لبيك يا الله



حديث قدسىعن رب العزة جلا وعلاعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أحب عبداً دعا له جبريل، عليه السلام، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً، دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض”.
المواضيع الأخيرة
كل عام وانتم بخيرالجمعة 23 أبريل - 16:08رضا السويسى
كل عام وانتم بخيرالخميس 7 مايو - 22:46رضا السويسى
المسح على رأس اليتيم و العلاج باللمسالأربعاء 22 أغسطس - 14:45البرنس
(16) ما أجمل الغنائمالجمعة 11 أغسطس - 18:51رضا السويسى
مطوية ( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)الأحد 9 أغسطس - 19:02عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)السبت 8 أغسطس - 12:46عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )الأربعاء 5 أغسطس - 18:34عزمي ابراهيم عزيز



اذهب الى الأسفل
ام الشهيد
ام الشهيد
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

موضي .. حلم يموت تحت الأقدام ..!(3) Empty موضي .. حلم يموت تحت الأقدام ..!(3) {الأربعاء 20 يوليو - 17:21}


للدكتور محمد الحضيف


كنت
قد عزمت على أمر بخصوصها .. وأنا أعود إلى السيارة ، بعد أن تركتها لأصلـي
الظهر ، في مسجد على الطريق ، وقع في نفسي أن أمرها ، يحتاج حلا جذريا .
بعد خروجي من المسجد ، فوجئت بعدم وجودها في السيارة .. شعرت كأنما يد قد
اخترقت صدري .. وانتزعت قلبي منه .. تساءلت ..: أين تكون ذهبت ..؟ .. هل
هربت ..؟



انتابني
شعور مزيج من القلق والسخط .. أشد شيء آلمني .. إحساسي أنني بعد كل الذي
صنعته من أجلها .. لم تثق بي . ليس أقسى من أن تفقد الثقة .. أو لا تكون
محل ثقة .. لإنسان تحبه . كنت على هذه الحال ، إذ رأيتها تخرج من مصلى
النساء .. فأشرق وجهي .. وأحسست قلبي يعود إلى مكانه .. صرت أخاف عليها ..
وفرحت أنها حريصة على الصلاة . تبقى الصلاة ذلك الرباط الوثيق ، الذي يشد
الكانسان إلى الخير والفضيلة ، مهما اجتالته الشياطين ..



يؤلمني
كثيرا مشهد الإنسان الذي لا يصلي .. أشفق عليه من النهاية البائسة .. أحس
أن الصلاة هي العتبة الأخيرة .. التي يقف الإنسان عليها ، قبل أن يهوي ..
إذا ما تركها ، إلى درك .. يكون فيه ، هو والحيوان سواء .. قالت وهي تفتح
الباب لتركب : - خفت تطلع من المسجد .. ولا تلقاني .. ثم تروح وتتركني ..
فاستعجلت بصلاتي .. تنهدت ، وقلت في سري :



-
"أنا الذي خفت .. أنك رحتي وتركتيني .." صارت بالنسبة لي ، حبلي الوحيد
إلى الحياة (الحقيقية) ... التحدي الحقيقي لاستعادة إنسانيتي المهدرة ..
الشمعة التي تتقد لتنثر الضوء ، والدفء في صقيع أعماقي المظلمة في الطريق
إلى المدرسة قلت لها :



- قبل أن أنزلك عند المدرسة أريد أن نمر من عند بيتكم ، حتى أعرف مكانه .. ردت بتوجس ، وكأنها شكت أني سأذهب بها إلى أهلها :


- لماذا ...؟


- يمكن أزوركم الليلة ..


- والله ..؟


- احتمال ..


تعرفت
على موقع البيت ، ثم توجهت بها إلى المدرسة .. لم تكـن الطالبـات قد خرجن
بعد .. فانتظرنا في السيارة في شارع مجاور .. كانت أسراب الطالبات قد بدأت
بالخروج من بوابة المدرسة عندما بادرتني قائلة :



- ما قلت لي اسمك ..؟


- محمد ..


نزلت
.. وأغلقت الباب .. وبعد بضع خطوات ألتفتت نحوي ولوحت بأطراف أنا ملها ..
خرجت من حي (الأمل) .. أحمل قلبا .. و(أملا) .. وإنسانية مستعادة ..



عند
إحدى الإشارات ، نبهني سائق السيارة الذي بجواري ، إلى أن الباب لم يغلق
جيدا .. التفت لأغلقة ، فوجدت قصاصة ورقة .. كانت قد كتبتها .. وتعمدت أن
تتركها لأجدها.. قرأتها .. ثم دسستها في جيبي .. وتأكدت مرة أخرى أن
البراءة لو تمثلت إنسانا ، وسارت على الأرض ، ومشت بين الناس .. لكانت هي
..



صليت
العشاء في نفس المسجد .. ثم انطلقت باتجاه بيتهم .. كنت قد عرفت منها عدد
إخوانها وأخواتها ، واتفقت معها أن تذكر لأمها أن إحدى المعلمات تجمع
معلومات عن الأسر المحتاجة ، وأنها قد استدعتها وطلبت منها معلومات عن
بيتهم وأسرتهم .. وصلت .. وقرعت الباب .. كنت مرتبكا قليلا . أخذت ، وأنا
انتظر الرد ، أقلب طرفي فيما حولي .. لفت نظري أن كل بيت لا يكاد يخلو من
طبق من أطباق الاستقبال الفضائية التلفزيونية (الدش) .. بل إن بعضها يتربع
على سطحه أكثر من واحد .. تساءلت في نفسي .. : أي واقع اجتماعي سيتشكل ،
عندما يجتمع في هذه البيوت .. الفقر .. والظلم الاجتماعي والمشاكل الأسرية
.. وانخفاض مستوى التعليم .. وفضائيات تصب العنف ، والجنس ، والرذيلة .. في
عقول ساكنيها ..؟



هل
يمكن أن يستغرب المرء سلوكا مثل الذي وقع من البندري .. وموضي ..؟ من أين
جاء مفهوم (الصاحب) .. الذي يوفر ما عجز عن القيام به (الأب الغائب) ..
مسجونا كان .. أو مطلقا .. أو ميتا .. أو حتى عاجزا .. متخليا عن دوره ..؟
من المسئول عن نشوء مثل هذا (العجز) .. في ظل الغياب القسري للأب ..؟ من
(الطرف) الآخر الذي (تخلى) عن دوره .. فسقط مثل هؤلاء (الضحايا) ..؟



فتح
الباب ، وأطل طفل لا يتجاوز التاسعة . حسب توصيف موضي ، هذا شقيقها محمد .
هناك بنت تكبره .. نوف ، أصغر من موضي ، في الصف السادس الابتدائي ..
وأصغر منه بنت في الصف الأول .. أظن أن إسمها إبتسام ، ثم عبد الإله في
حدود الخامسة . سألته :



- أين الوالدة ..؟


- من أنت ؟


- مشرف اجتماعي .. من الجمعية الخيرية ..


غاب قليلا ثم عاد .. وسحب الباب خلفه ، وأبقاه نصف مفتوح ، ثم قال :


- الوالدة خلف الباب ..


ألقيت
عليها السلام ، وذكرت لها أنني عضو في مجموعة خيرية ، تقوم بحصر الأسر
المحتاجة ، من خلال التعاون مع بعض المعلمات ، ليتم ترتيب شيئا لها ،
يساعدها في مواجهة تكاليف الحياة .. كان يوم سبت ، أخبرتها أن هذه الزيارة
استقصائية ، لمعرفة أوضاع الأسرة بالتفصيل ، وأنه سيعقبها زيارات أخرى ..
طلبت مني الدخول إلى غرفة تفتح على الممر المؤدي إلى داخل المنزل ، يبدو
أنها (المجلس) المعد لاستقبال الضيوف.



جلست
على فرش (موكيت) متآكل .. قد ذهب لونه . كان هناك مسندتان للظهر .. أو
ثلاث .. ولا شئ غير ذلك .. في السقف يوجد مروحة عتيقة ، ولمبة (فلورسنت) 40
شمعة ، أطرافها معتمة لطول الاستخدام . على الجدران المدهونة ، بلون أبيض
مطفي ، يوجد خربشات أطفال .. لفت نظري أحدها ، يقول : "الدهر يومان .. يوم
لك ، ويوم عليك" .. ثم رسمة لقلب ، قد اخترقه سهم ، وينزف ، وقد كتب تحته :
" أحبك لو تكون ظالم" ..



لاحظت
أن مثل هذه (الشعارات) مشترك (ثقافي) ، بين الأغنياء والفقراء .. لكن ..
كيف يفهم كل فريق (اليومين) .. اليوم الذي له .. واليوم الذي عليه ..؟ ما
هو مفهوم كل طرف للحب .. وكيف هو مفهوم الظلم في الحب .. وفي غيره ، عند كل
منهما ..؟ كيف فهمت موضي (الحب) .. لما سألتني إن كنت افعل الذي أفعله من
أجلها .. لأني أحبها .. وتبرعت بالتفسير ، على ضوء ما تعتقد أنه القانون
السائد ، الذي يحكم العلاقات بين الناس .. فقالت : "الشخص لا يخدم شخصا آخر
إلا إذا كان يحبه .. أو ينتظر منه شيئا .. مقابل ما يقدمه له" ..



موضي
علمت يقينا أنني لا أنتظر منها (شيئا) .. مثل ذلك الذي كان يريده منها
صاحب السيارة .. وهي غير متأكدة أنني أحبها .. لروحها .. وذاتها .. إذ هي
.. رغم صغر سنها ، تدرك ، أن حبا من هذا النوع ، لا يمكن أن يتخلق في إتصال
هاتفي .. أو لقاء عابر .. لذلك .. هي عاجزة أن تفسر موقفي منها .. لأنها
غير قادرة على أن تبني علاقة بين متغيرين ... "الخدمة .. مقابل .. ماذا ..؟
" وهو ما دأب المعطى الثقافي السائد ، على تقديمهما ضمن (تراتيبية) معينة
..



عندما
أخذت مكاني في المجلس ، جلست هي خارجة ، في الممر ، عند الباب ، تسمعني ،
ولا أراها . سألتها بالتفصيل عن أحوالهم المادية ومصاريفهم اليومية
والشهرية .. عرفت منها أن زوجها مسجون في قضية مخدرات ، وأن محكوميته طويلة
، وأنهم منذ سنتين تقريبا لم يروه .. لأسباب لم تذكرها . لا أقارب لصيقين
لهم في الرياض .. أهلها .. وأهل زوجها يعيشون في مناطق بعيدة .. وليسوا
بأحسن حال منهم ، انتهى اللقاء .. ووعدتها بزيارة قريبة ..



كنت
قبل أن آتيهم ، مررت على محل لبيع الوجبات السريعة ، واشتريت لهم فطائر
(هامبورقر) ومشروبات غازية .. وتعمدت أن يكون عدد الفطائر غير مطابق لعددهم
.. حتى لا تشك بأن لدي معلومات سابقة عنهم ، كانت فرحة الأطفال لا توصف ..
بكيت في داخلي ، وأنا أراهم يتقافزون فرحا .. ويردد عبدالإله الصغير : "زي
اللي في التلفزيون" .. عالم لا يرونه إلا في التلفزيون .. وحياة أخرى ..
بعضها تافة وسخيف .. ونمارسها نحن بعشوائية ، وتلقائية .. لا يسمعون عنها
إلا في التلفزيون .. إنها (قصة) التلفزيون .. قصة (الإكسسوارات) ، و
(الصاحب) .. و (الحياة) التي لا تنال .. إلا بأثمان باهضة أدناها الكرامة
.. وأحدها الشرف .. وأحيانا كثيرة .. لا تنال ..



مررت
مساء الاثنين في زيارة سريعة ، وأنزلت أغراضا ، استشفيت من لقائي الأول أن
هناك حاجة ماسة لها .. اشتريت كذلك وجبات (هامبرقر) .. في هذه المرة لفت
نظري شيئا .. عندمـا كانت تساعد في إدخال الأغراض لاحظت أنها شابة .. كانت
أصغر مما توقعت بكثير . كنت أظن أنها على مشارف الأربعين .. ظننت ذلك بناء
على عملية حسابية ، أضفت فيها عمر موضي ، إلى سن الزواج المعتاد للنساء ..
وتأخر في الحمل ، سنة أو سنتين ، إضافة إلى أشهر الحمل .. هي في أول
ثلاثينياتها قطعا .. وربما لا تزيد على الثلاث والثلاثين . تألمت أن تواجه
امرأة شابة ، في قمة نضجها البدني والعقلي .. هذا الواقع البائس .. وحدة ..
ووحشة .. وبؤس .. وحرمان ..



في
مثل هذه المواقف ، يخطر على بالي هاجس ساذج ، أشبه بتصورات الأطفال ..
تتملكني حالة من الأسى ، فتشف روحي .. وأبلغ درجة من التسامي والشفافية ،
حتى أنني أود لو أكون أبا لكل يتيم .. وزوجا ، أو أخا لكل أرملة ، أو مطلقة
.. أو أنثى .. تواجه بؤس الواقع لوحدها .. وتتحسى سم الظلم .. والقهر ،
صباح .. مساء .. .. ولأنهـا (خواطر طفلية) .. فإن عجز الأطفال يعتريني ،
فأعمد إلى البكـاء .. الصامت . أبكي .. حتى يذوب قلبي من كمد .. وتذوي نفسي
، حتى يرى ذلك في عيني .. اللتان تتحولان إلى بئر هائلة العمق .. لا ترى
إلا لجتها السوداء .. ابتلعت الدمع .. والضوء .. وغاض منها بريق الحياة ..
هكذا هي الحالة التي تلبستني حينما رأيت أم موضي .. أو أم محمد ، كما هي
كنيتها ..



ما
أقسى الألم .. حينما يكون امرأة .. وما أتعس قلبا .. لا يرى العالم .. إلا
من خلال امرأة .. كأن العناء الذي أثارته موضي لا يكفي .. ذكرت لها أني
سآتي عصر الخميس ، لآخذ الأطفال إلى مركز ترفيهي ، ليتسلوا ببعض الألعاب .
حينما جئت يوم الخميس ، كانـوا بانتظاري .. محمد وابتسام وعبدالاله .
سألتهم عن نوف ، فقالوا إن والدتهم لم تسمح لها ، وقالت لها ، أنت كبيرة ..
لا يجوز أن تخالطي الرجال . بقدر ما أسفت أنها لن تفرح مثل بقية الأطفال ،
في سنها ، إلا أنني ثمنت الموقف التربوي لوالدتها ، وحرصها على أخلاقها .



أخذتهم
إلى مركز ألعاب ، وأطلقتهم يلعبون كما يشاءون .. كنت أطرب حينما يأتي
أحدهم ، ويقول : "عمي لو سمحت .. خلني ألعب في هذي اللعبة .." .. كان قلبي
يرقص معهم .. وفرحت كما لم أفرح من قبل في حياتي .. وحينما ركبت معهم في
إحدى الألعاب ، ومالت بنا .. وظنوا أنهم سيسقطون ، التصقوا بي كالأفراخ ،
إذ تلوذ بأمها ..



في
تلك اللحظة شعرت أني كلي صرت قلبا ، يهتز فقط .. ليمنحهم الحياة .. ولما
طوقتني سواعدهم في إحدى المرات .. شعرت أني أعلو ، وأن روحي تتحلل من ربقة
الجسد .. فأنا محض روح ..



خرجنا
من مركز الألعاب ، وكان قد بقى على صلاة المغرب ما يقرب من ساعة .. أقترحت
عليهم أن نأكل شيئا .. فضجوا ، فرحا وابتهاجا . دخلنا مطعم وجبات سريعة ،
وأكلنا ، وطلبت أكلا للذين بقوا في البيت . كان وقت صلاة المغرب قد حـان ،
عندما غادرنا المطعم . صليت أنا ومحمد في مسجد قريب ، ثم انطلقنا إلى البيت
. عند الباب كانت في استقبالنا .. كان للأطفال صراخ ، وضحكات متقطعة ،
وضجيج .. فتح الباب بعد طرق لم يتعد ثواني .. من خلف الباب سمعتها تلهج لي
بالدعاء .. طلبت مني أن أدخل لأتناول كأسة شاهي .. فاعتذرت لانشغالي
بارتباط .. جاء صوتها ترجوني : - لن نؤخرك .. اشرب شاهينا .. حتى لو إنه ..
(ما هو قد المقام) ..



-
أشرب شاهيكم يا أم محمد .. ولا تقولي هذا الكلام مرة أخرى .. فإنه يؤذيني
.. جلست في نفس المكان ، وبعد لحظات جاء الشاهي في صينية معدن متثلمة ،
وعليها ثلاث كاسات شاهي ، كل واحدة من صنف مختلف . جلست أمامي القرفصاء
ملتفة بعباءتها .. وبجانبها عبدالاله . وصبت كأسة شاي وناولتني إياها ،
بأطراف أصابعها ، وكفها مازالت ممسكة بعباءتها .. محاولة أن تكسر جمود
الصمت بيننا .. قالت :



-
كلفنا عليك .. في ميزانك .. إن شاء الله . - ليس أجمل من ضحكة طفل .. إلا
شعوره بالامتنان تجاهك .. لقد ضمتني ابتسام .. دون أن تتكلم .. لو تدرين يا
أم محمد .. تطحننا الحياة أحيانا .. بلا رفق ، بإيقاعها السريع .. ونحتاج
إلى ضمة كهذه .. لتبتل قلوبنا التي قتلها العطش ..



خرجت
من عندهم ، ووعدت بزيارة في مطلع الأسبوع القادم دون أن أحدد وقتا معينا
.. انشغلت يوم السبت ، لكنني جئت في الموعد نفسه مساء الأحد . طرقت الباب
وأنا أحمل طعاما ، وبعض الحلويات .. تأخر الرد هذه المرة .. ثم حينما فتح
الباب ، ظهر محمد مترددا .. ناولته الأغراض ، بعد أن سلمت عليه ، وداعبته
.. لكنه لم يستجب لدعابتي .. قلت .. ربما أغضبه أحد .. لكنه أيضا ، لم
يستلم الأغراض مني .. وتراجع ، وقال ، وهو يشرع في إغلاق الباب :



-
أمي تقول .. لا نريد منك شيئا .. ولا نريد أن نراك ثانية ..وقفت مشدوها
أمام الباب .. ما الذي حدث .. خاطبت نفسي ..؟ تركت الأغراض في مكانها ،
وعدت إلى سيارتي أجر خطواتي جرا .. شعرت أني مكلوم الفؤاد .. مثل عاص طرد
من الرحمة .. ركبت سيارتي ، لكني عجزت عن تشغيلها .. عدت إلى الباب ثانية
وطرقته .. وألححت في الطرق .. فجاءني صوتها من وراء الباب:



-
أرجوك أن تدعنا وشأننا .. - لن تريني ثانية .. خذي الأغراض التي عند الباب
.. إنها للأطفال .. أرجوك ..لم أنم تلك الليلة .. قلبني الهم والوجع
..وتعذبت .. شعرت كأنما دخلت التيه من جديد .. كطفل فقد أمه في زحام ..
فارغ القلب .. فارغ العينين .. يصرخ .. وصوته ضائع في الضجيج .. سيطر علي
إحساس أن الأمر له علاقة بموضي .. في الصباح الباكر انطلقت ، قبل أن يبدأ
الطلاب والطالبات الخروج إلى المدارس .. جلست أرقب البيت من بعيد .. كلهم
خرجوا إلا هي .. من الغد .. صباح الثلاثاء ، فعلت الشئ نفسه .. لم تخرج
موضي .. بعد المغرب كنت عند الباب . طرقت .. جاء الرد بأسرع مما توقعت ..
كانت ابتسام هي التي فتحت ، يضيء وجهها بابتسامة ، شعرت بوهجها يلمع في
عيني ..



- ماما .. محمد عند الباب ...


سمعت الصوت يأتي من الداخل ...


- أغلقي الباب ... يا بنت ..


كان
معي في جيبي حلاوة ، فأخرجتها ، ولوحت بها لابتسام .. فجاءت تركض نحوي ..
طبعـت على جبينها قبلة ، وأعطيتها الحلاوة .. وأخذت أمازحها .. استبطأت
أمها عودتها ، فجاءت إلى حيث الباب ، فرأتها معي .. صرخت :



- تعالي يا بنت .. ثم وجهت الكلام لي :


- لم لا تكفينا شرك ..؟


- أم محمد .. أنا سأذهب .. لكن ، ليس قبل أن أعرف السبب ..


-
أما تخاف الله .. تستغل حاجتنا .. وضعفنا .. وقلة حيلتنا لتخدع فتاة بريئة
..أحسست كأنما دق في صدري وتد هائل .. انقبض قلبي وزادت دقاته .. وعجزت أن
اتنفس .. وشعرت بحاجة للجلوس .. فارتميت على عتبة الباب .. وخانني الدمع
.. فتفجرت عيناي .. رفعت وجهي إليها ، الذي غدا ، والدمع يملؤه ، كغدير ماء
ضحل خاضت فيه السنابك .. - اتق الله .. فأنا لا أتحمل مثل هذا الكلام ..
ولن أغادر عتبة بابك حتى أعرف القصة كاملة .. كأنما شكت فيما لديها ، مما
تعتقد أنه (حقائق) ، وهي ترى الألم .. والذهول .. والصدمة .. تتصبب من
قسمات وجهي صبا .. أو هكذا ظننت ..



-
تفضل .. دخلت وأخذت مكاني المعتاد في المجلس .غابت عني دقائق ثم عادت
ومعها موضي .. ووقفت أمامي .. ثم قالت ، وهي تشير إلى موضي بصوت مملوء
بالغضب ..



- ما قصة هذه الملعونة ..؟


ثم
لطمتها لطمة أطارت غطاء وجهها .. كان مشهدا صدع قلبي .. ذلك الوجه اللؤلؤي
البديع غدا كقطعة كهرمان .. من الكدمات السود التي انتشرت فيه ، نتيجة
لتعرضه لضرب قاس وعنيف .. التقطت موضي غطاء وجهها ، ولحظتني بطرف كسير ..
أتى على البقية الباقية من نفسي .. ثم قبعت عند الباب .. كما أمرتها أمها
.. حكيت لها قصتي مع موضي كلها .. ثم قلت :



- أريد أن أحدثك حديثا خاصا .. قبل أن أمشي ..أشارت إلى موضي بالانصراف ..


-
البنت طفلة بريئة .. ضحية ظروف كثيرة ، لا تستحق هذه القسوة .. والقسوة لا
تحل مشكلة .. إن كانت موجودة .. هي قد ارتكبت خطأ .. نعم .. لكن تم تداركه
والحمد لله ..



- محمد ..


هكذا
نادتني .. باسمي مجردا .. والبكاء يغلبها .. إنها لحظة الضعف البشري ..
التي تنسى كل (البروتوكلات) .. لحظة .. يتحول الإنسان كله إلى ما يشبه (يد)
غريق .. تمتد من خلال الموج .. لتتمسك بأي قشه ..



-
أنت لا تعرف أي شيئ مثلت لي خلال هذا الأسبوع ، قبل أن أكتشف قصة موضي..
زوجي مات في السجن .. وهو قبل أن يموت فعلا .. كان بالنسبة لنا ، فـي عداد
الأموات .. تورط في تعاطي المخدرات ، ثم ترويجها .. وانتهى النهاية
المتوقعة لسلوك مثل هذا .. وأنا امرأة ضعيفة .. أم بنات .. مشلولة الإرادة
.. مستهدفة .. أعيش حالة من الذل مستمرة .. إن ذهبت للبقالة .. لا يخلو
خطاب العامل الهندي لي من تلميحات .. إن سرت في الشارع .. كل الرجال
يعتقدون أني مستعدة لتقديم شيء .. قبل أن أتوقف عن الذهاب إلى (الذل
الجماعي) الذي يسمونه (الضمان الاجتماعي) .. كنت أعاني العذابين .. لو لم
يكن فيه من بلاء إلا مكانه .. لكان يكفي .. في ذلك البناء المتهالك في
(الغرابي) .. حيث طوابير العمال .. نظراتهم الجائعة .. تنهش جسدي .. أتعثر
مرة .. وأقوم أخرى .. لأعود بفتات تافه حقير .. لا يكفي دفاتر ، ومراسم
لهؤلاء الأطفال ..



ثم
وصلـت إلى لحظة من الضعف .. فبدأت تبكي كالأطفال .. وحاولت أن تتكلم ، فلم
تقدر.. شعرت أن جوارحها كلها تصرخ .. وتتدافع إلى حنجرتها ،لتأخذ دورها في
الشكوى .. ثم قالت ، وهى تنتزع آهة من أعماقها .. وبصوت يشبه العويل :



- لا يمر أسبوع إلا وتمر علي (أم سعد) .. تغريني كثيرا .. وتهددني بخطـف بناتي أحيانا ..


- من هي أم سعد ..؟


- قواده ..


وحاولت أن تستمر ، لكن غلبها البكاء .. فتوقفت .. وأخذت تنشج ، حتى ابتل غطاء وجهها .. استأنفت الحديث ، بعد أن تمالكت نفسها :


-
قواده .. تقول لي .. مـرة في الأسبوع .. أربعـة ألاف ريال في الشهر ..
ومصروف جيب للأولاد .. و "تحبين يدك مقلوبة" .. بسرعة ترى شبابك ينقص كل
شهر .. وليس كل سنة .. حقيقة .. لم استطع أن أتكلم .. أو أعقب ، واستمرت هي
في الكلام ..



-
في كل مرة تجيء بسيارة أحسن من التي قبلها .. آخر مره قالت لي : "اسمعي
نصيحتي يا سارة ، إذا أنت مبسوطة من عيشة النكد والفقر التي أنت فيها ..
(حرام) تحرمين موضي من فرصتها .. موضي بنية حلوة .. وكثيرون سوف يدفعون ..



لقد
كاد أن يصيبني الجنون ، عندما اكتشفت قصة موضي بالصدفة .. قلت .. أكيد
صادتها (أم سعد) .. أنا أعيش كابوس اسمه (أم سعد) .. الله يلعن القوادات ..
أنا من يفكني منها ..؟ من يفكني ..؟ تلومني يا محمد إذا طردتك ..؟ تلومني
إذا (كفرت) بالبنت .. وضربتها بهذا الشكل ..؟ في البداية .. قلت ، أنت نازل
علي من السماء .. ثم لما غلطت موضي ، وقالت لإخوانها أنها أكلت في مطعم ..
حسبت أنك .. حاشاك .. من (كلاب) أم سعد ..



استمرت
تتكلم وأنا مطرق رأسي .. عقدت لساني الصدمة .. وأخرسني الألم .. وأخذت
أشعر أني أتضاءل أمام معاناتها .. تتشبث بي .. وأنا أفكر بالفرار .. لا
أستطيع أن أتحمل معاناتها .. وأشعر بالعجز حيال ما تواجهه .. كيف (أفكها)
من أم سعد ..؟ كيف أساعدها ..؟ كيف استطيع أن أقف معها ..؟ وإلى متى ..؟
بين كل عبارة وأخرى تكرر .. "حنا محتاجينك" .. وأنا قد سيطر علي تفكير واحد
.. أن أنسحب .. أن أهرب .. إلى عالمي (الأناني) .. البليد .. أفكر بربطها
بإحدى المبرات الخيرية .. وأخرج من عالمها .. وأرتاح .. قلت .. وأنا أنهض :



- أستأذن يا أم محمد ..


- ستتركنا ..؟


- سأسعى لوضع ترتيب لكم مع إحدى الجمعيات الخيرية ..


- نحن لا نحتاج خبزا وزيتا ..


ثم أضافت والعبرة تخنقها ..:


_ نحتاج إنسانا يقف بجانبنا ، ويحمينا ... نحتاجك .. وأجهشت بالبكاء ..


- أنا شخص مشغول .. وأنتم بحاجة إلى جهة تلتزم تجاهكم بكل شيئ ..


- ستتركنا ..؟


انتزعت الكلمة هذه المرة ، من أعماقها ، والدمع يكاد يشرقها ..


- من الأفضل لكِ أن أبتعد .. ترددي عليكم قد يثير حولك أقوال .. أنت بغنى عنها ..


قلتها ، وأنا قد امتلأت بالدمع حتى فاض ، أو كاد أن يفيض .. من عيني ..


- لكننا نريدك ..


ثم أضافت .. :


-
كل الناس حولي هنا لا يسلمون من كلام مثل هذا .. قدر المحرومين ، والبؤساء
أن يحرموا حتى من السمعة الطيبة .. لكن ، أنت شيء مختلف ..لم أرد .. وكنت
ما أزال واقفا .. حينما ألقت علي عرضا مثل القنبلة :



- أزوجك موضي ..


فاجأني
كلامها .. فلم أدر ما أقول .. ولم تعطني فرصة للتفكير .. فأضافت :- أنا
أعرف ماذا يدور في ذهنك .. صحيح نحن لسنا (قبائل) .. كما يقولون .. لكن
الحمد لله .. محافظون على أخلاقنا .. وديننا .. ثم .. إذا لم نكن (قبائل)
.. وهذا قدرنا .. ماذا نفعل ..؟ ونحن .. كذلك .. لم ننزل من القمر ..



أحسست
بالدوار ، والغثيان .. والمقت ، وتذكرت صديقا لي ، دائما ما يفخر بقبيلته ،
ويتحدث عن (أمجادها) العريقة .. وكثيرا ما يستهجن موقفي المتميع ، كما
يقول ، من قضية الخضيري والقبيلي ، قال مره ، وقد جمعنا مجلس : "فلان تزوج
خضيرية .. الله يخلف على الأصول" .. صاحبي هذا .. (الأصيل) .. شقيقه متزوج
من أمريكية .. قلت له : " نايـف .. أنا مللت هذه الاسطوانة القبيحة .. التي
لا تفتأ ترددها علينا باستمرار .. أنت تعلم ، من واقع معرفتك بالمجتمع
الأمريكي ، أن كل فتاة أمريكية .. إلا في القليل النادر ، لابـد أن تكـون
لها علاقات جنسية قبل الزواج .. وربما عاشرت أكثر من شخص .. وتعلم كذلك أن
هناك نسبة من الأمريكيين يولدون سفاحا ، إما نتيجة علاقات جنسية قبل الزواج
، حيث لا يتم الزواج بين والديهم إلا بعد ولادة الطفل الأول .. أو الثاني
.. أو يولدون من علاقات عابرة .. وما أكثر حمل المراهقات في المجتمع
الأمريكي .. أين (الأصالة) .. التي تتحدث عنها .. أو يتحدث عنها أولئك
الذين يجوبون مدن العالم يلتقطون النساء من حاراتها الخلفية .. يتزوجونهن
.. لا يعرفون لهن أصلا .. ولا فصلا ، ولا نسبا (عريقا) .. .. وإذا ما
تربعوا في المجالس تحدثوا عن الشريفات .. العفيفات : "هذه خضيرية .. ليست
أصيلة .." .



أذكر
أنه غضب مني .. وخرج من المجلس ، ولم يعد يحدثني بعدها .. لكنني كنت مرتاح
الضمـير .. لأنني شفيت صـدري .. من واحدة من أكثر تناقضات مجتمعنا ، قبحا
.. وغباء .. لم يكن لدي شيء أقوله لها .. واستدرت خارجا . قبل أن أصل الباب
الخارجي سمعت صوت عبدالإله خلفي .. يناديني :



-
محمد .. محمد .. وهو دائما يناديني هكذا ، باسمـي مجردا من أي لقب ..
ألتفت إليه .. فالتقـت عينانا ، أنا بما بقى لي من نظرة واهية كسيرة ..
خضبها الدمع .. وأضناها الألم .. وهو بنظرة اختزلت ذل اليتم .. والعجز ..
والحاجة .. ونقاء الطفولة .. إذ يشرع القلب لها أبوابة .. بلا مقاومة ..
قال :



- صحيح .. أنت قلت أنك سوف تخرج بنا إلى البر .. نلعب كوره ..؟


- صحيح يا حبيبي ..


- متى ..؟


عند
هذه اللحظة كان العناء .. والألم ، والصراع النفسي ، قد بلغ لدي درجة ،
صرت أشعر فيها أنني قد تحولت إلى كتلة من الدمع والأنفس الحرى .. وأنني
أحتاج إلى صدر لأدفن فيه رأسي .. وأبكي .. ثم أبكي .. ثم أبكي .. قلت له :



-
الآن يا حبيبي .. اقتربت منه .. وجلست أمامه وأخذته إلى صدري .. وضممته ..
ثم وضعت رأسي على كتفه .. وبكيت . لا أدري كم بكيت .. لكنه استسلم لي ..
ومنحني كفا .. مسح بها رأسي .. وعبث بها شعري .. وسلمني كتفه لأبكي عليه ..



حينما
أفقت من سكرة الألم هذه .. ورفعت رأسي .. كانت ابتسام واقفة قريبا منا ،
في عينيها دمعتان .. وألقيت نظرة على وجه عبدالاله .. كان الوجه الصغـير
مخضلا بالدموع .. من داخل البيت كان صوت جهاز التسجيل يأتي ، محملا بكلمات
أغنية .. تقول : أحبك .. لو تكون ظالم ... أحبك .. لو تكون هاجر ... أحبك
.. لو تكون غادر .. وأمشي معاك .. للآخر ... أنا أمشي معاك .. للآخر . لم
يكن قلبي بحاجة لمثل هذا الكلام .. كان ينزف ..



قلت لإبتسام :


- من الذي يشغل المسجل ..؟


- موضي ..عرفت أنها توجه لي رسالة ..


- قولي لها تغلقه .. أنا لا أحب سماع الأغاني ..


قبل
أن أنهي عبارتي كانت قد انطلقت إلى داخل البيت .. تصرخ في موضي ، تطلب
منها إغلاق المسجل .. لأنني "ما أحب سماع الأغاني" .. ثم أضافت من عندها
..:

-
" وإلا ترى ما نأخذك معنا للبر .." . ركبنا السيارة جميعنا .. ومررت على
أحد المطاعم ، وطلبت لنا عشاء .. ثم توجهت إلى الدائري الشرقي .. في منطقة
بين مخرج (9) و (8).. وأخذنا مكانا منعزلا .. أخرجت بساطا ، أحمله معي في
السيارة ، وفرشته لهم .. وأعطيتهم الأكل ، بعد أن أخذت نصيبي .. مشيت
مبتعدا .. وأنا أسمع ضحكاتهم تدوي في أذني .. وتهديدات ابتسام ، بأن الذي
لا يسمع الكلام "لن يخرج معنا مرة ثانية" . كنت قد ابتعدت ، غابت الأصوات
.. ولم يبق إلا كلمات الأغنية .. تتردد في ذهني .. ودقات قلبي .. الذي ما
زال ينزف ..
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى