لبيك يا الله



حديث قدسىعن رب العزة جلا وعلاعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أحب عبداً دعا له جبريل، عليه السلام، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً، دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض”.
المواضيع الأخيرة
كل عام وانتم بخيرالجمعة 23 أبريل - 16:08رضا السويسى
كل عام وانتم بخيرالخميس 7 مايو - 22:46رضا السويسى
المسح على رأس اليتيم و العلاج باللمسالأربعاء 22 أغسطس - 14:45البرنس
(16) ما أجمل الغنائمالجمعة 11 أغسطس - 18:51رضا السويسى
مطوية ( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)الأحد 9 أغسطس - 19:02عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)السبت 8 أغسطس - 12:46عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )الأربعاء 5 أغسطس - 18:34عزمي ابراهيم عزيز



اذهب الى الأسفل
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السابع Empty كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السابع {السبت 9 يوليو - 17:06}


وأما ما ذكروه من المعنى فقد سبق جوابه في مسألة خطاب النبي للواحد من الأمة.
المسألة
الثالثة والعشرون اختلفوا في المخاطب: هل يمكن دخوله في عموم خطابه لغة أو
لا؟ والمختار دخوله وعليه اعتماد الأكثرين وسواء كان خطابه العام أمراً أو
نهياً أو خبراً.
أما الخبر فكما في قوله تعالى: " وهو بكل شيء عليم " "
الحديد 3 " فإن اللفظ بعمومه يقتضي كون كل شيء معلوماً لله تعالى وذاته
وصفاته أشياء فكانت داخلة تحت عموم الخطاب.
والأمر فكما لو قال السيد
لعبده من أحسن إليك فأكرمه فإن خطابه لغة يقتضي إكرام كل من أحسن إلى العبد
فإذا أحسن السيد إليه صدق عليه أنه من جملة المحسنين إلى العبد فكان
إكرامه على العبد لازماً بمقتضى عموم خطاب السيد.
وكذلك في النهي كما إذا قال له: من أحسن إليك فلا تسيء إليه وهذا في الوضوح غير محتاج إلى الإطناب فيه.
فإن
قيل: ما ذكرتموه يمتنع العمل به للنص والمعنى: أما النص فقوله تعالى: "
الله خالق كل شيء " " الزمر 62 " وذاته وصفاته أشياء وهو غير خالق لها ولو
كان داخلاً في عموم خبره لكان خالقاً لها وهو محال.
وأما المعنى فإن
السيد إذا قال لعبده: من دخل داري فتصدق عليه بدرهم ولو دخل السيد فإنه
يصدق عليه أنه من الداخلين إلى الدار ومع ذلك لا يحسن أن يتصدق عليه العبد
بدرهم ولو كان داخلاً تحت عموم أمره لكان ذلك حسناً.
قلنا: أما الآية
فإنها بالنظر إلى عموم اللفظ تقتضي كون الرب تعالى خالقاً لذاته وصفاته غير
أنه لما كان ممتنعاً في نفس الأمر عقلاً كان مخصصاً لعموم الآية ولا
منافاة بين دخوله في العموم بمقتضى اللفظ وخروجه عنه بالتخصيص وكذلك الحكم
فيما ذكروه من المثال فإنه بعمومه مقتض للتصدق على السيد عند دخوله غير أنه
بالنظر إلى القرينة الحالية والدليل المخصص امتنع ثبوت حكم العموم في حقه
ولا منافاة كما سبق.
المسألة الرابعة والعشرون اختلف العلماء في قوله
تعالى: " خذ من أموالهم صدقة " " التوبة 103 " هل يقتضي أخذ الصدقة من كل
نوع من أنواع مال كل مالك أو أخذ صدقة واحدة من نوع واحد؟ والأول مذهب
الأكثرين والثاني مذهب الكرخي.
احتج القائلون بتعميم كل نوع بأنه تعالى
أضاف الصدقة إلى جميع الأموال بقوله: " من أموالهم " والجمع المضاف من
ألفاظ العموم على ما عرف من مذهب أربابه فنزل ذلك منزلة قوله: خذ من كل نوع
من أموالهم صدقة فكانت الصدقة متعددة بتعدد أنواع الأموال.
وللنافي أن
يقول المأمور به صدقة منكرة مضافة إلى جملة الأموال فمهما أخذ من نوع واحد
منها من المالك صدقة صدق قول القائل أخذ من أمواله صدقة لأن المال الواحد
جزء من جملة الأموال فإذا أخذت الصدقة من جزء المال صدق أخذها من المال.
ولهذا
وقع الإجماع على أن كل درهم ودينار من دراهم المالك ودنانيره موصوف بأنه
من ماله ومع ذلك فإنه لا يجب أخذ الصدقة من خصوص كل دينار ودرهم له والأصل
أن يكون ذلك لعدم دلالة اللفظ عليه لا للمعارض وبالجملة فالمسألة محتملة
ومأخذ الكرخي دقيق.
المسألة الخامسة والعشرون اللفظ العام إذا قصد به
المخاطب الذم أو المدح كقوله تعالى: " إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي
جحيم " " الانفطار 14 " وكقوله: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها
في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم " " التوبة 34 " .
نقل عن الشافعي رضي
الله عنه أنه منع من عمومه حتى أنه منع من التمسك به في وجوب زكاة الحلي
مصيراً منه إلى أن العموم لم يقع مقصوداً في الكلام وإنما سيق لقصد الذم
والمدح مبالغة في الحث على الفعل أو الزجر عنه.
وخالفه الأكثرون وهو
الحق من حيث إن قصد الذم أو المدح وإن كان مطلوباً للمتكلم فلا يمنع ذلك من
قصد العموم معه إذ لا منافاة بين الأمرين وقد أتى بالصيغة الدالة على
العموم فكان الجمع بين المقصودين أولى ومن العمل بأحدهما وتعطيل الآخر
والله أعلم.
الصنف الرابع في تخصيص العموم ويشتمل على مقدمة ومسألتين
أما المقدمة ففي بيان معنى التخصيص وما يجوز تخصيصه وما لا يجوز أما
التخصيص فقد قال أبو الحسين البصري: هو إخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه
وذلك مما لا يمكن حمله على ظاهره على كل مذهب.
أما على مذهب أرباب الخصوص فلأن الخطاب عندهم منزل على أقل ما يحتمله اللفظ فلا يتصور إخراج شيء منه.

وأما
على مذهب أرباب الاشتراك فمن جهة أن العمل باللفظ المشترك في بعض محامله
لا يكون إخراجاً لبعض ما تناوله الخطاب عنه بل غايته استعمال اللفظ في بعض
محامله دون البعض.
وأما على مذهب أرباب الوقف فظاهر إذ اللفظ عندهم
موقوف لا يعلم كونه للخصوص أو للعموم وهو صالح لاستعماله في كل واحد منهما
فإن قام الدليل على أنه أريد به العموم وجب حمله عليه وامتنع إخراج شيء منه
وإن قام الدليل على أنه للخصوص لم يكن اللفظ إذ ذاك دليلاً على العموم ولا
متناولاً له فلا يتحقق بالحمل على الخاص إخراج بعض ما تناوله اللفظ على
بعض محامله الصالح لها.
وأما على مذهب أرباب العموم فغايته أن اللفظ
عندهم حقيقة في الاستغراق ومجاز في الخصوص وعلى هذا فإن لم يقم الدليل على
مخالفة الحقيقة وجب إجراء اللفظ على جميع محامله من غير إخراج شي منها وإن
قام الدليل على مخالفة الحقيقة وامتناع العمل باللفظ في الاستغراق وجب صرفه
إلى محمله المجازي وهو الخصوص وعند حمل اللفظ على المجاز لا يكون اللفظ
متناولاً للحقيقة وهي الاستغراق فلا تحقق لإخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه
إذ هو حالة كونه مستعملاً في المجاز لا يكون مستعملاً في الحقيقة وعلى هذا
فإطلاق القول بتخصيص العام أو أن هذا عام مخصص لا يكون حقيقة.
وإذا عرف
ذلك فالتخصيص على ما يناسب مذهب أرباب العموم هو تعريف أن المراد باللفظ
الموضوع للعموم حقيقة إنما هو الخصوص وعلى ما يناسب مذهب أرباب الاشتراك
تعريف أن المراد باللفظ الصالح للعموم والخصوص إنما هو الخصوص والمعرف لذلك
بأي طريق كان يسمى مخصصاً واللفظ المصروف عن جهة العموم إلى الخصوص
مخصصاً.
وإذا عرف معنى تخصيص العموم فاعلم أن كل خطاب لا يتصور فيه معنى
الشمول كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة " تجزئك ولا تجزيء أحداً بعدك "
فلا يتصور تخصيصه لأن التخصيص على ما عرف صرف اللفظ عن جهة العموم إلى جهة
الخصوص وما لا عموم له لا يتصور فيه هذا الصرف وأما ما يتصور فيه الشمول
والعموم فيتصور فيه التخصيص وسواء كان خطاباً أو لم يكن خطاباً كالعلة
الشاملة لإمكان صرفه عن جهة عمومه إلى خصوصه هذا إتمام المقدمة.
وأما
المسائل فمسألتان: المسألة الأولى اتفق القائلون بالعموم على جواز تخصيصه
على أي حال كان من الأخبار والأمر وغيره خلافاً لشذوذ لا يؤبه لهم في
تخصيصه الخبر ويدل على جواز ذلك الشرع والمعقول: أما الشرع فوقوع ذلك في
كتاب الله تعالى كقوله تعالى: " الله خالق كل شيء وهو على كل شيء قدير " "
الزمر 62 " وليس خالقاً لذاته ولا قادراً عليها وهي شيء وقوله تعالى: " ما
تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم " " الذاريات 42 " وقد أتت على
الأرض والجبال ولم تجعلها رميماً وقوله تعالى: " تدمر كل شيء " " الأحقاف
25 " " وأوتيت من كل شيء " " النحل 23 " إلى غير ذلك من الآيات الخبرية
المخصصة حتى إنه قد قيل لم يرد عام إلا وهو مخصص إلا في قوله تعالى: " وهو
بكل شيء عليم " " الحديد 3 " ولو لم يكن ذلك جائزاً لما وقع في الكتاب.
وأما
المعقول فهو أنه لا معنى لتخصص العموم سوى صرف اللفظ عن جهة العموم الذي
هو حقيقة فيه إلى جهة الخصوص بطريق المجاز كما سبق تقريره والتجوز غير
ممتنع في ذاته ولهذا لو قدرنا وقوعه لم يلزم المحال عنه لذاته ولا بالنظر
إلى وضع اللغة ولهذا يصح من اللغوي أن يقول: جاءني كل أهل البلد وإن تخلف
عنه بعضهم ولا بالنظر إلى الداعي إلى ذلك.
والأصل عدم كل مانع سوى ذلك
ويدل على جواز تخصيص الأوامر العامة وإن لم نعرف فيها خلافاً قوله تعالى: "
فاقتلوا المشركين " مع خروج أهل الذمة عنه وقوله تعالى: " السارق والسارقة
فاقطعوا أيديهما " " المائدة 38 " " والزانية والزاني فاجدلوا كل واحد
منهما مائة جلدة " " النور 2 " مع أنه ليس كل سارق يقطع ولا كل زان يجلد
وقوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " " النساء
11 " مع خروج الكافر والرقيق والقاتل عنه.
فإن قيل: القول بجواز تخصيص
الخبر مما يوجب الكذب في الخبر لما فيه من مخالفة المخبر للخبر وهو غير
جائز على الشارع كما في نسخ الخبر.

قلنا: لا نسلم لزوم الكذب ولا وهم
الكذب بتقدير إرادة جهة المجاز وقيام الدليل على ذلك وإلا كان القائل إذا
قال: رأيت أسداً وأراد به الإنسان أن يكون كاذباً إذا تبينا أنه لم يرد
الأسد الحقيقي وليس كذلك بالإجماع وعلى هذا فلا نسلم امتناع نسخ الخبر كما
سيأتي تقريره.
المسألة الثانية اختلف القائلون بالعموم وتخصيصه في
الغاية التي يقع انتهاء التخصيص إليها: فمنهم من قال بجواز انتهاء التخصيص
في جميع ألفاظ العموم إلى الواحد ومنهم من أجاز ذلك في من خاصة دون ما
عداها من أسماء الجموع كالرجال والمسلمين وجعل نهاية التخصيص فيها أن يبقى
تحتها ثلاثة وهذا هو مذهب القفال من أصحاب الشافعي ومنهم من جعل نهاية
التخصيص في جميع الألفاظ العامة جمعاً كثيراً يعرف من مدلول اللفظ وإن لم
يكن محدوداً وهو مذهب أبي الحسين البصري وإليه ميل إمام الحرمين وأكثر
أصحابنا احتج من جوز الانتهاء في التخصيص إلى الواحد بالنص والإطلاق
والمعنى.
وأما النص فقوله تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " " الحجر 9 " وأراد به نفسه وحده.
وأما
الإطلاق فقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص وقد أنفذ إليه
القعقاع مع ألف فارس قد أنفذت إليك ألفي رجل أطلق اسم الألف الأخرى وأراد
بها القعقاع.
وأما المعنى فمن وجهين: الأول أنه لو امتنع الانتهاء في
التخصيص إلى الواحد فإما أن يكون لأن الخطاب صار مجازاً أو لأنه إذا استعمل
اللفظ فيه لم يكن مستعملاً فيما هو حقيقة فيه من الاستغراق وكل واحد من
الأمرين لو قيل بكونه مانعاً لزم امتناع تخصيص العام مطلقاً ولا بعدد ما
لأنه يكون مجازاً في ذلك العدد وغير مستعمل فيما هو حقيقة فيه وذلك خلاف
الإجماع.
الثاني: أن استعمال اللفظ في الواحد من حيث إنه بعض من الكل
يكون مجازاً كما في استعماله في الكثرة فإذا جاز التجوز باللفظ العام عن
الكثرة فكذا في الواحد.
ولقائل أن يقول: أما الآية فهي محمولة على تعظيم المتكلم وهو بمعزل عن التخصيص بالواحد.
وأما الإطلاق العمري فمحمول على قصد بيان أن ذلك الواحد قائم مقام الألف وهو غير معنى التخصيص.
وأما المعنى الأول فلا نسلم الحصر فيما قيل من القسمين بل المنع من ذلك إنما كان لعدم استعماله لغة.
وأما المعنى الثاني فمبني على جواز إطلاق اللفظ العام وإرادة الواحد مجازاً وهو محل النزاع.
وأما
حجة أبي الحسين البصري فإنه قال: لو قال القائل: قتلت كل من في البلد
وأكلت كل رمانة في الدار وكان فيها تقدير ألف رمانة وكان قد قتل شخصاً
واحداً أو ثلاثة وأكل رمانة واحدة أو ثلاث رمانات فإن كلامه يعد مستقبحاً
مستهجناً عند أهل اللغة وكذلك إذا قال لعبده: من دخل داري فأكرمه أو قال
لغيره: من عندك وقال: أردت به زيداً وحده أو ثلاثة أشخاص معينة أو غير
معينة كان قبيحاً مستهجناً ولا كذلك فيما إذا حمل على الكثرة القريبة من
مدلول اللفظ فإنه يعد موافقاً مطابقاً لوضع أهل اللغة.
وهذه الحجة وإن
كانت قريبة من السداد وقد قلده فيها جماعة كثيرة إلا أن لقائل أن يقول: متى
يكون ذلك مستهجناً منه إذا كان مريداً للواحد من جنس ذلك العدد الذي هو
مدلول اللفظ وقد اقترن به قرينة أو إذا لم يكن الأول ممنوع والثاني مسلم
وبيان ذلك النص وصحة الإطلاق.
أما النص فقوله تعالى: " الذين قال لهم
الناس إن الناس قد جمعوا لكم " " آل عمران 173 " وأراد بالناس القائلين
نعيم بن مسعود الأشجعي بعينه ولم يعد ذلك مستهجناً لاقترانه بالدليل.
وأما
الإطلاق فصحة قول القائل: أكلت الخبز واللحم وشربت الماء والمراد به واحد
من جنس مدلولات اللفظ العام ولم يكن ذلك مستقبحاً لاقترانه بالدليل.
نعم
إذا أطلق اللفظ العام وكان الظاهر منه إرادة الكل وما يقاربه في الكثرة
وهو مريد للواحد البعيد من ظاهر اللفظ من غير اقتران دليل به يدل عليه فإنه
يكون مستهجناً وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فعليك بالاجتهاد في
الترجيح.
الصنف الخامس في أدلة تخصيص العموم وهي قسمان متصلة ومنفصلة
القسم الأول في الأدلة المتصلة وهي أربعة أنواع: الاستثناء والشرط والصفة
والغاية النوع الأول: الاستثناء

وفيه مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي
معنى الاستثناء وصيغه وأقسامه أما الاستثناء فقال الغزالي: هو قول ذو صيغ
مخصوصة محصورة دال على أن المذكور به لم يرد بالقول الأول وهو باطل من
وجهين: الأول: أنه ينتقض بآحاد الاستثناءات كقولنا: جاء القوم إلا زيداً
فإنه استثناء حقيقة وليس بذي صيغ بل صيغة واحدة وهي إلا زيداً.
الثاني:
أنه يبطل بالأقوال الموجبة لتخصيص العموم الخارجة عن الاستثناء فإنها صيغ
مخصوصة وهي محصورة لاستحالة القول بعدم النهاية في الألفاظ الدالة وهي دالة
على أن المذكور بها لم يرد بالقول الأول وليست من الاستثناء في شيء وذلك
كما لو قال القائل: رأيت أهل البلد ولم أر زيداً واقتلوا المشركين ولا
تقتلوا أهل الذمة ومن دخل داري فأكرمه والفاسق منهم أهنه وأهل البلد كلهم
علماء وزيد جاهل إلى غير ذلك.
وقال بعض المتبحرين من النحاة: الاستثناء
إخراج بعض الجملة عن الجملة بلفظ إلا أو ما يقوم مقامه وهو منتقض بقول
القائل: رأيت أهل البلد ولم أر زيداً فإنه قائم مقام قوله: إلا زيداً في
إخراج بعض الجملة عن الجملة وليس باستثناء.
وقيل: إنه عبارة عما لا يدخل
في الكلام إلا لإخراج بعضه بلفظ إلا ولا يستقل بنفسه وهو أيضاً مدخول من
وجهين: الأول: أن الاستثناء لا لإخراج بعض الكلام وإنما يكون إخراجاً لبعض
ما دل عليه الكلام الأول وفرق بين الأمرين.
الثاني: أنه لو قال القائل:
جاء القوم غير زيد فإنه استثناء مع أن لفظة غير قد وجد فيها جميع ما ذكروه
من القيود سوى قوله: لا يدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه فإن غير قد يدخل في
الكلام لغرض النعتية إذا لم يجز في موضعها إلا كقولك: عندي درهم غير جيد
فإنه لا يحسن أن تقول في موضعها عندي درهم إلا جيداً فلا جرم كانت نعتاً
للدرهم وتابعة له في إعرابه وهذا بخلاف ما إذا قلت عندي درهم غير قيراط فإن
غير تكون استثنائية منصوبة لإمكان دخول إلا في موضعها ويمكن أن يقال هاهنا
إن النعتية ليست استثنائية فلا ترد على الحد.
والمختار في ذلك أن يقال:
الاستثناء عبارة عن لفظ متصل بجملة لا يستقل بنفسه دال بحرف إلا أو
أخواتها على أن مدلوله غير مراد مما اتصل به ليس بشرط ولا صفة ولا غاية.
فقولنا:
لفظ احتراز عن الدلالات العقلية والحسية الموجبة للتخصيص وقولنا: متصل
بجملة احتراز عن الدلائل المنفصلة وقولنا: ولا يستقل بنفسه احتراز عن مثل
قولنا: قام القوم وزيد لم يقم وقولنا: دال احتراز عن الصيغ المهملة وقولنا:
على أن مدلوله غير مراد مما اتصل به احتراز عن الأسماء المؤكدة والنعتية
كقول القائل جاءني القوم العلماء كلهم وقولنا بحرف إلا أو أخواتها احتراز
عن قولنا قام القوم دون زيد وفيه احتراز عن أكثر الإلزامات السابق ذكرها
وقولنا: ليس بشرط احتراز عن قول القائل لعبده: من دخل داري فأكرمه إن كان
مسلماً وقولنا ليس بصفة احتراز من قول القائل: جاءني بنو تميم الطوال
وقولنا: ليس بغاية احتراز عن قول القائل لعبده: أكرم بني تميم أبداً إلى أن
يدخلوا الدار وهذا الحد مطرد منعكس لا غبار عليه.
وإذا عرف معنى
الاستثناء فصيغه كثيرة وهي: إلا وغير وسوى وخلا وحاشا وعدا وما عدا وما خلا
وليس ولا يكون ونحوه وأم الباب في هذه الصيغ إلا لكونها حرفاً مطلقا
ولوقوعها في جميع أبواب الاستثناء لا غير ولها أحكام مختلفة في الإعراب
مستقصاة في كتب أهل الأدب لا مناسبة لذكرها فيما نحن فيه كما قد فعله من
غلب عليه حب العربية.
وهو منقسم إلى الاستثناء من الجنس ومن غير الجنس
كما يأتي تحقيقه عن قريب إن شاء الله تعالى ويجوز أن يكون متأخراً عن
المستثنى منه كما ذكرناه من الأمثلة وأن يكون متقدماً عليه مع الاتصال
كقولك خرج إلا زيداً القوم ومنه قول الكميت:
فما لي إلا أحمد شيعة ... وما لي إلا مذهب الحق مذهب
ويجوز
الاستثناء من الاستثناء من غير خلاف كقول القائل: له علي عشرة دراهم إلا
أربعة إلا اثنين ويدل عليه قوله تعالى: " إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين " "
الحجر 58 " إلى قوله: " إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته " "
الحجر 59 " استثنى آل لوط من أهل القرية واستثنى المرأة من الآل المنجين من
الهلاك وهذا ما أردنا ذكره من المقدمة وأما المسائل فخمس: المسألة الأولى

شرط
صحة الاستثناء عند أصحابنا وعند الأكثرين أن يكون متصلاً بالمستثنى منه
حقيقة من غير تخلل فاصل بينهما أو في حكم المتصل وهو ما لا يعد المتكلم به
آتياً به بعد فراغه من كلامه الأول عرفاً وإن تخلل بينهما فاصل بانقطاع
النفس أو سعال مانع من الاتصال حقيقة ونقل عن ابن عباس أنه كان يقول بصحة
الاستثناء المنفصل وإن طال الزمان شهراً.
وذهب بعض أصحاب مالك إلى جواز
تأخير الاستثناء لفظاً لكن مع إضمار الاستثناء متصلاً بالمستثنى منه ويكون
المتكلم به مديناً فيما بينه وبين الله تعالى ولعله مذهب ابن عباس.
وذهب بعض الفقهاء إلى صحة الاستثناء المنفصل في كتاب الله تعالى دون غيره حجة القائلين بالاتصال من ثلاثة أوجه.
الأول:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من حلف على شيء فرأى غيره
خيراً منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " وروي " فليكفر عن يمينه
وليأت الذي هو خير " ولو كان الاستثناء المنفصل صحيحاً لأرشد النبي صلى
الله عليه وسلم إليه لكونه طريقاً مخلصاً للحالف عند تأمل الخير في البر
وعدم الحنث لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يقصد التيسير والتسهيل ولا
يخفى أن الاستثناء أيسر وأسهل من التكفير فحيث لم يرشد إليه دل على عدم
صحته.
الثاني: أن أهل اللغة لا يعدون ذلك كلاماً منتظماً ولا معدوداً من
كلام العرب ولهذا فإنه لو قال: لفلان علي عشرة دراهم ثم قال بعد شهر أو
سنة إلا درهماً أو قال: رأيت بني تميم ثم قال بعد شهر: إلا زيداً فإنه لا
يعد استثناء ولا كلاماً صحيحاً كما لو قال رأيت زيداً ثم قال بعد شهر:
قائماً فإنهم لا يعدونه بذلك مخبراً عن زيد بشيء وكذلك لو قال السيد لعبده:
أكرم زيداً ثم قال بعد شهر: إن دخل داري فإنهم لا يعدون ذلك شرطاً.
الثالث:
أنه لو قيل بصحة الاستثناء المنفصل لما علم صدق صادق ولا كذب كاذب ولا حصل
وثوق بيمين ولا وعد ولا وعيد ولا حصل الجزم بصحة عقد نكاح وبيع وإجارة ولا
لزوم معاملة أصلاً لإمكان الاستثناء المنفصل ولو بعد حين ولا يخفى ما في
ذلك من التلاعب وإبطال التصرفات الشرعية وهو محال.
احتج الخصوم بأربعة
أمور: الأول ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والله لأغزون
قريشاً ثم سكت وقال بعده إن شاء الله " ولولا صحة الاستثناء بعد السكوت لما
فعله لكونه مقتدى به وأيضاً ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه سألته
اليهود عن عدة أهل الكهف وعن مدة لبثهم فيه فقال: " غداً أجيبكم " ولم يقل
إن شاء الله فتأخر عنه الوحي مدة بضعة عشر يوماً ثم نزل عليه: " ما يعلمهم
إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً " " الكهف 22 " إلى قوله: " ولا
تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت " "
الكهف 23 " فقال: إن شاء الله بطريق الإلحاق بخبره الأول ولو لم يكن ذلك
صحيحاً لما فعله.
الثاني: أن ابن عباس ترجمان القرآن ومن أفصح فصحاء العرب وقد قال بصحة الاستثناء المنفصل وذلك يدل على صحته.
الثالث: أن الاستثناء بيان وتخصيص للكلام الأول فجاز تأخيره كالنسخ والأدلة المنفصلة المخصصة للعموم.
الرابع: أن الاستثناء رافع لحكم اليمين فجاز تأخيره كالكفارة.
والجواب
عن الخبر الأول أن سكوته قبل الاستثناء يحتمل أنه من السكوت الذي لا يخل
بالاتصال الحكمي كما أسلفناه ويجب الحمل عليه موافقة لما ذكرناه من الأدلة.
وعن
الخبر الثاني أن قوله صلى الله عليه وسلم: " إن شاء الله " ليس عائداً إلى
خبر الأول بل إلى ذكر ربه إذا نسي تقديره أذكر ربي إذا نسيت إن شاء الله
وذلك كما إذا قال القائل لغيره: افعل كذا فقال: إن شاء الله أي أفعل إن شاء
الله.
وعن المنقول عن ابن عباس إن صح ذلك فلعله كان يعتقد صحة إضمار
الاستثناء ويدين المكلف بذلك فيما بينه وبين الله تعالى وإن تأخر الاستثناء
لفظاً وهو غير ما نحن فيه وإن لم يكن كذلك فهو أيضاً مخصوم بما ذكرناه من
الأدلة واتفاق أهل اللغة على إبطاله ممن سواه.
وعن الوجه الثالث أنه
قياس في اللغة فلا يصح لما سبق ثم هو منقوض بالخبر والشرط كما سبق كيف
والفرق بين التخصيص والاستثناء واقع من جهة الجملة من حيث إن التخصيص قد
يكون بدليل العقل والحس ولا كذلك الاستثناء وبينه وبين النسخ أن النسخ مما
يمتنع اتصاله بالمنسوخ بخلاف الاستثناء.

وعن الوجه الرابع بالفرق وهو
أن الكفارة رافعة لإثم الحنث لا لنفس الحنث والاستثناء مانع من الحنث فما
التقيا في الحكم حتى يصح قياس أحدهما على الآخر كيف وإن الخلاف إنما وقع في
صحة الاستثناء المنفصل من جهة اللغة لا من جهة الشرع ولا قياس في اللغة
على ما سبق.
المسألة الثانية اختلف العلماء في صحة الاستثناء من غير
الجنس: فجوزه أصحاب أبي حنيفة ومالك والقاضي أبو بكر وجماعة من المتكلمين
والنحاة ومنع منه الأكثرون.
وأما أصحابنا فمنهم من قال بالنفي ومنهم من
قال بالإثبات احتج من قال بالبطلان بأن الاستثناء استفعال مأخوذ من الثني
ومنه تقول: ثنيت الشيء إذا عطفت بعضه على بعض وثنيت فلاناً عن رأيه وثنيت
عنان الفرس وحقيقته أنه استخراج بعض ما تناوله اللفظ وذلك غير متحقق في مثل
قول القائل: رأيت الناس إلا الحمر لأن الحمر المستثناة غير داخلة في مدلول
المستثنى منه حتى يقال بإخراجها وثنيها عنه بل الجملة الأولى باقية بحالها
لم تتغير ولا تعلق للثاني بالأول أصلاً ومع ذلك فلا تحقق للاستثناء من
اللفظ ولا يمكن أن يقال بصحة الاستثناء بناء على ما وقع به الاشتراك من
المعنى بين المستثنى منه وإلا لصح استثناء كل شيء من كل شيء ضرورة أنه ما
من شيئين إلا وهما مشتركان في معنى عام لهما وليس كذلك كيف وأنه لو قال
القائل: جاء العلماء إلا الكلاب وقدم الحاج إلا الحمير كان مستهجناً لغة
وعقلاً وما هذا شأنه لا يكون وضعه مضافاً إلى أهل اللغة.
ولقائل أن
يقول: لا نسلم أن الاستثناء مأخوذ من الثني بل من التثنية وكأن الكلام كان
واحداً فثني وليس أحد الأمرين أولى من الآخر فإن قيل: لو كان الاستثناء
مأخوذاً من التثنية لكان كل ما وجد فيه معنى التثنية من الكلام استثناء
وليس كذلك.
قلنا: ولو كان مأخوذاً من الثني لكان كل ما وجد فيه الثني
والعطف استثناء وليس كذلك ولهذا لا يقال لمن عطف الثوب بعضه على بعض أو عطف
عنان الفرس إنه استثناء.
قولكم إن الاستثناء استخراج بعض ما تناوله
اللفظ دعوى في محل النزاع وكيف يدعى ذلك مع قول الخصم بصحة الاستثناء من
غير الجنس ولا دخول المستثنى تحت المستثنى منه وما ذكرتموه من الاستقباح لا
يدل على امتناع صحته في اللغة ولهذا فإنه لو قال القائل في دعائه: يا رب
الكلاب والحمير وخالقهم ارزقني وأعطني كان مستهجناً وإن كان صحيحاً من جهة
اللغة والمعنى.
ثم وإن سلمنا امتناع صحة الاستثناء من نفس الملفوظ به
مطابقة فما المانع من صحته نظراً إلى ما وقع به الاشتراك بين المستثنى
والمستثنى منه في المعنى اللازم المدلول للفظ مطابقه كما قال الشافعي إنه
لو قال القائل لفلان علي مائة درهم إلا ثوباً فإنه يصح ويكون معناه إلا
قيمة ثوب لاشتراكهما في ثبوت صفة القيمة لهما وكما قاله أبو حنيفة في
استثناء المكيل من الموزون وبالعكس لاشتراكهما في علة الربا.
قولكم: لو
صح ذلك لصح استثناء كل شيء من كل شيء ليس كذلك وما المانع أن تكون صحة
الاستثناء مشروطة بمناسبة بين المستثنى والمستثنى منه كما إذا قال القائل:
ليس لي نخل إلا شجر ولا إبل إلا بقر ولا بنت إلا ذكر ولا كذلك فيما إذا
قال: ليس لفلان بنت إلا أنه باع داره وأما القائلون بالصحة فقد احتجوا
بالمنقول والمعقول: أما المنقول فمن جهة القرآن والشعر والنثر.
أما
القرآن فقوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم " " البقرة 34 " "
فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين " " الأعراف 11 " وإبليس لم يكن من
جنس الملائكة لقوله تعالى في آية أخرى: " إلا إبليس كان من الجن ففسق عن
أمر ربه " " الكهف 50 " والجن ليسوا من جنس الملائكة ولأنه كان مخلوقاً من
نار على ما قال: " خلقتني من نار " " الأعراف 12 " والملائكة من نور ولأن
إبليس له ذرية على ما قال تعالى: " أفتتخذونه وذريته أولياء " " الكهف 50 "
ولا ذرية للملائكة فلا يكون من جنسهم وهو مستثنى منهم وقوله تعالى: "
أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب
العالمين " " الشعراء 75 " استثنى الباري تعالى من جملة ما كانوا يعبدون من
الأصنام وغيرها والباري تعالى ليس من جنس شيء من المخلوقات

وقوله
تعالى: " وما لهم به من علم إلا أتباع الظن " " النساء 157 " استثنى الظن
من العلم وليس من جنسه وقوله تعالى: " لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً
إلا قيلاً سلاماً سلاماً " " الواقعة 26 - 27 " استثنى السلام من اللغو
وليس من جنسه وقوله تعالى: " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون
تجارة عن تراض منكم " " النساء 29 " والتجارة ليست من جنس الباطل وقد
استثناها منه وقوله تعالى: " فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا " "
يس 43 " استثنى الرحمة من نفي الصريخ والإنقاذ وليست من جنسه وقوله تعالى: "
لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم " " هود 43 " ومن رحم ليس بعاصم بل
معصوم وليس المعصوم من جنس العاصم وقوله تعالى: " وما كان لمؤمن أن يقتل
مؤمناً إلا خطأ " " النساء 92 " استثنى الخطأ من القتل وليس من جنسه.
وأما الشعر فمن ذلك قول القائل منهم:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
والعيس ليست من جنس الأنيس وقال النابغة الذبياني:
وقفت فيها أصيلالا أسائلها ... عيت جواباً وما بالربع من أحد
إلا أواري لأياً ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
والأواري ليست من جنس الأحد وقال:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفنا ... بهن فلول من قراع الكتائب
وليس فلول السيوف عيباً لأربابها بل فخراً لهم وقد استثناها من العيوب وليست من جنسها.
وأما
النثر فقول العرب: ما زاد إلا ما نقص وما بالدار أحد إلا الوتد وما جاءني
زيد إلا عمرو استثنوا النقص من الزيادة والوتد من أحد وعمراً من زيد وليس
من جنسه.
وأما المعقول فهو أن الاستثناء لا يرفع جميع المستثنى منه فصح كاستثناء الدراهم من الدنانير وبالعكس.
ولقائل
أن يقول: أما الآية الأولى فلا نسلم أن إبليس لم يكن من جنس الملائكة
قولكم إنه كان من الجن قلنا: لا منافاة بين الأمرين: فإنه قد قال ابن عباس
وغيره من المفسرين إن إبليس كان من الملائكة من قبيل يقال لهم الجن لأنهم
كانوا خزان الجنان وكان إبليس رئيسهم وتسميته جنياً لنسبته إلى الجنة كما
يقال بغدادي ومكي ويحتمل أنه سمي بذلك لاجتنانه واختفائه ويدل على كونه من
الملائكة أمران: الأول أن الله تعالى استثناه من الملائكة والأصل أن يكون
من جنسهم للاتفاق على صحة الاستثناء من الجنس ووقع الخلاف في غيره الثاني
أن الأمر بالسجود لآدم إنما كان للملائكة بدليل قوله تعالى: " وإذ قلنا
للملائكة: اسجدوا لآدم " " البقرة 34 " ولو لم يكن إبليس من الملائكة لما
كان عاصياً للأمر المتوجه إلى الملائكة لكونه ليس منهم إذ الأصل عدم أمر
وراء ذلك الأمر ودليل عصيانه قوله تعالى: " إلا إبليس أبى واستكبر وكان من
الكافرين " " البقرة 34 " .
قولكم إن إبليس له ذرية ليس في ذلك ما ينافي
كونه من جنس الملائكة فلئن قلتم بأن التوالد لا يكون إلا من ذكر وأنثى
والملائكة لا إناث فيهم بدليل قوله تعالى: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد
الرحمن إناثاً " " الزخرف 19 " ذكر ذلك في معرض الإنكار والتوعد على قول
ذلك.
قلنا إنما يلزم من ذلك الإناث في الملائكة أن لو امتنع حصول الذرية إلا من جنسين وهو غير مسلم.
قولكم: إن إبليس مخلوق من نار والملائكة من نور لا منافاة أيضاً بين ذلك وبين كونه من الملائكة.
وأما
الآية الثانية فاستثناء الرب تعالى فيها من المعبودين وذلك قوله: " ما
كنتم تعبدون " " الشعراء 75 " وهم كانوا ممن يعبد الله مع الأصنام لأنهم
كانوا مشركين لا جاحدين لله تعالى فلا يكون الاستثناء من غير الجنس.
وأما
الآية الثالثة فجوابها من وجهين: الأول أن قوله تعالى: " وما لهم به من
علم إلا اتباع الظن " " النساء 157 " عام في كل ما يسمى علماً والظن يسمى
علماً ودليله قوله تعالى: " فإن علمتموهن مؤمنات " " الممتحنة 10 " وأراد
إن ظننتموهن لاستحالة اليقين بذلك وذلك إن كان من الأسماء المتواطئة فلا
يكون الاستثناء من غير الجنس وإن كان من الأسماء المشتركة أو المجازية فهو
من جملة الأسماء العامة كما سبق.
الثاني أن إلا فيها ليست للاستثناء بل هي بمعنى لكن وكذلك الحكم فيما بعدها من الآيات.

وأما
استثناء اليعافير والعيس من الأنيس فليس استثناء من غير الجنس لأنها مما
يؤنس بها فهي من جنس الأنيس وإن لم تكن من جنس الأنس بل وقد يحصل الأنس
بالآثار والأبنية والأشجار فضلاً عن الحيوان.
وأما استثناء الأواري من
أحد فإنما كان لأنه كما يطلق الأحد على الآدمي فقد يطلق على غيره من
الحيوانات والجمادات ولذلك يقال: رأيت أحد الحمارين وركبت أحد الفرسين
ورميت أحد الحجرين وأحد السهمين فلم يكن الاستثناء من غير الجنس من حيث إن
الأواري مما يصدق عليها لفظة أحد وبتقدير أن لا يكون من الجنس فإلا ليست
استثنائية حقيقة بل بمعنى لكن كما سبق.
وأما فلول السيوف فهو عيب في السيوف وإن كان يسبب فلولها فخراً ومدحة لأربابها فهو في الجملة استثناء من الجنس.
وقول العرب: ما زاد إلا ما نقص تقديره: ما زاد شيء إلا الذي نقص أي ينقص وهو استثناء من الجنس.
وقولهم: ما في الدار أحد إلا الوتد فجوابه كما سبق في الأواري من أحد وقوله ما جاءني زيد إلا عمرو فإلا بمعنى لكن.
وما ذكروه من المعقول قولهم: إن الاستثناء لا يرفع جميع المستثنى منه فشيء لا إشعار له بصحة الاستثناء من غير الجنس.
وأما
استثناء الدراهم من الدنانير ) وبالعكس فهو أيضاً محل النزاع عند القائلين
بعدم صحة الاستثناء من غير الجنس وإن تكلف بيان صحة الاستثناء من جهة
اشتراكهما في النقدية وجوهرية الثمنية فآئل إلى الاستثناء من الجنس.
المسألة
الثالثة اتفقوا على امتناع الاستثناء المستغرق كقوله له علي عشرة إلا عشرة
وإنما اختلفوا في استثناء النصف والأكثر فذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء
والمتكلمين إلى صحة استثناء الأكثر حتى إنه لو قال: له علي عشرة إلا تسعة
لم يلزمه سوى درهم واحد وذهب القاضي أبو بكر في آخر أقواله والحنابلة وابن
درستويه النحوي إلى المنع من ذلك وزاد القاضي أبو بكر والحنابلة القول
بالمنع من استثناء المساوي وقد نقل عن بعض أهل اللغة استقباح استثناء عقد
صحيح فلا يقول: له علي مائة إلا عشرة بل خمسة أو غير ذلك احتج من قال بصحة
استثناء الأكثر والمساوي بالمنقول والمعقول والحكم أما المنقول فمن جهة
القرآن والشعر.
أما القرآن فقوله تعالى: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
إلا من اتبعك من الغاوين " " الحجر 42 " وقال: " لأغوينهم أجمعين إلا عبادك
منهم المخلصين " " ص 83 " فإن استووا فقد استثنى المساوي وإن تفاوتوا
فأيهما كان أكثر فقد استثناه كيف وإن الغاوين أكثر بدليل قوله تعالى: "
وقليل من عبادي الشكور " " سبأ 13 " .
وقوله تعالى: " ولا تجد أكثرهم
شاكرين " " الأعراف 17 " وقوله تعالى: " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين "
" يوسف 103 " ولكن أكثرهم " لا يعقلون " " القصص 13 " ولا يؤمنون.
وأما الشعر فقوله:
أدوا التي نقصت تسعين من مائة ... ثم ابعثوا حكماً بالحق قوالا
وأما
المعقول فهو أن الاستثناء لفظ يخرج من الجملة ما لولاه لدخل فيها فجاز
إخراج الأكثر به كالتخصيص بالدليل المنفصل كاستثناء الأقل.
هذا ما يخص
الأكثر وأما المساوي فدليله قوله تعالى: " يا أيها المزمل قم الليل إلا
قليلاً نصفه " " المزمل 1 " استثنى النصف وليس بأقل.
وأما الحكم فعام
للأكثر والمساوي وهو أنه لو قال: له علي عشرة واستثنى منها خمسة أو تسعة
فإنه يلزمه في الأول خمسة وفي الثاني درهم باتفاق الفقهاء ولولا صحة
الاستثناء لما كان كذلك.
وفي هذه الحجج ضعف إذ لقائل أن يقول أما الآية
فالغاوون فيها وإن كانوا أكثر من العباد المخلصين بدليل النصوص المذكورة
فلا نسلم أن إلا في قوله: " إلا من اتبعك من الغاوين " " الحجر 42 "
للاستثناء بل هي بمعنى لكن وإن سلمنا أنها للاستثناء ولكن نحن إنما نمنع من
استثناء الأكثر إذا كان عدد المستثنى والمستثنى منه مصرحاً به كما إذا
قال: له علي مائة إلا تسعة وتسعين درهماً وأما إذا لم يكن العدد مصرحاً به
كما إذا قال له: خذ ما في الكيس من الدراهم سوى الزيوف منها فإنه يصح وإن
كانت الزيوف في نفس الأمر أكثر في العدد وكما إذا قال: جاءني بنو تميم سوى
الأوباش منهم فإنه يصح من غير استقباح وإن كان عدد الأوباش منهم أكثر.
وأما الشعر فلا استثناء فيه بل معناه: أدوا المائة التي سقط منها تسعون ولا يلزم أن يكون سقوطها بطريق الاستثناء.

وما
ذكروه من المعقول فحاصله يرجع إلى القياس في اللغة وهو فاسد كما سبق كيف
والفرق بين الأصل والفرع واقع من جهة الإجمال أما التخصيص فمن جهة أنه قد
يكون بدليل منفصل وبغير دليل لفظي كما يأتي.
وأما استثناء الأقل فلكونه غير مستقبح كما إذا قال: له علي عشرة إلا درهماً ولا كذلك قوله: له علي مائة إلا تسعة وتسعين.
وأما
قوله تعالى: " يا أيها المزمل " " المزمل 1 " فلا دلالة فيه على جواز
استثناء النصف إذ النصف غير مستثنى وإنما هو ظرف للقيام فيه وتقديره قم
الليل ونصفه إلا قليلاً.
وأما الحكم فدعوى الاتفاق عليه خطأ فإن من لا
يرى صحة استثناء الأكثر والمساوي فهو عنده بمنزلة الاستثناء المستغرق ولو
قال: له علي عشرة إلا عشرة لزمه العشرة وإنما ذهب إلى ذلك الفقهاء القائلون
بصحة استثناء الأكثر والمساوي.
وأما من قال بامتناع صحة استثناء الأكثر
والمساوي فقد احتج بأن الاستثناء على خلاف الأصل لكونه إنكاراً بعد إقرار
وجحداً بعد اعتراف غير أنا خالفناه في استثناء الأقل لمعنى لم يوجد في
المساوي والأكثر فوجب أن لا يقال بصحته فيه وبيان ذلك من وجهين: الأول: أن
المقر ربما أقر بمال وقد وفى بعضه غير أنه نسيه لقلته وعند إقراره ربما
تذكره فاستثناه فلو لم يصح استثناؤه لتضرر ولا كذلك في الأكثر والنصف لأنه
قلما يتفق الذهول عنه.
والثاني: أنه إذا قال: له علي مائة إلا درهماً لم
يكن مستقبحاً وإذا قال له علي مائة إلا تسعة وتسعين كان مستقبحاً
والمستقبح في لغة العرب لا يكون من لغتهم.
وهذه الحجة ضعيفة أيضاً إذ
لقائل أن يقول: لا نسلم أن الاستثناء على خلاف الأصل والقول بأنه إنكار بعد
إقرار إنما يصح ذلك أن لو لم يكن المستثنى والمستثنى منه جملة واحدة وإلا
فلا وإن سلمنا عدم الاتحاد ولكن لا نسلم مخالفة ذلك الأصل بل الأصل قبوله
لإمكان صدق المتكلم به ودفعاً للضرر عنه ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يكون قبول
ذلك في استثناء الأقل على خلاف الأصل والقول بأن ذلك مستقبح ركيك في لغة
العرب ليس فيه ما يمنع مع ذلك من استعماله ولهذا فإنه لو قال: له علي عشرة
إلا درهماً كان مستحسناً ولو قال: له علي عشرة إلا دانقاً ودانقاً إلى تمام
عشرين مرة كان في غاية الاستقباح وما منع ذلك من صحته واستعماله لغة.
المسألة
الرابعة الجمل المتعاقبة بالواو إذا تعقبها الاستثناء رجع إلى جميعها عند
أصحاب الشافعي رضي الله عنه وإلى الجملة الأخيرة عند أصحاب أبي حنيفة.
وقال
القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وجماعة من المعتزلة: إن كان الشروع
في الجملة الثانية إضراباً عن الأولى ولا يضمر فيها شيء مما في الأولى
فالاستثناء مختص بالجملة الأخيرة لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة الأولى
مع استقلالها بنفسها إلى غيرها إلا وقد تم مقصوده منها وذلك على أقسام
أربعة: القسم الأول: أن تختلف الجملتان نوعا كما لو قال أكرم بني تميم
والنحاة البصريون إلا البغاددة إذ الجملة الأولى أمر والثانية خبر.
القسم الثاني: أن تتحدا نوعاً وتختلفا اسماً وحكماً كما لو قال: أكرم بني تميم واضرب ربيعة إلا الطوال إذ هما أمران.
القسم الثالث: أن تتحدا نوعاً وتشتركا حكماً لا اسماً كما لو قال: سلم على بني تميم وسلم على بني ربيعة إلا الطوال.
القسم
الرابع: أن تتحدا نوعاً وتشتركا اسماً لا حكماً ولا يشترك الحكمان في غرض
من الأغراض كما لو قال: سلم على بني تميم واستأجر بني تميم إلا الطوال.
وأقوى هذه الأقسام في اقتضاء اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة القسم الأول ثم الثاني ثم الثالث والرابع.
وأما إن لم تكن الجملة الأخيرة مضربة عن الأولى بل لها بها نوع تعلق فالاستثناء راجع إلى الكل وذلك أربعة أقسام.
القسم
الأول: أن تتحد الجملتان نوعاً واسماً لا حكماً غير أن الحكمين قد اشتركا
في غرض واحد كما لو قال: أكرم بني تميم وسلم على بني تميم إلا الطوال
لاشتراكهما في غرض الإعظام.
القسم الثاني: أن تتحد الجملتان نوعاً
وتختلفا حكماً واسم الأولى مضمر في الثانية كما لو قال أكرم بني تميم
واستأجرهم وربيعة إلا الطوال.
القسم الثالث: بالعكس من الذي قبله كما لو قال: أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال.
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السابع Empty رد: كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السابع {السبت 9 يوليو - 17:51}


القسم الرابع: أن يختلف نوع الجمل المتعاقبة إلا انه قد أضمر في الجملة
الأخيرة ما تقدم أو كان غرض الأحكام المختلفة فيها واحدا كما في آية القذف
فإن جملها مختلفة النوع من حيث إن قوله تعالى: " فاجلدوهم ثمانين جلدة " "
النور 4 " أمر وقوله: " ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً " " النور 4 " نهي
وقوله " وأولئك هم الفاسقون " " النور 4 " خبر غير أنها داخلة تحت القسم
الأول من هذه الأقسام الأربعة لاشتراك أحكام هذه الجمل في غرض الانتقام
والإهانة وداخلة تحت القسم الثاني من جهة إضمار الاسم المتقدم فيها.
وذهب المرتضى من الشيعة إلى القول بالاشتراك وذهب القاضي أبو بكر والغزالي وجماعة من الأصحاب إلى الوقف.
والمختار
انه مهما ظهر كون الواو للابتداء فالاستثناء يكون مختصاً بالجملة الأخيرة
كما في القسم الأول من الأقسام الثانية المذكورة لعدم تعلق إحدى الجملتين
بالأخرى وهو ظاهر وحيث أمكن أن تكون الواو للعطف أو الابتداء كما في باقي
الأقسام السبعة فالواجب إنما هو الوقف.
وتحقيق ذلك متوقف على ذكر حجج
المخالفين وإبطالها ولنبدأ من ذلك بحجج القائلين بالعود إلى الجميع: الحجة
الأولى: أن الجمل المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة ولهذا فإنه
لا فرق في اللغة بين قوله: اضرب الجماعة التي منها قتلة وسراق وزناة إلا من
تاب وبين قوله: اضرب من قتل وسرق وزنا إلا من تاب فوجب اشتراكهما في عود
الاستثناء إلى الجميع وهي غير صحيحة وذلك لأنه إن قيل إنه لا فارق بين
الجملة والجملتين في أمر ما لزم أن يكون المتكثر واحدا والواحد متكثراً وهو
محال وإن قيل بالفرق فلا بد من جامع موجب للاشتراك في الحكم ومع ذلك
فحاصله يرجع إلى القياس في اللغة ولا سبيل إليه لما تقدم.
الحجة
الثانية: أن الإجماع منعقد على أنه لو قال: والله لا أكلت الطعام ولا دخلت
الدار ولا كلمت زيداً واستثنى بقوله: إن شاء الله أنه يعود إلى الجميع وهذه
الحجة أيضاً باطلة فإن العلماء وإن أطلقوا لفظ الاستثناء على التعليق على
المشيئة فمجاز وليس باستثناء حقيقة بل ذلك شرط كما في قوله: إن دخلت الدار
ويدل على كونه شرطاً لا استثناء أنه يجوز دخوله على الواحد مع أن الواحد لا
يدخله الاستثناء وذلك كقوله: أنت طالق إن شاء الله ولو قال: أنت طالق طلقة
إلا طلقة لم يصح ووقع به طلقة وكذلك إذا قال له: علي درهم إلا درهماً وإذا
كان شرطاً فلا يلزم من عوده إلى الجميع عود الاستثناء إلا بطريق القياس
ولا بد من جامع مؤثر ومع ذلك يكون قياساً في اللغة وهو باطل بما سبق وبهذا
يبطل إلحاقهم الاستثناء بالشرط وهو قولهم الاستثناء غير مستقل بنفسه فكان
عائداً إلى الكل كالشرط وهو ما إذا قال أكرم بني تميم وبني ربيعة إن دخلوا
الدار ولو صرح بذلك كان صحيحاً ولا كذلك في الاستثناء ولهذا فإنه لو قال:
إلا أن يتوبوا اضرب بني تميم وبني ربيعة لا يكون صحيحاً.
الحجة الثالثة:
أن الحاجة قد تدعو إلى الاستثناء من جميع الجمل وأهل اللغة مطبقون على أن
تكرار الاستثناء في كل جملة مستقبح ركيك مستثقل وذلك كما لو قال: إن دخل
زيد الدار فاضربه إلا أن يتوب وإن زنا فاضربه إلا أن يتوب فلم يبق سوى تعقب
الاستثناء للجملة الأخيرة.
ولقائل أن يقول: وإن كان ذلك مطولاً غير أنه
يعرف شمول الاستثناء للكل بيقين فلا يكون مستقبحاً وإن كان مستقبحاً فإنما
يمتنع أن لو كان وضع اللغة مشروطاً بالمستحسن وهو غير مسلم ودليله أنه لو
وقع الاستثناء كذلك فإنه يصح لغة ويثبت حكمه ولولا أنه من وضع اللغة لما
كان كذلك.
الحجة الرابعة: إن الاستثناء صالح أن يعود إلى كل واحدة من الجمل وليس البعض أولى من البعض فوجب العود إلى الجميع كالعام.
ولقائل
أن يقول: كونه صالحاً للعود إلى الجميع غير موجب لذلك ولهذا فإن اللفظ إذا
كان حقيقة في شيء ومجازاً في شيء فهو صالح للحمل على المجاز ولا يجب حمله
على المجاز.
وما ذكروه من الإلحاق بالعموم فغير صحيح لما علم مراراً.
الحجة الخامسة: أنه لو قال علي خمسة وخمسة إلا ستة فإنه يصح ولو كان مختصاً بالجملة الأخيرة لما صح لكونه مستغرقاً لها.

قلنا:
لا نسلم صحة الاستثناء على رأي لنا وإن سلمنا فإنما عاد إلى الجميع لقيام
الدليل عليه وذلك لأنه لا بد من إعمال لفظه مع الإمكان وقد تعذر استثناء
الستة من الجملة الأخيرة لكونه مستغرقاً لها وهو صالح للعود إلى الجميع
فحمل عليه ومع قيام الدليل على ذلك فلا نزاع وإنما النزاع فيما إذا ورد
الاستثناء مقارناً للجملة الأخيرة من غير دليل يوجب عوده إلى ما تقدم.
الحجة
السادسة: أنه لو قال القائل: بنو تميم وربيعة أكرموهم إلا الطوال فإن
الاستثناء يعود إلى الجميع فكذلك إذا تقدم الأمر بالإكرام ضرورة اتحاد
المعنى.
ولقائل أن يقول: حاصل ما ذكروه يرجع إلى القياس في اللغة وهو
باطل لما علم كيف والفرق ظاهر لأنه إذا تأخر الأمر عن الجمل فقد اقترن باسم
الجميع وهو قوله أكرموهم بخلاف الأمر المتقدم فإنه لم يتصل باسم الفريقين
بل باسم الفريق الأول.
الحجة السابعة: أنه إذا قال القائل: اضربوا بني
تميم وبني ربيعة إلا من دخل الدار فمعناه من دخل من الفريقين ولقائل أن
يقول ليس تقدير هذا المعنى أولى من تقدير إلا من دخل من ربيعة.
وأما حجج القائلين بعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فمن جهة النص والمعقول.
أما
النص فقوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء
فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا
الذين تابوا " " النور 4 " فإنه راجع إلى قوله وأولئك هم الفاسقون ولم يرجع
إلى الجلد بالاتفاق وأيضاً قوله تعالى: " فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة
إلى أهله " " النساء 92 " وقوله " إلا أن يصدقوا " " النساء 92 " راجع إلى
الدية دون الإعتاق بالاتفاق.
قلنا: أما الآية الأولى فلا نسلم اختصاص
الاستثناء بالجملة الأخيرة منها بل هو عائد إلى جميع الجمل عدا الجلد لدليل
دل عليه وهو المحافظة على حق الآدمي.
أما الآية الأخرى فإنما امتنع عود
الاستثناء إلى الإعتاق لأنه حق الله تعالى وتصدق الولي لا يكون مسقطاً لحق
الله تعالى: وأما من جهة المعقول فحجج: الحجة الأولى أن الاستثناء من
الجملة إذا تعقبه استثناء كان الاستثناء الثاني عائداً إلى الجملة
الاستثنائية لا إلى الجملة الأولى فدل على اختصاص الاستثناء بالجملة
المقارنة دون المتقدمة وإلا كان عدم عوده إلى المتقدمة على خلاف الأصل وذلك
كما لو قال له علي عشرة إلا أربعة إلا اثنين فإن الاستثناء الثاني يختص
بالأربعة دون العشرة.
ولقائل أن يقول: الاستثناء الثاني إما أن يكون
بحرف عطف أو لا بحرف عطف فإن كان الأول فهو راجع إلى الجملة المستثني منها
كقوله: له علي عشرة إلا ثلاثة وإلا اثنين فيكون المقر به خمسة وإن كان
الثاني كقوله: له علي عشرة إلا أربعة إلا اثنين فإنما امتنع عوده إلى
الجملة المستثني منها لدليل لا لعدم اقتضائه لذلك لغة وذلك أن الاستثناء
الثاني لو عاد إلى الجملة المستثني منها فإما أن يعود إليها لا غير أو
إليها وإلى الاستثناء: الأول ممتنع لأن الإجماع منعقد على دخول الاستثناء
الأول تحت الاستثناء الثاني فقطعه عنه ورده إلى الجملة المستثنى منها لا
غير يكون على خلاف الإجماع وإن كان عائداً إلى الاستثناء والمستثنى منه
فالمستثنى منه إثبات فالاستثناء منه يكون نفياً لأن الاستثناء من الإثبات
نفي والاستثناء من الاستثناء يكون إثباتاً لأن الاستثناء من النفي إثبات
على ما يأتي تقريره عن قريب وذلك ممتنع لوجهين: الوجه الأول: أنه يلزم منه
أن يكون قد أثبت لعوده إلى أحدهما مثل ما نفاه عن الآخر ويكون جابراً للنفي
بالإثبات ويبقى ما كان متحققاً قبل الاستثناء الثاني بحاله وفيه إلغاء
الاستثناء الثاني وخروجه عن التأثير وهو خلاف الإجماع.
الوجه الثاني:
أنه يلزم منه أن يكون بعوده إلى الجملة الأولى قد نفي عنها مثل ما أثبته
لها بعوده إلى الاستثناء الثاني فيكون الاستثناء الواحد مقتضياً لنفي شيء
وإثباته بالنسبة إلى شيء واحد وهو محال.
الحجة الثانية: أن الجملة الأخيرة حائلة بين الاستثناء والجملة الأولى فكان ذلك مانعاً من العود إليها كالسكوت.
ولقائل أن يقول: إنما يصح ذلك أن لو لم يكون الكلام كله بمنزلة جملة واحدة وأما إذا كان كالجملة الواحدة فلا.

الحجة
الثالثة: أنه استثناء تعقب جملتين فلا يكون بظاهره عائداً إليهما كما لو
قال: أنت طالق ثلاثاً وثلاثاً إلا أربعة فأنه لا يعود إلى الجميع وإلا لوقع
به طلقتان لا ثلاث طلقات.
قلنا: لا نسلم امتناع عوده إلى الجميع بل هو
عائد إلى الجميع والواقع طلقتان على رأي لنا وإن سلمنا امتناع عوده إلى
الجميع فلأن المعتبر من قوله ثلاثاً وثلاثاً إنما هو الجملة الأولى دون
الثانية فلو عاد الاستثناء إليها لكان مستغرقاً وهو باطل.
الحجة الرابعة: أن دخول الجملة الأولى تحت لفظه معلوم ودخولها تحت الاستثناء مشكوك فيه والشك لا يرفع اليقين.
قلنا:
لا نسلم تيقن دخوله مع اتصال الاستثناء بالكلام ثم وإن كان ذلك مما يمنع
من عود الاستثناء إلى الجمل المتقدمة فهو مانع من اختصاصه بالجملة الأخيرة
لجواز عوده بالدليل إلى الجملة المتقدمة دون المتأخرة ثم يلزم منه أن لا
يعود الشرط والصفة على باقي الجمل لما ذكروه وهو عائد عند أكثر القائلين
باختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة.
الحجة الخامسة: أنه لما كان
الاستثناء مما تدعو الحاجة إليه ولا يستقل بنفسه دعت الحاجة إلى عوده إلى
غيره وهذه الحاجة والضرورة مندفعة بعوده إلى ما يليه فلا حاجة إلى عوده إلى
غيره إذ هو خارج عن محل الحاجة وإنما وجب اختصاصه بما يليه دون غيره
لوجهين.
الأول: أنه إذا ثبت اختصاصه بجملة واحدة وجب عوده إلى ما يليه لامتناع عوده إلى غيره بالإجماع.
الثاني:
أنه قريب منه والقرب مرجح ولهذا وجب عود الضمير في قولهم: جاء زيد وعمرو
أبوه منطلق إلى عمرو لكونه أقرب مذكور فكان ما يلي الفعل من الاسمين اللذين
لا يظهر فيهما الإعراب بالفاعلية أولى كقولهم: ضربت سلمى سعدى وهذه الحجة
أيضاً مدخولة إذ لقائل أن يقول ما ذكرتموه إنما يصح أن لو لم تكن الحاجة
ماسة إلى عود الاستثناء إلى كل ما تقدم وذلك غير مسلم وإذا كانت الحاجة
ماسة إلى عوده إلى كل ما تقدم فلا تكون الحاجة مندفعة بعوده إلى ما يليه
فقط.
ثم ما ذكرتموه منتقض بالشرط والصفة وإن سلمنا أنه لا ضرورة ولكن لم
قلتم بامتناع عوده إلى ما تقدم وإن لم تكن ثم ضرورة ولهذا فإنه لو قام
دليل على إرادة عوده إلى الجميع فإنه يكون عائداً إليه إجماعاً وإنما
الخلاف في كونه حقيقة في الكلام أم لا.
الحجة السادسة: ذكرها القلانسي
وهي أن قال: نصب ما بعد الاستثناء في الإثبات إنما كان بالفعل المتقدم
بإعانة إلا على ما هو مذهب أكابر البصريين فلو قيل إن الاستثناء يرجع إلى
جميع الجمل لكان ما بعد إلا منتصباً بالأفعال المقدرة في كل جملة ويلزم منه
اجتماع عاملين على معمول واحد وذلك لا يجوز لأنه بتقدير مضادة أحد
العاملين في عمله للعامل الآخر يلزم منه أن يكون المعمول الواحد مرفوعاً
منصوباً معاً وذلك كما لو قلت: ما زيد بذاهب ولا قام عمرو وهو محال ولأنه
إما أن يكون كل واحد مستقلاً بالأعمال أولاً كل واحد منهما مستقل أو
المستقل البعض دون البعض فإن كان الأول لزم من ذلك عدم استقلال كل واحد
ضرورة أنه لا معنى لكون كل واحد مستقلاً إلا أن الحكم ثبت به دون غيره وإن
كان الثاني فهو خلاف الفرض وإن كان الثالث فليس البعض أولى من البعض.
ولقائل
أن يقول: لا نسلم أنه إذا قال: قام القوم إلا زيداً أن زيداً منصوب بقام
وإن سلمنا أنه منصوب بقام لكن بالفعل المحقق أو المقدر في كل جملة الأول
مسلم والثاني ممنوع والفعل المحقق غير زائد على واحد وأم حجج القائلين
بالاشتراك فثلاث: الحجة الأولى: أنه يحسن الاستفهام من المتكلم عن إرادة
عود الاستثناء إلى ما يليه أو إلى الكل ولو كان حقيقة في أحد هذه المحامل
دون غيره لما حسن ذلك وذلك يدل على الاشتراك وهذه الحجة مدخولة لجواز أن
يكون الاستفهام لعدم المعرفة بالمدلول الحقيقي والمجازي أصلاً كما تقوله
الواقفية أو لأنه حقيقة في البعض مجاز في البعض والاستفهام للحصول على
اليقين ودفع الاحتمال البعيد كما بيناه فيما تقدم.
الحجة الثانية: أنه
يصح إطلاق الاستثناء وإرادة عوده إلى ما يليه وإلى الجمل كلها وإلى بعض
الجمل المتقدمة دون البعض بإجماع أهل اللغة والأصل في الإطلاق الحقيقة
والمعاني مختلفة فكان مشتركاً.

ولقائل أن يقول: متى يكون الأصل في
الإطلاق الحقيقة إذا أفضى إلى الاشتراك المخل بمقصود أهل الوضع من وضعهم أو
إذا لم يفض؟ الأول ممنوع والثاني مسلم ثم وإن كان ذلك هو الأصل مطلقاً غير
أنه أمر ظني ولم قلتم بإمكان التمسك به فيما نحن فيه على ما هو معلوم من
قاعدة الواقفية.
الحجة الثالثة: أن الاستثناء فضلة لا تستقل بنفسها فكان
احتمال عوده إلى ما يليه وإلى جميع الجمل مساوياً كالحال وظرف الزمان
والمكان في قوله: ضربت زيداً وعمراً قائماً في الدار يوم الجمعة.
ولقائل
أن يقول: لا نسلم صحة ما ذكره في الحال والظرف بل هو عائد إلى الكل أو ما
يليه على اختلاف المذهبين وإن سلم ذلك غير أنه آئل إلى القياس في اللغة وهو
باطل كما سبق.
المسألة الخامسة مذهب أصحابنا أن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات خلافاً لأبي حنيفة.
ودليلنا
في ذلك أن القائل إذا قال: لا إله إلا الله كان موحداً مثبتاً للألوهية
لله سبحانه وتعالى ونافياً لها عما سواه ولو كان نافياً للألوهية عما سوى
الرب تعالى غير مثبت لها بالنسبة إلى الرب تعالى لما كان ذلك توحيداً لله
تعالى لعدم إشعار لفظه بإثبات الألوهية لله تعالى وذلك خلاف الإجماع.
وأيضاً
فإنه إذا قال القائل: لا عالم في البلد إلا زيد كان ذلك من أدل الألفاظ
على علم زيد وفضيلته وكان ذلك متبادراً إلى فهم كل سامع لغوي ولو كان
نافياً للعلم عما سوى زيد غير مثبت للعلم لزيد لما كان كذلك وعلى هذا النحو
في كل ما هو من هذا القبيل.
فإن قيل: لو كان الاستثناء من النفي
إثباتاً لكان قوله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا
بولي ولا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء " مقتضياً تحقق الصلاة عند وجود
الطهور والنكاح عند وجود الولي والبيع عند المساواة ولما لم يكن كذلك علم
أن المراد بالاستثناء إخراج المستثنى عن دخوله في المستثنى منه وأنه غير
متعرض لنفيه ولا إثباته.
قلنا: الطهور والولي والمساواة لا يصدق عليه
اسم ما استثني منه فكان استثناء من غير الجنس وهو باطل بما تقدم وإنما سبق
ذلك لبيان اشتراط الطهور في الصلاة والولي في النكاح والمساواة في صحة بيع
البر بالبر والشرط وإن لزم من فواته فوات المشروط فلا يلزم من وجوده وجود
المشروط لجواز انتفاء المقتضي أو فوات شرط آخر أو وجود مانع والله أعلم.
النوع
الثاني التخصيص بالشرط والنظر في حده وأقسامه وصيغ الشرط اللغوي وأحكامه
أما حده قال الغزالي: هو ما لا يوجد المشروط دونه ولا يلزم أن يوجد عند
وجوده وهو فاسد من وجهين: الأول أن فيه تعريف الشرط بالمشروط والمشروط مشتق
من الشرط فكان أخفى من الشرط وتعريف الشيء بما هو أخفى منه ممتنع.
الثاني: أنه يلزم عليه جزء السبب إذا اتحد فإنه لا يوجد الحكم دونه ولا يلزم من وجود الحكم عند وجوده وليس بشرط.
وقال
بعض أصحابنا: الشرط هو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر في تأثيره لا في ذاته
وهو فاسد أيضاً فإن الحياة القديمة شرط في وجود علم الباري تعالى وكونه
عالماً ولا تأثير ولا مؤثر.
والحق في ذلك أن يقال: الشرط هو ما يلزم من نفيه نفي أمر ما على وجه لا يكون سبباً لوجوده ولا داخلاً في السبب.
ويدخل
في هذا الحد شرط الحكم وهو ظاهر وشرط السبب من حيث إنه يلزم من نفي شرط
السبب انتفاء السبب وليس هو سبب السبب ولا جزؤه وفيه احتراز عن انتفاء
الحكم لانتفاء مداركه وعن انتفاء المدرك المعين وجزئه وهو منقسم إلى شرط
عقلي كالحياة للعلم والإرادة وإلى شرعي كالطهارة للصلاة والإحصان للرجم
وإلى لغوي وصيغه كثيرة وهي: إن الخفيفة وإذا ومن ومهما وحيثما وأينما وإذ
ما.
وأم هذه الصيغ إن الشرطية لأنها حرف وما عداها من أدوات الشرط أسماء
والأصل في إفادة المعاني للأسماء إنما هو الحروف ولأنها تستعمل في جميع
صور الشرط بخلاف أخواتها فإن كل واحدة منها تختص بمعنى لا تجري في غيره:
فمن لمن يعقل وما لما لا يعقل وإذا لما لا بد من وقوعه كقولك: إذا احمر
البسر فأتنا ونحو ذلك.
وأما أحكامه فمنها أنه يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه وذلك ضربان:

الأول:
أن يخرج منه ما علمنا خروجه بدليل آخر كقوله: أكرم بني تميم إن دخلوا
الدار فإنه يخرج من الكلام حالة عدم الاستطاعة وإن كان ذلك معلوما دون قوله
فيكون قوله مؤكداً.
الثاني: أنه يخرج منه ما لا يعلم خروجه دونه كقوله:
أكرم بني تميم إن دخلوا الدار فإنه يخرج منه حالة عدم دخول الدار ولولا
الشرط لعم الإكرام جميع الأحوال ولم يكن العلم بعدم الإكرام حالة عدم دخول
الدار حاصلاً لنا فكان مخصصاً للعموم.
وعلى كل تقدير لا يخلو إما أن
يتحد الشرط والمشروط أو يتعدد المشروط أو بالعكس أو يتعددان معاً فإن اتحد
الشرط والمشروط فمثاله ما سبق.
وأما إن اتحد الشرط وتعدد المشروط فإما
أن تكون المشروطات على الجمع أو على البدل: فإن كانت على الجمع كقوله: إن
دخل زيد الدار فأعطه ديناراً ودرهماً وإن كانت على البدل كقوله إن دخل زيد
الدار فأعطه ديناراً أو درهماً فالحكم كما لو اتحد المشروط.
وأما إن
تعدد الشرط واتحد المشروط فإما أن تكون الشروط على الجمع أو البدل: فإن كان
الأول فكقوله: أكرم بني تميم أبداً إن دخلوا الدار والسوق فمقتضى ذلك توقف
الإكرام على اجتماع الشرطين واختلاله باختلال أحدهما وإن كان على البدل
كقوله: أكرم بني تميم إن دخلوا السوق أو الدار فمقتضى ذلك توقف الإكرام على
تحقق أحد الشرطين واختلاله عند اختلالهما جميعاً.
وأما إن تعدد الشرط
والمشروط فإما أن يكون الشرط والمشروط على الجمع أو البدل أو الشرط على
الجمع والمشروطات على البدل أو بالعكس: فإن كان القسم الأول كقوله: إن دخل
زيد الدار والسوق فأعطه درهماً وديناراً فالإعطاء متوقف على اجتماع الشرطين
ومختل باختلالهما أو باختلال أحدهما وإن كان القسم الثاني فكقوله: إن دخل
زيد الدار أو السوق فأعطه درهماً أو ديناراً فإعطاء أحد الأمرين متوقف على
تحقق أحد الشرطين واختلاله باختلال مجموع الأمرين.
وإن كان القسم الثالث
كقوله: إن دخل زيد الدار والسوق فأعطه درهماً أو ديناراً فإعطاء أحد
الأمرين متوقف على اجتماع الشرطين واختلاله باختلال أحدهما.
وإن كان
الرابع كقوله: إن دخل زيد الدار أو السوق فأعطه درهماً وديناراً فإعطاء
الأمرين متوقف على أحد الشرطين ومختل باختلالهما معاً وسواء كان حصول الشرط
دفعة أو لا دفعة بل شيئاً فشيئاً.
ومن أحكامه أنه لا بد من اتصاله
بالمشروط لما تقدم في الاستثناء وأنه يجوز تقديمه على المشروط وتأخيره وإن
كان الوضع الطبيعي له إنما هو صدر الكلام والتقدم على المشروط لفظاً لكونه
متقدماً عليه في الوجود طبعاً ولو تعقب الشرط للجمل المتعاقبة فقد اتفق
الشافعي وأبو حنيفة على عوده إلى جميعها خلافاً لبعض النحاة في اعتقاده
اختصاصه بالجملة التي تليه كانت متقدمة أو متأخرة والكلام في الطرفين فعلى
ما سبق في الاستثناء والمختار كالمختار ولا يخفى وجهه.
النوع الثالث
تخصيص العام بالصفة وهي لا تخلو إما أن تكون مذكورة عقب جملة واحدة أو جمل:
فإن كان الأول كقوله أكرم بني تميم الطوال فإنه يقتضي اختصاص الإكرام
بالطوال منهم ولولا ذلك لعم الطوال والقصار فكانت الصفة مخرجة لبعض ما كان
داخلاً تحت اللفظ لولا الصفة.
وإن كان الثاني كقوله أكرم بني تميم وبني ربيعة الطوال فالكلام في عود الصفة إلى ما يليها أو إلى الجميع كالكلام في الاستثناء.
النوع
الرابع التخصيص بالغاية وصيغها إلى وحتى ولا بد وأن يكون حكم ما بعدها
مخالفاً لما قبلها وإلا كانت الغاية وسطاً وخرجت عن كونها غاية ولزم من ذلك
إلغاء دلالة إلى وحتى وهي لا تخلو أيضاً إما أن تكون مذكورة عقب جملة
واحدة أو جمل متعددة فإن كان الأول فإما أن تكون الغاية واحدة أو متعددة.
فإن
كانت واحدة كقوله: أكرم بني تميم أبداً إلى أن يدخلوا الدار فإن دخول
الدار يقتضي اختصاص الإكرام بما قبل الدخول وإخراج ما بعد الدخول عن عموم
اللفظ ولولا ذلك لعم الإكرام حالة ما بعد الدخول.

وإن كانت متعددة
فلا يخلو إما أن تكون على الجمع أو على البدل: فالأول كقوله أكرم بني تميم
أبداً إلى أن يدخلوا الدار ويأكلوا الطعام فمقتضى ذلك استمرار الإكرام إلى
تمام الغايتين دون ما بعدهما والثاني كقوله أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا
الدار أو السوق فمقتضى ذلك استمرار الإكرام إلى انتهاء إحدى الغايتين أيهما
كانت دون ما بعدها.
وأما إن كانت الغاية مذكورة عقب جمل متعددة فالكلام
في اختصاصها بما يليها وفي عودها إلى جميع الجمل كالكلام في الاستثناء
وسواء كانت الغاية واحدة أو متعددة على الجمع أو البدل ولا تخفى أمثلتها
ووجه الكلام فيها وسواء كانت الغاية معلومة الوقوع في وقتها كقوله إلى أن
تطلع الشمس أو غير معلومة الوقت كقوله إلى دخول الدار.
القسم الثاني في التخصيص بالأدلة المنفصلة وفيه أربع عشرة مسألة.
المسألة الأولى مذهب الجمهور من العلماء جواز تخصيص العموم بالدليل العقلي خلافاً لطائفة شاذة من المتكلمين.
ودليل
ذلك أن قوله تعالى: " الله خالق كل شيء " " الزمر 62 " وقوله: " وهو على
كل شيء قدير " " هود 4 " متناول بعموم لفظه لغة كل شيء مع أن ذاته وصفاته
أشياء حقيقة وليس خالقاً لها ولا هي مقدورة له لاستحالة خلق القديم الواجب
لذاته واستحالة كونه مقدوراً بضرورة العقل فقد خرجت ذاته وصفاته بدلالة
ضرورة العقل عن عموم اللفظ وذلك مما لا خلاف فيه بين العقلاء ولا نعني
بالتخصيص سوى ذلك فمن خالف في كون دليل العقل مخصصاً مع ذلك فهو موافق على
معنى التخصيص ومخالف في التسمية وكذلك قوله تعالى: " ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا " " آل عمران 97 " فإن الصبي والمجنون من الناس
حقيقة وهما غير مزادين من العموم بدلالة نظر العقل على امتناع تكليف من لا
يفهم ولا معنى للتخصيص سوى ذلك.
فإن قيل نحن لا ننكر أن ذات الباري
تعالى وصفاته وأن الصبي والمجنون مما لم يرد باللفظ وإنما ننكر كون دليل
العقل مخصصاً لثلاثة أوجه.
الأول: أن التخصيص إخراج بعض ما تناوله اللفظ
عنه وهو غير متصور فيما ذكرتموه وبيانه أن دلالات الألفاظ على المعاني
ليست لذواتها وإلا كانت دالة عليها قبل المواضعة وإنما دلالتها تابعة لمقصد
المتكلم وإرادته ونحن نعلم بالضرورة أن المتكلم لا يريد بلفظه الدلالة على
ما هو مخالف لصريح العقل فلا يكون لفظه دالاً عليه لغة ومع عدم الدلالة
اللغوية على الصورة المخرجة لا يكون تخصيصاً.
الثاني: أن التخصيص بيان
والمخصص مبين والبيان إنما يكون بعد سابقة الإشكال فيجب أن يكون البيان
متأخراً عن المبين ودليل العقل سابق فلا يكون مبيناً ولا مخصصاً كالاستثناء
المقدم.
الثالث: أن التخصيص بيان فلا يجوز بالعقل كالنسخ ثم وإن سلمنا
دلالة اللفظ لغة على ما ذكرتموه وجواز كون المخصص متقدماً ولكن ما المانع
أن تكون صحة الاحتجاج بالدليل العقلي مشروطة بعدم معارضة عموم الكتاب له
وبتقدير الاشتراط بذلك لا يكون حجة في التمسك به على الكتاب وإن سلمنا صحة
التخصيص في الآيتين المذكورتين أولاً ولكن لا نسلم صحة تخصيص الصبي
والمجنون عن عموم آية الحج فإن ما ذكرتموه مبني على امتناع خطابهما وكيف
يمكن دعوى ذلك مع دخولهما تحت الخطاب بأروش الجنايات وقيم المتلفات وإجماع
الفقهاء على صحة صلاة الصبي واختلافهم في صحة إسلامه ولولا إمكان دخوله تحت
الخطاب لما كان كذلك.
والجواب عن الأول: قولهم إن دلالات الألفاظ ليست لذواتها مسلم وأنه لا بد في دلالتها من قصد الواضع لها دالة على المعنى.
قولهم:
العاقل لا يقصد بلفظة الدلالة على ما هو ممتنع بصريح العقل قلنا: ذلك
ممتنع بالنظر إلى ما وضع اللفظ عليه لغة أو بالنظر إلى إرادته من اللفظ؟
الأول ممنوع والثاني مسلم وعند ذلك فلا منافاة بين كون اللفظ دالاً على
المعنى لغة وبين كونه غير مراد من اللفظ.
قولهم إن حق المخصص أن يكون
متأخراً عما خصصه قلنا: يجب أن يكون متأخراً بالنظر إلى ذاته أو بالنظر
إلى صفته وهو كونه مبيناً ومخصصاً الأول ممنوع والثاني مسلم وذلك لأن دليل
العقل وإن كان متقدماً في ذاته على الخطاب المفروض غير أنه لا يوصف قبل ذلك
بكونه مخصصاً لما يوجد وإنما يصير مخصصاً ومبيناً بعد وجود الخطاب وأما
الاستثناء فإنما لم يجز تقديمه لأن المتكلم به لا يعد متكلماً بكلام أهل
اللغة كما إذا قال إلا زيداً ثم قال بعد ذلك قام القوم وهذا بخلاف التخصيص
فإنه إذا قال: " الله خالق كل شيء " وقام الدليل العقلي على أنه لم يرد
بكلامه ذات الباري تعالى فإنه لا يخرج بذلك الكلام عن كونه متكلماً بكلام
العرب.
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السابع Empty رد: كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السابع {السبت 9 يوليو - 17:57}

وأما امتناع النسخ بالعقل فإنما كان من جهة أن الناسخ معرف لبيان مدة
الحكم المقصودة في نظر الشارع وذلك ما لا سبيل إلى الاطلاع عليه بمجرد
العقل بخلاف معرفة استحالة كون ذات الرب تعالى مخلوقة مقدورة.
قولهم: ما
المانع أن يكون التمسك بدليل العقل مشروطاً بعدم معارضة الكتاب له قلنا:
إذا وقع التعارض بينهما وأحدهما مقتض للإثبات والآخر للنفي فلا سبيل إلى
الجمع بين موجبيهما لما فيه من التناقض ولا إلى نفيهما لما فيه من وجود
واسطة بين النفي والإثبات فلم يبق إلا العمل بأحدهما والعمل بعموم اللفظ
مما يبطل دلالة صريح العقل بالكلية وهو محال والعمل بدليل العقل لا يبطل
عموم الكتاب بالكلية بل غايته إخراج بعض ما تناوله اللفظ من جهة اللغة عن
كونه مراداً للمتكلم وهو غير ممتنع فكان العمل بدليل العقل متعيناً.
قولهم:
إن الصبي والمجنون داخلان تحت الخطاب بأروش الجنايات وقيم المتلفات ليس
كذلك فإنا إن نظرنا إلى تعلق الحق بمالهما فهو ثابت بخطاب الوضع والأخبار
وهو غير متعلق بالصبي والمجنون وإن نظرنا إلى وجوب الأداء الثابت بخطاب
التكليف فهو متعلق بفعل وليهما لا بفعلهما.
وأما صحة صلاة الصبي واختلاف الناس في صحة إسلامه فلا يدل ذلك على كونه داخلاً تحت خطاب التكليف بالصلاة والإسلام.
أما
صحة الصلاة فمعناها انعقادها سبباً لثوابه وسقوط الخطاب عنه بها إذا صلى
في أول الوقت وبلغ في آخره لا بمعنى أنه امتثل أمر الشارع حتى يكون داخلاً
تحت خطاب التكليف من الشارع بل إن كان ولا بد فهو داخل تحت خطاب الولي
لفهمه بخطابه دون خطاب الشرع وعلى هذا يكون الجواب عن صحة إسلامه عند من
يقول بذلك وبتقدير امتناع تخصيص الصبي بدليل العقل مع تسليم جواز التخصيص
به في الجملة كما تقدم بيانه فغير مضر ولا قادح فإنه ليس المقصود تحقيق ذلك
في آحاد الصور.
وكما أن دليل العقل قد يكون مخصصاً للعموم فكذلك دليل
الحس وذلك كما في قوله تعالى: " تدمر كل شيء " " الأحقاف 25 " مع خروج
السماوات والأرض عن ذلك حساً وكذلك قوله تعالى: " ما تذر من شيء أتت عليه
إلا جعلته كالرميم " " الذاريات 42 " وقد أتت على الأرض والجبال ولم تجعلها
رميماً بدلالة الحس فكان الحس هو الدال على أن ما خرج عن عموم اللفظ لم
يكن مراداً للمتكلم فكان مخصصاً.
المسألة الثانية اتفق العلماء على جواز تخصيص الكتاب بالكتاب خلافاً لبعض الطوائف ودليله المنقول والمعقول.
وأما
المنقول فهو أن قوله: " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " " الطلاق 4 "
ورد مخصصاً لقوله تعالى: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن
بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً " " البقرة 234 " وقوله تعالى: " والمحصنات من
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " " المائدة 5 " ورد مخصصاً لقوله تعالى: "
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " " البقرة 221 " والوقوع دليل الجواز.
وأما
المعقول فهو أنه إذا اجتمع نصان من الكتاب أحدهما عام والآخر خاص وتعذر
الجمع بين حكميهما فإما أن يعمل بالعام أو الخاص: فإن عمل بالعام لزم منه
إبطال الدليل الخاص مطلقاً ولو عمل بالخاص لا يلزم منه إبطال العام مطلقاً
لإمكان العمل به فيما خرج عنه كما سبق فكان العمل بالخاص أولى ولأن الخاص
أقوى في دلالته وأغلب على الظن لبعده عن احتمال التخصيص بخلاف العام فكان
أولى بالعمل.
وعند ذلك فإما أن يكون الدليل الخاص المعمول به ناسخاً
لحكم العام في الصورة الخارجة عنه أو مخصصاً له والتخصيص أولى من النسخ
لثلاثة أوجه:

الأول: أن النسخ يستدعي ثبوت أصل الحكم في الصورة
الخاصة ورفعه بعد ثبوته والتخصيص ليس فيه سوى دلالته على عدم إرادة المتكلم
للصور المفروضة بلفظة العام فكان ما يتوقف عليه النسخ أكثر مما يتوقف عليه
التخصيص فكان التخصيص أولى.
الثاني: أن النسخ رفع بعد الإثبات والتخصيص منع من الإثبات والدفع أسهل من الرفع.
الثالث:
أن وقوع التخصيص في الشرع أغلب من النسخ فكان الحمل على التخصيص أولى
إدراجاً له تحت الأغلب وسواء جهل التاريخ أو علم وسواء كان الخاص متقدماً
أو متأخراً.
فإن قيل: لو كان الكتاب مبيناً للكتاب لخرج النبي صلى الله
عليه وسلم عن كونه مبيناً للكتاب وهو خلاف قوله تعالى: " لتبين للناس ما
نزل إليهم " " النحل 44 " وهو ممتنع.
قلنا: إضافة البيان إلى النبي صلى
الله عليه وسلم ليس فيه ما يمنع من كونه مبيناً للكتاب بالكتاب إذ الكل
وارد على لسانه فذكره الآية المخصصة يكون بياناً منه ويجب حمل وصفه بكونه
مبيناً على أن البيان وارد على لسانه كان الوارد على لسانه الكتاب أو السنة
لما فيه من موافقة عموم قوله تعالى: " ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء
" فإن مقتضاه أن يكون الكتاب مبيناً لكل ما هو من الكتاب لكونه شيئاً غير
أنا خالفناه في البعض فيجب بالبعض الآخر تقليلاً لمخالفة الدليل العام.
فإن
قيل: ما ذكرتموه وإن صح فيما إذا كان الخاص متأخراً ولا يصح فيما إذا جهل
التاريخ وذلك لأنه يحتمل أن يكون الخاص مقدماً فيكون العام بعده ناسخاً له
ويحتمل أن يكون العام متقدماً فيكون الخاص مخصصاً له ولم يترجح أحدهما على
الآخر فوجب التعارض والتساقط والرجوع إلى دليل آخر كما ذهب إليه أبو حنيفة
والقاضي أبو بكر والإمام أبو المعالي.
وإن سلمنا كون الخاص مخصصاً مع
الجهل بالتاريخ فلا يصح فيما إذا كان العام متأخراً عن الخاص فإنه يتعين أن
يكون ناسخاً لمدلول الخاص لا أن يكون الخاص مخصصاً للعام على ما ذهب إليه
أصحاب أبي حنيفة وبعض المعتزلة وبيانه من أربعة أوجه: الأول: أنه إذا قال:
اقتلوا المشركين فهو جار مجرى قوله اقتلوا زيداً المشرك وعمراً المشرك
وخالداً وهلم جرا فإذا الخاص كقوله اقتلوا زيداً المشرك إذا ورد العام بعده
بنفي القتل عن الجميع فهو ناص على زيد ولو قال اقتلوا زيداً لا تقتلوا
زيداً كان نسخاً.
الثاني: أن الخاص المتقدم يمكن نسخه والعام الوارد بعده مما يمكن أن يكون ناسخاً فكان ناسخاً.
الثالث: هو أن الخاص المتقدم متردد بين كونه منسوخاً ومخصصاً لما بعده وذلك مما يمنع من كونه مخصصاً لأن البيان لا يكون ملتبساً.
الرابع: قول ابن عباس كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث والعام المتأخر أحدث فوجب الأخذ به.
قلنا: أما الجواب عن التعارض عند الجهل بالتاريخ فيما ذكرناه من الأدلة السابقة على الترجيح.
وأما
الجواب عن حجج أصحاب أبي حنيفة: أما عن الأول فيمتنع كون العام في تناوله
لما تحته من الأشخاص جار مجرى الألفاظ الخاصة إذ الألفاظ الخاصة بكل واحد
واحد غير قابلة للتخصيص بخلاف اللفظ العام.
وعن الثاني: أنه لا يلزم من
إمكان نسخه للخاص الوقوع ولو لزم من الإمكان الوقوع للزم أن يكون الخاص
مخصصاً للعام لإمكان كونه مخصصاً له ويلزم من ذلك أن يكون الخاص منسوخاً
ومخصصاً لناسخه وهو محال.
وعن الثالث: أنهم إن أرادوا بتردد الخاص بين
كونه منسوخاً ومخصصاً أن احتمال التخصيص مساو لاحتمال النسخ فهو ممنوع لما
تقدم وإن أرادوا بذلك تطرق الاحتمالين إليه في الجملة فذلك لا يمنع من كونه
مخصصاً ولو منع ذلك من كونه مخصصاً لمنع تطرق احتمال كون العام مخصصاً
بالخاص إليه من كونه ناسخاً.
وعن الرابع: أنه قول واحد من الصحابة فيجب حمله على ما إذا كان الأحدث هو الخاص جمعاً بين الأدلة.
المسألة الثالثة تخصيص السنة بالسنة جائز عند الأكثرين ودليله المعقول والمنقول أما المعقول فما ذكرناه في تخصيص الكتاب بالكتاب.

وأما
المنقول فهو أن قوله صلى الله عليه وسلم: " لا زكاة فيما دون خمسة أوسق "
ورد مخصصاً لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " فيما سقت السماء العشر " فإنه
عام في النصاب وما دونه وقوله تعالى: " لتبين للناس ما نزل إليهم " " النحل
44 " مما لا يمنع من كونه مبيناً لما ورد على لسانه من السنة بسنة أخرى
كما ذكرناه في تخصيص الكتاب بالكتاب.
المسألة الرابعة يجوز تخصيص عموم السنة بخصوص القرآن عندنا وعند أكثر الفقهاء والمتكلمين ومنهم من منع من ذلك ودليله العقل والنقل.
أما
النقل فقوله تعالى: " وأنزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء " " النحل 89 "
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأشياء فكانت داخلة تحت العموم إلا
انه قد خص في البعض فيلزم العمل به في الباقي وأما المعقول فما ذكرناه في
تخصيص الكتاب بالكتاب.
فإن قيل: الآية معارضة بقوله تعالى: " لتبين
للناس ما نزل إليهم " " النحل 44 " ووجه الاحتجاج به أنه جعل النبي صلى
الله عليه وسلم مبيناً للكتاب المنزل وذلك إنما يكون بسنته فلو كان الكتاب
مبيناً للسنة لكان المبين بالسنة مبيناً لها وهو ممتنع وأيضاً فإن المبين
أصل والبيان تبع له ومقصود من أجله فلو كان القرآن مبينا للسنة لكانت السنة
أصلاً والقرآن تبعاً وهو محال.
وجواب الآية أنه لا يلزم من وصف النبي
صلى الله عليه وسلم بكونه مبيناً لما أنزل امتناع كونه مبيناً للسنة بما
يرد على لسانه من القرآن إذ السنة أيضاً منزلة على ما قال تعالى: " وما
ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " " النجم 3 " غير أن الوحي منه ما يتلى
فيسمى كتاباً ومنه ما لا يتلى فيسمى سنة وبيان أحد المنزلين بالآخر غير
ممتنع.
وما ذكروه من المعنى فغير صحيح فإن القرآن لا بد وأن يكون مبيناً
لشيء ضرورة قوله تعالى: " تبياناً لكل شيء " " النحل 89 " وأي شيء قدر كون
القرآن مبيناً له فليس القرآن تبعاً له ولا ذلك الشيء متبوعاً وأيضاً فإن
الدليل القطعي قد يبين به مراد الدليل الظني وليس منحطاً عن رتبة الظني.
المسألة
الخامسة يجوز تخصيص عموم القرآن بالسنة أما إذا كانت السنة متواترة فلم
أعرف فيه خلافاً ويدل على جواز ذلك ما مر من الدليل العقلي.
وأما إذا
كانت السنة من أخبار الآحاد فمذهب الأئمة الأربعة جوازه ومن الناس من منع
ذلك مطلقاً ومنهم من فصل وهؤلاء اختلفوا فذهب عيسى بن أبان إلى أنه إن كان
قد خص بدليل مقطوع به جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلا فلا وذهب الكرخي إلى أنه
إن كان قد خص بدليل منفصل لا متصل جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلا فلا وذهب
القاضي أبو بكر إلى الوقف والمختار مذهب الأئمة ودليله العقل والنقل.
أما
النقل فهو أن الصحابة خصوا قوله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم " "
النساء 24 " بما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: " لا
تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها " وخصوا قوله تعالى: " يوصيكم الله في
أولادكم " " النساء 11 " الآية بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يرث القاتل
ولا يرث الكافر من المسلم ولا المسلم من الكافر " وبما رواه أبو بكر من
قوله صلى الله عليه وسلم: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة "
وخصوا قوله تعالى: " فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك " " النساء
11 " بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل للجدة السدس وخصوا قوله
تعالى: " وأحل الله البيع " " البقرة 275 " بما روي عنه صلى الله عليه وسلم
أنه نهى عن بيع الدرهم بالدرهمين وخصوا قوله تعالى: " والسارق والسارقة " "
المائدة 38 " وأخرجوا منه ما دون النصاب بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا
قطع إلا في ربع دينار فصاعداً " وخصوا قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " "
التوبة 5 " بإخراج المجوس منه بما روي عنه عليه السلام أنه قال " سنوا بهم
سنة أهل الكتاب " إلى غير ذلك من الصور المتعددة ولم يوجد لما فعلوه نكير
فكان ذلك إجماعاً والوقوع دليل الجواز وزيادة وأما المعقول فما ذكرناه فيما
تقدم في تخصيص الكتاب بالكتاب.
فإن قيل: ما ذكرتموه من التخصيص في
الصور المذكورة لا نسلم أن تخصيصها كان بخبر الواحد ويدل عليه قوله صلى
الله عليه وسلم " إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه
فاقبلوه وما خالفه فردوه " والخبر فيما نحن فيه مخالف للكتاب فكان مردوداً.

قولهم
إن الصحابة أجمعوا على ذلك إن لم يصح فليس بحجة وإن صح فالتخصيص بإجماعهم
عليه لا بخبر الواحد كيف وأنه لا إجماع على ذلك ويدل عليه ما روي عن عمر بن
الخطاب أنه كذب فاطمة بنت قيس فيما روته عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان ذلك مخصصاً لعموم قوله تعالى: " أسكنوهن
من حيث سكنتم من وجدكم " " الطلاق 6 " وقال: كيف نترك كتاب ربنا وسنة
نبينا بقول امرأة.
وإن سلمنا الإجماع على أن التخصيص كان بخبر الواحد
لكن ليس في ذلك ما يدل على أن قول الواحد بمجرده مخصص بل ربما قامت الحجة
عندهم على صدقه وصحة قوله بقرائن وأدلة اقترنت بقوله فلا يكون مجرد إخباره
حجة.
وأما ما ذكرتموه من المعقول فنقول: خبر الواحد وإن كان نصاً في
مدلوله نظراً إلى متنه غير أن سنده مظنون محتمل للكذب بخلاف القرآن
المتواتر فإنه قطعي السند وقطعي في دلالته على كل واحد من الآحاد الداخلة
فيه لما بيناه في المسألة المتقدمة ولا يكون خبر الواحد واقعاً في معارضته
كما في النسخ.
وإن سلمنا أن العموم ظني الدلالة بالنسبة إلى آحاده لكن
متى إذا خص بدليل مقطوع على ما قاله عيسى بن إبان أو بدليل منفصل على ما
قاله الكرخي أو قبل التخصيص الأول مسلم لكونه صار مجازاً ظنياً والثاني
ممنوع لبقائه على حقيقته وعند ذلك فيمتنع التخصيص بخبر الواحد مطلقاً
لترجيح العام عليه قبل التخصيص بكونه قاطعاً في متنه وسنده.
وإن سلمنا
أن دلالة العام بالنظر إلى متنه ظنية مطلقاً غير أنه قطعي السند والخبر وإن
كان قاطعاً في متنه فظني في سنده فقد تقابلا وتعارضا ووجب التوقف على دليل
خارج لعدم أولوية أحدهما كما قال القاضي أبو بكر.
والجواب: قد بينا أن الصحابة أجمعوا على تخصيص العمومات بأخبار الآحاد حيث إنهم أضافوا التخصيص إليها من غير نكير فكان إجماعاً.
وما
ذكروه من الخبر فإنما يمنع من تخصيص عموم القرآن بالخبر أن لو كان الخبر
المخصص مخالفاً للقرآن وهو غير مسلم بل هو مبين للمراد منه فكان مقرراً لا
مخالفاً ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يفضي إلى تخصيص ما ذكروه من الخبر بالخبر
المتواتر من السنة فإنه مخصص للقرآن من غير خلاف.
قولهم إن صح إجماع
الصحابة فالتخصيص بإجماعهم لا بالخبر ليس كذلك فإن إجماعهم لم يكن على
تخصيص تلك العمومات مطلقاً بل على تخصيصها بأخبار الآحاد ومهما كان التخصيص
بأخبار الآحاد مجمعاً عليه فهو المطلوب.
وأما ما ذكروه من تكذيب عمر
لفاطمة بنت قيس فلم يكن ذلك لأن خبر الواحد في تخصيص العموم مردود عنده بل
لتردده في صدقها ولهذا قال: كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا
ندري أصدقت أم كذبت ولو كان خبر الواحد في ذلك مردوداً مطلقاً لما احتاج
إلى هذا التعليل.
قولهم: لم يكن إجماعهم على ذلك لمجرد خبر الواحد قلنا:
ونحن لا نقول بأن مجرد خبر الواحد يكون مقبولاً بل إنما يقبل إذا كان
مغلباً على الظن صدقه ومع ذلك فالأصل عدم اعتبار ما سواه في القول.
قولهم
إن سند الخبر ظني مسلم ولكن لا نسلم أن دلالة العموم على الآحاد الداخلة
فيه قطعية لاحتماله للتخصيص بالنسبة إلى أي واحد منها قدر وسواء كان قد خص
أو لم يكن على ما سبق بيانه.
وأما النسخ فلا نسلم امتناعه بخبر الواحد
وبتقدير التسليم فلأن النسخ رفع للحكم بعد إثباته بخلاف التخصيص لأنه بيان
لا رفع فلا يلزم مع ذلك من امتناع النسخ به امتناع التخصيص.
وما ذكروه
من السؤال الأخير في جهة التعارض فجوابه أن احتمال الضعف في خبر الواحد من
جهة كذبه وفي العام من جهة جواز تخصيصه ولا يخفى أن احتمال الكذب في حق من
ظهرت عدالته أبعد من احتمال التخصيص العام ولهذا كانت أكثر العمومات مخصصة
وليس أكثر أخبار العدول كاذبة فكان العمل بالخبر أولى ولأنه لو عمل بعموم
العام لزم إبطال العمل بالخبر مطلقاً ولو عمل بالخبر لم يلزم منه إبطال
العمل بالعام مطلقاً لإمكان العمل به فيما سوى صورة التخصيص والجمع بين
الدليلين ولو من وجه أولى من تعطيل أحدهما ولأن العمل بالعام إبطال للخاص
والعمل بالخاص بيان للعام لا إبطال له ولا يخفى أن البيان أولى من الإبطال.
المسألة السادسة

لا
أعرف خلافاً في تخصيص القرآن والسنة بالإجماع ودليله المنقول والمعقول:
أما المنقول فهو أن إجماع الأمة خصص آية القذف بتنصيف الجلد في حق العبد
كالأمة.
وأما المعقول فهو أن الإجماع دليل قاطع والعام غير قاطع في آحاد
مسمياته كما سبق تعريفه فإذا رأينا أهل الإجماع قاضين بما يخالف العموم في
بعض الصور علمنا أنهم ما قضوا به إلا وقد اطلعوا على دليل مخصص له نفيا
للخطأ عنهم وعلى هذا فمعنى إطلاقنا أن الإجماع مخصص للنص أنه معرف للدليل
المخصص لا أنه في نفسه هو المخصص.
وبالنظر إلى هذا المعنى أيضاً نقول:
إنا إذا رأينا عمل الصحابة وأهل الإجماع بما يخالف النص الخاص لا يكون ذلك
إلا لاطلاعهم على ناسخ للنص فيكون الإجماع معرفاً للناسخ لا أنه ناسخ وإنما
قلنا إن الإجماع نفسه لا يكون ناسخاً لأن النسخ لا يكون بغير خطاب الشارع
والإجماع ليس خطاباً للشرع وإن كان دليلاً على الخطاب الناسخ.
المسألة
السابعة لا نعرف خلافاً بين القائلين بالعموم والمفهوم أنه يجوز تخصيص
العموم بالمفهوم وسواء كان من قبيل مفهوم الموافقة أو من قبيل مفهوم
المخالفة حتى إنه لو قال السيد لعبده كل من دخل داري فاضربه ثم قال: إن دخل
زيد داري فلا تقل له: أف فإن ذلك يدل على تحريم ضرب زيد وإخراجه عن العموم
نظراً إلى مفهوم الموافقة وما سيق له الكلام من كف الأذى عن زيد وسواء قيل
إن تحريم الضرب مستفاد من دلالة اللفظ أو من القياس الجلي على اختلاف
المذاهب في ذلك كما يأتي وكذا لو ورد نص عام يدل على وجوب الزكاة في
الأنعام كلها ثم ورد قوله صلى الله عليه وسلم " في الغنم السائمة زكاة "
فإنه يكون مخصصاً للعموم بإخراج معلوفة الغنم عن وجوب الزكاة بمفهومه وإنما
كان كذلك لأن كل واحد من المفهومين دليل شرعي وهو خاص في مورده فوجب أن
يكون مخصصاً للعموم لترجح دلالة الخاص على دلالة العام كما سبق تقريره.
فإن
قيل: المفهوم وإن كان خاصاً وأقوى في الدلالة من العموم إلا أن العام
منطوق به والمنطوق أقوى في دلالته من المفهوم لافتقار المفهوم في دلالته
إلى المنطوق وعدم افتقار المنطوق في دلالته إلى المفهوم.
قلنا: إلا أن
العمل بالمفهوم لا يلزم منه إبطال العمل بالعموم مطلقاً ولا كذلك بالعكس
ولا يخفى أن الجمع بين الدليلين ولو من وجه أولى من العمل بظاهر أحدهما
وإبطال أصل الآخر.
المسألة الثامنة في تخصيص العموم بفعل الرسول صلى
الله عليه وسلم وقد اختلف القائلون بكون فعل الرسول حجة على غيره هل يجوز
تخصيصه للعموم أم لا؟ فأثبته الأكثرون كالشافعية والحنفية والحنابلة ونفاه
الأقلون كالكرخي.
وتحقيق الحق من ذلك يتوقف على التفصيل وهو أن نقول:
العام الوارد إما أن يكون عاماً للأمة والرسول كما لو قال صلى الله عليه
وسلم " الوصال أو استقبال القبلة في قضاء الحاجة أو كشف الفخذ حرام على كل
مسلم " وإما أن يكون عاماً للأمة دون الرسول كما لو قال صلى الله عليه
وسلم: " نهيتكم عن الوصال أو استقبال القبلة في قضاء الحاجة أو كشف الفخذ "
فإن كان الأول فإذا رأيناه قد واصل أو استقبل القبلة في قضاء الحاجة أو
كشف فخذه فلا خلاف في أن فعله يدل على إباحة ذلك الفعل في حقه ويكون مخرجاً
له عن العموم ومخصصاً.
وأما بالنسبة إلى غيره فإما أن نقول بأن اتباعه في فعله والتأسي به واجب على كل من سواه أو لا نقول ذلك.
فإن
قيل بالأول فيلزم منه رفع حكم العموم مطلقاً في حقه بفعله وفي حق غيره
بوجوب التأسي به فلا يكون ذلك تخصيصاً بل نسخا لحكم العموم مطلقاً بالنسبة
إليه وإلى غيره وإن قيل بالثاني كان ذلك تخصيصاً له عن العموم دون أمته.

وأما
إن كان عاماً للأمة دون الرسول ففعله لا يكون مخصصاً لنفسه عن العموم لعدم
دخوله فيه وأما بالنسبة إلى الأمة فإن قيل أيضاً بوجوب اتباع الأمة له في
فعله كان ذلك أيضاً نسخاً عنهم لا تخصيصا كما سبق وإن لم يكن ذلك واجباً
عليهم فلا يكون فعله مخصصاً للعموم أصلا لا بالنسبة إليه لعدم دخوله في
العموم ولا بالنسبة إلى الأمة وعلى هذا التفصيل فلا أرى للخلاف على هذا
التخصيص بفعل النبي وجهاً: أما إذا كان هو المخصص عن العموم وحده فلعدم
الخلاف فيه وأما في باقي الأقسام فلعدم تحقق التخصيص بل إن وقع الخلاف في
باقي الأقسام هل فعله يكون ناسخاً لحكم العموم فيها فخارج عن الخوض في باب
التخصيص والأظهر في ذلك إنما هو الوقف من جهة أن دليل وجوب التأسي واتباع
النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بدليل عام للأمة وهو مساو للعموم الآخر
في عمومه وليس العمل بأحدهما وإبطال الآخر أولى من العكس.
فإن قيل: بل
العمل بالفعل أولى لأنه خاص والخاص مقدم على العام قلنا: الفعل لم يكن
دليلاً على لزوم الحكم في حق باقي الأمة بنفسه بل لأدلة عامة موجبة على
الأمة لزوم الاتباع.
فإن قيل: إلا أن الفعل الخاص مع العمومات الموجبة للتأسي أخص من اللفظ العام مطلقاً ولأنه متأخر عن العام والمتأخر أولى بالعمل.
قلنا:
أما الفعل فلا نسلم أن له دلالة على وجوب تأسي الأمة بالنبي بوجه من
الوجوه بل الموجب شيء آخر وهو مساو للعام الآخر في عمومه وسواء كان الفعل
خاصاً أو عاماً وذلك الموجب للتأسي غير متأخر عن العام بل محتمل للتقدم
والتأخر من غير ترجيح حتى إنه لو علم التاريخ وجب العمل بالمتأخر منهما كيف
وإن القول بوجوب التأسي متوقف على وجود الفعل وعلى الدليل الدال على
التأسي ولا كذلك العام الآخر وما يتوقف العمل به على أمرين يكون أبعد مما
لا يتوقف العمل به إلا على شيء واحد.
المسألة التاسعة تقرير النبي صلى
الله عليه وسلم لما يفعله الواحد من أمته بين يديه مخالفاً للعموم وعدم
إنكاره عليه مع علمه به وعدم الغفلة والذهول عنه مخصص لذلك العام عند
الأكثرين خلافاً لطائفة شاذة.
ودليل ذلك أن تقريره له عليه دليل على
جواز ذلك الفعل له وإلا كان فعله منكراً ولو كان كذلك لاستحال من النبي صلى
الله عليه وسلم السكوت عنه وعدم النكير عليه وإذا كان التقرير دليل الجواز
وإن أمكن نسخ ذلك الحكم مطلقاً أو نسخه عن ذلك الواحد بعينه لكنه بعيد
واحتمال تخصيصه من العموم أولى وأقرب لما قررناه فيما تقدم وعند ذلك فإن
أمكن تعقل معنى أوجب جواز مخالفة ذلك الواحد للعموم فكل من كان مشاركاً له
في ذلك المعنى فهو مشارك له في تخصيصه عن ذلك العام بالقياس عليه عند من
يرى جواز تخصيص العام بالقياس على محل التخصيص وأما إن لم يظهر المعنى
الجامع فلا.
فإن قيل: التقرير لا صيغة له فلا يقع في مقابلة ما له صيغة
فلا يكون مخصصاً للعموم وبتقدير أن يكون مخصصاً فلا بد وأن يكون غير ذلك
الواحد مشاركاً له في حكمه وإلا فلو لم يكن غير ذلك الواحد مشاركاً له في
حكمه لصرح النبي صلى الله عليه وسلم بتخصيصه بذلك الحكم دون غيره دفعاً
لمحذور التلبيس على الأمة باعتقادهم المشاركة لذلك الواحد في حكمه لقوله
صلى الله عليه وسلم " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " .
قلنا: وإن
كان التقرير لا صيغة له غير أنه حجة قاطعة في جواز الفعل نفياً للخطأ عن
النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف العام فإنه ظني محتمل للتخصيص فكان موجباً
لتخصيصه وما ذكروه من وجوب المشاركة فبعيد وذلك لأن حكم ذلك الواحد لا
يخلو: إما أن يكون له أو عليه فإن كان له فقوله: حكمي على الواحد حكمي على
الجماعة لا يكون مرتبطاً به وإن كان عليه فقوله حكمي على الواحد حكمي على
الجماعة إنما يكون حجة موهمة لمشاركة الجماعة لذلك الواحد إن لو كان قوله
حكمي عاماً في كل حكم وهو غير مسلم وإذا لم يكن ذلك حجة عامة فلا تدليس ولا
تلبيس وبتقدير مشاركة الأمة لذلك الواحد في ذلك الحكم يكون نسخاً ولا يكون
تخصيصاً كما ظن بعضهم.
المسألة العاشرة

مذهب الشافعي في القول
الجديد ومذهب أكثر الفقهاء والأصوليين أن مذهب الصحابي إذا كان على خلاف
ظاهر العموم وسواء كان هو الراوي أو لم يكن لا يكون مخصصاً للعموم خلافاً
لأصحاب أبي حنيفة والحنابلة وعيسى بن أبان وجماعة من الفقهاء.
ودليله أن
ظاهر العموم حجة شرعية يجب العمل بها باتفاق القائلين بالعموم ومذهب
الصحابي ليس بحجة على ما سنبينه فلا يجوز ترك العموم به.
فإن قيل: إذا
خالف مذهب الصحابي العموم فلا يخلو إما أن يكون ذلك لدليل أو لا لدليل لا
جائز أن يكون لا لدليل وإلا وجب تفسيقه والحكم بخروجه عن العدالة وهو خلاف
الإجماع وإن كان ذلك لدليل وجب تخصيص العموم به جمعاً بين الدليلين إذ هو
أولى من تعطيل أحدهما كما علم غير مرة.
قلنا: مخالفة الصحابي للعموم
إنما كانت لدليل عن له في نطره وسواء كان في نفس الأمر مخطئاً فيه أو
مصيباً فلذلك لم نقض بتفسيقه لكونه مأخوذاً باتباع اجتهاده وما أوجبه ظنه
ومع ذلك فلا يكون ما عن له في نظره حجة متبعة بالنسبة إلى غيره بدليل جواز
مخالفة صحابي آخر له من غير تفسيق ولا تبديع وإذا لم يكن ما صار إليه حجة
واجبة الاتباع بالنسبة إلى الغير فلا يكون مخصصاً لظاهر العموم المتفق على
صحة الاحتجاج به مطلقاً.
المسألة الحادية عشرة إذا كان من عادة
المخاطبين تناول طعام خاص فورد خطاب عام بتحريم الطعام كقوله: حرمت عليكم
الطعام فقد اتفق الجمهور من العلماء على إجراء اللفظ على عمومه في تحريم كل
طعام على وجه يدخل فيه المعتاد وغيره وأن العادة لا تكون منزلة للعموم على
تحريم المعتاد دون غيره خلافاً لأبي حنيفة وذلك لأن الحجة إنما هي في
اللفظ الوارد وهو مستغرق لكل مطعوم بلفظه ولا ارتباط له بالعوائد وهو حاكم
على العوائد فلا تكون العوائد حاكمة عليه.
فإن قيل: إذا منعتم من تجويز
تخصيص العموم بالعادة وتنزيل لفظ الطعام على ما هو المعتاد المتعارف عند
المخاطبين فما الفرق بينه وبين تخصيص اللفظ ببعض مسمياته في اللغة بالعادة
وذلك كتخصيص اسم الدابة بذوات الأربع وإن كان لفظ الدابة عاماً في كل ما
يدب وكتخصيص اسم الثمن في البيع بالنقد الغالب في البلد حتى إنه لا يفهم من
إطلاق لفظ الدابة والثمن غير ذوات الأربع والنقد الغالب في البلد.
قلنا:
الفرق بين الأمرين أن العادة في محل النزاع إنما هي مطردة في اعتياد أكل
ذلك الطعام المخصوص لا في تخصيص اسم الطعام بذلك الطعام الخاص فلا يكون ذلك
قاضياً على ما اقتضاه عموم لفظ الطعام مع بقائه على الوضع الأصلي وهذا
بخلاف لفظ الدابة فإنه صار بعرف الاستعمال ظاهراً في ذوات الأربع وضعاً حتى
إنه لا يفهم من إطلاق لفظ الدابة غير ذوات الأربع فكان قاضياً على
الاستعمال الأصلي حتى إنه لو كانت العادة في الطعام المعتاد أكله قد خصصت
بعرف الاستعمال اسم الطعام بذلك الطعام لكان لفظ الطعام منزلاً عليه دون
غيره ضرورة تنزيل مخاطبة الشارع للعرب على ما هو المفهوم لهم من لغتهم وفيه
دقة مع وضوحه.
المسألة الثانية عشرة اتفق الجمهور على أنه إذا ورد لفظ
عام ولفظ خاص يدل على بعض ما يدل عليه العام لا يكون الخاص مخصصاً للعام
بجنس مدلول الخاص ومخرجاً عنه ما سواه خلافاً لأبي ثور من أصحاب الشافعي
وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم " أيما إهاب دبغ فقد طهر " فإنه عام في كل
إهاب وقوله صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة " دباغها طهورها " وإنما لم
يكن مخصصاً له لأنه لا تنافي بين العمل بالخاص وإجراء العام على عمومه ومع
إمكان إجراء كل واحد على ظاهره لا حاجة إلى العمل بأحدهما ومخالفة الآخر.
فإن
قيل: فقد اخترتم أن المفهوم يكون مخصصاً للعموم عند القائل به وتخصيص جلد
الشاة بالذكر يدل بمفهومه على نفي الحكم عما سوى الشاة من جلود باقي
الحيوانات فكان مخصصاً للعموم الوارد بتطهيرها.

قلنا: أما من نفي كون
المفهوم حجة وأبطل دلالته كما يأتي تحقيقه فلا أثر لإلزامه به هاهنا ومن
قال بالمفهوم المخصص للعموم إنما قال به في مفهوم الموافقة ومفهوم الصفة
المشتقة كما سبق في المسألة المتقدمة لا في مفهوم اللقب وتخصيص جلد الشاة
بالذكر لا يدل على نفي الطهارة بالدباغ عن باقي جلود الحيوانات كالإبل
والبقرة وغيرها إلا بطريق مفهوم اللقب وليس بحجة على ما يأتي تحقيقه ولهذا
فإنه لو قال: عيسى رسول الله فإنه لا يدل على أن محمداً ليس برسول الله
وكذلك إذا قال: الحادث موجود لا يدل على أن القديم ليس بموجود وإلا كان ذلك
كفراً.
المسألة الثالثة عشرة اللفظ العام إذا عقب بما فيه ضمير عائد
إلى بعض العام المتقدم لا إلى كله هل يكون خصوص المتأخر مخصصاً للعام
المتقدم بما الضمير عائد إليه أو لا؟ اختلفوا فيه: فذهب بعض أصحابنا وبعض
المعتزلة كالقاضي عبد الجبار وغيره إلى امتناع التخصيص بذلك ومنهم من جوزه
ومنهم من توقف كإمام الحرمين وأبي الحسين البصري وذلك كما في قوله تعالى: "
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قرؤ " " البقرة 228 " فإنه عام في كل
الحرائر المطلقات بوائن كن أو رجعيات ثم قال: " وبعولتهن أحق بردهن " "
البقرة 228 " فإن الضمير فيه إنما يرجع إلى الرجعيات دون البوائن وعلى هذا
النحو.
والمختار بقاء اللفظ الأول على عمومه وامتناع تخصيصه بما تعقبه
وذلك لأن مقتضى اللفظ إجراؤه على ظاهره من العموم ومقتضى اللفظ الثاني عود
الضمير إلى جميع ما دل عليه اللفظ المتقدم إذ لا أولوية لاختصاص بعض
المذكور السابق به دون البعض فإذا قام الدليل على تخصيص الضمير ببعض
المذكور السابق وخولف ظاهره لم يلزم منه مخالفة الظاهر الأخير بل يجب
إجراؤه على ظاهره إلى أن يقوم الدليل على تخصيصه.
فإن قيل: إنما يلزم
مخالفة ظاهر ما اقتضاه الضمير من العود إلى كل المذكور السابق إذا أجرينا
اللفظ السابق على عمومه وليس القول بإجرائه على عمومه ومخالفة ظاهر الضمير
أولى من إجراء ظاهر الضمير على مقتضاه وتخصيص المذكور السابق وإذا لم يترجح
أحدهما وجب الوقف.
قلنا: بل إجراء اللفظ المتقدم على عمومه وتخصيص
المتأخر أولى من العكس لأن دلالة الأول ظاهرة ودلالة الثاني غير ظاهرة ولا
يخفى أن دلالة المظهر أقوى من دلالة المضمر فكان راجحاً.
المسألة
الرابعة عشرة القائلون بكون العموم والقياس حجة اختلفوا في جواز تخصيص
العموم بالقياس: فذهب الأئمة الأربعة والأشعري وجماعة من المعتزلة كأبي
هاشم وأبي الحسين البصري إلى جوازه مطلقاً وذهب الجبائي وجماعة من المعتزلة
إلى تقديم العام على القياس وذهب ابن سريج وغيره من أصحاب الشافعي إلى
جواز التخصيص بجلي القياس دون خفيه وذهب عيسى بن أبان والكرخي إلى جواز
التخصيص بالقياس للعام المخصص دون غيره غير أن الكرخي اشترط أن يكون العام
مخصصاً بدليل منفصل وأطلق عيسى بن أبان ومنهم من جوز التخصيص بالقياس إذا
كان أصل القياس من الصور التي خصت عن العموم دون غيره وذهب القاضي أبو بكر
وإمام الحرمين إلى الوقف.
والمختار أنه إذا كانت العلة الجامعة في القياس ثابتة بالتأثير أي بنص أو إجماع جاز تخصيص العموم به وإلا فلا.
أما إذا كانت العلة مؤثرة فلأنها نازلة منزلة النص الخاص فكانت مخصصة للعموم كتخصيصه بالنص كما سبق تعريفه.
وأما
إذا كانت العلة مستنبطة غير مؤثرة فإنما قلنا بامتناع التخصيص بها للإجمال
والتفصيل: أما الإجمال فهو أن العام في محل التخصيص: إما أن يكون راجحاً
على القياس المخالف له أو مرجوحاً أو مساوياً فإن كان راجحاً امتنع تخصيصه
بالمرجوح وإن كان مساوياً فليس العمل بأحدهما أولى من الآخر وإنما يمكن
التخصيص بتقدير أن يكون القياس في محل المعارضة راجحاً ولا يخفى أن وقوع
احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه وأما التفصيل فهو أن
العموم ظاهر في كل صورة من آحاد الصور الداخلة تحته وجهة ضعفه غير خارجة عن
احتمال تخصيصه أو كذب الراوي إن كان العام من أخبار الآحاد.
وأما
احتمالات ضعف القياس فكثيرة جداً وذلك لأنه وإن كان متناولاً لمحل المعارضة
بخصوصه إلا أنه يحتمل أن يكون دليل حكم الأصل من أخبار الآحاد التي يتطرق
إليها الكذب
وبتقدير أن يكون طريق إثباته قطعياً فيحتمل أن يكون
المستنبط القياس ليس أهلا له وبتقدير أن يكون أهلاً فيحتمل أن لا يكون
الحكم في نفس الأمر معللا بعلة ظاهرة وبتقدير أن يكون معللاً بعلة ظاهرة
فلعلها غير ما ظنه القائس علة ولم يظهر عليها أو أنه أخطأ في طريق إثبات
العلة فأثبتها بما لا يصلح للإثبات وبتقدير أن تكون العلة ما ظنه فلعله ظن
وجودها في الفرع ولا وجود لها فيه وبتقدير أن تكون موجودة فيه يحتمل أن
يكون قد وجد في الفرع مانع السبب أو مانع الحكم أو فات شرط السبب فيه أو
شرط الحكم فكان العموم لذلك راجحاً كيف وأن العموم من جنس النصوص والنص غير
مفتقر في العمل به في جنسه إلى القياس والقياس متوقف في العمل به على النص
لأنه إن ثبت كونه حجة بالنص فظاهر وإن كان بالإجماع فالإجماع متوقف على
النص فكان القياس متوقفاً على النص فكان جنس النص لذلك راجحاً ولذلك وقع
القياس مؤخراً في حديث معاذ في العمل به عن العمل بالكتاب والسنة حيث قال
له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قاضياً " بم تحكم؟ قال:
بكتاب الله قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله قال: فإن لم تجد؟ قال:
أجتهد رأيي فقال صلى الله عليه وسلم: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله
لما يحبه الله ورسوله " ومقتضى ذلك أن لا تتقدم السنة على الكتاب غير أنا
خالفناه في تقديم خاص السنة على عام الكتاب فوجب العمل به فيما عداه.
وهذه الاحتمالات كلها إن لم توجب الترجيح فلا أقل من المساواة وعلى كلا التقديرين فيمتنع تخصيص العام بالقياس.
فإن
قيل: القول بالوقف خلاف الإجماع قبل وجود الواقفية إذ الأمة مجمعة على
تقديم أحدهما وإن اختلفوا في التعيين ولأن القول بالوقف مما يفضي إلى تعطيل
الدليلين عن العمل بهما والمحذور فيه فوق المحذور في العمل بأحدهما فالعمل
بالقياس أولى لأنا لو عملنا بالعموم لزم منه إبطال العمل بالقياس مطلقاً
ولو عملنا بالقياس لم يلزم منه إبطال العموم مطلقاً لإمكان العمل به فيما
عدا صورة التخصيص ولا يخفى أن الجمع بين الدليلين ولو من وجه أولى من العمل
بأحدهما وتعطيل الآخر.
قلنا: نحن لا نقول بالوقف لما بيناه من ترجيح
العمل بالعموم على العمل بالقياس وبتقدير القول بالوقف لا نسلم إجماع الأمة
على إبطاله بل غايته أن كل واحد رأى ترجيحاً فيما ذهب إليه وذلك لا يدل
على إجماعهم على إبطال الوقف إلا أن يوجد منهم التصريح بذلك وهو غير مسلم
ولهذا فإن كل واحد من المجتهدين لا يقطع بإبطال مذهب مخالفه مع مصيره إلى
نفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه فلأن لا يكون قاطعاً بإبطاله عند توقفه في
نفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه أولى.
قولهم إن العمل بالقياس غير مبطل
للعمل بالعموم قلنا: في محل المعارضة أو في غيرها؟ الأول ممنوع والثاني
مسلم والنزاع إنما وقع في الترجيح في محل المعارضة دون غيره.
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السابع Empty رد: كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السابع {السبت 9 يوليو - 17:58}

وبالجملة فلا يمتنع على المجتهد في هذه المسألة الحكم بالوقف أو الترجيح
على حسب ما يظهر في نظره في آحاد الوقائع من القرائن والترجيحات الموجبة
للتفاوت أو التساوي من غير تخطئة إذ الأدلة فيها نفياً وإثباتاً ظنية غير
قطعية فكانت ملحقة بالمسائل الاجتهادية دون القطعية خلافاً للقاضي أبي بكر
ويجب أن نختم الكلام في أدلة التخصيص بالفرق بين التخصيص والاستثناء.
أما
على رأي من يزعم أن الاستثناء والمستثنى منه كالكلمة الواحدة كما سبق فلا
خفاء بأن الاستثناء لا يكون تخصيصاً بل هو مباين له وأما من يرى أن
الاستثناء تخصيص فهو نوع من التخصيص عنده فكل استثناء تخصيص وليس كل تخصيص
استثناء وذلك لأن الاستثناء لا بد وأن يكون متصلاً بالمستثنى منه على ما
تقدم تقريره وأنه لا يثبت بقرائن الأحوال بخلاف غيره من أنواع التخصيص وعلى
هذا يكون الحكم في التخصيص بذكر الشرط والغاية أيضاً.
/بسم الله الرحمن الرحيم الصنف السادس في المطلق والمقيد أما المطلق فعبارة عن النكرة في سياق الإثبات.
فقولنا نكرة احتراز عن أسماء المعارف وما مدلوله واحد معين أو عام مستغرق.

وقولنا
في سياق الإثبات احتراز عن النكرة في سياق النفي فإنها تعم جميع ما هو من
جنسها وتخرج بذلك عن التنكير لدلالة اللفظ على الاستغراق وذلك كقولك في
معرض الأمر اعتق رقبة أو مصدر الأمر كقوله: " فتحرير رقبة " المجادلة 3 أو
الإخبار عن المستقبل كقوله سأعتق رقبة ولا يتصور الإطلاق في معرض الخبر
المتعلق بالماضي كقوله رأيت رجلا ضرورة تعينه من إسناد الرؤية إليه.
وإن
شئت قلت هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه فقولنا لفظ كالجنس للمطلق
وغيره وقولنا دال احتراز عن الألفاظ المهملة وقولنا على مدلول ليعم الوجود
والعدم وقولنا شائع في جنسه احتراز عن أسماء الأعلام وما مدلوله معين أو
مستغرق.
وأما المقيد فإنه يطلق باعتبارين: الأول ما كان من الألفاظ
الدالة على مدلول معين كزيد وعمرو وهذا الرجل ونحوه الثاني ما كان من
الألفاظ دالاً على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه كقولك دينار مصري
ودرهم مكي وهذا النوع من المقيد وإن كان مطلقا في جنسه من حيث هو دينار
مصري ودرهم مكي غير أنه مقيد بالنسبة إلى مطلق الدينار والدرهم فهو مطلق من
وجه ومقيد من وجه.
وإذا عرف معنى المطلق والمقيد فكل ما ذكرناه في
مخصصات العموم من المتفق عليه والمختلف فيه والمزيف والمختار فهو بعينه جار
في تقييد المطلق فعليك باعتباره ونقله إلى هاهنا.
ونزيد مسألةً أخرى
وهي أنه إذا ورد مطلق ومقيد فلا يخلو إما أن يختلف حكمهما أو لا يختلف: فإن
اختلف حكمهما فلا خلاف في امتناع حمل أحدهما على الآخر وسواء كانا مأمورين
أو منهيين أو أحدهما مأموراً والآخر منهياً وسواء اتحد سببهما أو اختلف
لعدم المنافاة في الجمع بينهما إلا في صورة واحدة.
وهي ما إذا قال مثلاً
في كفارة الظهار أعتقوا رقبة ثم قال لا تعتقوا رقبة كافرة فإنه لا خلاف في
مثل هذه الصورة أن المقيد يوجب تقييد الرقبة المطلقة بالرقبة المسلمة
وعليك باعتبار أمثلة هذه الأقسام فإنها سهلة.
وأما إن لم يختلف حكمهما
فلا يخلو إما أن يتحد سببهما أو لا يتحد: فإن اتحد سببهما فإما أن يكون
اللفظ دالاً على إثباتهما أو نفيهما فإن كان الأول كما لو قال في الظهار
اعتقوا رقبة ثم قال اعتقوا رقبة مسلمة فلا نعرف خلافاً في حمل المطلق على
المقيد هاهنا وإنما كان كذلك لأن من عمل بالمقيد فقد وفى بالعمل بدلالة
المطلق ومن عمل بالمطلق لم يف بالعمل بدلالة المقيد فكان الجمع هو الواجب
والأولى.
فإن قيل بطريقه الشبهة إذا كان حكم المطلق إمكان الخروج عن
عهدته بما شاء المكلف من ذلك الجنس فالعمل بالمقيد مما ينافي مقتضى المطلق
وليس مخالفة المطلق وإجراء المقيد على ظاهره أولى من تأويل المقيد بحمله
على الندب وإجراء المطلق على إطلاقه.
قلنا: بل التقييد أولى من التأويل لثلاثة أوجه: الأول: أنه يلزم منه الخروج عن العهدة بيقين ولا كذلك في التأويل.
الثاني:
أن المطلق إذا حمل على المقيد فالعمل به فيه لا يخرج عن كونه موفياً للعمل
باللفظ المطلق في حقيقته ولهذا لو أداه قبل ورود التقييد كان قد عمل
باللفظ في حقيقته ولا كذلك في تأويل المقيد وصرفه عن جهة حقيقته إلى مجازه.
الثالث:
أن الخروج عن العهدة بفعل أي واحد كان من الآحاد الداخلة تحت اللفظ المطلق
لم يكن اللفظ دالا عليه بوضعه لغة بخلاف ما دل عليه المقيد من صفة
التقييد.
ولا يخفى أن المحذور في صرف اللفظ عما دل عليه اللفظ لغة أعظم من صرفه عما لم يدل عليه بلفظه لغةً.
وأما
إن كان دالاً على نفيهما أو نهى عنهما كما لو قال مثلاً في كفارة الظهار
لا تعتق مكاتباً كافراً فهذا أيضاً مما لا خلاف في العمل بمدلولهما والجمع
بينهما في النفي إذ لا تعذر فيه.
وأما إن كان سببهما مختلفاً كقوله
تعالى في كفارة الظهار: " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا
فتحرير رقبة " المجادلة 3 وقوله تعالى في القتل الخطأ: " ومن يقتل مؤمناً
خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " فهذا مما اختلف فيه: فنقل عن الشافعي رضي الله عنه
تنزيل المطلق على المقيد في هذه الصورة لكن اختلف الأصحاب في تأويله:
فمنهم من حمله على التقييد مطلقاً من غير حاجة إلى دليل آخر ومنهم من حمله
على ما إذا وجد بينهما علة جامعة مقتضية للإلحاق وهو الأظهر من مذهبه وأما
أصحاب أبي حنيفة فإنهم منعوا من ذلك مطلقاً.

ولنذكر حجة كل فريق ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
أما
حجة من قال بالتقييد من غير دليل فهي أن كلام الله تعالى متحد في ذاته لا
تعدد فيه فإذا نص على اشتراط الإيمان في كفارة القتل كان ذلك تنصيصاً على
اشتراطه في كفارة الظهار ولهذا حمل قوله تعالى: " والذاكرات " الأحزاب 35
على قوله في أول الآية: " والذاكرين الله كثيراً " الأحزاب 35 من غير دليل
خارج.
وهذا مما لا اتجاه له فإن كلام الله تعالى إما أن يراد به المعنى القائم بالنفس أو العبارات الدالة عليه.
والأول
وإن كان واحداً لا تعدد فيه غير أن تعلقه بالمتعلقات مختلف باختلاف
المتعلق ولا يلزم من تعلقه بأحد المختلفين بالإطلاق والتقييد أو العموم
والخصوص أو غير ذلك أن يكون متعلقاً بالآخر وإلا كان أمره ونهيه ببعض
المختلفات أمراً ونهياً بباقي المختلفات وهو محال متناقض بل وكان يلزم من
تعلقه بالصوم المقيد في الحج بالتفريق حيث قال تعالى: " فصيام ثلاثة أيام
في الحج وسبعة إذا رجعتم " البقرة 196 وبالتتابع في الظهار حيث قال: "
فصيام شهرين متتابعين " النساء 92 أن يتقيد الصوم المطلق في اليمين إما
بالتتابع أو التفريق وهو محال أو بأحدهما دون الآخر ولا أولوية.
كيف وإنه يلزم من تقييده بأحدهما دون الآخر إبطال ما ذكروه من أن التنصيص على أحد المختلفين يكون تنصيصاً على الآخر.
وإن
أريد به العبارة الدالة فهي متعددة غير متحدة ولا يلزم من دلالة بعضها على
بعض الأشياء المختلفة دلالته على غيره وإلا لزم من ذلك المحال الذي قدمنا
لزومه في الكلام النفساني.
وأما ما ذكروه من حمل الذاكرات على الذاكرين
الله كثيراً فلا نسلم أن ذلك من غير دليل ودليله أن قوله تعالى: "
والذاكرات " معطوف على قوله: " والذاكرين الله كثيراً " الأحزاب 35 ولا
استقلال له بنفسه فوجب رده إلى ما هو معطوف عليه ومشارك له في حكمه.
وأما
حجة أصحاب أبي حنيفة فإنهم قالوا: إذا امتنع التقييد من غير دليل لما سبق
فلا بد من دليل ولا نص من كتاب أو سنة يدل على ذلك والقياس يلزم منه رفع ما
اقتضاه المطلق من الخروج عن العهدة بأي شيء كان مما هو داخل تحت اللفظ
المطلق كما سبق تقريره فيكون نسخاً ونسخ النص لا يكون بالقياس.
ولقائل
أن يقول: لا نسلم أنه يلزم من القياس نسخ النص المطلق بل تقييده ببعض
مسمياته وذلك لا يدل على تخصيص العام بالقياس عندكم فكذلك التقييد.
كيف
وإن لفظ الرقبة مطلق بالنسبة إلى السليمة والمعيبة وقد كان مقتضى ذلك أيضاً
الخروج عن العهدة بالمعيبة وقد شرطتم صفة السلامة ولم يدل عليه نص من كتاب
أو سنة وإن كان بالقياس فإما أن يكون نسخاً أو لا يكون نسخاً فإن كان
الأول فقد بطل قولكم إن النسخ لا يكون بالقياس وإن لم يكن نسخاً فقد بطل
قولكم إن رفع حكم المطلق بالقياس يكون نسخاً.
وأما حجة من قال بالتقييد بناء على القياس فالوجه في ضعفه ما سبق في تخصيص العام بالقياس فعليك بنقله إلى هاهنا.
والمختار
أنه إن كان الوصف الجامع بين المطلق والمقيد مؤثرا أي ثابتا بنص أو إجماع
وجب القضاء بالتقييد بناء عليه وإن كان مستنبطا من الحكم المقيد فلا كما
ذكرناه في تخصيص العموم.
الصنف السابع في المجمل ويشتمل على مقدمة
ومسائل : أما المقدمة ففي معنى المجمل وهو في اللغة مأخوذ من الجمع ومنه
يقال أجمل الحساب إذا جمعه ورفع تفاصيله وقيل هو المحصل ومنه يقال جملت
الشيء إذا حصلته هكذا ذكره صاحب المجمل في اللغة.
وأما في اصطلاح الأصوليين فقال بعض أصحابنا: هو اللفظ الذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء وهو فاسد فإنه ليس بمانع ولا جامع.
أما
أنه ليس بمانع فلأنه يدخل فيه اللفظ المهمل فإنه لا يفهم منه شيء عند
إطلاقه وليس بمجمل لأن الإجمال والبيان من صفات الألفاظ الدالة والمهمل لا
دلالة له ويدخل فيه قولنا مستحيل فإنه ليس بمجمل مع أنه لا يفهم منه شيء
عند إطلاقه لأن مدلوله ليس بشيء بالاتفاق.
وأما أنه ليس بجامع فلأن اللفظ المجمل المتردد بين محامل قد يفهم منه شيء وهو انحصار المراد منه في بعضها وإن لم يكن معيناً.
وكذلك ما هو مجمل من وجه ومبين من وجه كقوله تعالى: " وآتوا حقه يوم حصاده " الأنعام 141 فإنه مجمل وإن كان يفهم منه شيء.

فإن قيل: المراد منه أنه الذي لا يفهم منه شيء عند إطلاقه من جهة ما هو مجمل ففيه تعريف المجمل بالمجمل وتعريف الشيء بنفسه ممتنع.
كيف
وإن الإجمال كما أنه قد يكون في دلالة الألفاظ فقد يكون في دلالة الأفعال
وذلك كما لو قام النبي صلى الله عليه وسلم من الركعة الثانية ولم يجلس جلسة
التشهد الوسط فإنه متردد بين السهو الذي لا دلالة له على جواز ترك الجلسة
وبين التعمد الدال على جواز تركها.
وإذا كان الإجمال قد يعم الأقوال
والأفعال فتقييد حد المجمل باللفظ يخرجه عن كونه جامعاً وبهذا يبطل ما ذكره
الغزالي في حد المجمل من أنه اللفظ الصالح لأحد معنيين الذي لا يتعين
معناه لا بوضع اللغة ولا بعرف الاستعمال.
وذكر أبو الحسين البصري فيه
حدين آخرين: الأول أنه الذي لا يمكن معرفة المراد منه ويبطل بالألفاظ
المهملة وباللفظ الذي هو حقيقة في شيء فإنه إذا أريد به جهة مجازه فإنه لا
يفهم المراد منه وليس بمجمل.
الثاني قال: المجمل هو ما أفاد شيئاً من
جملة أشياء هو متعين في نفسه واللفظ لا بعينه قال وهذا بخلاف قولك اضرب
رجلاً فإن مدلوله واحد غير معين في نفسه وأي رجل ضربته جاز ولا كذلك لفظ
القرء فإن مدلوله واحد متعين في نفسه من الطهر أو الحيض وفيه إشعار بتقييد
الحد باللفظ حيث قال: واللفظ لا بعينه فلا يكون جامعاً بخروج الإجمال في
دلالة الفعل عنه كما حققناه وإنما يصح التقييد باللفظ لو أريد تحديد المجمل
اللفظي خاصةً.
والحق في ذلك أن يقال: المجمل هو ما له دلالة على أحد أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه.
فقولنا
ما له دلالة ليعم الأقوال والأفعال وغير ذلك من الأدلة المجملة وقولنا على
أحد أمرين احتراز عما لا دلالة له إلا على معنى واحد وقولنا لا مزية
لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه احتراز عن اللفظ الذي هو ظاهر في معنىً
وبعيد في غيره كاللفظ الذي هو حقيقة في شيء ومجاز في شيء على ما عرف فيما
تقدم.
وقد يكون ذلك في لفظ مفرد مشترك عند القائلين بامتناع تعميمه وذلك
إما بين مختلفين كالعين للذهب والشمس والمختار للفاعل والمفعول أو ضدين
كالقرؤ للطهر والحيض.
وقد يكون في لفظ مركب كقوله تعالى: " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " البقرة فإن هذه متردة بين الزوج والولي.
وقد
يكون ذلك بسبب التردد في عود الضمير إلى ما تقدمه كقولك: كل ما علمه
الفقيه فهو كما علمه فإن الضمير في هو متردد بين العود إلى الفقيه وإلى
معلوم الفقيه والمعنى يكون مختلفاً حتى أنه إذا قيل بعوده إلى الفقيه كان
معناه: فالفقيه كمعلومه وإن عاد إلى معلومه كان معناه: فمعلومه على الوجه
الذي علم.
وقد يكون ذلك بسبب تردد اللفظ بين جمع الأجزاء وجمع الصفات
كقولك: الخمسة زوج وفرد والمعنى مختلف حتى أنه إن أريد به جمع الأجزاء كان
صادقاً وإن أريد به جمع الصفات كان كاذباً.
وقد يكون ذلك بسببه الوقف
والابتداء كما في قوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في
العلم " آل عمران 7 فالواو في قوله: " والراسخون مترددة بين العطف
والابتداء والمعنى يكون مختلفاً.
وقد يكون ذلك بسبب تردد الصفة وذلك كما
لو كان زيد طبيباً غير ماهر في الطب وهو ماهر في غيره فقلت زيد طبيب ماهر
فإن قولك ماهر متردد بين أن يراد به كونه ماهراً في الطب فيكون كاذباً وبين
أن يراد به غيره فيكون صادقاً.
وقد يكون ذلك بسبب تردد اللفظ بين
مجازاته المتعددة عند تعذر حمله على حقيقته وقد يكون بسببه تخصيص العموم
بصور مجهولة كما لو قال: اقتلوا المشركين ثم قال بعد ذلك بعضهم غير مراد لي
من لفظي فإن قوله: " اقتلوا المشركين " بعد ذلك يكون مجملاً غير معلوم أو
بصفة مجهولة كقوله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم
محصنين " النساء 24 فإن تقييد الحل بالإحصان مع الجهل بما هو الإحصان يوجب
الإجمال فيما أحل أو باستثناء مجهول كقوله: " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا
ما يتلى عليكم " المائدة 1 فإنه مهما كان المستثنى مجملاً فالمستثنى منه
كذلك وكذلك الكلام في تقييد المطلق.

وقد يكون ذلك بسبب إخراج اللفظ
في عرف الشرع عما وضع له في اللغة عند القائلين بذلك قبل بيانه لنا كقوله: "
أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " البقرة 43 " ولله على الناس حج البيت من
استطاع إليه سبيلاً " آل عمران 5 فإنه يكون مجملاً لعدم إشعار اللفظ بما هو
المراد منه بعينه من الأفعال المخصوصة لأنه مجمل بالنسبة إلى الوجوب.
هذا كله في الأقوال وقد يكون ذلك في الأفعال كما ذكرناه أولاً.
وتمام
كشف الغطاء عن ذلك بمسائل وهي ثمان : المسألة الأولى في أن التحليل
والتحريم المضافين إلى الأعيان لا إجمال فيهما الذي صار إليه أصحابنا
وجماعة من المعتزلة كالقاضي عبد الجبار والجبائي وأبي هاشم وأبي الحسين
البصري أن التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان كقوله تعالى: " حرمت
عليكم أمهاتكم النساء 23 " وحرمت عليكم الميتة " المائدة 3 لا إجمال فيه
خلافاً للكرخي وأبي عبد الله البصري.
احتج القائلون بالإجمال بأن
التحليل والتحريم إنما يتعلق بالأفعال المقدورة والأعيان التي أضيف إليها
التحليل والتحريم غير مقدورة لنا فلا تكون هي متعلق التحليل والتحريم فلا
بد من إضمار فعل يكون هو متعلق ذلك حذراً من إهمال الخطاب بالكلية ويجب أن
يكون ذلك بقدر ما تندفع به الضرورة تقليلاً للإضمار المخالف للأصل.
وعلى
هذا فيمتنع إضمار كل ما يمكن تعلقه بالعين من الأفعال وليس إضمار البعض
أولى من البعض لعدم دلالة الدليل على تعيينه ولأنه لو دل على تعيين بعض
الأفعال لكان ذلك متعينا من تعلق التحريم بأي عين كانت وهو محال.
قال
النافون: وإن سلمنا امتناع تعلق التحليل والتحريم بنفس العين ولكن متى
يحتاج إلى الإضمار إذا كان اللفظ ظاهراً بعرف الاستعمال في الفعل المقصود
من تلك العين أو إذا لم يكن ؟الأول ممنوع والثاني مسلم.
وبيانه أن كل من
اطلع على عرف أهل اللغة ومارس ألفاظ العرب لا يتبادر إلى فهمه عند قول
القائل لغيره: حرمت عليك الطعام والشراب وحرمت عليك النساء سوى تحريم الأكل
والشرب من الطعام والشراب وتحريم وطء النساء.
والأصل في كل ما يتبادر
إلى الفهم أن يكون حقيقةً إما بالوضع الأصلي أو بعرف الاستعمال والإجمال
منتف بكل واحد منهما ولهذا كان الإجمال منتفياً عند قول القائل: رأيت دابةً
لما كان المتبادر إلى الفهم ذوات الأربع بعرف الاستعمال وإن كان على خلاف
الوضع الأصلي وعلى هذا فقد خرج الجواب عما ذكروه من الوجه الثاني أيضاً.
سلمنا أنه لا بد من الإضمار ولكن ما المانع من إضمار جميع التصرفات المتعلقة بالعين المضاف إليها التحليل والتحريم.
قولهم
إن زيادة الإضمار على خلاف الأصل قلنا: فإضمار البعض إما أن يفضي إلى
الإجمال أو لا يفضي إليه فإن كان الثاني فقد بطل مذهبكم وإن كان يفضي إلى
الإجمال فلا بد من إضمار الكل حذراً من تعطيل دلالة اللفظ.
فلئن قالوا:
إضمار البعض وإن أفضى إلى الإجمال فليس في ذلك ما يفضي إلى تعطيل دلالة
اللفظ مطلقاً لإمكان معرفة تعيين مدلوله بدليل آخر.
وأما محذور إضمار كل التصرفات فلازم مطلقاً ولا يخفى أن التزام المحذور الدائم أعظم من التزام المحذور الذي لا يدوم.
قلنا:
بل التزام محذوره إضمار جميع الأفعال أولى من التزام محذور الإجمال في
اللفظ لثلاثة أوجه: الأول: أن الإضمار في اللغة أكثر استعمالاً من استعمال
الألفاظ المجملة ولولا أن المحذور في الإضمار أقل لما كان استعماله أكثر.
الثاني: أنه انعقد الإجماع على وجود الإضمار في اللغة والقرآن واختلف في وجود الإجمال فيهما وذلك يدل على أن محذور الإضمار أقل.
الثالث:
أنه قال صلى الله عليه وسلم لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها
وباعوها وأكلوا أثمانها وذلك يدل على إضمار جميع التصرفات المتعلقة بالشحوم
وإلا لما لحقهم اللعن ببيعها ولو كان الإجمال أولى من إضمار الكل لكان ذلك
على خلاف الأولى.
المسألة الثانية ؟؟ذهب بعض الحنيفة إلى أن قوله
تعالى:وامسحوا برؤسكم مجمل ذهب بعض الحنفية إلى أن قوله تعالى: " وامسحوا
برؤوسكم " المائدة 6 مجمل لأنه يحتمل مسح جميع الرأس ويحتمل مسح بعضه وليس
أحدهما أولى من الآخر فكان مجملاً.
قالوا: وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه مسح بناصيته فهو بيان لمجمل الآية.

واتفق
النافون على نفي الإجمال لكن منهم من قال إنه بحكم وضع اللغة ظاهر في مسح
جميع الرأس وهو مذهب مالك والقاضي عبد الجبار وابن جني مصيراً منهم إلى أن
الباء في اللغة أصل في الإلصاق كما سبق تعريفه وقد دخلت على المسح وقرنته
بالرأس واسم الرأس حقيقة في كله لا بعضه ولهذا ولا يقال لبعض الرأس رأس
فكان ذلك مقتضياً لمسح جميعه لغةً.
وهذا وإن كان هو الحق بالنظر إلى أصل
وضع اللغة غير أن عرف استعمال أهل اللغة الطارىء على الوضع الأصلي حاكم
عليه والعرف من أهل اللغة في اطراد الاعتياد جار باقتضاء إلصاق المسح
بالرأس فقط مع قطع النظر عن الكل والبعض.
ولهذا فإنه إذا قال القائل
لغيره: امسح يدك بالمنديل لا يفهم منه أحد من أهل اللغة أنه أوجب عليه
إلصاق يده بجميع المنديل بل بالمنديل إن شاء بكله وإن شاء ببعضه ولهذا فإنه
يخرج عن العهدة بكل واحد منهما.
وكذلك إذا قال: مسحت يدي بالمنديل
فالسامعون يجوزون أنه مسح بكله وببعضه غير فاهمين لزوم وقوع المسح بالكل أو
البعض بل بالقدر المشترك بين الكل والبعض وهو مطلق مسح ويجب أن يكون كذلك
نفياً للتجوز والاشتراك في العرف.
وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه واختيار القاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري.
وعلى كل تقدير فلا وجه للقول بالإجمال لا بالنظر إلى الوضع اللغوي الأصلي ولا بالنظر إلى عرف الاستعمال.
المسألة
الثالثة مذهب الجمهور أنه لا إجمال في قوله صلى الله عليه وسلم: " رفع عن
أمتي الخطأ والنسيان " وقال أبو الحسين البصري وأبو عبد الله البصري
وغيرهما إنه مجمل مصيراً منهم إلى أن اللفظ بوضعه لغة يقتضي رفع الخطإ
والنسيان في نفسه وهو محال مع فرض وقوعه فيجل منصب النبي عن نفيه.
وعند
ذلك فإما أن يضمر نفي جميع أحكامه أو بعضها لا سبيل إلى الأول لأن الإضمار
على خلاف الأصل وإنما يصار إليه لدفع الضرورة اللازمة من تعطيل العمل
باللفظ فيجب الاقتصار فيه على أقل ما تندفع به الضرورة وهو بعض الأحكام.
كيف
وأنه يمتنع إضمار نفي جميع الأحكام لأن من جملتها لزوم الضمان وقضاء
العبادة وهو غير منفي بالإجماع ثم ذلك الحكم المضمر لا يمكن القول بتعيينه
لعدم دلالة اللفظ عليه فلم يبق إلا أن يكون غير معين ويلزم منه الإجمال.
قال
النافون للإجمال: وإن تعذر حمل اللفظ على رفع عين الخطإ والنسيان فإنما
يلزم الإضمار إن لو لم يكن اللفظ ظاهراً بعرف استعمال أهل اللغة في نفي
المؤاخذة والعقاب قبل ورود الشرع وليس كذلك.
ولهذا فإن كل من عرف عرف
أهل اللغة لا يتشكك ولا يتردد عند سماعه قول السيد لعبده: رفعت عنك الخطأ
والنسيان في أن مراده من ذلك رفع المؤاخذة والعقاب.
والأصل أن كل ما يتبادر إلى الفهم من اللفظ أن يكون حقيقة فيه إما بالوضع الأصلي أو العرف الاستعمالي وذلك لا إجمال فيه ولا تردد.
فإن قيل: لو كان عرف الاستعمال كما ذكرتموه لارتفع عنه الضمان لكونه من جملة المؤاخذات والعقوبات.
قلنا:
عنه جوابان: الأول: أنا نسلم أن الضمان من حيث هو ضمان عقوبة ولهذا يجب في
مال الصبي والمجنون وليسا أهلاً للعقوبة وكذلك يجب على المضطر في المخمصة
إذا أكل مال غيره مع أن الأكل واجب عليه حفظاً لنفسه والواجب لا عقوبة على
فعله وكذلك يجب الضمان على من رمى إلى صف الكفار فأصاب مسلماً مع أنه مأمور
بالرمي وهو مثاب عليه.
الثاني: وإن سلمنا أنه عقاب لكن غايته لزوم تخصيص عموم اللفظ الدال على نفي كل عقاب وذلك أسهل من القول بالإجمال.
المسألة
الرابعة اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة إلا بطهور " فمذهب
الكل إنه لا اجمال فيه اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة إلا
بطهور ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل
ولا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " ونحوه.
فمذهب الكل أنه لا إجمال فيه
خلافاً للقاضي أبي بكر وأبي عبد الله البصري فإنهما قالا بإجماله لأن حرف
النفي دخل على هذه المسميات مع تحققها فلا بد من إضمار حكم يلحق وتمام
تقريره كما مر في المسألة المتقدمة.
والمختار أنه لا إجمال في هذه الصور
لأنه لا يخلو إما أن يقال بأن الشارع له في هذه الأسماء عرف أو لا عرف له
فيها بل هي منزلة على الوضع اللغوي.
فإن قيل بالأول: فيجب تنزيل كلام
الشارع على عرفه إذ الغالب منه أنه إنما يناطقنا فيما له فيه عرف بعرفه
فيكون لفظه منزلاً على نفي الحقيقة الشرعية من هذه الأمور ونفي الحقيقة
الشرعية ممكن.
والأصل حمل الكلام على ما هو حقيقة فيه وعلى هذا فلا إجمال وإن كان مسمى هذه الأمور بالوضع اللغوي غير منفي.
وإن
قيل بالثاني: فالإجمال أيضاً إنما يتحقق إن لو لم يكن اللفظ ظاهراً بعرف
استعمال أهل اللغة قبل ورود الشرع في مثل هذه الألفاظ في نفي الفائدة
والجدوى وليس كذلك.
وبيانه أن المتبادر إلى الفهم من نفي كل فعل كان
متحقق الوجود إنما هو نفي فائدته وجدواه ومنه قولهم لا علم إلا ما نفع ولا
كلام إلا ما أفاد ولا حكم إلا لله ولا طاعة إلا له ولا بلد إلا بسلطان إلى
غير ذلك.
وإذا كان النفي محمولاً على نفي الفائدة والجدوى فلا إجمال فيه
وإن سلمنا أنه لا عرف للشارع ولا لأهل اللغة في ذلك وأنه لا بد من الإضمار
غير أن الاتفاق واقع على أنه لا خروج للمضمر هاهنا عن الصحة والكمال وعند
ذلك فيجب اعتقاد ظهوره في نفي الصحة والكمال لوجهين: الأول: أنه أقرب إلى
موافقة دلالة اللفظ على النفي لأنه إذا قال: لا صلاة لا صوم إلا بكذا فقد
دل على نفي أصل الفعل بدلالة المطابقة وعلى صفاته بدلالة الالتزام فإذا
تعذر العمل بدلالة المطابقة تعين العمل بدلالة الالتزام تقليلا لمخالفة
الدليل.
الثاني: أنه إذا كان اللفظ قد دل على نفي العمل وعدمه فيجب عند
تعذر حمل اللفظ على حقيقته حمله على أقرب المجازات الشبيهة به ولا يخفى أن
مشابهة الفعل الذي ليس بصحيح ولا كامل للفعل المعدوم أكثر من مشابهة الفعل
الذي نفي عنه أحد الأمرين دون الآخر فكان الحمل عليه أولى.
فإن قيل ما
ذكرتموه معارض من وجهين: الأول أنه يلزم منه الزيادة في الإضمار والتجوز
المخالف للأصل الثاني أن حمله على نفي الكمال دون الصحة مستيقن من حيث إنه
يلزم من نفي الصحة نفي الكمال ولا عكس وإذا تقابلت الاحتمالات لزم الإجمال.
قلنا:
بل الترجيح لما ذكرناه لأنه لا يلزم منه تعطيل دلالة اللفظ بخلاف ما
ذكرتموه ولأنه على وفق النفي الأصلي وما ذكرتموه على خلافه فكان ما ذكرناه
أولى.
وعلى هذا فقوله صلى الله عليه وسلم: " لا عمل إلا بنية وإنما
الأعمال بالنيات " وإن لم يكن للشارع فيه عرف كما في الصلاة والصوم ونحوهما
فعرف أهل اللغة في نفيه نفي الفائدة والجدوى كما قررناه فيما تقدم فلا
إجمال فيه أيضاً خلافاً لأبي الحسين البصري وأبي عبد الله البصري وغيرهما
من المعتزلة.
المسألة الخامسة اختلفوا في قوله تعالى: فاقطعوا أيديهما
هل هو مجمل أم لا ؟ اختلفوا في قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما " المائدة 38 فقال بعض الأصوليين إن لفظ القطع واليد مجمل.
أما الإجمال في القطع فلأنه يصدق إطلاقه على بينونة العضو من العضو وعلى شق الجلد الظاهر من العضو بالجرح من غير إبانة للعضو.
ولذلك
يقال عندما إذا جرح يده في بعض الأعمال كبرى القلم وغيره قطع يده وأما
الإجمال في اليد فلأن لفظ اليد يطلق على جملتها إلى المنكب وعليها إلى
المرفق وعليها إلى الكوع وليس أحد هذه الاحتمالات أظهر من الآخر فكان لفظ
اليد والقطع مجملاً.
وذهب الباقون إلى خلافه متمسكين في ذلك بالإجمال
والتفصيل : أما الإجمال فهو أن إطلاق لفظ اليد على ما ذكر من المحامل وكذلك
إطلاق لفظ القطع إما أن يكون حقيقةً في الكل أو هو حقيقة في البعض مجاز في
البعض فإن كان حقيقة في الكل فإما أن يكون مشتركاً أو متواطئاً: القول
بالاشتراك يلزم منه الإجمال في الكلام وهو على خلاف الأصل وإن كان الثاني
والثالث فليس بمجمل.
كيف وإنه وإن كان الاشتراك على وفق الأصل إلا أن
الاحتمالات ثلاثة كما ذكرناه ولا إجمال فيه على تقديرين منها وهما حالة
التواطؤ والتجوز في أحدهما وإنما يتحقق الإجمال على تقدير الاشتراك وهو
متحد ووقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه.
وإذا
كان حقيقة في أحدهما دون الآخر فيجب اعتقاد كونه ظاهراً في كل العضو ضرورة
الاتفاق على عدم ظهوره فيما سواه أما عند الخصم فلدعواه الإجمال وأما عندنا
فلمصيرنا إلى نفي الظهور عنه وانحصاره في جملة مسمى العضو
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى