ابو ذياد
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
التاريخ الهجري 75 هـ
ففيها غزا محمد بن مروان - أخو عبد الملك بن مروان وهو
والد مروان الحمار - صائفة الروم حين خرجوا من عند مرعش، وفيا ولي عبد
الملك نيابة المدينة ليحيى بن الحكم بن أبي العاص، وهو عمه، وعزل عنها
الحجاج. (ج/ص: 9/11)
وفيها ولي عبد الملك الحجاج بن يوسف نيابة العراق والبصرة والكوفة وما يتبع
ذلك من الأقاليم الكبار، وذلك بعد موت أخيه بشر، فرأى عبد الملك أنه لا
يسد عنه أهل العراق غير الحجاج لسطوته وقهره وقسوته وشهامته، فكتب إليه وهو
بالمدينة ولاية العراق، فسار من المدينة إلى العراق في اثني عشر راكباً،
فدخل الكوفة على حين غفلة من أهلها وكان تحتهم النجائب، فنزل قريب الكوفة
فاغتسل واختضب ولبس ثيابه وتقلد سيفه وألقى عذبة العمامة بين كتفيه، ثم سار
فنزل دار الإمارة، وذلك يوم الجمعة وقد أذن المؤذن الأول لصلاة الجمعة،
فخرج عليهم وهم لا يعلمون، فصعد المنبر وجلس عليه وأمسك عن الكلام طويلاً،
وقد شخصوا إليه بأبصارهم وجثوا على الركب وتناولوا الحصى ليحذفوه بها، وقد
كانوا حصبوا الذي كان قبله فلما سكت أبهتهم وأحبوا أن يسمعوا كلامه، فكان
أول ما تكلم به أن قال: يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ
الأخلاق، والله إن كان أمركم ليهمني قبل أن آتي إليكم، ولقد كنت أدعو الله
أن يبتليكم بي ولقد سقط مني البارحة سوطي الذي أؤدبكم به فاتخذت هذا مكانه -
وأشار إلى سيفه -، ثم قال: والله لآخذن صغيركم بكبيركم، وحركم بعبدكم،
ثم لأرصعنكم رصع الحداد الحديدة، والخباز العجينة. فلما سمعوا كلامه جعل
الحصى يتساقط من أيديهم، وقيل إنه دخل الكوفة في شهر رمضان ظهراً فأتى
المسجد وصعد المنبر وهو معتجر بعمامة حمراء متلثم بطرفها، ثم قال: عليَّ
بالناس ! فظنه الناس وأصحابه من الخوارج فهموا به حتى إذا اجتمع الناس
قام وكشف عن وجهه اللثام وقال:
أنا ابن جَلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
ثم قال: أما والله إني لأحمل الشيء بحمله، وأحذوه بنعله، وأحزمه بفتله،
وإني لأرى رؤوساً قد أينعت وآن اقتطافها، وإني لأنظر إلى الدماء تترقرق بين
العمائم واللحى. (ج/ص: 9/12)
قد شمرت عن ساقها فشمري
ثم أنشد:
هذا أوان الشد فاشتدي زِيمْ
قد لفَّها الليل بسوَّاق حطمْ
لست براعي إبل ولا غنمْ
ولا بجزَّارٍ على ظهرٍ وضمْ
ثم قال:
قد لفَّها الليل بعصلبيِّ * أروع خراج من الدوي * مهاجر ليس بأعرابي
ثم قال: إني يا أهل العراق ما أُغمز بغماز، ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد
فررت عن ذُكاء وجربت من الغاية القصوى، وإن أمير المؤمنين عبد الملك بن
مروان نثر كنانته ثم عجم عيدانها عوداً عوداً فوجدني أمرّها عوداً وأصلبها
مغمزاً فوجهني إليكم فأنتم طالما رتعتم في أودية الفتن، وسلكتم سبيل الغي،
واخترتم جدد الضلال، أما والله لألحونَّكم لحي العود، ولأعصبنكم عصب
السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، إني والله لا أعد إلا وفيت، ولا أخلق
إلا فريت، فإياي وهذه الجماعات وقيلاً وقالاً، والله لتستقيمن على سبيل
الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلاً في جسده.
(ج/ص: 9/13)
ثم قال: من وجدت بعد ثالثة من بعث المهلب -يعني الذين كانوا قد رجعوا عنه
لما سمعوا بموت بشر ابن مروان كما تقدم -سفكت دمه وانتهبت ماله، ثم نزل
فدخل منزله ولم يزد على ذلك، ويقال إنه لما صعد المنبر واجتمع الناس تحته
أطال السكوت حتى أن محمد بن عمير أخذ كفاً من حصى وأراد أن يحصبه بها،
وقال: قبحه الله ما أعياه وأذمه !فلما نهض الحجاج وتكلم بما تكلم به
جعل الحصى يتناثر من يده وهو لا يشعر به، لما يرى من فصاحته وبلاغته.
ويقال إنه قال في خطبته هذه: شاهت الوجوه إن الله ضرب مثلاً: (
قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً
مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ
لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )
[النحل:112] وأنتم أولئك فاستووا واستقيموا، فوالله لأذيقنكم الهوان
حتى تذروا، ولأعصبنكم عصب السلمة حتى تنقادوا، وأقسم بالله لتقبلنّ على
الإنصاف ولتدعن الأرجاف وكان وكان، وأخبرني فلان عن فلان، وإيش الخبر وما
الخبر، أو لأهبرنكم بالسيف هبراً يدع النساء أيامى والأولاد يتامى، حتى
تمشوا السُّمَّهي وتقلعوا عن ها وها.
في كلام طويل بليغ غريب يشتمل على وعيد شديد ليس فيه وعد بخير.
فلما كان في اليوم الثالث سمع تكبيراً في السوق فخرج حتى جلس على المنبر
فقال: يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، إني سمعت
تكبيراً في الأسواق ليس بالتكبير الذي يراد به الترغيب، ولكنه تكبير يراد
به الترهيب. وقد عصفت عجاجة تحتها قصف، يا بني اللكيعة وعبيد العصا
وأبناء الإماء والأيامى، ألا يربع كل رجل منكم على ظلمه، ويحسن حقن دمه،
ويبصر موضع قدمه، فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالاً لما
قبلها وأدباً لما بعدها. قال فقام إليه عمير بن ضابئ التميمي ثم الحنظلي
فقال: أصلح الله الأمير إنا في هذا البعث وأنا شيخ كبير وعليل: وهذا
ابني هو أشب مني. (ج/ص: 9/14) قال: ومن أنت؟ قال عمير بن ضابئ
التميمي، قال: أسمعت كلامنا بالأمس؟ قال: نعم ! قال ألست الذي غزا
عثمان بن عفان؟ قال: بلى قال: وما حملك على ذلك؟ قال: كان حبس
أبي وكان شيخاً كبيراً، قال: أوليس هو الذي يقول:
هممتُ ولم أفعل وكدت وليتني
فعلت وولَّيتُ البكاء حلائلا
ثم قال الحجاج: إني لأحسب أن في قتلك صلاح المصرين، ثم قال: قم إليه يا
حرسي فاضرب عنقه، فقام إليه رجل فضرب عنقه وانتهب ماله، وأمر منادياً في
الناس ألا إن عمير بن صابئ تأخر بعد سماع النداء ثلاثاً فأمر بقتله فخرج
الناس حتى ازدحموا على الجسر فعبر عليه في ساعة واحدة أربعة آلاف من مذحج،
وخرجت معهم العرفاء حتى وصلوا بهم إلى المهلب، وأخذوا منه كتاباً بوصولهم
إليه، فقال المهلب: قدم العراق والله رجل ذكر، اليوم قوتل العدو.
ويروى أن الحجاج لم يعرف عمير بن ضابئ حتى قال له عنبسة بن سعيد: أيها
الأمير ! إن هذا جاء إلى عثمان بعد ما قتل فلطم وجهه، فأمر الحجاج عند
ذلك بقتله.
وبعث الحجاج الحكم بن أيوب الثقفي نائباً على البصرة من جهته، وأمره أن
يشتد على خالد بن عبد الله، وأقر على قضاء الكوفة شريحاً ثم ركب الحجاج إلى
البصرة واستخلف على الكوفة أبا يعفور، وولى قضاء البصرة لزرارة بن أوفى،
ثم عاد إلى الكوفة. وحج بالناس في هذه السنة عبد الملك بن مروان وأقر عمه
يحيى على نيابة المدينة، وعلى بلاد خراسان أمية بن عبد الله.
وفي هذه السنة وثب الناس بالبصرة على الحجاج، وذلك أنه لما ركب من الكوفة
بعد قتل عمير بن ضابئ قام في أهل البصرة فخطبهم نظير ما خطب أهل الكوفة من
الوعيد والتشديد والتهديد الأكيد، ثم أُتي برجل من بني يشكر فقيل هذا عاص،
فقال: إن بي فتقاً وقد عذرني الله وعذرني بشر بن مروان، وهذا عطائي مردود
على بيت المال، فلم يقبل منه وأمر بقتله فقتل، ففزع أهل البصرة وخرجوا من
البصرة حتى اجتمعوا عند قنطرة رامهرمز. وعليهم عبد الله بن الجارود، وخرج
إليهم الحجاج -وذلك في شعبان من هذه السنة -في أمراء الجيش فاقتتلوا هناك
قتالاً شديداً، وقتل أميرهم عبد الله بن الجارود في رؤوس من القبائل معه،
وأمر برؤوسهم فقطعت ونصبت عند الجسر من رامهرمز، ثم بعث بها إلى المهلب
فقوي بذلك وضعف أمير الخوارج، وأرسل الحجاج إلى المهلب وعبد الرحمن بن مخنف
فأمرهما بمناهضة الأزارقة، فنهضا بمن معهما إلى الخوارج الأزارقة فأجلوهم
عن أماكنهم من رامهرمز بأيسر قتال، فهربوا إلى أرض كازرون من إقليم سابور،
وسار الناس وراءهم فالتقوا في العشر الأواخر من رمضان، (ج/ص: 9/15)
فلما كان الليل بيت الخوارج المهلب من الليل فوجدوه قد تحصن بخندق حول
معسكره، فجاؤوا إلى عبد الرحمن بن مخنف فوجدوه غير محترز - وكان المهلب قد
أمره بالاحتراز بخندق حوله فلم يفعل - فاقتتلوا في الليل فقتلت الخوراج عبد
الرحمن بن مخنف وطائفة من جيشه وهزموهم هزيمة منكرة، ويقال إن الخوارج لما
التقوا مع الناس في هذه الوقعة كان ذلك في يوم الأربعاء لعشرين بقين من
رمضان، فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يعهد مثله من الخوارج، وحملت الخوارج على
جيش المهلب بن أبي صفرة فاضطروه إلى معسكره، فجعل عبد الرحمن يمده بالخيل
بعد الخيل، والرجال بعد الرجال، فمالت الخوارج إلى معسكر عبد الرحمن بعد
العصر فاقتتلوا معه إلى الليل، فقتل عبد الرحمن في أثناء الليل، وقتل معه
طائفة كثيرة من أصحابه الذين ثبتوا معه، فلما كان الصباح جاء المهلب فصلى
عليه ودفنه وكتب إلى الحجاج بمهلكه، فكتب الحجاج إلى عبد الملك يعزيه فيه
فنعاه عبد الملك إلى الناس بمنى، وأمّر الحجاج مكانه عتاب بن ورقاء، وكتب
إليه أن يطيع المهلب، فكره ذلك ولم يجد بدّاً من طاعة الحجاج، وكره أن
يخالفه فسار إلى المهلب فجعل لا يطيعه إلا ظاهراً ويعصيه كثيراً، ثم تقاولا
فهم المهلب أن يوقع بعتاب ثم حجز بينهما الناس، فكتب عتاب إلى الحجاج يشكو
المهلب فكتب إليه أن يقدم عليه وأعفاه من ذلك وجعل المهلب مكانه ابنه حبيب
بن المهلب.
وفيها خرج داود بن النعمان المازني بنواحي البصرة، فوجه إليه الحجاج أميراً
على سرية فقتله.
وكانت وفاة الحجاج لخمس، وقيل: لثلاث بقين من رمضان، وقيل: مات في شوال
من هذه السنة.
فصل فيما رُوي عنه من الكلمات النافعة والجراءة البالغة
قال أبو داود: ثنا محمد بن العلاء، ثنا أبو بكر، عن عاصم، قال: سمعت
الحجاج وهو على المنبر يقول: اتقوا الله ما استطعتم، ليس فيها مثنوية،
واسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك، والله لو أمرت
الناس أن يخرجوا من باب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلت لي دماؤهم وأموالهم،
والله لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي من الله حلالاً، وما عذيري من عبد
هذيل يزعم أن قرآنه من عند الله، والله ما هي الأرجز من رجز الأعراب ما
أنزلها الله على بنيه صلى الله عليه وسلم، وعذيري من هذه الحمراء، يزعم
أحدهم يرمي بالحجر فيقول لي: إن تقع الحجر حدث أمر، فوالله لأدعنهم
كالأمس الدابر.
(ج/ص: 9/149)
قال: فذكرته للأعمش فقال: وأنا والله سمعته منه.
وروراه أبو بكر بن أبي خيثمة، عن محمد بن يزيد، عن أبي بكر بن عياش، عن
عاصم بن أبي النجود والأعمش، أنهما سمعا الحجاج - قبحه الله - يقول ذلك،
وفيه: والله لو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا الباب لحلت
لي دماؤكم، ولا أجد أحداً يقرأ على قراءة ابن أم عبد إلا ضربت عنقه،
ولأحكنها من المصحف ولو بضلع خنزير.
وروراه غير واحد عن أبي بكر بن عياش بنحوه، وفي بعض الروايات: والله لو
أدركت عبد هذيل لأضربن عنقه.
وهذا من جراءة الحجاج قبحه الله، وإقدامه على الكلام السيئ، والدماء
الحرام.
وإنما نقم على قراءة ابن مسعود رضي الله عنه لكونه خالف القراءة على المصحف
الإمام الذي جمع الناس عليه عثمان، والظاهر أن ابن مسعود رجع إلى قول
عثمان وموافقيه، والله أعلم.
وقال علي بن عبد الله بن مبشر، عن عباس الدوري، عن مسلم بن إبراهيم، ثنا
الصلت بن دينار، سمعت الحجاج على منبر واسط يقول: عبد الله بن مسعود رأس
المنافقين لو أدركته لأسقيت الأرض من دمه.
قال وسمعته على منبر واسط وتلا هذه الآية: ( وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) [ص: 35] قال: والله إن كان
سليمان لحسوداً.
وهذه جراءة عظيمة تفضي به إلى الكفر قبحه الله وأخزاه وأبعده وأقصاه.
قال أبو نعيم، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: جاء رجل إلى عمر
بن الخطاب فقال: إني جئتك من عند رجل يملي المصاحف عن ظهر قلب، ففزع عمر
وغضب وقال: ويحك، انظر ما تقول قال ما جئتك إلا بالحق، قال: من هو؟
قال: عبد الله بن مسعود. قال: ما أعلم أحداً أحق بذلك منه، وسأحدثك
عن ذلك. إنا سهرنا ليلة في بيت عند أبي بكر في بعض ما يكون من حاجة النبي
صلى الله عليه وسلم ثم خرجنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بيني
وبين أبي بكر، فلما انتهينا إلى المسجد إذا رجل يقرأ فقام النبي صلى الله
عليه وسلم يستمع إليه، فقلت: يا رسول الله أعتمت فغمزني بيده - يعني اسكت
- قال: فقرأ وركع وسجد وجلس يدعو ويستغفر، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: سل تعطه ثم قال: من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل فليقرأ
قراءة ابن أم عبد فعلمت أنا وصاحبي أنه عبد الله بن مسعود، فلما أصبحت غدوت
إليه لأبشره فقال: سبقك بها أبو بكر وما سابقته إلى خير قط إلا سبقني
إليه)) وهذا الحديث قد روي من طرق:
فرواه حبيب بن حسان، عن زيد بن وهب، عن عمر مثله، ورواه شعبة وزهير وخديج،
عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله.
ورواه عاصم، عن عبد الله.
ورواه الثوري وزائدة، عن الأعمش نحوه.
وقال أبو داود: حدثنا عمر بن ثابت، عن أبي إسحاق، عن حمير بن مالك،
قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ((أخذت من في رسول الله صلى
الله عليه وسلم سبعين سورة، وإن زبد بن ثابت لصبي مع الصبيان، فأنا لا أدع
ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ج/ص: 9/150)
وقد رواه الثوري، وإسرافيل، عن أبي إسحاق به، وفي رواية ذكرها الطبراني،
عنه، قال: ((لقد تلقيت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين
سورة أحكمتها قبل أن يسلم زيد بن ثابت، وله ذؤابة يلعب مع الغلمان)).
وقد روى أبو داود، عنه وذكر قصة رعيه الغنم لعقبة بن أبي معيط، وأنه قال:
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنك غلام معلم، قال:
فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد)).
ورواه أبو أيوب الإفريقي وأبو عوانة، عن عاصم، عن زر، عنه، نحوه. وقال له
النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذ نك أن ترفع الحجاب وأن تسمع سوادي
حتى أنهاك)). وقد روي هذا عنه من طرق.
وروى الطبراني، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، أن عبد الله كان صاحب الوساد
والسواد والسواك والنعلين.
وروى غيره، عن علقمة، قال: قدمت الشام فجلست إلى أبي الدرداء فقال لي:
ممن أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة، فقال: أليس فيكم صاحب الوساد
والسواك؟
وقال الحارث بن أبي أسامة: حدثنا عبد العزيز بن أبان، حدثنا قطر بن
خليفة، حدثنا أبو وائل، قال: سمعت حذيفة يقول وابن مسعود قائم: لقد علم
المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أقربهم وسيلة يوم
القيامة.
وقد روي هذا عن حذيفة، من طرق فرواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي وائل، عن
حذيفة، ورواه عن أبي وائل، فاضل الأحدب وجامع بن أبي راشد، وعبيدة وأبو
سنان الشيباني، وحكيم بن جبير، ورواه عبد الرحمن بن يزيد، عن حذيفة.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت عبد
الرحمن بن زيد يقول: قلنا لحذيفة أخبرنا برجل قريب الهدى والسمت من رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى نلزمه، فقال: ما أعلم أحداً أقرب هدياً
وسمتاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يواريه جدار بيته من ابن أم
عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد
أقربهم إلى الله وسيلة.
قلت: فهذا حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا
قوله في عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. فكذب الحجاج وفجر، ولقم النار
والحجر فيما يقوله فيه، وفي رميه له بالنفاق، وفي قوله عن قراءته: إنها
شعر من شعر هذيل، وإنه لا بد أن يحكها من المصحف ولو بضلع خنزير، وأنه لو
أدركه لضرب عنقه، فحصل على إثم ذلك كله بنيته الخبيثة.
وقال عفان: حدثنا حماد، حدثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله، قال: كنت
أجتني لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكاً من أراك، فكانت الريح تكفوه،
وكان في ساقه دقة، فضحك القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما
يضحككم ؟)) قالوا: من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد)).
ورواه جرير وعلي بن عاصم، عن مغيرة، عن أم موسى، عن علي بن أبي طالب.
وروى سلمة بن سهل، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ((تمسكوا بعهد عبد الله بن أم مسعود)).
ورواه الترمذي والطبراني.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق.
قال: سمعت أبا الأحوص قال: شهدت أبا موسى وأبا مسعود حين توفي ابن
مسعود وأحدهما يقول لصاحبه: أتراه ترك بعده مثله. قال إن قلت ذاك إنه
كان ليؤذن له إذا حجبنا، ويشهد إذا غبنا.
وقال الأعمش: يعني عبد الله بن مسعود.
(ج/ص: 9/151)
وقال أبو معاوية: حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: أقبل عبد الله بن
مسعود ذات يوم وعمر جالس فقال: كيف ملء فقهاً.
وقال عمر بن حفص: حدثنا عاصم بن علي، حدثنا المسعودي، عن أبي حصين، عن
أبي عطية، أن أبا موسى الأشعري قال: لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر
بين أظهرنا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - يعني ابن مسعود -.
وروى جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن عروة، عن أبي البختري، قال: قالوا
لعلي: حدثنا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال: عن أيهم؟
قالوا: حدثنا عن ابن مسعود. قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى
بذلك علماً.
وفي رواية عن علي، قال: علم القرآن ثم وقف عنده وكفى به. فهداتنا و
الصحابة العالمون به، العارفون بما كان عليه، فهم أولى بالاتباع وأصدق
أقوالاً من أصحاب الأهواء الحائدين عن الحق، بل أقوال الحجاج وغيره من أهل
الأهواء: هذيانات وكذب وافتراء، وبعضها كفر وزندقة، فإن الحجاج كان
عثمانياً أموياً، يميل إليهم ميلاً عظيماً، ويرى أن خلافهم كفر، يستحل بذلك
الدماء، ولا تأخذه في ذلك لومة لائم.
ومن الطامات أيضاً ما رواه أبو داود: ثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني،
ثنا جرير. وحدثنا زهير بن حرب، ثنا جرير، عن المغيرة، عن بُزَيع بن خالد
الضبي قال: سمعت الحجاج يخطب فقال في خطبته: رسول أحدكم في حاجته أكرم
عليه أم خليفته في أهله؟ فقلت في نفسي: لله علي أن لا أصلي خلفك صلاة
أبداً، وإن وجدت قوماً يجاهدونك لأجاهدنك معهم. زاد إسحاق فقاتل في
الجماجم حتى قتل. فإن صح هذا عنه فظاهره كفر إن أراد تفضيل منصب الخلافة
على الرسالة، أو أراد أن الخليفة من بني أمية أفضل من الرسول.
وقال الأصمعي: ثنا أبو عاصم النبيل، ثنا أبو حفص الثقفي، قال: خطب
الحجاج يوماً فأقبل عن يمينه فقال: ألا إن الحجاج كافر، ثم أطرق فقال:
إن الحجاج كافر، ثم أطرق فأقبل عن يساره فقال: ألا إن الحجاج كافر، فعل
ذلك مراراً ثم قال: كافر يا أهل العراق باللات والعزى.
وقال حنبل بن إسحاق: ثنا هارون بن معروف، ثنا ضمرة، ثنا ابن شوذب، عن
مالك بن دينار، قال: بينما الحجاج يخطبنا يوماً إذ قال: الحجاج كافر،
قلنا ماله أي شيء؟ يريد قال: الحجاج كافر بيوم الأربعاء والبغلة
الشهباء.
وقال الأصمعي: قال عبد الملك يوماً للحجاج: ما من أحد إلا وهو يعرف عيب
نفسه، فصف عيب نفسك. فقال: اعفني يا أمير المؤمنين، فأبى، فقال: أنا
لجوج حقود حسود، فقال عبد الملك: ما في الشيطان شر مما ذكرت، وفي رواية
أنه قال: إذا بينك وبين إبليس نسب.
وبالجملة فقد كان الحجاج نقمة على أهل العراق بما سلف لهم من الذنوب
والخروج على الأئمة، وخذلانهم لهم، وعصيانهم، ومخالفتهم، والافتيات عليهم،
قال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن
صالح، عن شريح بن عبيد، عمن حدثه، قال: جاء رجل إلى عمر ابن الخطاب
فأخبره أن أهل العراق حصبوا أميرهم فخرج غضبان، فصلى لنا صلاة فسها فيها
حتى جعل الناس يقولون: سبحان الله سبحان الله، فلما سلم أقبل على الناس
فقال: من ههنا من أهل الشام؟ فقام رجل ثم قام آخر ثم قمت أنا ثالثاً أو
رابعاً، فقال: يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق، فإن الشيطان قد باض
فيهم وفرخ، اللهم إنهم قد لبسوا عليهم فالبس عليهم وعجل عليهم بالغلام
الثقفي، يحكم فيهم بحكم الجاهلية، لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن
مسيئهم.
(ج/ص: 9/152)
وقد رويناه في كتاب مسند عمر بن الخطاب، من طريق أبي عذبة الحمصي، عن عمر
مثله، وقال عبد الرزاق: ثنا جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار، عن الحسن
قال علي بن أبي طالب: اللهم كما ائتمنتهم فخانوني، ونصحت لهم فغشوني،
فسلط عليهم فتى ثقيف الذيال الميال، يأكل خضرتها، ويلبس فروتها، ويحكم فيها
بحكم الجاهلية.
قال يقول الحسن: وما خلق الحجاج يومئذ.
ورواه معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أيوب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن
علي، أنه قال: الشاب الذيال أمير المصرين يلبس فروتها ويأكل خضرتها،
ويقتل أشراف أهلها، يشتد منه الفرق، ويكثر منه الأرق، ويسلطه الله على
شيعته.
وقال الحافظ البيهقي في دلائل النبوة: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا
أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، ثنا سعيد بن مسعود، ثنا يزيد بن هارون،
أنبأ العوام بن حوشب، حدثني حبيب بن أبي ثابت، قال: قال علي لرجل: لامت
حتى تدرك فتى ثقيف، قال: وما فتى ثقيف؟ قال: ليقالن له يوم القيامة
اكفنا زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين سنة أو بضعاً وعشرين سنة، لا
يدع لله معصية إلا ارتكبها، حتى لم يبق إلا معصية واحدة، وكان بينه وبينها
باب مغلق لكسره حتى يرتكبها، يقتل بمن أطاعه من عصاه.
وقال الطبراني: حدثنا القاسم بن زكريا، ثنا إسماعيل بن موسى السدوسي، ثنا
علي بن مسهر، عن الأجلح، عن الشعبي، عن أم حكيم بنت عمر بن سنان الجدلية
قالت: استأذن الأشعث بن قيس على علي فرده قنبر فأدمى أنفه فخرج علي
فقال: مالك وله يا أشعث، أما والله لو بعبد ثقيف تحرشت لا قشعرت شعيرات
أستك، قيل له: يا أمير المؤمنين ومن عبد ثقيف؟ قال: غلام يليهم لا
يبقى أهل بيت من العرب إلا ألبسهم ذلاً، قيل: كم يملك؟ قال: عشرين إن
بلغ.
وقال البيهقي، أنبأنا الحاكم، أنبأ الحسن بن الحسن بن أيوب، ثنا أبو حاتم
الرازي، ثنا عبد الله بن يوسف التنيسي، ثنا ابن يحيى الغاني، قال: قال
عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأمم فجاءت كل أمة بخبيثها، وجئنا بالحجاج
لغلبناهم. (ج/ص: 9/153)
وقال أبو بكر بن عياش: عن عاصم بن أبي النجود، أنه قال: ما بقيت لله عز
وجل حرمه إلا وقد ارتكبها الحجاج.
وقد تقدم الحديث: ((إن في ثقيف كذاباً ومبيراً)) وكان المختار هو
الكذاب المذكور في هذا الحديث، وقد كان يظهر الرفض أولاً ويبطن الكفر
المحض، وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف هذا، وقد كان ناصبياً يبغض علياً
وشيعته في هوى آل مروان بني أمية، وكان جباراً عنيداً، مقداماً على سفك
الدماء بأدنى شبهة.
وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر كما قدمنا، فإن كان قد تاب منها
وأقلع عنها، وإلا فهو باق في عهدتها، ولكن قد يخشى أنها رويت عنه بنوع من
زيادة عليه، فإن الشيعة كانوا يبغضونه جداً لوجوه، وربما حرفوا عليه بعض
الكلم، وزادوا فيما يحكونه عنه بشاعات وشناعات.
وقد روينا عنه أنه كان يتدين بترك المسكر، وكان يكثر تلاوة القرآن، ويتجنب
المحارم ولم يشتهر عنه شيء من التلطخ بالفروج، وإن كان متسرعاً في سفك
الدماء، فالله تعالى أعلم بالصواب وحقائق الأمور وساترها، وخفيات الصدور
وضمائرها.
قلت: الحجاج أعظم ما نقم عليه وصح من أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة
عند الله عز وجل، وقد كان حريصاً على الجهاد وفتح البلاد، وكان فيه سماحة
بإعطاء المال لأهل القرآن، فكان يعطي على القرآن كثيراً، ولما مات لم يترك
فيما قيل إلا ثلثمائة درهم، والله أعلم.
وقال المعافى بن زكريا الجريري المعروف بابن طرار البغدادي: ثنا محمد بن
القاسم الأنباري ، ثنا أبي، ثنا أحمد بن عبيد، ثنا هشام أبو محمد بن السائب
الكلبي، ثنا عوانة بن الحكم الكلبي قال: دخل أنس بن مالك على الحجاج بن
يوسف فلما وقف بين يديه قال له: إيه إيه يا أنيس يوم لك مع علي، ويوم لك
مع ابن الزبير، ويوم لك مع ابن الأشعث، والله لأستأصلنك كما تستأصل الشاة،
ولأدمغنك كما تدمغ الصمغة. فقال أنس: إياي يعني الأمير أصلحه الله؟
قال: إياك أعني صك الله سمعك.
قال أنس: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لولا الصبية الصغار ما باليت
أي قتلة قتلت، ولا أي ميتة مت، ثم خرج من عند الحجاج فكتب إلى عبد الملك بن
مروان يخبره بما قال له الحجاج، فلما قرأ عبد الملك كتاب أنس استشاط
غضباً، وشفق عجباً، وتعاظم ذلك من الحجاج، وكان كتاب أنس إلى عبد الملك:
بسم الله الرحمن الرحيم إلى عبد الملك بن مرروان أمير المؤمنين من أنس بن
مالك، أما بعد: فإن الحجاج قال لي هُجراً، وأسمعني نكراً، ولم أكن لذلك
أهلاً، فخذلي على يديه، فإني أمت بخدمتي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وصحبتي إياه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. (ج/ص: 9/154)
فبعث عبد الملك إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر - وكان مصادقاً للحجاج
- فقال له: دونك كتابي هذين فخذهما واركب البريد إلى العراق، وابدأ بأنس
بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فارفع كتابي إليه وأبلغه مني
السلام، وقل له: يا أبا حمزة قد كتبت إلى الحجاج الملعون كتاباً إذا قرأه
كان أطوع لك من أمتك، وكان كتاب عبد الملك إلى أنس بن مالك:
بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الملك بن مروان إلى أنس بن مالك خادم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت من
شكايتك الحجاج، وما سلطته عليك ولا أمرته بالإساءة إليك، فإن عاد لمثلها
اكتب إلى بذلك أنزل به عقوبتي، وتحسن لك معونتي، والسلام.
فلما قرأ أنس كتاب أمير المؤمنين وأخبر برسالته قال: جزى الله أمير
المؤمنين عني خيراً، وعافاه وكفاه وكافأه بالجنة، فهذا كان ظني به والرجاء
منه. فقال إسماعيل بن عبيد الله لأنس: يا أبا حمزة إن الحجاج عامل أمير
المؤمنين، وليس بك عنه غنى، ولا بأهل بيتك، ولو جعل لك في جامعة ثم دفع
إليك، فقاربه وداره تعش معه بخير وسلام. فقال أنس: أفعل إن شاء الله.
ثم خرج إسماعيل من عند أنس فدخل على الحجاج، فقال الحجاج: مرحباً برجل
أحبه وكنت أحب لقاه، فقال إسماعيل: أنا والله كنت أحب لقاءك في غير ما
أتيتك به، فتغير لون الحجاج وخاف وقال: ما أتيتني به؟ قال: فارقت
أمير المؤمنين وهو أشد الناس غضباً عليك، ومنك بعداً، قال: فاستوى الحجاج
جالساً مرعوباً، فرمى إليه إسماعيل بالطومار فجعل الحجاج ينظر فيه مرة
ويعرق، وينظر إلى إسماعيل أخرى، فلما فضَّه قال: قم بنا إلى أبي حمزة
نعتذر إليه ونترضّاه، فقال له إسماعيل: لا تعجل، فقال: كيف لا أعجل وقد
أتيتني بآبدة؟ وكان في الطومار:
بسم الله الرحمن الرحيم، من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إلى الحجاج
بن يوسف، أما بعد فإنك عبد طمت بك الأمور، فسموت فيها وعدوت طورك، وجاوزت
قدرك، وركبت داهية إدَّا، وأردت أن تبدوا لي فإن سوغتكها مضيت قدماً، وإن
لم أسوغها رجعت القهقرى، فلعنك الله من عبد أخفش العينين، منقوص
الجاعرتين. أنسيت مكاسب آبائك بالطائف، وحفرهم الآبار، ونقلهم الصخور على
ظهورهم في المناهل، يا ابن المستفرية بعجم الزبيب، والله لأغمرنك غمر
الليث الثعلب، والصقر الأرنب. وثبت على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم يبن أظهرنا، فلم تقبل له إحسانه، ولم تتجاوز له عن إساءته، جرأة
منك على الرب عز وجل، واستخفافاً منك بالعهد، والله لو أن اليهود والنصارى
رأت رجلاً خدم عزير بن عزرى، وعيسى بن مريم، لعظمته وشرفته وأكرمته وأحبته،
بل لو رأوا من خدم حمار العزير أو خدم حواري المسيح لعظموه وأكرموه، فكيف
وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين، يطلعه على
سره، ويشاوره في أمره، ثم هو مع هذا بقية من بقايا أصحابه، فإذا قرأت
كتابي هذا فكن أطوع له من خفه ونعله، وإلا أتاك مني سهم بكل حتف قاض، ولكل
نبأ مستقر وسوف تعلمون.
وقد تكلم ابن طرار على ما وقع في هذا الكتاب من الغريب، وكذلك ابن قتيبة
وغيرهما من أئمة اللغة، والله أعلم. (ج/ص: 9/155)
وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الزبير - يعني
ابن عدي - قال: أتينا أنس بن مالك نشكو إليه ما نلقى من الحجاج، فقال:
اصبروا فإنه لا يأتي عليكم عام أو زمان أو يوم إلا والذي بعده شر منه، حتى
تلقوا ربكم عز وجل، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.
وهذا رواه البخاري عن محمد بن يوسف، عن سفيان وهو الثوري، عن الزبير بن
عدي، عن أنس قال: لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه. الحديث.
قلت: ومن الناس من يروي هذا الحديث بالمعنى فيقول: كل عام ترذلون.
وهذا اللفظ لا أصل له، وإنما هو مأخوذ من معنى هذا الحديث، والله أعلم.
قلت: قد مر بي مرة من كلام عائشة مرفوعاً وموقوفاً: كل يوم ترذلون.
ورأيت للإمام أحمد كلاماً قال فيه: وروي في الحديث كل يوم ترذلون نسماً
خبيثاً.
فيحتمل هذا أنه وقع للإمام أحمد مرفوعاً، ومثل أحمد لا يقول هذا إلا عن
أصل.
وقد روي عن الحسن مثل ذلك، والله أعلم.
فدل على أن له أصلاً إما مرفوعاً وإما من كلام السلف، لم يزل يتناوله الناس
قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، حتى وصل إلى هذه الأزمان، وهو موجود في كل
يوم، بل في كل ساعة تفوح رائحته، ولا سيما من بعد فتنة تمرلناك، وإلى الآن
نجد الرذالة في كل شيء، وهذا ظاهر لمن تأمله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد قال سفيان الثوري: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: يأتي
على الناس زمان يصلّون فيه على الحجاج.
وقال أبو نعيم: عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر. قال: قال
الشعبي: والله لئن بقيتم لتمنون الحجاج.
وقال الأصمعي: قيل للحسن: إنك تقول: الآخر شر من الأول، وهذا عمر بن
عبد العزيز بعد الحجاج. فقال الحسن: لا بد للناس من تنفيسات.
وقال ميمون بن مهران: بعث الحجاج إلى الحسن وقد هم به، فلما قام بين يديه
قال: يا حجاج كم بينك وبين آدم من أب؟ قال: كثير، قال: فأين هم؟
قال: ماتوا. قال: فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن.
وقال أيوب السختياني: إن الحجاج أراد قتل الحسن مراراً فعصمه الله منه،
وقد ذكر له معه مناظرات، على أن الحسن لم يكن ممن يرى الخروج عليه، وكان
ينهى أصحاب ابن الأشعث عن ذلك، وإنما خرج معهم مكرهاً كما قدمنا، وكان
الحسن يقول: إنما هو نقمة فلا نقابل نقمة الله بالسيف، وعليكم بالصبر
والسكينة والتضرع. (ج/ص: 9/156)
وقال ابن دريد: عن الحسن بن الحضر، عن ابن عائشة. قال: أتى الوليد بن
عبد الملك رجل من الخوارج، فقيل له: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى
خيراً، قال: فعثمان؟ فأثنى خيراً، قيل له: فما تقول في علي؟ فأثنى
خيراً، فذكر له الخلفاء واحداً بعد واحد، فيثني على كل بما يناسبه، حتى قيل
له: فما تقول في عبد الملك بن مروان؟ فقال: الآن جاءت المسألة، ما
أقول في رجل الحجاج خطيئة من بعض خطاياه؟
وقال الأصمعي: عن علي بن مسلم الباهلي، قال: أتي الحجاج بامرأة من
الخوارج فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه ولا ترد عليه كلاماً، فقال لها بعض
الشرط: يكلمك الأمير وأنت معرضة عنه؟ فقالت: إني لأستحي من الله أن
أنظر إلى من لا ينظر الله إليه، فأمر بها فقتلت.
وقد ذكرنا في سنة أربع وتسعين كيفية مقتل الحجاج لسعيد بن جبير، وما دار
بينهما من الكلام والمراجعة.
وقد قال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا أبو ظفر، ثنا جعفر بن سليمان، عن
بسطام بن مسلم، عن قتادة، قال: قيل لسعيد بن جبير: خرجت على الحجاج؟
قال: إني والله ما خرجت عليه حتى كفر.
ويقال: إنه لم يقتل بعده إلا رجلاً واحداً اسمه ماهان، وكان قد قتل قبله
خلقاً كثيراً، أكثرهم ممن خرج مع ابن الأشعث.
وقال أبو عيسى الترمذي: ثنا أبو داود سليمان بن مسلم البلخي، ثنا النضر
بن شميل، عن هشام بن حسان، قال: أحصوا ما قتل الحجاج صبراً فبلغ مائة ألف
وعشرين ألفاً.
قال الأصمعي: ثنا أبو عاصم، عن عباد بن كثير، عن قحدم، قال: أطلق
سليمان بن عبد الملك في غداة واحدة أحداً وثمانين ألف أسير كانوا في سجن
الحجاج، وقيل: إنه لبث في سجنه ثمانون ألفاً، منهم ثلاثون ألف امرأة،
وعرضت السجون بعد الحجاج فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفاً، لم يجب على أحد
منهم قطع ولا صلب، وكان فيمن حبس أعرابي وجد يبول في أصل ربض مدينة واسط،
وكان فيمن أطلق فأنشأ يقول:
إذا نحن جاوزنا مدينة واسط
خرينا وصلينا بغير حساب
وقد كان الحجاج مع هذا العنف الشديد لا يستخرج من خراج العراق كبير أمر.
قال ابن أبي الدنيا وإبراهيم الحربي: ثنا سليمان بن أبي سنح، ثنا صالح بن
سليمان، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأمم فجاءت كل أمة
بخبيثها، وجئنا بالحجاج لغلبناهم، وما كان الحجاج يصلح لدنيا ولا لآخرة،
لقد ولي العراق وهو أوفر ما يكون في العمارة، فأخسَّ به إلى أن صيره إلى
أربعين ألف ألف، ولقد أدى إلى عمالي في عامي هذا ثمانين ألف ألف، وإن بقيت
إلى قابل رجوت أن يؤدي إلي ما أدى إلى عمر بن الخطاب مائة ألف ألف وعشرة
آلاف ألف.
وقال أبو بكر بن المقري: ثنا أبو عروبة، ثنا عمرو بن عثمان، ثنا أبي،
سمعت جدي، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة: بلغني أنك
تستن بسنن الحجاج، فلا تستن بسننه، فإنه كان يصلي الصلاة لغير وقتها، ويأخذ
الزكاة من غير حقها، وكان لما سوى ذلك أضيع.
(ج/ص: 9/157)
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا سعيد بن أسد، ثنا ضمرة، عن الريان بن مسلم.
قال: بعث عمر بن عبد العزيز بآل بيت أبي عقيل - أهل بيت الحجاج - إلى
صاحب اليمن وكتب إليه: أما بعد فإني قد بعثت بآل أبي عقيل وهم شر بيت في
العمل، ففرقهم في العمل على قدر هوانهم على الله وعلينا، وعليك السلام.
وإنما نفاهم.
وقال الأوزاعي: سمعت القاسم بن مخيمرة، يقول: كان الحجاج ينقض عرى
الإسلام، وذكر حكاية.
وقال أبو بكر بن عياش: عن عاصم: لم يبق لله حرمة إلا ارتكبها الحجاج بن
يوسف.
وقال يحيى بن عيسى الرملي: عن الأعمش: اختلفوا في الحجاج فسألوا
مجاهداً فقال: تسألون عن الشيخ الكافر.
وروى ابن عساكر، عن الشعبي، أنه قال: الحجاج مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر
بالله العظيم، كذا قال، والله أعلم.
وقال الثوري: عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، قال: عجباً لإخواننا من
أهل العراق، يسمون الحجاج مؤمناً ؟!
وقال الثوري: عن ابن عوف، سمعت أبا وائل يسأل عن الحجاج: أتشهد أنه من
أهل النار؟ قال: أتأمروني أن أشهد على الله العظيم؟
وقال الثوري: عن منصور: سألت إبراهيم عن الحجاج أو بعض الجبابرة
فقال: أليس الله يقول: ( أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الظَّالِمِينَ ) [هود: 18].
وبه قال إبراهيم: وكفى بالرجل عمىً أن يعمى عن أمر الحجاج.
وقال سلام بن أبي مطيع: لأنا بالحجاج أرجى مني لعمرو بن عبيد، لأن الحجاج
قتل الناس على الدنيا، وعمرو بن عبيد أحدث للناس بدعة شنعاء، قتل الناس
بعضهم بعضاً.
وقال الزبير: سببت الحجاج يوماً عند أبي وائل فقال: لا تسبه لعله قال
يوماً: اللهم ارحمني فيرحمه، إياك ومجالسة من يقول: أرأيت أرأيت
أرأيت.
وقال عوف: ذكر الحجاج عند محمد بن سيرين فقال: مسكين أبو محمد، إن
يعذبه الله عز وجل فبذنبه، وإن يغفر له فهنيئاً له، وإن يلق الله بقلب سليم
فهو خير منا، وقد أصاب الذنوب من هو خير منه، فقيل له: ما القلب
السليم؟ قال: أن يعلم الله تعالى منه الحياء والإيمان، وأن يعلم أن
الله حق، وأن الساعة حق قائمة، وأن الله يبعث من في القبور.
وقال أبو قاسم البغوي: ثنا أبو سعيد، ثنا أبو أسامة، قال: قال رجل
لسفيان الثوري: أتشهد على الحجاج وعلى أبي مسلم الخراساني أنهما في
النار؟ قال: لا ! إن أقرَّا بالتوحيد.
وقال الرياشي: حدثنا عباس الأزرق، عن السري بن يحيى، قال: مر الحجاج في
يوم جمعة فسمع استغاثة، فقال: ما هذا؟ فقيل: أهل السجون يقولون:
قتلنا الحر، فقال: قولوا لهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون. قال: فما
عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعة حتى قصمه الله قاصم كل جبار.
وقال بعضهم: رأيته وهو يأتي الجمعة وقد كاد يهلك من العلة. (ج/ص:
9/158)
وقال الأصمعي: لما مرض الحجاج أرجف الناس بموته، فقال في خطبته: إن
طائفة من أهل الشقاق والنفاق نزغ الشيطان بينهم فقالوا: مات الحجاج، ومات
الحجاج، فمَهْ ؟! فهل يرجو الحجاج الخير إلا بعد الموت؟ والله ما
يسرني أن لا أموت وأن لي الدنيا وما فيها، وما رأيت الله رضي التخليد إلا
لأهون خلقه عليه إبليس.
قال الله له: ( إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ) [الأعراف: 15]،
فأنظره إلى يوم الدين.
ولقد دعا الله العبد الصالح فقال: ) وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) [ص: 35]، فأعطاه الله ذلك إلا البقاء.
ولقد طلب العبد الصالح الموت بعد أن تم له أمره، فقال: ( تَوَفَّنِي
مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) [يوسف: 101]، فما عسى
أن يكون أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل.
كأني والله بكل حي منكم ميتاً، وبكل رطب يابساً، ثم نقل في أثياب أكفانه
ثلاثة أذرع طولاً، في ذراع عرضاً، فأكلت الأرض لحمه، ومصت صديده، وانصرف
الخبيث من ولده يقسم الخبيث من ماله، إن الذين يعقلون يعقلون ما أقول، ثم
نزل.
وقال إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني: عن أبيه، عن جده، عن عمر بن عبد
العزيز، أنه قال: ما حسدت الحجاج عدو الله على شيء حسدي إياه على حبه
القرآن، وإعطائه أهله عليه، وقوله حين حضرته الوفاة: اللهم اغفر لي، فإن
الناس يزعمون أنك لا تفعل.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا علي بن الجعد، حدثنا عبد العزيز بن
عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن محمد بن المنكدر. قال: كان عمر بن
عبد العزيز يبغض الحجاج، فنفس عليه بكلمة قالها عند الموت: اللهم اغفر لي
فإنهم يزعمون أنك لا تفعل.
قال: وحدثني بعض أهل العلم قال: قيل للحسن: إن الحجاج قال عند الموت
كذا وكذا، قال: قالها؟ قالوا: نعم ! قال: فما عسى.
وقال أبو العباس المري، عن الرياشي، عن الأصمعي، قال: لما حضرت الحجاج
الوفاة أنشأ يقول:
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا
بأنني رجل من ساكني النار
أيحلفون على عمياء ويحهم
ما علمهم بعظيم العفو غفار
قال: فأخبر بذلك الحسن، فقال: بالله إن نجا لينجون بهما.
وزاد بعضهم في ذلك:
إن الموالي إذا شابت عبيدهم
في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً
قد شبت في الرق فاعتقني من النار
وقال ابن أبي الدنيا: ثنا أحمد بن عبد الله التيمي، قال: لما مات
الحجاج لم يعلم أحد بموته، حتى أشرفت جارية فبكت، فقالت: ألا إن مطعم
الطعام، وميتم الأيتام، ومرمل النساء، ومفلق الهام، وسيد أهل الشام قد مات،
ثم أنشأت تقول:
اليوم يرحمنا من كان يبغضنا
واليوم يأمننا من كان يخشانا
(ج/ص: 9/159)
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، أنه أخبر بموت الحجاج
مراراً، فلما تحقق وفاته قال: ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الأنعام:
45].
وروى غير واحد: أن الحسن لما بشر بموت الحجاج سجد شكراً لله تعالى، وكان
مختفياً فظهر، وقال: اللهم أمتَّه فأذهب عنا سنته.
وقال حماد بن أبي سليمان: لما أخبرت إبراهيم النخعي بموت الحجاج بكى من
الفرح.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا سليمان بن أبي شيخ، ثنا صالح بن سليمان،
قال: قال زياد بن الربيع بن الحارث لأهل السجن: يموت الحجاج في مرضه
هذا في ليلة كذا وكذا، فلما كانت تلك الليلة لم ينم أهل السجن فرحاً، جلسوا
ينظرون حتى يسمعوا الناعية، وذلك ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان.
وقيل: كان ذلك لخمس بقين من رمضان، وقيل: في شوال من هذه السنة، وكان
عمره إذ ذاك خمساً وخمسين سنة، لأن مولده كان عام الجماعة سنة أربعين،
وقيل: بعدها بسنة، وقيل: قبلها بسنة.
مات بواسط، وعفى قبره، وأجرى عليه الماء لكيلا ينبش ويحرق، والله أعلم.
وقال الأصمعي: ما كان أعجب حال الحجاج، ما ترك إلا ثلاثمائة درهم.
وقال الواقدي: ثنا عبد الله بن محمد بن عبيد، حدثني عبد الرحمن بن عبيد
الله بن فرق، ثنا عمي، قال: زعموا أن الحجاج لما مات لم يترك إلا
ثلاثمائة درهم، ومصحفاً وسيفاً وسرجاً ورحلاً ومائة درع موقوفة.
وقال شهاب بن خراش: حدثني عمي يزيد بن حوشب قال: بعث إلى أبو جعفر
المنصور، فقال: حدثني بوصية الحجاج بن يوسف، فقال: اعفني يا أمير
المؤمنين، فقال: حدثني بها، فقلت: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى
به الحجاج بن يوسف أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن
محمداً عبده ورسوله، وأنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك، عليها
يحيى، وعليها يموت، وعليها يبعث، وأوصى بتسعمائة درع حديد، ستمائة منها
لمنافقي أهل العراق يغزون بها، وثلاثمائة للترك. قال: فرفع أبو جعفر
رأسه إلى أبي العباس الطوسي - وكان قائماً على رأسه - فقال: هذه والله
الشيعة لا شيعتكم.
وقال الأصمعي، عن أبيه، قال: رأيت الحجاج في المنام، فقلت: ما فعل الله
بك؟ فقال: قتلني بكل قتلة قتلت بها إنساناً، قال: ثم رأيته بعد
الحول، فقلت: يا أبا محمد ما صنع الله بك؟ فقال: يا ماص بظر أمه أما
سألت عن هذا عام أول؟
وقال القاضي أبو يوسف: كنت عند الرشيد فدخل عليه رجل فقال: يا أمير
المؤمنين رأيت الحجاج البارحة في النوم، قال: في أي زي رأيته؟ قال:
في زي قبيح، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: ما أنت وذاك يا ماص بظر أمه
! فقال هارون: صدق والله، أنت رأيت الحجاج حقاً، ما كان أبو محمد ليدع
صرامته حياً وميتاً. (ج/ص: 9/160)
وقال حنبل بن إسحاق: ثنا هارون بن معروف، ثنا ضمرة بن أبي شوذب، عن أشعث
الخراز. قال: رأيت الحجاج في المنام في حالة سيئة، فقلت: يا أبا محمد
ما صنع بك ربك؟ قال: ما قتلت أحداً قتلة إلا قتلني بها. قال: ثم
أمر بي إلى النار، قلت: ثم مه؟ قال: ثم أرجو ما يرجوا أهل لا إله إلا
الله.
قال: وكان ابن سيرين يقول: إني لأرجو له، فبلغ ذلك الحسن فقال: أما
والله ليخلفن الله رجاءه فيه.
وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: كان الحسن
البصري لا يجلس مجلساً إلا ذكر فيه الحجاج فدعا عليه، قال: فرآه في
منامه، فقال له: أنت الحجاج؟ قال: أنا الحجاج، قال: ما فعل الله
بك؟ قال: قتلت بكل قتيل قتلته، ثم عزلت مع الموحدين. قال: فأمسك
الحسن بعد ذلك عن شتمه، والله أعلم.
ففيها غزا محمد بن مروان - أخو عبد الملك بن مروان وهو
والد مروان الحمار - صائفة الروم حين خرجوا من عند مرعش، وفيا ولي عبد
الملك نيابة المدينة ليحيى بن الحكم بن أبي العاص، وهو عمه، وعزل عنها
الحجاج. (ج/ص: 9/11)
وفيها ولي عبد الملك الحجاج بن يوسف نيابة العراق والبصرة والكوفة وما يتبع
ذلك من الأقاليم الكبار، وذلك بعد موت أخيه بشر، فرأى عبد الملك أنه لا
يسد عنه أهل العراق غير الحجاج لسطوته وقهره وقسوته وشهامته، فكتب إليه وهو
بالمدينة ولاية العراق، فسار من المدينة إلى العراق في اثني عشر راكباً،
فدخل الكوفة على حين غفلة من أهلها وكان تحتهم النجائب، فنزل قريب الكوفة
فاغتسل واختضب ولبس ثيابه وتقلد سيفه وألقى عذبة العمامة بين كتفيه، ثم سار
فنزل دار الإمارة، وذلك يوم الجمعة وقد أذن المؤذن الأول لصلاة الجمعة،
فخرج عليهم وهم لا يعلمون، فصعد المنبر وجلس عليه وأمسك عن الكلام طويلاً،
وقد شخصوا إليه بأبصارهم وجثوا على الركب وتناولوا الحصى ليحذفوه بها، وقد
كانوا حصبوا الذي كان قبله فلما سكت أبهتهم وأحبوا أن يسمعوا كلامه، فكان
أول ما تكلم به أن قال: يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ
الأخلاق، والله إن كان أمركم ليهمني قبل أن آتي إليكم، ولقد كنت أدعو الله
أن يبتليكم بي ولقد سقط مني البارحة سوطي الذي أؤدبكم به فاتخذت هذا مكانه -
وأشار إلى سيفه -، ثم قال: والله لآخذن صغيركم بكبيركم، وحركم بعبدكم،
ثم لأرصعنكم رصع الحداد الحديدة، والخباز العجينة. فلما سمعوا كلامه جعل
الحصى يتساقط من أيديهم، وقيل إنه دخل الكوفة في شهر رمضان ظهراً فأتى
المسجد وصعد المنبر وهو معتجر بعمامة حمراء متلثم بطرفها، ثم قال: عليَّ
بالناس ! فظنه الناس وأصحابه من الخوارج فهموا به حتى إذا اجتمع الناس
قام وكشف عن وجهه اللثام وقال:
أنا ابن جَلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
ثم قال: أما والله إني لأحمل الشيء بحمله، وأحذوه بنعله، وأحزمه بفتله،
وإني لأرى رؤوساً قد أينعت وآن اقتطافها، وإني لأنظر إلى الدماء تترقرق بين
العمائم واللحى. (ج/ص: 9/12)
قد شمرت عن ساقها فشمري
ثم أنشد:
هذا أوان الشد فاشتدي زِيمْ
قد لفَّها الليل بسوَّاق حطمْ
لست براعي إبل ولا غنمْ
ولا بجزَّارٍ على ظهرٍ وضمْ
ثم قال:
قد لفَّها الليل بعصلبيِّ * أروع خراج من الدوي * مهاجر ليس بأعرابي
ثم قال: إني يا أهل العراق ما أُغمز بغماز، ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد
فررت عن ذُكاء وجربت من الغاية القصوى، وإن أمير المؤمنين عبد الملك بن
مروان نثر كنانته ثم عجم عيدانها عوداً عوداً فوجدني أمرّها عوداً وأصلبها
مغمزاً فوجهني إليكم فأنتم طالما رتعتم في أودية الفتن، وسلكتم سبيل الغي،
واخترتم جدد الضلال، أما والله لألحونَّكم لحي العود، ولأعصبنكم عصب
السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، إني والله لا أعد إلا وفيت، ولا أخلق
إلا فريت، فإياي وهذه الجماعات وقيلاً وقالاً، والله لتستقيمن على سبيل
الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلاً في جسده.
(ج/ص: 9/13)
ثم قال: من وجدت بعد ثالثة من بعث المهلب -يعني الذين كانوا قد رجعوا عنه
لما سمعوا بموت بشر ابن مروان كما تقدم -سفكت دمه وانتهبت ماله، ثم نزل
فدخل منزله ولم يزد على ذلك، ويقال إنه لما صعد المنبر واجتمع الناس تحته
أطال السكوت حتى أن محمد بن عمير أخذ كفاً من حصى وأراد أن يحصبه بها،
وقال: قبحه الله ما أعياه وأذمه !فلما نهض الحجاج وتكلم بما تكلم به
جعل الحصى يتناثر من يده وهو لا يشعر به، لما يرى من فصاحته وبلاغته.
ويقال إنه قال في خطبته هذه: شاهت الوجوه إن الله ضرب مثلاً: (
قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً
مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ
لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )
[النحل:112] وأنتم أولئك فاستووا واستقيموا، فوالله لأذيقنكم الهوان
حتى تذروا، ولأعصبنكم عصب السلمة حتى تنقادوا، وأقسم بالله لتقبلنّ على
الإنصاف ولتدعن الأرجاف وكان وكان، وأخبرني فلان عن فلان، وإيش الخبر وما
الخبر، أو لأهبرنكم بالسيف هبراً يدع النساء أيامى والأولاد يتامى، حتى
تمشوا السُّمَّهي وتقلعوا عن ها وها.
في كلام طويل بليغ غريب يشتمل على وعيد شديد ليس فيه وعد بخير.
فلما كان في اليوم الثالث سمع تكبيراً في السوق فخرج حتى جلس على المنبر
فقال: يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، إني سمعت
تكبيراً في الأسواق ليس بالتكبير الذي يراد به الترغيب، ولكنه تكبير يراد
به الترهيب. وقد عصفت عجاجة تحتها قصف، يا بني اللكيعة وعبيد العصا
وأبناء الإماء والأيامى، ألا يربع كل رجل منكم على ظلمه، ويحسن حقن دمه،
ويبصر موضع قدمه، فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالاً لما
قبلها وأدباً لما بعدها. قال فقام إليه عمير بن ضابئ التميمي ثم الحنظلي
فقال: أصلح الله الأمير إنا في هذا البعث وأنا شيخ كبير وعليل: وهذا
ابني هو أشب مني. (ج/ص: 9/14) قال: ومن أنت؟ قال عمير بن ضابئ
التميمي، قال: أسمعت كلامنا بالأمس؟ قال: نعم ! قال ألست الذي غزا
عثمان بن عفان؟ قال: بلى قال: وما حملك على ذلك؟ قال: كان حبس
أبي وكان شيخاً كبيراً، قال: أوليس هو الذي يقول:
هممتُ ولم أفعل وكدت وليتني
فعلت وولَّيتُ البكاء حلائلا
ثم قال الحجاج: إني لأحسب أن في قتلك صلاح المصرين، ثم قال: قم إليه يا
حرسي فاضرب عنقه، فقام إليه رجل فضرب عنقه وانتهب ماله، وأمر منادياً في
الناس ألا إن عمير بن صابئ تأخر بعد سماع النداء ثلاثاً فأمر بقتله فخرج
الناس حتى ازدحموا على الجسر فعبر عليه في ساعة واحدة أربعة آلاف من مذحج،
وخرجت معهم العرفاء حتى وصلوا بهم إلى المهلب، وأخذوا منه كتاباً بوصولهم
إليه، فقال المهلب: قدم العراق والله رجل ذكر، اليوم قوتل العدو.
ويروى أن الحجاج لم يعرف عمير بن ضابئ حتى قال له عنبسة بن سعيد: أيها
الأمير ! إن هذا جاء إلى عثمان بعد ما قتل فلطم وجهه، فأمر الحجاج عند
ذلك بقتله.
وبعث الحجاج الحكم بن أيوب الثقفي نائباً على البصرة من جهته، وأمره أن
يشتد على خالد بن عبد الله، وأقر على قضاء الكوفة شريحاً ثم ركب الحجاج إلى
البصرة واستخلف على الكوفة أبا يعفور، وولى قضاء البصرة لزرارة بن أوفى،
ثم عاد إلى الكوفة. وحج بالناس في هذه السنة عبد الملك بن مروان وأقر عمه
يحيى على نيابة المدينة، وعلى بلاد خراسان أمية بن عبد الله.
وفي هذه السنة وثب الناس بالبصرة على الحجاج، وذلك أنه لما ركب من الكوفة
بعد قتل عمير بن ضابئ قام في أهل البصرة فخطبهم نظير ما خطب أهل الكوفة من
الوعيد والتشديد والتهديد الأكيد، ثم أُتي برجل من بني يشكر فقيل هذا عاص،
فقال: إن بي فتقاً وقد عذرني الله وعذرني بشر بن مروان، وهذا عطائي مردود
على بيت المال، فلم يقبل منه وأمر بقتله فقتل، ففزع أهل البصرة وخرجوا من
البصرة حتى اجتمعوا عند قنطرة رامهرمز. وعليهم عبد الله بن الجارود، وخرج
إليهم الحجاج -وذلك في شعبان من هذه السنة -في أمراء الجيش فاقتتلوا هناك
قتالاً شديداً، وقتل أميرهم عبد الله بن الجارود في رؤوس من القبائل معه،
وأمر برؤوسهم فقطعت ونصبت عند الجسر من رامهرمز، ثم بعث بها إلى المهلب
فقوي بذلك وضعف أمير الخوارج، وأرسل الحجاج إلى المهلب وعبد الرحمن بن مخنف
فأمرهما بمناهضة الأزارقة، فنهضا بمن معهما إلى الخوارج الأزارقة فأجلوهم
عن أماكنهم من رامهرمز بأيسر قتال، فهربوا إلى أرض كازرون من إقليم سابور،
وسار الناس وراءهم فالتقوا في العشر الأواخر من رمضان، (ج/ص: 9/15)
فلما كان الليل بيت الخوارج المهلب من الليل فوجدوه قد تحصن بخندق حول
معسكره، فجاؤوا إلى عبد الرحمن بن مخنف فوجدوه غير محترز - وكان المهلب قد
أمره بالاحتراز بخندق حوله فلم يفعل - فاقتتلوا في الليل فقتلت الخوراج عبد
الرحمن بن مخنف وطائفة من جيشه وهزموهم هزيمة منكرة، ويقال إن الخوارج لما
التقوا مع الناس في هذه الوقعة كان ذلك في يوم الأربعاء لعشرين بقين من
رمضان، فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يعهد مثله من الخوارج، وحملت الخوارج على
جيش المهلب بن أبي صفرة فاضطروه إلى معسكره، فجعل عبد الرحمن يمده بالخيل
بعد الخيل، والرجال بعد الرجال، فمالت الخوارج إلى معسكر عبد الرحمن بعد
العصر فاقتتلوا معه إلى الليل، فقتل عبد الرحمن في أثناء الليل، وقتل معه
طائفة كثيرة من أصحابه الذين ثبتوا معه، فلما كان الصباح جاء المهلب فصلى
عليه ودفنه وكتب إلى الحجاج بمهلكه، فكتب الحجاج إلى عبد الملك يعزيه فيه
فنعاه عبد الملك إلى الناس بمنى، وأمّر الحجاج مكانه عتاب بن ورقاء، وكتب
إليه أن يطيع المهلب، فكره ذلك ولم يجد بدّاً من طاعة الحجاج، وكره أن
يخالفه فسار إلى المهلب فجعل لا يطيعه إلا ظاهراً ويعصيه كثيراً، ثم تقاولا
فهم المهلب أن يوقع بعتاب ثم حجز بينهما الناس، فكتب عتاب إلى الحجاج يشكو
المهلب فكتب إليه أن يقدم عليه وأعفاه من ذلك وجعل المهلب مكانه ابنه حبيب
بن المهلب.
وفيها خرج داود بن النعمان المازني بنواحي البصرة، فوجه إليه الحجاج أميراً
على سرية فقتله.
وكانت وفاة الحجاج لخمس، وقيل: لثلاث بقين من رمضان، وقيل: مات في شوال
من هذه السنة.
فصل فيما رُوي عنه من الكلمات النافعة والجراءة البالغة
قال أبو داود: ثنا محمد بن العلاء، ثنا أبو بكر، عن عاصم، قال: سمعت
الحجاج وهو على المنبر يقول: اتقوا الله ما استطعتم، ليس فيها مثنوية،
واسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك، والله لو أمرت
الناس أن يخرجوا من باب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلت لي دماؤهم وأموالهم،
والله لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي من الله حلالاً، وما عذيري من عبد
هذيل يزعم أن قرآنه من عند الله، والله ما هي الأرجز من رجز الأعراب ما
أنزلها الله على بنيه صلى الله عليه وسلم، وعذيري من هذه الحمراء، يزعم
أحدهم يرمي بالحجر فيقول لي: إن تقع الحجر حدث أمر، فوالله لأدعنهم
كالأمس الدابر.
(ج/ص: 9/149)
قال: فذكرته للأعمش فقال: وأنا والله سمعته منه.
وروراه أبو بكر بن أبي خيثمة، عن محمد بن يزيد، عن أبي بكر بن عياش، عن
عاصم بن أبي النجود والأعمش، أنهما سمعا الحجاج - قبحه الله - يقول ذلك،
وفيه: والله لو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا الباب لحلت
لي دماؤكم، ولا أجد أحداً يقرأ على قراءة ابن أم عبد إلا ضربت عنقه،
ولأحكنها من المصحف ولو بضلع خنزير.
وروراه غير واحد عن أبي بكر بن عياش بنحوه، وفي بعض الروايات: والله لو
أدركت عبد هذيل لأضربن عنقه.
وهذا من جراءة الحجاج قبحه الله، وإقدامه على الكلام السيئ، والدماء
الحرام.
وإنما نقم على قراءة ابن مسعود رضي الله عنه لكونه خالف القراءة على المصحف
الإمام الذي جمع الناس عليه عثمان، والظاهر أن ابن مسعود رجع إلى قول
عثمان وموافقيه، والله أعلم.
وقال علي بن عبد الله بن مبشر، عن عباس الدوري، عن مسلم بن إبراهيم، ثنا
الصلت بن دينار، سمعت الحجاج على منبر واسط يقول: عبد الله بن مسعود رأس
المنافقين لو أدركته لأسقيت الأرض من دمه.
قال وسمعته على منبر واسط وتلا هذه الآية: ( وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) [ص: 35] قال: والله إن كان
سليمان لحسوداً.
وهذه جراءة عظيمة تفضي به إلى الكفر قبحه الله وأخزاه وأبعده وأقصاه.
قال أبو نعيم، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: جاء رجل إلى عمر
بن الخطاب فقال: إني جئتك من عند رجل يملي المصاحف عن ظهر قلب، ففزع عمر
وغضب وقال: ويحك، انظر ما تقول قال ما جئتك إلا بالحق، قال: من هو؟
قال: عبد الله بن مسعود. قال: ما أعلم أحداً أحق بذلك منه، وسأحدثك
عن ذلك. إنا سهرنا ليلة في بيت عند أبي بكر في بعض ما يكون من حاجة النبي
صلى الله عليه وسلم ثم خرجنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بيني
وبين أبي بكر، فلما انتهينا إلى المسجد إذا رجل يقرأ فقام النبي صلى الله
عليه وسلم يستمع إليه، فقلت: يا رسول الله أعتمت فغمزني بيده - يعني اسكت
- قال: فقرأ وركع وسجد وجلس يدعو ويستغفر، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: سل تعطه ثم قال: من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل فليقرأ
قراءة ابن أم عبد فعلمت أنا وصاحبي أنه عبد الله بن مسعود، فلما أصبحت غدوت
إليه لأبشره فقال: سبقك بها أبو بكر وما سابقته إلى خير قط إلا سبقني
إليه)) وهذا الحديث قد روي من طرق:
فرواه حبيب بن حسان، عن زيد بن وهب، عن عمر مثله، ورواه شعبة وزهير وخديج،
عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله.
ورواه عاصم، عن عبد الله.
ورواه الثوري وزائدة، عن الأعمش نحوه.
وقال أبو داود: حدثنا عمر بن ثابت، عن أبي إسحاق، عن حمير بن مالك،
قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ((أخذت من في رسول الله صلى
الله عليه وسلم سبعين سورة، وإن زبد بن ثابت لصبي مع الصبيان، فأنا لا أدع
ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ج/ص: 9/150)
وقد رواه الثوري، وإسرافيل، عن أبي إسحاق به، وفي رواية ذكرها الطبراني،
عنه، قال: ((لقد تلقيت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين
سورة أحكمتها قبل أن يسلم زيد بن ثابت، وله ذؤابة يلعب مع الغلمان)).
وقد روى أبو داود، عنه وذكر قصة رعيه الغنم لعقبة بن أبي معيط، وأنه قال:
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنك غلام معلم، قال:
فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد)).
ورواه أبو أيوب الإفريقي وأبو عوانة، عن عاصم، عن زر، عنه، نحوه. وقال له
النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذ نك أن ترفع الحجاب وأن تسمع سوادي
حتى أنهاك)). وقد روي هذا عنه من طرق.
وروى الطبراني، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، أن عبد الله كان صاحب الوساد
والسواد والسواك والنعلين.
وروى غيره، عن علقمة، قال: قدمت الشام فجلست إلى أبي الدرداء فقال لي:
ممن أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة، فقال: أليس فيكم صاحب الوساد
والسواك؟
وقال الحارث بن أبي أسامة: حدثنا عبد العزيز بن أبان، حدثنا قطر بن
خليفة، حدثنا أبو وائل، قال: سمعت حذيفة يقول وابن مسعود قائم: لقد علم
المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أقربهم وسيلة يوم
القيامة.
وقد روي هذا عن حذيفة، من طرق فرواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي وائل، عن
حذيفة، ورواه عن أبي وائل، فاضل الأحدب وجامع بن أبي راشد، وعبيدة وأبو
سنان الشيباني، وحكيم بن جبير، ورواه عبد الرحمن بن يزيد، عن حذيفة.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت عبد
الرحمن بن زيد يقول: قلنا لحذيفة أخبرنا برجل قريب الهدى والسمت من رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى نلزمه، فقال: ما أعلم أحداً أقرب هدياً
وسمتاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يواريه جدار بيته من ابن أم
عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد
أقربهم إلى الله وسيلة.
قلت: فهذا حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا
قوله في عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. فكذب الحجاج وفجر، ولقم النار
والحجر فيما يقوله فيه، وفي رميه له بالنفاق، وفي قوله عن قراءته: إنها
شعر من شعر هذيل، وإنه لا بد أن يحكها من المصحف ولو بضلع خنزير، وأنه لو
أدركه لضرب عنقه، فحصل على إثم ذلك كله بنيته الخبيثة.
وقال عفان: حدثنا حماد، حدثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله، قال: كنت
أجتني لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكاً من أراك، فكانت الريح تكفوه،
وكان في ساقه دقة، فضحك القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما
يضحككم ؟)) قالوا: من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد)).
ورواه جرير وعلي بن عاصم، عن مغيرة، عن أم موسى، عن علي بن أبي طالب.
وروى سلمة بن سهل، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: ((تمسكوا بعهد عبد الله بن أم مسعود)).
ورواه الترمذي والطبراني.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق.
قال: سمعت أبا الأحوص قال: شهدت أبا موسى وأبا مسعود حين توفي ابن
مسعود وأحدهما يقول لصاحبه: أتراه ترك بعده مثله. قال إن قلت ذاك إنه
كان ليؤذن له إذا حجبنا، ويشهد إذا غبنا.
وقال الأعمش: يعني عبد الله بن مسعود.
(ج/ص: 9/151)
وقال أبو معاوية: حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: أقبل عبد الله بن
مسعود ذات يوم وعمر جالس فقال: كيف ملء فقهاً.
وقال عمر بن حفص: حدثنا عاصم بن علي، حدثنا المسعودي، عن أبي حصين، عن
أبي عطية، أن أبا موسى الأشعري قال: لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر
بين أظهرنا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - يعني ابن مسعود -.
وروى جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن عروة، عن أبي البختري، قال: قالوا
لعلي: حدثنا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال: عن أيهم؟
قالوا: حدثنا عن ابن مسعود. قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى
بذلك علماً.
وفي رواية عن علي، قال: علم القرآن ثم وقف عنده وكفى به. فهداتنا و
الصحابة العالمون به، العارفون بما كان عليه، فهم أولى بالاتباع وأصدق
أقوالاً من أصحاب الأهواء الحائدين عن الحق، بل أقوال الحجاج وغيره من أهل
الأهواء: هذيانات وكذب وافتراء، وبعضها كفر وزندقة، فإن الحجاج كان
عثمانياً أموياً، يميل إليهم ميلاً عظيماً، ويرى أن خلافهم كفر، يستحل بذلك
الدماء، ولا تأخذه في ذلك لومة لائم.
ومن الطامات أيضاً ما رواه أبو داود: ثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني،
ثنا جرير. وحدثنا زهير بن حرب، ثنا جرير، عن المغيرة، عن بُزَيع بن خالد
الضبي قال: سمعت الحجاج يخطب فقال في خطبته: رسول أحدكم في حاجته أكرم
عليه أم خليفته في أهله؟ فقلت في نفسي: لله علي أن لا أصلي خلفك صلاة
أبداً، وإن وجدت قوماً يجاهدونك لأجاهدنك معهم. زاد إسحاق فقاتل في
الجماجم حتى قتل. فإن صح هذا عنه فظاهره كفر إن أراد تفضيل منصب الخلافة
على الرسالة، أو أراد أن الخليفة من بني أمية أفضل من الرسول.
وقال الأصمعي: ثنا أبو عاصم النبيل، ثنا أبو حفص الثقفي، قال: خطب
الحجاج يوماً فأقبل عن يمينه فقال: ألا إن الحجاج كافر، ثم أطرق فقال:
إن الحجاج كافر، ثم أطرق فأقبل عن يساره فقال: ألا إن الحجاج كافر، فعل
ذلك مراراً ثم قال: كافر يا أهل العراق باللات والعزى.
وقال حنبل بن إسحاق: ثنا هارون بن معروف، ثنا ضمرة، ثنا ابن شوذب، عن
مالك بن دينار، قال: بينما الحجاج يخطبنا يوماً إذ قال: الحجاج كافر،
قلنا ماله أي شيء؟ يريد قال: الحجاج كافر بيوم الأربعاء والبغلة
الشهباء.
وقال الأصمعي: قال عبد الملك يوماً للحجاج: ما من أحد إلا وهو يعرف عيب
نفسه، فصف عيب نفسك. فقال: اعفني يا أمير المؤمنين، فأبى، فقال: أنا
لجوج حقود حسود، فقال عبد الملك: ما في الشيطان شر مما ذكرت، وفي رواية
أنه قال: إذا بينك وبين إبليس نسب.
وبالجملة فقد كان الحجاج نقمة على أهل العراق بما سلف لهم من الذنوب
والخروج على الأئمة، وخذلانهم لهم، وعصيانهم، ومخالفتهم، والافتيات عليهم،
قال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن
صالح، عن شريح بن عبيد، عمن حدثه، قال: جاء رجل إلى عمر ابن الخطاب
فأخبره أن أهل العراق حصبوا أميرهم فخرج غضبان، فصلى لنا صلاة فسها فيها
حتى جعل الناس يقولون: سبحان الله سبحان الله، فلما سلم أقبل على الناس
فقال: من ههنا من أهل الشام؟ فقام رجل ثم قام آخر ثم قمت أنا ثالثاً أو
رابعاً، فقال: يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق، فإن الشيطان قد باض
فيهم وفرخ، اللهم إنهم قد لبسوا عليهم فالبس عليهم وعجل عليهم بالغلام
الثقفي، يحكم فيهم بحكم الجاهلية، لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن
مسيئهم.
(ج/ص: 9/152)
وقد رويناه في كتاب مسند عمر بن الخطاب، من طريق أبي عذبة الحمصي، عن عمر
مثله، وقال عبد الرزاق: ثنا جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار، عن الحسن
قال علي بن أبي طالب: اللهم كما ائتمنتهم فخانوني، ونصحت لهم فغشوني،
فسلط عليهم فتى ثقيف الذيال الميال، يأكل خضرتها، ويلبس فروتها، ويحكم فيها
بحكم الجاهلية.
قال يقول الحسن: وما خلق الحجاج يومئذ.
ورواه معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أيوب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن
علي، أنه قال: الشاب الذيال أمير المصرين يلبس فروتها ويأكل خضرتها،
ويقتل أشراف أهلها، يشتد منه الفرق، ويكثر منه الأرق، ويسلطه الله على
شيعته.
وقال الحافظ البيهقي في دلائل النبوة: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا
أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، ثنا سعيد بن مسعود، ثنا يزيد بن هارون،
أنبأ العوام بن حوشب، حدثني حبيب بن أبي ثابت، قال: قال علي لرجل: لامت
حتى تدرك فتى ثقيف، قال: وما فتى ثقيف؟ قال: ليقالن له يوم القيامة
اكفنا زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين سنة أو بضعاً وعشرين سنة، لا
يدع لله معصية إلا ارتكبها، حتى لم يبق إلا معصية واحدة، وكان بينه وبينها
باب مغلق لكسره حتى يرتكبها، يقتل بمن أطاعه من عصاه.
وقال الطبراني: حدثنا القاسم بن زكريا، ثنا إسماعيل بن موسى السدوسي، ثنا
علي بن مسهر، عن الأجلح، عن الشعبي، عن أم حكيم بنت عمر بن سنان الجدلية
قالت: استأذن الأشعث بن قيس على علي فرده قنبر فأدمى أنفه فخرج علي
فقال: مالك وله يا أشعث، أما والله لو بعبد ثقيف تحرشت لا قشعرت شعيرات
أستك، قيل له: يا أمير المؤمنين ومن عبد ثقيف؟ قال: غلام يليهم لا
يبقى أهل بيت من العرب إلا ألبسهم ذلاً، قيل: كم يملك؟ قال: عشرين إن
بلغ.
وقال البيهقي، أنبأنا الحاكم، أنبأ الحسن بن الحسن بن أيوب، ثنا أبو حاتم
الرازي، ثنا عبد الله بن يوسف التنيسي، ثنا ابن يحيى الغاني، قال: قال
عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأمم فجاءت كل أمة بخبيثها، وجئنا بالحجاج
لغلبناهم. (ج/ص: 9/153)
وقال أبو بكر بن عياش: عن عاصم بن أبي النجود، أنه قال: ما بقيت لله عز
وجل حرمه إلا وقد ارتكبها الحجاج.
وقد تقدم الحديث: ((إن في ثقيف كذاباً ومبيراً)) وكان المختار هو
الكذاب المذكور في هذا الحديث، وقد كان يظهر الرفض أولاً ويبطن الكفر
المحض، وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف هذا، وقد كان ناصبياً يبغض علياً
وشيعته في هوى آل مروان بني أمية، وكان جباراً عنيداً، مقداماً على سفك
الدماء بأدنى شبهة.
وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر كما قدمنا، فإن كان قد تاب منها
وأقلع عنها، وإلا فهو باق في عهدتها، ولكن قد يخشى أنها رويت عنه بنوع من
زيادة عليه، فإن الشيعة كانوا يبغضونه جداً لوجوه، وربما حرفوا عليه بعض
الكلم، وزادوا فيما يحكونه عنه بشاعات وشناعات.
وقد روينا عنه أنه كان يتدين بترك المسكر، وكان يكثر تلاوة القرآن، ويتجنب
المحارم ولم يشتهر عنه شيء من التلطخ بالفروج، وإن كان متسرعاً في سفك
الدماء، فالله تعالى أعلم بالصواب وحقائق الأمور وساترها، وخفيات الصدور
وضمائرها.
قلت: الحجاج أعظم ما نقم عليه وصح من أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة
عند الله عز وجل، وقد كان حريصاً على الجهاد وفتح البلاد، وكان فيه سماحة
بإعطاء المال لأهل القرآن، فكان يعطي على القرآن كثيراً، ولما مات لم يترك
فيما قيل إلا ثلثمائة درهم، والله أعلم.
وقال المعافى بن زكريا الجريري المعروف بابن طرار البغدادي: ثنا محمد بن
القاسم الأنباري ، ثنا أبي، ثنا أحمد بن عبيد، ثنا هشام أبو محمد بن السائب
الكلبي، ثنا عوانة بن الحكم الكلبي قال: دخل أنس بن مالك على الحجاج بن
يوسف فلما وقف بين يديه قال له: إيه إيه يا أنيس يوم لك مع علي، ويوم لك
مع ابن الزبير، ويوم لك مع ابن الأشعث، والله لأستأصلنك كما تستأصل الشاة،
ولأدمغنك كما تدمغ الصمغة. فقال أنس: إياي يعني الأمير أصلحه الله؟
قال: إياك أعني صك الله سمعك.
قال أنس: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لولا الصبية الصغار ما باليت
أي قتلة قتلت، ولا أي ميتة مت، ثم خرج من عند الحجاج فكتب إلى عبد الملك بن
مروان يخبره بما قال له الحجاج، فلما قرأ عبد الملك كتاب أنس استشاط
غضباً، وشفق عجباً، وتعاظم ذلك من الحجاج، وكان كتاب أنس إلى عبد الملك:
بسم الله الرحمن الرحيم إلى عبد الملك بن مرروان أمير المؤمنين من أنس بن
مالك، أما بعد: فإن الحجاج قال لي هُجراً، وأسمعني نكراً، ولم أكن لذلك
أهلاً، فخذلي على يديه، فإني أمت بخدمتي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وصحبتي إياه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. (ج/ص: 9/154)
فبعث عبد الملك إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر - وكان مصادقاً للحجاج
- فقال له: دونك كتابي هذين فخذهما واركب البريد إلى العراق، وابدأ بأنس
بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فارفع كتابي إليه وأبلغه مني
السلام، وقل له: يا أبا حمزة قد كتبت إلى الحجاج الملعون كتاباً إذا قرأه
كان أطوع لك من أمتك، وكان كتاب عبد الملك إلى أنس بن مالك:
بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الملك بن مروان إلى أنس بن مالك خادم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت من
شكايتك الحجاج، وما سلطته عليك ولا أمرته بالإساءة إليك، فإن عاد لمثلها
اكتب إلى بذلك أنزل به عقوبتي، وتحسن لك معونتي، والسلام.
فلما قرأ أنس كتاب أمير المؤمنين وأخبر برسالته قال: جزى الله أمير
المؤمنين عني خيراً، وعافاه وكفاه وكافأه بالجنة، فهذا كان ظني به والرجاء
منه. فقال إسماعيل بن عبيد الله لأنس: يا أبا حمزة إن الحجاج عامل أمير
المؤمنين، وليس بك عنه غنى، ولا بأهل بيتك، ولو جعل لك في جامعة ثم دفع
إليك، فقاربه وداره تعش معه بخير وسلام. فقال أنس: أفعل إن شاء الله.
ثم خرج إسماعيل من عند أنس فدخل على الحجاج، فقال الحجاج: مرحباً برجل
أحبه وكنت أحب لقاه، فقال إسماعيل: أنا والله كنت أحب لقاءك في غير ما
أتيتك به، فتغير لون الحجاج وخاف وقال: ما أتيتني به؟ قال: فارقت
أمير المؤمنين وهو أشد الناس غضباً عليك، ومنك بعداً، قال: فاستوى الحجاج
جالساً مرعوباً، فرمى إليه إسماعيل بالطومار فجعل الحجاج ينظر فيه مرة
ويعرق، وينظر إلى إسماعيل أخرى، فلما فضَّه قال: قم بنا إلى أبي حمزة
نعتذر إليه ونترضّاه، فقال له إسماعيل: لا تعجل، فقال: كيف لا أعجل وقد
أتيتني بآبدة؟ وكان في الطومار:
بسم الله الرحمن الرحيم، من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان إلى الحجاج
بن يوسف، أما بعد فإنك عبد طمت بك الأمور، فسموت فيها وعدوت طورك، وجاوزت
قدرك، وركبت داهية إدَّا، وأردت أن تبدوا لي فإن سوغتكها مضيت قدماً، وإن
لم أسوغها رجعت القهقرى، فلعنك الله من عبد أخفش العينين، منقوص
الجاعرتين. أنسيت مكاسب آبائك بالطائف، وحفرهم الآبار، ونقلهم الصخور على
ظهورهم في المناهل، يا ابن المستفرية بعجم الزبيب، والله لأغمرنك غمر
الليث الثعلب، والصقر الأرنب. وثبت على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم يبن أظهرنا، فلم تقبل له إحسانه، ولم تتجاوز له عن إساءته، جرأة
منك على الرب عز وجل، واستخفافاً منك بالعهد، والله لو أن اليهود والنصارى
رأت رجلاً خدم عزير بن عزرى، وعيسى بن مريم، لعظمته وشرفته وأكرمته وأحبته،
بل لو رأوا من خدم حمار العزير أو خدم حواري المسيح لعظموه وأكرموه، فكيف
وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين، يطلعه على
سره، ويشاوره في أمره، ثم هو مع هذا بقية من بقايا أصحابه، فإذا قرأت
كتابي هذا فكن أطوع له من خفه ونعله، وإلا أتاك مني سهم بكل حتف قاض، ولكل
نبأ مستقر وسوف تعلمون.
وقد تكلم ابن طرار على ما وقع في هذا الكتاب من الغريب، وكذلك ابن قتيبة
وغيرهما من أئمة اللغة، والله أعلم. (ج/ص: 9/155)
وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الزبير - يعني
ابن عدي - قال: أتينا أنس بن مالك نشكو إليه ما نلقى من الحجاج، فقال:
اصبروا فإنه لا يأتي عليكم عام أو زمان أو يوم إلا والذي بعده شر منه، حتى
تلقوا ربكم عز وجل، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.
وهذا رواه البخاري عن محمد بن يوسف، عن سفيان وهو الثوري، عن الزبير بن
عدي، عن أنس قال: لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه. الحديث.
قلت: ومن الناس من يروي هذا الحديث بالمعنى فيقول: كل عام ترذلون.
وهذا اللفظ لا أصل له، وإنما هو مأخوذ من معنى هذا الحديث، والله أعلم.
قلت: قد مر بي مرة من كلام عائشة مرفوعاً وموقوفاً: كل يوم ترذلون.
ورأيت للإمام أحمد كلاماً قال فيه: وروي في الحديث كل يوم ترذلون نسماً
خبيثاً.
فيحتمل هذا أنه وقع للإمام أحمد مرفوعاً، ومثل أحمد لا يقول هذا إلا عن
أصل.
وقد روي عن الحسن مثل ذلك، والله أعلم.
فدل على أن له أصلاً إما مرفوعاً وإما من كلام السلف، لم يزل يتناوله الناس
قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، حتى وصل إلى هذه الأزمان، وهو موجود في كل
يوم، بل في كل ساعة تفوح رائحته، ولا سيما من بعد فتنة تمرلناك، وإلى الآن
نجد الرذالة في كل شيء، وهذا ظاهر لمن تأمله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد قال سفيان الثوري: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: يأتي
على الناس زمان يصلّون فيه على الحجاج.
وقال أبو نعيم: عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر. قال: قال
الشعبي: والله لئن بقيتم لتمنون الحجاج.
وقال الأصمعي: قيل للحسن: إنك تقول: الآخر شر من الأول، وهذا عمر بن
عبد العزيز بعد الحجاج. فقال الحسن: لا بد للناس من تنفيسات.
وقال ميمون بن مهران: بعث الحجاج إلى الحسن وقد هم به، فلما قام بين يديه
قال: يا حجاج كم بينك وبين آدم من أب؟ قال: كثير، قال: فأين هم؟
قال: ماتوا. قال: فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن.
وقال أيوب السختياني: إن الحجاج أراد قتل الحسن مراراً فعصمه الله منه،
وقد ذكر له معه مناظرات، على أن الحسن لم يكن ممن يرى الخروج عليه، وكان
ينهى أصحاب ابن الأشعث عن ذلك، وإنما خرج معهم مكرهاً كما قدمنا، وكان
الحسن يقول: إنما هو نقمة فلا نقابل نقمة الله بالسيف، وعليكم بالصبر
والسكينة والتضرع. (ج/ص: 9/156)
وقال ابن دريد: عن الحسن بن الحضر، عن ابن عائشة. قال: أتى الوليد بن
عبد الملك رجل من الخوارج، فقيل له: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى
خيراً، قال: فعثمان؟ فأثنى خيراً، قيل له: فما تقول في علي؟ فأثنى
خيراً، فذكر له الخلفاء واحداً بعد واحد، فيثني على كل بما يناسبه، حتى قيل
له: فما تقول في عبد الملك بن مروان؟ فقال: الآن جاءت المسألة، ما
أقول في رجل الحجاج خطيئة من بعض خطاياه؟
وقال الأصمعي: عن علي بن مسلم الباهلي، قال: أتي الحجاج بامرأة من
الخوارج فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه ولا ترد عليه كلاماً، فقال لها بعض
الشرط: يكلمك الأمير وأنت معرضة عنه؟ فقالت: إني لأستحي من الله أن
أنظر إلى من لا ينظر الله إليه، فأمر بها فقتلت.
وقد ذكرنا في سنة أربع وتسعين كيفية مقتل الحجاج لسعيد بن جبير، وما دار
بينهما من الكلام والمراجعة.
وقد قال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا أبو ظفر، ثنا جعفر بن سليمان، عن
بسطام بن مسلم، عن قتادة، قال: قيل لسعيد بن جبير: خرجت على الحجاج؟
قال: إني والله ما خرجت عليه حتى كفر.
ويقال: إنه لم يقتل بعده إلا رجلاً واحداً اسمه ماهان، وكان قد قتل قبله
خلقاً كثيراً، أكثرهم ممن خرج مع ابن الأشعث.
وقال أبو عيسى الترمذي: ثنا أبو داود سليمان بن مسلم البلخي، ثنا النضر
بن شميل، عن هشام بن حسان، قال: أحصوا ما قتل الحجاج صبراً فبلغ مائة ألف
وعشرين ألفاً.
قال الأصمعي: ثنا أبو عاصم، عن عباد بن كثير، عن قحدم، قال: أطلق
سليمان بن عبد الملك في غداة واحدة أحداً وثمانين ألف أسير كانوا في سجن
الحجاج، وقيل: إنه لبث في سجنه ثمانون ألفاً، منهم ثلاثون ألف امرأة،
وعرضت السجون بعد الحجاج فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفاً، لم يجب على أحد
منهم قطع ولا صلب، وكان فيمن حبس أعرابي وجد يبول في أصل ربض مدينة واسط،
وكان فيمن أطلق فأنشأ يقول:
إذا نحن جاوزنا مدينة واسط
خرينا وصلينا بغير حساب
وقد كان الحجاج مع هذا العنف الشديد لا يستخرج من خراج العراق كبير أمر.
قال ابن أبي الدنيا وإبراهيم الحربي: ثنا سليمان بن أبي سنح، ثنا صالح بن
سليمان، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأمم فجاءت كل أمة
بخبيثها، وجئنا بالحجاج لغلبناهم، وما كان الحجاج يصلح لدنيا ولا لآخرة،
لقد ولي العراق وهو أوفر ما يكون في العمارة، فأخسَّ به إلى أن صيره إلى
أربعين ألف ألف، ولقد أدى إلى عمالي في عامي هذا ثمانين ألف ألف، وإن بقيت
إلى قابل رجوت أن يؤدي إلي ما أدى إلى عمر بن الخطاب مائة ألف ألف وعشرة
آلاف ألف.
وقال أبو بكر بن المقري: ثنا أبو عروبة، ثنا عمرو بن عثمان، ثنا أبي،
سمعت جدي، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة: بلغني أنك
تستن بسنن الحجاج، فلا تستن بسننه، فإنه كان يصلي الصلاة لغير وقتها، ويأخذ
الزكاة من غير حقها، وكان لما سوى ذلك أضيع.
(ج/ص: 9/157)
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا سعيد بن أسد، ثنا ضمرة، عن الريان بن مسلم.
قال: بعث عمر بن عبد العزيز بآل بيت أبي عقيل - أهل بيت الحجاج - إلى
صاحب اليمن وكتب إليه: أما بعد فإني قد بعثت بآل أبي عقيل وهم شر بيت في
العمل، ففرقهم في العمل على قدر هوانهم على الله وعلينا، وعليك السلام.
وإنما نفاهم.
وقال الأوزاعي: سمعت القاسم بن مخيمرة، يقول: كان الحجاج ينقض عرى
الإسلام، وذكر حكاية.
وقال أبو بكر بن عياش: عن عاصم: لم يبق لله حرمة إلا ارتكبها الحجاج بن
يوسف.
وقال يحيى بن عيسى الرملي: عن الأعمش: اختلفوا في الحجاج فسألوا
مجاهداً فقال: تسألون عن الشيخ الكافر.
وروى ابن عساكر، عن الشعبي، أنه قال: الحجاج مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر
بالله العظيم، كذا قال، والله أعلم.
وقال الثوري: عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، قال: عجباً لإخواننا من
أهل العراق، يسمون الحجاج مؤمناً ؟!
وقال الثوري: عن ابن عوف، سمعت أبا وائل يسأل عن الحجاج: أتشهد أنه من
أهل النار؟ قال: أتأمروني أن أشهد على الله العظيم؟
وقال الثوري: عن منصور: سألت إبراهيم عن الحجاج أو بعض الجبابرة
فقال: أليس الله يقول: ( أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الظَّالِمِينَ ) [هود: 18].
وبه قال إبراهيم: وكفى بالرجل عمىً أن يعمى عن أمر الحجاج.
وقال سلام بن أبي مطيع: لأنا بالحجاج أرجى مني لعمرو بن عبيد، لأن الحجاج
قتل الناس على الدنيا، وعمرو بن عبيد أحدث للناس بدعة شنعاء، قتل الناس
بعضهم بعضاً.
وقال الزبير: سببت الحجاج يوماً عند أبي وائل فقال: لا تسبه لعله قال
يوماً: اللهم ارحمني فيرحمه، إياك ومجالسة من يقول: أرأيت أرأيت
أرأيت.
وقال عوف: ذكر الحجاج عند محمد بن سيرين فقال: مسكين أبو محمد، إن
يعذبه الله عز وجل فبذنبه، وإن يغفر له فهنيئاً له، وإن يلق الله بقلب سليم
فهو خير منا، وقد أصاب الذنوب من هو خير منه، فقيل له: ما القلب
السليم؟ قال: أن يعلم الله تعالى منه الحياء والإيمان، وأن يعلم أن
الله حق، وأن الساعة حق قائمة، وأن الله يبعث من في القبور.
وقال أبو قاسم البغوي: ثنا أبو سعيد، ثنا أبو أسامة، قال: قال رجل
لسفيان الثوري: أتشهد على الحجاج وعلى أبي مسلم الخراساني أنهما في
النار؟ قال: لا ! إن أقرَّا بالتوحيد.
وقال الرياشي: حدثنا عباس الأزرق، عن السري بن يحيى، قال: مر الحجاج في
يوم جمعة فسمع استغاثة، فقال: ما هذا؟ فقيل: أهل السجون يقولون:
قتلنا الحر، فقال: قولوا لهم: اخسؤوا فيها ولا تكلمون. قال: فما
عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعة حتى قصمه الله قاصم كل جبار.
وقال بعضهم: رأيته وهو يأتي الجمعة وقد كاد يهلك من العلة. (ج/ص:
9/158)
وقال الأصمعي: لما مرض الحجاج أرجف الناس بموته، فقال في خطبته: إن
طائفة من أهل الشقاق والنفاق نزغ الشيطان بينهم فقالوا: مات الحجاج، ومات
الحجاج، فمَهْ ؟! فهل يرجو الحجاج الخير إلا بعد الموت؟ والله ما
يسرني أن لا أموت وأن لي الدنيا وما فيها، وما رأيت الله رضي التخليد إلا
لأهون خلقه عليه إبليس.
قال الله له: ( إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ) [الأعراف: 15]،
فأنظره إلى يوم الدين.
ولقد دعا الله العبد الصالح فقال: ) وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) [ص: 35]، فأعطاه الله ذلك إلا البقاء.
ولقد طلب العبد الصالح الموت بعد أن تم له أمره، فقال: ( تَوَفَّنِي
مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) [يوسف: 101]، فما عسى
أن يكون أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل.
كأني والله بكل حي منكم ميتاً، وبكل رطب يابساً، ثم نقل في أثياب أكفانه
ثلاثة أذرع طولاً، في ذراع عرضاً، فأكلت الأرض لحمه، ومصت صديده، وانصرف
الخبيث من ولده يقسم الخبيث من ماله، إن الذين يعقلون يعقلون ما أقول، ثم
نزل.
وقال إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني: عن أبيه، عن جده، عن عمر بن عبد
العزيز، أنه قال: ما حسدت الحجاج عدو الله على شيء حسدي إياه على حبه
القرآن، وإعطائه أهله عليه، وقوله حين حضرته الوفاة: اللهم اغفر لي، فإن
الناس يزعمون أنك لا تفعل.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا علي بن الجعد، حدثنا عبد العزيز بن
عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن محمد بن المنكدر. قال: كان عمر بن
عبد العزيز يبغض الحجاج، فنفس عليه بكلمة قالها عند الموت: اللهم اغفر لي
فإنهم يزعمون أنك لا تفعل.
قال: وحدثني بعض أهل العلم قال: قيل للحسن: إن الحجاج قال عند الموت
كذا وكذا، قال: قالها؟ قالوا: نعم ! قال: فما عسى.
وقال أبو العباس المري، عن الرياشي، عن الأصمعي، قال: لما حضرت الحجاج
الوفاة أنشأ يقول:
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا
بأنني رجل من ساكني النار
أيحلفون على عمياء ويحهم
ما علمهم بعظيم العفو غفار
قال: فأخبر بذلك الحسن، فقال: بالله إن نجا لينجون بهما.
وزاد بعضهم في ذلك:
إن الموالي إذا شابت عبيدهم
في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً
قد شبت في الرق فاعتقني من النار
وقال ابن أبي الدنيا: ثنا أحمد بن عبد الله التيمي، قال: لما مات
الحجاج لم يعلم أحد بموته، حتى أشرفت جارية فبكت، فقالت: ألا إن مطعم
الطعام، وميتم الأيتام، ومرمل النساء، ومفلق الهام، وسيد أهل الشام قد مات،
ثم أنشأت تقول:
اليوم يرحمنا من كان يبغضنا
واليوم يأمننا من كان يخشانا
(ج/ص: 9/159)
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، أنه أخبر بموت الحجاج
مراراً، فلما تحقق وفاته قال: ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الأنعام:
45].
وروى غير واحد: أن الحسن لما بشر بموت الحجاج سجد شكراً لله تعالى، وكان
مختفياً فظهر، وقال: اللهم أمتَّه فأذهب عنا سنته.
وقال حماد بن أبي سليمان: لما أخبرت إبراهيم النخعي بموت الحجاج بكى من
الفرح.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا سليمان بن أبي شيخ، ثنا صالح بن سليمان،
قال: قال زياد بن الربيع بن الحارث لأهل السجن: يموت الحجاج في مرضه
هذا في ليلة كذا وكذا، فلما كانت تلك الليلة لم ينم أهل السجن فرحاً، جلسوا
ينظرون حتى يسمعوا الناعية، وذلك ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان.
وقيل: كان ذلك لخمس بقين من رمضان، وقيل: في شوال من هذه السنة، وكان
عمره إذ ذاك خمساً وخمسين سنة، لأن مولده كان عام الجماعة سنة أربعين،
وقيل: بعدها بسنة، وقيل: قبلها بسنة.
مات بواسط، وعفى قبره، وأجرى عليه الماء لكيلا ينبش ويحرق، والله أعلم.
وقال الأصمعي: ما كان أعجب حال الحجاج، ما ترك إلا ثلاثمائة درهم.
وقال الواقدي: ثنا عبد الله بن محمد بن عبيد، حدثني عبد الرحمن بن عبيد
الله بن فرق، ثنا عمي، قال: زعموا أن الحجاج لما مات لم يترك إلا
ثلاثمائة درهم، ومصحفاً وسيفاً وسرجاً ورحلاً ومائة درع موقوفة.
وقال شهاب بن خراش: حدثني عمي يزيد بن حوشب قال: بعث إلى أبو جعفر
المنصور، فقال: حدثني بوصية الحجاج بن يوسف، فقال: اعفني يا أمير
المؤمنين، فقال: حدثني بها، فقلت: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى
به الحجاج بن يوسف أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن
محمداً عبده ورسوله، وأنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك، عليها
يحيى، وعليها يموت، وعليها يبعث، وأوصى بتسعمائة درع حديد، ستمائة منها
لمنافقي أهل العراق يغزون بها، وثلاثمائة للترك. قال: فرفع أبو جعفر
رأسه إلى أبي العباس الطوسي - وكان قائماً على رأسه - فقال: هذه والله
الشيعة لا شيعتكم.
وقال الأصمعي، عن أبيه، قال: رأيت الحجاج في المنام، فقلت: ما فعل الله
بك؟ فقال: قتلني بكل قتلة قتلت بها إنساناً، قال: ثم رأيته بعد
الحول، فقلت: يا أبا محمد ما صنع الله بك؟ فقال: يا ماص بظر أمه أما
سألت عن هذا عام أول؟
وقال القاضي أبو يوسف: كنت عند الرشيد فدخل عليه رجل فقال: يا أمير
المؤمنين رأيت الحجاج البارحة في النوم، قال: في أي زي رأيته؟ قال:
في زي قبيح، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: ما أنت وذاك يا ماص بظر أمه
! فقال هارون: صدق والله، أنت رأيت الحجاج حقاً، ما كان أبو محمد ليدع
صرامته حياً وميتاً. (ج/ص: 9/160)
وقال حنبل بن إسحاق: ثنا هارون بن معروف، ثنا ضمرة بن أبي شوذب، عن أشعث
الخراز. قال: رأيت الحجاج في المنام في حالة سيئة، فقلت: يا أبا محمد
ما صنع بك ربك؟ قال: ما قتلت أحداً قتلة إلا قتلني بها. قال: ثم
أمر بي إلى النار، قلت: ثم مه؟ قال: ثم أرجو ما يرجوا أهل لا إله إلا
الله.
قال: وكان ابن سيرين يقول: إني لأرجو له، فبلغ ذلك الحسن فقال: أما
والله ليخلفن الله رجاءه فيه.
وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: كان الحسن
البصري لا يجلس مجلساً إلا ذكر فيه الحجاج فدعا عليه، قال: فرآه في
منامه، فقال له: أنت الحجاج؟ قال: أنا الحجاج، قال: ما فعل الله
بك؟ قال: قتلت بكل قتيل قتلته، ثم عزلت مع الموحدين. قال: فأمسك
الحسن بعد ذلك عن شتمه، والله أعلم.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى