفقد
محبوب أو فوت مطلوب. وسببه الحرص على القنيات الجسمانية والشره إلى
الشهوات البدنية والحسرة على ما يفقده أو يفوته منها. وإنما يحزن ويجزع
على فقد محبوباته وفوت مطلوباته من يظن أن ما يحصل له من محبوبات الدنيا
يجوز أن يبقى ويثبت عنده أو أن جميع ما يطلبه من مفقوداتها لا بد أن يحصل
له ويصير في ملكه فإذا انصف نفسه وعلم أن جميع ما في عالم الكون والفساد
غير ثابت ولا باق وإنما الثابت الباقي هو ما يكون في عالم العقل لم يطمع
في المحال ولم يطلبه وإذا لم يطمع فيه لم يحزن لفقده ما يهواه ولا لفوت ما
يتمناه في هذا العالم وصرف سعيه إلى المطلوبات الضافية واقتصر بهمته على
طلب المحبوبات الباقية وأعرض عما ليس في طبعه أن يثبت ويبقى وإذا حصل له
منه شيء بادر إلى وضعه في موضعه وأخذ منه مقدار الحاجة إلى دفع الآلام
التي أحصيناها من الجوع والعرى والضرورات التي تشبهها وترك الإدخار
والإستكثار والتماس المباهات والإفتخار ولم يحدث نفسه بالمكاثرة بها
والتمني لها. وإذا فارقته لم يأسف عليها ولم يبال بها. فإن من فعل ذلك أمن
فلم يجزع وفرح فلم يحزن وسعد فلم يشق. ومن لم يقبل هذه الوصية ولما يعالج
نفسه بهذا العلاج لم يزل في جزع دائم وحزن غير منتقص.
وذلك أنه لا يعدم
في كل حال فوت مطلوب أو فقد محبوب وهذا لازم لعالمنا هذا لأنه عالم الكون
والفساد. ومن طمع من الكائن الفاسد أن لا يكون ولا يفسد فقد طمع في المحال
لم يزل خائبا والخائب أبدا محزون والمحزون شقي. ومن استشعر بالعادة
الجميلة ورضى بكل ما يجده ولا يحزن لشيء يفقده لم يزل مسرورا سعيدا. فإن
ظن ظان أن هذا الإستشعار لا يتم له أو لا ينتفع به فلينظر إلى استشعارات
الناس في مطالبهم ومعايشهم وإختلافهم فيها بحسب قوة الإسشعار. فإنه سيرى
رؤية بينة ظاهرة فرح المتعيشين بمعايشهم على تفاوتها. وسرور أصحاب الحرف
المختلفة بمذاهبهم على تباينها. وليتصفح ذلك في طبقة طبقة من طبقات
الدهماء فإنه لا يخفى عليه فرح التاجر بتجارته والجندي بشجاعته والمقامر
بقماره والشاطر بشطارته والمخنث بتخنثه حتى يظن كل واحد منهم أن المغبون
من عدم تلك الحالة حتى فقد بهجتها والمجنون من غبي عنها فحرم لذتها. وليس
ذلك إلا لقوة إستشعار كل طائفة بحسن مذهبها ولزومها إياه بالعادة الطويلة.
وإذا لزم طالب الفضيلة مذهبه وقوى إستشعاره وحسن رأيه وطالت عادته كان
أولى بالسرور ومن هذه الطبقات الذين يخبطون في جهالاتهم وكان أحظاهم
بالنعيم المقيم لأنه محق وهم مبطلون. وهو متيقن وهم ظانون. ثم هو صحيح وهم
مرضى. وهو سعيد وهم أشقياء. وهو ولي الله عزوجل وهم أعداؤه وقد قال الله
عز منقائل (أَلاَ إنَّ أَولِياءَ الله لا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم
يَحزَنُونَ) وقال الكندي في كتاب دفع الأحزان. مما يدلك دلالة واضحة أن
الحزن شيء يجلبه الإنسان ويضعه وضعا وليس هو من الأشياء الطبيعية أن من
فقد ملكا أو طلب أمرا فلم يجده فلحقه حزن ثم نظر في حزنه ذلك نظرا حكيما
وعرف أن أسباب حزنه هي أسباب غير ضرورية وان كثيرا من الناس ليس لهم
ذلكالملك وهم غير محزونين بل فرحون مغبوطون علم علما لا ريب فيه أن الحزن
ليس بضروري ولا طبيعي.
وأن من حزن من الناس وجلب لنفسه هذا العارض فهو
لامحالة سيسلو ويعود إلى حاله الطبيعي. فقد شاهدنا قوما فقدوت من الأولاد
والأعزة والأصدقاء ما إشتد حزنهم عليه ثم لم يلبثوا أن يعودا إلى حالة
المسرة والضحك والغبطة ويصيرون إلى حال من لم يحزن قط.
ولذلك نشاهد من
يفقد المال والضياع وجميع ما يقتنيه الإنسان مما يعز عليه ويحزنه فإنه لا
محالة يتسلى ويزول حزنه ويعاود أنسه وإغتباطه. فالعاقل إذا نظر إلى أحوال
الناس في الحزن وأسبابه. علم أن ليس يختص من بينهم بمصيبة غريبة ولا يتميز
عنهم بمحنة بديعة وأن غايته من مصيبته السلوة. وأن الحزن هو مرض عارض يجري
مجرى سائر الرداآت فلم يضع لنفسه عارضا رديئا ولم يكتسب مرضا وضيعا أعني
مجتلبا غير طبيعي. وينبغي أن نتذكر ما قدمنا ذكره من حال من يحيا بتحية
على أن يشمها ويتمتع بهائم ثم يردها ليشمها غيره ويتمتع بها سواه فأطمعته
نفسه فيها وظن أنها موهوبة له هبة أبدية فلما أخذت منه حزن وأسف وغضب فإن
هذه حال من عدم عقله وطمع فيما لا مطمع فيه.
وهذه حالة الحسود لأنه
يحب أن يسيد بالخيرات من غير مشاركة الناس.
والحسد
أقبح الأمراض وأشنع الشرور. لذلك قالت الحكماء من أحب أن ينال الشر أعدائه
فهو محب للشر ومحب الشر شرير. وشر من هذا من أحب الشر لمن ليس له بعدو.
وأسوأ من هذا حالا من أحب أن لا ينال أصدقاءه خير.
ومن أحب أن يحرم
صديقه الخير فقد أحب له الشر ويجب له من هذه الرداآت الحزن على ما يتناوله
الناس من الخيرات من قنياتنا وما ملكناه أو مما لم نقتنه ولم نملكه لأن
الجميع مشترك للناس وهي ودائع الله عند خلقه. وله أن يرتجع العارية متى
شاء على يد من شاء. ولا سيئة علينا ولا عار إذا رددنا الودائع وإنما العار
والسيئة أن نحزن إذا ارتجعت منا. وهو مع ذلك كفر للنعمة لأن أقل ما يجب من
الشكر للمنعم أن نرد عليه عاريته عن طيب نفس وتسرع إلى إجابته إذا إستردها
ولا سيما إذا ترك المعير علينا أفضل ما أعارنا وأرتجع أخسه.
قال وأعني
بالأفضل ما لا تصل إليه يد ولا يشركنا فيه أحد أعني النفس والعقل والفضائل
الموهوبة لنا هبه لا تسترد ولا ترتجع ويقول إن كان ارتجع الأقل الأخس كما
اقتضاه العدل فقد أبقى الأكثر الأفضل وأنه لو كان واجبا إن نحزن في
الأشياء الضارة المؤلمة وأن يقل القنية ما استطاع إذ كان فقدها سببا
للأحزان.
وقد حكى عن سقراط أنه سئل عن سبب نشاطه وقلة حزنه فقال: لأنني
لا أقتني ما إذا فقدته حزنت عليه. وإذ قد ذكرنا أجناس الأمراض الغالبة
التي تخص لنفسه الساعي لها فيما يخلصها من الآمها وينجيها من مهالكها أن
يتصفح الأمراض التي تحت هذه الأجناس من أنواعها وأشخاصها فيداوي بنفسه
منها ويعالجها بمقابلاتها من العلاجات الراغبة إلى الله عز وجل بعد ذلك في
التوفيق فإن التوفيق مقرون بالإجتهاد وليس يتم أحدهما إلا بالآخر.
هذا
آخر المقالة السادسة وهي تمام الكتاب والحمد لله رب العالمين والصلاة على
النبي محمد وآله وأصحابه أجمعين. وحسبنا الله ونعم المعين.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى