ابو ذياد
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
التاريخ الهجري 586 هـ
كتب متولي عكا من جهة السلطان صلاح الدين، وهو الأمير بهاء
الدين قراقوش، في العشر الأول من شعبان إلى السلطان: إنه لم يبق عندهم
في المدينة من الأقوات إلا ما يبلغهم إلى ليلة النصف من شعبان.
فلما وصل الكتاب إلى السلطان أسرَّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم، خوفاً من
إشاعة ذلك، فيبلغ العدو فيقدموا على المسلمين، وتضعف القلوب، وكان قد كتب
إلى أمير الأسطول بالديار المصرية أن يقدم بالميرة إلى عكا، فتأخر سيره.
ثم وصلت ثلاث بطش ليلة النصف، فيها من الميرة ما يكفي أهل البلد طول
الشتاء، وهي صحبة الحاجب لؤلؤ، فلما أشرفت على البلد نهض إليها أسطول
الفرنج ليحول بينها وبين البلد، ويتلف ما فيها.
فاقتتلوا في البحر قتالاً شديداً، والمسلمون في البر يبتهلون إلى الله عز
وجل في سلامتها، والفرنج أيضاً تصرخ براً وبحراً، وقد ارتفع الضجيج، فنصر
الله المسلمين وسلم مراكبهم، وطابت الريح للبطش، فسارت فأحرقت المراكب
الفرنجية المحيطة بالميناء، ودخلت البلد سالمة، ففرح بها أهل البلد والجيش
فرحاً شديداً. (ج/ص: 12/412)
وكان السلطان قد جهز قبل هذه البطش الثلاث بطشة كبيرة من بيروت، فيها
أربعمائة غرارة، وفيها من الجبن والشحم والقديد والنشاب والنفط شيء كثير،
وكانت هذه البطشة من بطش الفرنج المغنومة.
وأمر من فيها من التجار أن يلبسوا زي الفرنج حتى أنهم حلقوا لحاهم، وشدوا
الزنانير، واستصحبوا في البطشة معهم شيئاً من الخنازير، وقدموا بها على
مراكب الفرنج، فاعتقدوا أنهم منهم، وهي سائرة كأنها السهم إذا خرج من كبد
القوس.
فحذرهم الفرنج غائلة الميناء من ناحية البلد، فاعتذروا بأنهم مغلوبون عنها،
ولا يمكنهم حبسها من قوة الريح، وما زالوا كذلك حتى ولجوا الميناء،
فأفرغوا ما كان معهم من الميرة، والحرب خدعة. فعبرت الميناء فامتلأ الثغر
بها خيراً، فكفتهم إلى أن قدمت عليهم تلك البطش الثلاث المصرية.
وكانت البلد يكتنفها برجان، يقال لأحدهما: برج الديان، فاتخذت الفرنج
بطشة عظيمة، لها خرطوم وفيه محركات إذا أرادوا أن يضعوه على شيء من الأسوار
والأبرجة قلبوه فوصل إلى ما أرادوا.
فعظم أمر هذه البطشة على المسلمين، ولم يزالوا في أمرها محتالين، حتى أرسل
الله عليها شواظاً من نار فأحرقها وأغرقها، وذلك أن الفرنج أعدوا فيها
نفطاً كثيراً وحطباً جزلاً، وأخرى خلفها فيها حطب محض.
فلما أراد المسلمون المحافظة على الميناء أرسلوا النفط على بطشة الحطب،
فاحترقت وهي سائرة بين بطش المسلمين، واحترقت الأخرى، وكان في بطشة أخرى
لهم مقاتلة تحت قبو، قد أحكموه فيها.
فلما أرسلوا النفط على برج الديان، انعكس الأمر عليهم بقدرة الله تعالى،
وذلك لشدة الهواء تلك الليلة، فما تعدت النار بطشتهم فاحترقت، وتعدى الحريق
إلى الأخرى فغرقت، ووصل إلى بطشة المقاتلة فتلفت، وهلك من فيها، فاشبهوا
من سلف من أهل الكتاب من الكافرين في قوله تعالى: ( يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ) [الحشر:
2].
وفي ثالث رمضان اشتد حصار الفرنج للمدينة حتى نزلوا إلى الخندق، فبرز إليهم
أهل البلد فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وتمكنوا من حريق الكيس والأسوار،
وسرى حريقه إلى السقوف، وارتفعت له لهبة عظيمة في عنان السماء، ثم اجتذبه
المسلمون إليهم بكلاليب من حديد في سلاسل، فحصل عندهم وألقوا عليه الماء
البارد فبرد بعد أيام، فكان فيه من الحديد مائة قنطار بالدمشقي، ولله الحمد
والمنة.
(ج/ص: 12/413)
وفي الثامن والعشرين من رمضان توفي الملك زين الدين صاحب أربل في حصار عكا
مع السلطان، فتأسف الناس عليه لشبابه وغربته وجودته، وعزي أخاه مظفر الدين
فيه.
وقام بالملك من بعده وسأل من صلاح الدين أن يضيف إليه شهرزور، وحران،
والرها، وسميساط، وغيرها، وتحمل مع ذلك خمسين ألف دينار نقداً، فأجيب إلى
ذلك، وكتب له تقليداً، وعقد له لواء، وأضيف ما تركه إلى الملك المظفر تقي
الدين ابن أخي السلطان صلاح الدين.
كتب متولي عكا من جهة السلطان صلاح الدين، وهو الأمير بهاء
الدين قراقوش، في العشر الأول من شعبان إلى السلطان: إنه لم يبق عندهم
في المدينة من الأقوات إلا ما يبلغهم إلى ليلة النصف من شعبان.
فلما وصل الكتاب إلى السلطان أسرَّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم، خوفاً من
إشاعة ذلك، فيبلغ العدو فيقدموا على المسلمين، وتضعف القلوب، وكان قد كتب
إلى أمير الأسطول بالديار المصرية أن يقدم بالميرة إلى عكا، فتأخر سيره.
ثم وصلت ثلاث بطش ليلة النصف، فيها من الميرة ما يكفي أهل البلد طول
الشتاء، وهي صحبة الحاجب لؤلؤ، فلما أشرفت على البلد نهض إليها أسطول
الفرنج ليحول بينها وبين البلد، ويتلف ما فيها.
فاقتتلوا في البحر قتالاً شديداً، والمسلمون في البر يبتهلون إلى الله عز
وجل في سلامتها، والفرنج أيضاً تصرخ براً وبحراً، وقد ارتفع الضجيج، فنصر
الله المسلمين وسلم مراكبهم، وطابت الريح للبطش، فسارت فأحرقت المراكب
الفرنجية المحيطة بالميناء، ودخلت البلد سالمة، ففرح بها أهل البلد والجيش
فرحاً شديداً. (ج/ص: 12/412)
وكان السلطان قد جهز قبل هذه البطش الثلاث بطشة كبيرة من بيروت، فيها
أربعمائة غرارة، وفيها من الجبن والشحم والقديد والنشاب والنفط شيء كثير،
وكانت هذه البطشة من بطش الفرنج المغنومة.
وأمر من فيها من التجار أن يلبسوا زي الفرنج حتى أنهم حلقوا لحاهم، وشدوا
الزنانير، واستصحبوا في البطشة معهم شيئاً من الخنازير، وقدموا بها على
مراكب الفرنج، فاعتقدوا أنهم منهم، وهي سائرة كأنها السهم إذا خرج من كبد
القوس.
فحذرهم الفرنج غائلة الميناء من ناحية البلد، فاعتذروا بأنهم مغلوبون عنها،
ولا يمكنهم حبسها من قوة الريح، وما زالوا كذلك حتى ولجوا الميناء،
فأفرغوا ما كان معهم من الميرة، والحرب خدعة. فعبرت الميناء فامتلأ الثغر
بها خيراً، فكفتهم إلى أن قدمت عليهم تلك البطش الثلاث المصرية.
وكانت البلد يكتنفها برجان، يقال لأحدهما: برج الديان، فاتخذت الفرنج
بطشة عظيمة، لها خرطوم وفيه محركات إذا أرادوا أن يضعوه على شيء من الأسوار
والأبرجة قلبوه فوصل إلى ما أرادوا.
فعظم أمر هذه البطشة على المسلمين، ولم يزالوا في أمرها محتالين، حتى أرسل
الله عليها شواظاً من نار فأحرقها وأغرقها، وذلك أن الفرنج أعدوا فيها
نفطاً كثيراً وحطباً جزلاً، وأخرى خلفها فيها حطب محض.
فلما أراد المسلمون المحافظة على الميناء أرسلوا النفط على بطشة الحطب،
فاحترقت وهي سائرة بين بطش المسلمين، واحترقت الأخرى، وكان في بطشة أخرى
لهم مقاتلة تحت قبو، قد أحكموه فيها.
فلما أرسلوا النفط على برج الديان، انعكس الأمر عليهم بقدرة الله تعالى،
وذلك لشدة الهواء تلك الليلة، فما تعدت النار بطشتهم فاحترقت، وتعدى الحريق
إلى الأخرى فغرقت، ووصل إلى بطشة المقاتلة فتلفت، وهلك من فيها، فاشبهوا
من سلف من أهل الكتاب من الكافرين في قوله تعالى: ( يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ) [الحشر:
2].
وفي ثالث رمضان اشتد حصار الفرنج للمدينة حتى نزلوا إلى الخندق، فبرز إليهم
أهل البلد فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وتمكنوا من حريق الكيس والأسوار،
وسرى حريقه إلى السقوف، وارتفعت له لهبة عظيمة في عنان السماء، ثم اجتذبه
المسلمون إليهم بكلاليب من حديد في سلاسل، فحصل عندهم وألقوا عليه الماء
البارد فبرد بعد أيام، فكان فيه من الحديد مائة قنطار بالدمشقي، ولله الحمد
والمنة.
(ج/ص: 12/413)
وفي الثامن والعشرين من رمضان توفي الملك زين الدين صاحب أربل في حصار عكا
مع السلطان، فتأسف الناس عليه لشبابه وغربته وجودته، وعزي أخاه مظفر الدين
فيه.
وقام بالملك من بعده وسأل من صلاح الدين أن يضيف إليه شهرزور، وحران،
والرها، وسميساط، وغيرها، وتحمل مع ذلك خمسين ألف دينار نقداً، فأجيب إلى
ذلك، وكتب له تقليداً، وعقد له لواء، وأضيف ما تركه إلى الملك المظفر تقي
الدين ابن أخي السلطان صلاح الدين.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى