ام الشهيد
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
للدكتور/ محمد الحضيف
كنت
أهم بالنزول ، عندما قالت :- خذ الجوال .. أنا لا أعرف كيف استخدم الجوال
.. هذه أول مرة في حياتي .. أرى فيها جوالا ...توقفت للحظة ، قبل أن آخذ
منها الجوال ، الذي بقى في يدها الممدودة .. وشعرت بمثل حد السكين يحز في
أعماقي .. وتداعت إلى ذهني قصة (ولد البسام) .. والصدى يجلجل في تلك
المساحات الفارغة ، في قطعة اللحم التي تدعي مجازا (قلبا) : "هذه .. أول
مرة .. في حياتي .. أرى فيها .. جوالا ..." .. يا لبلادة المترفين ...
التقطت منها الجوال ، والمرارة .. والشعور بالإحباط .. وغياب (الإنسان) ،
ترغم شفتي على الانفراج ، لتصنعا شيئا يسمونه (ابتسامة) ...
-
ليه تضحك .. ما أنت مصدقني ..؟ - مصدقك .. والله يا عمري ..- أجل ليه تضحك
..؟ - أضحـك على الإنســان البليد في داخلي .. الرقم .. العينة المسحية في
أبحاث السوق ..- ما فهمت ...- تفهمين بعدين ... أغلقت الباب ومضيت . حينما
سرت بضع خطوات سمعت نقرا على الزجاج .. التفت ، كانت تلوح بيدها ، تناديني
، رجعت ، ولما فتحت الباب ، قالت :
-
أبغى أطلب منك طلب .. لكني خجلانه .. - تفضلي ... - أنا جايعة .. من أمس
الظهر .. والله ما ذقت شئ .. أصل أمس ... خلص الزيت ، وما قدرت أمي تطبخ ..
وحنا .. بعد .. يعنى ...لم تستطع أن تكمل عبارتها ، ولم تقدران تفصح عما
كانت تريد قوله ، كانت تفرك كفيها ببعضهما ، مطأطئة رأسها
حرت
في مكاني لبضع ثواني ، ها هو الانسان البليد في داخلي ، يتلقى صفعة ثانية :
جائعة .. وأنا رائحة الشواء ، الذي أتخمت منه البارحة ، حتى لم يبق مكانا
لنسمـة هواء .. ما زالت خياشيمى .. هناك شئ نفعله حينما يبلغ بنا الشعور
بالمرارة والمهانة أقصاه ... نبصق على شئ .. صورة المسئول في الجريدة ..
مثلا .. أو على الأرض بجانبنا ، وهو أقصى إحتجاج نقدر عليه ، كنت أريد أن
أبصق على خيالي ، الذي يعكسه الزجاج .. على (شكل) الإنسان الذي أدعي أنه
موجود لدي ، كنت أهم بأن أفعل ذلك ، لكني خشيت أن تفهم أنها هي المقصودة ..
رفعت
رأسها ، وأنا مازلت واقفا . كانت عيناها تلمعان من خلف غطاء وجهها . قالت ،
وهي ما تزال تفرك كفيها ، لكن بوتيرة أقل : - الظاهر أن طلبي ما كان في
محله ... أو (شكلي) أحرجتك ..- لا .. أبدا .. نمشي الآن ... كنت على وشك أن
أغلق الباب حين لمحت بقعة دم على ثوبها ، قريبا من موضع الركبة . انقبض
قلبي بشدة ، وداهمني خاطر سئ .. وشعور بالغضب ، لم أستطع أن أواريه ، فقلت
لها بلهجة جافة .. لا تخلو من إتهام :
-
موضي .. من وين الدم هذا ..؟ - انجرحت ركبتي .. يوم طحت من السيارة ..
عيناها مازالتا تلمعان من خلف الغطاء .. معلقتان بوجهي ، الذي ارتسمت عليه
علامة استفهام كبيرة .. أحست أن إجابتها لم تقنعني ، وأني لم أصدق كلامها ،
فأزاحت عباءتها ، ورفعت ثوبها عن موضع الإصابة ، دون أن تتكلم ، أو ترفع
رأسها ، كان جرحا سطحيا ، تيبس الدم حوله . ليس عميقا ، لكنه بدا ، بلونه
الداكن ، وتشققاته ، التي أبرزها إهابها الأبيض الرقيق ، مثيرا للألم
والشفقة ، أغلقت الباب ، وركبت من الناحية الأخرى . كانت ما تزال مطأطئة
رأسها .. أعرف أني جرحت كرامتها
كثيرا
ما نوقع أذى بهذا الحجم وأكثر ، بالآخرين .. وكثيرا ما يكون ذلك بدافع من
الشعور بـ (طهرانية) مبالغ فيها لذواتنا .. والشعور بـ (دنس) الآخر ،
وقابليته للخطيئة ، التي تحتاج إلى (مخلص) مثلنا .. لم يقف يوما في صف ،
ويسمع ، "من كان منكم بلا خطيئة .. فليرمها بحجر ..." .. وأحيانـا نمارس
الأذى ، ونوقعه بقسوة .. لا تعطي فرصة للتجاوز .. على من نحب .. بدعوى الحب
، كيف يؤذي من يحب ...؟
حاولـت
أن أغير الموضوع ، وألطف الموقف ، بسؤالها عن ماذا تريد أن تأكل ، لكنها
لم ترد. فكرت أن أشتري لها سندويتشات وعصير ، لكني لا أعرف محلا قريبا ،
يقدم هذا النوع من الفطائر ، وعملية البحث ستأخذ مني وقتا . اتجهت إلى مطعم
قريب ، يقدم وجبات سريعة . في الطريق إليه لمحت صيدلية .. نزلت وأشتريت
شاشا ومعقما ولاصقا ، وصلنا المطعم .. قلت لها :
-
انزلي ... - إلى أين ..؟- إلى المطعم .. لتفطري ... نزلنا وفي قسم
العائلات ، أخذنا إحدى المقصورات . كانت تتلفت .. واضح أنها تدخل مطعما
لأول مرة .. قالت ببراءة : - آكل قدام الناس ... ما يشوفوني الرجال ..؟ -
لا .. أنت لوحدك هنا .. تيقنت أنها بريئة .. ولم تتمرس على الانحراف ..
تستحي أن يراها الرجال كاشفة وجهها وهي تأكل ، الحياء لا يتكلف ، ولا يصطنع
..
التظاهر
في مثل هذه المواقف ، بغير الحقيقة ، يتطلب درجة عالية من الخبث ، والتمرس
على المكر .. لا يمكن أن تتقنه طفلة في هذا السن ، وأوجعني قلبي مرة أخرى
.. أن ظننت بها ظن السوء ..
طلبت
لها أكلا ، وسألتها إن كانت تريد عصيرا بعينه ، قالت :- أبغي (كوتيل) .. -
تقصدين كوكتيل ...؟ - ما أدري .. أسمع البنات يقولون ، عصير (الكوتيل) حلو
...مرة أخرى يبرح بي الألم .. تبدو لغة المحرومين .. ساذجة .. بريئة ،
لكنها تدمي القلب . يحق لك أن تزهو .. إبن الطبقة الوسطى ، أو فوقها بقليل
.. تعرف الكوكتيل .. والسكالوب .. والستيك
ها
أنت أمام كائن يشاركك نفس الكوكب ..ونفس الوطن .. بل على الطرف الثاني من
المدينة .. ربما لم يعرف سائلا غير الماء في حياته .. أو معلبات الكولا ،
التي تعمل عمل الأسيد في قنوات جهازه الهضمي . إنه (البرجوازي) البشع ..
يتربع في داخلك .. كتمثـال من البرونز .. منصوب في ميدان ، في عاصمة
(رأسمالية) .. يأتيه العمال ، والمهاجـرون المغتربون .. المسحوقون ..
يتمسحون فيه .. ويطوفون حوله .. يلتقطون الصور التذكارية .. ويصطنعون عنده
(لقطات فرح) .. انتزعوها من بقايا آدمية مطحونة ، في قيعان المناجم .. أو
بين هدير ألات المصانع ، يتفصدون دما .. وعرقا ، يصنع منه طلاء .. يحفظك من
الصدأ .. ويبقيك لامعا .. متوهجا .. ليؤموك مرة ، تلو أخرى
صرت
(ربا) صنما ، حولك .. (يولد) فرح المسحوقين ، ومن عصارة أجسادهم تبقي
لامعا .. لتسعدهم .. أي فخر أعظم من هذا ...؟ جاء الأكل ، واستلمته من
العامل ، ووضعته على الطاولة .. وقلت لها :
-
أفطري .. بعد عشر دقائق أرجع لك .. - وين تروح ..؟- أتركك .. تأخذين راحتك
.. - لا .. لا تتركني .. أنا راحتي معك ..انتفض قلبي لعبارتها .. تملكني
براءة الأنقياء .. وصدق المشاعر تذكرت الشاش والمعقم الذي اشتريته ،
فأخبرتها أني سأذهب لإحضار بعض الأغراض من السيارة . كنت أريد أن أدعها
لوحدها ، حتى تنتهي من إفطارها ، ولأحضر تلك الأغراض لتطهير جرحها .. رغم
أني تعمدت التأخير ، إلا أنني حينما عدت ، كانت ما تزال في بداية وجبتها .
شعرت بحرج ، لكنها نظرت إلى بعينين ساكنتين ، وقالت :
-
خفت .. لما تأخرت علي .. جلست أرقبها تتناول الطعام . تتصرف بهدوء وعفوية ،
دون إحساس بالمكان حولها .. كانت جائعة فعلا ... طريقة التهامها للطعام ..
تلقائيتها في التصرف .. حينما نزعت غطاء وجهها ، الذي كان يتدلى على
كتفيها ، ووضعته على الكرسي بجانبها .. تنقلها بين صنف وآخر من الطعام بدون
أي (إتيكيت) .. كأنما تتذوق (العالم) لأول مرة .. بل هي كذلك .. إنها
الدهشة التي تصيبنا ، حينما نصادف الأشياء للمرة الأولى ، فنتصرف مثل
الأطفال
..
"أوووه أيها المترف" .. يلج نداء في داخلي .. "أصبحت تعلم المحرومين
الاتيكيت" .. أصبحت أنت (الأستاذ) .. وغيرك حولتهم الدهشة إلى أطفال .. لم
لا تفهم ..؟ إنه الجوع ، والحرمان .. والبراءة التي ما تلوثت .. شعرت بفيض
من الحب يغمر قلبي تجاهها .. براءتها .. عفويتها .. تلقائيتها .. والشعور
بالأمان الذي هبط عليها ، وهي معي .. فنسيت العالم من حولها . حينما يسكن
إنسان إليك ، تعتريك حالة من الاستسلام .. والحب اللانهائي .. تأمل حينما
يدفن طفل رأسه في حجرك .. ويغفو ، تنتابك حال من الاستسلام غريبة .. وتحس
أن قلبك تحول إلى مهد له .. لوحده .. وتتمنى لو توقف العالم كله من حولك ..
بساعاته .. وسياراته .. وضجيجه كله .. لكي لا يصحو . هكذا كان شعوري نحوها
.. وأنا أنظر إليها .. تحيلني سكينتها .. واطمئنانها إلي .. إلى (إنسان)
.. قال عنه عبدالكريم يوما ، إنه غير موجود ، وددت لو أخذتها إلي .. وضممت
رأسها إلى صدري .. ليذوب الجليد .. لأبكي .. لأستعيد إنسانيتي المهدرة ..
أليس شيئا هائلا أن تجد إنسانا يسكن إليك ، و .. تسكن إليه .. ؟
تذكرت
صاحب السيارة الذي قذفها ، فتداعى إلى ذهني مخزون هائل من اللعنات ... أي
نفس سويه يسوغ لها أن تفتك ببراءة مثل هذه ..؟ أي توحش قادر على أن يغرس
خنجر الغدر في هذا الطهر الفطري ...؟ كنت ساهما .. أهلوس بمثل هذه الأفكار
.. وأتذكر كثيرات .. فتك بطهرهن .. بسبب مثل هذه البراءة ، والعفوية ،
جالسا قبالتها .. شاخصا .. صامتا ، حين قالت ، وهي ترفع خصلة شعر سقطت على
وجهها :
-
كثر الله خيرك .. دبت الحياة في محياها ، بعد الجوع والعطش ، كما نبت
الحيا في أرض مجدبة .. غمرها الغيث . وجهها عاد أكثر بشاشة .. جبينها
العريض صار أكثر ضياء .. عيناها ، كأنما أوقدت فيهما قناديل فـرح .. امتد
وهجها إلى ثناياها ، فازدادت ألقا .. لتصنع لها ابتسامة آسرة .. كلما افتر
ثغرها
عندما
أنهت ترتيب عباءتها ، وشرعت تضع غطاء رأسها ، ووجهها في مكانه ، قلت لها :
- لابد أن أعقم الجرح ، حتى لا يلتهب ...هزت رأسها موافقة . رفعت ثوبها
إلى حدود الجزء الممزق ، ليظهر الجرح ، ولأتمكن من تنظيفه . أخبرتها أن
المادة المعقمة تحتوي على مادة قلوية ، وستشعر نتيجة لذلك بألم ، وعليها أن
تتحمل
كنت
قد أنهيت تنظيف الجرح ، ووضعت الشاش واللاصق عليه ، وأتهيأ للنهوض ، حين
شعـرت بكفيها تطبقان على جانبي رأسي ، وتأخذه إليها ، ثم تنحني وتطبع قبلة
على جبيني ، وتقول :
-
يا ليتك (أخوي) ... يا ليتك ...وسكتت .. رفعت رأسي ، ونظرت إلى وجهها ..
كان ينطق بكل اللغات .. إلا لغة الجسد .. لقد تلاشي الجسد ، كوسيلة تعبير
بيننا .. ولم يكن ثمت إلا أنا .. ودوائر من النور .. تلتمع في مساحات
وجههـا .. الـذي غدا أمامي كمحراب هائل .. طفقت أردد فيه الصلوات ..
- اعتبريني أخا لك ...
قلتها
وأنا أنهض ، وهي تتبعني بنظراتها .. وتغالب دمعتين .. عقربا الساعة في
سباق ، الصغير يؤشر على الرقم 11 ، والكبير التحم بالرقم 2 .. لا أدري
أيهما سبق . لم يعد لتقسيم الفراغات في تلك الدائرة التي يسمونها (ساعة) ،
أي معنى لدي ... في لغة الوقت ، التي اخترعوها ، الساعة الآن هي الحادية
عشرة وعشر دقائق .. أما الوقت لدي ، فقد اختزل إلى بداية ونهاية .. كلاهما
اسمه .. موضي .. الزمن فيه لا يحسب بالعقارب .. ولا بفراغات الدائرة ،
وتقسيماتها .. ابتدأ بفتاة تقذف من سيارة ، كنتيجة مبكرة لعملية سوف تتم ،
بالضرورة لاحقا ، وتحدث في كل لحظة ، يدفع الطرف الأضعف فيها .. دائما ،
الثمن الباهض من شرفه .. وكرامته ، وإنسانيته .. وحقه المفترض في حياة
كريمه .. لا تخضع لابتزاز المال .. ونفوذ السلطة .. تأتي المرأة ممثلا
(مواظبا) للطرف الأضعف .. الممتهن .. المبتز .. المستهدف .. المقذوف .. ليس
من سيارة يمتلكها مترف ، (قادر) .. بل من حقها .. أن يكون لها كينونة ..
في بعدها الإنساني .. لها اعتبارها .. وكرامتها .. ضمن القانون السرمدي :
"و لقد كرمنا بني آدم" ... ينتهي الوقت .. متى ينتهي ..؟
عند
الساعة الواحدة .. حينما تدلف موضي ، بخطوات متوجسة إلى بيت أهلها ..؟ وقت
طويل .. لو كان الزمن يقاس بعذابات المحرومين وأوجاعهم .. وبأحلامهم التي
تنتهي تحت أقدام نزوات (القادرين) .. وصلت إلى مقر عملي .. ونزلت .. لم
يتبق وقت للعمل اليوم . تركتها في السيارة ، وذهبت لإنجاز بعض الأعمال
المعلقة ، ولأعتذر عن التأخير .. وعن بقية اليوم .. بدوت أمام الزملاء
متوترا .. شارد البال .. غير قادر على التركيز .. وقعت اسمي في المكان غير
الصحيح أكثر من مرة .. وأختلف توقيعي عن الآخر أكثر من مرة .. ناديت أحد
الموظفين بغير اسمه .. ظروف عائلية ... كان هذا هو التبرير .. وانسحبت ..
جزء
من الشرود والتوتر الذي انتابني في العمل ، كان بسبب الضغط النفسي الذي
فرضه التفكير المتواصل في أمرها .. لقد قررت أن لا أنزلها عند المدرسة ..
سيطر علي هم واحد : هـل أتركهــا تذهب بهذه البساطة .. دون أن تتعلم درسا ،
يمنعها من العودة لنفس السلوك ..؟ هل أدعها تعود لبيت أهلها .. لتعود بعد
ذلك لنفس الطريق ..
عدت
إلى السيارة بغير الوجه الذي ذهبت به .. مهمومـا .. متجهما .. ومتوترا ..
ضاقت على الأرض بما رحبت .. ركبت ، وسحبت الباب خلفي بقوة .. ولم أكلمها ..
كنت ، حينما خرجنا من المطعم ، قد ألنت لها القول ، ولاطفتها ، وحدثتها
حديث القلب للقلب عن خوفي عليها .. وقلقي على مستقبلها ، ورجوتها أن تنتبه
لنفسها .. وختمت ذلك بمزحة ، فقلت :
-
إن عاهدتني أن تلتزمي بما قلت لك اشتريت لك آيسكريم (كون زون) أو (باسكن
روبنز) ، لكن باسكن روبنز أمريكي ، وأنا مقاطع البضائع الأمريكية ..ضحكت
ببراءة الآمن في سرية ، وقالت بعفوية أخذت قلبي :- أبغى اكتب اسم الاسكريم
.. حتى إذا رحت للمدرسة أقول للبنات إني أكلته ..
ثم
أضافت :- أبلا نوره .. دائما تنهي الحصة بتذكيرنا بمقاطعة البضائع
الأمريكيــة .. لكن .. ثم سكتت قليلا .. لتقول : .. البنات في الفسحة
يعلقون على (أبلا) نورة ، ويقولون : "الأبلا ساكنة في شمال الرياض .. وتحسب
الناس كلهم مثلها ، يستطيعون أن يشتروا بضائع أمريكية" . أندفع الدم إلى
وجهي ، وشعرت كأنما لفحتني موجة حارة .. إنها فوقية المترفين ..
إنها
(ماري أنطوانيت) ، التي تطالب الجائعين ، الذين يتظاهرون من أجل الخبز ..
أن يأكلوا (بسكويت) .. أوهي (أبلا نورة) .. التي تطالب الجوعى والعراة ..
أن لا يشتروا من (مكس) ، أو (نكست) ، أو (فرساتشي) .. كيف لا تقرأ (أبلا
نورة) هذا الوجع والبؤس .. الساكن في كل قسمة من قسمات تلك الوجوه ، وهي
تصافح عينيها كل صباح .. كيـف تستطيـع أن تعيش في عالمين منفصلين ..؟
كيف
يصنع الترف كل هذه الحجب الغليظة من البلادة .. واللامبالاة بمعاناة الآخر
.. ووجعه .. وبؤسه ..؟ كيف يهوي الإنسان (في داخلنا) إلى تلك الأعماق
السحيقة ، فلا يسمع منه زفرة ألم .. ولا يتسلل من تلك اللجة الجليدية .. شئ
من مشاعر .. صرخة واهية .. تجاه الحرمان الذي : يخنق أحلام الصبايا ..
يغتال الفرحة في عيون الأطفال .. ويقتل الكبرياء في جباه الرجال ...؟
لست
وحدك .. هناك ألافا مثلك .. وآلافا مثل نورة .. حينما استقريت على المعقد ،
بتلك الحالة المتوترة ، تطلب الأمر مني وقتا ، لأخرج المفتاح من جيبي ..
ولاحظت ذلك ..
عندما
بدأت أدير المفتاح ، لتشغيل السيارة ، صدحت أغنية من (الراديو) ، الذي
يبدو أنها قد عبثت به أثناء غيابي .. كان المغني يردد : "زمانك لو صفا لك
يوم ... زمانك ما صفا لك دوم وعينك لو أهتنت بالنوم ... ترى الأيام دواره
ترى الأيام دواره .."
للحظـة
.. استسلمت لكلمات الأغنية ، التي فتقت جرحا جديدا .. ثم أقفلت الراديو ..
بانفعال . قالت ، وكأنها تريد أن تخفف من حدة التوتر ، الذي لاحظته على ،
حينما عدت :
- الأغنية كلماتها حلوة .. صح ..؟ لم أرد عليها .... - ما تسمع أغاني ..؟- لا ..- حرام ..؟ - نعم ..
-
أنت كنت تسمع قبل (شوي) !! - أنت تحققين معي ..؟ - أنت زعلان .. أنا سألتك
.. لأن فيه معلمة عندنا تقول ، الذي يسمع أغاني كافر .. - لا .. ليس كفر
.. لكن حرام ..- ما فهمت .. - سماع الأغاني معصية .. ويفسد الأخلاق .. وأنت
ما أفسدك إلا سماع الأغاني . - يعني أنا فاسدة ..؟ - هذا الذي قمت به ..
ماذا تسمينه ..؟
ران
الصمت بيننا .. بدأ الندم يأكل نفسي .. لقد هدمت كل ما بنيت هذا الصباح ..
بلحظة غضب ، أشعر أني انتقم لنفسي منها .. أن تورطت بها .. أضاعت وقتي ..
وأوقعتني في حيرة .. وحملتني مسئولية الحفاظ عليها .. أنا الذي لم أعش إلا
لنفسي فقط .. وتحاشيت كثيرا أن أصيخ سمعي لوجع الناس .. أو أجرح ناظري
بمشاهد البؤس والحرمان ..
مازالت
الذاكرة تكويني ، باسترجاع تلك المناظر التي رأيتها .. وبتذكر ذلك الأنين
.. الذي اجتاح هدوئي ، في (مغامرتي) اليتيمة في حي (الأمل) مع عبدالكريم ..
كيف
أريد علاجها ، وأنا قد شرعت بإدانتها .. وتجريمها ..؟ قلت ، بعد أن استعدت
هدوئي ، وبلهجة بالغت بأن أشعرها من خلالها بالمحبة والحنان :
-
موضي حبيبتي .. أليس هذا الذي فعلتيه خطأ ..؟ - صح .. لكن خلني أسألك سؤال
.. أعطني فرصة .. أقول لك شيء ..- أنا الذي أريد أن أسألك سؤالا .. .. من
هو الشخص الذي كنت معه الصباح ..؟ - لا أعرفه .. - تركبين مع شخص لا
تعرفينه ..؟ - والله العظيم لا أعرفه .. أصل الموضوع .. البندري ..وأخذت
تبكي .. وتوقفت عن الكلام .. - تكلمي يا موضي .. أرجوك .. - "أنا شفت
إكسسوارات حلوة على زميلتي البندري .. أعجبتني .. قالت لي : أعجبتك ..؟ قلت
لها نعم .. قالت قولي لأبوك يشتري لك مثلها .."
هي تعرف أن الوالد غير موجود .. لكنها .. وانخرطت بنوبة بكاء أشد مما سبق .. تركتها حتى سكنت ، وأنا أكثر فضولا لمعرفة التفاصيل .
شعرت
أن المسألة أكبر من طيش مراهقة ، إلا أنـي لم أجرؤ أن أطلب منها مواصلة
الحديـث . لكنها ، حينما ألتفتت تطلب مني منديلا تمسح به دموعها ، رأت
اللهفة في وجهي ، لمعرفة تفاصيل الموضوع ، ورأيت أنا في عينيها انكسارا
يذيب الحجر الأصم ..
استأنفت الحديث :
-
البندري تعرف أن الوالد غير موجود .. لذلك ، قالت لي : "وإذا ما عندك أب
.. لازم يكون لك (صاحب) .. تطلعين معه .. يشتري لك اللي تبين .. ويؤكلك في
المطاعم" .. قلت للبندري : أنا ما أعرف أحد ، قالت : "ما يهمك .. أنا أعطيك
رقم واحد .. عنده سيارة (كشخه) .. تكلمينه .. "فعلا .. كلمته أكثر من مره
.. وسمعني كلام حلو .." أمس قال لي .. الصباح لا تمشين للمدرسة .. روحي
للشارع العام .. وأجـيء أخذك من هناك الساعة 7 " .. فعلا .. رحت للشارع
العام .. وجاء الشخص الذي رأيتني معه ، وركبت ، كان أول شيء قال لي : "أنا
أحبك يا موضي .. البندري كلمتني كثيرا عنك .. أنت تستأهلين كل خير .. أنت
بس تدللي .." .
بعد
ما مشينا بفترة بسيطة ، قال إن فيه (جمس) ، مثل سيارة الهيئة يمشي خلفنا
.. ثم أسرع .. وصدمنا فيك .. كنت أستمع إليها مذهولا .. أحاول أن أكذب سمعي
..- ومصدقة انه يحبك ..؟ - لا .. طبعا .. كلام فاضي .. - وأنت صدقتي
البندري .. يمكن الذي اشترى لها الإكسسوارات أبوها .. ؟ - لا .. أبوها غير
موجود .. أمها مطلقة .. وهي ساكنة مع أمها .. وأبوها ساكن في مدينة ثانية
.. ولا يعترف فيهم
شعرت
برغبة حقيقية بالبكاء .. البندري أيضا ضحية .. بيت ممزق .. وفقر .. ألعن
من .. غير إبليس ..؟- وأنت .. الوالد أين هو ..؟ترددت برهة من الوقت .. ثم
قالت : - مسجون ...ثم أضافت ، وقد استحال وجهها إلى الأصفر الشاحب : .. ولا
عندنا أحد يصرف علينا .. في هذه اللحظة لم أملك أن أمنع نفسي عن البكاء ..
أوقفت السيارة على جانب الطريق ، وبدأت أبكي بكاء صامتا .. بنفسي هذه
الطفلة .. وآلاف غيرها .. ألعن من .. غير إبليس ..؟
جوفي
كان يشتعل غيظا .. وعجزا .. واحتقارا ، لذات .. ظلت طويلا .. في منفاها
الجليدي ، لا تحس بلهيب المعاناة لبشر .. يتحالف الفقر ، والحرمان ،
والإهمال .. مع (القوانين) المتخلفة ، والبيروقراطية القبيحة .. المسخ ، في
إذلالهم .. كنت منغمسا في لحظة وجع حقيقي .. أغلق الدمع عيني ، فلم أعد
أرى شيئا ، عندما سحبت يدي وقبلتها ، وهي تقول بعينين دامعتين ، ووجه صار
مرتعا للألم فقط :
- تبكي من أجلي .. يا ليتك .. يا ليتك ..ثم خنقتها العبرة ..
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى