رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الأصل السادس
في معنى الاستدلال وأنواعه
وإذا اختلفت الجهة فلا دور وما ذكروه في تحقيق
كونه قياساً فإنما يلزم أن لو كان تقرير السببية والمانعية والشرطية لا
يكون إلا بما ذكروه وليس ذلك بلازم لإمكان تقريره بنص يدل عليه أو إجماع
والثابت بالنص أو الإجماع لا يكون نصاً ولا إجماعاً كما تقرر قبل
والاعتراضات الواردة على طريق تقريره ووجوه الانفصال عنها غير خافية.
ومنها
نفي الحكم لانتفاء مداركه كقولهم: الحكم يستدعي دليلاً ولا دليل فلا حكم
أما أنه يستدعي دليلاً فبالضرورة وأما أنه لا دليل فلا يدل عليه سوى البحث
والسبر وإن الأصل في الأشياء كلها العدم وطريق الاعتراض بإبداء ما يصلح
دليلاً من نص أو إجماع أو قياس أو استدلال.
وجوابه بالقدح في الدليل
المذكور بما يساعد في كل موضع على حسبه ولا يخفى وقد ترد عليه أسئلة كثيرة
أوردناها في كتاب المؤاخذات وقررناها اعتراضاً وانفصالاً فعليك بالالتفات
إليها.
ومنها الدليل المؤلف من أقوال يلزم من تسليمها لذاتها تسليم قول
آخر.وذلك القول اللازم إما أن لا يكون ولا نقيضه مذكوراً فيما لزم عنه
بالفعل أو هو مذكور فيه.
فإن كان الأول فيسمى اقترانياً وأقل ما يتركب
من مقدمتين ولا يزيد عليهما.وكل مقدمة تشتمل على مفردين الواحد منهما مكرر
في المقدمتين ويسمى حداً أوسط والمفردان الآخران اللذان بهما افتراق
المقدمتين منهما يكون المطلوب اللازم ويسمى أحدهما وهو ما كان محكوم به في
المطلوب حداً أكبر وما كان منهما محكوما عليه في المطلوب يسمى حداً أصغر
والمقدمة التي فيها الحد الأكبر كبرى والتي فيها الحد الأصغر صغرى.
ثم
هيئة الحد الأوسط في نسبته إلى الحدين المختلفين تسمى شكلاً وهيئته في
النسبة إما بكونه محمولاً على الحد الأصغر وموضوعاً للحد الأكبر ويسمى
الشكل الأول وإما بكونه محمولاً عليهما ويسمى الشكل الثاني وإما بكونه
موضوعا لهما ويسمى الشكل الثالث وإما بكونه موضوعاً للأصغر ومحمولاً على
الأكبر ويسمى الشكل الرابع.
وهو بعيد عن الطباع ومستغنى عنه بباقي الأشكال فلنقتصر على ذكر ما قبله من الأشكال الثلاثة.
أما
الشكل الأول منها: فهو أبينها وما بعده فمتوقف في معرفة ضروبه عليه وهو
منتج للمطالب الأربعة الكلي موجباً وسالباً والجزئي موجباً وسالباً.
وشرطه في الإنتاج إيجاب صغراه وأن تكون في حكم الموجبة وكلية كبراه.
وضروبه
المنتجة أربعة : الضرب الأول: من كليتين موجبتين كقولنا: كل وضوء عبادة
وكل عبادة تفتقر إلى النية. واللازم كل وضوء يفتقر إلى النية.
الضرب
الثاني: من كلية صغرى موجبة كلية كبرى سالبة كقولنا: كل وضوء عبادة ولا شيء
من العبادة يصح بدون النية واللازم لا شيء من الوضوء يصح بدون النية.
الضرب الثالث: بعض الوضوء عبادة وكل عبادة تفتقر إلى النية واللازم بعض الوضوء يفتقر إلى النية.
الضرب الرابع: بعض الوضوء عبادة ولا شيء من العبادة يصح بدون النية واللازم بعض الوضوء لا يصح بدون النية.
الشكل الثاني: وشروطه في الإنتاج اختلاف مقدمتيه في الكيفية وكلية كبراه.
وضروبه
المنتجة أربعة : الضرب الأول: من كليتين الصغرى موجبة والكبرى سالبة
كقولنا كل بيع غائب فصفات المبيع فيه مجهولة ولا شيء مما يصح بيعه صفات
المبيع فيه مجهولة واللازم لا شيء من بيع الغائب صحيح.
الضرب الثاني: من
كلية صغرى سالبة وكلية كبرى موجبة كقولنا لا شيء من بيع الغائب معلوم
الصفات وكل بيع صحيح فمعلوم الصفات واللازم كالذي قبله.
الضرب الثالث:
من جزئية صغرى موجبة وكلية كبرى سالبة كقولنا بعض بيع الغائب مجهول الصفات
ولا شيء مما يصح بيعه مجهول الصفات ولازمه بعض بيع الغائب لا يصح.
الضرب
الرابع: من جزئية صغرى سالبة وكلية كبرى موجبة كقولنا ليس كل بيع غائب
معلوم الصفات وكل بيع صحيح معلوم الصفات ولازمه كلازم الذي قبله.
والإنتاج
في هذا الشكل غير بين بنفسه بل هو مفتقر إلى بيان وذلك بأن تعكس الكبرى من
الأول وتبقيها كبرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الثاني من الشكل الأول
ناتجاً عين المطلوب وتعكس الصغرى من الثاني فتجعلها كبرى ثم تستنتج وتعكس
النتيجة فيعود إلى عين المطلوب وأن تعكس الكبرى من الثالث وتبقيها كبرى
بحالها فأنه يعود إلى الضرب الرابع من الشكل الأول ناتجاً عين المطلوب
والضرب الرابع منه لا يتبين بالعكس لأنك إن عكست الكبرى منه عادت جزئية ولا
قياس عن جزئيتين والصغرى فلا عكس لها.
وإن شئت بينت الإنتاج بالخلف وهو
أن تأخذ نقيض النتيجة من كل ضرب منه وتجعله صغرى للمقدمة الكبرى من ذلك
الضرب فإنه ينتج نقيض المقدمة الصغرى الصادقة وهو محال وليس لزوم المحال عن
نفس الصورة القياسية لتحقق شروطها ولا عن نفس المقدمة الكبرى لكونها
صادقةً فكان لازماً عن نقيض المطلوب فكان محالاً وإلا لما لزم عنه المحال
وإذا كان نقيض المطلوب محالاً كان المطلوب الأول هو الصادق.
الشكل
الثالث: وشرط إنتاجه إيجاب صغراه أو أن تكون في حكم الموجبة وكلية إحدى
مقدميته ولا ينتج غير الجزئي الموجب والسالب.وضروبه المنتجة ستة : الضرب
الأول: من كليتين موجبتين كقولنا: كل برً مطعوم وكل برً ربوي ولازمه بعض
المطعوم ربوي.
الضرب الثاني: من جزئية صغرى موجبة وكلية موجبة كبرى كقولنا: بعض البر مطعوم وكل برً ربوي ولازمه كلازم ما قبله.
الضرب الثالث: من كلية موجبة صغرى وجزئية موجبة كبرى كقولنا: كل برً مطعوم وبعض البر ربوي ولازمه كلازم ما قبله.
الضرب
الرابع: من كلية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى كقولنا: كل بر مطعوم ولا شيء
من البر يصح بيعه بجنسه متفاضلاً ولازمه لا شيء من المطعوم يصح بيعه يجنسه
متفاضلاً.
الضرب الخامس: من جزئية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى كقولنا:
بعض البر ربوي ولا شيء من البر يصح بيعه بجنسه متفاضلاً ولازمه كلازم ما
قبله.
الضرب السادس: من كلية موجبة صغرى وجزئية سالبة كبرى كقولنا: كل
برً مطعوم وبعض البر لا يصح بيعه بجنسه متفاضلاً ولازمه كلازم ما قبله.
وإنتاج
هذا الشكل غير بين بنفسه دون بيان وهو أن تعكس الصغرى من الأول والثاني
وتبقيها صغرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الثالث من الشكل الأول ناتجاً عين
المطلوب وتعكس الصغرى من الرابع والخامس وتبقيها صغرى بحالها فإنه يعود
إلى الضرب الرابع من الشكل الأول ناتجاً عين المطلوب وتعكس الكبرى من
الثالث وتجعلها صغرى للصغرى ثم تعكس النتيجة فتعود إلى عين المطلوب.
وأما السادس منه فلا يتبين بالعكس لأنك إن عكست الصغرى عادت جزئية ولا قياس عن جزيئتين والكبرى فلا عكس لها.
وإن
شئت بينت بالخلف وهو أن تأخذ نقيض النتيجة وتجعله كبرى للصغرى في جميع
ضروبه فإنه ينتج نقيض المقدمة الكبرى الصادقة ويلزم من ذلك كذب النقيض لما
بيناه في الشكل الثاني.ويلزمه صدق المطلوب الأول.
وأما إن كان القسم الثاني وهو أن يكون اللازم أو نقيضه مذكوراً فيما لزم عنه بالفعل فيسمى استثنائياً.
ولا
بد فيه من قضيتين إحداهما استثنائية لعين أحد جزئي القضية الأخرى أو نقيضه
ثم القضية المستثنى منها لا بد فيها من جزئين بينهما نسبة بإيجاب أو سلب.
والنسبة الإيجابية بينهما إما أن تكون باللزوم والاتصال وفي حالة السلب برفعه أو بالعناد والانفصال وفي حالة السلب برفعه.
فإن
كان الأول فتسمى تلك القضية شرطيةً متصلةً وأحد جزئيها وهو ما دخل عليه
حرف الشرط مقدماً والثاني وهو ما دخل عليه حرف الجزاء تالياً وما هي مقدمة
فيه يسمى قياساً شرطياً متصلاً.
وإن كان الثاني فتسمى منفصلة وما هي
مقدمة فيه يسمى قياساً منفصلاً أما الشرطي المتصل فشرط إنتاجه أن تكون
النسبة بين المقدم والتالي كليةً أي دائمةً وأن يكون الاستثناء إما بعين
المقدم منها أو نقيض التالي وذلك لأن التالي إما أن يكون أعم من المقدم أو
مساوياً له.
ولا يجوز أن يكون أخص منه وإلا كانت القضية كاذبة.وعند ذلك
فاستثناء عين المقدم يلزم منه عين التالي سواء كان التالي أعم من المقدم أو
مساوياً له.
واستثناء نقيض التالي يلزم منه نقيض المقدم.وأما
استثناء نقيض المقدم وعين التالي فلا يلزم منه شيء لجواز أن يكون التالي
أعم من المقدم فلا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ولا من وجود الأعم وجود
الأخص.
وإن لزم ذلك فإنما يكون عند التساوي بينهما فلا يكون الإنتاج
لازماً لنفس صورة الدليل بل لخصوص المادة وذلك كما في قولنا: دائماً إن كان
هذا الشيء إنساناً فهو حيوان لكنه إنسان فيلزمه أنه حيوان أو لكنه ليس
بحيوان فيلزمه أنه ليس إنساناً.
وأما المنفصل فالمنفصلة منه إما أن تكون مانعة الجمع بين الجزأين والخلو معاً أو مانعة الجمع دون الخلو أو مانعة الخلو دون الجمع.
فإن
كان الأول فيلزم من استثناء عين كل واحد من الجزئين نقيض الآخر ومن
استثناء نقيضه عين الآخر وذلك كما في قولنا: دائماً إما أن يكون العدد
زوجاً وإما أن يكون فرداً لكنه زوج فليس بفرد أو لكنه فرد ليس بزوج أو لكنه
ليس بزوج فهو فرد أو لكنه ليس بفرد فهو زوج.
وإن كان الثاني فاستثناء
عين أحدهما يلزمه نقيض الجزء الآخر ولا يلزم من استثناء نقيض أحدهما عين
الآخر ولا نقيضه وذلك كقولنا: دائماً إما أن يكون الجسم جماداً وإما
حيواناً لكنه حيوان فليس بجماد أو لكنه جماد.
فليس بحيوان ولا يلزم من استثناء نقيض أحدهما عين الآخر ولا نقيضه.
وإن
كان الثالث فاستثناء نقيض كل واحد منهما يلزم منه عين الآخر ولا يلزم من
استثناء عين أحدهما عين الآخر ولا نقيضه وذلك كما إذا قلنا: دائماً إما أن
يكون المحل لا أسود وإما لا أبيض.
فاستثناء نقيض أحدهما يلزمه عين الآخر ولا يلزم من استثناء عين أحدهما عين الآخر ولا نقيضه.
فهذه
جملة ضروب هذا النوع من الاستدلال لخصناها في أوجز عبارة.ومن أراد الاطلاع
على ذلك بطريق الكمال والتمام فعليه بمراجعة كتبنا المخصوصة بهذا الفن.
ولا يخفى ما يرد عليها من الاعتراضات من منع المقدمات والقوادح في الأدلة الدالة عليها على اختلاف أنواعها وكذلك الجواب عنها.
ومن
أنواع الاستدلال استصحاب الحال وفيه مسألتان : المسألة الأولى في
الاستدلال باستصحاب الحال وقد اختلف فيه: فذهب أكثر الحنفية وجماعة من
المتكلمين كأبي الحسين البصري وغيره إلى بطلانه.ومن هؤلاء من جوز به
الترجيح لا غير.
وذهب جماعة من أصحاب الشافعي كالمزني والصيرفي والغزالي
وغيرهم من المحققين إلى صحة الاحتجاج به وهو المختار وسواء كان ذلك
الاستصحاب لأمر وجودي أو عدمي أو عقلي أو شرعي وذلك لأن ما تحقق وجوده أو
عدمه في حالة من الأحوال فإنه يستلزم ظن بقائه والظن حجة متبعة في الشرعيات
على ما سبق تحقيقه.وإنما قلنا إنه يستلزم ظن بقائه لأربعة أوجه.
الأول:
أن الإجماع منعقد على أن الإنسان لو شك في وجود الطهارة ابتداء لا تجوز له
الصلاة ولو شك في بقائها جازت له الصلاة ولو لم يكن الأصل في كل متحققاً
دوامه للزم إما جواز الصلاة في الصورة الأولى أو عدم الجواز في الصورة
الثانية وهو خلاف الإجماع.
وإنما قلنا ذلك لأنه لو لم يكن الراجح هو الاستصحاب لم يخل.
إما
أن يكون الراجح عدم الاستصحاب أو أن الاستصحاب وعدمه سيان فإن كان الأول
فيلزم منه امتناع جواز الصلاة في الصورة الثانية لظن فوات الطهارة وإن كان
الثاني فلا يخلو إما أن يكون استواء الطرفين مما تجوز معه الصلاة أو لا
تجوز فإن كان الأول فيلزم منه جواز الصلاة في الصورة الأولى وإن كان الثاني
فيلزمه عدم جواز الصلاة في الصورة الثانية وكل ذلك ممتنع.
الوجه
الثاني: أن العقلاء وأهل العرف إذا تحققوا وجود شيء أو عدمه وله أحكام خاصة
به فإنهم يسوغون القضاء والحكم بها في المستقبل من زمان ذلك الوجود أو
العدم حتى إنهم يجيزون مراسلة من عرفوا وجوده قبل ذلك بمدد متطاولة وإنفاذ
الودائع إليه ويشهدون في الحالة الراهنة بالدين على من أقر به قبل تلك
الحالة ولولا أن الأصل بقاء ما كان على على ما كان لما ساغ لهم ذلك.
الثالث:
أن ظن البقاء أغلب من ظن التغير وذلك لأن الباقي لا يتوقف على أكثر من
وجود الزمان المستقبل ومقابل ذلك الباقي له كان وجوداً أو عدماً.
وأما
التغير فمتوقف على ثلاثة أمور: وجود الزمان المستقبل وتبدل الوجود بالعدم
أو العدم بالوجود ومقارنة ذلك الوجود أو العدم لذلك الزمان.
ولا يخفى أن تحقق ما يتوقف على أمرين لا غير أغلب مما يتوقف على ذينك الأمرين وثالث غيرهما.
الوجه الرابع: إذا وقع العرض فيما هو باق بنفسه الجوهر فقد يقال: غلبة الظن بدوامه أكثر من تغيره فكان دوامه أولى.
وذلك
لأن بقاءه مستغن عن المؤثر حالة بقائه لأنه لو افتقر إلى المؤثر فإما أن
يصدر عن ذلك المؤثر أثر أو لا يصدر عنه أثر فإن صدر عنه أثر فإما أن يكون
هو عين ما كان ثابتاً أو شيئاً متجدداً: الأول محال لما فيه من تحصيل
الحاصل والثاني فعلى خلاف الفرض.
وإن لم يصدر عنه أثر فلا معنى لكونه
مؤثراً وإذا كان مستغنيا في بقائه عن المؤثر فتغيره لا بد وأن يكون بمؤثر
وإلا كان منعدما بنفسه وهو محال وإلا لما بقي وإذا كان البقاء غير مفتقر
إلى مؤثر وتغيره مفتقر إلى المؤثر فعدم الباقي لا يكون إلا بمانع يمنع منه.
وأما
المتجدد سواء كان عدماً أو وجوداً فإنه قد ينتفي تارةً لعدم مقتضيه وتارةً
لمانعه وما يكون عدمه بأمرين يكون أغلب مما عدمه بأمر واحد.
وعلى هذا فالأصل في جميع الأحكام الشرعية إنما هو العدم وبقاء ما كان على ما كان إلا ما ورد الشارع.
بخالفته فإنا نحكم به ونبقى فيما عداه عاملين بقضية النفي الأصلي كوجوب صوم شوال وصلاة سادسة ونحوه.
فإن
قيل: لا نسلم أن كل ما تحقق وجوده في حالة من الأحوال أو عدمه فهو مظنون
البقاء وما ذكرتموه من الوجه الأول فالاعتراض عليه من وجوه.
الأول: أنا
نسلم انعقاد الإجماع على الفرق في الحكم فيما ذكرتموه من الصورتين فإن مذهب
مالك وجماعة من الفقهاء إنما هو التسوية بينهما في عدم الصحة وإن سلمنا
ذلك وسلمنا أنه لو لم يكن الأصل البقاء في كل متحقق للزم رجحان الطهارة أو
المساواة في الصورة الأولى ورجحان الحدث أو المساواة في الصورة الثانية.
ولكن
لا يلزم من رجحان الطهارة في الصورة الأولى جوز الصلاة بدليل امتناع
الصلاة بعد النوم والإغماء والمس على الطهارة وإن كان وجود الطهارة راجحاً.
ولامتناع الصلاة مع ظن الحدث في الصورة الثانية حيث قلتم بأن ظن الحدث لا يلحق بتيقين الحدث.
سلمنا
دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل في الطهارة والحدث البقاء ولكن لا نسلم أنه
يلزم من ذلك الطهارة والحدث أن يكون الأصل في كل متحقق سواهما البقاء لا
بد لهذا من دليل.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل البقاء في كل
شيء.لكنه منقوض بالزمان والحركات من حيث إن الأصل فيهما التقضي دون البقاء
والاستمرار.
وما ذكرتموه من الوجه الثاني فليس فيه ما يدل على ظن البقاء
بل إنما كان ذلك مجوزا منهم لاحتمال إصابة الغرض فيما فعلوه وذلك كاستحسان
الرمي إلى الغرض لقصد الإصابة لاحتمال وقوعها وإن لم تكن الإصابة ظاهرةً
بل مرجوحة أو مساوية.
وما ذكرتموه من الوجه الثالث لا نسلم أن ظن البقاء أغلب من ظن التغير.
وما
ذكرتموه من زيادة توقف التغير على تبدل الوجود بالعدم أو بالعكس معارض بما
يتوقف عليه البقاء من تجدد مثل السابق وإن سلمنا أن ما يتوقف عليه التغير
أكثر لكن لا نسلم أنه يدل على غلبة البقاء على التغير لجواز أن تكون
الأشياء المتعددة التي يتوقف عليها التغير أغلب في الوجود من الأعداد
القليلة التي يتوقف عليها البقاء أو مساويةً لها.
وإن سلمنا أن البقاء
أغلب من التغير ولكن لا نسلم كونه غالباً على الظن لجواز أن يكون الشيء
أغلب من غيره وإن غلب على الظن عدمه في نفسه.
سلمنا دلالة ذلك على الأغلبية لكن فيما هو قابل للبقاء أو فيما ليس قابلاً له؟ الأول مسلم والثاني ممنوع.
فلم قلتم بأن الأعراض التي وقع النزاع في بقائها قابلة للبقاء؟ كيف وإنها غير قابلة لما علم في الكلاميات.
وما
ذكرتموه من الوجه الرابع لا نسلم أن الباقي لا يفتقر إلى مؤثر.وما ذكرتموه
معارض بما يدل على نقيضه وذلك لأن الباقي في حالة بقائه إما أن يكون
واجباً لذاته أو ممكناً لذاته الأول محال وإلا لما تصور عليه العدم وإن كان
ممكناً فلا بد له من مؤثر وإلا لانسد علينا باب إثبات واجب الوجود.
سلمنا
دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل في كل متحقق دوامه لكنه معارض بما يدل على
عدمه وبيانه من ثلاثة أوجه : الأول: أنه لو كان الأصل في كل شيء استمراره
ودوامه لكان حدوث جميع الحوادث على خلاف الدليل المقتضي لاستمرار عدمها وهو
خلاف الأصل.
في معنى الاستدلال وأنواعه
أما معناه في اللغة فهو استفعال من طلب الدليل والطريق المرشد إلى المطلوب.
وأما
في اصطلاح الفقهاء فإنه يطلق تارةً بمعنى ذكر الدليل وسواء كان الدليل
نصاً أو إجماعاً أو قياساً أو غيره ويطلق تارةً على نوع خاص من أنواع
الأدلة وهذا هو المطلوب بيانه هاهنا.
وهي عبارة عن دليل لا يكون نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً.
فإن قيل: تعريف الاستدلال بسلب غيره من الأدلة عنه ليس أولى من تعريف غيره من الأدلة بسب حقيقة الاستدلال عنه.
قلنا:
إنما كان تعريف الاستدلال بما ذكرناه أولى بسبب سبق التعريف لحقيقة ما
عداه من الأدلة دون تعريف الاستدلال كما سبق وتعريف الأخفى بالأظهر جائز
دون العكس.
وإذا عرف معنى الاستدلال فهو على أنواع منها قولهم: وجد
السبب فثبت الحكم ووجد المانع وفات الشرط فينتفي الحكم فإنه دليل من حيث إن
الدليل ما يلزم من ثبوته لزوم المطلوب قطعاً أو ظاهراً ولا يخفى لزوم
المطلوب من ثبوت ما ذكرناه فكان دليلاً وليس هو نصاً ولا إجماعاً ولا
قياساً فكان استدلالاً.
فإن قيل: تعريف الدليل بما يلزم من إثباته الحكم
المطلوب تعريف للدليل بالمدلول والمدلول لا يعرف إلا بدليله فكان دوراً
ممتنعاً وإن سلمنا صحة الحد ولكن لا نسلم أن المذكور ليس بقياس فإنه إذا آل
الأمر إلى إثبات المدعى كان مفتقراً إلى المناسبة والاعتبار ولا معنى
للقياس سوى هذا.
قلنا: أما الدور فإنما يلزم أن لو اتحدت جهة التوقف
وليس كذلك وذلك لأن المطلوب إنما يتوقف على الدليل من جهة وجوده في آحاد
الصور لا من جهة حقيقته لأنا نعرف حقيقة الحكم من حيث هو حكم وإن جهلنا
دليل وجوده والدليل إنما يتوقف على لزوم المطلوب له من جهة حقيقته لا من
جهة وجوده في آحاد الصور.
وأما
في اصطلاح الفقهاء فإنه يطلق تارةً بمعنى ذكر الدليل وسواء كان الدليل
نصاً أو إجماعاً أو قياساً أو غيره ويطلق تارةً على نوع خاص من أنواع
الأدلة وهذا هو المطلوب بيانه هاهنا.
وهي عبارة عن دليل لا يكون نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً.
فإن قيل: تعريف الاستدلال بسلب غيره من الأدلة عنه ليس أولى من تعريف غيره من الأدلة بسب حقيقة الاستدلال عنه.
قلنا:
إنما كان تعريف الاستدلال بما ذكرناه أولى بسبب سبق التعريف لحقيقة ما
عداه من الأدلة دون تعريف الاستدلال كما سبق وتعريف الأخفى بالأظهر جائز
دون العكس.
وإذا عرف معنى الاستدلال فهو على أنواع منها قولهم: وجد
السبب فثبت الحكم ووجد المانع وفات الشرط فينتفي الحكم فإنه دليل من حيث إن
الدليل ما يلزم من ثبوته لزوم المطلوب قطعاً أو ظاهراً ولا يخفى لزوم
المطلوب من ثبوت ما ذكرناه فكان دليلاً وليس هو نصاً ولا إجماعاً ولا
قياساً فكان استدلالاً.
فإن قيل: تعريف الدليل بما يلزم من إثباته الحكم
المطلوب تعريف للدليل بالمدلول والمدلول لا يعرف إلا بدليله فكان دوراً
ممتنعاً وإن سلمنا صحة الحد ولكن لا نسلم أن المذكور ليس بقياس فإنه إذا آل
الأمر إلى إثبات المدعى كان مفتقراً إلى المناسبة والاعتبار ولا معنى
للقياس سوى هذا.
قلنا: أما الدور فإنما يلزم أن لو اتحدت جهة التوقف
وليس كذلك وذلك لأن المطلوب إنما يتوقف على الدليل من جهة وجوده في آحاد
الصور لا من جهة حقيقته لأنا نعرف حقيقة الحكم من حيث هو حكم وإن جهلنا
دليل وجوده والدليل إنما يتوقف على لزوم المطلوب له من جهة حقيقته لا من
جهة وجوده في آحاد الصور.
وإذا اختلفت الجهة فلا دور وما ذكروه في تحقيق
كونه قياساً فإنما يلزم أن لو كان تقرير السببية والمانعية والشرطية لا
يكون إلا بما ذكروه وليس ذلك بلازم لإمكان تقريره بنص يدل عليه أو إجماع
والثابت بالنص أو الإجماع لا يكون نصاً ولا إجماعاً كما تقرر قبل
والاعتراضات الواردة على طريق تقريره ووجوه الانفصال عنها غير خافية.
ومنها
نفي الحكم لانتفاء مداركه كقولهم: الحكم يستدعي دليلاً ولا دليل فلا حكم
أما أنه يستدعي دليلاً فبالضرورة وأما أنه لا دليل فلا يدل عليه سوى البحث
والسبر وإن الأصل في الأشياء كلها العدم وطريق الاعتراض بإبداء ما يصلح
دليلاً من نص أو إجماع أو قياس أو استدلال.
وجوابه بالقدح في الدليل
المذكور بما يساعد في كل موضع على حسبه ولا يخفى وقد ترد عليه أسئلة كثيرة
أوردناها في كتاب المؤاخذات وقررناها اعتراضاً وانفصالاً فعليك بالالتفات
إليها.
ومنها الدليل المؤلف من أقوال يلزم من تسليمها لذاتها تسليم قول
آخر.وذلك القول اللازم إما أن لا يكون ولا نقيضه مذكوراً فيما لزم عنه
بالفعل أو هو مذكور فيه.
فإن كان الأول فيسمى اقترانياً وأقل ما يتركب
من مقدمتين ولا يزيد عليهما.وكل مقدمة تشتمل على مفردين الواحد منهما مكرر
في المقدمتين ويسمى حداً أوسط والمفردان الآخران اللذان بهما افتراق
المقدمتين منهما يكون المطلوب اللازم ويسمى أحدهما وهو ما كان محكوم به في
المطلوب حداً أكبر وما كان منهما محكوما عليه في المطلوب يسمى حداً أصغر
والمقدمة التي فيها الحد الأكبر كبرى والتي فيها الحد الأصغر صغرى.
ثم
هيئة الحد الأوسط في نسبته إلى الحدين المختلفين تسمى شكلاً وهيئته في
النسبة إما بكونه محمولاً على الحد الأصغر وموضوعاً للحد الأكبر ويسمى
الشكل الأول وإما بكونه محمولاً عليهما ويسمى الشكل الثاني وإما بكونه
موضوعا لهما ويسمى الشكل الثالث وإما بكونه موضوعاً للأصغر ومحمولاً على
الأكبر ويسمى الشكل الرابع.
وهو بعيد عن الطباع ومستغنى عنه بباقي الأشكال فلنقتصر على ذكر ما قبله من الأشكال الثلاثة.
أما
الشكل الأول منها: فهو أبينها وما بعده فمتوقف في معرفة ضروبه عليه وهو
منتج للمطالب الأربعة الكلي موجباً وسالباً والجزئي موجباً وسالباً.
وشرطه في الإنتاج إيجاب صغراه وأن تكون في حكم الموجبة وكلية كبراه.
وضروبه
المنتجة أربعة : الضرب الأول: من كليتين موجبتين كقولنا: كل وضوء عبادة
وكل عبادة تفتقر إلى النية. واللازم كل وضوء يفتقر إلى النية.
الضرب
الثاني: من كلية صغرى موجبة كلية كبرى سالبة كقولنا: كل وضوء عبادة ولا شيء
من العبادة يصح بدون النية واللازم لا شيء من الوضوء يصح بدون النية.
الضرب الثالث: بعض الوضوء عبادة وكل عبادة تفتقر إلى النية واللازم بعض الوضوء يفتقر إلى النية.
الضرب الرابع: بعض الوضوء عبادة ولا شيء من العبادة يصح بدون النية واللازم بعض الوضوء لا يصح بدون النية.
الشكل الثاني: وشروطه في الإنتاج اختلاف مقدمتيه في الكيفية وكلية كبراه.
وضروبه
المنتجة أربعة : الضرب الأول: من كليتين الصغرى موجبة والكبرى سالبة
كقولنا كل بيع غائب فصفات المبيع فيه مجهولة ولا شيء مما يصح بيعه صفات
المبيع فيه مجهولة واللازم لا شيء من بيع الغائب صحيح.
الضرب الثاني: من
كلية صغرى سالبة وكلية كبرى موجبة كقولنا لا شيء من بيع الغائب معلوم
الصفات وكل بيع صحيح فمعلوم الصفات واللازم كالذي قبله.
الضرب الثالث:
من جزئية صغرى موجبة وكلية كبرى سالبة كقولنا بعض بيع الغائب مجهول الصفات
ولا شيء مما يصح بيعه مجهول الصفات ولازمه بعض بيع الغائب لا يصح.
الضرب
الرابع: من جزئية صغرى سالبة وكلية كبرى موجبة كقولنا ليس كل بيع غائب
معلوم الصفات وكل بيع صحيح معلوم الصفات ولازمه كلازم الذي قبله.
والإنتاج
في هذا الشكل غير بين بنفسه بل هو مفتقر إلى بيان وذلك بأن تعكس الكبرى من
الأول وتبقيها كبرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الثاني من الشكل الأول
ناتجاً عين المطلوب وتعكس الصغرى من الثاني فتجعلها كبرى ثم تستنتج وتعكس
النتيجة فيعود إلى عين المطلوب وأن تعكس الكبرى من الثالث وتبقيها كبرى
بحالها فأنه يعود إلى الضرب الرابع من الشكل الأول ناتجاً عين المطلوب
والضرب الرابع منه لا يتبين بالعكس لأنك إن عكست الكبرى منه عادت جزئية ولا
قياس عن جزئيتين والصغرى فلا عكس لها.
وإن شئت بينت الإنتاج بالخلف وهو
أن تأخذ نقيض النتيجة من كل ضرب منه وتجعله صغرى للمقدمة الكبرى من ذلك
الضرب فإنه ينتج نقيض المقدمة الصغرى الصادقة وهو محال وليس لزوم المحال عن
نفس الصورة القياسية لتحقق شروطها ولا عن نفس المقدمة الكبرى لكونها
صادقةً فكان لازماً عن نقيض المطلوب فكان محالاً وإلا لما لزم عنه المحال
وإذا كان نقيض المطلوب محالاً كان المطلوب الأول هو الصادق.
الشكل
الثالث: وشرط إنتاجه إيجاب صغراه أو أن تكون في حكم الموجبة وكلية إحدى
مقدميته ولا ينتج غير الجزئي الموجب والسالب.وضروبه المنتجة ستة : الضرب
الأول: من كليتين موجبتين كقولنا: كل برً مطعوم وكل برً ربوي ولازمه بعض
المطعوم ربوي.
الضرب الثاني: من جزئية صغرى موجبة وكلية موجبة كبرى كقولنا: بعض البر مطعوم وكل برً ربوي ولازمه كلازم ما قبله.
الضرب الثالث: من كلية موجبة صغرى وجزئية موجبة كبرى كقولنا: كل برً مطعوم وبعض البر ربوي ولازمه كلازم ما قبله.
الضرب
الرابع: من كلية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى كقولنا: كل بر مطعوم ولا شيء
من البر يصح بيعه بجنسه متفاضلاً ولازمه لا شيء من المطعوم يصح بيعه يجنسه
متفاضلاً.
الضرب الخامس: من جزئية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى كقولنا:
بعض البر ربوي ولا شيء من البر يصح بيعه بجنسه متفاضلاً ولازمه كلازم ما
قبله.
الضرب السادس: من كلية موجبة صغرى وجزئية سالبة كبرى كقولنا: كل
برً مطعوم وبعض البر لا يصح بيعه بجنسه متفاضلاً ولازمه كلازم ما قبله.
وإنتاج
هذا الشكل غير بين بنفسه دون بيان وهو أن تعكس الصغرى من الأول والثاني
وتبقيها صغرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الثالث من الشكل الأول ناتجاً عين
المطلوب وتعكس الصغرى من الرابع والخامس وتبقيها صغرى بحالها فإنه يعود
إلى الضرب الرابع من الشكل الأول ناتجاً عين المطلوب وتعكس الكبرى من
الثالث وتجعلها صغرى للصغرى ثم تعكس النتيجة فتعود إلى عين المطلوب.
وأما السادس منه فلا يتبين بالعكس لأنك إن عكست الصغرى عادت جزئية ولا قياس عن جزيئتين والكبرى فلا عكس لها.
وإن
شئت بينت بالخلف وهو أن تأخذ نقيض النتيجة وتجعله كبرى للصغرى في جميع
ضروبه فإنه ينتج نقيض المقدمة الكبرى الصادقة ويلزم من ذلك كذب النقيض لما
بيناه في الشكل الثاني.ويلزمه صدق المطلوب الأول.
وأما إن كان القسم الثاني وهو أن يكون اللازم أو نقيضه مذكوراً فيما لزم عنه بالفعل فيسمى استثنائياً.
ولا
بد فيه من قضيتين إحداهما استثنائية لعين أحد جزئي القضية الأخرى أو نقيضه
ثم القضية المستثنى منها لا بد فيها من جزئين بينهما نسبة بإيجاب أو سلب.
والنسبة الإيجابية بينهما إما أن تكون باللزوم والاتصال وفي حالة السلب برفعه أو بالعناد والانفصال وفي حالة السلب برفعه.
فإن
كان الأول فتسمى تلك القضية شرطيةً متصلةً وأحد جزئيها وهو ما دخل عليه
حرف الشرط مقدماً والثاني وهو ما دخل عليه حرف الجزاء تالياً وما هي مقدمة
فيه يسمى قياساً شرطياً متصلاً.
وإن كان الثاني فتسمى منفصلة وما هي
مقدمة فيه يسمى قياساً منفصلاً أما الشرطي المتصل فشرط إنتاجه أن تكون
النسبة بين المقدم والتالي كليةً أي دائمةً وأن يكون الاستثناء إما بعين
المقدم منها أو نقيض التالي وذلك لأن التالي إما أن يكون أعم من المقدم أو
مساوياً له.
ولا يجوز أن يكون أخص منه وإلا كانت القضية كاذبة.وعند ذلك
فاستثناء عين المقدم يلزم منه عين التالي سواء كان التالي أعم من المقدم أو
مساوياً له.
واستثناء نقيض التالي يلزم منه نقيض المقدم.وأما
استثناء نقيض المقدم وعين التالي فلا يلزم منه شيء لجواز أن يكون التالي
أعم من المقدم فلا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ولا من وجود الأعم وجود
الأخص.
وإن لزم ذلك فإنما يكون عند التساوي بينهما فلا يكون الإنتاج
لازماً لنفس صورة الدليل بل لخصوص المادة وذلك كما في قولنا: دائماً إن كان
هذا الشيء إنساناً فهو حيوان لكنه إنسان فيلزمه أنه حيوان أو لكنه ليس
بحيوان فيلزمه أنه ليس إنساناً.
وأما المنفصل فالمنفصلة منه إما أن تكون مانعة الجمع بين الجزأين والخلو معاً أو مانعة الجمع دون الخلو أو مانعة الخلو دون الجمع.
فإن
كان الأول فيلزم من استثناء عين كل واحد من الجزئين نقيض الآخر ومن
استثناء نقيضه عين الآخر وذلك كما في قولنا: دائماً إما أن يكون العدد
زوجاً وإما أن يكون فرداً لكنه زوج فليس بفرد أو لكنه فرد ليس بزوج أو لكنه
ليس بزوج فهو فرد أو لكنه ليس بفرد فهو زوج.
وإن كان الثاني فاستثناء
عين أحدهما يلزمه نقيض الجزء الآخر ولا يلزم من استثناء نقيض أحدهما عين
الآخر ولا نقيضه وذلك كقولنا: دائماً إما أن يكون الجسم جماداً وإما
حيواناً لكنه حيوان فليس بجماد أو لكنه جماد.
فليس بحيوان ولا يلزم من استثناء نقيض أحدهما عين الآخر ولا نقيضه.
وإن
كان الثالث فاستثناء نقيض كل واحد منهما يلزم منه عين الآخر ولا يلزم من
استثناء عين أحدهما عين الآخر ولا نقيضه وذلك كما إذا قلنا: دائماً إما أن
يكون المحل لا أسود وإما لا أبيض.
فاستثناء نقيض أحدهما يلزمه عين الآخر ولا يلزم من استثناء عين أحدهما عين الآخر ولا نقيضه.
فهذه
جملة ضروب هذا النوع من الاستدلال لخصناها في أوجز عبارة.ومن أراد الاطلاع
على ذلك بطريق الكمال والتمام فعليه بمراجعة كتبنا المخصوصة بهذا الفن.
ولا يخفى ما يرد عليها من الاعتراضات من منع المقدمات والقوادح في الأدلة الدالة عليها على اختلاف أنواعها وكذلك الجواب عنها.
ومن
أنواع الاستدلال استصحاب الحال وفيه مسألتان : المسألة الأولى في
الاستدلال باستصحاب الحال وقد اختلف فيه: فذهب أكثر الحنفية وجماعة من
المتكلمين كأبي الحسين البصري وغيره إلى بطلانه.ومن هؤلاء من جوز به
الترجيح لا غير.
وذهب جماعة من أصحاب الشافعي كالمزني والصيرفي والغزالي
وغيرهم من المحققين إلى صحة الاحتجاج به وهو المختار وسواء كان ذلك
الاستصحاب لأمر وجودي أو عدمي أو عقلي أو شرعي وذلك لأن ما تحقق وجوده أو
عدمه في حالة من الأحوال فإنه يستلزم ظن بقائه والظن حجة متبعة في الشرعيات
على ما سبق تحقيقه.وإنما قلنا إنه يستلزم ظن بقائه لأربعة أوجه.
الأول:
أن الإجماع منعقد على أن الإنسان لو شك في وجود الطهارة ابتداء لا تجوز له
الصلاة ولو شك في بقائها جازت له الصلاة ولو لم يكن الأصل في كل متحققاً
دوامه للزم إما جواز الصلاة في الصورة الأولى أو عدم الجواز في الصورة
الثانية وهو خلاف الإجماع.
وإنما قلنا ذلك لأنه لو لم يكن الراجح هو الاستصحاب لم يخل.
إما
أن يكون الراجح عدم الاستصحاب أو أن الاستصحاب وعدمه سيان فإن كان الأول
فيلزم منه امتناع جواز الصلاة في الصورة الثانية لظن فوات الطهارة وإن كان
الثاني فلا يخلو إما أن يكون استواء الطرفين مما تجوز معه الصلاة أو لا
تجوز فإن كان الأول فيلزم منه جواز الصلاة في الصورة الأولى وإن كان الثاني
فيلزمه عدم جواز الصلاة في الصورة الثانية وكل ذلك ممتنع.
الوجه
الثاني: أن العقلاء وأهل العرف إذا تحققوا وجود شيء أو عدمه وله أحكام خاصة
به فإنهم يسوغون القضاء والحكم بها في المستقبل من زمان ذلك الوجود أو
العدم حتى إنهم يجيزون مراسلة من عرفوا وجوده قبل ذلك بمدد متطاولة وإنفاذ
الودائع إليه ويشهدون في الحالة الراهنة بالدين على من أقر به قبل تلك
الحالة ولولا أن الأصل بقاء ما كان على على ما كان لما ساغ لهم ذلك.
الثالث:
أن ظن البقاء أغلب من ظن التغير وذلك لأن الباقي لا يتوقف على أكثر من
وجود الزمان المستقبل ومقابل ذلك الباقي له كان وجوداً أو عدماً.
وأما
التغير فمتوقف على ثلاثة أمور: وجود الزمان المستقبل وتبدل الوجود بالعدم
أو العدم بالوجود ومقارنة ذلك الوجود أو العدم لذلك الزمان.
ولا يخفى أن تحقق ما يتوقف على أمرين لا غير أغلب مما يتوقف على ذينك الأمرين وثالث غيرهما.
الوجه الرابع: إذا وقع العرض فيما هو باق بنفسه الجوهر فقد يقال: غلبة الظن بدوامه أكثر من تغيره فكان دوامه أولى.
وذلك
لأن بقاءه مستغن عن المؤثر حالة بقائه لأنه لو افتقر إلى المؤثر فإما أن
يصدر عن ذلك المؤثر أثر أو لا يصدر عنه أثر فإن صدر عنه أثر فإما أن يكون
هو عين ما كان ثابتاً أو شيئاً متجدداً: الأول محال لما فيه من تحصيل
الحاصل والثاني فعلى خلاف الفرض.
وإن لم يصدر عنه أثر فلا معنى لكونه
مؤثراً وإذا كان مستغنيا في بقائه عن المؤثر فتغيره لا بد وأن يكون بمؤثر
وإلا كان منعدما بنفسه وهو محال وإلا لما بقي وإذا كان البقاء غير مفتقر
إلى مؤثر وتغيره مفتقر إلى المؤثر فعدم الباقي لا يكون إلا بمانع يمنع منه.
وأما
المتجدد سواء كان عدماً أو وجوداً فإنه قد ينتفي تارةً لعدم مقتضيه وتارةً
لمانعه وما يكون عدمه بأمرين يكون أغلب مما عدمه بأمر واحد.
وعلى هذا فالأصل في جميع الأحكام الشرعية إنما هو العدم وبقاء ما كان على ما كان إلا ما ورد الشارع.
بخالفته فإنا نحكم به ونبقى فيما عداه عاملين بقضية النفي الأصلي كوجوب صوم شوال وصلاة سادسة ونحوه.
فإن
قيل: لا نسلم أن كل ما تحقق وجوده في حالة من الأحوال أو عدمه فهو مظنون
البقاء وما ذكرتموه من الوجه الأول فالاعتراض عليه من وجوه.
الأول: أنا
نسلم انعقاد الإجماع على الفرق في الحكم فيما ذكرتموه من الصورتين فإن مذهب
مالك وجماعة من الفقهاء إنما هو التسوية بينهما في عدم الصحة وإن سلمنا
ذلك وسلمنا أنه لو لم يكن الأصل البقاء في كل متحقق للزم رجحان الطهارة أو
المساواة في الصورة الأولى ورجحان الحدث أو المساواة في الصورة الثانية.
ولكن
لا يلزم من رجحان الطهارة في الصورة الأولى جوز الصلاة بدليل امتناع
الصلاة بعد النوم والإغماء والمس على الطهارة وإن كان وجود الطهارة راجحاً.
ولامتناع الصلاة مع ظن الحدث في الصورة الثانية حيث قلتم بأن ظن الحدث لا يلحق بتيقين الحدث.
سلمنا
دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل في الطهارة والحدث البقاء ولكن لا نسلم أنه
يلزم من ذلك الطهارة والحدث أن يكون الأصل في كل متحقق سواهما البقاء لا
بد لهذا من دليل.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل البقاء في كل
شيء.لكنه منقوض بالزمان والحركات من حيث إن الأصل فيهما التقضي دون البقاء
والاستمرار.
وما ذكرتموه من الوجه الثاني فليس فيه ما يدل على ظن البقاء
بل إنما كان ذلك مجوزا منهم لاحتمال إصابة الغرض فيما فعلوه وذلك كاستحسان
الرمي إلى الغرض لقصد الإصابة لاحتمال وقوعها وإن لم تكن الإصابة ظاهرةً
بل مرجوحة أو مساوية.
وما ذكرتموه من الوجه الثالث لا نسلم أن ظن البقاء أغلب من ظن التغير.
وما
ذكرتموه من زيادة توقف التغير على تبدل الوجود بالعدم أو بالعكس معارض بما
يتوقف عليه البقاء من تجدد مثل السابق وإن سلمنا أن ما يتوقف عليه التغير
أكثر لكن لا نسلم أنه يدل على غلبة البقاء على التغير لجواز أن تكون
الأشياء المتعددة التي يتوقف عليها التغير أغلب في الوجود من الأعداد
القليلة التي يتوقف عليها البقاء أو مساويةً لها.
وإن سلمنا أن البقاء
أغلب من التغير ولكن لا نسلم كونه غالباً على الظن لجواز أن يكون الشيء
أغلب من غيره وإن غلب على الظن عدمه في نفسه.
سلمنا دلالة ذلك على الأغلبية لكن فيما هو قابل للبقاء أو فيما ليس قابلاً له؟ الأول مسلم والثاني ممنوع.
فلم قلتم بأن الأعراض التي وقع النزاع في بقائها قابلة للبقاء؟ كيف وإنها غير قابلة لما علم في الكلاميات.
وما
ذكرتموه من الوجه الرابع لا نسلم أن الباقي لا يفتقر إلى مؤثر.وما ذكرتموه
معارض بما يدل على نقيضه وذلك لأن الباقي في حالة بقائه إما أن يكون
واجباً لذاته أو ممكناً لذاته الأول محال وإلا لما تصور عليه العدم وإن كان
ممكناً فلا بد له من مؤثر وإلا لانسد علينا باب إثبات واجب الوجود.
سلمنا
دلالة ما ذكرتموه على أن الأصل في كل متحقق دوامه لكنه معارض بما يدل على
عدمه وبيانه من ثلاثة أوجه : الأول: أنه لو كان الأصل في كل شيء استمراره
ودوامه لكان حدوث جميع الحوادث على خلاف الدليل المقتضي لاستمرار عدمها وهو
خلاف الأصل.
الثاني: أن الإجماع منعقد على أن بينة الإثبات تقدم على
بينة النفي ولو كان الأصل في كل متحقق دوامه لكانت بينة النفي لاعتضادها
بهذا الأصل أولى بالتقدم.
الثالث: أن مذهب الشافعي أنه لا يجزي عتق العبد الذي انقطع خبره عن الكفارة ولو كان الأصل بقاءه لأجزأ.
سلمنا
أن الأصل هو البقاء والاستمرار ولكن متى يمكن التمسك به في الأحكام
الشرعية إذا كان محصلاً لأصل الظن أو غلبة الظن؟ الأول ممتنع وإلا كانت
شهادة العبيد والنساء المتمحضات والفساق مقبولةً لحصول أصل الظن بها.
والثاني مسلم ولكن لا نسلم أن مثل هذا الأصل يفيد غلبة الظن وذلك لأن الأصل عدم هذه الزيادة بنفس ما ذكرتم.
سلمنا
كون ذلك مغلبا على الظن لكن قبل ورود الشرع أو بعده؟ الأول مسلم والثاني
ممنوع وبيانه أن قبل ورود الشرع قد أمنا الدليل المغير فكان الاستصحاب لذلك
مغلباً وبعد ورود الشرع لم نأمن التغير وورود الدليل المغير فلا يبقى
مغلبا على الظن.
والجواب عن منع الإجماع على التفرقة فيما ذكرناه من
الصورتين أن المراد به إنما هو الإجماع بين الشافعي وأبي حنيفة وأكثر
الأئمة فكان ما ذكرناه حجة على الموافق دون المخالف.
وعن السؤال الأول
على الوجه الأول أنه يلزم من رجحان الطهارة في الصورة الأولى صحة الصلاة
تحصيلا لمصلحة الصلاة مع ظن الطهارة كالصورة الثانية.
وأما النوم فإنما
امتنعت معه الصلاة لكونه سبباً ظاهراً لوجود الخارج الناقض للطهارة لتيسر
خروج الخارج معه باسترخاء المفاصل على ما قال عليه السلام: " العينان وكاء
السته " .
وقال: " إذا نامت العينان انطلق الوكاء " وإذا كان النوم مظنة
الخارج المحتمل وجب إدارة الحكم عليه كما هو الغالب من تصرفات الشارع لا
على حقيقه الخروج دفعاً للعسر والحرج عن المكلفين.وبه يقع الجواب عن
الإغماء والمس.
ويلزم من رجحان الحدث في الصورة الثانية امتناع صحة
الصلاة زجرا له عن التقرب إلى الله تعالى والوقوف بين يديه مع ظن الحدث
فإنه قبيح عقلاً وشرعاً ولذلك نهي عنه والشاهد له بالاعتبار الصورة الأولى.
قولهم
إنه لا تأثير للحدث المظنون عندكم قلنا: إنما لا يكون مؤثراً بتقدير أن لا
نقول باستصحاب الحال كالتقدير الذي نحن فيه وإلا فلا.
وعن السؤال
الثاني: أنه لو لم يكن الاستصحاب والاستمرار مقتضى الدليل في كل متحقق لكان
الاستمرار في هاتين الصورتين على خلاف حكم الأعم أغلب إن كان عدم
الاستمرار هو الأغلب أو أن يكون عدم الاستمرار على خلاف الغالب إن كان
الاستمرار هو الأغلب وهو على خلاف الأصل وإن تساوى الطرفان فهو احتمال من
ثلاثة احتمالات ووقوع احتمال من احتمالين أغلب من احتمال واحد بعينه.
وعن
السؤال الثالث: أنا إنما ندعي أن الأصل البقاء فيما يمكن بقاؤه إما بنفسه
كالجواهر أو بتجدد أمثاله كالأعراض وعليه بناء الأدلة المذكورة وعلى هذا
فالأصل في الزمان بقاؤه بتجدد أمثاله.
وأما الحركات فإما أن تكون من
قبيل ما يمكن بقاؤه واستمراره أو لا من هذا القبيل فإن كان الأول فهو من
جملة صور النزاع وإن كان الثاني فالنقض به يكون مندفعاً.
بينة النفي ولو كان الأصل في كل متحقق دوامه لكانت بينة النفي لاعتضادها
بهذا الأصل أولى بالتقدم.
الثالث: أن مذهب الشافعي أنه لا يجزي عتق العبد الذي انقطع خبره عن الكفارة ولو كان الأصل بقاءه لأجزأ.
سلمنا
أن الأصل هو البقاء والاستمرار ولكن متى يمكن التمسك به في الأحكام
الشرعية إذا كان محصلاً لأصل الظن أو غلبة الظن؟ الأول ممتنع وإلا كانت
شهادة العبيد والنساء المتمحضات والفساق مقبولةً لحصول أصل الظن بها.
والثاني مسلم ولكن لا نسلم أن مثل هذا الأصل يفيد غلبة الظن وذلك لأن الأصل عدم هذه الزيادة بنفس ما ذكرتم.
سلمنا
كون ذلك مغلبا على الظن لكن قبل ورود الشرع أو بعده؟ الأول مسلم والثاني
ممنوع وبيانه أن قبل ورود الشرع قد أمنا الدليل المغير فكان الاستصحاب لذلك
مغلباً وبعد ورود الشرع لم نأمن التغير وورود الدليل المغير فلا يبقى
مغلبا على الظن.
والجواب عن منع الإجماع على التفرقة فيما ذكرناه من
الصورتين أن المراد به إنما هو الإجماع بين الشافعي وأبي حنيفة وأكثر
الأئمة فكان ما ذكرناه حجة على الموافق دون المخالف.
وعن السؤال الأول
على الوجه الأول أنه يلزم من رجحان الطهارة في الصورة الأولى صحة الصلاة
تحصيلا لمصلحة الصلاة مع ظن الطهارة كالصورة الثانية.
وأما النوم فإنما
امتنعت معه الصلاة لكونه سبباً ظاهراً لوجود الخارج الناقض للطهارة لتيسر
خروج الخارج معه باسترخاء المفاصل على ما قال عليه السلام: " العينان وكاء
السته " .
وقال: " إذا نامت العينان انطلق الوكاء " وإذا كان النوم مظنة
الخارج المحتمل وجب إدارة الحكم عليه كما هو الغالب من تصرفات الشارع لا
على حقيقه الخروج دفعاً للعسر والحرج عن المكلفين.وبه يقع الجواب عن
الإغماء والمس.
ويلزم من رجحان الحدث في الصورة الثانية امتناع صحة
الصلاة زجرا له عن التقرب إلى الله تعالى والوقوف بين يديه مع ظن الحدث
فإنه قبيح عقلاً وشرعاً ولذلك نهي عنه والشاهد له بالاعتبار الصورة الأولى.
قولهم
إنه لا تأثير للحدث المظنون عندكم قلنا: إنما لا يكون مؤثراً بتقدير أن لا
نقول باستصحاب الحال كالتقدير الذي نحن فيه وإلا فلا.
وعن السؤال
الثاني: أنه لو لم يكن الاستصحاب والاستمرار مقتضى الدليل في كل متحقق لكان
الاستمرار في هاتين الصورتين على خلاف حكم الأعم أغلب إن كان عدم
الاستمرار هو الأغلب أو أن يكون عدم الاستمرار على خلاف الغالب إن كان
الاستمرار هو الأغلب وهو على خلاف الأصل وإن تساوى الطرفان فهو احتمال من
ثلاثة احتمالات ووقوع احتمال من احتمالين أغلب من احتمال واحد بعينه.
وعن
السؤال الثالث: أنا إنما ندعي أن الأصل البقاء فيما يمكن بقاؤه إما بنفسه
كالجواهر أو بتجدد أمثاله كالأعراض وعليه بناء الأدلة المذكورة وعلى هذا
فالأصل في الزمان بقاؤه بتجدد أمثاله.
وأما الحركات فإما أن تكون من
قبيل ما يمكن بقاؤه واستمراره أو لا من هذا القبيل فإن كان الأول فهو من
جملة صور النزاع وإن كان الثاني فالنقض به يكون مندفعاً.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وعما ذكروه على الوجه الثاني أن الإقدام على الفعل لغرض موهوم غير ظاهر إنما يكون فيما لا خطر في فعله ولا مشقة كما ذكروه من المثال.
وأما
ما يلزم الخطر والمشقة في فعله فلا بد وأن يكون لغرض ظاهر راجح على خطر
ذلك الفعل ومشقته على ما تشهد به تصرفات العقلاء وأهل العرف من ركوب البحار
ومعاناة المشاق من الأسفار فإنهم لا يرتكبون ذلك إلا مع ظهور المصلحة لهم
في ذلك ومن فعل ذلك لا مع ظهور المصلحة في نظره عد سفيهاً مخبطاً في عقله
وما وقع به الاستشهاد من تنفيذ الودائع وإرسال الرسل إلى من بعدت مدة غيبته
والشهادة بالدين على من تقدم إفراره من هذا القبيل فكان الاستصحاب فيه
ظاهراً.
وعما ذكروه على الوجه الثالث أولاً فجوابه بزيادة افتقار التغير إلى تجدد علة موجبة للتغير بخلاف البقاء لإمكان اتحاد علة المتجددات.
وما
ذكروه ثانياً فجوابه من وجهين : الأول: أن الشيء إذا كان موقوفاً على شيء
واحد والآخر على شيئين فما يتوقف على شيء واحد لا يتحقق عدمه إلا بتقدير
عدم ذلك الشيء وما يتوقف تحققه على أمرين يتم عدمه بعدم كل واحد من ذينك
الأمرين.
وأما
ما يلزم الخطر والمشقة في فعله فلا بد وأن يكون لغرض ظاهر راجح على خطر
ذلك الفعل ومشقته على ما تشهد به تصرفات العقلاء وأهل العرف من ركوب البحار
ومعاناة المشاق من الأسفار فإنهم لا يرتكبون ذلك إلا مع ظهور المصلحة لهم
في ذلك ومن فعل ذلك لا مع ظهور المصلحة في نظره عد سفيهاً مخبطاً في عقله
وما وقع به الاستشهاد من تنفيذ الودائع وإرسال الرسل إلى من بعدت مدة غيبته
والشهادة بالدين على من تقدم إفراره من هذا القبيل فكان الاستصحاب فيه
ظاهراً.
وعما ذكروه على الوجه الثالث أولاً فجوابه بزيادة افتقار التغير إلى تجدد علة موجبة للتغير بخلاف البقاء لإمكان اتحاد علة المتجددات.
وما
ذكروه ثانياً فجوابه من وجهين : الأول: أن الشيء إذا كان موقوفاً على شيء
واحد والآخر على شيئين فما يتوقف على شيء واحد لا يتحقق عدمه إلا بتقدير
عدم ذلك الشيء وما يتوقف تحققه على أمرين يتم عدمه بعدم كل واحد من ذينك
الأمرين.
ولايخفى أن ما يقع عدمه على تقديرين يكون عدمه أغلب من عدم
ما لا يتحقق عدمه إلا بتقدير واحد.وما كان عدمه أغلب كان تحققه أندر
وبالعكس مقابله.
فإن قيل عدم الواحد المعين إما أن يكون مساوياً في
الوقوع لعدم الواحد من الشيئين أو غالباً أو مغلوباً ولا تتحقق غلبة الظن
فيما ذكرتموه بتقدير غلبة الواحد المعين ومساواته وإنما يتحقق ذلك بتقدير
كونه مغلوباً.
ولا يخفى أن وقوع أحد أمرين لا بعينه أغلب من وقوع الواحد المعين كما ذكرتموه.
قلنا:
إذا نسبنا أحد الشيئين لا بعينه إلى ذلك الواحد المعين فإما أن يكون عدمه
أغلب من ذلك المعين أو مساوياً له أو مغلوباً فإن كان الأول لزم ما ذكرناه
وإن كان الثاني فكذلك أيضاً لترجحه بضم عدم الوصف الآخر إليه وإن كان
مغلوباً فنسبة الوصف الآخر إليه لا تخلو من الأقسام الثلاثة ويترجح ما
ذكرناه بتقديرين آخرين منها وإنما لا يترجح ما ذكرناه بتقدير أن يكون كل
واحد من الوصفين مرجوحاً فإذا ما ذكرناه يتم على تقديرات أربعة ولا يتم على
تقدير واحد وفيه دقة فليتأمل.
الوجه الثاني: أن العاقل إذا عن له
مقصودان متساويان وكانت المقدمات الموصلة إلى أحدهما أكثر من مقدمات الآخر
فإنه يبادر إلى مقدماته أقل ولولا أن ذلك أفضى إلى مقصوده وأغلب لما كان
إقدامه عليه أغلب لخلوه عن الفائدة المطلوبة من تصرفات العقلاء.
قولهم
وإن كان البقاء أغلب من التغير فلا يلزم أن يكون غالباً على الظن قلنا إذا
كان البقاء أغلب من مقابله فهو أغلب على الظن منه ويجب المصير إليه نظراً
إلى أن المجتهد مؤاخد بما هو الأظهر عنده.
قولهم: إنما يدل ما ذكرتموه
على غلبة الظن فيما هو قابل للبقاء.قلنا: الأعراض إن كانت باقية فلا إشكال
وإن لم تكن باقية بأنفسها فممكنة البقاء بطريق التجدد كسواد الغراب وبياض
الثلج.
وعلى كل تقدير فالكلام إنما هو واقع فيما هو ممكن التجدد من الأعراض لا فيما هو غير ممكن.
وعما
ذكروه على الوجه الرابع أن يقال: مجرد الإمكان غير محوج إلى المؤثر بل
المحوج إليه إنما هو الإمكان المشروط بالحدوث أو الحدوث المشروط بالإمكان.
وعن
المعارضات أما الحوادث فإنما خالفنا فيها الأصل لوجود السبب الموجب للحدوث
ونفي حكم الدليل مع وجوده لمعارض أولى من إخراجه عن الدلالة وإبطاله
بالكلية مع ظهور دلالته.
وأما تقديم الشهادة المثبتة على النافية وإن
كانت معتضدة بأصل براءة الذمة فإنما كان لاطلاع المثبت على السبب الموجب
لمخالفة براءة الذمة وعدم اطلاع النافي عليه لإمكان حدوثه حالة غيبة النافي
عن المنكر وتعذر صحبته له واطلاعه على أحواله في سائر الأوقات.
وأما
مسألة العبد فهي ممنوعة وبتقدير تسليمها فلأن الذمة مشغولة بالكفارة يقيناً
ولا تحصل البراءة منها إلا بيقين وجود العبد ولا يقين.فمن ادعى وجود مثل
ذلك فيما نحن فيه فعليه الدليل.
قولهم إنما يمكن التمسك به في الأحكام
الشرعية إذا كان مفيدا لغلبة الظن لا نسلم ذلك بل أصل الظن كاف وبه يظهر
الشيء على مقابله وأما رد الشهادة في الصور المذكورة فلم يكن لعدم صلاحيتها
بل لعدم اعتبارها في الشرع بخلاف ما نحن فيه من استصحاب الحال فإنه معتبر
بدليل ما ذكرناه من صورة الشاك في الطهارة والحدث.
قولهم إنه مغلب على
الظن قبل ورود الشرع لا بعده ليس كذلك فإنا بعد ورود الشرع إذا لم نظفر
بدليل يخالف الأصل بقي ذلك الأصل مغلباً على الظن.
نعم غايته أنه قبل ورود الشرع أغلب على الظن لتيقن عدم المعارض منه بعد ورود الشرع لظن عدم المعارض.
المسألة
الثانية اختلفوا في جواز استصحاب حكم الإجماع في محل الخلاف فنفاه جماعة
من الأصوليين كالغزالي وغيره وأثبته آخرون وهو المختار.
وصورته ما لو
قال الشافعي مثلا في مسألة الخارج النجس من غير السبيلين إذا تطهر ثم خرج
منه خارج من غير السبيلين فهو بعد الخروج متطهر ولو صلى فصلاته صحيحة لأن
الإجماع منعقد على هذين الحكمين قبل الخارج والأصل في كل متحقق دوامه لما
تحقق في المسألة التي قبلها إلا أن يوجد المعارض النافي والأصل عدمه فمن
ادعاه يحتاج إلى الدليل.
فإن قيل القول بثبوت الطهارة وصحة الصلاة في
محل النزاع إما أن يكون لدليل أو لا لدليل: لا جائز أن يكون لا لدليل فإنه
خلاف الإجماع وإن كان لدليل فإما نص أو قياس أو إجماع فإن كان بنص أو قياس
فلا بد من إظهاره ولو ظهر لم يكن إثبات الحكم في محل الخلاف بناء على
الاستصحاب بل بناء على ما ظهر من النص أو القياس.
وإن كان بالإجماع فلا إجماع في محل الخلاف وإن كان الإجماع قبل خروج الخارج ثابتاً.
قلنا:
متى يفتقر الحكم في بقائه إلى دليل إذا قيل بنزوله منزلة الجواهر أو
الأعراض؟ الأول ممنوع بل هو باق بعد ثبوته بالإجماع لا بدليل لما سبق
تقريره في المسألة المتقدمة والثاني مسلم ولكن لم قلتم إنه نازل منزلة
الأعراض؟ سلمنا أنه نازل منزلة الأعراض وأنه لا بد له من دليل ولكن لا نسلم
انحصار الدليل المبقى فيما ذكروه من النص والإجماع والقياس إلا أن يبينوا
أن الاستصحاب ليس بدليل وهو موضوع النزاع.
سلمنا أن الاستصحاب بنفسه لا
يكون دليلا على الحكم الباقي بنفسه ولكنه دليل الدليل على الحكم وذلك لأنا
بينا في المسألة المتقدمة وجود غلبة الظن ببقاء كل ما كان متحققا على حاله
وذلك يدل من جهة الإجمال على دليل موجب لذلك الظن.القسم الثاني
فيما ظن أنه دليل صحيح وليس كذلك
وهو
أربعة أنواع : النوع الاول شرع من قبلنا. وفيه مسألتان : المسألة الأولى :
اختلفوا في النبي عليه السلام قبل بعثته هل كان متعبدا بشرع أحد من
الأنبياء قبله ؟ فمنهم من نفى ذلك كأبي الحسين البصري وغيره ومنهم من أثبته
ثم اختلف المثبتون فمنهم من نسبه إلى شرع نوح ومنهم من نسبه إلى شرع
ابراهيم ومنهم من نسبه إلى موسى ومنهم من نسبه إلى عيسى.
ومن الأصوليين من قضى بالجواز وتوقف في الوقوع كالغزالي والقاضي عبد الجبار وغيرهما من المحققين وهو المختار.
أما
الجواز فثابت وذلك لأنه لو امتنع إما أن يمتنع لذاته أو لعدم المصلحة في
ذلك أو لمعنى آخر الأول ممتنع فإنا لو فرضنا وقوعه لم يلزم عنه لذاته في
العقل محال.
والثاني فمبني على وجوب رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى
وقد أبطلناه في كتبنا الكلامية وبتقدير رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى
فغير بعيد أن يعلم الله تعالى أن مصلحة الشخص قبل نبوته في تكليفه بشريعة
من قبله.
والثالث فلا بد من إثباته إذ الأصل عدمه.
وأما الوقوع
فيستدعي دليلاً والأصل عدمه وما يتخيل من الأدلة الدالة على الوقوع وعدمه
فمع عدم دلالتها في أنفسها متعارضة كما يأتي وليس التمسك بالبعض منها أولى
من البعض.
فإن قيل الدليل على أنه لم يكن قبل البعثة متعبداً بشريعة أحد
قبله أنه لو كان متعبداً بشريعة من الشرائع السالفة لنقل عنه فعل ما تعبد
به واشتهر تلبسه بتلك الشريعة ومخالطة أهلها كما هو الجاري من عادة كل
متشرع بشريعة وقد عرفت أحواله قبل البعثة ولم ينقل عنه شيء من ذلك.
وأيضاً
فإنه لو كان متعبدا ببعض الشرائع السالفة لافتخر أهل تلك الشريعة بعد
بعثته واشتهاره وعلو شأنه بنسبته إليهم وإلى شرعهم.ولم ينقل شيء من ذلك.
سلمنا أنه لا دليل يدل على عدم تعبده بشرع من قبله ولكن لا نسلم عدم الدليل الدال على تعبده بشرع من قبله ويدل على ذلك أمران.
الأول: أن كل من سبق من المرسلين كان داعيا إلى اتباع شرعه كل المكلفين وكان النبي عليه السلام داخلا في ذلك العموم.
الثاني:
أنه عليه السلام قبل البعثة كان يصلي ويحج ويعتمر ويطوف بالبيت ويعظمه
ويذكي ويأكل اللحم ويركب البهائم ويستسخرها ويتجنب الميتة وذلك كله مما لا
يرشد إليه العقل ولا يحسن بغير الشرع.
والجواب عن الاعتراض الأول أنه
مقابل بأنه لو لم يكن على شريعة من الشرائع ولا متعبداً بشيء منها لظهر منه
التلبس بخلاف ما أهل تلك الشرائع متلبسون به.
واشتهرت مخالفته لهم في ذلك وكانت الدواعي متوفرةً على نقله ولم ينقل عنه شيء من ذلك وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
وعن
الاعتراض الأول للمذهب الثاني بمنع دعوة من سبق من الأنبياء لكافة
المكلفين إلى اتباعه فإنه لم ينقل في ذلك لفظ يدل على التعميم ليحكم به.
أربعة أنواع : النوع الاول شرع من قبلنا. وفيه مسألتان : المسألة الأولى :
اختلفوا في النبي عليه السلام قبل بعثته هل كان متعبدا بشرع أحد من
الأنبياء قبله ؟ فمنهم من نفى ذلك كأبي الحسين البصري وغيره ومنهم من أثبته
ثم اختلف المثبتون فمنهم من نسبه إلى شرع نوح ومنهم من نسبه إلى شرع
ابراهيم ومنهم من نسبه إلى موسى ومنهم من نسبه إلى عيسى.
ومن الأصوليين من قضى بالجواز وتوقف في الوقوع كالغزالي والقاضي عبد الجبار وغيرهما من المحققين وهو المختار.
أما
الجواز فثابت وذلك لأنه لو امتنع إما أن يمتنع لذاته أو لعدم المصلحة في
ذلك أو لمعنى آخر الأول ممتنع فإنا لو فرضنا وقوعه لم يلزم عنه لذاته في
العقل محال.
والثاني فمبني على وجوب رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى
وقد أبطلناه في كتبنا الكلامية وبتقدير رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى
فغير بعيد أن يعلم الله تعالى أن مصلحة الشخص قبل نبوته في تكليفه بشريعة
من قبله.
والثالث فلا بد من إثباته إذ الأصل عدمه.
وأما الوقوع
فيستدعي دليلاً والأصل عدمه وما يتخيل من الأدلة الدالة على الوقوع وعدمه
فمع عدم دلالتها في أنفسها متعارضة كما يأتي وليس التمسك بالبعض منها أولى
من البعض.
فإن قيل الدليل على أنه لم يكن قبل البعثة متعبداً بشريعة أحد
قبله أنه لو كان متعبداً بشريعة من الشرائع السالفة لنقل عنه فعل ما تعبد
به واشتهر تلبسه بتلك الشريعة ومخالطة أهلها كما هو الجاري من عادة كل
متشرع بشريعة وقد عرفت أحواله قبل البعثة ولم ينقل عنه شيء من ذلك.
وأيضاً
فإنه لو كان متعبدا ببعض الشرائع السالفة لافتخر أهل تلك الشريعة بعد
بعثته واشتهاره وعلو شأنه بنسبته إليهم وإلى شرعهم.ولم ينقل شيء من ذلك.
سلمنا أنه لا دليل يدل على عدم تعبده بشرع من قبله ولكن لا نسلم عدم الدليل الدال على تعبده بشرع من قبله ويدل على ذلك أمران.
الأول: أن كل من سبق من المرسلين كان داعيا إلى اتباع شرعه كل المكلفين وكان النبي عليه السلام داخلا في ذلك العموم.
الثاني:
أنه عليه السلام قبل البعثة كان يصلي ويحج ويعتمر ويطوف بالبيت ويعظمه
ويذكي ويأكل اللحم ويركب البهائم ويستسخرها ويتجنب الميتة وذلك كله مما لا
يرشد إليه العقل ولا يحسن بغير الشرع.
والجواب عن الاعتراض الأول أنه
مقابل بأنه لو لم يكن على شريعة من الشرائع ولا متعبداً بشيء منها لظهر منه
التلبس بخلاف ما أهل تلك الشرائع متلبسون به.
واشتهرت مخالفته لهم في ذلك وكانت الدواعي متوفرةً على نقله ولم ينقل عنه شيء من ذلك وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
وعن
الاعتراض الأول للمذهب الثاني بمنع دعوة من سبق من الأنبياء لكافة
المكلفين إلى اتباعه فإنه لم ينقل في ذلك لفظ يدل على التعميم ليحكم به.
وبتقدير
نقله فيحتمل أن يكون زمان نبينا عليه السلام زمان اندراس الشرائع المتقدمة
وتعذر التكليف بها لعدم نقلها وتفصيلها ولذلك بعث في ذلك الزمان.
وعن
الاعتراض الثاني أنا لا نسلم ثبوت شيء مما ذكروه بنقل يوثق به وبتقدير
ثبوته لا يدل ذلك على أنه كان متعبداً به شرعاً لاحتمال أن تكون صلاته
وحجته وعمرته وتعظيمه للبيت بطريق التبرك بفعل مثل ما نقل جملته عن أفعال
الأنبياء المتقدمين واندرس تفصيله.
وأما أكل اللحم وذبح الحيوان واستسخاره للبهائم فإنما كان بناء منه على أنه لا تحريم قبل ورود الشرع.
وأما تركه للميتة بناء على عيافة نفسه لها كعيافته لحم الضب أما أن يكون متعبداً بذلك شرعاً فلا.
المسألة
الثانية اختلفوا في النبي عليه السلام وأمته بعد البعث هل هم متعبدون بشرع
من تقدم ؟ فنقل عن أصحاب أبي حنيفة وعن أحمد في إحدى الراويتين عنه وعن
بعض أصحاب الشافعي أن النبي عليه السلام كان متعبدا بما صح من شرائع من
قبله بطريق الوحي إليه لا من جهة كتبهم المبدلة ونقل أربابها.
ومذهب الأشاعرة والمعتزلة المنع من ذلك وهو المختار ويدل على ذلك أمور أربعة.
الأول:
أن النبي عليه السلام لما بعث معاذاً إلى اليمن قاضياً قال له: " بم تحكم؟
قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله.قال: فإن لم تجد؟
قال: أجتهد رأيي " ولم يذكر شيئاً من كتب الأنبياء الأولين وسننهم والنبي
عليه السلام أقره على ذلك ودعا له وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول
الله لما يحبه الله ورسوله " ولو كانت من مدارك الأحكام الشرعية لجرت مجرى
الكتاب والسنة في وجوب الرجوع إليها ولم يجز العدول عنها إلى اجتهاد الرأي
إلا بعد البحث عنها واليأس من معرفتها.
الثاني: أنه لو كان النبي عليه
السلام متعبداً بشريعة من قبله وكذلك أمته لكان تعلمها من فروض الكفايات
كالقرآن والأخبار ولوجب على النبي عليه السلام مراجعتها وأن لا يتوقف على
نزول الوحي في أحكام الوقائع التي لا خلو للشرائع الماضية عنها ولوجب أيضاً
على الصحابة بعد النبي عليه السلام مراجعتها والبحث عنها والسؤال لناقليها
عند حدوث الوقائع المختلف فيها فيما بينهم كمسألة الجد والعول وبيع أم
الولد والمفوضة وحد الشرب وغير ذلك على نحو بحثهم عن الأخبار النبوية في
ذلك وحيث لم ينقل شيء من ذلك علم أن شريعة من تقدم غير متعبد بها لهم.
الثالث:
أنه لو كان متعبداً باتباع شرع من قبله إما في الكل أو البعض لما نسب شيء
من شرعنا إليه على التقدير الأول ولا كل الشرع إليه على التقدير الثاني كما
لا ينسب شرعه عليه السلام إلى من هو متعبد بشرعه من أمته وهو خلاف الإجماع
من المسلمين.
الرابع: أن إجماع المسلمين على أن شريعة النبي عليه
السلام ناسخة لشريعة من تقدم فلو كان متعبداً بها لكان مقرراً لها ومخبراً
عنها لا ناسخاً لها ولا مشرعاً وهو محال.
فإن قيل على الحجة الأولى:
إنما لم يتعرض معاذ لذكر التوراة والإنجيل إكتفاء منه بآيات في الكتاب تدل
على اتباعهما على ما يأتي ولأن اسم الكتاب يدخل تحته التوراة والإنجيل
لكونهما من الكتب المنزلة.
وأما الحجة الثانية: لا نسلم أن تعلم ما قيل بالتعبد به من الشرائع ليس من فروض الكفايات ولا نسلم عدم مراجعة النبي عليه السلام لها.
ولهذا
نقل عنه مراجعة التوارة في مسألة الرجم وما لم يراجع فيه شرع من تقدم إما
لأن تلك الشرائع لم تكن مبينة له أو لأنه ما كان متعبداً باتباع الشريعة
السالفة إلا بطريق الوحي ولم يوح اليه به.
وأما عدم بحث الصحابة عنها
فإنما كان لأن ما تواتر منها كان معلوما لهم وغير محتاج إلى بحث عنه وما
كان منها منقولاً على لسان الآحاد من الكفار لم يكونوا متعبدين به.
وأما
الحجة الثالثة: فإنما ينسب إليه ما كان متعبداً به من الشرائع بأنه من
شرعه بطريق التجوز لكونه معلوما لنا بواسطته وإن لم يكن هو الشارع له.
وأما
الحجة الرابعة فنحن نقول بها وأن ما كان من شرعه مخالفاً لشرع من تقدم فهو
ناسخ له وما لم يكن من شرعه بل هو متعبد فيه باتباع شرع من تقدم فلا.
ولهذا
فإنه لا يوصف شرعه بأنه ناسخ لبعض ما كان مشروعاً قبله كوجوب الإيمان
وتحريم الكفران والزنى والقتل والسرقة وغير ذلك مما شرعنا فيه موافق لشرع
من تقدم.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على مطلوبكم لكنه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من جهة الكتاب والسنة.
أما من جهة الكتاب فآيات.
الأولى:
قوله تعالى في حق الأنبياء: " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده "
الأنعام90 أمره باقتدائه بهداهم وشرعهم من هداهم فوجب عليه اتباعه.
الثانية:
قوله تعالى: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح " النساء 163 وقوله
تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً " الشورى13 فدل على وجوب اتباعه
لشريعة نوح.
الثالثة: قوله تعالى: " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم " النحل 123 أمره باتباع ملة ابراهيم والأمر للوجوب.
الرابعة:
قوله تعالى: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون "
المائدة 44 والنبي عليه السلام من جملة النبيين فوجب عليه الحكم بها.
وأما
السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجع إلى التوراة في رجم
اليهودي وأيضاً ما روي عنه عندما طلب منه القصاص في سن كسرت فقال: " كتاب
الله يقضي بالقصاص " وليس في الكتب ما يقضي بالقصاص في السن سوى التوراة
وهو قوله تعالى فيها: " السن بالسن " المائدة 45 وأيضاً ما روي عنه أنه
قال: " من نام عن صلاة أو أنسيها فليصلها إذا ذكرها " وتلا قوله تعالى: "
أقم الصلاة لذكري طه 14 وهو خطاب مع موسى عليه السلام.
والجواب قولهم: إنما لم يذكر معاذ التوراة والإنجيل لدلالة القرآن عليهما لا نسلم ذلك وما يذكرونه في ذلك فسيأتي الكلام عليه.
وإن
سلمنا ذلك لكن لا يكون ذلك كافياً عن ذكرهما كما لو لم يكن ما في القرآن
من ذكر السنة والقياس على ما بيناه كافيا عن ذكرهما أو أن لا يكون إلى ذكر
السنة والقياس في خبر معاذ حاجة وكل واحد من الأمرين على خلاف الأصل.
قولهم:
إن الكتب السالفة مندرجة في لفظ الكتاب ليس كذلك لأن المتبادر من إطلاق
لفظ الكتاب في شرعنا عند قول القائل: قرأت كتاب الله وحكمت بكتاب الله ليس
غير القرآن.
وذلك لما علم من معاناة المسلمين لحفظ القرآن ودراسته والعمل بموجباته دون غيره من الكتب السالفة.
قولهم
لا نسلم أن تعلم ما تعبد به من الشرائع الماضية ليس فرضاً على الكفاية
قلنا لأن إجماع المسلمين قبل ظهور المخالفين على أنه لا تأثيم بترك النظر
على كافة المجتهدين في ذلك وأما مراجعة النبي عليه السلام التوراة فإنما
كان لإظهار صدقه فيما كان قد أخبر به من أن الرجم مذكور في التوراة وإنكاره
اليهود ذلك لا لأن يستفيد حكم الرجم منها ولذلك فإنه لم يرجع إليها فيما
سوى ذلك.
وما ذكروه في امتناع بحث الصحابة عن ذلك فغير صحيح لأن ما نقل
من ذلك متواتراً إنما يعرفه من خالط النقلة له وكان فاحصاً عنه ولم ينقل عن
أحد من الصحابة شيء من ذلك كيف وإنه قد كان يمكن معرفة ذلك ممن أسلم من
أحبار اليهود وهو ثقة مأمون كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وغيرهما ولم
ينقل عن النبي عليه السلام ولا عن أحد من الأمة السؤال لهم عن ذلك.
وما ذكروه على الحجة الثالثة فترك للظاهر المشهور المتبادر إلى الفهم من غير دليل فلا يسمع.
وما
ذكروه على الحجة الرابعة فمندفع وذلك لأن إطلاق الأمة أن شرع النبي عليه
السلام ناسخ للشرائع السالفة بينهم يفهم منه أمران أحدهما رفع أحكامها
والثاني أنه غير متعبد بها.
فما لم يثبت رفعه من تلك الأحكام بشرعه ضرورة استمراره فلا يكون ناسخا له فيبقى المفهوم الآخر وهو عدم تعبده به.
ولا يلزم من مخالفة دلالة الدليل على أحد مدلوليه مخالفته بالنظر إلى المدلول الآخر.
والجواب
عن المعارضة بالآية الأولى أنه إنما أمره باتباع هدى مضاف إلى جميعهم
مشترك بينهم دون ما وقع به الخلاف فيما بينهم والناسخ والمنسوخ منه
لاستحالة اتباعه وامتثاله والهدى المشترك فيما بينهم إنما هو التوحيد
والأدلة العقلية الهادية إليه وليس ذلك من شرعهم في شيء.
ولهذا قال: "
فبهداهم اقتده " الأنعام 90 ولم يقل بهم وبتقدير أن يكون المراد من الهدي
المشترك ما اتفقوا فيه من الشرائع دون ما اختلفوا فيه فاتباعه له إنما كان
بوحي إليه وأمر مجدد لا أنه بطريق الاقتداء بهم.
وعن قوله تعالى: "
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح " النساء 163 أنه لا دلالة له على أنه
موحى إليه بعين ما أوحي به إلى نوح والنبيين من بعده حتى يقال باتباعه
لشريعتهم بل غايته أنه أوحى إليه كما أوحى إلى غيره من النبيين قطعا
لاستبعاد ذلك وإنكاره.
وبتقدير أن يكون المراد به أنه أوحى إليه بما
أوحى به إلى غيره من النبيين فغايته أنه أوحى إليه بمثل شريعة من قبله بوحي
مبتدإ لا بطريق الاتباع لغيره.
وعن قوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً " الشورى 13 أن المراد من الدين إنما هو أصل التوحيد لا ما اندرس من شريعته.
ولهذا
لم ينقل عن النبي عليه السلام البحث عن شريعة نوح وذلك مع التعبد بها في
حقه ممتنع وحيث خصص نوحاً بالذكر مع اشتراك جميع الأنبياء في الوصية
بالتوحيد كان تشريفاً له وتكريما كما خصص روح عيسى بالإضافة إليه والمؤمنين
بلفظ العباد وعن قوله تعالى : " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم "
النحل 123 أن المراد بلفظ الملة إنما هو أصول التوحيد وإجلال الله تعالى
بالعبادة دون الفروع الشرعية ويدل على ذلك أربعة أوجه الأول أن لفظ الملة
لا يطلق على الفروع الشرعية بدليل أنه لا يقال ملة الشافعي وملة أبي حنيفة
لمذهبيهما في الفروع الشرعية.
الثاني: أنه قال عقيب ذلك وما كان من المشركين ذكر ذلك في مقابلة الدين ومقابل الشرك إنما هو التوحيد.
الثالث:
أنه قال: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " البقرة 130 ولو كان
المراد من الدين الأحكام الفرعية لكان من خالفه فيها من الأنبياء سفيها
وهو محال.
الرابع: أنه لو كان المراد من الدين فروع الشريعة لوجب على
النبي عليه السلام البحث عنها لكونه مأموراً بها وذلك مع اندراسها ممتنع ثم
وإن سلمنا أن المراد بالملة الفروع الشرعية غير أنه إنما وجب عليه اتباعها
بما أوحى ولهذا قال: ثم أوحينا إليك.
وعن قوله تعالى: " إنا أنزلنا
التوراة " المائدة 44 الاية أن قوله : " يحكم بها النبيون صيغة إخبار لا
صيغة أمر وذلك لا يدل على وجوب اتباعها وبتقدير أن يكون ذلك أمراً فيجب
حمله على ما هو مشترك الوجوب بين جميع الأنبياء وهو التوحيد دون الفروع
الشرعية المختلف فيها فيما بينهم لإمكان تنزيل لفظ النبيين على عمومه بخلاف
التنزيل على الفروع الشرعية كيف وإن هذه الآيات متعارضةً والعمل بجميعها
ممتنع وليس العمل بالبعض أولى من البعض.
وعن الخبر الأول: وهو رجوع النبي عليه السلام إلى التوراة في رجم اليهودي ما سبق.
وعن
الخبر الثاني: لا نسلم أن كتابنا غير مشتمل على قصاص السن بالسن ودليله
قوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " البقرة
194 وهو عام في السن وغيره.
وعن الخبر الثالث: أنه لم يذكر الخطاب مع
موسى لكونه موجباً لقضاء الصلاة عند النوم والنسيان وإنما أوجب ذلك بما
أوحى إليه ونبه على أن أمته مأمورة بذلك كما أمر موسى عليه السلام.
ثم
ما ذكرتموه من النقل معارض بقوله عليه السلام: " بعثت إلى الأحمر والأسود "
وكل نبي بعث إلى قومه والنبي عليه السلام لم يكن من أقوام الأنبياء
المتقدمين فلا يكون متعبداً بشرعهم وبما روي عنه عليه السلام أنه رأى مع
عمر بن الخطاب قطعة من التوراة ينظر فيها فغضب وقال ألم آت بها بيضاء نقية
لو أدركني أخي موسى لما وسعه إلا اتباعي أخبر بأن موسى لو كان حياً لما
وسعه إلا اتباعه فلأن لا يكون النبي عليه السلام متبعاً لموسى بعد موته
أولى وربما عورض أيضاً بقوله تعالى : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً "
المائدة 48 والشرعة الشريعة والمنهاج الطريق وذلك يدل على عدم اتباع الأخير
لمن تقدم من الأنبياء لأن الشريعة لا تضاف إلا إلى من اختص بها دون التابع
لها ولا حجة فيه فإن الشرائع وإن اشتركت في شيء فمختلفة في أشياء.
وباعتبار
ما به الاختلاف بينها كانت شرائع مختلفةً وذلك كما يقال لكل إمام مذهب
باعتبار اختلاف الأئمة في بعض الأحكام وإن وقع الاتفاق بينهم في كثير منها.
وربما أورد النفاة في ذلك طرقاً أخرى شتى ضعيفةً آثرنا الإعراض عن ذكرها.
وكما
أن النبي عليه السلام لم يكن متعبداً بشريعة من تقدم إلا بوحي مجدد لم يكن
قبل بعثته على ما كان قومه عليه بل كان متجنباً لأصنامهم معرضاً عن
أزلامهم ولا يأكل من ذبائحهم على النصب هذا هو مذهب أصحاب الشافعي وأئمة
المسلمين.
ومن الأصوليين من قال بالوقف وهو بعيد.
النوع الثاني: مذهب
الصحابي وفيه مسألتان : المسألة الأولى اتفق الكل على أن مذهب الصحابي في
مسائل الاجتهاد لا يكون حجةً على غيره من الصحابة المجتهدين إماماً كان أو
حاكماً أو مفتياً.
واختلفوا في كونه حجةً على التابعين ومن بعدهم من
المجتهدين: فذهبت الأشاعرة والمعتزلة والشافعي في أحد قوليه وأحمد بن حنبل
في إحدى الروايتين عنه والكرخي إلى أنه ليس بحجة وذهب مالك بن انس والرازي
والبرذعي من أصحاب أبي حنيفة والشافعي في قول له وأحمد بن حنبل في رواية له
إلى أنه حجة مقدمة على القياس وذهب قوم إلى أنه إن خالف القياس فهو حجة
وإلا فلا وذهب قوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر دون غيرهما.
والمختار أنه ليس بحجة مطلقاً.
وقد احتج النافون بحجج ضعيفة لا بد من ذكرها والإشارة إلى وجه ضعفها قبل ذكر ما هو المختار في ذلك.
الحجة
الأولى قوله تعالى : " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول "
النساء 59 أوجب الرد عند الاختلاف إلى الله والرسول فالرد إلى مذهب الصحابي
يكون تركاً للواجب وهو ممتنع.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن قوله تعالى: "
فردوه إلى الله والرسول " يدل على الوجوب على ما سبق تقريره فالرد إلى
مذهب الصحابي لا يكون تركاً للواجب.
وإن سلمنا أنه للوجوب ولكن عند
إمكان الرد وهو أن يكون حكم المختلف فيه مبيناً في الكتاب أو السنة: وأما
بتقدير أن لا يكون مبيناً فيهما فلا ونحن إنما نقول باتباع مذهب الصحابي مع
عدم الظفر بما يدل على حكم الواقعة من الكتاب والسنة.
الحجة الثانية
قالوا: أجمعت الصحابة على جواز مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة المجتهدين
للآخر ولو كان مذهب الصحابي حجةً لما كان كذلك وكان يجب على كل واحد منهم
اتباع الآخر وهو محال.
ولقائل أن يقول: الخلاف إنما هو في كون مذهب
الصحابي حجةً على من بعده من مجتهدة التابعين ومن بعدهم لا مجتهدة الصحابة
فلم يكن الإجماع دليلاً على محل النزاع.
الحجة الثالثة: أن الصحابي من أهل الاجتهاد والخطأ ممكن عليه فلا يجب على التابع المجتهد العمل بمذهبه كالصحابيين والتابعيين.
ولقائل
أن يقول: لا يلزم من امتناع وجوب العمل بمذهب الصحابي على صحابي مثله
وامتناع وجوب العمل بمذهب التابعي على تابعي مثله امتناع وجوب عمل التابعي
بمذهب الصحابي مع تفاوتهما على ما قال عليه السلام: " خير القرون القرن
الذي أنا فيه وقال عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم
ولم يرد مثل ذلك في حق غيرهم.
الحجة الرابعة: أن الصحابة قد اختلفوا في
مسائل وذهب كل واحد إلى خلاف مذهب الآخر كما في مسائل الجد مع الأخوة
وقوله: أنت علي حرام كما سبق تعريفه فلو كان مذهب الصحابي حجة على غيره من
التابعين لكانت حجج الله تعالى مختلفةً متناقضةً ولم يكن اتباع التابعي
للبعض أولى من البعض.
ولقائل أن يقول: اختلاف مذاهب الصحابة لا يخرجها
عن كونها حججاً في أنفسها كأخبار الآحاد والنصوص الظاهرة ويكون العمل
بالواحد منها متوققاً على الترجيح ومع عدم الوقوف على الترجيح فالواجب
الوقف أو التخيير كما عرف فيما تقدم.
الحجة الخامسة: أن قول الصحابي عن اجتهاد مما يجوز عليه الخطأ فلا يقدم على القياس كالتابعي.
ولقائل
أن يقول: اجتهاد الصحابي وإن جاز عليه الخطأ فلا يمنع ذلك من تقديمه على
القياس كخبر الواحد ولا يلزم من امتناع تقديم مذهب التابعي على القياس
امتناع ذلك في مذهب الصحابي لما بيناه من الفرق بينهما.
الحجة السادسة: أن التابعي المجتهد متمكن من تحصيل الحكم بطريقه فلا يجوز له التقليد فيه كالأصول.
ولقائل
أن يقول: اتباع مذهب الصحابي إنما يكون تقليداً له إن لو لم يكن قوله حجةً
متبعةً وهو محل النزاع وخرج عليه الأصول فإن القطع واليقين معتبر فيها
ومذهب الغير من أهل الاجتهاد فيها ليس بحجة قاطعة فكان اتباعه في مذهبه
تقليداً من غير دليل وذلك لا يجوز
والمعتمد في ذلك الاحتجاج بقوله
تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " أوجب الاعتبار وأراد به القياس كما
سبق تقريره في إثبات كون القياس حجةً وذلك ينافي وجوب اتباع مذهب الصحابي
وتقديمه على القياس.
فإن قيل: لا نسلم دلالة على وجوب اتباع القياس وقد
سبق تقريره من وجوه سلمنا دلالته على ذلك لكنه معارض من جهة الكتاب والسنة
والإجماع والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت
للناس تأمرون بالمعروف " آل عمران 110 وهو خطاب مع الصحابة بأن ما يأمرون
به معروف والأمر بالمعروف واجب القبول.
وأما السنة فقوله عليه السلام: "
أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وقوله عليه السلام: " اقتدوا
باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " ولا يمكن حمل ذلك على مخاطبة العامة
والمقلدين لهم لما فيه من تخصيص العموم من غير دليل ولما فيه من إبطال
فائدة تخصيص الصحابة بذلك من جهة وقوع الاتفاق على جواز تقليد العامة لغير
الصحابة من المجتهدين فلم يبق إلا أن يكون المراد به وجوب اتباع مذاهبهم.
وأما
الإجماع فهو أن عبد الرحمن بن عوف ولي علياً رضي الله عنه الخلافة بشرط
الاقتداء بالشيخين فأبى وولى عثمان فقبل ولم ينكر عليه منكر فصار إجماعاً.
وأما المعقول فمن وجوه.
الأول:
أن الصحابي إذا قال قولا يخالف القياس فإما أن لا يكون له فيما قال مستند
أو يكون: لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان قائلاً في الشريعة بحكم لا دليل
عليه وهو محرم وحال الصحابي العدل ينافي ذلك وإن كان الثاني فلا مستند وراء
القياس سوى النقل فكان حجةً متبعة.
الثاني: أن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه منكر كان حجةً فكان حجةً مع عدم الانتشار كقول النبي عليه السلام.
الثالث:
أن مذهب الصحابي إما أن يكون عن نقل أو اجتهاد فإن كان الأول كان حجةً وإن
كان الثاني فاجتهاد الصحابي مرجح على اجتهاد التابعي ومن بعده لترجحه
بمشاهدة التنزيل ومعرفة التأويل ووقوفه من أحوال النبي عليه السلام ومراده
من كلامه على ما لم يقف عليه غيره فكان حال التابعي إليه كحال العامي
بالنسبة إلى المجتهد التابعي فوجب اتباعه له.
والجواب عن منع دلالة الآية ما ذكرناه.
وعن القوادح ما سبق.
وعن
المعارضة بالكتاب أنه لا دلالة فيه لما سبق في إثبات الإجماع وإن كان دالا
فهو خطاب مع جملة الصحابة ولا يلزم من كون ما أجمعوا عليه حجةً أن يكون
قول الواحد والاثنين حجةً.
وعن السنة أنه لا دلالة فيها أيضاً لما سبق
في الإجماع ولأن الخبر الأول وإن كان عاماً في أشخاص الصحابة فلا دلالة فيه
على عموم الاقتداء في كل ما يقتدى فيه.
وعند ذلك فقد أمكن حمله على
الاقتداء بهم فيما يرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس الحمل على غيره
أولى من الحمل عليه وبه يظهر فساد التمسك بالخبر الثاني.
وعن الإجماع
أنه إنما لم ينكر أحد من الصحابة على عبد الرحمن وعثمان ذلك لأنهم حملوا
لفظ الاقتداء على المتابعة في السيرة والسياسة دون المتابعة في المذهب
بدليل الإجماع على أن مذهب الصحابي ليس حجةً على غيره من الصحابي المجتهدين
كيف وإنه لو كان المراد بشرط الاقتداء بهما المتابعة في مذهبهما فالقائل
بأن مذهب الصحابي حجة قائل بوجوب اتباعه والقائل أنه ليس بحجة قائل بتحريم
اتباعه على غيره من المجتهدين ويلزم من ذلك الخطأ بسكوت الصحابة عن الإنكار
إما على علي حيث امتنع من الاقتداء إن كان ذلك واجباً وإما على عثمان وعبد
الرحمن بن عوف إن كان الاقتداء بالشيخين محرماً وذلك ممتنع.
عن المعارضة الأولى: من المعقول أنها منتقضة بمذهب التابعي فإن ما ذكروه بعينه ثابت فيه وليس بحجة بالاتفاق.
وعن
الثانية: أنه لا يخلو إما أن يقول بأن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر
عليه منكر أيكون ذلك إجماعاً أم لا يكون إجماعاً فإن كان الأول فالحجة في
الإجماع لا في مذهب الصحابي وذلك غير متحقق فيما إذا لم ينتشر وإن كان
الثاني فلا حجة فيه مطلقاً كيف وإن ما ذكروه منتقض بمذهب التابعي فإنه إذا
انتشر في عصره ولم يوجد له نكير كان حجةً ولا يكون حجةً بتقدير عدم انتشاره
إجماعاً.
وعن الثالثة: لا نسلم أن مستنده النقل لأنه لو كان معه نقل لأبداه ورواه لأنه من العلوم النافعة
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وقد قال عليه السلام: " من كتم علماً نافعاً ألجمه الله بلجام من نار "
وذلك خلاف الظاهر من حال الصحابي فلم يبق إلا أن يكون عن رأي واجتهاد وعند
ذلك فلا يكون حجةً على غيره من المجتهدين بعده لجواز أن يكون دون غيره في
الاجتهاد وإن كان متميزاً بما ذكروه من الصحبة ولوازمها.
ولهذا قال عليه
السلام: " فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " ثم هو منتقض بمذهب التابعي
فإنه ليس بحجة على من بعده من تابعي التابعين وإن كانت نسبته إلى تابعي
التابعين كنسبة الصحابي إليه.
المسألة الثانية إذا ثبت أن مذهب الصحابي
ليس بحجة واجبة الاتباع فهل يجوز لغيره تقليده ؟ أما العامي فيجوز له ذلك
من غير خلاف وأما المجتهد من التابعين ومن بعدهم فيجوز له تقليده إن جوزنا
تقليد العالم للعالم وإن لم نجوز ذلك فقد اختلف قول الشافعي في جواز تقليد
العالم من التابعين للعالم من الصحابة فمنع من ذلك في الجديد وجوزه في
القديم غير أنه اشترط انتشار مذهبه تارة ولم يشترطه تارةً والمختار امتناع
ذلك مطلقاً لما يأتي في قاعدة الاجتهاد إن شاء الله تعالى.
النوع
الثالث: الاستحسان وقد اختلف فيه فقال به أصحاب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل
وأنكره الباقون حتى نقل عن الشافعي أنه قال من استحسن فقد شرع.
ولا بد قبل النظر في الحجاج من تلخيص محل النزاع ليكون التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد فنقول.
الخلاف ليس في نفس إطلاق لفظ الاستحسان جوازاً وامتناعاً لوروده في الكتاب والسنة وإطلاق أهل اللغة.
أما
الكتاب فقوله تعالى: " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " الزمر 18
وقوله تعالى: " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " الأعراف 145 وأما السنة فقوله
عليه السلام: " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " وأما الإطلاق فما
نقل عن الأئمة من استحسان دخول الحمام من غير تقدير عوض للماء المستعمل
ولا تقدير مدة السكون فيها وتقدير أجرته واستحسان شرب الماء من أيدي
السقائين من غير تقدير في الماء وعوضه.
وقد نقل عن الشافعي أنه قال:
أستحسن في المتعة أن تكون ثلاثين درهماً وأستحسن ثبوت الشفعة للشفيع إلى
ثلاثة أيام وأستحسن ترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة وقال في السارق إذا
أخرج يده اليسرى بدل اليمنى فقطعت القياس أن تقطع يمناه والاستحسان أن لا
تقطع.
فلم يبق الخلاف إلا في معنى الاستحسان وحقيقته ولا شك أن
الاستحسان قد يطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني وإن
كان مستقبحاً عند غيره وهو في اللغة استفعال من الحسن وليس ذلك هو محز
الخلاف لاتفاق الأمة قبل ظهور المخالفين على امتناع حكم المجتهد في شرع
الله تعالى بشهواته وهواه من غير دليل شرعي وأنه لا فرق في ذلك بين المجتهد
والعامي وإنما محز الخلاف فيما وراء ذلك.
وقد اختلف أصحاب أبي حنيفة في
تعريفه بحده: فمنهم من قال إنه عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد لا
يقدر على إظهاره لعدم مساعدة العبارة عنه.
والوجه في الكلام عليه أنه إن
تردد فيه بين أن يكون دليلاً محققاً ووهماً فاسداً فلا خلاف في امتناع
التمسك به وإن تحقق أنه دليل من الأدلة الشرعية فلا نزاع في جواز التمسك به
أيضاً وإن كان ذلك في غاية البعد وإنما النزاع في تخصيصه باسم الاستحسان
عند العجز عن التعبير عنه دون حالة إمكان التعبير عنه ولا حاصل للنزاع
اللفظي.
ومنهم من قال إنه عبارة عن العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى
منه ويخرج منه الاستحسان عندهم بالعدول عن موجب القياس إلى النص من الكتاب
أو السنة أو العادة.
أما الكتاب فكما في قول القائل: مالي صدقة فإن
القياس لزوم التصدق بكل مال له وقد استحسن تخصيص ذلك بمال الزكاة كما في
قوله تعالى : " خذ من أموالهم صدقة " التوبة 103 ولم يرد به سوى مال
الزكاة.
وأما السنة فكاستحسانهم أن لا قضاء على من أكل ناسيا في نهار
رمضان والعدول عن حكم القياس إلى قوله عليه السلام لمن أكل ناسياً الله
أطعمك وسقاك.
وأما العادة فكالعدول عن موجب الإجارات في ترك تقدير الماء
المستعمل في الحمام وتقدير السكنى فيها ومقدار الأجرة كما ذكرناه فيما
تقدم للعادة في ترك المضايقة في ذلك.
ومنهم من قال إنه عبارة عن تخصيص قياس بدليل هو أقوى منه وحاصله يرجع إلى تخصيص العلة وقد عرف ما فيه.
وقال
الكرخي: الاستحسان هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى
خلافه لوجه هو أقوى ويدخل فيه العدول عن حكم العموم إلى مقابله للدليل
المخصص والعدول عن حكم الدليل المنسوخ إلى مقابله للدليل الناسخ وليس
باستحسان عندهم.
وقال أبو الحسين البصري: هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد
غير شامل شمول الألفاظ لوجه هو أقوى منه وهو في حكم الطارىء على الأول وقصد
بقوله: غير شامل شمول الألفاظ الاحتراز عن العدول عن العموم إلى القياس
لكونه لفظاً شاملاً وبقوله: وهو في حكم الطارىء الاحتراز عن قولهم: تركنا
الاستحسان بالقياس فإنه ليس استحساناً من حيث إن القياس الذي ترك له
الاستحسان ليس في حكم الطارىء بل هو الأصل وذلك كما لو قرأ أية سجدة في آخر
سورة فالاستحسان أن يسجد لها ولا يجتزىء بالركوع ومقتضى القياس أن يجتزىء
بالركوع فإنهم قالوا بالعدول هاهنا عن الاستحسان إلى القياس.
وهذا الحد
وإن كان أقرب مما تقدم لكونه جامعاً مانعاً غير أن حاصله يرجع إلى تفسير
الاستحسان بالرجوع عن حكم دليل خاص إلى مقابله بدليل طارىء عليه أقوى منه
من نص أو إجماع أو غيره ولا نزاع في صحة الاحتجاج به.
وإن نوزع في
تلقيبه بالاستحسان فحاصل النزاع راجع فيه إلى الإطلاقات اللفظية ولا حاصل
له وإنما النزاع في إطلاقهم الاستحسان على العدول عن حكم الدليل إلى العادة
وهو أن يقال: إن أردتم بالعادة ما اتفق عليه الأمة من أهل الحل والعقد فهو
حق وحاصله راجع إلى الاستدلال بالإجماع.
وإن أريد به عادة من لا يحتج بعادته كالعادات المستحدثة للعامة فيما بينهم فذلك مما يمتنع ترك الدليل الشرعي به.
وإذا
تحقق المطلوب في هذه المسألة فلا بد من الإشارة إلى شبه تمسك بها القائلون
بالاستحسان في بيان كون المفهوم منه حجةً مع قطع النظر عن تفصيل القول فيه
والإشارة إلى جهة ضعفها.
وقد تمسكوا في ذلك بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
أما
الكتاب فقوله تعالى: " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " الزمر 18
وقوله تعالى: " واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم " الزمر 55.
ووجه
الاحتجاج بالآية الأولى ورودها في معرض الثناء والمدح لمتبع أحسن القول
وبالآية الثانية من جهة أنه أمر باتباع أحسن ما أنزل ولولا أنه حجة لما كان
كذلك.
وأما السنة فقوله عليه السلام: " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " ولولا أنه حجة لما كان عند الله حسناً.
وأما إجماع الأمة فما ذكر من استحسانهم دخول الحمام وشرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير لزمان السكون وتقدير الماء والأجرة.
والجواب عن الآية الأولى أنه لا دلالة له فيها على وجوب اتباع أحسن القول وهو محل النزاع.
وعن الآية الثانية: أنه لا دلالة أيضاً فيها على أن ما صاروا إليه دليل منزل فضلاً عن كونه أحسن ما أنزل.
وعن
الخبر كذلك أيضاً فإن قوله: " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن "
إشارة إلى إجماع المسلمين والإجماع حجة ولا يكون الا عن دليل وليس فيه
دلالة على أن ما رآه آحاد المسلمين حسناً أنه حسن عند الله وإلا كان ما رآه
آحاد العوام من المسلمين حسناً أن يكون حسناً عند الله وهو ممتنع.
وعن
الإجماع على استحسان ما ذكروه لا نسلم أن استحسانهم لذلك هو الدليل على
صحته بل الدليل ما دل على استحسانهم له وهو جريان ذلك في زمن النبي عليه
السلام مع علمه به وتقريره لهم عليه أو غير ذلك.
النوع الرابع: المصالح
المرسلة وقد بينا في القياس حقيقة المصلحة وأقسامها في ذاتها وانقسامها
باعتبار شهادة الشارع لها إلى معتبرة وملغاة وإلى ما لم يشهد الشرع لها
باعتبار ولا إلغاء وبينا ما يتعلق بالقسمين الأولين ولم يبق غير القسم
الثالث وهو المعبر عنه بالمناسب المرسل وهذا أوان النظر فيه.
وقد
اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به وهو الحق
إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به مع إنكار أصحابه لذلك عنه ولعل النقل إن صح
عنه فالأشبه أنه لم يقل بذلك في كل مصلحة بل فيما كان من المصالح الضرورية
الكلية الحاصلة قطعاً لا فيما كان من المصالح غير ضروري ولا كلي ولا وقوعه
قطعي وذلك كما لو تترس الكفار بجماعة من المسلمين بحيث لو كففنا عنهم لغلب
الكفار على دار الإسلام واستأصلوا شأفة المسلمين ولو رمينا الترس وقتلناهم
اندفعت المفسدة عن كافة المسلمين قطعاً غير أنه يلزم منه قتل مسلم لا
جريمة له.
فهذا القتل وإن كان مناسباً في هذه الصورة والمصلحة ضرورية كلية قطعية غير أنه لم يظهر من الشارع اعتبارها ولا إلغاؤها في صورة.
وإذا
عرف ذلك فالمصالح على ما بينا منقسمة إلى ما عهد من الشارع اعتبارها وإلى
ما عهد منه إلغاؤها وهذا القسم متردد بين ذينك القسمين وليس إلحاقه بأحدهما
أولى من الآخر فامتنع الاحتجاج به دون شاهد بالاعتبار يعرف أنه من قبيل
المعتبر دون الملغى.
فإن قيل: ما ذكرتموه فرع تصور وجود المناسب المرسل
وهو غير متصور وذلك لأنا أجمعنا على أن ثم مصالح معتبرة في نظر الشارع في
بعض الأحكام وأي وصف قدر من الأوصاف المصلحية فهو من جنس ما اعتبر وكان من
قبيل الملائم الذي أثر جنسه في جنس الحكم وقد قلتم به قلنا وكما أنه من جنس
المصالح المعتبرة فهو من جنس المصالح الملغاة فإن كان يلزم من كونه من جنس
ما اعتبر من المصالح أن يكون معتبرا فيلزم أن يكون ملغى ضرورة كونه من جنس
المصالح الملغاة وذلك يؤدي إلى أن يكون الوصف الواحد معتبراً ملغى بالنظر
إلى حكم واحد وهو محال.
وإذا كان كذلك فلا بد من بيان كونه معتبراً بالجنس القريب منه لنأمن إلغاءه والكلام فيما إذا لم يكن كذلك.القاعدة الثالثة
في المجتهدين وأحوال المفتين والمستفتين
وتشتمل على بابين:
الباب الأولفي المجتهدين
ويشتمل على مقدمة ومسائل.
أما المقدمة ففي تعريف معنى الاجتهاد والمجتهد والمجتهد فيه.
أما
الاجتهاد فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور
مسلتزم للكلفة والمشقة ولهذا يقال اجتهد فلان في حمل حجر البزارة ولا يقال
اجتهد في حمل خردلة.
وأما في اصطلاح الأصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه.
فقولنا:
استفراغ الوسع كالجنس للمعنى اللغوي والأصولي وما وراءه خواص مميزة
للاجتهاد بالمعنى الأصولي وقولنا في طلب الظن احتراز عن الأحكام القطعية
وقولنا بشيء من الأحكام الشرعية ليخرج عنه الاجتهاد في المعقولات والمحسات
وغيرها.
وقولنا: بحيث يحس من النفس العجز عن المزيد فيه ليخرج عنه
اجتهاد المقصر في اجتهاده مع إمكان الزيادة عليه فإنه لا يعد في اصطلاح
الأصوليين اجتهاداً معتبراً.
وأما المجتهد فكل من اتصف بصفة الاجتهاد وله شرطان.
الشرط
الأول: أن يعلم وجود الرب تعالى وما يجب له من الصفات ويستحقه من الكمالات
وأنه واجب الوجود لذاته حي عالم قادر مريد متكلم حتى يتصور منه التكليف
وأن يكون مصدقاً بالرسول وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من
المعجزات والآيات الباهرات ليكون فيما يسنده إليه من الأقوال والأحكام
محققاً.
ولا يشترط أن يكون عارفاً بدقائق علم الكلام متبحراً فيه
كالمشاهير من المتكلمين بل أن يكون عارفاً بما يتوقف عليه الإيمان مما
ذكرناه ولا يشترط أن يكون مستند علمه في ذلك الدليل المفصل بحيث يكون
قادراً على تقريره وتحريره ودفع الشبه عنه كالجاري من عادة الفحول من أهل
الأصول بل أن يكون عالماً بأدلة هذه الأمور من جهة الجملة لا من جهة
التفصيل.
الشرط الثاني: أن يكون عالماً عارفاً بمدارك الأحكام الشرعية
وأقسامها وطرق إثباتها ووجوه دلالاتها على مدلولاتها واختلاف مراتبها
والشروط المعتبرة فيها على ما بيناه وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها
وكيفية استثمار الأحكام منها قادراً على تحريرها وتقريرها والانفصال عن
الاعتراضات الواردة عليها.
أما المقدمة ففي تعريف معنى الاجتهاد والمجتهد والمجتهد فيه.
أما
الاجتهاد فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور
مسلتزم للكلفة والمشقة ولهذا يقال اجتهد فلان في حمل حجر البزارة ولا يقال
اجتهد في حمل خردلة.
وأما في اصطلاح الأصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه.
فقولنا:
استفراغ الوسع كالجنس للمعنى اللغوي والأصولي وما وراءه خواص مميزة
للاجتهاد بالمعنى الأصولي وقولنا في طلب الظن احتراز عن الأحكام القطعية
وقولنا بشيء من الأحكام الشرعية ليخرج عنه الاجتهاد في المعقولات والمحسات
وغيرها.
وقولنا: بحيث يحس من النفس العجز عن المزيد فيه ليخرج عنه
اجتهاد المقصر في اجتهاده مع إمكان الزيادة عليه فإنه لا يعد في اصطلاح
الأصوليين اجتهاداً معتبراً.
وأما المجتهد فكل من اتصف بصفة الاجتهاد وله شرطان.
الشرط
الأول: أن يعلم وجود الرب تعالى وما يجب له من الصفات ويستحقه من الكمالات
وأنه واجب الوجود لذاته حي عالم قادر مريد متكلم حتى يتصور منه التكليف
وأن يكون مصدقاً بالرسول وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من
المعجزات والآيات الباهرات ليكون فيما يسنده إليه من الأقوال والأحكام
محققاً.
ولا يشترط أن يكون عارفاً بدقائق علم الكلام متبحراً فيه
كالمشاهير من المتكلمين بل أن يكون عارفاً بما يتوقف عليه الإيمان مما
ذكرناه ولا يشترط أن يكون مستند علمه في ذلك الدليل المفصل بحيث يكون
قادراً على تقريره وتحريره ودفع الشبه عنه كالجاري من عادة الفحول من أهل
الأصول بل أن يكون عالماً بأدلة هذه الأمور من جهة الجملة لا من جهة
التفصيل.
الشرط الثاني: أن يكون عالماً عارفاً بمدارك الأحكام الشرعية
وأقسامها وطرق إثباتها ووجوه دلالاتها على مدلولاتها واختلاف مراتبها
والشروط المعتبرة فيها على ما بيناه وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها
وكيفية استثمار الأحكام منها قادراً على تحريرها وتقريرها والانفصال عن
الاعتراضات الواردة عليها.
وإنما يتم ذلك بأن يكون عارفاً بالرواة وطرق
الجرح والتعديل والصحيح والسقيم كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأن يكون
عارفاً بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ في النصوص الإحكامية عالما باللغة
والنحو ولا يشترط أن يكون في اللغة كالأصمعي وفي النحو كسيبويه والخليل بل
أن يكون قد حصل من ذلك على ما يعرف به أوضاع العرب والجاري من عاداتهم في
المخاطبات بحيث يميز بين دلالات الألفاظ من المطابقة والتضمين والالتزام
والمفرد والمركب والكلي منها والجزئي والحقيقة والمجاز والتواطىء والاشتراك
والترادف والتباين والنص والظاهر والعام والخاص والمطلق والمقيد والمنطوق
والمفهوم والاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء ونحو ذلك مما فصلناه ويتوقف
عليه استثمار الحكم من دليله.
وذلك كله أيضاً إنما يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه.
وأما
الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي فيه أن يكون عارفاً بما يتعلق بتلك
المسألة وما لا بد منه فيها ولا يضره في ذلك جهله بما لا تعلق له بها مما
يتعلق بباقي المسائل الفقهية كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهداً في
المسائل المتكثرة بالغاً رتبة الاجتهاد فيها وإن كان جاهلاً ببعض المسائل
الخارجة عنها فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالماً بجميع أحكام المسائل
ومداركها.
فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر ولهذا نقل عن مالك أنه سئل عن أربعين مسألةً فقال في ست وثلاثين منها لا أدري.
وأما
ما فيه الاجتهاد: فما كان من الأحكام الشرعية دليله ظني فقولنا: من
الأحكام الشرعية تمييز له عما كان من القضايا العقلية واللغوية وغيرها.
وقولنا:
دليله ظني تمييز له عما كان دليله منها قطعياً كالعبادات الخمس ونحوها
فإنها ليست محلاً للاجتهاد فيها لأن المخطىء فيها يعد آثماً والمسائل
الاجتهادية ما لا يعد المخطىء فيها باجتهاده آثماً.
هذا ما أردناه من بيان المقدمة وأما المسائل فاثنتا عشرة مسألة.
المسألة
الاولى اختلفوا في أن النبي عليه السلام هل كان متعبداً بالاجتهاد فيما لا
نص فيه ؟ فقال أحمد بن حنبل والقاضي أبو يوسف إنه كان متعبداً به وقال أبو
علي الجبائي وابنه أبو هاشم إنه لم يكن متعبداً به.
وجوز الشافعي في
رسالته ذلك من غير قطع وبه قال بعض أصحاب الشافعي والقاضي عبد الجبار وأبو
الحسين البصري ومن الناس من قال إنه كان له الاجتهاد في أمور الحروب دون
الأحكام الشرعية.
والمختار جواز ذلك عقلاً ووقوعه سمعاً.
أما الجواز
العقلي فلأنا لو فرضنا أن الله تعالى تعبده بذلك وقال له: حكمي عليك أن
تجتهد وتقيس لم يلزم عنه لذاته محال عقلا ولا معنى للجواز العقلي سوى ذلك.
وأما الوقوع السمعي فيدل عليه الكتاب والسنة والمعقول.
أما
الكتاب فقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر 2 أمر بالاعتبار
على العموم لأهل البصائر والنبي عليه السلام أجلهم في ذلك فكان داخلاً في
العموم وهو دليل التعبد بالاجتهاد والقياس على ما سبق تقريره في إثبات
القياس على منكريه.
وأيضاً قوله تعالى: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق
لتحكم بين الناس بما أراك الله " النساء 105 وما أراه يعم الحكم بالنص
والاستنباط من النصوص وأيضاً قوله تعالى: " وشاورهم في الأمر " آل عمران
159 والمشاورة إنما تكون فيما يحكم فيه بطريق الاجتهاد لا فيما يحكم فيه
بطريق الوحي.
وأيضاً قوله تعالى بطريق العتاب للنبي عليه السلام في
أسارى بدر وقد أطلقهم: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض "
الأنفال 67 فقال عليه السلام: لو نزل من السماء إلى الأرض عذاب ما نجا منه
إلا عمر لأنه كان قد أشار بقتلهم وذلك يدل على أن ذلك كان بالاجتهاد لا
بالوحي.
وأيضا قوله تعالى: " عفا الله عنك لم أذنت لهم " التوبة 43
عاتبه على ذلك ونسبه إلى الخطإ وذلك لا يكون فيما حكم فيه بالوحي فلم يبق
سوى الاجتهاد وليس ذلك خاصاً بالنبي عليه السلام بل كان غيره أيضاً من
الأنبياء متعبداً بذلك.
ويدل عليه قوله تعالى: " وداود وسليمان إذ
يحكمان في الحرث " الأنبياء 78 الآية وقوله: " ففهمناها سليمان وكلا آتينا
حكماً وعلماً " الأنبياء 79 وما يذكر بالتفهيم إنما يكون بالاجتهاد لا
بطريق الوحي.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وقد قال عليه السلام: " من كتم علماً نافعاً ألجمه الله بلجام من نار "
وذلك خلاف الظاهر من حال الصحابي فلم يبق إلا أن يكون عن رأي واجتهاد وعند
ذلك فلا يكون حجةً على غيره من المجتهدين بعده لجواز أن يكون دون غيره في
الاجتهاد وإن كان متميزاً بما ذكروه من الصحبة ولوازمها.
ولهذا قال عليه
السلام: " فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " ثم هو منتقض بمذهب التابعي
فإنه ليس بحجة على من بعده من تابعي التابعين وإن كانت نسبته إلى تابعي
التابعين كنسبة الصحابي إليه.
المسألة الثانية إذا ثبت أن مذهب الصحابي
ليس بحجة واجبة الاتباع فهل يجوز لغيره تقليده ؟ أما العامي فيجوز له ذلك
من غير خلاف وأما المجتهد من التابعين ومن بعدهم فيجوز له تقليده إن جوزنا
تقليد العالم للعالم وإن لم نجوز ذلك فقد اختلف قول الشافعي في جواز تقليد
العالم من التابعين للعالم من الصحابة فمنع من ذلك في الجديد وجوزه في
القديم غير أنه اشترط انتشار مذهبه تارة ولم يشترطه تارةً والمختار امتناع
ذلك مطلقاً لما يأتي في قاعدة الاجتهاد إن شاء الله تعالى.
النوع
الثالث: الاستحسان وقد اختلف فيه فقال به أصحاب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل
وأنكره الباقون حتى نقل عن الشافعي أنه قال من استحسن فقد شرع.
ولا بد قبل النظر في الحجاج من تلخيص محل النزاع ليكون التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد فنقول.
الخلاف ليس في نفس إطلاق لفظ الاستحسان جوازاً وامتناعاً لوروده في الكتاب والسنة وإطلاق أهل اللغة.
أما
الكتاب فقوله تعالى: " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " الزمر 18
وقوله تعالى: " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " الأعراف 145 وأما السنة فقوله
عليه السلام: " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " وأما الإطلاق فما
نقل عن الأئمة من استحسان دخول الحمام من غير تقدير عوض للماء المستعمل
ولا تقدير مدة السكون فيها وتقدير أجرته واستحسان شرب الماء من أيدي
السقائين من غير تقدير في الماء وعوضه.
وقد نقل عن الشافعي أنه قال:
أستحسن في المتعة أن تكون ثلاثين درهماً وأستحسن ثبوت الشفعة للشفيع إلى
ثلاثة أيام وأستحسن ترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة وقال في السارق إذا
أخرج يده اليسرى بدل اليمنى فقطعت القياس أن تقطع يمناه والاستحسان أن لا
تقطع.
فلم يبق الخلاف إلا في معنى الاستحسان وحقيقته ولا شك أن
الاستحسان قد يطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني وإن
كان مستقبحاً عند غيره وهو في اللغة استفعال من الحسن وليس ذلك هو محز
الخلاف لاتفاق الأمة قبل ظهور المخالفين على امتناع حكم المجتهد في شرع
الله تعالى بشهواته وهواه من غير دليل شرعي وأنه لا فرق في ذلك بين المجتهد
والعامي وإنما محز الخلاف فيما وراء ذلك.
وقد اختلف أصحاب أبي حنيفة في
تعريفه بحده: فمنهم من قال إنه عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد لا
يقدر على إظهاره لعدم مساعدة العبارة عنه.
والوجه في الكلام عليه أنه إن
تردد فيه بين أن يكون دليلاً محققاً ووهماً فاسداً فلا خلاف في امتناع
التمسك به وإن تحقق أنه دليل من الأدلة الشرعية فلا نزاع في جواز التمسك به
أيضاً وإن كان ذلك في غاية البعد وإنما النزاع في تخصيصه باسم الاستحسان
عند العجز عن التعبير عنه دون حالة إمكان التعبير عنه ولا حاصل للنزاع
اللفظي.
ومنهم من قال إنه عبارة عن العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى
منه ويخرج منه الاستحسان عندهم بالعدول عن موجب القياس إلى النص من الكتاب
أو السنة أو العادة.
أما الكتاب فكما في قول القائل: مالي صدقة فإن
القياس لزوم التصدق بكل مال له وقد استحسن تخصيص ذلك بمال الزكاة كما في
قوله تعالى : " خذ من أموالهم صدقة " التوبة 103 ولم يرد به سوى مال
الزكاة.
وأما السنة فكاستحسانهم أن لا قضاء على من أكل ناسيا في نهار
رمضان والعدول عن حكم القياس إلى قوله عليه السلام لمن أكل ناسياً الله
أطعمك وسقاك.
وأما العادة فكالعدول عن موجب الإجارات في ترك تقدير الماء
المستعمل في الحمام وتقدير السكنى فيها ومقدار الأجرة كما ذكرناه فيما
تقدم للعادة في ترك المضايقة في ذلك.
ومنهم من قال إنه عبارة عن تخصيص قياس بدليل هو أقوى منه وحاصله يرجع إلى تخصيص العلة وقد عرف ما فيه.
وقال
الكرخي: الاستحسان هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى
خلافه لوجه هو أقوى ويدخل فيه العدول عن حكم العموم إلى مقابله للدليل
المخصص والعدول عن حكم الدليل المنسوخ إلى مقابله للدليل الناسخ وليس
باستحسان عندهم.
وقال أبو الحسين البصري: هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد
غير شامل شمول الألفاظ لوجه هو أقوى منه وهو في حكم الطارىء على الأول وقصد
بقوله: غير شامل شمول الألفاظ الاحتراز عن العدول عن العموم إلى القياس
لكونه لفظاً شاملاً وبقوله: وهو في حكم الطارىء الاحتراز عن قولهم: تركنا
الاستحسان بالقياس فإنه ليس استحساناً من حيث إن القياس الذي ترك له
الاستحسان ليس في حكم الطارىء بل هو الأصل وذلك كما لو قرأ أية سجدة في آخر
سورة فالاستحسان أن يسجد لها ولا يجتزىء بالركوع ومقتضى القياس أن يجتزىء
بالركوع فإنهم قالوا بالعدول هاهنا عن الاستحسان إلى القياس.
وهذا الحد
وإن كان أقرب مما تقدم لكونه جامعاً مانعاً غير أن حاصله يرجع إلى تفسير
الاستحسان بالرجوع عن حكم دليل خاص إلى مقابله بدليل طارىء عليه أقوى منه
من نص أو إجماع أو غيره ولا نزاع في صحة الاحتجاج به.
وإن نوزع في
تلقيبه بالاستحسان فحاصل النزاع راجع فيه إلى الإطلاقات اللفظية ولا حاصل
له وإنما النزاع في إطلاقهم الاستحسان على العدول عن حكم الدليل إلى العادة
وهو أن يقال: إن أردتم بالعادة ما اتفق عليه الأمة من أهل الحل والعقد فهو
حق وحاصله راجع إلى الاستدلال بالإجماع.
وإن أريد به عادة من لا يحتج بعادته كالعادات المستحدثة للعامة فيما بينهم فذلك مما يمتنع ترك الدليل الشرعي به.
وإذا
تحقق المطلوب في هذه المسألة فلا بد من الإشارة إلى شبه تمسك بها القائلون
بالاستحسان في بيان كون المفهوم منه حجةً مع قطع النظر عن تفصيل القول فيه
والإشارة إلى جهة ضعفها.
وقد تمسكوا في ذلك بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
أما
الكتاب فقوله تعالى: " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " الزمر 18
وقوله تعالى: " واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم " الزمر 55.
ووجه
الاحتجاج بالآية الأولى ورودها في معرض الثناء والمدح لمتبع أحسن القول
وبالآية الثانية من جهة أنه أمر باتباع أحسن ما أنزل ولولا أنه حجة لما كان
كذلك.
وأما السنة فقوله عليه السلام: " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " ولولا أنه حجة لما كان عند الله حسناً.
وأما إجماع الأمة فما ذكر من استحسانهم دخول الحمام وشرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير لزمان السكون وتقدير الماء والأجرة.
والجواب عن الآية الأولى أنه لا دلالة له فيها على وجوب اتباع أحسن القول وهو محل النزاع.
وعن الآية الثانية: أنه لا دلالة أيضاً فيها على أن ما صاروا إليه دليل منزل فضلاً عن كونه أحسن ما أنزل.
وعن
الخبر كذلك أيضاً فإن قوله: " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن "
إشارة إلى إجماع المسلمين والإجماع حجة ولا يكون الا عن دليل وليس فيه
دلالة على أن ما رآه آحاد المسلمين حسناً أنه حسن عند الله وإلا كان ما رآه
آحاد العوام من المسلمين حسناً أن يكون حسناً عند الله وهو ممتنع.
وعن
الإجماع على استحسان ما ذكروه لا نسلم أن استحسانهم لذلك هو الدليل على
صحته بل الدليل ما دل على استحسانهم له وهو جريان ذلك في زمن النبي عليه
السلام مع علمه به وتقريره لهم عليه أو غير ذلك.
النوع الرابع: المصالح
المرسلة وقد بينا في القياس حقيقة المصلحة وأقسامها في ذاتها وانقسامها
باعتبار شهادة الشارع لها إلى معتبرة وملغاة وإلى ما لم يشهد الشرع لها
باعتبار ولا إلغاء وبينا ما يتعلق بالقسمين الأولين ولم يبق غير القسم
الثالث وهو المعبر عنه بالمناسب المرسل وهذا أوان النظر فيه.
وقد
اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به وهو الحق
إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به مع إنكار أصحابه لذلك عنه ولعل النقل إن صح
عنه فالأشبه أنه لم يقل بذلك في كل مصلحة بل فيما كان من المصالح الضرورية
الكلية الحاصلة قطعاً لا فيما كان من المصالح غير ضروري ولا كلي ولا وقوعه
قطعي وذلك كما لو تترس الكفار بجماعة من المسلمين بحيث لو كففنا عنهم لغلب
الكفار على دار الإسلام واستأصلوا شأفة المسلمين ولو رمينا الترس وقتلناهم
اندفعت المفسدة عن كافة المسلمين قطعاً غير أنه يلزم منه قتل مسلم لا
جريمة له.
فهذا القتل وإن كان مناسباً في هذه الصورة والمصلحة ضرورية كلية قطعية غير أنه لم يظهر من الشارع اعتبارها ولا إلغاؤها في صورة.
وإذا
عرف ذلك فالمصالح على ما بينا منقسمة إلى ما عهد من الشارع اعتبارها وإلى
ما عهد منه إلغاؤها وهذا القسم متردد بين ذينك القسمين وليس إلحاقه بأحدهما
أولى من الآخر فامتنع الاحتجاج به دون شاهد بالاعتبار يعرف أنه من قبيل
المعتبر دون الملغى.
فإن قيل: ما ذكرتموه فرع تصور وجود المناسب المرسل
وهو غير متصور وذلك لأنا أجمعنا على أن ثم مصالح معتبرة في نظر الشارع في
بعض الأحكام وأي وصف قدر من الأوصاف المصلحية فهو من جنس ما اعتبر وكان من
قبيل الملائم الذي أثر جنسه في جنس الحكم وقد قلتم به قلنا وكما أنه من جنس
المصالح المعتبرة فهو من جنس المصالح الملغاة فإن كان يلزم من كونه من جنس
ما اعتبر من المصالح أن يكون معتبرا فيلزم أن يكون ملغى ضرورة كونه من جنس
المصالح الملغاة وذلك يؤدي إلى أن يكون الوصف الواحد معتبراً ملغى بالنظر
إلى حكم واحد وهو محال.
وإذا كان كذلك فلا بد من بيان كونه معتبراً بالجنس القريب منه لنأمن إلغاءه والكلام فيما إذا لم يكن كذلك.القاعدة الثالثة
في المجتهدين وأحوال المفتين والمستفتين
وتشتمل على بابين:
الباب الأولفي المجتهدين
ويشتمل على مقدمة ومسائل.
أما المقدمة ففي تعريف معنى الاجتهاد والمجتهد والمجتهد فيه.
أما
الاجتهاد فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور
مسلتزم للكلفة والمشقة ولهذا يقال اجتهد فلان في حمل حجر البزارة ولا يقال
اجتهد في حمل خردلة.
وأما في اصطلاح الأصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه.
فقولنا:
استفراغ الوسع كالجنس للمعنى اللغوي والأصولي وما وراءه خواص مميزة
للاجتهاد بالمعنى الأصولي وقولنا في طلب الظن احتراز عن الأحكام القطعية
وقولنا بشيء من الأحكام الشرعية ليخرج عنه الاجتهاد في المعقولات والمحسات
وغيرها.
وقولنا: بحيث يحس من النفس العجز عن المزيد فيه ليخرج عنه
اجتهاد المقصر في اجتهاده مع إمكان الزيادة عليه فإنه لا يعد في اصطلاح
الأصوليين اجتهاداً معتبراً.
وأما المجتهد فكل من اتصف بصفة الاجتهاد وله شرطان.
الشرط
الأول: أن يعلم وجود الرب تعالى وما يجب له من الصفات ويستحقه من الكمالات
وأنه واجب الوجود لذاته حي عالم قادر مريد متكلم حتى يتصور منه التكليف
وأن يكون مصدقاً بالرسول وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من
المعجزات والآيات الباهرات ليكون فيما يسنده إليه من الأقوال والأحكام
محققاً.
ولا يشترط أن يكون عارفاً بدقائق علم الكلام متبحراً فيه
كالمشاهير من المتكلمين بل أن يكون عارفاً بما يتوقف عليه الإيمان مما
ذكرناه ولا يشترط أن يكون مستند علمه في ذلك الدليل المفصل بحيث يكون
قادراً على تقريره وتحريره ودفع الشبه عنه كالجاري من عادة الفحول من أهل
الأصول بل أن يكون عالماً بأدلة هذه الأمور من جهة الجملة لا من جهة
التفصيل.
الشرط الثاني: أن يكون عالماً عارفاً بمدارك الأحكام الشرعية
وأقسامها وطرق إثباتها ووجوه دلالاتها على مدلولاتها واختلاف مراتبها
والشروط المعتبرة فيها على ما بيناه وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها
وكيفية استثمار الأحكام منها قادراً على تحريرها وتقريرها والانفصال عن
الاعتراضات الواردة عليها.
أما المقدمة ففي تعريف معنى الاجتهاد والمجتهد والمجتهد فيه.
أما
الاجتهاد فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور
مسلتزم للكلفة والمشقة ولهذا يقال اجتهد فلان في حمل حجر البزارة ولا يقال
اجتهد في حمل خردلة.
وأما في اصطلاح الأصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه.
فقولنا:
استفراغ الوسع كالجنس للمعنى اللغوي والأصولي وما وراءه خواص مميزة
للاجتهاد بالمعنى الأصولي وقولنا في طلب الظن احتراز عن الأحكام القطعية
وقولنا بشيء من الأحكام الشرعية ليخرج عنه الاجتهاد في المعقولات والمحسات
وغيرها.
وقولنا: بحيث يحس من النفس العجز عن المزيد فيه ليخرج عنه
اجتهاد المقصر في اجتهاده مع إمكان الزيادة عليه فإنه لا يعد في اصطلاح
الأصوليين اجتهاداً معتبراً.
وأما المجتهد فكل من اتصف بصفة الاجتهاد وله شرطان.
الشرط
الأول: أن يعلم وجود الرب تعالى وما يجب له من الصفات ويستحقه من الكمالات
وأنه واجب الوجود لذاته حي عالم قادر مريد متكلم حتى يتصور منه التكليف
وأن يكون مصدقاً بالرسول وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من
المعجزات والآيات الباهرات ليكون فيما يسنده إليه من الأقوال والأحكام
محققاً.
ولا يشترط أن يكون عارفاً بدقائق علم الكلام متبحراً فيه
كالمشاهير من المتكلمين بل أن يكون عارفاً بما يتوقف عليه الإيمان مما
ذكرناه ولا يشترط أن يكون مستند علمه في ذلك الدليل المفصل بحيث يكون
قادراً على تقريره وتحريره ودفع الشبه عنه كالجاري من عادة الفحول من أهل
الأصول بل أن يكون عالماً بأدلة هذه الأمور من جهة الجملة لا من جهة
التفصيل.
الشرط الثاني: أن يكون عالماً عارفاً بمدارك الأحكام الشرعية
وأقسامها وطرق إثباتها ووجوه دلالاتها على مدلولاتها واختلاف مراتبها
والشروط المعتبرة فيها على ما بيناه وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها
وكيفية استثمار الأحكام منها قادراً على تحريرها وتقريرها والانفصال عن
الاعتراضات الواردة عليها.
وإنما يتم ذلك بأن يكون عارفاً بالرواة وطرق
الجرح والتعديل والصحيح والسقيم كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأن يكون
عارفاً بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ في النصوص الإحكامية عالما باللغة
والنحو ولا يشترط أن يكون في اللغة كالأصمعي وفي النحو كسيبويه والخليل بل
أن يكون قد حصل من ذلك على ما يعرف به أوضاع العرب والجاري من عاداتهم في
المخاطبات بحيث يميز بين دلالات الألفاظ من المطابقة والتضمين والالتزام
والمفرد والمركب والكلي منها والجزئي والحقيقة والمجاز والتواطىء والاشتراك
والترادف والتباين والنص والظاهر والعام والخاص والمطلق والمقيد والمنطوق
والمفهوم والاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء ونحو ذلك مما فصلناه ويتوقف
عليه استثمار الحكم من دليله.
وذلك كله أيضاً إنما يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه.
وأما
الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي فيه أن يكون عارفاً بما يتعلق بتلك
المسألة وما لا بد منه فيها ولا يضره في ذلك جهله بما لا تعلق له بها مما
يتعلق بباقي المسائل الفقهية كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهداً في
المسائل المتكثرة بالغاً رتبة الاجتهاد فيها وإن كان جاهلاً ببعض المسائل
الخارجة عنها فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالماً بجميع أحكام المسائل
ومداركها.
فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر ولهذا نقل عن مالك أنه سئل عن أربعين مسألةً فقال في ست وثلاثين منها لا أدري.
وأما
ما فيه الاجتهاد: فما كان من الأحكام الشرعية دليله ظني فقولنا: من
الأحكام الشرعية تمييز له عما كان من القضايا العقلية واللغوية وغيرها.
وقولنا:
دليله ظني تمييز له عما كان دليله منها قطعياً كالعبادات الخمس ونحوها
فإنها ليست محلاً للاجتهاد فيها لأن المخطىء فيها يعد آثماً والمسائل
الاجتهادية ما لا يعد المخطىء فيها باجتهاده آثماً.
هذا ما أردناه من بيان المقدمة وأما المسائل فاثنتا عشرة مسألة.
المسألة
الاولى اختلفوا في أن النبي عليه السلام هل كان متعبداً بالاجتهاد فيما لا
نص فيه ؟ فقال أحمد بن حنبل والقاضي أبو يوسف إنه كان متعبداً به وقال أبو
علي الجبائي وابنه أبو هاشم إنه لم يكن متعبداً به.
وجوز الشافعي في
رسالته ذلك من غير قطع وبه قال بعض أصحاب الشافعي والقاضي عبد الجبار وأبو
الحسين البصري ومن الناس من قال إنه كان له الاجتهاد في أمور الحروب دون
الأحكام الشرعية.
والمختار جواز ذلك عقلاً ووقوعه سمعاً.
أما الجواز
العقلي فلأنا لو فرضنا أن الله تعالى تعبده بذلك وقال له: حكمي عليك أن
تجتهد وتقيس لم يلزم عنه لذاته محال عقلا ولا معنى للجواز العقلي سوى ذلك.
وأما الوقوع السمعي فيدل عليه الكتاب والسنة والمعقول.
أما
الكتاب فقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر 2 أمر بالاعتبار
على العموم لأهل البصائر والنبي عليه السلام أجلهم في ذلك فكان داخلاً في
العموم وهو دليل التعبد بالاجتهاد والقياس على ما سبق تقريره في إثبات
القياس على منكريه.
وأيضاً قوله تعالى: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق
لتحكم بين الناس بما أراك الله " النساء 105 وما أراه يعم الحكم بالنص
والاستنباط من النصوص وأيضاً قوله تعالى: " وشاورهم في الأمر " آل عمران
159 والمشاورة إنما تكون فيما يحكم فيه بطريق الاجتهاد لا فيما يحكم فيه
بطريق الوحي.
وأيضاً قوله تعالى بطريق العتاب للنبي عليه السلام في
أسارى بدر وقد أطلقهم: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض "
الأنفال 67 فقال عليه السلام: لو نزل من السماء إلى الأرض عذاب ما نجا منه
إلا عمر لأنه كان قد أشار بقتلهم وذلك يدل على أن ذلك كان بالاجتهاد لا
بالوحي.
وأيضا قوله تعالى: " عفا الله عنك لم أذنت لهم " التوبة 43
عاتبه على ذلك ونسبه إلى الخطإ وذلك لا يكون فيما حكم فيه بالوحي فلم يبق
سوى الاجتهاد وليس ذلك خاصاً بالنبي عليه السلام بل كان غيره أيضاً من
الأنبياء متعبداً بذلك.
ويدل عليه قوله تعالى: " وداود وسليمان إذ
يحكمان في الحرث " الأنبياء 78 الآية وقوله: " ففهمناها سليمان وكلا آتينا
حكماً وعلماً " الأنبياء 79 وما يذكر بالتفهيم إنما يكون بالاجتهاد لا
بطريق الوحي.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وأما السنة فما روى الشعبي أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي
القضية وينزل القرآن بعد ذلك بغير ما كان قضى به فيترك ما قضى به على حاله
ويستقبل ما نزل به القرآن والحكم بغير القرآن لا يكون إلا باجتهاد.
وأيضاً
ما روي عنه أنه قال في مكة لا يختلا خلاها ولا يعضد شجرها فقال العباس:
إلا الأذخر فقال عليه السلام: إلا الأذخر ومعلوم أن الوحي لم ينزل عليه في
تلك الحالة فكان الاستثناء بالاجتهاد.
وأيضاً ما روى عنه عليه السلام
أنه قال: " العلماء ورثة الأنبياء " وذلك يدل على أنه كان متعبداً
بالاجتهاد والا لما كانت علماء أمته وارثة لذلك عنه وهو خلاف الخبر.
وأما
المعقول فمن وجهين: الأول: أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بدلالة النص
لظهوره وزيادة المشقة سبب لزيادة الثواب لقوله عليه السلام لعائشة: " ثوابك
على قدر نصبك " وقوله عليه السلام: " أفضل العبادات أحمدها " أي أشقها فلو
لم يكن النبي عليه السلام عاملاً بالاجتهاد مع عمل أمته به لزم اختصاصهم
بفضيلة لم توجد له وهو ممتنع فإن آحاد أمة النبي صلى الله عليه وسلم لا
يكون أفضل من النبي في شيء أصلاً.
الثاني: أن القياس هو النظر في ملاحظة
المعنى المستنبط من الحكم المنصوص عليه وإلحاق نظير المنصوص به بواسطة
المعنى المستبنط والنبي عليه السلام أولى بمعرفة ذلك من غيره لسلامة نظره
وبعده عن الخطإ والإقرار عليه.
وإذا عرف ذلك فقد ترجح في نظره إثبات
الحكم في الفرع ضرورة فلو لم يقض به لكان تاركاً لما ظنه حكماً لله تعالى
على بصيرة منه وهو حرام بالإجماع.
فإن قيل: ما ذكرتموه في بيان الجواز العقلي فالاعتراض عليه يأتي فيما نذكره من المعقول.
وأما الآية الأولى: فقد سبق الاعتراض عليها فيما تقدم.
وأما قوله تعالى: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " النساء 105 أي بما أنزل إليك.
وأما
الآية الثالثة فالمراد منها المشاورة في أمور الحروب والدنيا وكذلك العتاب
في قوله تعالى: " عفا الله عنك لم أذنت لهم " التوبة 43 وأما عتابه في
أسارى بدر فلعله كان مخيراً بالوحي بين قتل الكل أو إطلاق الكل أو فداء
الكل فأشار بعض الأصحاب بإطلاق البعض دون البعض فنزل العتاب للذين عينوا لا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه ورد بصيغة الجمع في قوله تريدون
عرض الدنيا والمراد به أولئك خاصة.
وأما الخبر الأول: فهو مرسل ولا حجة
في المراسيل كما سبق وإن كان حجة غير أنه يحتمل أنه كان يقضي بالوحي والوحي
الثاني يكون ناسخاً للأول.
أما الخبر الثاني: فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريدا لاستثناء الإذخر فسبقه به العباس.
وأما
الخبر الثالث: فيدل على أن العلماء ورثة الأنبياء فيما كان للأنبياء ولا
نسلم أن الاجتهاد كان للأنبياء حتى يكون موروثاً عنهم كيف ويحتمل أنه أراد
به الإرث في تبليغ أحكام الشرع إلى العامة كما كان الأنبياء مبلغين للمبعوث
إليهم ويحتمل أنه أراد به الإرث فيما كان للأنبياء في حفظ قواعد الشريعة.
وأما
الوجه الأول: من المعقول فالثواب فيما عظمت مشقته وإن كان أكثر ولكن لا
يلزم منه ثبوته للنبي عليه السلام وإلا لما ساغ له الحكم إلا بالاجتهاد
تحصيلاً لزيادة الثواب وهو ممتنع واختصاص علماء الأمة بذلك دون النبي عليه
السلام لا يوجب كونهم أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم مع اختصاصه بمنصب
الرسالة ورتبة النبؤة وتشريفه بالبعثة وهداية الخلق بعد الضلالة على جهة
العموم.
وأما الوجه الثاني: وإن كان النبي عليه السلام أشد علماً من
غيره بمعرفة القياس وجهات الاستنباط إلا أن وجوب العمل به في حقه مشروط
بعدم معرفة الحكم بالوحي وهذا الشرط مما لم يتبين في حقه عليه السلام فلا
مشروط وهذا بخلاف علماء أمته فافترقا.
وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على تعبده بالقياس والاجتهاد غير أنه معارض بما يدل على عدمه.
وبيانه
من جهة الكتاب والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى: " وما ينطق عن الهوى إن
هو إلا وحي يوحى " النجم 3 وقوله تعالى: " ما يكون لي أن أبدله من تلقاء
نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي " يونس 15 وذلك ينفي أن يكون الحكم الصادر
عنه بالاجتهاد.
وأما المعقول فمن عشرة أوجه:
الأول: أن النبي عليه
السلام نزل منزلاً فقيل له: إن كان ذلك عن وحي فالسمع والطاعة وإن كان ذلك
عن رأي فليس ذلك منزل مكيدة فقال: بل هو بالرأي فدل على أنه تجوز مراجعته
في الرأي وقد علم أنه لا تجوز مراجعته في الأحكام الشرعية فلا تكون عن رأي.
الثاني:
أنه لو كان في الأحكام الصادرة عنه ما يكون عن اجتهاد لجاز أن لا يجعل
أصلاً لغيره وأن يخالف فيه وأن لا يكفر مخالفه لأن جميع ذلك من لوازم
الأحكام الثابتة بالاجتهاد.
الثالث: لو كان متعبداً بالاجتهاد لأظهره
ولما توقف على الوحي فيما كان يتوفق فيه في بعض الوقائع لما فيه من ترك ما
وجب عليه من الاجتهاد واللازم ممتنع.
الرابع: أن الاجتهاد لا يفيد سوى
الظن والنبي عليه السلام كان قادرا على تلقي الأحكام من الوحي القاطع
والقادر على تحصيل اليقين لا يجوز له المصير إلى الظن كالمعاين للقبلة لا
يجوز له الاجتهاد فيها.
الخامس: أن الأمور الشرعية مبنية على المصالح
التي لا علم للخلق بها فلو قيل للنبي عليه السلام احكم بما ترى كان ذلك
تفويضاً إلى من لا علم له بالأصلح وذلك مما يوجب اختلال المصالح الدينية
والأحكام الشرعية.
السادس: أن لنا صواباً في الرأي وصدقاً في الخبر وقد
أجمعنا على أن النبي عليه السلام ليس له أن يخبر بما لا يعلم كونه صدقاً
فكذلك لا يجوز له الحكم بما لا علم له بصوابه.
السابع: أنه لو جاز أن
يكون متعبداً بالاجتهاد لجاز أن يرسل الله رسولاً ويجعل له أن يشرع شريعة
برأيه وأن ينسخ ما تقدمه من الشرائع المنزلة من الله تعالى وأن ينسخ أحكاما
أنزلها الله تعالى عليه برأيه وذلك ممتنع.
الثامن: أنه لو جاز صدور
الأحكام الشرعية عن رأيه واجتهاده فربما أورث ذلك تهمة في حقه وأنه هو
الواضع للشريعة من تلقاء نفسه وذلك مما يخل بمقصود البعثة وهو ممتنع.
التاسع: أن الاجتهاد عرضة للخطإ فوجب صيانة النبي عليه السلام عنه.
العاشر: أن الاجتهاد مشروط بعدم النص وهذا الشرط غير متحقق في حق النبي عليه السلام لأن الوحي متوقع في حقه في كل حالة.
والجواب عما ذكروه على الآية الأولى قد سبق فيما تقدم أيضاً.
وعما
ذكروه على الآية الثانية من وجهين: الأول: أن الحكم بما استنبط من المنزل
يكون حكماً بالمنزل لأنه حكم بمعناه ولهذا قال في آخر الآية: " فاعتبروا يا
أولي الأبصار " الحشر 2 الثاني: أن حكمه بالاجتهاد حكم بما أراه الله
فتقييده بالمنزل خلاف الإطلاق وعما ذكروه على الآية الثالثة: أنه إنما أمر
بالمشاورة في أمر الفداء وهو من أحكام الدين لتعلقه بأعظم مصالح العبادات
وبتقدير أن يكون كما ذكروه فهو حجة على من خالف فيه وبه دفع ما ذكروا على
الآية الرابعة.
وعما ذكروه على العتاب في أسارى بدر فهو على خلاف عموم الخطاب الوارد في الآية وتخصيص من غير دليل فلا يصح.
وعما ذكروه على الخبر الأول من السنة بما بيناه فيما سبق من أن المرسل حجة.
وقولهم:
يحتمل أنه كان يحكم بالوحي والوحي الثاني ناسخ له قلنا: النسخ خلاف الأصل
لما فيه من تعطليل الدليل المنسوخ وذلك وإن كان نسخاً لما حكم به النبي
عليه السلام غير أن تعطيل دليل الاجتهاد بنسخ حكمه أولى من تعطيل القرآن.
وعما
ذكروه على الخبر الثاني أنه لو كان الإذخر مستثنىً فيما نزل إليه لكان
تأخيره إلى ما بعد قول العباس تأخيراً للاستثناء عن المستثنى منه مع دعو
الحاجة إلى اتصاله به حذراً من التلبيس خلاف الأصل.
وعما ذكروه على
الخبر الثالث أن الظاهر من قوله: " العلماء ورثة الأنبياء " فيما اختصوا به
من العلم مطلقاً فلو لم تكن علومهم الاجتهادية موروثة عن الأنبياء لكان
ذلك تقييداً للمطلق وتخصيصاً للعام من غير ضرورة وهو ممتنع وبه يبطل ما
ذكروه من التأويلات.
وعما ذكروه على الوجه الأول من المعقول إنما يصح أن
لو كان ذلك ممكناً في جميع الأحكام وليس كذلك فان الاجتهاد بالقياس يستدعي
أصلاً ثابتاً لا بالاجتهاد قطعاً للتسلسل.
قولهم: إنه قد اختص بمنصب
الرسالة فلا يكون أحد أفضل منه قلنا: وإن كان كذلك غير أن زيادة الثواب
بزيادة المشقة نوع فضيلة فيبعد اختصاص أحد من أمته بفضيلة لا تكون موجودة
في حق النبي عليه السلام وإلا كان أفضل منه من تلك الجهة وهو بعيد.
وعما
ذكروه على الثاني من المعقول أنه باطل باجتهاد أهل عصره فإنه كان واقعاً
بدليل تقريره لمعاذ على قوله: أجتهد رأيي ولم يكن احتمال معرفة الحكم بورود
الوحي إلى النبي عليه السلام مانعا من الاجتهاد في حقه وإنما المانع وجود
النص لاحتمال وجوده.
وعن المعارضة بالآية الأولى أنها إنما تتناول ما ينطق به واجتهاده من فعله لا من نطقه والخلاف إنما هو في الاجتهاد لا في النطق.
فإن
قيل فإذا اجتهد فلا بد وأن ينطق بحكم اجتهاده والإخبار عما ظنه من الحكم
فتكون الآية متناولةً له ومن المعلوم أن ما ينطق به إذا كان مستنده
الاجتهاد فليس عن وحي وإن لم يكن عن هوى.
قلنا: إذا كان متعبداً بالاجتهاد من قبل الشارع وقيل له مهما ظننت باجتهادك حكما فهو حكم الشرع فنطقه بذلك يكون عن وحي لا عن هوىً.
وعن
الآية الثانية: أنها إنما تدل على أن تبديله للقرآن ليس من تلقاء نفسه
وإنما هو بالوحي والنزاع إنما وقع في الاجتهاد والاجتهاد وإن وقع في دلالة
القرآن فذلك تأويل لا تبديل.
وعن المعارضة الأولى من جهة المعقول أن المراجعة إنما كانت في أمر دنيوي متعلق بالحروب وليس ذلك من المراجعة في أحكام الشرع في شيء.
وعن
الثانية: لا نسلم أن ما ذكروه من لوازم الأحكام الثابتة بالاجتهاد بدليل
إجماع الأمة على الاجتهاد واجتهاد النبي عليه السلام لا يتقاصر عن اجتهاد
الأمة الذين ثبتت عصمتهم بقول الرسول إن لم يكن مترجحاً عليه.
وعن
الثالثة: أنه لا مانع أن يكون متعبداً بالاجتهاد وإن لم يظهره صريحاً
لمعرفة ذلك لما ذكرناه من الأدلة.وأما تأخره عن جواب بعض ما كان يسأل عنه
فلاحتمال انتظار النص الذي لا يجوز معه الاجتهاد إلى حين اليأس منه أو لأنه
كان في مهلة النظر في الاجتهاد فيما سئل عنه فأن زمان الاجتهاد في الأحكام
الشرعية غير مقدر.
وعن الرابعة: النقض بما وقع الإجماع عليه من تعبد
النبي عليه السلام بالحكم بقول الشهود حتى قال: إنكم لتختصمون إلي ولعل
بعضكم ألحن بحجته من بعض مع إمكان انتظاره في ذلك لنزول الوحي الذي لا ريب
فيه.
وعن الخامسة: أنها مبنية على وجوب اعتبار المصالح وهو غير مسلم على
ما عرفناه في علم الكلام وإن سلمنا ذلك فلا مانع من إلهام الله تعالى له
بالصواب فيما يجتهد فيه من الحوادث كيف وإن ما ذكروه منتقض بتعبد غيره
بالاجتهاد.
وعن السادسة من ثلاثة أوجه: الأول: أنها تمثيل من غير جامع صحيح فلا تكون حجةً.
الثاني:
الفرق وهو أن الإخبار بما لا يعلم كونه صادقاً قد لا نأمن فيه الكذب وهو
الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه وذلك مما لا يجوز لأحد الإقدام عليه.
وأما
الاجتهاد فعلى قولنا بأن كل مجتهد مصيب فالنبي أولى أن يكون مصيباً في
اجتهاده والخطأ في الاجتهاد مبني على أن الحكم عند الله تعالى واحد في كل
واقعة في نفس الأمر وليس كذلك بل الحكم عند الله في كل واقعة ما أدى إليه
نظر المجتهد على ما يأتي تقريره.
الثالث: أن ما ذكروه منتقض بإجماع الأمة إذا كان عن اجتهاد.
وعن
السابعة: أنها أيضاً تمثيل من غير جامع صحيح كيف وإنا لا نمنع من إرسال
رسول بما وصفوه لا عقلاً ولا شرعاً فإن لله تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم
بما يريد ولا سيما إذا قلنا بأن المصالح غير معتبرة في أفعاله تعالى وإن
قلنا إنها معتبرة فلا يبعد أن يعلم الله تعالى المصلحة للمكلفين في إرسال
رسول بهذه المثابة ويعصمه عن الخطإ في اجتهاده كما في إجماع الأمة.
وعن
الثامنة: أن التهمة منفية عنه في وضع الشريعة برأيه بما دل على صدقه فيما
يدعيه من تبليغ الأحكام بجهة الرسالة من المعجزة القاطعة.
وعن التاسعة: أنا لا نسلم أن كل اجتهاد في الأحكام الشرعية عرضة للخطإ بدليل إجماع الصحابة على الاجتهاد.
واجتهاد النبي عليه السلام غير متقاصر عن اجتهاد أهل الإجماع فكان معصوما فيه عن الخطإ.
وعن
العاشرة: أن المانع من الاجتهاد دائماً هو وجود النص لا إمكان وجود النص
ثم ما ذكروه منتقض باجتهاد الصحابة في زمن النبي عليه السلام.
المسألة
الثانية اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد النبي عليه السلام واختلفوا في جواز
الاجتهاد لمن عاصره فذهب الأكثرون إلى جوازه عقلاً ومنع منه الأقلون.
ثم اختلف القائلون بالجواز في ثلاثة أمور :
الأول: منهم من جوز ذلك للقضاة والولاة في غيبته دون حضوره ومنهم من جوزه مطلقاً.
الثاني:
أن منهم من قال بجواز ذلك مطلقاً إذا لم يوجد من ذلك منع ومنهم من قال لا
يكتفي في ذلك بمجرد عدم المنع بل لا بد من الإذن في ذلك ومنهم من قال
السكوت عنه مع العلم بوقوعه كاف.
الثالث: اختلفوا في وقوع التعبد به
سمعاً: فمنهم من قال إنه كان متعبدا به ومنهم من توقف في ذلك مطلقاً
كالجبائي ومنهم من توقف في حق من حضر دون من غاب كالقاضي عبد الجبار.
والمختار جواز ذلك مطلقاً وأن ذلك مما وقع مع حضوره وغيبته ظناً لا قطعاً.
أما الجواز العقلي فيدل عليه ما دللنا به على جواز ذلك في حق النبي عليه السلام في المسألة المتقدمة.
وأما
بيان الوقوع: أما في حضرته فيدل عليه قول أبي بكر رضي الله عنه في حق أبي
قتادة حيث قتل رجلاً من المشركين فأخذ سلبه غيره لا نقصد إلى أسد من أسد
الله يقاتل عن الله ورسوله فنعطيك سلبه.فقال النبي عليه السلام: " صدق وصدق
في فتواه " ولم يكن قال ذلك بغير الرأي والاجتهاد.
وأيضاً ما روي عن
النبي عليه السلام أنه حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بقتلهم وسبي
ذراريهم بالرأي فقال عليه السلام: " لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة "
.
وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه أمر عمرو بن العاص وعقبة بن عامر
الجهني أن يحكما بين خصمين وقال لهما: " إن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن
أخطأتما فلكما حسنة واحدة " وأما في غيبته فيدل عليه قصة معاذ وعتاب بن
أسيد حين بعثهما قاضيين إلى اليمن.
فإن قيل: الموجود في عصر النبي عليه السلام قادر على معرفة الحكم بالنص وبالرسول عليه السلام.
والقادر
على التوصل إلى الحكم على وجه يؤمن فيه الخطأ إذا عدل إلى الاجتهاد الذي
لا يؤمن فيه الخطأ كان قبيحاً والقبيح لا يكون جائزاً.
وأيضاً فإن الحكم
بالرأي في حضرة النبي عليه السلام من باب التعاطي والافتيات على النبي
عليه السلام وهو قبيح فلا يكون جائزاً وهذا بخلاف ما بعد النبي عليه
السلام.وأيضاً فإن الصحابة كانوا يرجعون عند وقوع الحوادث إلى النبي عليه
السلام ولو كان الاجتهاد جائزاً لهم لم يرجعوا إليه.
وأما ما ذكرتموه من
أدلة الوقوع فهي أخبار آحاد لا تقوم الحجة بها في المسائل القطعية وبتقدير
أن تكون حجةً فلعلها خاصة بمن وردت في حقه غير عامة.
والجواب عن السؤال الأول ما مر في جواز اجتهاد النبي عليه السلام.
وعن الثاني أن ذلك إذا كان بأمر رسول الله وإذنه فيكون ذلك من باب امتثال أمره لا من باب التعاطي والافتيات عليه.
وعن
قولهم: إن الصحابة كانوا يرجعون في أحكام الوقائع إلى النبي عليه السلام
يمكن أن يكون ذلك فيما لم يظهر لهم فيه وجه الاجتهاد وإن ظهر غير أن القادر
على التوصل إلى مقصوده بأحد طريقين لا يمتنع عليه العدول عن أحدهما إلى
الآخر ولا يخفى أنه إذا كان الاجتهاد طريقاً يتوصل به إلى الحكم فالرجوع
إلى النبي عليه السلام أيضاً طريق آخر.
وما ذكروه من أن الأخبار المذكورة في ذلك أخبار آحاد فهو كذلك غير أن المدعي إنما هو حصول الظن بذلك دون القطع.
قولهم
يحتمل أن يكون ذلك خاصاً بمن وردت تلك الأخبار في حقه قلنا :المقصود من
الأخبار المذكورة إنما هو الدلالة على وقوع الاجتهاد في زمن النبي عليه
السلام ممن عاصره لا بيان وقوع الاجتهاد من كل من عاصره.
المسألة
الثالثة مذهب الجمهور من المسلمين أنه ليس كل مجتهد في العقليات مصيباً وأن
الإثم غير محطوط عن مخالف ملة الإسلام سواء نظر وعجز عن معرفة الحق أم لم
ينظر.
وقال الجاحظ وعبيد الله بن الحسن العنبري من المعتزلة بحط الإثم
عن مخالف ملة الإسلام إذا نظر واجتهد فأداه اجتهاده إلى معتقده وأنه معذور
بخلاف المعاند.
وزاد عبيد الله بن الحسن العنبري بأن قال: كل مجتهد في
العقليات مصيب وهو إن أراد بالإصابة موافقة الاعتقاد للمعتقد فقد أحال وخرج
عن المعقول وإلا كان يلزم من ذلك أن يكون حدوث العالم وقدمه في نفس الأمر
حقا عند اختلاف الاجتهاد وكذلك في كل قضية عقلية اعتقد فيها النفي والإثبات
بناء على ما أدى إليه من الاجتهاد وهو من أمحل المحالات وما أظن عاقلا
يذهب إلى ذلك.
وإن أراد بالإصابة أنه أتى بما كلف به مما هو داخل تحت
وسعه وقدرته من الاجتهاد وأنه معذور في المخالفة غير آثم فهو ما ذهب إليه
الجاحظ وهو أبعد عن الأول في القبح.
ولا شك أنه غير محال عقلاً وإنما النزاع في إحالة ذلك وجوازه شرعاً.
وقد احتج الجمهور على مذهبهم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
أما
الكتاب فقوله تعالى: " ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار: ص
27 وقوله: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " فصلت23 وقوله تعالى: "
ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون " المجادلة 18 ووجه الاحتجاج
بهذه الآيات أنه ذمهم على معتقدهم وتوعدهم بالعقاب عليه ولو كانوا معذورين
فيه لما كان كذلك.
وأما السنة فما علم منه عليه السلام علماً لا مراء
فيه تكليفه للكفار من اليهود والنصاري بتصديقه واعتقاد رسالته وذمهم على
معتقداتهم وقتله لمن ظفر بهم وتعذيبه على ذلك منهم مع العلم الضروري بأن كل
من قاتله وقتله لم يكن معانداً بعد ظهور الحق له بدليله فان ذلك مما تحيله
العادة.ولو كانوا معذورين في اعتقاداتهم وقد أتوا بما كلفوا به لما ساغ
ذلك منه.
وأما الإجماع فهو أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين اتفقوا
أيضاً على قتال الكفار وذمهم ومهاجرتهم على اعتقاداتهم ولو كانوا معذورين
في ذلك لما ساغ ذلك من الأمة المعصومة عن الخطإ.
فإن قيل: أما الآية
الأولى فغاية ما فيها ذم الكفار وذلك غير متحقق في محل النزاع لأن الكفر في
اللغة مأخوذ من الستر والتغطية ومنه يقال: لليل كافر لأنه ساتر للحوادث
وللحارث كافر لسترة الحب وذلك غير متصور إلا في حق المعاند العارف بالدليل
مع إنكاره لمقتضاه كيف وإنه يجب حمل هذه الآية والآيتين بعدها على المعاند
دون غيره جمعاً بينه وبين ما سنذكره من الدليل.
وأما ما ذكرتموه من قتل
النبي عليه السلام الكفار فلا نسلم أنه كان على ما اعتقدوه عن اجتهادهم بل
على إصرارهم على ذلك وإهمالهم لترك البحث عما دعوا إليه والكشف عنه مع
إمكانه.
وأما الإجماع فلا يمكن الاستدلال به في محل الخلاف كيف وإنه يمكن حمل فعل أهل الإجماع على ما حمل عليه فعل النبي عليه السلام.
ودليل
هذه التأويلات أن تكليفهم باعتقاد نقيض معتقدهم الذي أدى إليه اجتهادهم
واستفرغوا الوسع فيه تكليف بما لا يطاق وهو ممتنع للنص والمعقول.
أما النص فقوله تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " البقرة 286.
وأما المعقول فهو أن الله تعالى رؤوف بعباده رحيم لهم فلا يليق به تعذيبهم على ما لا قدرة لهم عليه.
ولهذا
كان الإثم مرتفعاً عن المجتهدين في الأحكام الشرعية مع اختلاف اعتقاداتهم
فيها بناء على اجتهاداتهم المؤدية إليها كيف وقد نقل عن بعض المعتزلة أنهم
أولوا قول الجاحظ وابن العنبري بالحمل على المسائل الكلامية المختلف فيها
بين المسلمين ولا تكفير فيها كمسألة الرؤية وخلق الأعمال وخلق القرآن ونحو
ذلك لأن الأدلة فيها ظنية متعارضة.
الجواب عما ذكروه على الآية أنه خلاف الإجماع في صحة إطلاق اسم الكافر على من اعتقد نقيض الحق وإن كان عن اجتهاد.
وقولهم
إن الكفر في اللغة مأخوذ من التغطية مسلم ولكن لا نسلم انتفاء التغطية
فيما نحن فيه وذلك لأنه باعتقاده لنقيض الحق بناء على اجتهاده مغط للحق وهو
غير متوقف على علمه بذلك.
وما ذكروه من التأويل ففيه ترك الظاهر من غير دليل وما يذكرونه من الدليل فسيأتي الكلام عليه.
وما
ذكروه على السنة فبعيد أيضاً وذلك لأنه إن تعذر قتلهم وذمهم على ما كانوا
قد اعتقدوه عن اجتهادهم واستفراغ وسعهم فهو لازم أيضاً على تعذر قتلهم
وذمهم على عدم تصديقه فيما دعاهم إليه لأن الكلام إنما هو مفروض فيمن أفرغ
وسعه وبذل جهده في التوصل إلى معرفة ما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إليه
وتعذر عليه الوصول إليه.
وما ذكروه في امتناع التمسك بالإجماع في محل
الخلاف إنما يصح فيما كان من الإجماع بعد الخلاف أو حالة الخلاف وأما
الإجماع السابق على الخلاف فهو حجة على المخالف وقد بينا سبقه.
وما
ذكروه من التأويل فجوابه كما تقدم.قولهم إن ذلك يفضي إلى التكليف بما لا
يطاق لا نسلم ذلك فإن الوصول إلى معرفة الحق ممكن بالأدلة المنصوبة عليه
ووجود العقل الهادي وغايته امتناع الوقوع باعتبار أمر خارج وذلك لا يمنع من
التكليف به وإنما يمتنع التكليف بما لا يكون ممكناً في نفسه كما سبق
تقريره في موضعه.
وما ذكروه فقد سبق تخريجه أيضاً في مسألة تكليف ما لا يطاق.
وأما
رفع الإثم في المجتهدات الفقهية فإنما كان لأن المقصود منها إنما هو الظن
بها وقد حصل بخلاف ما نحن فيه فإن المطلوب فيها ليس هو الظن بل العلم ولم
يحصل.
وما ذكروه من التأويل إن صح أنه المراد من كلام الجاحظ وابن العنبري ففيه رفع الخلاف والعود إلى الحق ولا نزاع فيه.
المسألة
الرابعة اتفق أهل الحق من المسلمين على أن الإثم محطوط عن المجتهدين في
الأحكام الشرعية وذهب بشر المريسي وابن علية وأبو بكر الأصم ونفاة القياس
كالظاهرية.
والإمامية إلى أنه ما من مسألة إلا والحق فيها متعين وعليه دليل قاطع فمن أخطأه فهو آثم غير كافر ولا فاسق.
وحجة
أهل الحق في ذلك ما نقل نقلاً متواتراً لا يدخله ريبة ولا شك وعلم علماً
ضروريا من اختلاف الصحابة فيما بينهم في المسائل الفقهية كما بيناه فيما
تقدم مع استمرارهم على الاختلاف إلى انقراض عصرهم ولم يصدر من أحد منهم
نكير ولا تأثيم لأحد لا على سبيل الإبهام ولا التعيين مع علمنا بأنه لو
خالف أحد في وجوب العبادات الخمس وتحريم الزنى والقتل لبادروا إلى تخطئته
وتأثيمه.
فلو كانت المسائل الاجتهادية نازلة منزلة هذه المسائل في كونها
قطعية ومأثوماً على المخالفة فيها لبالغوا في الإنكار والتأثيم حسب
مبالغتهم في الإنكار على من خالف في وجوب العبادات الخمس وفي تأثيمه
لاستحالة تواطئهم على الخطإ ودلالة النصوص النازلة منزلة التواتر على
عصمتهم عنه كما سبق تقريره في مسائل الإجماع.
فإن قيل: فقد وقع الإنكار
من بعضهم على بعض في العمل بالرأي والاجتهاد في المسائل الفقهية كما ذكرناه
في إثبات القياس على منكريه ومع الإنكار فلا إجماع.
وإن سلمنا عدم نقل
إنكارهم لذلك فيحتمل أنهم أنكروا ولم ينقل إلينا.وبتقدير عدم صدور الإنكار
منهم ظاهرا فيحتمل أنهم أضمروا الإنكار والتأثيم تقية وخوفاً من ثوران فتنة
وهجوم آفة.
قلنا: أما السؤال الأول فقد أجبنا عنه فيما تقدم.وأما
الثاني فهو خلاف مقتضى العادة فإنه لو وجد الإنكار لتوفرت الدواعي على نقله
واستحال في العادة كتمانه كما نقل عنهم الإنكار على الخوارج ومانعي الزكاة
وغير ذلك وبمثل هذا يندفع أيضا ما ذكروه من السؤال الثالث.
المسألة
الخامسة المسألة الظنية من الفقهيات إما أن يكون فيها نص أو لا يكون : فإن
لم يكن فيها نص فقد اختلفوا فيها :فقال قوم: كل مجتهد فيها مصيب وإن حكم
الله فيها لا يكون واحداً بل هو تابع لظن المجتهد فحكم الله في حق كل مجتهد
ما أدى إليه اجتهاده وغلب على ظنه وهو قول القاضي أبي بكر وأبي الهذيل
والجبائي وابنه.
وقال آخرون: المصيب فيها واحد ومن عداه مخطىء لأن الحكم
في كل واقعة لا يكون إلا معيناً لأن الطالب يستدعي مطلوباً وذلك المطلوب
هو الأشبه عند الله في نفس الأمر بحيث لو نزل نص لكان نصا عليه.
لكن
منهم من قال بأنه لا دليل عليه وإنما هو مثل دفين يظفر به حالة الاجتهاد
بحكم الاتفاق فمن ظفر به فهو مصيب ومن لم يصبه فهو مخطىء.
ومنهم من قال
عليه دليل لكن اختلف هؤلاء فمنهم من قال إنه قطعي ثم اختلف هؤلاء: فمنهم من
قال بتأثيم المجتهد بتقدير عدم الظفر به ونقض حكمه كأبي بكر الأصم وابن
علية وبشر المريسي ومنهم من قال بعدم التأثيم لخفاء الدليل وغموضه فكان
معذوراً ومنهم من قال إنه ظني فمن ظفر به فهو مصيب وله أجران ومن لم يصبه
فهو مخطىء وله أجر واحد وهذا هو مذهب ابن فورك والأستاذ أبي إسحاق
الاسفرائيني.
ومنهم من نقل عنه القولان التخطئة والتصويب كالشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والأشعري.
وأما إن كان في المسألة نص فإن قصر في طلبه فهو مخطىء آثم لتقصيره فيما كلف به من الطلب.
وإن
لم يقصر فيه وأفرغ الوسع في طلبه لكن تعذر عليه الوصول إليه إما لبعد
المسافة أو لإخفاء الراوي له وعدم تبليغه فلا إثم لعدم تقصيره وهل هو مخطىء
أو مصيب؟ ففيه من الخلاف ما سبق.
والمختار إنما هو امتناع التصويب لكل
مجتهد غير أن القائلين بذلك قد احتجوا بحجج ضعيفة لا بد من الإشارة إليها
والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة الأولى: من
جهة الكتاب قوله تعالى: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه
غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان " الأنبياء 78 - 79.
ووجه
الاحتجاج به أنه خصص سليمان بفهم الحق في الواقعة وذلك يدل على عدم فهم
داود له وإلا لما كان التخصيص مفيداً وهو دليل اتحاد حكم الله في الواقعة
وأن المصيب واحد وأيضا قوله تعالى: " لعلمه الذين يستنبطونه منهم "
النساء83 وقوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " آل
عمران 7 ولولا أن في محل الاستنباط حكماً معيناً لما كان كذلك وأيضاً قوله
تعالى: " ولا تفرقوا فيه " الشورى 13 " ولا تنازعوا فتفشلوا " الأنفال 46 "
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " آل عمران 105 وذلك أيضاً يدل على
اتحاد الحق في كل واقعة.
ولقائل أن يقول على الآية الأولى: غاية ما فيها
تخصيص سليمان بالفهم ولا دلالة له على عدم ذلك في حق داود إلا بطريق
المفهوم وليس بحجة على ما تقرر في مسائل المفهوم.
وان سلمنا أنه حجة غير
أنه قد روي أنهما حكما في تلك القضية بالنص حكماً واحداً ثم نسخ الله
الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل وعلم سليمان بالنص الناسخ دون داود
فكان هذا هو الفهم الذي أضيف إليه.
والذي يدل على هذا قوله تعالى: "
وكلا آتينا حكماً وعلماً " الأنبياء 79 ولو كان أحدهما مخطئاً لما كان قد
أتي في تلك الواقعة حكماً وعلماً.
وإن سلمنا أن حكمهما كان مختلفاً لكن
يحتمل أنهما حكماً بالاجتهاد مع الأذن فيه وكانا محقين في الحكم إلا أنه
نزل الوحي على وفق ما حكم به سليمان فصار ما حكم به حقا متعينا بنزول الوحي
به ونسب التفهيم إلى سليمان بسبب ذلك.
وإن سلمنا أن داود كان مخطئاً في
تلك الواقعة غير أنه يحتمل أنه كان فيها نص اطلع عليه سليمان دون داود
ونحن نسلم الخطأ في مثل هذه الصورة وإنما النزاع فيما إذا حكما بالاجتهاد
وليس في الواقعة نص.
وعلى الآية الثانية والثالثة: أنه يجب حملهما على الأمور القطعية دون الاجتهادية.
ودليله
قوله تعالى: " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " النساء 83 وقوله تعالى: " وما
يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " آل عمران 7 والقضايا
الاجتهادية لا علم فيها وإن سلمنا أن المراد بهما القضايا الاجتهادية فقوله
تعالى: " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " النساء 83 وقوله تعالى: " وما يعلم
تأويله إلا الله والراسخون في العلم " آل عمران 7 يدل على تصويب
المستنبطين والراسخين في العلم وليس فيه ما يدل على تصويب البعض منهم دون
البعض بل غايته الدلالة بمفهومه على عدم ذلك في حق العوام ومن ليس من أهل
الاستنباط والرسوخ في العلم.
وعلى الآيات الدالة على النهي عن التفرق أن المراد منها إنما هو التفرق في أصل الدين والتوحيد وما يطلب فيه القطع دون الظن.
ويدل
على ذلك أن القائلين بجواز الاجتهاد مجمعون على أن كل واحد من المجتهدين
مأمور باتباع ما أوجبه ظنه ومنهي عن مخالفته وهو أمر بالاختلاف ونهي عن
الاتفاق في المجتهدات.
الحجة الثانية: من جهة السنة قوله عليه السلام: "
إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد " وذلك صريح في
انقسام الاجتهاد إلى خطإ وصواب.
ولقائل أن يقول: نحن نقول بموجب الخبر
وأن الحاكم إذا أخطأ في اجتهاده فله أجر واحد غير أن الخطأ عندنا في ذلك
إنما يتصور فيما إذا كان في المسألة نص أو إجماع أو قياس جلي وخفي عليه بعد
البحث التام عنه وذلك غير متحقق في محل النزاع أو فيما إذا أخطأ في مطلوبه
من رد المال إلى مستحقه بسبب ظنه صدق الشهود وهم كاذبون أو مغالطة الخصم
لكونه أخصم من خصمه وألحن بحجته لا فيما وجب عليه من حكم الله تعالى.
ولهذا
قال عليه السلام " إنما أحكم بالظاهر وإنكم لتختصمون إلي ولعل أحدكم ألحن
بمجته من صاحبه فمن حكمت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة
من النار " .
الحجة الثالثة: من جهة الإجماع أن الصحابة أجمعوا على
إطلاق لفظ الخطإ في الاجتهاد فمن ذلك ما روى عن أبي بكر أنه قال أقول في
الكلالة برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله
ورسوله منه بريئان ومن ذلك ما روي عن عمر أنه حكم بحكم فقال رجل حضره هذا
والله! الحق.فقال عمر أن عمر لا يدري أنه أصاب الحق لكنه لم يأل جهداً وروي
عنه أنه قال لكاتبه: اكتب هذا ما رأى عمر فإن يكن خطأ فمنه وإن يكن صواباً
فمن الله وأيضاً قوله في جواب المرأة التي ردت عليه النهي عن المبالغة في
المهر أصابت امرأة وأخطأ عمر ومن ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال
في المرأة التي استحضرها عمر فأجهضت ما في بطنها وقد قال له عثمان وعبد
الرحمن بن عوف: إنما أنت مؤدب لا نرى عليك شيئاً إن كانا قد اجتهدا فقد
أخطأ وإن لم يجتهدا فقد غشاك أرى عليك الدية ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود
أنه قال في المفوضة أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله ورسوله وإن
كان خطأ فمني ومن الشيطان ومن ذلك ما روي أن عليا وابن مسعود وزيداً رضي
الله عنهم خطؤوا ابن عباس في ترك القول بالعول وأنكر عليهم ابن عباس قولهم
بالعول بقوله من شاء أن يباهلني باهلته إن الذي أحصى رمل عالج عددا لم يجعل
في مال واحد نصفاً ونصفاً وثلثاً هذان نصفان ذهباً بالمال فأين موضع الثلث
ومن ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن
الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا إلى غير ذلك من الوقائع ولم ينكر بعضهم
على بعض في التخطئة فكان ذلك إجماعاً على أن الحق من أقاويلهم ليس إلا
واحداً.
ولقائل أن يقول: نحن لا ننكر وقوع الخطإ في الاجتهاد لكن فيما
إذا لم يكن المجتهد أهلاً للاجتهاد أو كان أهلا لكنه قصر في اجتهاده أو إن
لم يقصر لكنه خالف النص أو الإجماع أو القياس الجلي أو في مطلوبه دون ما
وجب عليه من حكم الله كما سبق تقريره في جواب السنة وأما ما تم فيه
الاجتهاد من أهله ولم يوجد له معارض مبطل فليس فيما ذكروه من قضايا الصحابة
ما يدل على وقوع الخطإ فيه.
الحجة الرابعة: من جهة المعقول من ستة أوجه
: الأول: أن الاجتهاد مكلف به بالإجماع فعند اختلاف المجتهدين في حكم
الحادثة ومصير كل واحد إلى مناقضة الآخر إما أن يكون اجتهاد كل واحد منهما
مستنداً إلى دليل أو لا دليل لواحد منهما أو أن الدليل مستند أحدهما دون
الآخر فإن كان الأول فالدليلان المتقابلان إما أن يكون أحدهما راجحاً على
الآخر أو هما متساويان فإن كان أحدهما راجحاً فالذاهب إليه مصيب ومخالفه
مخطىء.
وإن كان الثاني فمقتضاهما التخيير أو الوقف فالجازم بالنفي أو الإثبات يكون مخطئاً.وإن كان لا دليل لواحد منهما فهما مخطئان.
وإن كان الدليل لأحدهما دون الآخر فأحدهما مصيب والآخر مخطىء لا محالة.
الثاني:
أن القول بتصويب المجتهدين يفضي عند اختلاف المجتهدين بالنفي والإثبات أو
الحل والحرمة في مسألة واحدة إلى الجمع بين النقيضين وهو محال وما أفضى إلى
المحال يكون محالاً.
الثالث: أن الأمة مجمعة على تجويز المناظرة بين
المجتهدين ولو كان كل واحد مصيباً فيما ذهب إليه لم يكن للمناظرة معنى ولا
فائدة وذلك لأن كل واحد يعتقد أن ما صار إليه مخالفه حق وأنه مصيب فيه.
والمناظرة: إما لمعرفة أن ما صار إليه خصمه صواب أو لرده عنه فإن كان الأول ففيه تحصيل الحاصل.
وإن كان الثاني فقصد كل واحد لرد صاحبه عما هو عليه مع اعتقاده أنه صواب يكون حراماً.
الرابع: أن المجتهد في حال اجتهاده إما أن يكون له مطلوب أو يكون فإن كان الأول فهو محال إذ المجتهد طالب وطالب لا مطلوب له محال.
وإن كان الثاني فمطلوبه متقدم على اجتهاده ونظره وذلك مع عدم تعين المطلوب في نفسه محال.
الخامس:
أنه لو صح تصويب كل واحد من المجتهدين لوجب عند الاختلاف في الآنية
بالطهارة والنجاسة أن يقضى بصحة اقتداء كل واحد من المجتهدين بالآخر
لاعتقاد المأموم صحة صلاة إمامه.
السادس: أن القول بتصويب المجتهدين يلزم منه أمور ممتنعة فيمتنع.
الأول:
أنه إذا تزوج شافعي بحنفية وكانا مجتهدين وقال لها أنت بائن فإنه بالنظر
إلى ما يعتقده الزوج من جواز الرجعة تجوز له المراجعة والمرأة بالنظر إلى
ما تعتقده من امتناع الرجعة يحرم عليها تسليم نفسها إليه وذلك مما يفضي إلى
منازعة بينهما لا سبيل إلى رفعها شرعاً وهو محال.
الثاني: أنه إذا نكح واحد امرأةً بغير ولي ونكحها آخر بعده بولي فيلزم من صحة المذهبين حل الزوجة للزوجين وهو محال.
الثالث:
أن العامي إذا استفتى مجتهدين واختلفا في الحكم فإما أن يعمل بقوليهما وهو
محال أو بقول أحدهما ولا أولوية وإما لا بقول واحد منهما فيكون متحيراً
وهو ممتنع ولقائل أن يقول على الوجه الأول إن المختار إنما هو القسم الأول
من أقسامه.
قولهم: الدليلان إما أن يتساويا أو يترجح أحدهما على الآخر
قلنا في نفس الأمر أو في نظر الناظر الأول ممنوع وذلك لأن الأدلة في مسائل
الظنون ليست أدلة لذواتها وصفات أنفسها حتى تكون في نفس الأمر متساوية في
جهة دلالتها أو متفاوتة وإن كان في نظر الناظر فلا نسلم صحة هذه القسمة بل
كل واحد منهما راجح في نظر الناظر الذي صار إليه وذلك لأن الأدلة الظنية
مما تختلف باختلاف الظنون فهي أمور إضافية غير حقيقية كما أن ما وافق غرض
زيد فهو حسن بالنسبة إليه وإن كان قبيحا بالنسبة إلى من خالف غرضه وعلى هذا
فلا تخطئة على ما ذكروه.
وإن سلمنا أن الدليلين في نفسيهما لا يخرجان
عن المساواة أو الترجيح لأحدهما على الآخر غير أن النزاع إنما هو في الخطإ
بمعنى عدم الإصابة لحكم الله في الواقعة لا بمعنى عدم الظفر بالدليل الراجح
ولا يلزم من عدم الظفر بالدليل الراجح عدم الظفر بحكم الله في الواقعة لأن
حكم الله تعالى عندنا عبارة عما أدى إليه نظر المجتهد وظنه لا ما أدى إليه
الدليل الراجح في نفس الأمر.
وعلى الوجه الثاني أن التناقض إنما يلزم
أن لو اجتمع النفي والإثبات والحل والحرمة في حق شخص واحد من جهة واحدة أما
بالنظر إلى شخصين فلا.
ولهذا فإن الميتة تحل للمضطر وتحرم على غيره وإفطار رمضان مباح للمريض والمسافر ومن له عذر دون غيره.
وفيما نحن فيه كذلك فأن من وجب عليه الحكم بالحل الذي أداه نظره إليه غير من وجب عليه الحكم بالتحريم الذي أداه نظره إليه.
ثم
لو كان ذلك ممتنعاً لما وجب على كل واحد من المجتهدين في القبلة إذا أدى
اجتهاده إلى خلاف ما أدى إليه اجتهاد الآخر التوجه إلى الجهة التي غلب على
ظنه أنها جهة القبلة كتحريم التوجه إليها بالنسبة إلى الآخر ولما حرم على
كل واحد ما وجب على الآخر وهو ممتنع.
وعلى الثالث: أن فائدة المناظرة غير منحصرة فيما ذكروه بل لها فوائد أخر تجب المناظرة لها أو تستحب.
فالأولى:
كالمناظرة لتعرف انتفاء الدليل القاطع الذي لا يجوز معه الاجتهاد أو لطلب
تعرف الترجيح عند تساوي الدليلين في نظر المجتهد حتى يجزم بالنفي أو
الإثبات أو يحل له الوقف أو التخيير لكونه مشروطاً بعدم الترجيح.
والثانية:
كالمناظرة التي يطلب بها تذليل طرق الاجتهاد والقوة على استثمار الأحكام
من الأدلة واستنباطها منها وشحذ الخاطر وتنبيه المستمعين على مدارك الأحكام
ومآخذها لتحريك دواعيهم إلى طلب رتبة الاجتهاد لنيل الثواب الجزيل وحفظ
قواعد الشريعة.
وعلى الرابع: أن مطلوب المجتهد ما يؤدي إليه نظره واجتهاده لا غير وذلك غير معين لا عنده ولا عند الله تعالى.
وعلى
الخامس: أن ما ذكروه إنما يلزم أن لو كان القضاء بصحة صلاة المأموم مطلقاً
وليس كذلك وإنما هي صحيحة بالنسبة إليه غير صحيحة بالنسبة إلى مخالفه.
وشرط صحة اقتداء المأموم بالإمام اعتقاد صحة صلاة إمامه بالنسبة إليه.
وعلى
السادس: أما الإلزام الأول فلا نسلم إفضاء ذلك إلى منازعة لا ترتفع لأنه
يمكن رفعها فيما فرضوه من الصورة برفع الأمر إلى حاكم من حكام المسلمين أو
محكم منهم فما حكم به وجب اتباعه كيف وإن ما ذكروه لم يكن لازما من القول
بتصويب المجتهدين بل إنما كان لازماً من القول بأنه يجب على كل مجتهد اتباع
ما أوجبه ظنه وسواء كان مخطئاً أو مصيباً لأن المصيب غير معين وذلك متفق
عليه فما هو جواب لهم ها هنا فهو جواب الخصم في قوله بالتصويب.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى